ـ[موقع الإسلام سؤال وجواب]ـ
الكتاب: القسم العربي من موقع (الإسلام، سؤال وجواب)
المؤلف: الموقع بإشراف الشيخ محمد صالح المنجد - حفظه الله -
تم نسخه من الإنترنت: في 26 ذي القعدة 1430، هـ = 15 نوفمبر، 2009 م
__________
تنبيه: هذا الملف هو أرشيف لجميع المادة العربية بالموقع حتى تاريخ نسخه
وهذه المادة هي قسمان:
1- الفتاوى (عددها 15862) [وتجد رقم الفتوى في خانة الرقم، ورابطها أسفل يسار الشاشة]
2- الكتب والمقالات
أما بقية الأقسام، مثل (ملفات، تعرف على الإسلام، ... ) فهي عبارة عن انتقاءات من قسم الفتاوى، فلم نكررها
http://www.islamqa.com(/)
[عن الموقع]
موقع الإسلام سؤال وجواب
موقع الإسلام سؤال وجواب موقع دعوي، علمي، تربوي، يهدف إلى تقديم الفتاوى والإجابات العلمية المؤصلة بشكل واف وميسر - قدر الاستطاعة - عن الأسئلة المتعلقة بالإسلام سواء كان السائل مسلماً أو غير مسلم، ويقوم بالإشراف على هذه الإجابات الشيخ محمد صالح المنجد محاضر وكاتب إسلامي.
يرحب الموقع بالأسئلة في الجوانب المختلفة سواء ما يتعلق بالعقيدة أو العبادة أو المعاملات أو الأمور النفسية والاجتماعية.
أهداف الموقع:
1- نشر الإسلام والدعوة إليه.
2- نشر العلم الشرعي ورفع الجهل عن المسلمين.
3- تلبية حاجة الناس بتقديم الفتاوى الشرعية المؤصلة.
4- توجيه الناس في القضايا الحياتية بتقديم الاستشارات العلمية والتربوية والاجتماعية وغيرها.
منهج الموقع:
يقوم الموقع على نشر العقيدة الصحيحة عقيدة أهل السنة والجماعة، واتباع السلف الصالح ويتحرى أن تكون الإجابات مبنية على الدليل من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة ومأخوذة من كلام العلماء من أصحاب المذاهب الأربعة الإمام أبي حنيفة، والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم من أهل العلم المتقدمين والمتأخرين، أمثال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن صالح العثيمين وغيرهم رحمهم الله، وكذلك الاستعانة بفتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء وقرارات هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، وقرارات المجامع الفقهية، وكذلك الاستعانة بالعلماء وطلبة العلم من الباحثين في التخصصات الشرعية.
ويتجنب الموقع الدخول في كل قضية لا تفيد المسلم ولا تعنيه من المهاترات والسباب والشتائم والجدل العقيم، ونسأل الله السداد والتوفيق.
كيفية الاستفادة من الموقع:
تم إعداد قاعدة للمعلومات وقسمت حسب المواضيع بحيث يمكن البحث عن موضوع أو مسألة بعينها، كما يمكن البحث باستعمال كلمات تشكل المفتاح الموصل إلى المعلومات المطلوبة.
نرجو منك أخي الكريم أن تبحث في قاعدة المعلومات قبل أن تتقدم بسؤالك، حتى تتأكد أن ما تريد أن تطرحه من سؤال لم يسبق أن طرح من قبل وأجيب عليه، وذلك حرصا على وقت الجميع، ورغبة في الإجابة عن الأسئلة بأقصى ما يمكن من سرعة.(/)
هل علي بن أبي طالب معصوم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[علي بن أبي طالب رضي الله عنه هل هو معصوم؟ لأن الشيعة يقولون لم يفعل علي أي خطأ في حياته؟ إذن هو معصوم. أرجو الشرح المفصل.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا شك أن الصحابة رضوان الله هم خير هذه الأمة، لأن الله اصطفاهم للتلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم , وأكرمهم بصحبته والجهاد معه , لكن مع ما لهم من فضل فإنه لا يحكم لآحدادهم بالعصمة , فاعتقاد العصمة لأحدهم مثل علي رضي الله عنه اعتقاد باطل , لكن عدم عصمته لا تزري بمكانته كأحد السابقين إلى الإسلام , وأحد المهاجرين في سبيل الله , وأحد العشرة المبشرين بالجنة , وأحد الخلفاء الراشدين.
والشيعة لا يقولون بعصمة علي رضي الله عنه فقط، بل يقولون بعصمة جميع أئمتهم الاثني عشر.
وعصمة الأئمة عند الشيعة لها أهمية كبرى، وهي أصل من أصول مذهبهم.
انظر: "تاريخ الإمامة" لعبد الله فياض (ص157) .
والشيعة يبالغون في إثبات العصمة لأئمتهم، حتى قالوا بعصمتهم من النسيان، ومن الخطأ في الاجتهاد والتأويل.
قال المجلسي (ت 1111 هـ) في "بحار الأنوار" (25/211) :
"اعلم أنّ الإماميّة اتّفقوا على عصمة الأئمّة عليهم السّلام من الذّنوب صغيرها وكبيرها، فلا يقع منهم ذنب أصلاً، لا عمداً ولا نسياناً، ولا لخطأ في التّأويل، ولا للإسهاء من الله سبحانه" انتهى.
فالمجلسي يثبت للأئمة العصمة من جميع الأوجه المتصورة، من المعصية كلها الصغيرة والكبيرة، ومن الخطأ، ومن السهو والنسيان.
وهذا الباطل يقول به إمامهم الخميني في كتابه "الحكومة الإسلامية" (ص91) ، حيث يقول عن أئمتهم: إنهم "لا يتصور فيهم السهو والغفلة".
مع أن العصمة بهذا المعنى لم تثبت للأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم غير معصوم من السهو والنسيان، بل ثبت في أحاديث كثيرة نسيانه صلى الله عليه وسلم في الصلاة.
ولما صَلَّى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم صلاة وسها فيها، أقبل على الناس بعد الصلاة وقال لهم: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي) رواه البخاري (401) ومسلم (572) .
وإثبات العصمة لشخصٍ ما معناها إثبات النبوة له، لأن المعصوم يجب اتباعه في كل ما يقول، ولا تجوز مخالفته في شيء، وهذه خاصة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله: كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال شيخ الإسلام في "منهاج السنة" (3/174) :
"فمن جعل بعد الرسول معصوما يجب الإيمان بكل ما يقوله فقد أعطاه معنى النبوة وإن لم يعطه لفظها" انتهى.
والحقيقة: أن الشيعة باعتقادهم عصمة أئمتهم عن الخطأ والنسيان فَضَّلوهم بذلك على الأنبياء والمرسلين، بل سووهم برب العالمين، فإنه سبحانه المنزه عن النسيان (لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى) طه/52، وقال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً) مريم/64.
وهذا ما صرح به الخميني، في كتابه "الحكومة الإسلامية" (ص113) ، حيث يقول: "إن تعاليم الأئمة كتعاليم القرآن"!!
فانظر كيف جعل كلام الأئمة كالقرآن، ولم يكتف بجعله ككلام النبي صلى الله عليه وسلم!!
ثانياً:
أما قول الشيعة: إن علياً لم يفعل أي خطأ في حياته، فهذا غير صحيح، فله مواقف تراجع عنها، وندم عليها، وله فتاوى واجتهادات خالف فيها السنة الصحيحة الثابتة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ندم على أمور فعلها، من القتال وغيره، وكان يقول ليالي صفين: لله در مقام قامه عبد الله بن عمر وسعد ابن مالك [وذلك لأنهما اعتزلا القتال] إن كان بِرًّا إن أجره لعظيم، وإن كان إثما إن خطره ليسير، وكان يقول: يا حسن، يا حسن، ما ظن أبوك أن الأمر يبلغ إلى هذا، ود أبوك لو مات قبل هذا بعشرين سنة.
ولما رجع من صفين تغير كلامه، وكان يقول: لا تكرهوا إمارة معاوية، فلو قد فقدتموه لرأيتم الرؤوس تتطاير عن كواهلها، وقد روي هذا عن علي رضي الله عنه من وجهين أو ثلاثة، وتواترت الآثار بكراهته الأحوال في آخر الأمر، ورؤيته اختلاف الناس، وتفرقهم وكثرة الشر الذي أوجب أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما فعل ما فعل" انتهى.
"منهاج السنة النبوية" (6/209) .
والخليفة الذي لا يعرف له فتوى خالف فيها السنة الثابتة هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو جدير بذلك، فقد كان أعلم الصحابة، وأفضلهم، وأكثرهم ملازمة للرسول صلى الله عليه وسلم.
أما الخلفاء الثلاثة بعده [عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم] فلهم اجتهادات خالفوا فيها السنة، وعلي رضي الله عنه كان أكثر منهما في ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"ولم يعرف لأبي بكر فتيا ولا حكم خالف نصا، وقد عرف لعمر وعثمان وعلي من ذلك أشياء، والذي عرف لعلي أكثر مما عرف لهما.
مثل قوله في الحامل المتوفى عنها زوجها: إنها تعتد أبعد الأجلين، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسبيعة الأسلمية لما وضعت بعد وفاة زوجها بثلاث ليال: (حللت فانكحي من شئت) ولما قالت له: إن أبا السنابل قال: ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الأجلين. قال: (كذب أبو السنابل) .
وقد جمع الشافعي في كتاب خلاف علي وعبد الله من أقوال علي التي تركها الناس لمخالفتها النص أو معنى النص جزءا كبيرا.
وجمع بعده محمد بن نصر المروزي أكثر من ذلك، فإنه كان إذا ناظره الكوفيون يحتج بالنصوص فيقولون: نحن أخذنا بقول علي وابن مسعود، فجمع لهم أشياء كثيرة من قول علي وابن مسعود تركوه أو تركه الناس، يقول: إذا جاز لكم خلافهما في تلك المسائل لقيام الحجة على خلافهما، فكذلك في سائر المسائل، ولم يعرف لأبي بكر مثل هذا" انتهى.
"منهاج السنة النبوية" (8/299) .
فظهر بهذا أن إثبات العصمة لعلي رحمه الله أو لأولاده خطأ وضلال.
ودعوى أنه لم يخطئ في حياته كذب، يخالف الواقع.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/1)
حكم الإقامة في بلاد الكفار، والتشبه بهم، والتبرع لجمعياتهم بالمال
[السُّؤَالُ]
ـ[هناك مدرسة إسلامية بكندا، تجعل الأطفال يقومون بالمشي لمدة ساعتين؛ تضامناً مع مرضى السرطان؛ تقليداً لأحد الكفار الذي ابتدع هذا الأمر، ثم تبيع المدرسة " البيتزا " لزيادة المال، للتبرع لصالح مؤسسة خيرية كافرة تتعامل مع السرطان، فهل المشي من أجل السرطان، أو لأسباب أخرى يعتبر تشبهاً بالكفار؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
جاءت نصوص القرآن والسنة تنهي المسلم عن الإقامة في بلاد الكفار، إلا لضرورة أو مصلحة شرعية.
قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله:
والسفر إلى بلاد الكفار: محرَّم، إلا عند الضرورة - كالعلاج، والتجارة، والتعلم للتخصصات النافعة التي لا يمكن الحصول عليها إلا بالسفر إليهم - فيجوز بقدر الحاجة، وإذا انتهت الحاجة: وجب الرجوع إلى بلاد المسلمين، ويشترط كذلك لجواز هذا السفر: أن يكون مُظهِراً لدينه، معتزاً بإسلامه، مبتعداً عن مواطن الشر، حذراً من دسائس الأعداء ومكائدهم، وكذلك يجوز السفر، أو يجب، إلى بلادهم، إذا كان لأجل نشر الدعوة إلى الله، ونشر الإسلام.
" الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد " (ص 317) .
وقال حفظه الله أيضاً – في بيان مظاهر موالاة الكفار -:
الإقامة في بلادهم، وعدم الانتقال منها إلى بلد المسلمين؛ لأجل الفرار بالدين؛ لأن الهجرة بهذا المعنى ولهذا الغرض: واجبة على المسلم؛ لأن إقامته في بلاد الكفر تدل على موالاة الكافرين.
ومن هنا حرَّم الله إقامة المسلم بين الكفار إذا كان يقدر على الهجرة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) فلم يعذر الله في الإقامة في بلاد الكفار إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون الهجرة، وكذلك من كان في إقامته مصلحة دينية، كالدعوة إلى الله، ونشر الإسلام في بلادهم.
" الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد " (ص 316) .
وانظر – لمزيد فائدة -: أجوبة الأسئلة: (11793) و (14235) و (27211) .
ثانياً:
أما التشبه بالكفار، فالضابط في هذا التشبه المحرم، هو: "مماثلة الكافرين بشتى أصنافهم، في عقائدهم، أو عباداتهم، أو عاداتهم، أو في أنماط السلوك التي هي من خصائصهم".
" من تشبه بقوم فهو منهم " للشيخ ناصر العقل (ص 7) .
فيحرم التشبه بغير المسلمين في عقائدهم، وعباداتهم، وما هو من شعائر دينهم، مثل لبس الصليب، أو الاحتفال بالأعياد الدينية.
ويحرم التشبه بغير المسلمين فيما هو من خصائص عاداتهم , كلباس الرهبان، والأحبار، وغير ذلك مما يشبهه.
قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله:
فيحرم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم، ومن عاداتهم، وعباداتهم، وسمتهم وأخلاقهم، كحلق اللحى، وإطالة الشوارب، والرطانة بلغتهم إلا عند الحاجة، وفي هيئة اللباس، والأكل، والشرب، وغير ذلك.
" الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد " (ص 316) .
وعليه؛ فالمشي الي يفعله بعض المسلمين تضامناً مع حدثٍ ما، أو مع أشخاص معينين، يُخشى أن يكون من التشبه بالكفار، لأنه ليس له أصل من ديننا، ولا يفعله المسلمون في بلادهم ومجتمعاتهم، ثم إن هذا المشي ليس فيه فائدة تذكر، فهو تضييع للوقت والجهد، مع ما يحصل فيه من الاختلاط والتعرض للفتن ... إلخ.
ثالثاً:
أما التبرع لجمعيات الكفار: ففيها تفصيل بحسب نشاط الجمعية:
أ. فإن كانت جمعية دينية، تدعو إلى دينها، وتفسد عقائد المسلمين، وكان من ضمن أعمالها: إعانة المرضى، والقيام على المشردين، وإيواء العجزة: فلا يجوز التبرع لهم، ولا مساعدتهم بشيء؛ لأن قيامهم بتلك الأعمال داخل في دعوتهم لدينهم، وإفساد عقائد المسلمين، ومثل هذا لا ينبغي الاختلاف فيه؛ لظهور حكمه في الشرع.
ب. وإن كانت جمعية دنيوية، ومن أعمالها ما يساهم في إفساد أخلاق الناس، كالدعوة إلى التعارف بين الرجال والنساء، أو كان من أعمالها القيام بما هو محرَّم في شرعنا، كدعم الإجهاض، وغير ذلك مما يشبهه: فلا يجوز التبرع لهم، ولو كان هناك قسم من أقسامها لعلاج المرضى، وتقديم الأدوية، أو رعاية الأيتام؛ لأن دعم المسلم لها سيكون دعماً لنشاطها، ثم إن المتبرع لا يدري هل ينفقون أمواله في أشياء محرمة، أو في إعانة المرضى.
ج. أن تكون الجمعية خاصة بعلاج المرضى، وليس لها أعمال محرمة، ولا مقاصد تنشر دينها من خلالها: فيجوز التبرع لهم، وإعانتهم على علاج المرضى، وتقديم الأدوية لهم.
والنصيحة للمسلمين الذين اضطروا أو ابتلوا بالإقامة في البلاد الغربية أن تكون لهم جمعياتهم الخاصة بهم، وأن يقدموا من خلالها خدمات للمجتمعات التي يعيشون بينهم، مما هو مباح لهم فعله، وأن يقدموا صورة ناصعة عن الإسلام من خلال تلك الجمعيات، وأن يحرصوا على تحقيق الهدف الأسمى وهو إنقاذ الناس من الكفر، وعلاج قلوبهم من الشك، والشبهة، وهو أولى من علاج أبدانهم، ولو جمعوا بينهما لقدموا خيراً لأنفسهم، ولغيرهم.
وإذا لم يكن هناك جمعية خاصة بالمسلمين في تلك البلاد، وكانت الجمعيات القائمة على ذلك ممن يُخشى إعانتها على الكفر، والفسوق، وشعر المسلمون بحرج من عدم المشاركة في علاج المرضى: فننصح بأن تكون مشاركتهم بتقديم الأدوية، لا المال؛ خشية من استعمال المال في أشياء محرمة، وتحقيقاً لمقصود التبرع.
ويدل على جواز التبرع للكافر: قوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الممتحنة/ 8، وقد استدل بها الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله بجواز التبرع للكافر بالدم، كما في جواب السؤال رقم
(12729) .
وانظر – للمزيد – جواب السؤال رقم (2756) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/2)
كتاب " الفجر المنير في الصلاة على البشير النذير " للفاكهاني
[السُّؤَالُ]
ـ[كتاب " الفجر المنير " للفاكهاني (ت: 734 هـ) هل هو كتاب موثوق فيه؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
مؤلف هذا الكتاب هو: عمر بن علي بن سالم بن صدقة اللخمي الإسكندري، تاج الدين الفاكهاني، ولد سنة (654هـ) ، وتوفي سنة (734هـ) ، وقيل سنة (731هـ) ، تفقَّه على مذهب الإمام مالك، وله عدة مصنفات منها الكتاب الذي سأل عنه السائل.
وهذا الكتاب عليه مؤاخذات كبيرة خطيرة، تظهر باستعراض أبواب الكتاب.
فمن هذه المؤاخذات:
1- الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم خلق من نور الله، وذلك بقوله:
من نور رب العرش كون نوره ... والناس في خلق التراب سواء
2- دعواه أن الأنبياء قد توسلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا حقق الله لهم مرادهم، وذلك بقوله:
وبه توسل آدم من ذنبه ... وتشفعت بمقامه حواء
وبه توسل نوح في طوفانه ... وأجيب حين طغى عليه الماء
وبه دعا إدريس فارتفعت له ... عند الإجابة رتبة علياء
وبه استجيب دعا أيوب وقد ... أودى به عند المصاب بلاء
وبه نجا من بطن حوت يونس ... لما دعا وتجلت الظلماء
وبه تمكن يوسف في مصر ... من بعد ما أودت به الضراء
...
وبه استجارت مريم في حملها ... فأجاء عن لبس وزال عناء
وبسره عيسى توسل فانثنى ... من شأنه بين الورى الإحياء
ونحن نشهد أن هذا غلو في الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذب، فهذه أدعية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في القرآن الكريم، ليس فيها حرف واحد يدل على توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل كانوا يتوسلون إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وبيان حالهم وافتقارهم إلى الله، فآدم وحواء لما أذنبا قالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ) الأعراف/23.
ويونس عليه السلام قال: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ) الأنبياء/87.
وأيوب عليه السلام نادى ربه قائلاً: (أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) الأنبياء/83.
وموسى عليه السلام قال: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) القصص/24.
وزكريا عليه السلام نادى ربه قائلاً: (رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) الأنبياء/89، فأين توسل هؤلاء الأنبياء بالنبي صلى الله عليه وسلم؟!
وقد نهانا الرسول صلى الله عليه وسلم عن المبالغة في مدحه فقال: (لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) رواه البخاري (3445) .
3- تجويزه الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد عقد الباب الحادي عشر، بعنوان: "فيمن استغاث به عليه الصلاة والسلام فأغيث في القديم والحديث".
وهذا صرفُ عبادةٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإعطاؤه خصائص الربوبية والألوهية، فالاستغاثة بالأموات - وكذلك الاستغاثة بالأحياء فيما لا يقدر عليه إلا الله- شركٌ أكبر، وعبادةٌ لغير الله.
فلا يجيب المضطرين ويكشف السوء إلا الله تعالى وحده، قال الله تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) النمل/62.
وهذه هي أخطر المخالفات الشنيعة التي يقررها المؤلف في هذا الكتاب: جواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في قبره بعد موته لقضاء الحاجات وكشف الكربات، وهذا شرك أكبر يخرج صاحبه من الإسلام، وقد عقد فصلا بعنوان: "استغاثة من لاذ بقبره واشتكى إليه بفقره وضرره". وأورد فيه من حكايات وقصص الجهلة الذين وقعوا في الشرك (الأصغر والأكبر) من حيث يشعرون أو لا يشعرون، كما سرد مجموعة من القصص تحت فصل خاص بعنوان: "في استغاثة الأسرى ممن كان في أيدي الظلمة والكفار بالنبي المختار".
وهكذا فقد تجاوز المؤلف سبيل القصد والاعتدال إلى الغلو ثم إلى ترويج الشرك الأكبر.
4- تضمن الكتاب مجموعة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة والتي لا أصل لها، منها أحاديث كثيرة في فضائل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، مثل: (لا صلاة لمن لم يصل علي) ، ومنها أحاديث في استحباب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم التي أفرد لها بابا خاصا، مثل حديث: (من حج ولم يزرني فقد جفاني) .
والخلاصة: أن الكتاب يشتمل على قدر كثير من البدع التي هي من وسائل الشرك، بل وصل بعضها إلى الشرك الأكبر، وعلى كثير من الأحاديث الموضوعة المكذوبة، والحكايات الباطلة التي لا يجوز الاستشهاد بمثلها.
ولهذا نرى أنه لا يجوز لمن ليس عنده علم شرعي يستطيع به التمييز بين الحق والباطل، والهدى والضلال، نرى أنه لا يجوز له القراءة في هذا الكتاب، لأنه سيروج عنده ما فيه من الباطل.
ومن أراد كتاباً جامعاً في الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم وأحكامها، فعليه بكتاب "جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام" صلى الله عليه وسلم، لابن القيم رحمه الله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/3)
هل يؤخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت من يقول: إن أحاديث الآحاد لا تثبت بها العقيدة، لأنها تفيد الظن، ولا تفيد اليقين. فما هو جوابكم على هذا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"جوابنا على من يرى أن أحاديث الآحاد لا تثبت بها العقيدة لأنها تفيد الظن والظن لا تبنى عليه العقيدة. أن نقول: هذا رأي غير صواب؛ لأنه مبني على غير صواب، وذلك من عدة وجوه:
1-القول بِأَن حديث الآحاد لا يفيد إلا الظن ليس على إطلاقه، بل في أخبار الآحاد ما يفيد اليقين إذا دلت القرائن على صِدْقه، كما إذا تلقته الأمة بالقبول، مثل حديث عمر بين الخطاب رضي الله عنه: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) فإنه خبر آحاد، ومع ذلك فإننا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وهذا ما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن حجر وغيرهما.
2-أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل الآحاد بأصول العقيدة ـ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ـ وإرساله حُجَّة مُلْزِمة، كما بعث مُعَاذاً إلى اليمن، واعتبر بَعْثَه حُجَّةً مُلْزِمَةً لأهل اليمن بقبوله.
3-إذا قلنا بأن العقيدة لا تثبت بأخبار الآحاد، أمكن أن يُقال: والأحكام العملية لا تثبت بأخبار الآحاد، لأن الأحكام العملية يصحبها عقيدة أن الله تعالى أمر بهذا أو نهى عن هذا، وإذا قُبل هذا القول تعطَل كثير من أحكام الشريعة، وإذا رُدّ هذا القول فليردّ القول بأن العقيدة لا تثبت بخبر الآحاد إذ لا فرق كما بيّنا.
والحاصل: أن خبر الآحاد إذا دلت القرائن على صِدْقه أفاد العلمَ، وثبت به الأحكام العَملية والعِلمية، ولا دليل على التفريق بينهما، ومَنْ نَسَبَ إلى أحدٍ من الأئمِة التفريقَ بينهما فعليه إثباتُ ذلك بالسند الصحيح عنه. ثم بيان دليله المستَند إليه.
4- أن الله تعالى أمر بالرجوع إلى قول أهل العلم لمن كان جاهلاً فيما هو من أعظم مسائل العقيدة وهي الرسالة: فقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ) النحل/43، 44.
وهذا يشمل سؤال الواحد والمتعدّد" انتهى.
فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
"فتاوى العقيدة" (صـ 18) .
[الْمَصْدَرُ]
فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله "فتاوى العقيدة" (صـ 18) .(1/4)
بعض المآخذ في عقيدة ابن رشد الحفيد
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي عقيدة الإمام ابن رشد، وما حقيقة خلافه مع الإمام أبي حامد الغزالي؟ جزاكم الله خيراً.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
ابن رشد اسم مشترك بين ابن رشد الحفيد، وابن رشد الجد، وكلاهما يُكنَى بأبي الوليد، وكلاهما يحمل اسم: محمد بن أحمد، كما أن كلا منهما تولى قضاء قرطبة.
والمقصود في السؤال هو ابن رشد الحفيد، المتوفى سنة (595هـ) ، المشهور باشتغاله وتأليفه في الفلسفة، أما ابن رشد الجد فلم يشتغل بها، وتوفي سنة (520هـ) .
قال الأبار:
لم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا، وكان متواضعا، منخفض الجناح، يقال عنه: إنه ما ترك الاشتغال مذ عقل سوى ليلتين: ليلة موت أبيه، وليلة عرسه، وإنه سود في ما ألف وقيد نحوا من عشرة آلاف ورقة، ومال إلى علوم الحكماء، فكانت له فيها الإمامة. وكان يُفزع إلى فتياه في الطب كما يفزع إلى فتياه في الفقه، مع وفور العربية، وقيل: كان يحفظ ديوان أبي تمام والمتنبي.
ومن أشهر مصنفاته: (بداية المجتهد) في الفقه، و (الكليات) في الطب، و (مختصر المستصفى) في الأصول، ومؤلفات أخرى كثيرة في الفلسفة، اهتم فيها بتلخيص فكر فلاسفة اليونان، فألف: كتاب (جوامع كتب أرسطوطاليس) ، وكتاب (تلخيص الإلهيات) لنيقولاوس، كتاب (تلخيص ما بعد الطبيعة) لأرسطو، ولخص له كتبا أخرى كثيرة يطول سردها، حتى عرف بأنه ناشر فكر أرسطو وحامل رايته، وذلك ما أدى به في نهاية المطاف إلى العزلة، فقد هجره أهل عصره لما صدر منه من مقالات غريبة، وعلوم دخيلة.
قال شيخ الشيوخ ابن حمويه:
لما دخلت البلاد، سألت عن ابن رشد، فقيل: إنه مهجور في بيته من جهة الخليفة يعقوب، لا يدخل إليه أحد، لأنه رفعت عنه أقوال ردية، ونسبت إليه العلوم المهجورة، ومات محبوسا بداره بمراكش.
يمكن مراجعة سيرته في " سير أعلام النبلاء " (21/307-310)
ثانيا:
قد طال الجدل حول حقيقة عقائد ابن رشد، وكثرت المؤلفات ما بين مؤيد ومعارض، واضطربت الأفهام في تحديد عقائده ومذاهبه.
ولضيق المقام ههنا عن الدراسة المفصلة لعقائد ابن رشد، سنكتفي بذكر بعض المآخذ المجملة التي كانت مثار جدل في مؤلفاته:
1- تأويل الشريعة لتوافق الفلسفة الآرسطية:
لعل الاطلاع على ترجمة ابن رشد الموجزة السابقة كاف للدلالة على هذه التوجهات الفكرية لدى ابن رشد، فقد أُخِذَ بفكر أرسطو، حتى قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " هو من أتبع الناس لأقوال آرسطو " انتهى. " بيان تلبيس الجهمية " (1/120) ، وحاول جاهدا شرحه وبيانه وتقريره للناس بأسلوب عربي جديد، وهو - خلال ذلك - حين يرى مناقضة فكر أرسطو مع ثوابت الشريعة الإسلامية، يحاول سلوك مسالك التأويل البعيدة التي تعود على الشريعة بالهدم والنقض، وكأن فلسفة أرسطو قرين مقابل لشريعة رب العالمين المتمثلة في نصوص الكتاب والسنة، ولذلك كتب كتابه المشهور: " فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ".
2- اعتقاده بالظاهر والباطن في الشريعة:
يقول ابن رشد:
" الشريعة قسمان: ظاهر ومؤول، والظاهر منها هو فرض الجمهور، والمؤول هو فرض العلماء، وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله، وأنه لا يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور، كما قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله " انتهى.
" الكشف عن مناهج الأدلة " (ص/99) طبعة مركز دراسات الوحدة العربية.
وقد استغرق ابن رشد في تقرير هذه الفكرة الباطنية في كتبه، حتى إنه جعل من أبرز سمات الفرقة الناجية من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنها هي " التي سلكت ظاهر الشرع، ولم تؤوله تأويلا صرحت به للناس " انتهى. " الكشف عن مناهج الأدلة " (ص/150) .
ولذلك توسع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرد على خصوص كلام ابن رشد في هذا الكتاب، وبيان بطلان التفسير الباطني لنصوص الشريعة، وذلك في كتابيه العظيمين: " بيان تلبيس الجهمية "، ودرء تعارض العقل والنقل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" وابن سينا وأمثاله لما عرفوا أن كلام الرسول لا يحتمل هذه التأويلات الفلسفية؛ بل قد عرفوا أنه أراد مفهوم الخطاب: سلك مسلك التخييل، وقال: إنه خاطب الجمهور بما يخيل إليهم؛ مع علمه أن الحق في نفس الأمر ليس كذلك. فهؤلاء يقولون: إن الرسل كذبوا للمصلحة. وهذا طريق ابن رشد الحفيد وأمثاله من الباطنية " انتهى.
" مجموع الفتاوى " (19/157) .
3- مال في باب " البعث والجزاء "، إلى قول الفلاسفة أنه بعث روحاني فقط، بل وقع هنا في ضلالة أعظم من مجرد اعتقاده مذهب الفلاسفة في البعث الروحاني؛ حيث جعل هذه المسألة من مسائل الاجتهاد، وأن فرض كل ناظر فيها هو ما توصل إليه. قال:
" والحق في هذه المسألة أن فرض كل إنسان فيها هو ما أدى إليه نظره فيها " انتهى.
" الكشف عن مناهج الأدلة " (ص/204)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" وأولئك المتفلسفة أبعد عن معرفة الملة من أهل الكلام:
فمنهم من ظن أن ذلك من الملة.
ومنهم من كان أخبر بالسمعيات من غيره، فجعلوا يردون من كلام المتكلمين ما لم يكن معهم فيه سمع، وما كان معهم فيه سمع كانوا فيه على أحد قولين: إما أن يقروه باطنا وظاهرا إن وافق معقولهم، وإلا ألحقوه بأمثاله، وقالوا إن الرسل تكلمت به على سبيل التمثيل والتخييل للحاجة، وابن رشد ونحوه يسلكون هذه الطريقة، ولهذا كان هؤلاء أقرب إلى الإسلام من ابن سينا وأمثاله، وكانوا في العمليات أكثر محافظة لحدود الشرع من أولئك الذين يتركون واجبات الإسلام، ويستحلون محرماته، وإن كان في كل من هؤلاء من الإلحاد والتحريف بحسب ما خالف به الكتاب والسنة، ولهم من الصواب والحكمة بحسب ما وافقوا فيه ذلك.
ولهذا كان ابن رشد في مسألة حدوث العالم ومعاد الأبدان مظهرا للوقف، ومسوغا للقولين، وإن كان باطنه إلى قول سلفه أميل، وقد رد على أبي حامد في تهافت التهافت ردا أخطأ في كثير منه، والصواب مع أبي حامد، وبعضه جعله من كلام ابن سينا لا من كلام سلفه، وجعل الخطأ فيه من ابن سينا، وبعضه استطال فيه على أبي حامد، ونسبه فيه إلى قلة الإنصاف لكونه بناه على أصول كلامية فاسدة، مثل كون الرب لا يفعل شيئا بسبب ولا لحكمة، وكون القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وبعضه حار فيه جميعا لاشتباه المقام " انتهى.
" منهاج السنة " (1/255)
4- ولعل من أبرز سمات منهج ابن رشد في كتبه، وفي الوقت نفسه من أبرز أسباب أخطائه هو عدم العناية بالسنة النبوية مصدرا من مصادر التشريع.
يقول الدكتور خالد كبير علال حفظه الله:
" ابن رشد لم يُعط للسنة النبوية مكانتها اللائقة بها كمصدر أساسي للشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم، ولم يتوسع في استخدامها في كتبه الكلامية والفلسفية، ففاتته أحاديث كثيرة ذات علاقة مباشرة بكثير من المواضيع الفكرية التي تطرق إليها، كما أن الأحاديث التي استخدمها في تلك المصنفات كثير منها لم يفهمه فهما صحيحا، وأخضعه للتأويل التحريفي خدمة لفكره وأرسطيته " انتهى.
" نقد فكر الفيلسوف ابن رشد " (ص/97)
هذه بعض الخطوط العريضة التي يمكن أن توضح بعض مآخذ العلماء على عقيدة ابن رشد الحفيد، وهي في محصلها ترجع إلى إلغاء كثير من موازين الشريعة التي ضبط بها الشارع حدودها، والدعوة إلى سلوك التأويل والاجتهاد في بعض مسلماتها، انطلاقا من أفكار دخيلة جاءت من حضارات قديمة بائدة.
ولأجل ذلك احتفى به كثير من المحسوبين على التوجهات العلمانية والليبرالية المتحررة اليوم، حتى نسبوا ريادة الفكر التنويري للفيلسوف ابن رشد، وهم يعلمون أن كثيرا من العلوم الواردة في كتبه تعد من العلوم البائدة التي يجزم العلم الحديث بخطئها، ولكن غرضهم تمجيد كل فكر متحرر من ثوابت الشريعة، متحرر من حقائق نصوصها لى المجازات والتأويلات، وفي الوقت نفسه يلبس لبوس الدين والعلم والفقه، فرأوا في ابن رشد ضالتهم، وفي كتبه رائدا لهم، وإن كنا نحسب أن في كتبه من إظهار التمسك بالشريعة والرجوع إليها ما لا نجده في كتب هؤلاء القوم، وكان عنده من لزوم الجانب العملي في الشريعة، وتعظيمها في الفقه والقضاء والفتيا ما لا يعجب القوم، ولا يبلغون معشاره: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ!!
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/5)
الطريقة " الهبرية الشاذلية " وما فيها من ضلال وانحراف عن اعتقاد أهل السنَّة
[السُّؤَالُ]
ـ[ظهرت في بلدنا " الجزائر " وبالأخص جنوبه، وغربه: طريقة صوفية، أخذت بلب العام والخاص , الكبير والصغير، وبالأخص: رجال المال، وكبراء القوم، تُدعى "الطريقة الهبرية"، فلو تفضلت وأفدتنا بمعلومات عن هذه الطريقة حتى نستطيع مجابهتها، والتصدي لها , وجزاك الله خيراً.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
سبق في الموقع غير مرة الكلام على الطرق الصوفية على سبيل العموم، وبيان شيء من أخطائها وضلالاتها.
وانظر أجوبة الأسئلة: (20375) و (118693) و (132603) .
ثانياً:
" الطريقة الهبرية " هي من الطرق الصوفية التي تفرعت عن " الطريقة الشاذلية " , وهذه الطريقة الهبرية الشاذلية: تفرعت عن " الطريقة الدرقاوية الشاذلية "، وتنسب إلى " محمد الهبري العزاوي الزروالي " نسبة إلى " بني زروال " , وتأتي زاويته في الأهمية بعد " الزاوية العلوية " الجزائرية، و " الزاوية البوتشيشية " المغربية.
أما أهم معتقدات الطائفة الشاذلية: فهي كما يلي:
1. الاعتقاد بوحدة الوجود على النحو الذي يعتقد بها عموم الصوفية، إذ نقل الشاذلية عن شيخهم قوله: "مَن أطاع الله في كل شيء بهجرانه لكل شيء: أطاعه الله في كل شيء، بأن يتجلى له في كل شيء".
2. تأويل آيات القرآن تأويلاً باطنيّاً، فتُصرف الآيات عن ظاهرها والمراد بها، على طريقة الفرق الباطنية التي ادّعت أن للإسلام والقرآن ظاهراً وباطناً.
يقول ابن عطاء الله السكندري: "لكل آية ظاهر وباطن".
3. الغلو في الشاذلي، وشيوخهم الآخرين، حتى أوصلوا بعضهم إلى مرتبة الربوبية.
انظر: "الطريقة الشاذلية" , "مجلة الراصد" , العدد الثاني والأربعين.
http://alrased.net/site/topics/view/512
وانظر للمزيد حول هذه الطريقة، ومؤسسها: كتاب " أبو الحسن الشاذلي " للصوفي عبد الحليم محمود، وانظر في الردِّ عليه كتاب: " صوفيات شيخ الأزهر " للأستاذ عبد الله السبت.
أما عقائد هذه الفرقة الهبرية المتفرعة عن الشاذلية فكما يلي:
أ. يزعم مقدَّم هذه الطريقة: "أن المجاهدة – بعزيمتها المعهودة - توقّفت عنده"، وقد كان مريدوه لا يأخذ الواحد منهم الاسم الأعظم حتى يمرّ بالخلوات التي تنقطع لها العزائم والظهور، فيخلو الواحد منهم سنوات في غار، أو كوخ، بعيداً عن الخلْق، حتى يصير الاسم الأعظم ممتزجا بكلّ ذرة من ذراته! .
ب. ويزعم أتباعه أنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يوصل إلى الله، وعنه يؤخذ الاسم الأعظم.
ت. وكان الهبري يقول: "لا يدخل طريقتنا إلاّ من كان مكتوباً من السعداء في اللوح المحفوظ، أو شريفاً".
ث. ويزعم أصحاب الطريقة أن أتباع صاحب الاسم الأعظ مكتوبون عند الله في عداد الصحابة رضوان الله عليهم.
ج. وكان وارثه الشيخ الأكبر! محي الطريق "محمد بلقايد" يلقّن الاسم الأعظم في أيام معدودات، بعد ما كان التقلين في سنين معهودات , وقد صرّح أنّه لا يلقن الاسم الأعظم في الأرض إلا هو وابنه محمد عبد اللطيف التلقين الأتمّ، الذي يوصل إلى الله مباشرة، ويجعل حامل الاسم من أصحاب الذات، والاسم الأعظم.
بالإضافة إلى الضلالات والخرافات الأخرى التي تشترك فيها عامة الطرق الصوفية.
وقد سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:
ما حكم الشريعة الإسلامية في الطريقتين اللتين توجدان في بلدنا الجزائر ولهما اسم " الهبريين " نسبة إلى شيخهم الكبير وهو الشيخ الهبري، وكما نعرف أن شيخهم المحبوب الحضرة، ويعتقدون أنهم في الطريق الصحيح، وكل المسلمين الآخرين في ضلال، فهل هذه الطريقة صحيحة؟ .
فأجابوا:
"الطريقة السليمة الصحيحة: هي التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فمن اقتفى أثره في ذلك: فهو على الصراط المستقيم، وأما الطرق التي حدَثت بعد ذلك: فيُعرض كل عمل منها على الشريعة الإسلامية، فما وافقها: أُخذ به، وما خالفها: رُدَّ؛ لقول الله جل وعلا: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) .
وننصحك بكثرة تلاوة القرآن، وقراءة تفسيره، وخاصة "تفسير ابن جرير"، و "ابن كثير" رحمهما الله، وكذلك قراءة السنَّة وشرحها، وخاصة الصحيحين "صحيح البخاري"، و "صحيح مسلم"، والسنن الأربعة ... إلى غير ذلك من كتب الحديث الشريف، مثل: "منتقى الأخبار"، و "بلوغ المرام"، و "رياض الصالحين"، و "زاد المعاد في هدي خير العباد" للعلامة ابن القيم رحمه الله.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (2/364، 365) .
ثالثاً:
وننبه هنا إلى أن الغرب الكافر صار يتبنى نشر العقائد الصوفية في العالَم العربي، والإسلامي؛ لما يعلمه عنها من تأثيرها المخدِّر على عقول أتباعها، وتعلقهم بالأوثان، والقبور، والأوهام، والخيالات، فينصرفون عن معرفة توحيد خالقهم، وعن تحقيق الولاء والبراء في حياتهم.
قال الأستاذ عبد الوهاب المسيري رحمه الله:
"ومما له دلالته: أن العالم الغربي الذي يحارب الإسلام يشجع الحركات الصوفية، ومن أكثر الكتب انتشاراً الآن في الغرب: مؤلفات "محيي الدين بن عربي"، وأشعار "جلال الدين الرومي".
وقد أوصت لجنة " الكونغرس " الخاصة بالحريات الدينية: بأن تقوم الدول العربية بتشجيع الحركات الصوفية؛ فالزهد في الدنيا، والانصراف عنها، وعن عالم السياسة: يضعف - ولا شك - صلابة مقاومة الاستعمار الغربي، ومِن ثَمَّ فعداء الغرب للإسلام ليس عداء في المطلق، وإنما هو عداء للإسلام المقاوم، ولأي شكل من أشكال المقاومة، تتصدى لمحاولة الغرب تحويل العالم إلى مادة استعمالية" انتهى.
من مقاله " الإسلام والغرب ".
فالغرب الذي يحارب الإسلام، يحارب بالأخص أهل السنة والجماعة، لعلمه أن هؤلاء هم الذين يقفون في وجه أطماعه الاستعمارية، وفي الوقت ذاته: يشجع الطرق والحركات الصوفية، لعلمه أنها لا تتعارض مع مصالحه، بل تخدم مصالحه.
وللرد على التصوف، وعقائده المنحرفة: فننصح بقراءة الكتب التالية:
1. "هذه هي الصوفيَّة" للشيخ عبد الرحمن الوكيل.
2. "الفكر الصوفي في ضوء الكتاب السنة" للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق.
3. "الكشف عن حقيقة الصوفية" للشيخ عبد الرؤوف القاسم.
4. "تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي" للشيخ محمد أحمد لوح.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/6)
هل تجب طاعة الحاكم الذي لا يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تجب طاعة الحاكم الذي لا يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"الحاكم الذي لا يحكم بكتاب الله وسنة رسوله تجب طاعته في غير معصية الله ورسوله، ولا تجب محاربته من أجل ذلك، بل ولا تجوز إلا أن يصل إلى حد الكفر فحينئذ تجب منابذته، وليس له طاعة على المسلمين.
والحكم بغير ما في كتاب الله وسنة رسوله يصل إلى الكفر بشرطين:
الأول: أن يكون عالماً بحكم الله ورسوله، فإن كان جاهلاً به لم يكفر بمخالفته.
الثاني: أن يكون الحامل له على الحكم بغير ما أنزل الله اعتقاد أنه حكم غير صالح للوقت وأن غيره أصلح منه، وأنفع للعباد، وبهذين الشرطين يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً مخرجاً عن الملة لقوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ) ، وتبطل ولاية الحاكم، ولا يكون له طاعة على الناس، وتجب محاربته، وإبعاده عن الحكم.
أما إذا كان يحكم بغير ما أنزل الله وهو يعتقد أن الحكم به أي بما أنزل الله هو الواجب، وأنه أصلح للعباد، لكن خالفه لهوى في نفسه أو إرادة ظلم المحكوم عليه، فهذا ليس بكافر، بل هو إما فاسق أو ظالم، وولايته باقية، وطاعته في غير معصية الله ورسوله واجبة، ولا تجوز محاربته أو إبعاده عن الحكم بالقوة، والخروج عليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخروج على الأئمة إلا أن نرى كفراً صريحاً عندنا فيه برهان من الله تعالى" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن عثيمين" (2/118) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/7)
ضوابط أشكال الصليب الممنوعة
[السُّؤَالُ]
ـ[السؤال: أريد السؤال عن الصليب ما هي أشكاله؟ وهل يعد علامة الزائد والضرب من أشكال الصليب؟ لأن ذلك أشكل عليّ وعلى كثير من الإخوان، ولم أجد له جوابا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
صناعة الصليب أو شراؤه أو نقشه على الملابس أو الجدران ونحو ذلك من المحرمات التي لا يجوز للمسلم ارتكابها، فلا يصنعها بنفسه ولا يعين عليها، بل يتقي الله تعالى ويتحرز عن شعار الكفر الذي افتراه النصارى في دينهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" الصليب لا يجوز عمله بأجرة ولا غير أجرة، ولا بيعه صليبا، كما لا يجوز بيع الأصنام ولا عملها، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) " انتهى.
"مجموع الفتاوى" (22/141) ، وانظر "الموسوعة الفقهية" (12/84-88) .
ثانيا:
للصليب أشكال وأنواع كثيرة، تنوعت عبر الزمان والمكان واختلاف الطوائف النصرانية، فاتخذ صورا متنوعة يمكن الاطلاع عليها في الرابط الآتي:
http://en.wikipedia.org/wiki/Cross
والذي يظهر لنا في حكم رسم وتعليق هذه الأنواع والأشكال من الصلبان ما يلي:
1- إذا كان قد رسم على أنه صليب، فهذا لا يجوز للمسلم حمله ولا لبسه ولا شراؤه ولا بيعه ولا رسمه؛ لأن علة تحريم رسم الصليب ولبسه هي البعد عن مشابهة النصارى وتعظيم رموزهم الدينية الباطلة، وهذه العلة واقعة في كل شكل من أشكال الصليب التي تعرفها طوائف النصارى إذا كانت وضعت على أنها صليب لتعظم وترمز لما يريدون.
2- أما إذا رسمت زخرفة معينة، أو صنعت بعض الأشياء المنزلية والأدوات العادية، فوافق أن نتج عنها شكل من أشكال الصليب السابقة، فهذا ينظر فيه:
أ - فإن كان يظهر للناظر لأول وهلة أنه رسم الصليب المشهور اليوم في معظم الكنائس ولدى أكثر النصارى، وهو عبارة عن خطين أحدهما طولي والآخر عرضي، بحيث يقطع الخط العرضي الخط الطولي، وتكون الجهة العلوية أقصر من السفلية، وهو الشكل الأشهر للصليب منذ أن أحدثه النصارى، مأخوذ من الخشبة التي يصلب عليها من يُراد قتله، فإن كان يظهر للناظر من الوهلة الأولى هذا الأمر، وجب نقضه وإزالته، أو تعديله بما يخرجه عن كونه صليبا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم (لا يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه) .
ب - أما إذا لم تكن صورة الصليب ظاهرة، وإنما نتج عن زخرفة غير مقصودة، أو كان البناء بالهندسة المتقاطعة أنفع وأكثر مرونة، أو استعمل لرموز رياضية معينة، كرمز الجمع أو الضرب في علم الحساب، ففي هذه الحال لا يجب نقضه ولا إزالته، ولا حرج في صنعه ولا في بيع ما احتوى عليه، لانتفاء العلة، وهي التشبه بالكفار وتعظيم رموزهم، فإن رمز الصليب في هذه الحالة دقيق غير ملاحظ، ولا معتبر.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" أولاً: لا بد أن نعلم أن هذا صليب؛ لأن بعض الأشياء يظنها بعض الناس صلباناً وليست كذلك.
ثانياً: أن نعلم أنه وُضِع لأنه صليب، لا لكونه نقشاً في الثوب مثلاً؛ لأن النصارى يعظمون الصليب، فلا يمكن أن يجعلوه وَشْياً [زخرفة] في ثوب، إنما يضعونه موضع الاحترام.
فلابد من هذين الأمرين، فإذا تحققنا أنه صليب فإن الواجب تمزيقه، أو على الأقل: السُّنَّةُ تمزيقه، ولنقاطع هذه الثياب – التي عليها صلبان -؛ فإذا قاطعناها ولم يستفد التجار منها قاطعوها أيضاً.
وكذلك يقال في النجمة السداسية التي يقال إنها شعار اليهود، فحكمها حكم الصليب، وإن كان اليهود لا يتخذونها على سبيل العبادة؛ لكنها مختصة بهم.
نحن سألنا عنها النصارى الذين أسلموا [يعني: عن الصلبان] فقالوا: إن الصليب عندنا هو الصليب المعروف؛ أن يكون خطان، أحدهما يقع عرضاً والثاني طولاً، ويكون الطوليُّ مِن جانبٍ أطولَ من الثاني.
حتى إننا سألناهم عن ساعة الصليب هذه التي يسمونها ساعة الصليب فقالوا: هذه لا يراد بها الصليب، هذه علامة الشركة فقط؛ لأن الصليب عند النصارى يقولون عنه: إنه خط مرتفع طويل، ثم خط عرْضي، وأحد الجانبين في الخط الطولي أطول من الآخر؛ لأن هذا هو الواقع، فالإنسان المصلوب توضع له خشبةٌ عرضاً من أجل أن تربط بها يداه، فهل يمكن أن تكون الخشبةُ الموضوعةُ لليدين موضوعةً في النصف؟! لا.
بل تكون في الأعلى، لهذا نحن في شك من هذه التي نُشِرَت قبل سنتين بأشكال مختلفة، وقالوا: هذه صلبان! ثم إن علامة (+) هل هي صليب؟ ليست صليباً.
كذلك يوجد فيما سبق الدلاء التي يُرفع بها الماء من البئر، في أعلاها شيء يُسمى: (العَرْقات) ، عبارة عن خشبتين، إحداهما عَرْضِية والأخرى طولية، فمِن هذه الأشياء ليست صليباً.
فالشيء الصليب هو الذي وُضع على أنه صليب " انتهى.
"لقاء الباب المفتوح" (لقاء رقم 21/سؤال رقم 7)
وقال أيضا رحمه الله:
" أما ما ظهر منه أنه لا يراد به الصليب، لا تعظيما، ولا بكونه شعارا، مثل بعض العلامات الحسابية، أو بعض ما يظهر بالساعات الإلكترونية من علامة زائد، فإن هذا لا بأس به، ولا يعد من الصلبان بشيء " انتهى.
"مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين" (ج 18 / 114، 115، جواب السؤال رقم 74)
وسئل رحمه الله في "لقاءات الباب المفتوح" (لقاء رقم/199، سؤال رقم/9) :
مررت بأحد المباني في إحدى مدننا، وكان هذا المبنى النوافذ فيه على شكل صلبان - كل النوافذ - وهو مكون من عشرة طوابق، وهي مشابهة تماما لما يصممه الغربيون في منازلهم؟
فأجاب:
"والله يا أخي! هذه تحتاج إلى مشاهدة العمارة، وليس كل ما جاء على شكل الصليب يكون صليبا، وإلا لقلنا: علامة زائد حرام، وقلنا: الغرب الذي كان الناس يستقون به حروثهم حرام؛ لأنه معروف، خشبتان معترضتان، الصليب له شكل معين، وله قرائن تدل على أنه صليب، فيحتاج إلى مشاهدة العمران " انتهى بتصرف يسير.
وانظر جواب السؤال رقم: (101399)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/8)
الاعتراض على قطع يد السارق، وجعل شهادة المرأة نصف شهادة الرجل
[السُّؤَالُ]
ـ[ما ترى فيمن يقول: إن قطع يد السارق وجعل شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل فيه قسوة وهضم لحقوق المرأة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"من يقول: إن قطع يد السارق وجعل شهادة المرأة النصف إن في هذا قسوة وهضماً لحق المرأة! أقول: من قال هذا فإنه مرتد عن الإسلام، كافر بالله عز وجل، فعليه أن يتوب إلى الله من هذه الردة، وإلا فليمت كافراً؛ لأن هذا حكم الله عز وجل، وقد قال الله عز وجل: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) المائدة/50، وقد بَيَّن الله الحكمة من قطع يد السارق في قوله: (جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) المائدة/38، وبَيَّن الحكمة من جعل شهادة المرأة أو شهادة المرأتين عن رجل واحد في قوله: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) البقرة/282، فعلى هذا القائل أن يتوب إلى الله عز وجل من ردته، وإلا فسيموت كافراً" انتهى.
فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.
"فتاوى علماء البلد الحرام" (ص 483) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/9)
حكم الاعتراض على الأحكام الشرعية التي شرعها الله
[السُّؤَالُ]
ـ[رجل يقول: إن بعض الأحكام الشرعية تحتاج إلى إعادة نظر وأنها بحاجة إلى تعديل، لكونها لا تناسب هذا العصر، مثال ذلك الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين. فما حكم الشرع في مثل من يقول هذا الكلام؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يجب أن يعلم أن من أصول الإيمان التحاكم إلى الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتسليم لحكمهما، والرضا به، قال الله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) النساء/59.
وقال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء/65.
وقال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) المائدة/50.
فكل حكم خالف حكم الله فهو حكم جاهلية، وقال الله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) التين/8.
وقال تعالى: (إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) يوسف/40.
وبهذا يظهر أن رفض التحاكم إلى الله جل شأنه وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو رفض حكمهما، أو اعتقاد أن حكم غيرهما أحسن من حكمهما، كفر وخروج من الإسلام.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله:
"الأحكام التي شرعها الله لعباده وبينها في كتابه الكريم، أو على لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، كأحكام المواريث والصلوات الخمس والزكاة والصيام ونحو ذلك مما أوضحه الله لعباده وأجمعت عليه الأمة، ليس لأحد الاعتراض عليها ولا تغييرها، لأنه تشريع محكم للأمة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وبعده إلى قيام الساعة، ومن ذلك: تفضيل الذكر على الأنثى من الأولاد، وأولاد البنين، والإخوة للأبوين وللأب، لأن الله سبحانه قد أوضحه في كتابه وأجمع عليه علماء المسلمين، فالواجب العمل بذلك عن اعتقاد وإيمان، ومن زعم أن الأصلح خلافه فهو كافر، وهكذا من أجاز مخالفته يعتبر كافراً؛ لأنه معترض على الله سبحانه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى إجماع الأمة؛ وعلى ولي الأمر أن يستتيبه إن كان مسلماً، فإن تاب وإلا وجب قتله كافراً مرتداً عن الإسلام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) ، نسأل الله لنا ولجميع المسلين العافية من مضلات الفتن ومن مخالفة الشرع المطهر" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (4/415) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/10)
ما رأيكم فيما يُطلق عليه " الخروج من الجسد "؟ وهل هو واقع أم خيال؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأتُ موضوعاً في منتدى، ولا أعرف الحكم، وأخاف أن ينتشر ذلك في المنتديات بسرعة، وهذا هو الموضوع: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: الخروج من الجسد ظاهرة عجيبة غريبة، تستحق التجربة، وهي من الظواهر التي أثَّرت على مجرى حياتي، وعلى مدى فهمي للأمور واستيعابها. فالأشياء ليست كما نراها دائماً، ولكل نومٍ قصة، ولذا كان هذا التقرير: ما هو الخروج من الجسد؟ . الخروج من الجسد (الإسقاط النجمي) : الخروج من الجسد ظاهرة طبيعية، تحصل لكل البشر عند النوم، ونحن كمسلمين نعلم علم اليقين بانفصال النفس عن الجسد عند النوم، ثم تعود النفس للجسد المادي حين نستيقظ، قال صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف) ، ويظهر هذا واضحاً في قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الزمر/ 42، ولذا سمي النوم بالموتة الصغرى. الفرق الوحيد بين النوم وبين الخروج من الجسد هو أننا عندما ننام لا ندرك الوعي، أما في الخروج من الجسد: فتخرج النفس باصطحاب الوعي، ويرافق عقلنا هذا الجسد غير المرئي لعالم الأثير (عالم الأحلام) . قد تكون الفكرة لمن لم يسمع من قبل بالخروج من الجسد غريبة بعض الشيء، وقد يظنها البعض ضرباً من ضروب الخيال، والحقيقة هي أن تجربة الخروج من الجسد من أرقى ما يمكن أن يمر به الإنسان من تجارب، ويعجز عن وصفها حتى الكلام، عندما تتحرر من جسدك المادي، وتنزع عنك مادية هذا العالم بما في ذلك جسدك أنت، وتبقى عبارة عن وعي وجسد شفاف. والخروج من الجسد أمر ليس فيه لبس، أي: لا ينفع أن يقول شخص أظن أني قد خرجت من جسمي؛ لأنه ما إن يحصل له خروج من الجسد سيعرف تمام المعرفة أنه حصل، ولا يمكن أن يظن (أي: الشخص) أن الخروج من الجسد نوع من التأمل، أو من الخيال، أو من التنويم الإيحائي، إنه باختصار واضح ستعرفه ما إن تجربه، فما يخرج هو وعيك أنت: يحمله الجسم اللامرئي الذي ندعوه النفس، ويدعوه الغرب بـ " الجسم النجمي "، والبعض بـ " الجسم الأثيري "، في النهاية هو جسم شفاف غير مرئي، جزء منا نحن ينفصل عنَّا عندما ننام، ثم يعود عندما نستيقظ. إلى أين تذهب بعد الخروج؟ : إلى العالم الأثيري، وهو العالم الذي تتحقق فيه الأحلام، فلو تخيلت بعد الخروج من جسدك بأن هناك شجرة في منتصف غرفتك ستجدها أمامك في لمح البصر!! . هو عالم يتجرد عن قوانين الفيزياء بشتى أنواعها، حيث يمكنك فيه التنقل بين المكان والزمان في لحظات، وحيث الثواني قد تعني الأيام في هذا العالم. وفيه قد تلتقي بأناس آخرين قد دخلوا لهذا العالم الأثيري. أنواع الخروج: النوع الأول: وهو النوع الذي نتكلم عنه، وهو الخروج من الجسد في حال الوعي التام خارج الجسد. النوع الثاني: وهو الوعي بعد الدخول في النوم، وهو الوعي داخل الأحلام، ويمكنك حينها التحكم في الأحلام كفيما تشاء. كيف نستطيع الخروج من الجسد؟ : هناك الكثير من التمارين والدورات بهذا الخصوص، حيث تكون عبارة عن ورشات عمل، حيث يبدؤون فيها بالاسترخاء، وإتقان هذه المهارة مهم جدّاً لعملية الخروج من الجسد، وتختلف الطرق باختلاف المدربين، واختلاف مدارس الطاقة وعلومها، ولذا ينصح بأخذ دورة متخصصة لإتقان هذه المهارة، وحتى يتسنى لكم التحكم فيها، والبقاء لمدة أطول في العالم الأثيري. تجربتي الشخصية: لقد كانت بدايتي مع هذه الظاهرة منذ 4 سنوات، حيث جذبتني جدّاً لاهتمامي بهذه الأمور الغير اعتيادية، فحاولت جاهداً البحث في كل مكان عن الطرق والتدريبات، وحاولت تدريب نفسي بداية من الاسترخاء والتنويم الإيحائي الذاتي، ووصولاً إلى الإسقاط النجمي، والتحكم في مراكز الطاقة. ونجحت في الوصول للنوع الثاني عدة مرات، وكانت تجارب مثيرة بالفعل استحقت عناء التجربة، ولأنني لم أتعلم على يد مدرب، وإنما كانت عن طريق بحث وتدريب ذاتي، لم أصل للنوع الأول، وهو الوعي الكامل خارج الجسد إلا في مناسبات قليلة لم تتجاوز الثلاث مرات خلال المدة الماضية، مع كونها قصيرة جدّاً إلا أنها كانت من التجارب التي لا تُنسى. بالنسبة لتجربتي كانت في محيط المنزل، ولم أستطع الذهاب إلى أي مكان؛ لكثرة توارد الأفكار؛ ولدهشتي؛ واستغرابي. في إحدى المرات كنت خارج جسدي في غرفتي، فذهبت إلى الصالة، فرأيت والدي ممسكاً الصحيفة ويكلم أخي الأصغر، ثم رأيت والدتي متجهة إلى غرفتي، فأردت الرجوع بسرعة قبل أن تأتي، فشعرت بشيء يشدني إلى الخلف بسرعة حتى استيقظت، فرأيت والدتي وهي تفتح باب الغرفة، قمت بعدها مسرعاً لأتأكد فإذا بوالدي على نفس الهيئة والوضعية التي رأيت وهو يكلم أخي، فكان شعوراً لا يوصف. انتهى الموضوع، أرجوا الإفادة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
ليس كل ما يُسمع ويُقرأ يستحق الاحترام والتقدير، ونأسف أن وصل المسلمون – ومنهم بعض الخاصة – إلى تلقي قمامات الغرب وجعلها كنوزاً! وتلقي أوهامهم وخيالاتهم وجعلها حقائق لا تبل المناقشة، ومثل ما في السؤال أنموذج لتلك القمامات والترهات التي ينبغي أن يربأ المسلم بنفسه عنها، فليس عليها سيما العلم، ولا تحمل من الحقيقة ولو قطميراً! بل هي أوهام وخيالات وترهات استطاع مخترعوها وكاذبوها أن يجدوا سوقاً بين المسلمين لترويج تلك البضاعات الكاسدة، ونعجب من بعض من يصدق هذه الترهات من المسلمين ممن يرد أحاديث في صحيحي البخاري ومسلم بدعوى أنها آحاد! ثم يصدق بوجود " جسد أثيري " يتصل بالجسد الحقيقي بـ " خيط فضي "! ، ثم يصدق أن ثمة من يرجع إلى الزمن الماضي، أو يصل إلى الزمن المستقبل! ويصدق أنه يمكن أن يلتقي بعالم الملائكة وعالم الجن! كل ذلك يسوقه المرضى، ويصدقه الحمقى.
ثانياً:
العجيب ممن يصدق هذا الكلام وهو يرى أن الإنسان وهو على قيد الحياة، بروحه، وبدنه، وعقله، يستطيع أن يقوم بأشياء خارقة، وعظيمة، بسبب ما سخَّره الله له من علم، وهو أمر يشاهد، وليس ثمة من يكذبه، فكيف يكون عند الإنسان وهو نائم من القوة ما ليس عنده وهو مستيقظ؟! وما هذا إلا كما يفعله ويعتقده الوثنيون في أمواتهم الذين يقدسونهم ويعظمونهم، فأولياؤهم وهم على قيد الحياة يجوعون ويعطشون ويتبلون ويتبرزون ويمرضون، بل ويقتلون، ثم إذا ماتوا أثبتوا لهم من الخوارق والأفعال ما يعجزون عن جزء يسير منه وهم على قيد الحياة! فمتى تُرجع كلا الطائفتين عقلها لبدنها، وتقف على حقيقة التوحيد، وتلتزم الأخذ بالحقائق المشاهدة المحسوسة وتترك الخرافات والأوهام؟ .
ثالثاً:
من تأمل ما يشاع في هذا الزمن من العامة وبعض الخاصة من نحو ما في السؤال يجد قوة تأثير العقائد البوذية وعقائد الإلحاد على ما يعتقدونه نافعاً صواباً، ابتداء بالبرمجة اللغوية العصبية، إلى تغيير العقل، إلى العلاج بالطاقة، في قائمة تطول، كلها تقوم على الخرافة والوهم، وهي تصلح لبعض المرضى النفسيين لا أكثر، وما نحن فيه الآن – وهو الخروج من الجسد – من يتأمله يجد أهله الذين يعتقدونه لا يدينون بالإسلام، ولا يعترفون بالله تعالى ربّاً، وكلها أمور غيبية نأسف أن يتلقفها المسلمون من مثل أولئك الملحدين، ومن ينظر في المنتديات التي تنشر ترهات الخروج من الجسد يجد الأمر أشبه ما يكون بالرسوم المتحركة الفضائية، والخيالية.
وها نحن نرى ما جاءت الشريعة الإسلامية المطهرة بمحاربته، والحكم عليه بالشرك والوثنية: أصبح الآن " علماً "! تُعقد له الدورات، وتُعطى فيه الألقاب والشهادات، وتُدفع له أعلى الأثمان لحضوره، وتعلمه! وتجد هذا المسلم يحكم على من ينظر في " فنجان القهوة " ليخبرك بمستقبلك وحقيقة شخصيتك بأنه كاهن، دجال – وهو كذلك -، لكنه في الوقت نفسه يعطيك من المعلومات الغيبية عنك أضعافاً مضاعفة من ذلك الكاهن الدجال بالنظر في " توقيعك "!! حتى صار هذا الأمر " علماً " وله اختصاصيون من المسلمين!! فبمجرد النظر في " توقيعك " يخبره بصفاتك، فيخبرك بأنك – مثلاً - انطوائي، كريم، متسامح، متعاون، يحب السلام، له نظرة مستقبلية، كتوم بعض الشيء! – انظر للدقة " بعض الشيء "! – ويخبرك بما تحب من الألوان! وغير ذلك من الترهات والكهانة العصرية، وما ذكرناه ليس نسجاً من الخيال، بل نقلنا بعضه من مقابلة مع شخصية إسلامية مشهورة، وعلى الجانب الآخر كان " الكاهن "! يخبره بما نقلنا جزء منه، بمجرد رؤية توقيعه، والله المستعان.
وحقّاً إن هؤلاء " حمقى " يقودهم " مرضى "، وإليكم خرافة أخرى من خرافاتهم " العلمية " وتُعطى فيما يسمَّى " دورات الريكي "! فتجد الأحمق منهم يقول مخاطباً معدته: " معدتي! كيف حالك؟ أرجو أنك بخير، أرجو أن لا تسببي لي المتاعب!! " ويخاطب سنَّه وقلبه وكليته وباقي أعضاء وأجزاء جسمه بالطريقة الساذجة نفسها، يحيي العضوء أو الجزء، ويسأل عن حاله وأخباره! ويرجوه أن لا يسبب له ألماً وأن لا يُمرضه!!! ، فهل هذا فعل العقلاء فضلاً أن يكون فعل المسلمين؟!!! أليس لو رأى ذلك أحد العقلاء فإنه سيحكم على فاعله بأنه مجنون ويستحق الحجر عليه؟! .
رابعاً:
خرافة " الخروج من الجسد "، أو " السفر بالجسد "، ويطلق عليه " الإسقاط النجمي ": هو من هذا الباب، فأصحابه يوهمونك أنك باستطاعتك السفر بجسدك " الأثيري " إلى عوالم مختلفة، كعالم الملائكة، وعالم الجن، وعالم البرزخ! فترى الأموات وأرواحهم، بل وتتنقل في أزمنة مختلفة، فلك أن ترجع للماضي، ولك أن تذهب للمستقبل! لترى من سيولد! ويزعمون أنك تنتقل بوعيك وأنت نائم، يعني: أن الجسد فقط يكون نائماً، بينما يكون عقلك في حالة يقظة تامة! ويعتقدون أنك تنتقل إلى تلك العوالم والأزمنة بجسد " أثيري " - وهو جسم من الطاقة – وهو ينفصل عن الجسم المادي النائم، ويبقى بقربه أثناء النوم، ويكون هذان الجسمان متصلان بـ " حبل فضي " يربط بينهما! .
سذاجة، وخرافة، وأوهام، وترهات، وزندقة، وإلحاد، كل ذلك صار " علماً "، وله مدربوه، وله زبائنه التي تتعلق بالأوهام والخيالات، وصرنا بحاجة لأن نرجع مع هؤلاء الناس إلى أبجديات التوحيد، ونعلمهم بأن الجن لا يُرى، وأن الملائكة كذلك، وأن الغيب لا يعلمه إلا الله، وأنه لا يمكن الرجوع للوراء لمعرفة ماضيك ورؤيتك وأنت طفل ترضع وتكبر، ولا لقاء الأموات قبل موتك، وهكذا في سلسلة من المسائل والأحكام من المفترض أن تكون عقائد راسخة عند المسلمين، ولعلَّ في هذا عبرة وعظة لمن يتزعم من الدعاة محاربة تدريس التوحيد، وغرس العقيدة الحقة في نفوس المسلمين، زاعمين أن الأمة ليست بحاجة لهذا، وها هي الأمور تنكشف، ويتبين أن الناس يُقدمون على الشرك، والكهانة بإرادتهم، ويدفعون المبالغ الطائلة لأجل هذا، بل يكون له منصب فيها ورتبة، ويحمل في " علومها " شهادة مصدَّقة.
خامساً:
ليس ثمة ما يسمى " الجسد الأثيري "، ويستطيع أن يزعم صاحب أية خرافة مثل هذه الأشياء، ويبني عليها صروحاً من الكذب، وهذا الذي حصل هنا، فأثبتوا فعلا وأطلقوا عليه اسماً، واخترعوا جسداً وأطلقوا عليه اسماً، ثم أوهموا الناس أنهم دقيقون فذكروا لون " الخيط " الذي يربط بين الجسدين، وأنه " فضي "! وهكذا في سلسلة أكاذيب ليس لها واقع في الوجود، وبالطبع لا بد أن يضعوا شروطاً للشخص حتى يصح له " خروجه وسفره " من جسده، وأول ذلك الاسترخاء التام، ومن عجز عنه: فله أن يستعين بطاغوت " البرمجة العصبية " فيردد " أريد أن أسترخي، أريد أن أسترخي " ويكررها بحماقة حتى يوهم نفسه أنه استرخى! ، والواقع أنه ليس ثمة ما يسمى بالجسد الأثيري إلا في أذهان أولئك الذين يصلحون لإنتاج الرسوم المتحركة الفضائية والخيالية.
1. سئلت الدكتورة فوز كردي – حفظها الله – وهي من أوائل من تنبه لطاغوت البرمجة العصبية وأخواتها، ولها ردود منتشرة عليهم، بل حازت على رسالتي الماجستير والدكتوراة في العقيدة وضمنتهما الرد على تلك البرامج والادعات والعلاجات -:
هل " الجسم الأثيري " له أصل في الشرع، أم أنه مجرد توقعات، أو سحر، وخزعبلات؟ .
فأجابت:
بالنسبة للجسم الأثيري: فهو أولاً: قول مبني على نظرية قديمة، تفترض وجود مادة " الأثير "، وهي مادة مطلقة قوية غير مرئية! تملأ الفراغ في الكون، سمَّاها " أرسطو ": العنصر الخامس، وعدّها عنصراً ساميًا، شريفًا، ثابتًا، غير قابل للتغيير، والفساد، وقد أثبت العلم الحديث عدم وجود الأثير، ولكن الفلسفات القديمة المتعلقة بالأثير بقيت كما في الفلسفات المتعلقة بالعناصر الخمسة، أو الأربعة.
ثانياً: قول تروج له حديثاً التطبيقات الاستشفائية، والتدريبية، المستمدة من الفلسفة الشرقية، ومع أن التراث المعرفي المستمد من الوحي المعصوم بيّنٌ أوضح البيان، وغنيٌّ كل الغنى بأصول ما يعرّف الإنسان بنفسه وقواه الظاهرة والخفيَّة: إلا أن عقدة المفتونين بالعقل، والمهووسين بالغرب والشرق من المسلمين: جعلتهم يلتمسون ذلك فيما شاع هناك باسم " الأبحاث الروحية "، فنظروا إليها على أنها حقائق علمية، أو خلاصة حضارة شرقية عريقة، وأعطوا لأباطيلها وتخرصات أهلها ما لم يعطوا لمحكمات الكتاب وقواطع السنَّة، ومن ذلك القول بتعدُّد أجساد الإنسان، وقد يسمونها " الأبعاد "، أو " الطاقات "؛ للقطع بأنها اكتشافات علميّة، وهذا القول حقيقته: بعث لفلسفة الأجساد السبعة المعروفة في الأديان الشرقيَّة، ومفادها أنّ النفس الإنسانيّة تتكوَّن من عدَّة أجساد - اختلفوا في عدِّها ما بين الخمسة إلى التسعة بحسب وجهات نظر فلسفيّة تتعلّق بمعتقدهم في ألوهية الكواكب أو المؤثرات الخارجية - والمتَّفق عليه من هذه الأجساد: الجسم البدنيّ أو الأرضيّ، والجسم العاطفيّ، والجسم العقليّ، والجسم الحيويّ، والجسم الأثيريّ، فالجسم البدنيّ: هو الظاهر الذي نتعامل معه، وتنعكس عليه حالات الأجساد الأخرى، والجسم الأثيري: هو أهم هذه الأجساد، وأساس حياتها، وهو منبع صحة الإنسان، وروحانيته، وسعادته! .
وقد سرى هذا المعتقد في أوساط المسلمين بعد أن عُرض على أنه كشف علمي عبر التطبيقات الشرقية المروجة على شكل دورات تدريبية، أو تمارين استشفائية مفتوحة لعامة الناس، بعد أن كان هذا المعتقد غامضًا محصورًا في حُجَر تحضير الأرواح! عند خبراء حركة الروحية الحديثة.
فالاعتقاد بالجسم الأثيريّ كالاعتقاد بالعقل الباطن وقوى النفس، إنما شاع ذكره عند من غفل عن حقائق الغيب، ورام الوصول إليها من غير طريق الرُّسُل، فأصل هذه المعتقدات مأخوذ من التراث المنقول في الديانات الوثنيّة الشرقيّة، والمعتقدات السرِّية الباطنيّة، وكلّ تطبيقاتها الرياضيّة والعلاجيّة الحديثة تدعو إلى تطوير قوى هذا الجسد لتنمية الجنس البشريّ حيث يصبح بإمكان الإنسان في المستقبل فعل ما كان يُعدّ خارقة في العصور الماضية، كأن يصبح صاحب لمسة علاجيّة، أو قدرة على التنبُّؤ، أو التأثير عن بُعد، وغير ذلك، دون أن يكون متنبِّئًا، أو كاهنًا، ومن ثم لا يحتاج لأيِّ مصدر خارج عن نفسه! ويستغني عن فكرة الدين، أو معتقد الألوهية - عياذاً بالله -.
انتهى
http://www.alfowz.com/index.php?option=com_content&task=view&id=135&Itemid=2
2. وسئل الدكتور وهبة الزحيلي – وفقه الله -:
هل علوم " الميتافيزقيا " حرام؟ هل علوم ما وراء الطبيعة والخوارق حلال أو حرام؟ وهي " التلبثة " - التواصل عن بُعد -، " قراءة الأفكار " telepahtic، " الخروج الأثيري عن الجسد " out of body experience، " تحريك الأشياء بالنظر النظر المغناطيسي "، " اليوجا، و " التنويم الإيحائي "، " التاي شي "، " الريكي "، " التشي كونغ "، " المايكروبيوتك "، " الشكرات "، " الطاقة الكونية "، " مسارات الطاقة "، " الين واليانغ "؛ لأني وجدت موقعا يحرِّمها - موقع الأستاذة فوز كردي - السعودية -؟ .
فأجاب:
هذه وسائل وهمية، وإن ترتب عليها أحياناً بعض النتائج الصحيحة، ويحرم الاعتماد عليها وممارستها، سواء بالخيال، أو الفعل، فإن مصدر العلم الغيبي: هو الله وحده، ومن اعتمد على هذه الشعوذات: كفر بالله، وبالوحي، كما ثبت في صحاح الأحاديث النبوية الواردة في العَّراف، والكاهن، ونحوهما.
http://www.zuhayli.net/fatawa_p56.htm
وللوقوف على حقيقة النوم، وعلاقته بالموت، وشعور النائم بنفسه وهو يعلم: يُنظر جواب السؤال رقم: (14276) ففيه تفصيل ذلك بالكتاب والسنَّة وأقوال العلماء الثقات.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/11)
الحكمة من تقبيل الحجر الأسود
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الحكمة في تقبيل الحجر الأسود التبرك به؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"الحكمة من الطواف بيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله) فالطائف الذي يدور على بيت الله تعالى يقوم بقلبه من تعظيم الله تعالى ما يجعله ذاكراً لله تعالى، وتكون حركاته بالمشي والتقبيل واستلام الحجر والركن اليماني والإشارة إلى الحجر ذكراً لله تعالى لأنها من عبادته؛ وكل العبادات ذكر لله تعالى بالمعنى العام، وأما ما ينطق به بلسانه من التكبير والذكر والدعاء فظاهر أنه من ذكر الله تعالى، وأما تقبيل الحجر فإنه عبادة حيث يقبل الإنسان حجراً لا علاقة له به سوى التعبد لله تعالى بتعظيمه، واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، كما ثبت أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال حين قَبَّل الحجر: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) .
أما ما يظنه بعض الجهال من أن المقصود بذلك التبرك به فإنه لا أصل له، فيكون باطلاً.
وأما ما أورده بعض الزنادقة من أن الطواف بالبيت كالطواف على قبور أوليائهم وأنه وثنية، فذاك من زندقتهم وإلحادهم، فإن المؤمنين ما طافوا به إلا بأمر الله؛ وما كان بأمر الله فالقيام به عبادة لله تعالى.
ألا ترى أن السجود لغير الله شرك أكبر، ولما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم كان السجود لآدم عبادة لله تعالى وكان ترك السجود له كفراً.
وحينئذ يكون الطواف بالبيت عبادة من أجل العبادات، وهو ركن في الحج، والحج أحد أركان الإسلام. ولهذا يجد الطائف بالبيت إذا كان المطاف هادئاً من لذة الطواف وشعور قلبه بالقرب من ربه ما يتبين به علو شأنه وفضله والله المستعان" انتهى.
فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.
"فتاوى العقيدة" (ص 28، 29) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/12)
أقسام العبودية
[السُّؤَالُ]
ـ[أقرأ في بعض الآيات ما يدل على أن عباد الرحمن هم المؤمنون فقط مثل قوله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا) الفرقان/63، وفي بعضها الآخر ما يدل على أن جميع الناس عباد الله كقوله تعالى: (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً) مريم/93 فكيف نجمع بين الآيتين؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اعلم أرشدك الله لطاعته أن العبودية نوعان:عبودية خاصة، وعبودية عامة.
فالعبودية الخاصة هي:
عبودية المحبة والانقياد والطاعة التي يشرف بها العبد ويعظم،وهي التي وردت في مثل قول الله تعالى: (الله لطيف بعباده) الشورى/19، وقوله: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً) الفرقان/63، وهذه العبودية خاصة بالمؤمنين الذين يطيعون الله تعالى، لا يشاركهم فيها الكفار الذين خرجوا عن شرع الله تعالى وأمره ونهيه، والناس يتفاوتون في هذه العبودية تفاوتاً عظيما؛ فكلما كان العبد محباً لله متبعاً لأوامره منقاداً لشرعه كان أكثر عبودية. وأعظم الناس تحقيقاً لهذا المقام هم الأنبياء والرسل، وأعظمهم على الإطلاق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا لم يرد ذكر أحد بوصف بالعبودية المجردة في القرآن إلا هو عليه الصلاة والسلام فذكره الله بوصف العبودية في أشرف المقامات كمقام الوحي فقال سبحانه: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً) الكهف/1، وفي مقام الإسراء فقال جل شأنه: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) الإسراء/1، وفي مقام الدعوة فقال تعالى: (وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً) الجن/19 إلى غير ذلك من الآيات.
فالشرف كل الشرف في استكمال هذه العبودية وتحقيقها ولا يكون ذلك إلا بتمام الافتقار إلى الله تعالى، وتمام الاستغناء عن الخلق، وذلك لا يتأتى إلا بأن يجمع الإنسان بين محبة الله تعالى والخوف منه ورجاءِ فضله وثوابه.
وأما العبودية العامة:
فهذه لا يخرج عنها مخلوق وتسمى عبودية القهر فالخلق كلهم بهذا المعنى عبيد لله يجري فيهم حكمه، وينفذ فيهم قضاؤه، لا يملك أحد لنفسه ضراً ولا نفعاً إلا بإذن ربه ومالكه المتصرف فيه. وهذه العبودية هي التي جاءت في مثل قوله تعالى: (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً) مريم/93، وهذه العبودية لا تقتضي فضلاً ولا تشريفاًُ، فمن أعرض عن العبودية الخاصة فهو مأسور مقهور بالعبودية العامة فلا يخرج عنها بحال من الأحوال. فالخلق كلهم عبيد لله فمن لم يعبد الله باختياره فهو عبد له بالقهر والتذليل والغلبة.
نسأل الله أن يجعلنا من عباده المخلَصين وأوليائه المقربين، إنه سميع قريب مجيب. والله أعلم وأحكم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يراجع (مفاهيم ينبغي أن تصحح للشيخ محمد قطب 20- 23، 174- 182) و (العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/13)
شروط العمل الصالح
[السُّؤَالُ]
ـ[متى يقبل الله عمل العبد؟ وما هي الشروط في العمل كي يكون صالحاً مقبولاً عند الله؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
وبعد: فإن العمل لا يكون عبادة إلا إذا كمل فيه شيئان وهما: كمال الحب مع كمال الذل قال الله تعالى: (والذين آمنوا أشد حبا لله) البقرة/165، وقال سبحانه: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون) المؤمنون/57، وقد جمع الله بين ذلك في قوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) الأنبياء/ من الآية90.
فإذا علم هذا فليعلم أن العبادة لا تقبل إلا من المسلم الموحد كما قال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) الفرقان/23.
وفي صحيح مسلم (214) عن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ قَالَ لَا يَنْفَعُهُ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ" يعني أنه لم يكن يؤمن بالبعث، ويعمل وهو يرجو لقاء الله.
ثم إن المسلم لا تقبل منه العبادة إلا إذا تحقق فيها شرطان أساسيان:
الأول: إخلاص النية لله تعالى: وهو أن يكون مراد العبد بجميع أقواله وأعماله الظاهرة والباطنة ابتغاء وجه الله تعالى دون غيره.
الثاني: موافقة الشرع الذي أمر الله تعالى أن لا يعبد إلا به، وذلك يكون بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، وترك مخالفته، وعدم إحداث عبادة جديدة أو هيئة جديدة في العبادة لم تثبت عنه عليه الصلاة والسلام.
والدليل على هذين الشرطين قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا ً) الكهف/من الآية110
قال ابن كثير رحمه الله: " (فمن كان يرجوا لقاء ربه) أي ثوابه وجزاءه الصالح (فليعمل عملا صالحا) أي ما كان موافقا لشرع الله (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له وهذان ركنا العمل المتقبل لابد أن يكون خالصا لله صوابا على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.ا. هـ.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(1/14)
حكم مجالسة من لا يصلي وينكر الحجاب ويسخر منه ويسخر من عائشة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم مجالسة مَن لا يصلي، ولا يصوم، وينكر الحجاب، ويقول: إنها خاصة فقط بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، ويسخر منه، وفي مرة سمعته يسخر من السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وخاصة إذا كان من صلة الأرحام؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
إن هذه الأفعال التي تسأل عن مجالسة صاحبها هي: كفرٌ، وردة، ونعجب من انتسابه للإسلام وهو على هذه الحال، فترك الصلاة كفر أكبر، ثبت ذلك بالكتاب، والسنَّة، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم.
والحجاب للنساء: إن كان يقصد به غطاء الوجه " النقاب " ونحوه، فثمة خلاف بين العلماء فيه، والأصح أنه على واجب على النساء جميعاً، وليس هو خاصّاً بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان – حفظه الله -:
وأما بالنسبة للنقاب: فتغطية الوجه واجبة، على الصحيح من قولي العلماء، وهو الذي تؤيده الأدلة الصحيحة؛ لقوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) النور/ 31؛ ولقوله تعالى في نساء النبي صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) الأحزاب/ 53.
وكون الخطاب ورد في نساء النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنع أن يتناول الحكم غيرهن مِن نساء المسلمين؛ وذلك لأنه علل ذلك بعلة عامة، وهي قوله: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) الأحزاب/ 53.
فالعلة عامة، لنساء النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن، ولغيرهن مِن النساء، والطهارة مطلوبة للجميع؛ لقوله تعالى في الآية الأخرى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) الأحزاب/ 59.
" المنتقى من فتاوى الشيخ الفوزان " (4 / 242، 243، السؤال رقم 250) .
ولمزيد تفصيل: ينظر جواب السؤال رقم: (11774) .
وأما إن كان يقصد بالحجاب غطاء الرأس: فليس في وجوبه خلاف بين أهل العلم، وإنكاره للنوعين، وسخريته بهما: ردة عن الدِّين؛ لأن الخمار وإن لم يكن واجباً عند بعض أهل العلم: فهو متفق على مشروعيته، وأنه من دين الله، فإنكاره والسخرية به كفر مخرج عن الملة.
وليس ثمة مجال لهذا الزنديق أن يسخر من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، إلا أن يطفح ما في قلبه من النفاق والزندقة، ويظهر على فلتات لسانه، فعائشة أم المؤمنين، وزوج النبي صلى الله عليه وسلم، والمبرأة من الله في آيات تتلى إلى يوم القيامة، فمن سخر منها فإنما يسخر من زوجها، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، ومن نفى أن تكون أمّاً للمؤمنين فهو يخرج نفسه من دائرتهم، وليس يضرها شيئا.
ثانياً:
إذا كان هذا هو حال هذا القريب: فليعلم أنه فاعل لما يوجب ردته، وأن عليه التوبة، والرجوع إلى دينه، وأنه إن لقي الله بهذا: لقيه على غير الإسلام.
وأما الواجب عليكم – بعد نصحه -: فهو أن تهجروا مجالسه، وتحذروا منه، إلا أن يكون من يريد الجلوس معه على قدر من العلم ليرد عليه كفره، وليحذر مجالسيه من شرِّه، وتكون صلته غير واجبة، بل لا يجوز ابتداؤه بالسلام.
قال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) القصص/ 55.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله -:
(وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ) من جاهل خاطبهم به، (قَالُوا) مقالة عباد الرحمن أولي الألباب: (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) أي: كُلٌّ سَيُجازَى بعمله الذي عمله وحده، ليس عليه من وزر غيره شيء، ولزم من ذلك: أنهم يتبرءون مما عليه الجاهلون، من اللغو، والباطل، والكلام الذي لا فائدة فيه.
(سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي: لا تسمعون منَّا إلا الخير، ولا نخاطبكم بمقتضى جهلكم، فإنكم وإن رضيتم لأنفسكم هذا المرتع اللئيم: فإننا ننزه أنفسنا عنه، ونصونها عن الخوض فيه، (لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) من كل وجه.
" تفسير السعدي " (ص 620) .
سئل علماء اللجنة الدائمة:
هل يجوز أن أجالس تارك الصلاة؟ .
فأجابوا:
مَن ترك الصلاة متعمِّداً جاحداً لوجوبها: فهو كافر باتفاق العلماء، وإن تركها تهاوناً وكسلاً: فهو كافر، على الصحيح من أقوال أهل العلم، وبناءً على ذلك: لا تجوز مجالسة هؤلاء، بل يجب هجرهم، ومقاطعتهم، وذلك بعد البيان لهم أن تركها كفر، إذا كان مثلهم يجهل ذلك، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) ، وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه قال: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) أخرجه مسلم في صحيحه، وهذا يعم الجاحد لوجوبها، والتارك لها كسلاً.
الشيخ عبد العزيز بن باز , الشيخ عبد الرزاق عفيفي , الشيخ عبد الله بن غديان.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (12 / 374 , 375) .
وسئل علماء اللجنة الدائمة:
هل يجوز إلقاء السلام على تارك الصلاة؟ .
فأجابوا:
أما تارك الصلاة جحداً: فكافر بالإجماع، وتاركها كسلاً، غيرَ جحد لوجوبها: فكافر، على القول الصحيح من أقوال العلماء، فلا يجوز إلقاء السلام عليه، ولا رد السلام عليه إذا سلَّم؛ لأنه يعتبر مرتداً عن الإسلام.
الشيخ عبد العزيز بن باز , الشيخ عبد الرزاق عفيفي , الشيخ عبد الله بن غديان , الشيخ عبد الله بن قعود.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (24 / 141 , 142) .
وقال علماء اللجنة الدائمة:
ومَن استهزأ بدين الإسلام، أو بالسنَّة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كإعفاء اللحية، وتقصير الثوب إلى الكعبين، أو إلى نصف الساقين، وهو يعلم ثبوت ذلك: فهو كافر، ومن سخِر من المسلم، واستهزأ به، من أجل تمسكه بالإسلام: فهو كافر؛ لقول الله عز وجل: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) التوبة 65 , 66.
الشيخ عبد العزيز بن باز , الشيخ عبد الرزاق عفيفي , الشيخ عبد الله بن غديان , الشيخ عبد الله بن قعود.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (2 / 43 , 44) .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله -:
والواجب: هجر تارك الصلاة، ومقاطعته، وعدم إجابة دعوته، حتى يتوب إلى الله من ذلك، مع وجوب مناصحته، ودعوته إلى الحق، وتحذيره من العقوبات المترتبة على ترك الصلاة في الدنيا والآخرة؛ لعله يتوب، فيتوب الله عليه.
" فتاوى الشيخ ابن باز " (10 / 266) .
وسئل الشيخ صالح بن فوزان الفوزان – حفظه الله -:
هل يجوز لي أن أجالس وأشارك في المأكل والمشرب تارك الصلاة المصر على تركها؟ .
فأجاب:
لا يجوز لك أن تجالسه وتشاركه في المأكل والمشرب، إلا إذا كنت تقوم بنصيحته، والإنكار عليه، وترجو أن يهديه الله على يديك، فإذا كنت تقوم بهذا معه: وجب عليك أن تقوم به معه؛ لأن هذا من إنكار المنكر، والدعوة إلى الله تعالى، لعل الله أن يهديه على يديك.
أما إذا كنت تشاركه، وتجالسه، وتأكل وتشرب معه من غير إنكار، وهو مقيم على ترك الصلاة، أو مقيم على شيء من الكبائر: فإنه لا يجوز لك أن تخالطه، وقد لعن اللهُ بني إسرائيل على مثل هذا، قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ) المائدة/ 78، 79.
وجاء في تفسير الآية أن أحدهم كان يرى الآخر على المعصية فينهاه عن ذلك، ثم يلقاه في اليوم الآخر وهو مقيم على معصية: فلا ينهاه، ويخالطه، ويكون أكيله، وشريبه، وقعيده، فلما رأى الله منهم ذلك: ضرب قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان أنبيائهم.
وحذرنا نبي الله صلى الله عليه وسلم من أن نفعل مثل هذا الفعل؛ لئلا يصيبنا ما أصابهم من العقوبة.
" المنتقى من فتاوى الشيخ الفوزان " (2 / 246، السؤال رقم 215) .
وانظر جوابي السؤالين:: (4420) و (47425) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/15)
الإلحاد أعظم كفرا من الشرك
[السُّؤَالُ]
ـ[أيهما أكبر ذنباً، الإلحاد أم الشرك؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الإلحاد في المفهوم المعاصر يعني تعطيل الخالق بالإطلاق، وإنكار وجوده، وعدم الاعتراف به سبحانه وتعالى، وإنما العالم وما فيه قد جاء ـ على حسب زعمهم ـ بمحض الصدفة، وهو مذهب غريب مناف للفطرة والعقل والمنطق السليم، ومناقض لبدهيات العقل ومسلَّمات الفكر.
أما الشرك فهو يتضمن الإيمان بالله عز وجل والإقرار به، ولكن يشمل أيضا الإيمان بشريك لله في خلقه، يخلق، أو يرزق، أو ينفع، أو يضر، وهذا شرك الربوبية، أو بشريكٍ يُصرَف له شيء من العبادة محبة وتعظيما، كما تصرف لله سبحانه وتعالى، وهذا شرك العبادة.
وبالتأمل في هذين الانحرافين نجد أنَّ في كلٍّ منهما مِن الإثم والسوء ما يدلنا على سوء حالهم، وكيف أن الله جل جلاله وصفهم بأنهم كالبهائم:
يقول الله تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) الفرقان/43-44.
وقال سبحانه: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) الأعراف/179.
ورغم ذلك كله فالملحد الجاحد المكذِّبُ بوجود الله ورسله واليوم الآخر أعظمُ كفرًا، وأشنعُ مقالةً من الذي آمن بالله، وأقر بالمعاد، ولكنه أشرك معه شيئا من خلقه، فالأولُ معاند مكابر إلى الحد الذي لا يتصوره الفكر، ولا تقبله الفطرة، ومثله يستبيح كلَّ محرَّم، ويقع في كل معصية، وينتكس عقله إلى حد لا يخطر على البال، ومع ذلك فقد شكك كثير من المتكلمين في ظاهرة الإلحاد بصدق وجود هذه الظاهرة في قرارة أنفس الملحدين، وقرروا أن الملحد إنما يظاهر بإلحاده، وهو في باطنه مُوقِنٌ بإله واحد.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية الكثير من العبارات التي تدل على أن طائفة الملحدين المعطِّلين الجاحدين أعظم كفرا من المشركين، ننقل هنا بعض ما وقفنا عليه من ذلك:
يقول رحمه الله: " الكفر عدم الإيمان بالله ورسله، سواء كان معه تكذيب، أو لم يكن معه تكذيب، بل شك وريب أو إعراض عن هذا كله، حسدا أو كبرا أو اتباعا لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة، وإن كان الكافر المكذب أعظم كفرا، وكذلك الجاحد المكذب حسدا مع استيقان صدق الرسل " انتهى.
" مجموع الفتاوى " (12/335) .
ويقول أيضا: " مَن أنكر المعاد مع قوله بحدوث هذا العالم فقد كفَّرَه الله، فمن أنكره مع قوله بقدم العالم فهو أعظم كفرا عند الله تعالى " انتهى.
" مجموع الفتاوى " (17/291) .
بل قال رحمه الله في معرض إلزام منكري الصفات:
" وإما أن يلتزم التعطيل المحض فيقول: ما ثم وجود واجب؛ فإن قال بالأول وقال: لا أثبت واحدًا من النقيضين لا الوجود ولا العدم.
قيل: هب أنك تتكلم بذلك بلسانك، ولا تعتقد بقلبك واحدًا من الأمرين، بل تلتزم الإعراض عن معرفة الله وعبادته وذكره، فلا تذكره قط، ولا تعبده، ولا تدعوه، ولا ترجوه، ولا تخافه، فيكون جحدك له أعظم من جحد إبليس الذي اعترف به " انتهى.
" مجموع الفتاوى " (5/356) .
ويقول رحمه الله:
" المستكبر الذي لا يقر بالله في الظاهر كفرعون أعظم كفرا منهم – يعني مِن مشركي العرب - وإبليس الذي يأمر بهذا كله ويحبه ويستكبر عن عبادة ربه وطاعته أعظم كفرا من هؤلاء، وإن كان عالما بوجود الله وعظمته، كما أن فرعون كان أيضا عالما بوجود الله " انتهى.
" مجموع الفتاوى " (7/633) .
ويقول أيضا:
" قول الفلاسفة - القائلين بقدم العالم وأنه صادر عن موجب بالذات متولد عن العقول والنفوس الذين يعبدون الكواكب العلوية ويصنعون لها التماثيل السفلية -: كأرسطو وأتباعه - أعظم كفرا وضلالا من مشركي العرب الذين كانوا يقرون بأن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام بمشيئته وقدرته، ولكن خرقوا له بنين وبنات بغير علم وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانا، وكذلك المباحية الذين يسقطون الأمر والنهي مطلقا، ويتجون بالقضاء والقدر، أسوأ حالا من اليهود والنصارى ومشركي العرب؛ فإن هؤلاء مع كفرهم يقرون بنوع من الأمر والنهي والوعد والوعيد ولكن كان لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، بخلاف المباحية المسقطة للشرائع مطلقا، فإنما يرضون بما تهواه أنفسهم، ويغضبون لما تهواه أنفسهم، لا يرضون لله، ولا يغضبون لله، ولا يحبون لله، ولا يغضبون لله، ولا يأمرون بما أمر الله به، ولا ينهون عما نهى عنه؛ إلا إذا كان لهم في ذلك هوى فيفعلونه لأجل هواهم، لا عبادةً لمولاهم؛ ولهذا لا ينكرون ما وقع في الوجود من الكفر والفسوق والعصيان إلا إذا خالف أغراضهم فينكرونه إنكارا طبيعيا شيطانيا، لا إنكارا شرعيا رحمانيا؛ ولهذا تقترن بهم الشياطين إخوانهم فيمدونهم في الغي ثم لا يقصرون، وقد تتمثل لهم الشياطين وتخاطبهم وتعينهم على بعض أهوائهم كما كانت الشياطين تفعل بالمشركين عباد الأصنام " انتهى.
" مجموع الفتاوى " (8/457-458) .
ويقول الشيخ ابن باز رحمه الله: " ومن الشرك أن يعبد غير الله عبادة كاملة , فإنه يسمى شركا ويسمى كفرا , فمن أعرض عن الله بالكلية، وجعل عبادته لغير الله كالأشجار أو الأحجار أو الأصنام أو الجن أو بعض الأموات، من الذين يسمونهم بالأولياء، يعبدهم أو يصلي لهم أو يصوم لهم، وينسى الله بالكلية: فهذا أعظم كفرا وأشد شركا , نسأل الله العافية.
وهكذا من ينكر وجود الله , ويقول: ليس هناك إله والحياة مادة كالشيوعيين والملاحدة المنكرين لوجود الله هؤلاء أكفر الناس وأضلهم وأعظمهم شركا وضلالا نسأل الله العافية " انتهى.
" مجموع فتاوى ابن باز " (4/32-33) .
ويقول أيضا رحمه الله:
" والاشتراكيون ذبائحهم محرمة من جنس ذبح المجوس وعبدة الأوثان، بل ذبائحهم أشد حرمة، لكونهم أعظم كفرا بسبب إلحادهم وإنكارهم الباري عز وجل ورسوله، إلى غير ذلك من أنواع كفرهم " انتهى.
" مجموع فتاوى ابن باز " (23/30) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/16)
هل تراجع الشيخ محمد بن إبراهيم عن تكفيره مَنْ ألزم الناس بالتحاكم إلى القانون الوضعي؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ذكر الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في رسالته (تحكيم القوانين) أن الحالات التي يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله تعالى كفراً أكبر قوله: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه، ومشاقة الله ورسوله، مضاهاة بالمحاكم الشرعية إعداداً وإمداداً وإرصاداً وتأصيلاً، وتفريغاً وتشكيلاً، وتنويعاً وحكماً وإلزاماً، ومراجع ومستندات. فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستندات، مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع هي: القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك. فهذه المحاكم الآن، في كثير من أمصار الإسلام، مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس كلها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب، من أحكام ذلك القانون وتلزمهم بها، وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر؟ . وقال رحمه الله في جواب آخر: وأما الذي قيل فيه كفر دون كفر، إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاد أنه عاص وأن حكم الله هو الحق، فهذا الذي يصدر منه المرة ونحوها، أما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع فهو كفر، وإن قالوا أخطأنا وحكم الشرع أعدل. السؤال: أليس كلام الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم صحيحاً متسقاً ومنضبطاً مع قواعد أهل السنة؟ وهل للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى كلام آخر يخالف ما سبق إيراده؟ فقد ذكر أحد المؤلفين في كتابه (الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير) أن للشيخ محمد بن إبراهيم كلاماً آخر وقال ما نصه: وقد حدثني فضيلة الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن آل جبرين حفظه الله أن له – أي الشيخ محمد بن إبراهيم – كلاماً آخر ... إلخ ص 131.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أجاب على هذا السؤال فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن آل جبرين حفظه الله فقال:
"شيخنا ووالدنا سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ كان شديداً قوياً في إنكار المحدثات والبدع، وكلامه المذكور من أسهل ما كان يقول في القوانين الوضعية. وقد سمعناه في التقرير يشنع ويشدد على أهل البدع وما يتبعون فيه مِنْ مخالفةٍ للشرع، ومِنْ وضعهم أحكاماً وسنناً يضاهئون بها حكم الله تعالى، ويبرأ من أفعالهم ويحكم بردتهم وخروجهم من الإسلام؛ حيث طعنوا في الشرع، وعطلوا حدوده، واعتقدوها وحشية كالقصاص في القتلى، والقطع في السرقة، ورجم الزاني، وفي إباحتهم للزنى إذا كان برضا الطرفين ونحو ذلك، وكثيراً ما يتعرض لذلك في دروس الفقه والعقيدة والتوحيد.
ولا أذكر أنه تراجع عن ذلك، ولا أن له كلاماً يبرر فيه الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، أو يسهل فيه التحاكم إلى الطواغيت الذين يحكمون بغير ما أنزل الله. وقد عدهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من رؤوس الطواغيت، فمن نقل عني أنه رجع رحمه الله عن كلامه المذكور فقد أخطأ في النقل. والمرجع في مثل هذا إلى النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، وكلام أجلة العلماء عليها، كما في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) النساء/60، وشروحه لأئمة الدعوة رحمهم الله تعالى وغيره من المؤلفات الصريحة. والله أعلم.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى.
"فتاوى علماء البلد الحرام" (ص 49- 51) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/17)
تعظيم السلام أو عَلَم الدولة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم القيام عند عزف السلام الوطني، أو القيام عند تحية العلم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاًَ:
العزف على الآلات الموسيقية واستماع ذلك محرم، وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال رقم (5000) و (20406) ولا فرق في ذلك بين العزف في الأغاني أو السلام الوطني أو غير ذلك.
ثانياً:
القيام على سبيل الذل والتعظيم لا ينبغي إلا لله تعالى، قال الله تعالى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) البقرة/238.
وأخبر الله تعالى أنه من عظمته وجلاله: تقوم له أعظم المخلوقات يوم القيامة (الملائكة) ولا يتكلم أحد إلا بعد أن يأذن الله تعالى له، فقال عز وجل: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) النبأ/38.
فمن زعم أن هناك مخلوقاً ينبغي القيام له تعظيماً له، فقد أعطى ذلك المخلوق بعض حقوق الله تعالى.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ) رواه الترمذي (2755) وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"، لأن ذلك من الكبرياء المختص بالله تعالى.
انظر: "تفسير التحرير والتنوير" للطاهر بن عاشور (15/51) .
ودخل الخليفة المهدي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام له الناس جميعا إلا ابن أبي ذئب الإمام، فقيل له: قم، هذا أمير المؤمنين، فقال: إنما يقوم الناس لرب العالمين.
فقال المهدي: دعه، فلقد قامت كل شعرة في رأسي.
"سير أعلام النبلاء" (7/144) .
وقد سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء: هل يجوز الوقوف تعظيماً لأي سلام وطني أو علم وطني؟
فأجابوا:
"لا يجوز للمسلم القيام إعظاماً لأي علم وطني، أو سلام وطني، بل هو من البدع المنكرة التي لم تكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم، وهي منافية لكمال التوحيد الواجب، وإخلاص التعظيم لله وحده، وذريعة إلى الشرك، وفيها مشابهة للكفار، وتقليد لهم في عادتهم القبيحة، ومجاراة لهم في غلوهم في رؤسائهم ومراسيمهم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مشابهتهم أو التشبه بهم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى.
الشيخ عبد العزيز بن باز ... الشيخ عبد الرزاق عفيفي ... الشيخ عبد الله غديان.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (1/235) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/18)
حول كتاب "السر" و"قانون الجذب"
[السُّؤَالُ]
ـ[فقد سمعت عن كتاب واسع الانتشار يسمى (السر) the Secret، وقرأته فوجدته يدور حول مفهومٍ يسمى (قانون الجذب) والذي ينص على أن الشبيه يجذب إليه الشبيه، وأن ما يقع بالإنسان من خير وشر فهو نتاج أفكاره، فما رأيكم في كتاب السر، وما الموقف الشرعي الصحيح من قانون الجذب؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كتاب السر من تأليف منتجة الأفلام الأسترالية (روندا بايرن) ، والتي تنتمي لحركة الفكر الجديد، والتي يؤمن أصحابها بمجموعة من المبادئ (الميتافيزيقية) والمختصة بطرائق العلاج، وتطوير الذات، وتأثير الفكرة في الماديات، وكتاب (السر) يدور حول هذه المفاهيم، ويروج لها وفق منظومة هذه الحركة، والكتاب كما ذكرتَ كُتب له الانتشار الواسع على المستوى العالمي، وترجم مؤخراً إلى اللغة العربية، وبالنظر في الكتاب، وتأمل ما فيه تبين وجود جملة من الانحرافات العقدية والعلمية الخطيرة، أهمها:
1. دعوة الكتاب إلى ترك العمل، والإعراض عن تحصيل الأسباب لنيل المطلوب، والاتكال على الأماني والأحلام، وذلك وفق قانون -مزعوم- يسمونه (قانون الجذب) ، والذي ينص على (أن الشبيه يجذب إليه شبيهه) ، وأن (كلَّ شيءٍ يحدث في حياتك فأنت من قمت بجذبه إلى حياتك، وقد انجذب إليك عن طريق الصور التي احتفظت بها في عقلك، أي ما تفكر فيه، فأياً كان الشيءُ الذي يدور بعقلك فإنك تجذبه إليك) . وأصحاب هذا المبدأ يعتقدون أن الفكرة الواقعة في العقل تؤثر بذاتها في محيط الإنسان وما حوله، وأن الإنسان يستطيع بفكرته المجردة أن يجتذب إليه ما يريد من الخيرات من غير عمل، ويزعمون أن الفكرة لها تردد، وأنها تنطلق من عقل الإنسان على شكل موجة كهرومغناطيسية، وأنها تجتذب من خير الكون وشره مما هو على نفس الموجة، فإذا كنت تفكر تفكيراً إيجابياً فأنت تطلق موجة ذات تردد إيجابي تجذب إليك الإيجابيات، وإذا كنت تفكر بفكرة سلبية فأنت تطلق موجة سلبية تجذب إليك السلبيات. ولا شك أن هذا الكلام مصادم للعلوم التجريبية وبديهة العقل، وأن اعتقاده أو العمل بأفكاره مصادم للشرع.
أما مصادمته للشرع، فلأن الله تعالى أمر بالعمل والسعي في الأرض، ورتب الرزق على بذل الأسباب، وليس على الأماني والخيالات، قال تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) الملك/15
وأما مصادمته للعقل فلأن الاعتماد على الأماني والأحلام يعني خراب العالم، وتعطل مصالح أهله، وإهدار ما أنجزته البشرية خلال قرون من معارف وعلوم وحضارات، إذ مقتضى هذه النظرية، أن المريض لا يطلب الدواء ولا يحتاج إليه، والناس لا يحتاجون إلى مهندسين وبنائين وعمال، فما على المحتاج إلا أن يفكر تفكير إيجابياً فيما يريد، ثم يطلب من الكون - عياذا بالله - تحقيق مراده، دون عمل أو بذل.
وأصحاب هذه الدعوة يتناقضون حين يقولون للمريض المشرف على الموت لا تتوقف عن الدواء، وإلا فمقتضى فكرتهم ترك التداوي وإغلاق المستشفيات، وتحويل كليات الطب إلى مقاعد للتفكير والاسترخاء لطلب الأماني والأحلام أو ما يسمونه الأفكار الايجابية، وقس على هذا غيره من الأعمال؛ فظهر بهذا أنها دعوة مصادمة للعقل، مخالفة للحس، لا تستقيم عليها حياة الناس، وصدق القائل:
إذا تمنيتُ بتُّ الليل مغتبطاً ... إن المُنى رأس أموال المفاليسِ
2. غلو الكتاب في تعظيم ذات الإنسان، وإعطائه هالة من القداسة والعظمة، واعتقاد أنه ذو قدرات مطلقة، وطاقات هائلة، تبلغ به حد القدرة على الإيجاد والخلق، فكل ما يقع بالإنسان من خير وشر فهو من خلقِه وإيجاده، يقول الكتاب مثلاً: (أي شيءٍ نركز عليه فإننا نخلقه) [السر 141] ، ولا شك أن هذا انحراف كبير، وشرك بالله تعالى في ربوبيته، وصدق الله تعالى: (فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون)
3. الدعوة إلى عقيدة وحدة الوجود الباطلة بالقول أن الخالق والمخلوق شيء واحد، وأن الإنسان هو الله في جسد مادي، تعالى الله، وقد ترددت هذه الدعوى في أكثر من مكان، وبأساليب مختلفة.
4. إحياء جملة من العقائد الشرقية والفلسفات الوثنية، كديانات البوذيين والهنادكة وغيرهم، وقد رأينا احتفاء أصحاب هذه الملل والأديان بكتاب (السر) هذا لما قام به من نشر لمبادئ هذه الأديان وترويج لها.
5. الدعوة إلى التعلق بالكون رغبة وسؤالاً وطلباً، فإذا أردت شيئاً فما عليك إلا أن تتوجه بطلبك للكون، والكون سيلبي طلبك ولا بد، والإسلام إنما يدعو لتعليق القلب بالله جل وعلا فإليه الرغبة والتوجه، والسؤال والطلب، والتوجه إلى غيره فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه من الشرك، أعاذنا الله منه.
6. معارضة الكتاب لعقيدة القضاء والقدر، حيث ينكر الكتاب أن الله قد كتب مقادير الخلائق، وأنه سبحانه قد قدّر المقادير، فهو يرى كما يرى غلاة القدرية ممن ينكر القضاء والقدر أن ما يقع في الكون لم يدخل في علم الله من قبل، ولم يسبق به كتاب ولا شك أن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان لا يصح إيمان العبد إلا به.
7. دعوة الكتاب إلى الأنانية، والتمحور حول الذات، والانسلاخ من مختلف القيم الشرعية الضوابط الخلقية، واللهث خلف شهوات النفس وملذاتها، فمعيار الفعل أو الترك هو في مقدار ما يجلبه ذلك الشيء من البهجة واللذة، وبمقدار محبته، فما كان محبوباً فليفعل وما كان مبغوضاً فليجتنب، دون مراعاة للخلق والدين، ولا شك أن هذا معارض للقيم الشرعية والخلقية، فالمسلم مضبوط بإطار ديني وخلقي لا يصح له أن يخرج عنه ولا أن يتجاوزه، فما أمر الله به فهو الواجب، وما نهى عنه فهو المحرم، وما أباحه فهو المباح، والواجب الالتزام بأحكام الشريعة والدين.
هذا بعض ما اشتمل عليه الكتاب من انحرافات، وعليه فالواجب اطراحه، والإعراض عما فيه، ومن شاء أن يتعرف على حقيقة هذا الكتاب، ومدى ما فيه من انحرافٍ مفصلاً فبإمكانه الرجوع إلى بحث
خرافة السر: قراءة تحليلية لكتاب "السر" و"قانون الجذب" على الرابط التالي:
http://www.islamselect.com/secret
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/19)
مصير أصحاب الكبائر إذا ماتوا وهم مصرون عليها
[السُّؤَالُ]
ـ[قال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) ، وقال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) . فهؤلاء الذين يرتكبون مثل هذه الكبائر ولا يوجد من يطبق عليهم الأحكام وماتوا وهم غير تائبين، فما حكم الله فيهم يوم القيامة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"عقيدة أهل السنة والجماعة: أن من مات من المسلمين مصرا على كبيرة من كبائر الذنوب كالزنى والقذف والسرقة يكون تحت مشيئة الله سبحانه إن شاء الله غفر له، وإن شاء الله عذبه على الكبيرة التي مات مصرا عليها، ومآله إلى الجنة؛ لقوله سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) النساء/48، وللأحاديث الصحيحة المتواترة الدالة على إخراج عصاة الموحدين من النار، ولحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا.... فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب في ذلك شيئا فعوقب فهو كفارة له، ومن أصاب منها شيئا من ذلك فستره الله فهو إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) .
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم" انتهى.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (1/728) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/20)
قول الشيخ العثيمين في مسألة " العذر بالجهل "
[السُّؤَالُ]
ـ[ما قول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في " العذر بالجهل " في الشرك الأكبر؟ فقد سمعت وقرأت له قولين مختلفين، فقد ردَّ على سائل في " نور على الدرب " عندما سأله عن مسلمين يعبدون القبور قائلاً: هذا جهل من السائل تسميته لهم بمسلمين، وقولٌ آخر يقول فيه يبقى لهم حكم الإسلام لجهلهم، وعدم وجود من ينبههم. فهل للشيخ قولان أحدهما قديم والآخر جديد تبين له الحق فيه؟ وأي القولين هو الصحيح الذي تدعمه الأدلة الشرعية؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لم نستطع الوقوف على كلام الشيخ العثيمين رحمه الله الذي أشار السائل إلى وجوده في فتاوى " نور على الدرب "، ووقفنا على كلامه في أكثر كتبه المطبوعة، وفتاواه الصوتية، ولم نجد تعارضاً ولا تناقضاً في كلامه، وليس هناك تراجع عن شيء قاله.
ويمكننا تلخيص كلام الشيخ رحمه الله في مسألة العذر بالجهل في النقاط التالية:
1. الأصل عند الشيخ رحمه الله هو العذر بالجهل، بل يرى أنه لا يستطيع أحد أن يأتي بدليل على أن الجاهل ليس بمعذور، ويرى أنه " لولا العذر بالجهل: لم يكن للرسل فائدة، ولكان الناس يُلزمون بمقتضى الفطرة، ولا حاجة لإرسال الرسل! ".
2. لا فرق في العذر بالجهل بين مسائل الاعتقاد ومسائل العمل.
3. لا فرق في العذر بالجهل بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية؛ لأن الظهور والخفاء أمرٌ نسبي يختلف من بيئة لأخرى، ومن شخص لآخر.
4. الكفر المخرج من الملة قد يكون بالاعتقاد أو القول أو الفعل أو الترك، والشيخ لا يخالف في كون ذلك مخرجاً من الملة، ولكن الخلاف في تنزيل وصف الكفر على الشخص المعيَّن، فقد يكون معذوراً فلا يكون كافراً.
5. لا يكون الشخص الفاعل للكفر كافراً إذا كان جاهلاً، ولا يعلم حكم الشرع في فعله، أو سأل أحد العلماء فأفتاه بجواز فعله.
ويكون كافراً إذا أقيمت عليه الحجة، وأزيل عنه الوهم والإشكال.
6. ليس كل من يدَّعي الجهل يُقبل منه، فقد يكون عنده تفريط في التعلم، وتهاون في السؤال، وقد يكون فيه عناد لا يقبل الحق ولا يسعى لطلبه: فكل هؤلاء غير معذورين عند الشيخ رحمه الله، ويسستثنى من حال المقصِّرين: إذا كان لم يطرأ على باله أن هذا الفعل محرم، وليس عنده من ينبهه من العلماء، ففي هذه الحال يكون معذوراً.
7. الجاهل من الكفار الأصليين: تطبَّق عليه أحكام الكفر في الدنيا وأمره إلى الله في الآخرة، والصحيح أنه يُمتحن.
والجاهل من المنتسبين للإسلام ممن وقعوا في الكفر المخرج من الملة: تطبَّق عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، وأمرهم إلى الله في الآخرة.
8. ذكر الشيخ رحمه الله نصوصاً من القرآن والسنَّة وكلام أهل العلم على ما رجَّح في هذه المسألة، وبيَّن أن هذا هو مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، خلافاً لمن فهم عنه غير ذلك.
وإلى ذكر تفصيل ما لخصناه من كلام الشيخ رحمه الله، وقد نختصر فيما ننقله، ومن أراد الفائدة مكتملة فليرجع إلى ما نحيله عليه.
1. سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن العذر بالجهل فيما يتعلق بالعقيدة؟
فأجاب:
الاختلاف في مسألة العذر بالجهل كغيره من الاختلافات الفقهية الاجتهادية، وربما يكون اختلافاً لفظيّاً في بعض الأحيان من أجل تطبيق الحكم على الشخص المعين، أي: إن الجميع يتفقون على أن هذا القول كفر، أو هذا الفعل كفر، أو هذا الترك كفر، ولكن هل يصدق الحكم على هذا الشخص المعين لقيام المقتضي في حقه وانتفاء المانع أو لا ينطبق لفوات بعض المقتضيات، أو وجود بعض الموانع.
وذلك أن الجهل بالمكفر على نوعين:
الأول: أن يكون من شخص يدين بغير الإسلام، أو لا يدين بشيء، ولم يكن يخطر بباله أن ديناً يخالف ما هو عليه: فهذا تجري عليه أحكام الظاهر في الدنيا، وأما في الآخرة: فأمره إلى الله تعالى، والقول الراجح: أنه يمتحن في الآخرة بما يشاء الله عز وجل، والله أعلم بما كانوا عاملين، لكننا نعلم أنه لن يدخل النار إلا بذنب لقوله تعالى: (ولا يظلم ربك أحداً) .
وإنما قلنا: تُجرى عليه أحكام الظاهر في الدنيا - وهي أحكام الكفر -: لأنه لا يدين بالإسلام، فلا يمكن أن يُعطى حكمه، وإنما قلنا بأن الراجح أنه يمتحن في الآخرة: لأنه جاء في ذلك آثار كثيرة ذكرها ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه: " طريق الهجرتين " عند كلامه على المذهب الثامن في أطفال المشركين تحت الكلام على الطبقة الرابعة عشرة.
النوع الثاني: أن يكون من شخص يدين بالإسلام، ولكنه عاش على هذا المكفِّر، ولم يكن يخطر بباله أنه مخالف للإسلام، ولا نبَّهه أحدٌ على ذلك: فهذا تُجرى عليه أحكام الإسلام ظاهراً، أما في الآخرة: فأمره إلى الله عز وجل، وقد دلَّ على ذلك الكتاب، والسنَّة، وأقوال أهل العلم.
فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) وقوله: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) . وقوله: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وقوله: (وما أرسلنا رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) وقوله: (وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) وقوله: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون. أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين. أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة) .
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الحجة لا تقوم إلا بعد العلم والبيان.
وأما السنة: ففي صحيح مسلم1/134 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة - يعني: أمة الدعوة - يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) .
وأما كلام أهل العلم: فقال في " المغني " (8 / 131) : " فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الإسلام، والناشئ بغير دار الإسلام، أو بادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم: لم يحكم بكفره "، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " الفتاوى " (3 / 229) مجموع ابن قاسم: " إني دائماً - ومن جالسني يعلم ذلك مني - من أعظم الناس نهياً عن أن يُنسب معيَّن إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله تعالى قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر، ولا بفسق، ولا بمعصية "
إلى أن قال: " وكنت أبيِّن أن ما نُقل عن السلف والأئمَّة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا: فهو أيضاً حقٌّ، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين ".
إلى أن قال: " والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لكن الرجل قد يكون حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً ".
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (1 / 56) من " الدرر السنية ": " وأما التكفير: فأنا أكفِّر مَن عرف دين الرسول، ثم بعدما عرفه سبَّه، ونهى الناس عنه، وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفره ". وفي (ص 66) : " وأما الكذب والبهتان فقولهم: إنا نكفر بالعموم ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله، وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر، والصنم الذي على أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا ولم يكفر ويقاتل؟ ! ".
وإذا كان هذا مقتضى نصوص الكتاب، والسنة، وكلام أهل العلم فهو مقتضى حكمة الله تعالى، ولطفه، ورأفته، فلن يعذب أحداً حتى يعذر إليه، والعقول لا تستقل بمعرفة ما يجب لله تعالى من الحقوق، ولو كانت تستقل بذلك لم تتوقف الحجة على إرسال الرسل.
فالأصل فيمن ينتسب للإسلام: بقاء إسلامه حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي.... .
فالواجب قبل الحكم بالتكفير أن ينظر في أمرين:
الأمر الأول: دلالة الكتاب والسنة على أن هذا مكفر لئلا يفتري على الله الكذب.
الأمر الثاني: انطباق الحكم على الشخص المعين بحيث تتم شروط التكفير في حقه، وتنتفي الموانع.
ومن أهم الشروط أن يكون عالماً بمخالفته التي أوجبت كفره لقوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) ، فاشترط للعقوبة بالنار أن تكون المشاقة للرسول من بعد أن يتبين الهدى له، ولكن هل يشترط أن يكون عالماً بما يترتب على مخالفته من كفر أو غيره أو يكفي أن يكون عالماً بالمخالفة وإن كان جاهلاً بما يترتب عليها؟ .
الجواب: الظاهر الثاني؛ أي إن مجرد علمه بالمخالفة كاف في الحكم بما تقتضيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الكفارة على المجامع في نهار رمضان لعلمه بالمخالفة مع جهله بالكفارة؛ ولأن الزاني المحصن العالم بتحريم الزنى يرجم وإن كان جاهلاً بما يترتب على زناه، وربما لو كان عالماً ما زنى. .. .
والحاصل أن الجاهل معذور بما يقوله أو يفعله مما يكون كفراً، كما يكون معذوراً بما يقوله أو يفعله مما يكون فسقاً، وذلك بالأدلة من الكتاب والسنة، والاعتبار، وأقوال أهل العلم.
" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " (2 / جواب السؤال 224) .
2. وسئل الشيخ رحمه الله:
قرأنا لك جواباً عن " العذر بالجهل " فيما يكفر، ولكن نجد في كتاب " كشف الشبهات " للشيخ محمد بن عبد الوهاب عدم العذر بالجهل، وكذلك في كتاب " التوحيد " له، مع أنك ذكرت في جوابك أقوال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكذلك ابن تيمية في " الفتاوى "، وابن قدامة في " المغني "، نرجو التوضيح.
فأجاب:
شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قد ذكر في رسائله أنه لا يكفِّر أحداً مع الجهل، وإذا كان قد ذكر في " كشف الشبهات " أنه لا عذر بالجهل: فيحمَل على أن المراد بذلك الجهل الذي كان من صاحبه تفريط في عدم التعلم، مثل أن يعرف أن هناك شيئاً يخالِف ما هو عليه، ولكن يفرِّط، ويتهاون: فحينئذٍ لا يُعذر بالجهل.
" روس وفتاوى الحرم المكي " (عام 1411هـ، شريط 9، وجه أ) .
3. وسئل الشيخ رحمه الله هل يعذر الإنسان بالجهل فيما يتعلق بالتوحيد؟
فأجاب:
العذر بالجهل ثابت في كل ما يدين به العبد ربه؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) حتى قال عز وجل: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) ؛ ولقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) ؛ ولقوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) ؛ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار) ، والنصوص في هذا كثيرة، فمن كان جاهلاً: فإنه لا يؤاخذ بجهله في أي شيء كان من أمور الدين، ولكن يجب أن نعلم أن من الجهلة من يكون عنده نوع من العناد، أي: إنه يُذكر له الحق، ولكنه لا يبحث عنه، ولا يتبعه، بل يكون على ما كان عليه أشياخه، ومن يعظمهم، ويتبعهم، وهذا في الحقيقة ليس بمعذور؛ لأنه قد بلغه من الحجة ما أدنى أحواله أن يكون شبهة يحتاج أن يبحث ليتبين له الحق، وهذا الذي يعظم من يعظم من متبوعيه شأنه شأن من قال الله عنهم: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) ، وفي الآية الثانية: (وإنا على آثارهم مقتدون) ، فالمهم: أن الجهل الذي يُعذر به الإنسان بحيث لا يعلم عن الحق، ولا يذكر له: هو رافع للإثم، والحكم على صاحبه بما يقتضيه عمله، ثم إن كان ينتسب إلى المسلمين، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً رسول الله: فإنه يعتبر منهم، وإن كان لا ينتسب إلى المسلمين: فإن حكمه حكم أهل الدين الذي ينتسب إليه في الدنيا، وأما في الآخرة: فإن شأنه شأن أهل الفترة، يكون أمره إلى الله عز وجل يوم القيامة، وأصح الأقوال فيهم: أنهم يمتحنون بما شاء الله، فمن أطاع منهم دخل الجنة، ومن عصى منهم دخل النار، ولكن ليعلم أننا اليوم في عصر لا يكاد مكان في الأرض إلا وقد بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، بواسطة وسائل الإعلام المتنوعة، واختلاط الناس بعضهم ببعض، وغالباً ما يكون الكفر عن عناد.
" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " (2 / جواب السؤال رقم 222) .
4. وسئل الشيخ رحمه الله:
ما حكم من يصف الذين يعذرون بالجهل بأنهم دخلوا مع المرجئة في مذهبهم؟ .
فأجاب:
وأما العذر بالجهل: فهذا مقتضى عموم النصوص، ولا يستطيع أحد أن يأتي بدليل يدل على أن الإنسان لا يعذر بالجهل، قال الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) الإسراء/ 15، وقال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) النساء/ 165، ولولا العذر بالجهل: لم يكن للرسل فائدة، ولكان الناس يلزمون بمقتضى الفطرة ولا حاجة لإرسال الرسل، فالعذر بالجهل هو مقتضى أدلة الكتاب والسنة، وقد نص على ذلك أئمة أهل العلم: كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، لكن قد يكون الإنسان مفرطاً في طلب العلم فيأثم من هذه الناحية أي: أنه قد يتيسر له أن يتعلم؛ لكن لا يهتم، أو يقال له: هذا حرام؛ ولكن لا يهتم، فهنا يكون مقصراً من هذه الناحية، ويأثم بذلك، أما رجل عاش بين أناس يفعلون المعصية ولا يرون إلا أنها مباحة ثم نقول: هذا يأثم، وهو لم تبلغه الرسالة: هذا بعيد، ونحن في الحقيقة - يا إخواني- لسنا نحكم بمقتضى عواطفنا، إنما نحكم بما تقتضيه الشريعة، والرب عز وجل يقول: (إن رحمتي سبقت غضبي) فكيف نؤاخذ إنساناً بجهله وهو لم يطرأ على باله أن هذا حرام؟ بل إن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قال: " نحن لا نكفر الذين وضعوا صنماً على قبر عبد القادر الجيلاني وعلى قبر البدوي لجهلهم وعدم تنبيههم ".
" لقاءات الباب المفتوح " (33 / السؤال رقم 12) .
5. وقال الشيخ رحمه الله:
ولكن يبقى النظر إذا فرَّط الإنسان في طلب الحق، بأن كان متهاوناً، ورأى ما عليه الناس ففعله دون أن يبحث: فهذا قد يكون آثماً، بل هو آثم بالتقصير في طلب الحق، وقد يكون غير معذور في هذه الحال، وقد يكون معذوراً إذا كان لم يطرأ على باله أن هذا الفعل مخالفة، وليس عنده من ينبهه من العلماء، ففي هذه الحال يكون معذوراً، ولهذا كان القول الراجح: أنه لو عاش أحدٌ في البادية بعيداً عن المدن، وكان لا يصوم رمضان ظنّاً منه أنه ليس بواجب، أو كان يجامع زوجته في رمضان ظنّاً منه أن الجماع حلال: فإنه ليس عليه قضاء؛ لأنه جاهل، ومن شرط التكليف بالشريعة أن تبلغ المكلف فيعلمها.
فالخلاصة إذاً: أن الإنسان يعذر بالجهل، لكن لا يعذر في تقصيره في طلب الحق.
" لقاءات الباب المفتوح " (39 / السؤال رقم 3) .
6. وسئل الشيخ رحمه الله:
ما رأي فضيلتكم بمن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم يذبح لغير الله، فهل يكون مسلماً؟ مع العلم أنه نشأ في بلاد الإسلام؟ .
الشيخ:
الذي يتقرب إلى غير الله بالذبح له: مشرك شركاً أكبر، ولا ينفعه قول " لا إله إلا الله "، ولا صلاة، ولا غيرها، اللهم إلا إذا كان ناشئاً في بلاد بعيدة، لا يدرون عن هذا الحكم، فهذا معذور بالجهل، لكن يعلَّم، كمن يعيش في بلاد بعيدة يذبحون لغير الله، ويذبحون للقبور، ويذبحون للأولياء، وليس عندهم في هذا بأس، ولا علموا أن هذا شرك أو حرام: فهذا يُعذر بجهله، أما إنسان يقال له: هذا كفر، فيقول: لا، ولا أترك الذبح للولي: فهذا قامت عليه الحجة، فيكون كافراً.
السائل:
فإذا نُصح وقيل له: إن هذا شرك، فهل أُطلق عليه إنه " مشرك " و " كافر "؟ .
الشيخ:
نعم، مشرك، كافر، مرتد، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
السائل:
وهل هناك فرق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية؟ .
الشيخ:
الخفية تُبيَّن، مثل هذه المسألة، لو فرضنا أنه يقول: أنا أعيش في قوم يذبحون للأولياء، ولا أعلم أن هذا حرام: فهذه تكون خفية؛ لأن الخفاء والظهور أمر نسبي، قد يكون ظاهراً عندي ما هو خفيٌ عليك، وظاهرٌ عندك ما هو خفيٌّ عليَّ.
السائل:
وكيف أقيم الحجة عليه؟ وما هي الحجة التي أقيمها عليه؟ .
الشيخ:
الحجة عليه ما جاء في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) الأنعام/ 162، 163، وقال تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) الكوثر/ 1، 2، فهذا دليل على أن النحر للتقرب والتعظيم عبادة، ومن صرف عبادة لغير الله: فهو مشرك....
فإذا بلغت الحجة وقيل له: هذا الفعل الذي تفعله شرك، فَفَعَلَه: لم يُعذر.
السائل:
إذن يعرَّف؟ .
الشيخ:
نعم، لا بدَّ أن يُعرَّف.
السائل:
هناك شبهة وهي أنه يقال: إن فعله شرك وهو ليس بمشرك! فكيف نرد؟ .
الشيخ:
هذا صحيح، ليس بمشرك إذا لم تقم عليه الحجة، أليس الذي قال: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك) قال كفراً؟ ومع ذلك لم يكفر؛ لأنه أخطأ من شدة الفرح، وأليس المُكره يُكره على الكفر فيكفر ظاهراً لا في قلبه، وقلبه مطمئن بالإيمان؟ والعلماء الذين يقولون: " كلمة كفر دون صاحبها "، هذا إذا لم تقم عليه الحجة، ولم نعلم عن حاله، أما إذا علمنا عن حاله: فما الذي يبقى؟ نقول: لا يكفر؟ معناه: لا أحد يكون كافراً؟ أي: لا يبقى أحد يكفر، حتى المصلي الذي لا يصلي نقول: لا يكفر؟ حتى ابن تيمية يقول: إذا بلغته الحجة: قامت عليه الحجة ... ولا يكفي مجرد بلوغ الحجة حتى يفهمها؛ لأنه لو فرضنا أن إنساناً أعجميّاً وقرأنا عليه القرآن صباحا ومساء لكن لا يدري ما معناها: فهل قامت عليه الحجة؟ قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) إبراهيم/4.
" لقاءات الباب المفتوح " (48 / السؤال رقم 15) :
ونرجو أن يكون الأمر قد وضح، وأن تكون قد تبيَّنتَ حقيقة كلام الشيخ العثيمين رحمه الله، وأنه يرى أن الأصل هو العذر بالجهل، ويتأكد هذا في حال من يسلم حديثاً، أو من يعيش بعيداً عن أماكن العلم، أو من يعيش بين قوم لم يخطر ببالهم أنهم يخالفون الشرع، وهم في الواقع واقعون بأفعالهم في الشرك الأكبر.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/21)
قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله في الإيمان
[السُّؤَالُ]
ـ[أين الرواية الثانية عن أبي حنيفة في تعريف الإيمان؟ لأبي حنيفة روايتان في تعريف الإيمان الأولى أمكن إيجادها في كتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة التي تنص على (الإيمان هو الإقرار والتصديق) أما الرواية الثانية فهي تنص على أن الإيمان التصديق لكن أين سندها وأين توجد في أي كتاب؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله:
المشهور من تعريف الإيمان عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه الإقرار والتصديق. قال رحمه الله: " والإيمان هو التصديق والإقرار " الفقه الأكبر (85) ، وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (7/119، 330) ، اعتقاد الأئمة الأربعة، د. محمد بن عبد الرحمن الخميس (16) .
وأما الرواية الثانية المسؤول عنها، فهي رواية مشهورة ـ أيضا ـ وتناقلتها مصادر عديدة، ونسبها إليه كثير من أصحابه المتكلمين والفقهاء والأصوليين.
فمن كتب علم الكلام التي نسبت إليه ذلك:
الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي (ت: 878هـ) الحنفي. ذكر ذلك في حاشيته على المسامرة شرح المسايرة، عند قول المؤلف: " قول صاحب العمدة منهم: الإيمان هو التصديق؛ فمن صدق الرسول فيما جاء به، فهو مؤمن، فيما بينه وبين الله تعالى، والإقرار شرط إجراء الأحكام.. "، قال ابن قطلوبغا: " هذا القول مروي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى، نص عليه في كتاب العالم والمتعلم، وهو اختيار الشيخ أبي منصور [يعني: الماتريدي] ، والحسين بن الفضل البلخي، والمحققين من أصحابنا " انتهى. حاشية قاسم على المسامرة (178-179) .
ملا علي القاري الحنفي (ت: 1014هـ) انتصر لهذا القول في شرحه على الفقه الأكبر، ونسبه إلى جمهور المحققين. انظر ص (85-87) . وقد سبق أن حكى الخلاف ـ ص (12) ـ في الإقرار باللسان: " هل هو شطر للإيمان، إلا أنه يسقط في بعض الأحيان، أو شرط لإجراء أحكام الإيمان، كما هو مقرر عند الأعيان، وهو المروي عن الإمام، وإليه ذهب الماتريدي، وهو الأصح عند الأشعري..".
وممن نسبه إليه أيضا ابن أبي العز الحنفي، في شرحه على الطحاوية. قال ـ (332ـط المكتب الإسلامي) ـ:
" وذهب كثير من أصحابنا [يعني: الأحناف] إلى ما ذكره الطحاوي رحمه الله: أنه إقرار باللسان، وعمل بالأركان.
ومنهم من يقول: إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلي. وإلى هذا ذهب الشيخ أبو منصور الماتريدي رحمه الله، ويروى عن أبي حنيفة، رضي الله عنه. ".
ومن فقهاء الأحناف الذين نسبوا إليه هذه الرواية:
ابن الهمام، صاحب فتح القدير. قال:
" قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ حَيْثُ يَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا، لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ رَجَّحْنَا الْإِسْلَامَ فِي الْحَالَيْنِ لِأَنَّهُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَكَأَنَّ هَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ شَرْطُ إجْرَاءِ الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبَ أَهْلِ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْإِقْرَارَ رُكْنًا انْتَهَى ". فتح القدير (9/251) . وقد تعقب ابن الهمام النقل في التخريج، ولم يتعقبه في نسبة القول للإمام. ونجد نفس الكلام في " العناية شرح الهداية" (9/252) .
ومن الأصوليين الأحناف الذين نسبوا هذه الرواية إلى الإمام: ابن أمير الحاج في التقرير والتحبير (2/111) ، وابن أمير بادشاه، في تيسير التحرير (2/261) .
والحاصل: أن هذه الرواية مشهورة متداولة في كتب الأحناف، من متكلمين وفقهاء وأصوليين.
لكن وجود هذه الرواية في هذه المصادر وتداولها شيء، وثبوتها عن الإمام أبي حنيفة شيء آخر؛ فمثل ذلك يحتاج إلى الوقوف على إسنادها، والنظر فيه، أو النص على ثبوتها عن الإمام من أحد العلماء المطلعين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ مجموع الفتاوى (1/246) ـ: " والمنقول عن العلماء يحتاج إلى معرفة بثبوت لفظه، ومعرفة دلالته، كما يحتاج إلى ذلك المنقول عن الله ورسوله ".
وأيا ما كان من أمر ثبوت هذه الرواية عن الإمام، أو عدمه، فالروايتين عنه جميعا مخالفتان لما عليه أهل السنة والجماعة من أن الإيمان قول وعمل، وهذا مشهور عنه رحمه الله، والله يعفو عنا وعنه بمنه وكرمه.
قال ابن عبد البر رحمه الله: " أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل ولا عمل إلا بنية والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية والطاعات كلها عندهم إيمان إلا ما ذكر عن أبي حنيفة وأصحابه فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيمانا، قالوا إنما الإيمان التصديق والإقرار، ومنهم من زاد والمعرفة.. "
ثم قال ـ بعد كلام ـ: " وأما سائر الفقهاء، من أهل الرأي والآثار، بالحجاز والعراق والشام ومصر، منهم مالك بن أنس والليث بن سعد وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام وداود بن علي وأبو جعفر الطبري ومن سلك سبيلهم، فقالوا: الإيمان قول وعمل، قول باللسان وهو الإقرار اعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، مع الإخلاص بالنية الصادقة.
قالوا: وكل ما يطاع الله عز وجل به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان، والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم، وإنما صاروا ناقصي الإيمان بارتكابهم الكبائر.. " انتهى. التمهيد (9/238، 243) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/22)
جواب مجمل عن بعض المستهزئين بأحاديث البخاري
[السُّؤَالُ]
ـ[أعيش في إحدى الدول الغربية، حيث يوجد مجموعات من المسلمين لا بأس بها من مختلف التيارات والأجناس والألوان , ولكن بشكل عام يوجد جهل بالإسلام وأحكامه من مختلف الجوانب , وقد لفت انتباهي بعض الإخوة هنا - هدانا الله وإياهم - ممن يشككون في الأحاديث النبوية، وخاصةً التي وردت في صحيح البخاري، وفيها: (يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ فَيَبْقَى كُلُّ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا) ، وأحاديث تجلي الله لعباده يوم القيامة، ورؤيتهم له، وحديث ما جاء في النجوى: (.. يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ، وحديث نكاح المتعة، وحديث المرأة التي عرضت نفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أرجو منكم التكرم بإرسال الرد المناسب حتى يتسنى لنا الرد على هؤلاء الجهلة ممن يشككون، وربما يضلون البعض من المسلمين.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ليس بعد الكفر ذنب، والذي يبلغ به تفكيره أن يجعل مثل هذه الأحاديث الشريفة الصحيحة مثارا للتشكيك والاستهزاء فقد أضحك الناس على عقله، والملحد يستهزئ بكل شيء، بالله ورسوله وملائكته وكتبه واليوم الآخر، فليس من الصواب مناقشته في تفاصيل العقيدة، وهو لم يؤمن بعد بأصولها الكبيرة.
ولو رحنا نتتبع كل من يسخر من الآيات أو الأحاديث لضاق بنا وبكم العمر الطويل، ولما انتهينا من أصوات الحاقدين الناعقين بكل سوء وجهالة.
أما أولئك المنتسبون إلى الإسلام، الذين يتنكرون لتراث الأمة وتاريخها وثقافتها وقيمها، ويتسترون وراء ألقاب " العقلانية "، و " التنويرية " فوالله لا نراهم إلا منادين على أنفسهم بالجهل والعمى، ومسلمين عقولَهم التي يتفاخرون بها لبعض المستشرقين الحاقدين، فيكررون على ألسنتهم كل سوء وبذاءة فاهت بها ألسنتهم، وهم واقعون تحت تخدير وهم "العقلانية"، حتى أصبح كل جاهل يريد أن يروج لبضاعته ينتسب إلى هذا الاسم، وهو أبعد ما يكون عن العقل الصحيح.
وحاصل ما جاء في هذا السؤال من طعون تجتمع في مسائل ثلاثة:
الأولى: الطعن في الأحاديث الكثيرة التي جاءت بذكر تفاصيل ما يحصل للناس في المحشر، وعند الصراط، وفي عرصات – أي: ساحات - يوم القيامة.
ونحن نشير إلى الجواب المجمل أيضا عنها بالنقاط الآتية:
1- هذه الأحاديث كلها تتحدث عن عالم غيبي، لا ندرك كنهه ولا حقيقته إلا رموزا يسيرة بينتها لنا الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الصحيحة، ومن استهزأ بها فلم يبعد أن يستهزئ أيضا بما جاء في القرآن الكريم من ذكر تفاصيل يوم القيامة، كيف تُطوى السماوات، وتسير الجبال سيرا، وتكون كالعهن المنفوش، وبما جاء في القرآن الكريم من ذكر مجيئ الرب تعالى للحساب والفصل بين الناس، وسؤاله لهم عن كل صغير وكبير، إلى غير ذلك الكثير الكثير مما لو استهزأ بشيء منه لظهر كفره للقاصي والداني، وبان إلحاده، ولكان لنا وله شأن آخر في المناظرة والمناقشة.
أما أن يعمد إلى أحاديث صحيحة، رواها العشرات من الثقات والحفاظ، وتناقلها العلماء والأئمة بالإقرار، ثم يستهزئ بما جاء فيها، بدعوى أنه اكتشف بعقله الفذ!! نقدا لم يكتشفه أحد قبله، فهذا تدليس على الناس وأعظم تدليس، وإلا فليخبرنا عن الرب سبحانه وتعالى، كيف هو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وكيف هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، فإن أجاب بالتسليم لعجز العقل القاصر عن الخوض في الغيبيات، قلنا له: وليسلم عقلك القاصر عن التفاصيل التي جاءت في السنة النبوية الصحيحة عن أحوال الآخرة، وإلا كنت متناقضا.
2- ثم ما هو الشيء الذي يحيله العقل وتذكره هذه الأحاديث، فما الذي يمنع من رؤية المؤمنين لله سبحانه وتعالى، وما الذي يحيل أن يكشف لهم عن شيء من صفاته التي تليق بجلاله، كما أنه سبحانه بذاته وجلاله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وأين مثار السخرية في مرور الناس بالصراط، وتجاوزهم على قدر أعمالهم، أو في خروج العصاة من النار بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فليخبرنا من يدعي أن ذلك كله مستحيل ما وجه استحالة ذلك في منطق العقل السليم، وليبين لنا ذلك بحجته الباهرة!! وليس بالكلام البذيء ولا بالاستهزاء بعقول القراء الكرام.
الشبهة الثانية: الاستهزاء بأحاديث جواز نكاح المتعة في بداية الإسلام.
ونحن نحب أن نبين لهذا المستهزئ الجاهل أن نكاح المتعة في بداية الإسلام كان نكاحا قائما على شروط وأركان، ولم يكن عبثا ولا فسادا مستترا، فقد كان بموافقة الولي، وحضور الشهود، والإعلان، ووجود المهر، والرضا من كلا الطرفين، وتبنى عليه أحكام الزواج الحقيقي جميعها: من نسب، وميراث، ومحرمية، وطلاق، وعدة، ونحوها، تماما كأي نكاح شرعي يتم اليوم في عرف الناس وشرعهم.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله:
" من قال: المتعة أن يقول لها: أتزوجك يوماً - أو ما شابه ذلك - على أنه لا عدة عليك، ولا ميراث بيننا، ولا طلاق، ولا شاهد يشهد على ذلك؟! هذا هو الزنا بعينه، ولم يُبَح قط في الإسلام " انتهى.
"الجامع لأحكام القرآن" (5/87)
غير أن الفارق الوحيد بينهما هو التأقيت والتحديد الزمني، ليكون كل من الزوجين بعد هذه المدة بالخيار، إن أحبا أن ينفصلا أو يستمر زواجهما إلى ما شاء الله، وقد كان لجوازه في بداية الإسلام ظرف خاص، تعددت الروايات في شرحه وبيانه، وأقوى ما جاء فيه ما قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله: " فهذه أخبار يقوي بعضها ببعض، وحاصلها أن المتعة إنما رخص فيها بسبب العزبة في حال السفر " انتهى. "فتح الباري" (9/172)
وعلى كل حال فقد نسخ هذا النوع من النكاح، ومنعته الشريعة بعد تجاوز الظرف الخاص الذي جاز فيه، وصحت الكثير من الأحاديث في تحريمه، واتفق على المنع منه الأئمة الأربعة والعلماء جميعهم. بل في نفس الحديث الذي ذكره المعتر ض، نص الإمام البخاري في روايته (5119) على نسخ هذا النكاح:
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَا: كُنَّا فِي جَيْشٍ فَأَتَانَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا فَاسْتَمْتِعُوا) ...
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ [هو الإمام البخاري] : وَبَيَّنَهُ عَلِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ.
وانظر: فتح الباري، للحافظ ابن حجر، رحمه الله.
3- حديث المرأة التي عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها. ونحن نتساءل عن الضير في ذلك، هل من العيب أو الخزي أو من مثارات السخرية أن تسأل إحدى النساء الصالحات المؤمنات العفيفات النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، فتنال مرتبةً عظيمةً في الدين في صحبة سيد المرسلين، وتكون مع خير الخلق زوجةً في الدنيا والآخرة، هل تُلام المرأة إن أبدت رغبتها في الزواج الشرعي من خير الخلق وسيد الأولين والآخرين، أليس من حقها أن تبحث عما يسعد حالها ويرفع شأنها في الدنيا والآخرة، أين هو المحرم أو الممنوع الذي وقعت فيه تلك المرأة الصالحة، أم هو الطعن والاستهزاء لأجل التشويش والفتنة.
أما إيماننا بما في صحيحي البخاري ومسلم فليس من قبيل التقليد الأعمى، أو التسليم الاعتباطي، بل هو إيمان مبني على دراسات استقرائية محكمة لجميع رواة وأسانيد ومتون هذين الصحيحين، استغرقت آلاف الصفحات ومئات السنين وعشرات العلماء، منها القديم والمعاصر، كلها تثبت - بما لا يدع مجالا للشك – صحة الإجماع الواقع تلقي الكتابين بالقبول، وترجيحهما على ما سواهما، ومن أوائل هذه الدراسات مقدمة ابن حجر لكتابه فتح الباري، المسماة " هدي الساري "، فقد تكلم فيها بتطويل عن الأسس والأركان التي قام عليها صحيح البخاري، والتي اقتضت التسليم له بالصحة والثبوت.
هذا جواب مجمل مختصر، وأما الجواب المطول المفصل فيقتضي أن نعرف هوية المسيء بهذه الكلمات، كي يكون جوابنا مناسبا لحاله واعتقاده، وإن كنا لا ننصح إخواننا المسلمين بالاشتغال بالرد على هؤلاء المتنطعين من المتكلمين، حفظا لأوقاتهم وأعمارهم، ولكن إذا اقتضى الأمر ضرورة المناقشة والمجادلة، فبالدليل والبرهان، وليس بالتهويش والتهويل.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/23)
مختصر لمسائل العقيدة الصحيحة للمسلم وما يضادها من العقائد الباطلة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو المعتقد الحق؟ وأريد معرفة بعض المعتقدات الباطلة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
1. معلوم بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنَّة أن الأعمال والأقوال إنما تصح وتُقبل إذا صدرت عن عقيدة صحيحة، فإن كانت العقيدة غير صحيحة: بطل ما يتفرع عنها من أعمال وأقوال، كما قال تعالى: (وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) المائدة/ 5، وقال تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الزمر/ 65، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
2. وقد دل كتاب الله المبين وسنَّة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم على أن العقيدة الصحيحة تتلخص في: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، فهذه الأمور الستة هي أصول العقيدة الصحيحة التي نزل بها كتاب الله العزيز، وبعث الله بها رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم.
وأدلة هذه الأصول الستة في الكتاب والسنة كثيرة جدّاً، فمن ذلك قول الله سبحانه: (لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) البقرة/ 177، وقوله سبحانه: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ) الآية البقرة/ 285، وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً) النساء/ 136.
أما الأحاديث الصحيحة الدالة على هذه الأصول فكثيرة جدّاً، منها: الحديث الصحيح المشهور الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبريل عليه السلام سأل النبي صلى الله وعليه وسلم عن الإيمان، فقال له: الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. الحديث، وأخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة.
وهذه الأصول الستة يتفرع عنها جميع ما يجب على المسلم اعتقاده في حق الله سبحانه، وفي أمر المعاد، وغير ذلك من أمور الغيب.
3. الإيمان بالله سبحانه: ويشمل الإيمان بأنه الإله الحق المستحق للعبادة دون كل ما سواه لكونه خالق العباد، والمحسن إليهم، والقائم بأرزاقهم والعالم بسرِّهم وعلانيتهم، والقادر على إثابة مطيعهم، وعقاب عاصيهم، ولهذه العبادة خلق الله الثقلين وأمرهم.
وحقيقة هذه العبادة: هي إفراد الله سبحانه بجميع ما تعبّد العباد به، من دعاء، وخوف، ورجاء، وصلاة، وصوم، وذبح، ونذر، وغير ذلك من أنواع العبادة، على وجه الخضوع له، والرغبة، والرهبة، مع كمال الحب له سبحانه، والذل لعظمته.
ومن الإيمان بالله أيضاً: الإيمان بجميع ما أوجبه على عباده، وفرضه عليهم، من أركان الإسلام الخمسة الظاهرة وهي: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمَّداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً، وغير ذلك من الفرائض التي جاء بها الشرع المطهر.
وأهم هذه الأركان وأعظمها: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً رسول الله، فشهادة أن لا إله إلا الله تقتضي إخلاص العبادة لله وحده، ونفيها عما سواه، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها: لا معبود بحق إلا الله، فكل ما عبد من دون الله من بشر أو ملك أو جني أو غير ذلك: فكله معبود بالباطل، والمعبود بالحق هو الله وحده كما قال سبحانه: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) الحج/ 62.
ومن الإيمان بالله أيضاً: الإيمان بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا الواردة في كتابه العزيز، والثابتة عن رسوله الأمين، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، بل يجب أن تُمرَّ كما جاءت به، بلا كيف، مع الإيمان بما دلت عليه من المعاني العظيمة التي هي أوصاف الله عز وجل، يجب وصفه بها على الوجه اللائق به، من غير أن يشابه خلقه في شيء من صفاته، كما قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) الشورى/ 11.
4. الإيمان بالملائكة: ويتضمن الإيمان بهم إجمالاً، وتفصيلاً، فيؤمن المسلم بأن لله ملائكة خلقهم لطاعته، ووصفهم بأنهم عبَاد مُكرَمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) الأنبياء/ 28.
وهم أصناف كثيرة، منهم الموكلون بحمل العرش، ومنهم خزنة الجنَّة والنَّار، ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد.
ونؤمن على سبيل التفصيل بمن سمى الله ورسوله منهم: كجبريل، وميكائيل، ومالك خازن النار، وإسرافيل الموكل بالنفخ في الصور، وقد جاء ذكره في أحاديث صحيحة، وقد ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خُلقت الملائكة من نور، وخُلق الجان من مارج من نار، وخُلق آدم مما وصف لكم) أخرجه مسلم في صحيحه.
5. الإيمان بالكتب: يجب الإيمان إجمالاً بأن الله سبحانه قد أنزل كتباً على أنبيائه ورسله لبيان حقه والدعوة إليه، كما قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الآية الحديد/ 25.
ونؤمن على سبيل التفصيل بما سمى الله منها، كالتوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن.
والقرآن الكريم هو أفضلها، وخاتمها، وهو المهيمن عليها، والمصدق لها، وهو الذي يجب على جميع الأمة اتباعه، وتحكيمه، مع ما صحت به السنَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله سبحانه بعث رسوله محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى جميع الثقلين، وأنزل عليه هذا القرآن ليحكم به بينهم وجعله شفاءً لما في الصدور، وتبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة للمؤمنين، كما قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الأنعام/ 155.
6. الإيمان بالرسل: يجب الإيمان بالرسل إجمالاً، وتفصيلاً، فنؤمن أن الله سبحانه أَرسل إلى عباده رسلاً منهم مبشرين ومنذرين ودعاة إلى الحق، فمن أجابهم: فاز بالسعادة، ومن خالفهم باء بالخيبة والندامة، وخاتمهم وأفضلهم هو نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله سبحانه: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) النحل/ 36.
ومَن سمَّى الله منهم أو ثبت عن رسول الله تسميته آمنَّا به على سبيل التفصيل والتعيين، كنوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وغيرهم، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة، وأزكى التسليم.
7. الإيمان باليوم الآخر، وأما الإيمان باليوم الآخر فيدخل فيه الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم ما يكون بعد الموت، كفتنة القبر، وعذابه، ونعيمه، وما يكون يوم القيامة من الأهوال، والشدائد، والصراط، والميزان، والحساب، والجزاء، ونشر الصحف بين الناس، فآخذٌ كتابه بيمينه، وآخذٌ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، ويدخل في ذلك أيضاً: الإيمان بالحوض المورود لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالجنَّة والنَّار، ورؤية المؤمنين لربهم سبحانه، وتكليمه إياهم، وغير ذلك مما جاء في القرآن الكريم والسنَّة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب الإيمان بذلك كله، وتصديقه على الوجه الذي بيَّنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
8. الإيمان بالقدر، وأما الإيمان بالقدَر فيتضمن الإيمان بأمور أربعة: العلم، والكتابة، والخلق، والمشيئة، وينظر تفصيلها في أجوبة الأسئلة: (34732) و (49004) و (20806) .
9. ويدخل في الإيمان بالله: اعتقاد أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وأنه لا يجوز تكفير أحد من المسلمين بشيء من المعاصي التي دون الشرك والكفر، كالزنا، والسرقة، وأكل الربا، وشرب المسكرات، وعقوق الوالدين، وغير ذلك من الكبائر، ما لم يستحل ذلك؛ لقول الله: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) النساء/ 48، وما ثبت في الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يُخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.
10. ومن الإيمان بالله: الحب في الله، والبغض في الله، والموالاة في الله، والمعاداة في الله، فيحب المؤمنُ المؤمنينَ ويواليهم، ويبغض الكفار ويعاديهم.
وعلى رأس المؤمنين من هذه الأمة: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهل السنة والجماعة يحبونهم، ويوالونهم، ويعتقدون أنهم خير الناس بعد الأنبياء لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) متفق على صحته.
ويعتقدون أن أفضلهم: أبو بكر الصدِّيق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، رضي الله عنهم أجمعين، وبعدهم بقية العشرة المبشرين بالجنَّة، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويعتقدون أنهم في ذلك مجتهدون، من أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر، ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين به، ويتولونهم، ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويترضون عنهم جميعاً.
ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسبونهم، ويغلون في أهل البيت، ويرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله عز وجل إياها، كما يتبرؤون من طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل.
11. وجميع ما ذكرناه هو العقيدة الصحيحة التي بعث الله بها رسوله محمَّداً صلى الله عليه وسلم، وهي عقيدة الفرق الناجية، أهل السنة والجماعة، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله سبحانه) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، فقال الصحابة: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) ، وهي العقيدة التي يجب التمسك بها، والاستقامة عليها، والحذر مما خالفها.
12. وأما المنحرفون عن هذه العقيدة، والسائرون على ضدها فهم أصناف كثيرة؛ فمنهم عبَّاد الأصنام والأوثان والملائكة والأولياء والجن والأشجار والأحجار وغيرها، فهؤلاء لم يستجيبوا لدعوة الرسل، بل خالفوهم، وعاندوهم، كما فعلت قريش وأصناف العرب مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسألون معبوداتهم قضاء الحاجات، وشفاء المرضى، والنصر على الأعداء، ويذبحون لهم، وينذرون لهم، فلما أنكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وأمرهم بإخلاص العبادة لله وحده: استغربوا ذلك وأنكروه، وقالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) ص/ 5.
ثم تغيرت الأحوال، وغلب الجهل على أكثر الخلق حتى عاد الأكثرون إلى دين الجاهلية، بالغلو في الأنبياء، والأولياء، ودعائهم، والاستغاثة بهم، وغير ذلك من أنوع الشرك، ولم يعرفوا معنى لا إله إلا الله كما عرف معناها كفار العرب، ولم يزل هذا الشرك يتفشى في الناس إلى عصرنا هذا بسبب غلبة الجهل، وبُعد العهد بعصر النبوة.
13. ومن العقائد الكفرية المضادة للعقيدة الصحيحة، والمخالفة لما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام: ما يعتقده الملاحدة في هذا العصر من أتباع " ماركس "، و " لينين "، وغيرهما من دعاة الإلحاد والكفر، سواء سموا ذلك " اشتراكية "، أو " شيوعية "، أو " بعثية "، أو غير ذلك من الأسماء، فإن من أصول هؤلاء الملاحدة: أنه لا إله، والحياة مادة، ومن أصولهم: إنكار المعاد، وإنكار الجنَّة والنَّار، والكفر بالأديان كلها، ومن نظر في كتبهم ودرس ما هم عليه: علَم ذلك يقيناً، ولا ريب أن هذه العقيدة مضادة لجميع الأديان السماوية، ومفضية بأهلها إلى أسوأ العواقب في الدنيا والآخرة.
14. ومن العقائد المضادة للحق: ما يعتقده بعض الباطنية، وبعض المتصوفة من أن بعض من يسمونهم بالأولياء يشاركون الله في التدبير، ويتصرفون في شؤون العالم، ويسمونهم بالأقطاب، والأوتاد، والأغواث، وغير ذلك من الأسماء التي اخترعوها لآلهتهم، وهذا من أقبح الشرك في الربوبية، وهو شرٌّ من شرك جاهلية العرب؛ لأن كفار العرب لم يشركوا في الربوبية، وإنما أشركوا في العبادة، وكان شركهم في حال الرخاء، أما في حال الشدة: فيخلصون لله العبادة، كما قال سبحانه: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) العنكبوت/ 65، أما الربوبية: فكانوا معترفين بها لله وحده، كما قال سبحانه: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) الزخرف/ 87، وقال تعالى: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ) يونس/ 31، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
15. ومن العقائد المضادة للعقيدة الصحيحة في باب الأسماء والصفات: عقائد أهل البدع، من الجهمية، والمعتزلة، ومن سلك سبيلهم في نفي صفات الله عز وجل، وتعطيله سبحانه من صفات الكمال، ووصفه عز وجل بصفة المعدومات، والجمادات، والمستحيلات، تعالى الله عن قولهم علوّاً كبيراً.
ويدخل في ذلك: مَن نفى بعض الصفات وأثبت بعضها، كالأشاعرة، فإنه يلزمهم فيما أثبتوه من الصفات نظير ما فروا منه في الصفات التي نفوها وتأولوا أدلتها، فخالفوا بذلك الأدلة السمعية، والعقلية، وتناقضوا في ذلك تناقضاً بيِّناً.
باختصار من رسالة " العقيدة الصحيحة وما يضادها " للشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/24)
هل يمكن أن يتوحد المسلمون مع اختلاف ما بينهم في العقيدة والمنهج؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن أن يتوحد المسلمون مع اختلاف ما بينهم في العقيدة والمنهج؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
إن اختلاف الناس فيما بينهم في العقيدة والمنهج سنَّة كونية، وقد أخبر الله تعالى عن وقوعها في خلقه، وأخبر عن قدرته بتوحيدهم جميعاً على دين واحدٍ، لكنَّ الله تعالى له حكمة بالغة في عدم فعل ذلك؛ ليثيب الطائعين الموحدين، ويعاقب العاصين والمشركين، ولو جعل الله تعالى الناس أمة واحدة لم يظهر فضل التوحيد والموحدين، ولم يظهر قبح المعصية والعاصين، ولله تعالى أسماء وصفات اقتضت حكمته في الاختلاف أن تظهر في خلقه.
قال الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) هود /118، 119.
قال ابن جرير الطبري – رحمه الله -:
يقول تعالى ذِكره: ولو شاء ربك، يا محمد، لجعل الناس كلها جماعة واحدة، على ملة واحدة، ودين واحد.
" تفسير الطبري " (15 / 531) .
وقال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -:
يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كُلِّهم أمَّةً واحدة، من إيمان أو كفران، كما قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) يونس / 99، وقوله: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أي: ولا يزال الخُلْفُ بين الناس في أديانهم، واعتقادات مللهم، ونِحلهم، ومذاهبهم، وآرائهم.
" تفسير ابن كثير " (4 / 361) .
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله -:
يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء، ولكنه اقتضت حكمته أن لا يزالوا مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم، متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق فيما قاله، والضلال في قول غيره.
(إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به، والاتفاق عليه، فهؤلاء سبقت لهم سابقة السعادة، وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق الإلهي.
وأما من عداهم: فهم مخذولون، موكولون إلى أنفسهم.
وقوله: (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) أي: اقتضت حكمته أنه خلقهم، ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذين هدى الله، والفريق الذين حقت عليهم الضلالة، ليتبين للعباد عدلُه، وحكمتُه، وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء.
" تفسير السعدي " (ص 392) .
ثانياً:
وكيف سيتوحد المسلمون على شيء يجمعهم جميعاً غير التوحيد والعقيدة؟! إن الناظر في أحوال المسلمين يجدهم مدارس وجماعات وأحزابا وأفكارا شتى، رضي كل واحد لنفسه طريقاً في فهم نصوص الوحي، والعمل للإسلام، فحصل الاختلاف، والتفرق، والتشتت، ولو أنهم رضوا لأنفسهم منهجاً واحداً، واعتقاداً واحداً لاجتمعوا، وصاروا أمة واحدة، ولكنهم لم ينظر أكثرهم – وخاصة رؤوس الجماعات والأحزاب – للعقيدة الحقة أنها سبيل توحيد، بل رأوا أنهم تفرِّق المسلمين! كما زعم بعض أقطابهم، وهذه كلمة منكرة، ولا يمكن أن يكون توحيد للمسلمين وفيهم أمثال هذا القائل! .
جاء النبي صلى الله عليه وسلم على الناس وهم أحزاب وجماعات وأمم وأفكار وأديان مختلفة، وفيهم الأبيض والأسود، والرجل والمرأة، والعامي والمتعلم، والغني والفقير، والسادة والضعفاء، فلم يجمعهم على لغة، ولا على أرض، ولا على فكر بشر، بل جمعهم على شيء معصوم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، جمعهم على القرآن، والتوحيد، وهذا هو السبيل الوحيد لأن يجتمع الناس كلهم على اختلاف مشاربهم وأهوائهم ولغاتهم وأماكنهم، ولن يجدوا خيراً من هذا السبب في توحدهم، واجتماعهم وتآلفهم، وأما عندما يراد تجميع الناس وتوحيدهم على فكر بشر قابل للنقض والرد والتعديل والحذف: فهذا ما لا يمكن أن يكون سبيلاً لتوحد المسلمين، وعندما يراد تجميع الناس وتوحيدهم على قضية سياسية: فهذا لا يمكن أن يجتمع عليه الناس؛ لاختلاف أفهامهم وآرائهم فيها، كما لا يمكن لأرض أن تجمع المسلمين؛ لتعلق كل نفس بوطنها وأرضها، فلم يبق أمام المسلمين من سبيل لتوحدهم وتجمعهم إلا العقيدة الصحيحة، والتي منبعها نصوص الوحي المعصومة، ولن يَصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلَح به أولُّها.
ثالثاً:
بما أن أسباب تفرق المسلمين قائمة: فإن تفرقهم هو الثمرة، وهو النتيجة، وقد تنوع ذِكر الأسباب في كلام أهل العلم، وقد جمعها الإمام الشاطبي في ثلاثة أسباب: الجهل، والهوى، واتباع الآباء والأشياخ على عمى.
قال الشاطبي – رحمه الله -:
كل خلاف على الوصف المذكور وقع بعد ذلك: فله أسباب ثلاثة، قد تجتمع، وقد تفترق:
أحدها: أن يعتقد الإنسان في نفسه، أو يُعتقد فيه أنه من أهل العلم، والاجتهاد في الدين، ولم يبلغ تلك الدرجة، فيعمل على ذلك، ويعد رأيَه رأياً، وخلافَه خلافاً، ولكن تارة يكون ذلك في جزئيٍّ، وفرعٍ من الفروع، وتارة يكون في كلِّي وأصلٍ من أصول الدين، كان من الأصول الاعتقادية، أو من الأصول العملية، فتارة آخذاً ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها حتى يصير منها ما ظهر له بادىء رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا رسوخ في فهم مقاصدها، وهذا هو المبتدع، وعليه نبه الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبض الله العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يَبقَ عالمٌ اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) .
والثاني من أسباب الخلاف: اتباع الهوى، ولذلك سمِّي أهلُ البدع أهل الأهواء؛ لأنهم اتبعوا أهواءهم، فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها، والتعويل عليها حتى يصدروا عنها، بل قدموا أهوءاهم، واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظوراً فيها من وراء ذلك، وأكثر هؤلاء هم أهل التحسين والتقبيح، ومن مال إلى الفلاسفة، وغيرهم، ويدخل في غمارهم من كان منهم يخشى السلاطين لنيل ما عندهم، أو طلباً للرياسة، فلا بد أن يميل مع الناس بهواهم، ويتأول عليهم فيما أرادوا حسبما ذكره العلماء ونقله من مصاحبي السلاطين، فالأولون ردُّوا كثيراً من الأحاديث الصحيحة بعقولهم، وأساؤوا الظن بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحسَّنوا ظنَّهم بآرائهم الفاسدة، حتى ردوا كثيراً من أمور الآخرة وأحوالها، من الصراط، والميزان، وحشر الأجساد، والنعيم، والعذاب الجسمي، وأنكروا رؤية الباري، وأشباه ذلك، بل صيَّروا العقل شارعاً جاء الشرع أو لا، بل إن جاء فهو كاشف لمقتضى ما حكم به العقل إلى غير ذلك من الشناعات.
والثالث من أسباب الخلاف: التصميم على اتباع العوائد وإن فسدت، أو كانت مخالفة للحق،
وهو اتباع ما كان عليه الآباء، والأشياخ، وأشباه ذلك، وهو التقليد المذموم؛ فإن الله ذم ذلك في كتابه بقوله: (إنا وجدنا آباءنا على أمة) الآية، ثم قال: (قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون) ، وقوله: هل يسمعونكم إذ تدعون. أو ينفعونكم أو يضرون) فنبههم على وجه الدليل الواضح فاستمسكوا بمجرد تقليد الآباء، فقالوا: (بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) وهو مقتضى الحديث المتقدم أيضا في قوله: (اتخذ الناس رؤساء جهالاً) إلى آخره، فإنه يشير إلى الاستنان بالرجال كيف كان.
" الاعتصام " (1 / 421 – 423) باختصار.
وعليه: فإنه من المستحيل اتفاق المسلمين واجتماعهم على غير التوحيد والعقيدة، وفي الإسلام مظاهر اجتماع واتفاق لا توجد في غيره، كالقبلة الواحدة، والقرآن، ومناسك الحج، وغيرها، فنرجو أن يتوحد المسلمون ويجتمعوا على اعتقاد واحد، ومنهج واحد في فهم القرآن والسنَّة، وما يحصل من خلافٍ محتمل بعد هذا فإن أمره يسير.
سئل الشيخ صالح بن فوزان الفوزان – حفظه الله-
ما هي المسائل التي يجوز الاختلاف فيها؟ وتلك التي ينبغي التّوقُّفُ عن الخلاف فيها؟ وما واجب المسلمين تُجاه دينهم؟ .
فأجاب:
الاختلاف على قسمين:
القسم الأول: الاختلاف في مسائل العقيدة، وهذا لا يجوز؛ لأنّ الواجب على المسلمين اعتقاد ما دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة، وعدم التّدخُّل في ذلك بعقولهم واجتهاداتهم؛ لأنّ العقيدة توقيفيّة، ولا مجال للاجتهاد والاختلاف فيها.
القسم الثاني: اختلاف في المسائل الفقهيَّة المستنبطة من النُّصوص، وهذا لابدّ منه؛ لأنّ مدارك الناس تختلف، ولكن يجب الأخذ بما ترجّح بالدّليل من أقوالهم، وهذا هو سبيل الخروج من هذا الخلاف.
ويجب على المسلم أن يهتمَّ بأمور دينه، ويحافظ على أداء ما أوجب الله عليه، ويترك ما حرَّمَ الله عليه، وأن يتحلَّى بالأخلاق الفاضلة مع إخوانه، وأن يصدُقَ في معاملته، ويحفظ أمانته، ويكون قدوةً صالحةً لغيره.
ويجب أن يتربَّوا على التّمسّك بالدّين والأخلاق الفاضلة، وأن يبتعدوا عن الأخلاق الرّذيلة وقرناء السُّوء، وأن يهتمُّوا بما ينفعهم في دينهم ودُنياه، وأن يكونوا قوَّة للإسلام والمسلمين. " المنتقى من فتاوى الفوزان " (1 / 407، 408، السؤال رقم 241) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/25)
من هم الأولياء، وما هي درجاتهم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو مساعدتي في فهم ما يلي: 1) من هم الأولياء؟ 2) ما هي درجات الولاية؟ 3) هل يجوز تسمية الأولياء " أصحاب الله "؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
أولياء الله – بكل وضوح واختصار – هم أهل الإيمان والتقوى، الذين يراقبون الله تعالى في جميع شؤونهم، فيلتزمون أوامره، ويجتنبون نواهيه.
قال الله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يونس/62-64.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "تفسير القرآن العظيم" (4/278) :
" يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، كما فسرهم ربهم، فكل من كان تقيا كان لله وليا: أنه (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فيما يستقبلون من أهوال القيامة، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما وراءهم في الدنيا.
وقال عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وغير واحد من السلف: أولياء الله الذين إذا رُؤوا ذُكِر الله. وقد ورد هذا في حديث مرفوع.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء والشهداء. قيل: من هم يا رسول الله؟ لعلنا نحبهم. قال: هم قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب، وجوههم نور على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس. ثم قرأ: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) رواه أبو داود بإسناد جيد – وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (7/1369) - " انتهى باختصار وتصرف يسير.
ثانيا:
الولاية متفاوتة بحسب إيمان العبد وتقواه، فكل مؤمن له نصيب من ولاية الله ومحبته وقربه، ولكن هذا النصيب يتفاوت بحسب الأعمال الصالحة البدنية والقلبية التي يتقرب بها إلى الله، وعليه يمكن تقسيم درجات الولاية إلى ثلاث درجات:
1- درجة الظالم لنفسه: وهو المؤمن العاصي، فهذا له من الولاية بقدر إيمانه وأعماله الصالحة.
2- المقتصد: وهو المؤمن الذي يحافظ على أوامر الله، ويجتنب معاصيه، ولكنه لا يجتهد في أداء النوافل: وهذا أعلى درجة في الولاية من سابقه.
3- السابق بالخيرات: وهو الذي يأتي بالنوافل مع الفرائض، ويبلغ بالعبادات القلبية لله عز وجل مبالغ عالية، فهذا في درجات الولاية العالية.
ثم لا شك أن النبوة هي أعلى وأرقى درجات الولاية لله عز وجل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – كما في "مجموع الفتاوى" (10/6) –:
" الناس على ثلاث درجات: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات.
فالظالم لنفسه: العاصي بترك مأمور أو فعل محظور.
والمقتصد: المؤدي الواجبات والتارك المحرمات.
والسابق بالخيرات: المتقرب بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب، والتارك للمحرم والمكروه.
وإن كان كل من المقتصد والسابق قد يكون له ذنوب تمحى عنه: إما بتوبة - والله يحب التوابين ويحب المتطهرين - وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفرة، وإما بغير ذلك. وكل من الصنفين المقتصدين والسابقين من أولياء الله الذين ذكرهم في كتابه بقوله:
(ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين آمنوا وكانوا يتقون) ، فحد أولياء الله هم: المؤمنون المتقون.
ولكن ذلك ينقسم: إلى " عام ": وهم المقتصدون.
و" خاص " وهم السابقون، وإن كان السابقون هم أعلى درجات كالأنبياء والصديقين.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم القسمين في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يقول الله: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي؛ ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه) .
وأما الظالم لنفسه من أهل الإيمان: فمعه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه، كما معه من ضد ذلك بقدر فجوره، إذ الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب، والسيئات المقتضية للعقاب، حتى يمكن أن يثاب ويعاقب، وهذا قول جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الإسلام وأهل السنة والجماعة الذين يقولون: إنه لا يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان " انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين – كما في "فتاوى مهمة" (ص/83) -:
" من كان مؤمناً تقيّاً كان لله وليّاً، ومَن لم يكن كذلك فليس بولي لله، وإن كان معه بعض الإيمان والتقوى كان فيه شيءٌ من الولاية " انتهى.
ثالثا:
الولاية ليست حكرا على أحد، وليست علامة مميزة لطبقة معينة من الناس، ولا تنال بالوراث ولا بالأوسمة، بل هي رتبة ربانية تبدأ بالقلب محبة وتعظيما لله عز وجل، وتترجم إلى واقع عملي، فيكسب صاحبها حب الله تعالى وولايته.
رابعا:
الولاية لا تبيح لصاحبها فعل المحرمات ولا ترك الواجبات، بل إن فعل ذلك فهو دليل على نقص ولايته لله، وكذلك لا تبيح لأحد أن يتوجه إلى من يسمون بالأولياء ـ وقد لا يكونون يستحقون ذلك ـ فيرفعونهم إلى مقام النبوة فلا يردون لهم أمرا، ولا يناقشون لهم فكرا ولا رأيا، وهذا كله من الغلو الذي نهى الله تعالى عنه، ومن أعظم أسباب وقوع الشرك في الناس.
وقد يتعدى بعض الناس هذا الحد فيقع في الشرك الأكبر بسبب الفهم الخاطئ للولاية ومنزلة الأولياء فتراه يدعوهم من دون الله ويذبح لهم ويقدم لهم القرابين ويطوف حول أضرحتهم. خامساً:
أما إطلاق "أصحاب الله" على الأولياء، فلا نعلم ما يدل على صحة هذه التسمية.
وأفضل أولياء الله تعالى هم الرسل والأنبياء ثم أصحاب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ولا نعلم أنه ورد إطلاق اسم "أصحاب الله" على أحد منهم.
وإنما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم تسمية "أهل القرآن" بـ "أهل الله".
فقد روى الإمام أحمد (11870) وابن ماجة (215) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة.
(أهلين) جمع أهل.
(أهل القرآن) حفظته القارئون له العاملون بما فيه.
(أهل الله) أي: أولياؤه المختصون به اختصاص أهل الإنسان به.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/26)
هل كل كافر الآن حلال الدم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[كثيراً ما نقرأ من العلماء مثل ابن تيمية وابن القيم والشيخ محمد عبد الوهاب وغيرهم , أن من سب الله أو الرسول أو الساحر أو من استهزأ بالدين أنه كافر حلال الدم (هذا مثال) . السؤال: هل كل كافر الآن حلال الدم؟ لو نفرض أن الدعوة بلغته أو لم تبلغه حتى؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
قول العلماء: "من فعل كذا وكذا فهو كافر حلال الدم" مرادهم به المرتد الذي خرج عن الإسلام بارتكابه ناقضاً من نواقضه.
والردة تكون بالاعتقاد أو بالقول أو بالفعل أو بالترك.
قال ابن مفلح في تعريف المرتد: "هو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر، إما نطقاً أو اعتقاداً أو شكاً، وقد يحصل بالفعل" انتهى.
"المبدع" لابن مفلح (9/175) .
والدليل على أن ذلك هو حكم المرتد: قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) رواه البخاري (6922) .
قال ابن عبد البر عند ذكره لهذا الحديث: "وقال مالك رحمه الله: إنما عنى بهذا الحديث من خرج من الإسلام إلى الكفر، وأما من خرج من اليهودية أو النصرانية أو من كفر إلى كفر فلم يُعن بهذا الحديث. وعلى قول مالك هذا جماعة الفقهاء ... " انتهى.
"التمهيد" (5/311-312) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه البخاري (6878) ومسلم (1676) .
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: "وأما التارك لدينه المفارق للجماعة فالمراد به من ترك الإسلام وارتد عنه، وفارق جماعة المسلمين، كما جاء التصريح بذلك في حديث عثمان" انتهى.
"جامع العلوم والحكم" (1/318) .
ثم قال (1/327) : "وأما ترك الدين ومفارقة الجماعة فمعناه الارتداد عن دين الإسلام ولو أتى بالشهادتين، فلو سبَّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو مقر بالشهادتين أبيح دمه، لأنه قد ترك بذلك دينه" انتهى.
وعقوبة المرتد أشد من عقوبة الكافر الأصلي، ولهذا ... يمكن أن يُقَرَّ الكافر الأصلي على دينه ولا يقتل بشروط معروفة عند العلماء، أما المرتد فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة، منها: أن المرتد يقتل بكل حال، ولا يضرب عليه جزية، ولا تعقد له ذمة، بخلاف الكافر الأصلي.
ومنها: أن المرتد يقتل وإن كان عاجزا عن القتال، بخلاف الكافر الأصلي الذي ليس هو من أهل القتال، فإنه لا يقتل عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد.
ومنها: أن المرتد لا يرث ولا يناكح ولا تؤكل ذبيحته، بخلاف الكافر الأصلي ... إلى غير ذلك من الأحكام" انتهى.
"مجموع الفتاوى" (28/534) . وانظر: "الدرر السنية" (10/104) .
وانظر جواب السؤال رقم (14231) .
ثانياً:
أما سؤالك: (هل كل كافر الآن حلال الدم، سواء كانت الدعوة بلغته أم لا) ؟
فالجواب: لا، ليس كل كافر حلال الدم والمال، بل الكفار قسمان، القسم الأول: معصوم الدم والمال، يحرم الاعتداء عليه، وهم المعاهَدون، الذين بيننا وبينهم عهد على ترك القتال مدة معينة، كما عاهد النبي صلى الله عليه وسلم كفار مكة على ترك القتال عشر سنوات، في صلح الحديبية.
2- الذمي، وهو الكافر الذي يعيش في بلاد المسلمين، وقد عقد معه عقد الذمة.
3- المستأمِن، وهو الكافر الذي دخل بلاد المسلمين بأمان، كالتاجر الذي دخل من أجل تجارته أو لغير ذلك من الأسباب، وإعطاء التأشيرة للشخص لدخول البلد، يعتبر تأميناً له، وتعهداً بالدفاع عنه وعدم ظلمه.
القسم الثاني من الكفار: وهم الذين يحاربون المسلمين، فليس بيننا وبينهم عهد ولا ذمة ولا أمان، فهذا هو الذي يقال عنه: إنه مباح الدم والمال.
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) الأنعام/151: "وهذه الآية نهي عن قتل النفس المحرمة مؤمنة كانت أو معاهَدةً إلا بالحق الذي يوجب قتلها" انتهى.
"الجامع لأحكام القرآن" (7/134) . وانظر: "تفسير ابن كثير" (2/190) .
وقال الشيخ السعدي: "وهي النفس المسلمة من ذكر وأنثى، صغير وكبير، بَر وفاجر، والكافرة التي قد عصمت بالعهد والميثاق" انتهى.
"تيسير الكريم الرحمن" (ص257) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) رواه البخاري (3166) .
قال الحافظ ابن حجر: "والمراد به: من له عهد مع المسلمين، سواء كان بعقد جزية، أو هدنة من سلطان، أو أمان من مسلم" انتهى.
"فتح الباري" (12/259) .
ثالثاً:
الذي يقيم العقوبة الشرعية على المرتد أو المعاهد الذي نقض عهده إنما هو الحاكم أو نائبه، وليس ذلك لعامة الناس لما يفضي إليه ذلك من الفوضى وفتح باب الشرور والفتن.
قال ابن مفلح عن المرتد: "لا يقتله إلا الإمام أو نائبه حرا كان أو عبدا في قول عامة العلماء" انتهى.
"المبدع" لابن مفلح (9/175) . وانظر: "الدرر السنية" (10/394-395) .
وقال الشيخ ابن عثيمين في "الشرح الممتع" (14/455) : "ولا يحل لأحد قتله – يعني المرتد – مع أنه مباح الدم، لأن في قتله افتياتاً على ولي الأمر [يعني: تعديا على حقه] ، ولأن في قتله سبباً للفوضى بين الناس.... ولهذا لا يتولى قتله إلا الإمام أو نائبه" انتهى.
رابعاً:
هناك فرق بين التكفير على وجه الإطلاق والتكفير على وجه التعيين، فإن تكفير الشخص المعيَّن لابد فيه من وجود شروط وانتفاء موانع.
قال ابن تيمية رحمه الله: "فإن نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك لا يستلزم ثبوت موجَبها في حق المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع" انتهى.
"مجموع الفتاوى" (10/372) .
فيقال مثلاً: من قال كذا أو فعل كذا فهو كافر، لكن الشخص المعيَّن الذي يقول ذلك أو يفعله يجب التثبت في الحكم عليه بالكفر، فقد يكون جاهلاً أو متأولاً أو مكرهاً، مما يمنع الحكم عليه بالكفر، وإن كان قد قال أو فعل ما هو كفر.
وانظر جواب السؤال رقم (85102) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/27)
أشكل عليه كلام للشيخ محمد بن عبد الوهاب في أحد الصحابة
[السُّؤَالُ]
ـ[أشكل علي كلام منسوب إلى الإمام محمد بن عبد الوهاب عليه رحمة الله تعالى، وذلك أن واحدا مِن أهل البدع قال لي: إن الشيخ رحمه الله أتى بكلام مفهومه أنه يقول إن عمار بن ياسر كافر، لذا أريد منكم بارك الله فيكم أن تبينوا لي هذ الكلام، وإليكم الكلام المنسوب: قال محمد بن عبد الوهاب النجدي - في كتاب "مؤلفات محمد بن عبد الوهاب" في الجزء السادس/ 272-273 وهي الرسالة الثامنة والثلاثون التي توجد في "الدرر السنية" ج 8 ص 49 -51:: " واعلموا أن الأدلة على تكفير المسلم الصالح إذا أشرك بالله أو صار مع المشركين على الموحدين ولو لم يشرك أكثر من أن تحصر من كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم كلهم، وأنا أذكر لكم آية من كتاب أجمع أهل العلم على تفسيرها، وأنها في المسلمين، وأن مَن فعل ذلك فهو كافر في أي زمان كان، قال تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) إلى آخر الآية وفيها: (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة) فإذا كان العلماء ذكروا أنها نزلت في الصحابة لمّا فتنهم أهل مكة، وذكروا أن الصحابي إذا تكلم بكلام الشرك بلسانه مع بغضه لذلك وعداوة أهله لكن خوفا منهم أنه كافر بعد إيمانه، فكيف بالموحد في زماننا إذا تكلم في البصرة أو الإحساء أو مكة أو غير ذلك خوفا منهم لكن قبل الإكراه، وإذا كان هذا يكفر فكيف بمن صار معهم، وسكن معهم، وصار مِن جملتهم، فكيف مَن أعانهم على شركهم وزينه لهم، فكيف بمن أمر بقتل الموحدين وحثهم على لزوم دينهم، فأنتم وفقكم الله تأملوا هذه الآية، وتأملوا مَن نزلت فيه، وتأملوا إجماع العلماء على تفسيرها، وتأملوا ما جرى بيننا وبين أعداء الله نطلبهم دائما الرجوع إلى كتبهم التي بأيديهم في مسألة التكفير والقتال فلا يجيبوننا إلا بالشكوى عند الشيوخ وأمثالهم، والله أسأل أن يوفقكم لدينه ويرزقكم الثبات عليه ".]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يعتقد في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم المنزلة ورفيع القدر والشرف والمكانة، يلتزم في ذلك ما جاء في القرآن الكريم وفي السنة الصحيحة من الثناء عليهم وتعظيم قدرهم.
وكان يرفض طريقة الرافضة الطاعنين فيهم، وينص على عذر من أخطأ من الصحابة، وأن خطأه خطأ اجتهاد يؤجر عليه، ويرد على كل من اتهم صحابيا أو تكلم فيه بالذم والنقص.
يقول رحمه الله "مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب" (القسم الثالث/ مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم/ص 322) :
" وأجمع أهل السنة على السكوت عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، ولا يقال فيهم إلا الحسنى، فمن تكلم في معاوية أو غيره من الصحابة فقد خرج عن الإجماع "
قال أيضا "مؤلفات الشيخ" (رسالة في الرد على الرافضة/ ج12،ص14) :
" وقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وغير ذلك من الآيات والأحاديث الناصة على أفضلية الصحابة واستقامتهم على الدين؛ ومن اعتقد ما يخالف كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر. ما أشنع مذهب قوم يعتقدون ارتداد من اختاره الله لصحبة رسوله ونصرة دينه! " انتهى.
ثانيا:
النص المنقول عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يريد به التفريق بين:
الخوف المجرد - الذي لا يستند إلى سبب مباشر، فلا يعتبر هذا عذرا يرخص الوقوع في الكفر؛ لأن الباعث عليه هو الطمع في المال والجاه والعافية –
وبين التهديد الفعلي الحقيقي بالضرب والإيذاء والسجن والتعذيب، ولما كان الكفر أعظم المحرمات، لم يجز للمسلم الوقوع فيه إلا بسبب مباشر وتهديد حقيقي، أما الحرص على الدنيا والخوف من نقص شيء منها دون أن يسبق ذلك تهديد أو فعل حقيقي، فليس هذا بعذر يرخص الكفر بالله العظيم.
وقد ساق الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله للاستدلال على هذه المسألة قوله تعالى:
(مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) النحل/106
فالاستثناء في الآية هو للمكره، وليس للخائف المتوهم، أو الخائف الطامع، وسبب نزول الآية يوضح ذلك، فقد وقع على آل ياسر من العذاب الشيء العظيم، حتى قتلت سمية وياسر، وأوذي عمار بأشد أنواع الضرب والتعذيب، ثم رخص له النبي صلى الله عليه وسلم في التلفظ بالكفر، ولم يكن عمار متوهما ولا طامعا في الاحتفاظ بجاهه ومنصبه وماله، بل كان يرد عن نفسه أشد أنواع العذاب الذي تعرض له.
يوضح ذلك تكملة الآيات السابقة، فقد قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) النحل/107
فانظر كيف نفى الله العذر عن كل من أخلد إلى الدنيا، وآثر شهواتها، وركن إلى حظوظها.
ومثله قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) المائدة/51-52
ففي هذه الآية نفي العذر عن أولئك الذين يوالون الكفار على المسلمين، ويعتذرون بالخوف من الدوائر والمصائب ونكاية الكفار بهم إذا ظهروا عليهم.
لذلك يقول الشيخ رحمه الله – كما في "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، نواقض الإسلام، ص 387، والقسم الخامس، الشخصية، رقم 32، ص 212) والدرر السنية (2/362) :
" ولا فرق في جميع هذه النواقض – نواقض الإسلام العشرة - بين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره، وكلها من أعظم ما يكون خطرا، ومن أكثر ما يكون وقوعا، فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه "
ويقول في "كشف الشبهات":
" لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل ; فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلما. فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند، كفرعون وإبليس وأمثالهما.
وهذا يغلط فيه كثير من الناس، يقولون: هذا حق. ونحن نفهم هذا، ونشهد أنه الحق، ولكنا لا نقدر أن نفعله، ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، أو غير ذلك من الأعذار.
ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار، كما قال تعالى: (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً) وغير ذلك من الآيات،
وهذه المسألة مسألة كبيرة طويلة، تتبين لك إذا تأملتها في ألسنة الناس، ترى مَن يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دنيا أو جاه أو مداراة لأحد.
وترى من يعمل به ظاهرا لا باطنا، فإذا سألته عما يعتقد بقلبه فإذا هو لا يعرفه.
ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله:
أولاهما: قوله تعالى: (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)
فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع الرسول صلى الله عليه وسلم كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب، تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفا من نقص مال أو جاه أو مداراة لأحد أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها.
والآية الثانية: قوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ)
فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنا بالإيمان.
وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفا أو مداراة أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعله على وجه المزح، أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره.
فالآية تدل على هذا من جهتين:
الأولى: قوله: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ) فلم يستثن الله تعالى إلا المكره، ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل، وأما عقيدة القلب فلا يكره عليها أحد.
والثانية: قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ)
فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين " انتهى بتصرف يسير.
وانظر أيضا: الرسالة رقم/33 من رسائله الشخصية (ص/21-218) "مؤلفات الشيخ".
والذي يقرره الشيخ محمد بن عبد الوهاب هنا هو مما اتفق عليه أهل العلم، فلم يعد أحد من أهل العلم الخوف المتوهم النابع من طمع وحرص ورغبة في إيثار الدنيا رخصة في الوقوع بالكفر، بل إن الإمام أحمد نفى أن يكون التهديد المباشر رخصة حتى يقع المهدد به، كما أن الأحناف والمالكية نفوا أن يكون الضرب اليسير أو السجن اليسير عذرا في الوقوع في الكفر، على خلاف وتفصيل عند الفقهاء، يمكن مراجعته في "الموسوعة الفقهية" (6/105) .
ثالثا:
بعد ذلك يمكن أن نفهم النص المنقول في السؤال، في ضوء فهم أصل المسألة في موانع التكفير، فالشيخ رحمه الله يثبت أن عمار بن ياسر كان مكرها، وأنه معذور بسبب العذاب الحقيقي الذي وقع عليه، ولكنه ينكر أن يكون الخوف المجرد المتوهم عذرا كعذر عمار بن ياسر، وتأمل معي مرة أخرى النص تجده على هذا الفهم، وليس على الفهم السقيم الذي ذكره لك ذلك الرجل.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب – كما في "الدرر السنية" (10/9) -:
" قال تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ) سورة النحل/106 إلى آخر الآية وفيها: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ) سورة الأنفال آية/23
فإذا كان العلماء ذكروا أنها نزلت في الصحابة لمَّا فتنهم أهل مكة ; وذكروا: أن الصحابي إذا تكلم بكلام الشرك بلسانه، مع بغضه لذلك وعداوة أهله، لكن خوفا منهم، أنه كافر بعد إيمانه. – تأمل كيف ذكر قيد الخوف وليس الإكراه -
فكيف بالموحد في زماننا، إذا تكلم في البصرة أو الإحساء أو مكة أو غير ذلك خوفا منهم، لكن قبل الإراه! – وهذا واضح أن مراده التفريق بين الخوف والإكراه وليس تكفير عمار بن ياسر رضي الله عنه -
وإذا كان هذا يكفر فكيف بمن صار معهم وسكن معهم وصار من جملتهم؟!
فكيف بمن أعانهم على شركهم، وزينه لهم؟
فكيف بمن أمر بقتل الموحدين، وحثهم على لزوم دينهم؟ " انتهى.
بل إذا افترضنا جدلا أن تفريق الشيخ بين الإكراه الحقيقي، المعتبر في الشرع، وبين الخوف المتوهم، إذا افترضنا أنه لم يوافقه عليه غيره من أهل العلم، وأن الخوف المتوهم، هو مثل الإكراه، فإن الذي يعنينا هنا أن الشيخ رحمه الله يجعل عمار بن ياسر من أهل الإكراه الحقيقي، وهم أهل العذر الذي نزلت فيهم الآية؛ ولذلك يقول رحمه الله لمخالفه:
" وأنت - والعياذ بالله - تنْزل درجة درجة، أول مرة في الشك، وبلد الشرك وموالاتهم، والصلاة خلفهم، وبراءتك من المسلمين مداهنة لهم ... من غير إكراه، لكن خوفا ومداراة؛
وغاب عنك قوله تعالى، في عمار بن ياسر وأشباهه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} 2 إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} 3، فلم يستثن الله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، بشرط طمأنينة قلبه. والإكراه لا يكون على العقيدة، بل على القول والفعل.. " الرسائل الشخصية، رقم (33) ص (215) ، الدرر السنية (13/61) .
وهذا واضح جدا، ويكفينا هنا في تبرئة الشيخ رحمه الله من هذا الفهم السقيم لكلامه، لا سيما إذا ضممنا إليه ما سبق من موقفه العام من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/28)
الصلاة خلف من يكتب التمائم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تجوز الصلاة خلف إمام يكتب التمائم التي يعتقد بعض الناس أنها تنجي من السحر والعين؟ إذا كانت لا تجوز فما العمل؟ مع العلم أننا نسكن في قرية لا تحتوي إلا على مسجد واحد، الذي يؤمه هذا الإمام؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
لا يجوز تعليق التمائم ولو كانت من القرآن الكريم؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً فَلَا وَدَعَ اللَّهُ لَهُ) رواه أحمد (17440) وحسنه شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ) رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 6394
والتمائم إذا كانت من القرآن، فهي مما اختلف فيه العلماء، والراجح المنع؛ لعموم الأدلة، وسدا للذريعة، ولما في ذلك من الامتهان غالبا، إذا هذه التميمة ينام بها صاحبها، ويدخل بها الخلاء، ونحو ذلك.
جاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (1/212) : " اتفق العلماء على تحريم لبس التمائم إذا كانت من غير القرآن، واختلفوا إذا كانت من القرآن، فمنهم من أجاز لبسها ومنهم من منعها، والقول بالنهي أرجح لعموم الأحاديث ولسدِّ الذريعة " انتهى.
وينظر: سؤال رقم (10543) ورقم (20349) .
ثانيا:
إذا كانت التمائم التي يكتبها هذا الإمام مشتملة على أمور شركية، كسؤال غير الله تعالى من الجن أو الملائكة أو الصالحين، أو كان هذا الإمام ممن يمارس هذا النوع من الشرك، أو يدعي علم الغيب، فلا تجوز الصلاة خلفه، وأما إن خلت من الشرك، وكان هو من أهل التوحيد، فالصلاة خلفه صحيحة، ويجب نصحه بكل حال؛ لأن التمائم محرمة بجميع أنواعها كما سبق.
سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء عن الصلاة خلف من يكتب التمائم للناس فأجابت: " تجوز الصلاة خلف الذي يكتب التمائم من القرآن والأدعية المشروعة، ولا ينبغي له أن يكتبها لأنه لا يجوز تعليقها، وأما إذا كانت التمائم تشتمل على أمور شركية، فلا يصلى خلف الذي يكتبها، ويجب أن يبين له أن هذا شرك، والذي يجب عليه البيان هو الذي يعلمها " انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (3/65) .
وسئل الشيخ صالح الفوزان حفظه الله عن الصلاة خلف من يكتب التمائم، فأجاب: " وأما ما ذكرتم من كتابته التمائم فالتمائم فيها تفصيل: فإن كانت هذه التمائم فيها ألفاظ شركية ودعاء لغير الله عز وجل وأسماء مجهولة فهذه لا تجوز كتابتها ولا استعمالها بإجماع أهل العلم، لأنها شرك، وهذا لا يصلى خلفه، أما إذا كانت هذه التمائم مكتوبة من القرآن الكريم ومن الأدعية المباحة والأدعية الواردة، فهذه محل خلاف بين أهل العلم، منهم من أجازها ومنهم من منعها والمنع أحوط؛ لأنه في فتح الباب لكتابتها وتعليقها وسيلة إلى التمائم المحرمة، ولأنه في كتابة القرآن الكريم على صفة تمائم وحروز في ذلك تعريض لإهانته ودخول المواضع التي لا يجوز دخوله بها، لكن لا بأس بالصلاة خلف من يكتبها.
فالحاصل أن كتابة التمائم إن كانت بألفاظ شركية أو بأسماء مجهولة أو بدعاء لغير الله أو استنجاد بالشياطين والمخلوقين والجن، فهذه ألفاظ شركية وكاتبها والذي يستعملها ويعلم ما فيها يكون مشركًا، أما إذا كانت من القرآن الكريم فالأحوط تجنبها وتركها وعدم استعمالها " انتهى من "المنتقى من فتاوى الفوزان".
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله: " هل تجوز الصلاة خلف إمام مشعوذ ودجال، علما بأن منهم من يجيد قراءة القرآن؟ وجهونا جزاكم الله خيرا.
فأجاب: إذا كان الإمام مشعوذا يدعي علم الغيب أو يقوم بخرافات ومنكرات، فلا يجوز أن يتخذ إماما ولا يصلى خلفه؛ لأن من ادعى علم الغيب فهو كافر نسأل الله العافية , يقول جل وعلا: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) [النمل/65] وهكذا من يتعاطى السحر حكمه حكم الكفار لقول الله تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ) الآية من سورة البقرة/102. أما إذا كان عنده شيء من المعاصي وليس عنده شيء من أعمال الكفر كالسحر ودعوى علم الغيب ولكن عنده شيء من المعاصي فالصلاة خلفه صحيحة، والأفضل التماس غيره من أهل العدالة والاستقامة احتياطا للدين وخروجا من خلاف العلماء القائلين بعدم جواز الصلاة خلفه.
أما العصاة فلا ينبغي أن يتخذوا أئمة، لكن متى وُجدوا أئمة صحت الصلاة خلفهم لأنهم قد يبتلى بهم الناس وقد تدعو الحاجة للصلاة خلفهم. أما من يدعو غير الله أو يستنجد بالموتى ويستغيث بهم ويطلبهم المدد فهذا لا يصلى خلفه؛ لأنه يكون بهذا الأمر من جملة الكفار لأن هذا هو عمل المشركين الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وغيرها. ونسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين وأن يمنحهم الفقه في الدين وأن يولي عليهم خيارهم إنه سميع قريب " انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (9/278) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/29)
هل فتحت نافذة فوق قبر الرسول صلى الله عليه وسلم للاستسقاء؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد جوابا تفصيليا عن مدى صحة الحديث الذي يقول به الصوفيون، من حديث عائشة التي تخبر فيه بفتح نافذة في قبر الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل نزول المطر؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
الحديث المقصود يرويه أبو الجوزاء أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: (قُحِطَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَحْطاً شَدِيداً، فَشَكَوْا إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: انْظُرُوا قَبْرَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَاجْعَلُوا مِنْهُ كِوًى إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى لاَ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ سَقْفٌ. قَالَ: فَفَعَلُوا، فَمُطِرْنَا مَطَراً حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ وَسَمِنَتِ الإِبِلُ، حَتَّى تَفَتَّقَتْ مِنَ الشَّحْمِ، فَسُمِّىَ عَامَ الْفَتْقِ) .
(كوى) جمع "كوة" وهي الفتحة.
رواه الدارمي (1/56) رقم (92) تحت باب: ما أكرم الله تعالى نبيه بعد موته.
قال الدارمي: حدثنا أبو النعمان، ثنا سعيد بن زيد، ثنا عمرو بن مالك النكري حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال:. . . ثم ذكر الحديث.
وهذا الأثر ضعيف، لا يصح، وقد بَيَّن العلامة الألباني ضعفه، فقال في كتابه: "التوسل" (ص128) :
"وهذا سند ضعيف لا تقوم به حجة لأمور ثلاثة:
أولها: أن سعيد بن زيد وهو أخو حماد بن يزيد فيه ضعف. قال فيه الحافظ في "التقريب": صدوق له أوهام. وقال الذهبي في "الميزان": "قال يحيى بن سعيد: ضعيف. وقال السعدي: ليس بحجة، يضعفون حديثه. وقال النسائي وغيره: ليس بالقوي. وقال أحمد: ليس به بأس، كان يحيى بن سعيد لا يستمرئه".
وثانيها: أنه موقوف على عائشة وليس بمرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولو صح لم تكن فيه حجة، لأنه يحتمل أن يكون من قبيل الآراء الاجتهادية لبعض الصحابة مما يخطئون فيه ويصيبون، ولسنا ملزمين بالعمل بها.
وثالثها: أن أبا النعمان هذا هو محمد بن الفضل يعرف بعارم وهو وإن كان ثقة فقد اختلط في آخر عمره. وقد أورده الحافظ برهان الدين الحلبي في "الاغتباط بمن رمي بالاختلاط" تبعا لابن الصلاح حيث أورده في (المختلطين) من كتابه "المقدمة" وقال: "والحكم فيهم أنه يقبل حديث من أخذ عنهم قبل الاختلاط، ولا يقبل من أخذ عنهم بعد الاختلاط، أو أشكل أمره فلم يدر هل أخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده".
قلت (الألباني) : وهذا الأثر لا يُدرى هل سمعه الدارمي منه قبل الاختلاط أو بعده، فهو إذن غير مقبول، فلا يحتج به.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على البكري": "وما روي عن عائشة رضي الله عنها من فتح الكوة من قبره إلى السماء لينزل المطر فليس بصحيح، ولا يثبت إسناده، ومما يبين كذب هذا: أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة بل كان باقيا كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بعضه مسقوف، وبعضهم مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء. بعد ولم تزل الحجرة كذلك حتى زاد الوليد بن عبد الملك في المسجد في إمارته لما زاد الحجر في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم. . ومن حينئذ دخلت الحجرة النبوية في المسجد ثم إنه بنى حول حجرة عائشة التي فيها القبر جداراً عالياً وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف. وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذب بَيِّن" انتهى.
ثانيا:
ليس في هذا الحديث دليل لما يعتقده غلاة الصوفية من جواز الاستغاثة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فأنت لا تجد في الحديث شيئا يدل على ذلك من قريب أو من بعيد، وغاية ما فيه إثبات كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، كما وصفها الدارمي في "مسنده" في تبويب الحديث، وهي بركة جسده الطاهر، وقدره الشريف عند الله تعالى، ولا يعني ذلك جواز أن يذهب المسلمون إليه ليستغيثوا به وهو في قبره، والصحابة رضوان الله عليهم لم يفعلوا ذلك، إنما كشفوا كوة من سقف حجرته ليواجه السماء، ولم يطلب أحد منهم السقيا من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خاطبوه بحاجتهم إلى ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص/338) :
" قصد القبور للدعاء عندها، ورجاء الإجابة بالدعاء هناك رجاء أكثر من رجائها بالدعاء في غير ذلك الموطن: أمرٌ لم يشرعه الله ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة المسلمين، ولا ذكره أحد من العلماء والصالحين المتقدمين، بل أكثر ما ينقل من ذلك عن بعض المتأخرين بعد المائة الثانية.
وأصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجدبوا مرات، ودهمتهم نوائب غير ذلك، فهلا جاءوا فاستسقوا واستغاثوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟!
بل خرج عمر بالعباس فاستسقى به (أي بدعائه) ، ولم يستسق عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
بل قد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كشفت عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لينزل المطر، فإنه رحمة تنزل على قبره، ولم تستسق عنده، ولا استغاثت هناك" انتهى.
وبهذا يظهر أنه لا حجة في هذا الأثر للصوفية على جواز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم، أو التوسل بذاته أو جاهه إلى الله تعالى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/30)
الاستخفاف بالله سبحانه على جهة الهزل
[السُّؤَالُ]
ـ[ي بخصوص صديق لي كان يمزح بجهل، فأثناء ما كان يمزح مع صديق آخر استفزه الأخير، فالتقط الأول سماعة الهاتف وقال بكل جهل: "لابد أن أخبر الله". ثم استمر قائلا في الهاتف: "مرحبا الله" كأنه يتكلم إلى الله، وأنا أعلم أن هذا لا يجوز لكن هل هذا شرك؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
وبعد، فالإيمان بالله تعالى مبني على تعظيمه سبحانه وإجلاله والانقياد له، ولذا عاب الله الكافرين وأخبر أنهم إنما أشركوا به سبحانه غيره لما لم يقدروا الله حق قدره فقال:
(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) الزمر /67.
فالله جل شأنه هو العظيم الذي تكاد السماوات تتفطر من عظمته كما قال سبحانه:
(تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الشورى/5.
ومن تفكر في مخلوقات الله رأى طرفا من آثار عظمته سبحانه، يقول النبي صلى الله وسلم في وصف الكرسي والعرش: (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/223) .
ولا يجتمع في القلب الواحد تعظيم الله عز وجل مع الاستخفاف به ولذا كان الاستهزاء بالله تعالى أو بآياته ورسله كفر كيفما وقع جدا أو هزلا قال الله تعالى في سورة التوبة:
(يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) التوبة 64-66.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر وقد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله جادا أو هازلا فقد كفر"
الصارم المسلول (2/70)
وقال القاضي أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن عند هذه الآية: " لا يخلو أن يكون ما قالوه ـ أي المنافقين ـ من ذلك جدا أو هزلا، وهو ـ كيفما كان ـ كفر؛ فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة " اهـ.
وقال العلامة السعدي: " إن الاستهزاء بالله ورسوله كفر يخرج عن الدين لأن أصل الدين مبني على تعظيم الله وتعظيم دينه ورسله والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل ومناقض له أشد المناقضة ".
وما قاله هذا الرجل فيه استخفاف بالله سبحانه ـ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ـ، وتنزيل لله ـ جل شانه وعز سلطانه ـ منزلة البشر، في الخطاب والكلام، وهذا كفر لا يشك فيه من له أدنى معرفة بدين الله، ولا يقدم عليه إلا جاهل طافح الجهل، أو رجل لا يعرف قلبه لله وقارا!!
ثم زاد كفر الاستهزاء واللعب كفرا وضلالا، قول هذا البائس: (لا بد أن أخبر الله) ؛ فهل يحتاج الله تعالى إلى خبر الجاهل الظلوم؟!!
(إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) آل عمران/5.
فعلى هذا المسكين أن يجدد إيمانه، ويدخل في الإسلام من جديد، ويتوب إلى الله تعالى من هذا الكفر الصراح، وليستكثر ـ فيما بقي من عمره ـ من الصالحات والخيرات، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، لعل الله تعالى أن يتجاوز عنه، ويغفر له جهله وعدوانه.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/31)
حكم عرض شعار الصحة المشتمل على صليب
[السُّؤَالُ]
ـ[لدي صيدلية ببرمنجهام انجلترا (المملكة المتحدة) وعلامة شعار الخدمة الوطنية للعناية بالصحة ببلدنا هو صليب يشبه هذا الشكل + ورأيي الحالي هو أنه يحرم عرض هذا الشكل لأن هناك عددا كبيرا من الأحاديث تخبرنا بأن حبيبنا رسول الله سيشوه أى شيئ يشبه الصليب، ولذلك فأنا لا أقوم حاليا بعرض ذلك الشعار لكنى آمل أن تتمكنوا من تأكيد ما إذا كنت قد أصبت بعدم عرضى له أم أن الإسلام يجيز لى عرضه. وجزاكم الله خيرا وأحسن الجزاء]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا كان هذا الشعار يحتوي على شكل الصليب الذي يعظمه النصارى، ووضع في الشعار لأنه صليب، فلا يجوز تعليقه أو عرضه، وقد أصبت في عملك؛ لما روى البخاري (5952) عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إِلَّا نَقَضَهُ.
وروى أحمد (24567) عن أُمّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُذَيْنَةَ قَالَتْ: كُنَّا نَطُوفُ بِالْبَيْتِ مَعَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَرَأَتْ عَلَى امْرَأَةٍ بُرْدًا فِيهِ تَصْلِيبٌ، فَقَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: اطْرَحِيهِ اطْرَحِيهِ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى نَحْوَ هَذَا قَضَبَهُ.
وأما شكل الصليب: فمن أهل العلم من قيده بأن يكون الخط الطولي، أعلاه أقل من أسفله، ومنهم من لم يشترط ذلك.
ولهذا نقول: إذا كان على شكل الصليب المعظم هناك، فهو صليب.
كما يشترط أن يوضع لأنه صليب، بخلاف ما لو كان علامة للحساب مثلا.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " والصليب كل ما كان على شكل خطين متقاطعين هكذا عرفه صاحب المنجد ومعناه أن يكون على شكل خط مستقيم رأسه إلى فوق يعترضه خط رأسه إلى الجانب سواء كان هذا الخط المعترض في وسط الخط المستقيم أو فوق وسطه " انتهى من مجموع الفتاوى المجلد السادس، خطبة في تحقيق التوحيد.
وفي فتاوى اللجنة الدائمة (2/121) : " شكل الصليب المدعى، الذي هو اليوم شعار النصارى، هو وضع خط ونحوه على خط أطول منه قليلا، بحيث يقع الأعلى القصير على قرابة ثلث الأسفل الطويل من فوق على أن يشكل التقاطع زوايا قائمة.
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز ".
وفيها أيضا (6/182) : " ولا فرق بين ما إذا كان الخط العمودي في الصليب أطول من الأفقي وما إذا كان مثله، ولا بين ما إذا كان الجزء الأعلى من تقاطع الخطين أقصر أو مساو للأسفل منه.
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز" انتهى.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/32)
التبرك بماء قيل إنه فيه شعرة للنبي صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد حضرت محاضرة في الأردن وقد كان الموضوع عن المسجد الأقصى ونصرة الدين وقد كانت المحاضِرة قد أحضرت لنا ماء مغموس بشعرة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم , وهذه الشعرة موجودة في مسجد الجزار في عكا في فلسطين. وقد وضع الماء داخل قارورة ثم خلطوها بخزان الماء حتى يستفيد منه أكبر عدد من النسوة وقد أخذت الماء مثلهن..والسؤال هل يجوز التبرك بهذا الماء بهدف الشفاء وأخذ البركة أفتونا جزاك الله كل خير مع العلم أن الماء ما زال عندي ولم أستخدمه بعد.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اتفق العلماء على جواز التبرك بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم، من شعر وعرق وغيره؛ لقيام الأدلة على ذلك، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ لَمَّا رَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَمْرَةَ وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ فَقَالَ احْلِقْ فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ فَقَالَ اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ) رواه مسلم (1305) .
وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِطَعًا فَيَقِيلُ عِنْدَهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطَعِ، فَإِذَا نَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعَرِهِ فَجَمَعَتْهُ فِي قَارُورَةٍ ثُمَّ جَمَعَتْهُ فِي سُكٍّ. قَالَ [القائل هو ثمامة بن عبد الله بن أنس] : فَلَمَّا حَضَرَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَيَّ أَنْ يُجْعَلَ فِي حَنُوطِهِ مِنْ ذَلِكَ السُّكِّ قَالَ فَجُعِلَ فِي حَنُوطِهِ. رواه البخاري (6281)
والنطع: بساط من جلد.
والسُّك: نوع من الطيب يركب من المسك وغيره.
فهذا وغيره يدل على أن ذات الرسول صلى الله عليه وسلم وما انفصل عنها من شعر وعرق ونحوه قد جعل الله فيه من البركة ما يتبرك بها ويرجى بسببها الفائدة في الدنيا والآخرة، والواهب لهذا الخير هو الله تبارك وتعالى.
لكن الزعم الآن بأن هذا من شعر النبي صلى الله عليه وسلم أو آثاره، زعم لا يسنده دليل. وعامة ما يقال في هذا الباب هو نوع من الدجل والخرافة، كقولهم: إن هذه شعرة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنها إذا وضعت تحت الشمس لم يكن لها ظل!! ومثل هذا الكلام لا ينبغي أن يلتفت إليه.
قال الشيخ الألباني رحمه الله: " ونحن نعلم أن آثاره صلى الله عليه وسلم من ثياب أو شعر أو فضلات، قد فقدت، وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين " التوسل ص 147
وعليه فلا يجوز التبرك بالماء المسئول عنه، حتى يعلم جزما أن ما وضع فيه هو من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل لإثبات ذلك. وينبغي الحذر من أهل الدجل والخرافة، ومروجي البدع، كما ينبغي تلقي العلم والدعوة على يد المعروفين بالسنة الذابين عنها والناشرين لها، وليتأمل العاقل كيف يتحول الحديث عن نصرة الدين إلى تعليق الناس بالأمور غير الثابتة! وكان الأجدى بالمحاضِرة أن تدعو الناس إلى تعلم السنة والتمسك بها؛ لأن ذلك من أسباب النصر.
رزقنا الله وإياكم حسن الاتباع.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/33)
حكم دراسة علم النفس والقانون
[السُّؤَالُ]
ـ[أدرس حاليا علم النفس والقانون، وأفكر في أن أحصل على شهادتي العلمية في مجال علم النفس. فهل تجوز دراسة علم النفس والقانون والحصول على شهادة علمية فيهما، وفى حال جواز ذلك أرجو أن تمدوني بدليل وأن تقرنوه بإجابتكم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله:
هذان العلمان (علم النفس والقانون) تدرس فيهما المسائل على خلاف الشريعة الإسلامية؛ وهذا أمر مفهوم ومنطقي باعتبار أن القانون عند غير المسلمين يقابل الشريعة الإسلامية، وأن علم النفس عندهم يقابل الأخلاق والزهد والرقاق والتزكية والسلوك والتربية، وبما أن القوم لا يدينون بدين الإسلام، أيا كانت ملتهم مذهبهم؛ فمنطقي ـ كذلك ـ أن يصدروا في قانونهم وأخلاقهم عن غير شرع الله تعالى الذي ارتضاه لعباده، وإنما يصدرون في ذلك عن تجاربهم أو عقولهم أو أذواقهم أو أعرافهم؛ أو غير ذلك مما يجعلونه لهم، ونظاما يتبعونه.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن دراسة هذين العلمين وأشباههما - كالفلسفة والاقتصاد غير الإسلامي – لا تجوز للمسلم على سبيل الإفادة ـ المطلقة ـ منها واعتقاد ما فيها من ضلال والعمل به، واتخاذه دينا وشرعا متبعا؛ فإن الخير كل الخير في اتباع ما جاء به النبي من الهدى والنور، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (النساء:174) ، وقال تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) (المائدة: من الآية15) ، وقال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (يونس:108) .
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن النظر في كتب أهل الكتاب وغيرهم، وغضب صلى الله عليه وسلم عندما رأى في يد عمر رضي الله عنه كتابا من كتب اليهود كما جاء في مسند أحمد (14623) (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ فَقَالَ أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي) [حسنه الألباني في الإرواء: 6/34] .
ويتأكد النهي عن تعلم ودراسة هذه العلوم إذا كان المسلم غير مؤهل لمعرفة ما فيها من شر، والتمييز بينه وبين ما فيها من خير؛ فإنه لابد إذا كان حاله كذلك أن يصيبه شيء من شرها؛ كما هو مشاهد من كثير ممن درس هذه العلوم من المسلمين في القرنين الماضيين، ممن سموا برواد التنوير في العالم العربي، ففتنوا وكانوا طليعة لتنحية الشريعة عن الحكم في بلاد المسلمين، وأحلوا مكانها القانون الروماني والفرنسي، وحاولوا وجدوا في صبغ المجتمعات الإسلامية بالصبغة الغربية في جميع مجالات الحياة، ووسموا القابضين على دينهم من المسلمين بالرجعية والتخلف والجمود والأصولية والظلامية، وأمثال هذه الألفاظ النابتة في البيئة الأوروبية.
أما إذا كان المسلم من الكفاية العقدية والعقلية؛ بحيث لا يُخاف على مثله من الشبه والزيغ الموجود في هذه العلوم؛ فيجوز له دراستها، بل قد يجب على أفراد بأعيانهم متابعةُ الجديد عند غير المسلمين من نظريات وأفكار وفلسفات، للرد عليها وتبيين ما فيها من زيغ إذا تسربت إلى بلاد المسلمين، مستترة في أزياء الأدب والفن والثقافة ومناهج التعليم والاقتصاد والاجتماع ونظم الحكم والإدارة.
ويتأكد الأمر إذا كان بتكليف من ولي الأمر المسلم الناصح لأمته، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بتعلم لغة اليهود.
وقد بوب بذلك البخاري رحمه الله في صحيحه - (6/2631) فقال: بَاب تَرْجَمَةِ الْحُكَّامِ وَهَلْ يَجُوزُ تَرْجُمَانٌ وَاحِدٌ وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتُبَهُ وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ. (رواه الترمذي وصححه برقم 2639) ، وصححه الألباني: المشكاة (4659) .
وقد ورد إلى اللجنة الدائمة للإفتاء سؤال في هذا المعنى فأجابت بالآتي:
" لا يجوز تعلم القوانين الوضعية لتطبيقها، ما دامت مخالفة لشرع الله، وتجوز دراستها وتعلمها لبيان ما فيها من دخل وانحراف عن الحق، ولبيان ما في الإسلام من العدل والاستقامة، والصلاح، وما فيه من غنى وكفاية لمصالح العباد. ولا يجوز لمسلم أن يدرس الفلسفة والقوانين الوضعية ونحوهما، إذا كان لا يقوى على تمييز حقها من باطلها خشية الفتنة والانحراف عن الصراط المستقيم، ويجوز لمن يهضمها ويقوى على فهمها بعد دراسة الكتاب والسنة؛ ليميز خبيثها من طيبها، وليحق الحق ويبطل الباطل، ما لم يشغله ذلك عما هو أوجب منه شرعا، وبهذا يُعلم أنه لا يجوز تعميم تعليم ذلك في دور العلم ومعاهده، بل يكون لمن تأهل له من الخواص؛ ليقوموا بواجبهم الإسلامي من نصرة الحق ودحض الباطل.
فتاوى اللجنة الدائمة (14 / 232- 233) .
فالنصيحة للأخ الكريم أن ينظر في حاله: هل تتوفر فيه الشروط المشار إليها؛ من العلم بالعقيدة الصحيحة والثبات عليها والتمتع بالعقل الراجح المميز بين الحق والباطل، والقدرة على دحض الشبه والزيغ بالأدلة الصحيحة والنصح للإسلام، فإن آنس من نفسه ذلك فليقدم على دراسة هذين العلمين، بعد استخارة الله تعالى، وإلا فالأولى في حقه ترك هذه الدراسة إلى شيء من العلوم المادية البحتة.
وليعلم أن من ترك شيئا لله أبدله الله خيرا منه.
نسأل الله لك التوفيق والهداية لما ينفعك في دينك ودنياك.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/34)
أركان الإسلام
[السُّؤَالُ]
ـ[نرجو أن تشرح لنا أركان الإسلام؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الإسلام يقوم على خمس أركان بينها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله , وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة , وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان) متفق عليه أخرجه البخاري برقم 8.
والإسلام عقيدة وشريعة بيّن الله ورسوله فيه الحلال والحرام والأخلاق والآداب والعبادات والمعاملات والحقوق والواجبات ومشاهد القيامة، فلما أكمل الله هذا الدين على يد رسوله ارتضاه ليكون منهج حياة للبشرية كلها إلى أن تقوم الساعة: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) المائدة/3.
وهذه أركان الإسلام وقواعده التي يقوم عليها
(الركن الأول الشهادتان) :
أن يعتقد الإنسان أن الله وحده هو الرب المالك المتصرف الخالق الرزاق، ويثبت له جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى التي أثبتها لنفسه، أو أثبتها له رسوله ويعتقد أن الله وحده هو المستحق للعبادة دون سواه كما قال سبحانه: (بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم، ذلكم الله ربكم لا إله إلا الله هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل) الأنعام/101-102.
كما يعتقد الإنسان أن الله أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن وأمره بإبلاغ هذا الدين إلى الناس كافة ويعتقد أن محبة الله ورسوله وطاعتهما واجبة على كل أحد ولا تتحقق محبة الله إلا بمتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) آل عمران /31.
(الركن الثاني الصلاة) :
أن يعتقد الإنسان أن الله أوجب على كل مسلم بالغ عاقل خمس صلوات في اليوم والليلة يؤديها على طهارة فيقف بين يدي ربه كل يوم طاهراً خاشعاً متذللاً يشكر الله على نعمه ويسأله من فضله ويستغفره من ذنوبه ويسأله الجنة ويستعيذ به من النار
والصلوات المفروضة في اليوم والليلة خمس صلوات هي الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء وهناك صلوات مسنونة كقيام الليل، وصلاة التراويح. وركعتي الضحى وغيرها من السنن.
والصلاة فرضاً كانت أو نفلاً تمثل صدق التوجه إلى الله وحده في جميع الأمور وقد أمر الله المؤمنين كافة بالمحافظة عليها جماعة بقوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) البقرة/238
والصلوات الخمس واجبة على كل مسلم ومسلمة في اليوم والليلة: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً) النساء/ 103.
ولاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة فمن تركها عامداً فقد كفر كما قال سبحانه: (منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين) الروم /31.
والإسلام يقوم على التعاون والأخوة والمحبة وقد شرع الله الاجتماع لهذه الصلوات وغيرها لتتحقق هذه الفضائل قال عليه الصلاة والسلام: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) . رواه مسلم برقم 650.
والصلاة عون للعبد على الشدائد والكربات قال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) البقرة/45.
والصلوات الخمس تمحو الخطايا كما قال عليه الصلاة والسلام: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا لا يبقى من درنه شيء. قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا) رواه مسلم برقم 677.
والصلاة في المسجد سبب لدخول الجنة قال عليه الصلاة والسلام من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح) . رواه مسلم برقم 669.
والصلاة تجمع بين العبد وخالقه وكانت قرة عين الرسول صلى الله عليه وسلم فكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة يناجي ربه ويدعوه ويستغفره، ويسأله من فضله.
والصلاة بخشوع وتذلل. تقرب المسلم من ربه وتنهى عن الفحشاء والمنكر كما قال سبحانه: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) العنكبوت /45.
(الركن الثالث الزكاة) :
خلق الله الناس مختلفين في الألوان والأخلاق والعلوم والأعمال والأرزاق فجعل منهم الغني والفقير ليمتحن الغني بالشكر ويمتحن الفقير بالصبر
ولما كان المؤمنون أخوة والأخوة تقوم على العطف والإحسان والرأفة والمحبة والرحمة لذا أوجب الله على المسلمين زكاة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم قال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم) التوبة/103.
فالزكاة تطهر المال وتنميه وتزكي النفوس من الشح والبخل وتقوي المحبة بين الأغنياء والفقراء فيزول الحقد ويسود الأمن وتسعد الأمة.
وقد أوجب الله إخراج الزكاة على كل من ملك نصاباً حال عليه الحول من الذهب والفضة أو المعادن وعروض التجارة ربع العشر أما الزروع والثمار ففيها العشر إذا سقيت بلا مؤونة ونصف العشر فيما سقى بمؤونة عند الحصاد وفي بهيمة الأنعام مقادير مفصلة في كتب الفقه , فمن أخرجها كفر الله عنه سيئاته وبارك في ماله وادخر له الأجر العظيم قال تعالى: (وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه إن الله بما تعملون بصير) البقرة /110.
ومنع الزكاة يجلب المصائب والشرور للأمة وقد توعد الله من منعها بالعذاب الأليم يوم القيامة فقال عز وجل: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم - يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) التوبة /34-35.
وإخفاء الزكاة أفضل من إظهارها أمام الناس كما قال تعالى: (إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير) البقرة / 271
وإذا أخرج المسلم الزكاة فلا يجوز صرفها إلا فيما ذكر الله بقوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) التوبة /60.
(الركن الرابع صيام رمضان) :
الصيام هو الإمساك عن المفطرات من الأكل والشرب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية الصوم.
والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. وقد فرض الله الصوم على هذه الأمة شهراً في السنة لتتقي الله وتجتنب ما حرم الله ولتتعود على الصبر , وكبح جماح النفس وتتنافس في الجود والكرم والتعاون والتعاطف , والتراحم قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) البقرة /183
شهر رمضان شهر عظيم أنزل الله فيه القرآن وتضاعف فيه الحسنات والصدقات والعبادات وفيه ليلة القدر , خير من ألف شهر تفتح فيه أبواب السماء وتغلق أبواب جهنم. وتصفد الشياطين
وقد أوجب الله صيام شهر رمضان على كل مسلم بالغ عاقل من ذكر وأنثى كما قال سبحانه: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه , ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام آخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) البقرة/185
والصوم ثوابه عظيم عند الله قال عليه الصلاة والسلام: (كل عمل ابن آدم يضاعف , الحسنة بعشر أمثالها , إلى سبعمائة ضعف قال الله عز وجل إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به , يدع شهوته , وطعامه من أجلي) رواه مسلم , الصيام.
(الركن الخامس الحج) :
جعل الله للمسلمين قبلة يتجهون إليها عند صلاتهم ودعائهم حيث ما كانوا وهي البيت العتيق في مكة المكرمة: (فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) البقرة /144.
ولما كانت ديار المسلمين متباعدة والإسلام يدعوا إلى الاجتماع والتعارف , كما يدعو إلى التعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والدعوة إلى الله وتعظيم شعائر الله لذا أوجب الله على كل مسلم بالغ عاقل قادر أن يزور بيته العتيق , ويطوف به , ويؤدي مناسك الحج كما بينها الله ورسوله. فقال تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) آل عمران /97.
والحج موسم تتجلى فيه وحدة المسلمين , وقوتهم , وعزتهم فالرب واحد والكتاب واحد والرسول واحد والأمة واحدة والعبادة واحدة والملابس واحدة.
وللحج آداب وشروط يجب أن يعمل بها المسلم كحفظ اللسان والسمع والبصر عما حرم الله وإخلاص النية وطيب النفقة , والتحلي بمكارم الأخلاق والابتعاد عن كل ما يفسد الحج من الرفث والفسوق والجدل كما قال سبحانه: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) البقرة /197.
والحج إذا قام به المسلم على الوجه الشرعي الصحيح , وكان خالصاً لله كان كفارة لذنوبه قال عليه الصلاة والسلام: (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) رواه البخاري برقم 15210.
[الْمَصْدَرُ]
من كتاب أصول الدين الإسلامي للشيخ محمد بن ابراهيم التويجري.(1/35)
مراتب الدين الإسلامي
[السُّؤَالُ]
ـ[هل للدين الإسلامي مراتب، وما هي مراتبه؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
وبعد: فإن للدين الإسلامي ثلاث مراتب وهي: الإسلام، والإيمان، والإحسان. وكل مرتبة لها معنى، ولها أركان.
فالمرتبة الأولى: الإسلام وهو لغة: الانقياد والإذعان.
وأما في الشرع: فيختلف معناه بحسب إطلاقه وله حالتان:
الحالة الأولى: أن يطلق مفرداً غير مقترن بذكر الإيمان فهو حينئذ يراد به الدين كله أصوله وفروعه من اعتقاداته وأقواله وأفعاله، كقوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) آل عمران/19، وقوله تعالى: (ورضيت لكم الإسلام دينا) المائدة/3، وقوله: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) آل عمران/85. ولذا عرفه بعض أهل العلم بقوله: هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله.
الحالة الثانية: أن يطلق مقترنا بالإيمان فهو حينئذ يراد به الأعمال والأقوال الظاهرة كقوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) الحجرات/14
وفي صحيح البخاري (27) ومسلم (150) عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى رَهْطًا وَسَعْدٌ جَالِسٌ فِيهِمْ قَالَ سَعْدٌ: فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُعْطِهِ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَوْ مُسْلِمًا" قَالَ: فَسَكَتُّ قَلِيلا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوْ مُسْلِمًا" قَالَ: فَسَكَتُّ قَلِيلا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا عَلِمْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا لَكَ عَنْ فُلانٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَوْ مُسْلِمًا إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ "
فقوله صلى الله عليه وسلم: "أو مسلما "؛ لما قال له سعد رضي الله عنه مالك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا: يعني أنك لم تطلع على إيمانه وإنما اطلعت على إسلامه من الأعمال الظاهرة.
والمرتبة الثانية: الإيمان وهو في اللغة: التصديق المستلزم للقبول والإذعان.
وفي الشرع: يختلف معناه بحسب إطلاقه وله حالتان أيضا:
الحالة الأولى: أن يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإسلام فحينئذ يراد به الدين كله كقوله عز وجل: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) البقرة /257، وقوله تعالى: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) المائدة/23
وقوله صلى الله عليه وسلم: " إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون " أخرجه مسلم (114) . ولهذا أجمع السلف على أنه: " تصديق بالقلب ـ ويدخل فيه أعمال القلب ـ، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية "
ولهذا حصر الله الإيمان فيمن التزم الدين كله باطنا وظاهرا في قوله عز وجل: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم) الأنفال/2-4
وقد فسر الله تعالى الإيمان بذلك كله في قوله تعالى: (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) البقرة/177، وفسره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كله في حديث وفد عبد القيس في صحيح البخاري (53) ومسلم (17) فقال: " آمركم بالإيمان بالله وحده قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وصيام رمضان، وأن تؤدوا من المغنم الخمس ".
وقد جعل صلى الله عليه وسلم صيام رمضان إيمانا واحتسابا من الإيمان وكذا قيام ليلة القدر وكذا أداء الأمانة وكذا الجهاد والحج واتباع الجنائز وغير ذلك وفي صحيح البخاري (9) ومسلم (35) : " الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " والآيات والأحاديث في هذا الباب يطول ذكرها.
والحالة الثانية: أن يطلق الإيمان مقرونا بالإسلام وحينئذ يفسر بالاعتقادات الباطنة كما في حديث جبريل وما في معناه وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الجنازة: "الهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان " أخرجه الترمذي (1024) وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني كما في صحيح سنن الترمذي (1 / 299) وذلك أن الأعمال بالجوارح وإنما يتمكن منها في الحياة فأما عند الموت فلا يبقى غير قول القلب وعمله.
والحاصل أنه إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ بل كل منهما على انفراده يشمل الدين كله وإن فرق بين الاسمين كان الفرق بينهما بما ذكر (وهو أي الإسلام يختص بالأمور الظاهرة على الجوارح والإيمان بالأمور القلبية الباطنة) وهو الذي دل عليه حديث جبريل الذي رواه مسلم في صحيحه (8) عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ الإِسْلامِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَان،َ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا. قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الإِيمَانِ. قَالَ: " أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ " قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الإِحْسَانِ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ السَّاعَةِ؟ قَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ" قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا؟ قَالَ: " أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ " قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي:" يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ "؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ"
والمرتبة الثالثة: الإحسان وهو في اللغة: إجادة العمل وإتقانه وإخلاصه.
وفي الشرع يختلف معناه بحسب إطلاقه وله حالتان:
الحالة الأولى: أن يطلق على سبيل الإفراد غير مقترن بذكر الإسلام والإيمان، فيراد به الدين كله كما سبق في الإسلام والإيمان.
الحالة الثانية: أن يقترن بهما أو أحدهما فيكون معناه: تحسين الظاهر والباطن وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم تفسيراً لا يستطيعه أحد من المخلوقين غيره صلى الله عليه وسلم لما أعطاه الله من جوامع الكلم فقال صلى الله عليه وسلم: " الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وهي أعلى مراتب الدين وأعظمها خطرا وأهلها هم السابقون بالخيرات المقربون في أعلى الدرجات.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن مرتبة الإحسان على درجتين وأن للمحسنين في الإحسان مقامين متفاوتين:
المقام الأول وهو أعلاهما: أن تعبد الله كأنك تراه وهذا يسميه بعض العلماء (مقام المشاهدة) وهو أن يعمل العبد كأنه يشاهد الله عز وجل بقلبه فيتنور القلب بالإيمان حتى يصير الغيب كالعيان فمن عبد الله عز وجل على استحضار قربه منه وإقباله عليه وأنه بين يديه كأنه يراه أوجب له ذلك الخشية والخوف والهيبة والتعظيم.
المقام الثاني: مقام الإخلاص [والمراقبة] وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه عليه وقربه منه فإذا استحضر العبد هذا في عمله وعمل عليه فهو مخلص لله تعالى لأن استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله، وإرادته بالعمل. وهذا المقام إذا حققه العبد سهل عليه الوصول إلى المقام الأول. ولهذا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم تعليلا للأول فقال: " فإن لم تكن تراه فإنه يراك " وفي بعض ألفاظ الحديث: " فإنك إلا تكن تراه فإنه يراك" فإذا تحقق في عبادته بأن الله تعالى يراه ويطلع على سره وعلانيته وباطنه وظاهره ولا يخفى عليه شيء من أمره فحينئذ يسهل عليه الانتقال إلى المقام الثاني وهو دوام استشعار قرب الله تعالى من عبده ومعيته حتى كأنه يراه. نسأل الله من فضله العظيم.
يراجع معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي (2 / 20 – 33، 326 – 328) (المجموع الثمين 1 / 49، 53) (جامع العلوم والحكم 1/ 106) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/36)
يسأل عن العقيدة الطحاوية
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي العقيدة الطحاوية؟ وما هو مقصدها؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
العقيدة الطحاوية هي كتاب يحوي العقيدة التي كتبها الإمام الطحاوي فنسبت إليه، والتعريف بهذه العقيدة يقتضي النظر فيها من عدة جوانب:
أولا:
المؤلف: هو الإمام المحدث الفقيه أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي – نسبة إلى قرية بصعيد مصر -، تخرَّج على كثير من الشيوخ وأخذ عنهم وأفاد منهم، وقد أربى عددهم على ثلاثمائة شيخ.
أثنى عليه غير واحد من أهل العلم:
قال ابن يونس: كان الطحاوي ثقة ثبتا فقيها عاقلا لم يخلف مثله.
وقال الذهبي: الفقيه المحدث الحافظ أحد الأعلام وكان ثقة ثبتا فقيها عاقلا.
وقال ابن كثير: هو أحد الثقات الأثبات والحفاظ الجهابذة.
وله من التصانيف ما هو في غاية التحقيق والجمع وكثرة الفوائد منها كتابه العظيم "معاني الآثار" فيه من الأبحاث الفقيهة المقرونة بدليلها مع مناقشة الخلاف والترجيح. ومنها كتاب "مشكل الآثار" وغيرها.
توفي رحمه الله سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة (321هـ) ودفن في مصر بالقرافة.
انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (15/27-33) ، "البداية والنهاية" (11/174)
ثانيا:
هذه العقيدة التي كتبها الطحاوي ذكر فيها جُمَلا من عقائد السلف الصالحين ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة، والتي يقررها أئمة الأحناف – فقد كان الطحاوي على مذهب أبي حنيفة - وقد بين في مقدمته مقصوده من ذلك فقال:
" هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء المِلَّة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدين، ويدينون به رب العالمين " انتهى.
ثم شرع في ذكر أصول هذه العقائد، فبلغ ما ذكره (105) جملة من الأمور التي يؤمن بها أهل السنة والجماعة عامة.
ابتدأها ببيان وحدانية الله تعالى وذكر شيء من صفات ربوبيته سبحانه كالحياة والقيومية والخلق والرزق، وإثبات صفات الكمال إثباتا بلا تكييف ولا تشبيه لقوله سبحانه وتعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) الشورى/11، ثم أعقبه بذكر وجوب الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعموم بعثته، ثم التعريف بالقرآن الكريم وأنه كلام الله غير مخلوق، وإثبات رؤية الله في الآخرة، ثم ذكر بعض ما يؤمن به أهل السنة من الغيبيات كالحوض والشفاعة والعرش والكرسي، وبعدها ذكر من أركان الإيمان القضاء والقدر، وما يعتقد أهل السنة والجماعة في هذا الباب، ثم انتقل إلى تعريف الإيمان وبيان أركانه وأنه يزيد وينقص ووضح مذهب أهل السنة بين مذاهب الخوارج والمرجئة، كما قرر ما يؤمن به أهل السنة في الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وأن حبهم من الدين والإيمان والإحسان، وبغضهم من الكفر والنفاق والعصيان، ثم عرج على شيء من أشراط الساعة وما يكون يوم القيامة، ثم ختم رسالته ببيان وسطية هذا الدين، وأنه وسط بين الغلو والتقصير.
ثالثا:
وهي عقيدة سهلة العبارة، واضحة المعنى، تتسم بالجمع والاختصار، وقد اجتمع على مجملها أهل السنة والجماعة، فكانت – في معظمها – محل إجماع واتفاق بين أهل العلم.
وقد اهتم كثير من العلماء بشرح هذه العقيدة وتفسير كلماتها ومعانيها، ومن أشهرهم ابن أبي العز الحنفي، حيث كتب شرحا مطولا عليها، ثم من المتأخرين الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمهما الله، وكذا فضيلة الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي حفظه الله، فيمكن لمن أراد التوسع في فهم معاني الطحاوية الرجوع إلى هذه الشروح.
رابعا:
عقيدة الطحاوي اقتصرت على جمل المسائل، وإنما الذي كتب لها الذيوع والشهرة في أوساط السلفيين خاصة، هو شرحها الذي كتبه العلامة ابن أبي العز الحنفي رحمه الله، وهو أهم شروحها وأوسعها مادة، وقد استقى مادة هذا الشرح من كتب أهل السنة، لاسيما كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتلميذه ابن القيم رحمه الله.
خامسا:
رغم ما أشرنا إليه من محاسن هذه العقيدة، وشرحها للعلامة ابن أبي العز؛ ففيها ـ أيضا ـ عدة مسائل قد انتقدت، لمخالفتها لما عليه السلف؛ مثل قوله في تعريف الإيمان: " والإيمان هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان "؛ فإن الاقتصار على ذلك هو مذهب مرجئة الفقهاء الذين يخرجون أعمال الجوارح من حقيقة الإيمان. وهكذا قوله بعدها: " والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء ".
وفيها أيضا بعض العبارات المجملة التي تحتمل معاني باطلة، بل كثر استعمالها من أهل البدع في مقاصد تخالف ما عليه السلف الصالح؛ مثل قوله: " وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات كسائر المبتدعات "؛ فمثل هذه العبارات يستعملها المعطلة في نفي ما ثبت لله تعالى في كتابه وسنة رسوله، من الصفات الحسنى اللائقة بكماله سبحانه، مثل الوجه واليدين والعينين..، فيسمونها الجوارح والأعضاء، وينزهون الله عنها.
ومثل علوه سبحانه فوق خلقه، واستوائه على عرشه في سمائه، فيسمون هذه " جهة، ومكانا " وينزهون الله تعالى عنها.
ولأجل ذلك كان من المهم لطالب العلم أن يعتني بأخذ هذه العقيدة عمن شرحها من أهل السنة، كابن أبي العز قديما، ومن علمائنا المعاصرين من علق عليها تعليقات مختصرة، كما أشرنا إليه.
ويوجد لها شروح صوتية كثيرة، وبعضها مفرغ، مثل شرح الشيخ صالح آل الشيخ، وشرح الشيخ يوسف الغفيص، وغيرهما من أهل العلم.
وللشيخ سفر الحوالي حفظه الله وعافاه، شرح وتعليق مطول على شرح ابن أبي العز، يمكن الرجوع إليه في موقعه.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/37)
نصوص من الوحي تفيد أن الإسلام دين رباني
[السُّؤَالُ]
ـ[المرجو حصولي على نصوص قرآنية تفيد أن الإسلام ربّاني المصدر.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا فرق في الاستدلال والحجية بين القرآن الكريم وبين السنَّة النبويَّة، فكلاهما وحيٌ من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، والسنة النبوية تفسر القرآن وتبينه، وقد أمر الله تعالى بالأخذ بما جاء به نبيه صلى الله عليه وسلم، والانتهاء عما نهى عنه فقال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) الحشر / 7، والسنَّة هي " الحكمة " الواردة في كتاب الله تعالى في آيات كثيرة، منها قوله تعالى (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) البقرة/151، وقوله تعالى: (وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) البقرة/231.
والذي دعانا لهذا التنبيه ما جاء في السؤال من طلب نصوص قرآنية تفيد ربانية الإسلام، ولو كان السؤال عن نصوص الوحي أو أدلة من القرآن والسنة لكان أولى وأفضل.
ثانياً:
الإسلام دين ربَّاني، فهو وحيٌ من الله تعالى، والقرآن الكريم والسنَّة المطهرة كلاهما من الله تعالى، وقد جعل الله تعالى هذا الدين خاتماً للأديان، وجعل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.
وكل محاولة للقضاء على الإسلام، أو لتحريفه أو تبديله من الكفار والملحدين فستبوء بالفشل والخسران؛ لأن الله تعالى تكفَّل بحفظ دينه كتاباً وسنَّة.
ويكفي هذا دليلاً على ربانية الإسلام، ومن اطلع على محاولات القضاء على الإسلام والنيل من القرآن وتحريف السنَّة، واطلع على حفظ الله تعالى لدينه: علم أن هذا الدين لو كان مصدره البشر وعقولهم وأفكارهم لكان الآن في المجهول، لكن أبى الله تعالى إلا أن يتكفل بحفظ دينه، بل بشرنا بظهوره على الأديان كلها، وانتشاره في الآفاق.
وإليكِ بعض النصوص القرآنية التي تفيد أن الإسلام رباني المصدر:
1. قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) المائدة/3.
2. قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحِجر/9.
3. قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) آل عمران/81.
4. قال تعالى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) آل عمران/83.
5. قال تعالى: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) الأنعام/50.
6. قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) يونس/15، 16.
7. قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) النحل/44، وهذا دليل على أن السنة من مصادر التشريع الرباني.
8. قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) الحديد/25.
9. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) النساء/174.
10. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) يونس/57.
11. قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) الشورى/52، 53.
12- قال تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) النجم / 1-4
13- وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) المائدة/67
والآيات في بيان هذا الأصل كثيرة جدا، ننصحك بأن تتدبري كتاب الله تعالى بنفسك، أثناء قراءتك له، وسوف تجدين في هذا ما تطلبين وأكثر إن شاء الله تعالى، مع استعانتك ببعض التفاسير الموثوقة، كتفسير ابن كثير، أو ابن سعدي، ونحوهما.
وقد جاء في سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ربانية الإسلام، وأن مصدره من الله عز وجل، وأن النبي صلى الله عليه ليس إلا مبلغ عن ربه تعالى ما يوحيه له، ومنها:
1. عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ) رواه أبو داود (4604) وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
2. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا أُعْطِيكُمْ وَلا أَمْنَعُكُمْ إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ) .رواه البخاري (2949) .
3. عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْبُلْدَانِ شَرٌّ؟ قَالَ: فَقَالَ: لا أَدْرِي، فَلَمَّا أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: يَا جِبْرِيلُ أَيُّ الْبُلْدَانِ شَرٌّ؟ قَالَ: لا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، فَانْطَلَقَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ سَأَلْتَنِي أَيُّ الْبُلْدَانِ شَرٌّ فَقُلْتُ لا أَدْرِي، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَيُّ الْبُلْدَانِ شَرٌّ؟ فَقَالَ: أَسْوَاقُهَا.
رواه أحمد (16302) وصححه الألباني في " صحيح الترغيب " (325) .
4. عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ (إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ)) .
رواه البخاري (2786) ومسلم (21) .
5- وفي حديث أبي سفيان الطويل مع هرقل، وهو حديث جليل، عظيم الفوائد، وفيه أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟!
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا؟
فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ!!)
وكان من جملة هذه الأسئلة الحكيمة التي طرحها هرقل على أبي سفيان أن قال:
(فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟!)
فقال أبو سفيان: (قُلْتُ: لا!!)
وفي نهاية أسئلته، بين هرقل لأبي سفيان مراده بكل سؤال سأله، فقال في هذا السؤال:
(وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ: لا؛ فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ..)
رواه البخاري (7) ومسلم (1773) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/38)
حكم من تكررت منه الردة
[السُّؤَالُ]
ـ[تنص سورة النساء على أن الله لن يقبل إسلام من يكفر أكثر من 3 مرات، ولن يهديه، فهل يشمل ذلك ترك الصلاة على سبيل المثال 3 مرات؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد للَّه
القاعدة العظيمة التي يقررها الله سبحانه وتعالى في وحيه، ويذكر أنها قاعدة الحساب ومبدأ الثواب والعقاب، أن التوبة تَجُبُّ ما قبلها، وأن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن باب التوبة مفتوح لكل عبد، ولو وقع في الذنب والكفر مرّاتٍ ومرّاتٍ، فإنَّ كرمه سبحانه وتعالى ورحمته بعباده اقتضت أن تقبل توبة التائب ويغفر له ذنبه.
يقول الله عز وجل: (قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ) الأنفال/38
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ) رواه مسلم (121)
كما جاءت الآيات تدل على قبول توبة المرتد إذا عاد إلى الإسلام وصدقت توبته:
يقول سبحانه وتعالى: (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ)
وبعد ذلك كله قال سبحانه: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ) آل عمران/86-89
أما من ارتد ثم ازداد كفرا وطغيانا، ولم يتب، ولم يرجع إلى الإسلام، فهذا هو الذي جاءت الآية في سورة النساء – التي قصدها السائل الكريم – وجاءت آية آل عمران أيضا بعدم قبول توبته.
يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) آل عمران/90-91
وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) النساء/137
يقول ابن كثير رحمه الله في "تفسير القرآن العظيم" (1/753) :
" يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه، ثم عاد فيه، ثم رجع واستمر على ضلاله، وازداد حتى مات، فإنه لا توبة بعد موته، ولا يغفر الله له، ولا يجعل له مما هو فيه فرجا ولا مخرجا ولا طريقا إلى الهدى، ولهذا قال: (لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) قال ابن أبي حاتم.. عن ابن عباس في قوله تعالى: (ثم ازدادوا كفرا) قال: تمادوا على كفرهم حتى ماتوا. وكذا قال مجاهد " انتهى.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (16/28-29) :
" وهؤلاء الذين لا تقبل توبتهم قد ذكروا فيهم أقوالا:
قيل لنفاقهم، وقيل: لأنهم تابوا مما دون الشرك ولم يتوبوا منه، وقيل لن تقبل توبتهم بعد الموت، وقال الأكثرون كالحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدى: لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت، فيكون هذا كقوله (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) النساء/18
وكذلك قوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) النساء/137
قال مجاهد وغيره من المفسرين: (ازدادوا كفرا) ثبتوا عليه حتى ماتوا.
قلت (هو ابن تيمية) : وذلك لأن التائب راجع عن الكفر، ومن لم يتب فإنه مستمر، يزداد كفرا بعد كفر، فقوله: (ثم ازدادوا) بمنزلة قول القائل: ثم أصروا على الكفر، واستمروا على الكفر، وداموا على الكفر، فهم كفروا بعد إسلامهم، ثم زاد كفرهم وما نقص، فهؤلاء لا تقبل توبتهم، وهي التوبة عند حضور الموت؛ لأن من تاب قبل حضور الموت فقد تاب من قريب، ورجع عن كفره، فلم يزدد، بل نقص، بخلاف المصر إلى حين المعاينة " انتهى.
ولم يختلف أهل العلم في أن المرتد إذا صدقت توبته ورجع إلى الإسلام، فإن الله سبحانه وتعالى يقبله عنده ويغفر له ما قد مضى وسلف، وإن تكررت ردته.
هذا بالنسبة لما عند الله تعالى في الآخرة.
وأما بالنسبة لأحكام الظاهر في الدنيا فقد قال بعض أهل العلم بأن من تكررت ردته فإننا نقتله ولا نقبل توبته، فالخلاف بين أهل العلم هو في قبول التوبة من حيث أحكام الظاهر، وليس النسبة لما عند الله سبحانه وتعالى.
يقول ابن قدامة في "المغني" (12/271ط هجر) :
" وفي الجملة، فالخلاف بين الأئمة في قبول توبتهم في الظاهر من أحكام الدنيا وترك قتلهم وثبوت أحكام الإسلام في حقهم.
وأما قبول الله تعالى لها في الباطن، وغفرانه لمن تاب وأقلع باطنا وظاهرا، فلا خلاف فيه " انتهى.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "مجموع الفتاوى" (16/30) :
" والفقهاء إذا تنازعوا فى قبول توبة من تكررت ردته أو قبول توبة الزنديق، فذاك إنما هو فى الحكم الظاهر؛ لأنه لا يوثق بتوبته، أما إذا قدر أنه أخلص التوبة لله فى الباطن، فإنه يدخل فى قوله: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر/53 " انتهى.
على أن الصحيح من قولي أهل العلم أن توبة من تكررت ردته مقبولة في أحكام الظاهر أيضا، وتجري عليه أحكام الإسلام، وهو قول جماهير أهل العلم: الحنفية والشافعية والمشهور عند المالكية، وآخر قولي أحمد بن حنبل.
انظر حاشية تبيين الحقائق (3/284) ، فتح القدير (6/68) ، الإنصاف (10/332-335)
تحفة المحتاج (9/96) ، كشاف القناع (6/177-178) ، "الموسوعة الفقهية" (14/127-128)
وعزا في المبسوط (10/99-100) لعلي وابن عمر عدم قبول توبة من تكررت ردته.
وعليه فإن توبة تارك الصلاة مقبولة إذا صدق، ولو تكرر منه الترك مرات كثيرة، ولكن على العبد أن يحذر، فقد تأتيه المنية قبل أن يوفق للتوبة، وقد يعجل الله تعالى عقوبته في الدنيا قبل الآخرة.
نسأل الله تعالى أن يرحمنا وإياكم برحمته الواسعة.
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/39)
فضل الصحابة رضوان الله عليهم
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو توضيحاً في فضل الصحابة، وما هي مميزاتهم عن غيرهم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اعتقاد عدالةِ الصحابة وفضلهم هو مذهبُ أهلِ السنة والجماعة، وذلك لما أثنى اللهُ تعالى عليهم في كتابه، ونطقت به السنَّةُ النبويةُ في مدحهم، وتواتر هذه النصوص في كثير من السياقات مما يدل دلالة واضحة على أن الله تعالى حباهم من الفضائل، وخصهم من كريم الخصال، ما نالوا به ذلك الشرف العالي، وتلك المنزلة الرفيعة عنده؛ وكما أن الله تعالى يختار لرسالته المحل اللائق بها من قلوب عباده، فإنه سبحانه يختار لوراثة النبوة من يقوم بشكر هذه النعمة، ويليق لهذه الكرامة؛ كما قال تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) الأنعام/ 124.
قال ابن القيم رحمه الله: " فالله سبحانه أعلم حيث يجعل رسالاته أصلا وميراثا؛ فهو أعلم بمن يصلح لتحمل رسالته فيؤديها إلى عباده بالأمانة والنصيحة، وتعظيم المرسل والقيام بحقه، والصبر على أوامره والشكر لنعمه، والتقرب إليه، ومن لا يصلح لذلك، وكذلك هو سبحانه أعلم بمن يصلح من الأمم لوراثة رسله والقيام بخلافتهم، وحمل ما بلغوه عن ربهم " طريق الهجرتين، ص (171) .
وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) الأنعام/53.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: " الذين يعرفون النعمة، ويقرون بها، ويقومون بما تقتضيه من العمل الصالح، فيضع فضله ومنته عليهم، دون من ليس بشاكر. فإن الله تعالى حكيم، لا يضع فضله، عند من ليس له أهل. "
وكما جاءت الآيات والأحاديث بفضلهم وعلو منزلتهم، جاءت أيضا بذكر الأسباب التي استحقوا بها هذه المنازل الرفيعة، ومن ذلك قوله تعالى:
(مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) الفتح/29
ومن أعظم موجبات رفعة مكانة الصحابة، ما شهد الله تعالى لهم من طهارة القلوب، وصدق الإيمان، وتلك – والله - شهادة عظيمة من رب العباد، لا يمكن أن ينالها بَشَر بعد انقطاع الوحي.
اسمع قوله سبحانه وتعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) الفتح/18
قال ابن كثير رحمه الله في "تفسير القرآن العظيم" (4/243) :
" فعلم ما في قلوبهم: أي: من الصدق والوفاء والسمع والطاعة " انتهى.
وما أحسن ما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة؛ أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة؛ أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم " رواه ابن عبد البر في الجامع، رقم (1810) .
وقد وعد الله المهاجرين والأنصار بالجنات والنعيم المقيم، وأحَلَّ عليهم رضوانه في آيات تتلى إلى يوم القيامة، فهل يعقل أن يكون ذلك لمن لا يستحق الفضل!؟
يقول سبحانه وتعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة/100
وقد شهد لهم بالفضل سيد البشر وإمام الرسل والأنبياء، فقد كان شاهدا عليهم في حياته، يرى تضحياتهم، ويقف على صدق عزائمهم، فأرسل صلى الله عليه وسلم كلمات باقيات في شرف أصحابه وحبه لهم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تَسُبُّوا أَصحَابِي؛ فَوَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أَنَّ أَحَدَكُم أَنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدرَكَ مُدَّ أَحَدِهِم وَلا نَصِيفَهُ) رواه البخاري (3673) ومسلم (2540)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خَيرُ النَّاسِ قَرنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم) رواه البخاري (2652) ومسلم (2533)
يقول الخطيب البغدادي رحمه الله في "الكفاية" (49) :
" على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء، لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة، والجهاد، والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، القطعَ على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيؤون من بعدهم أبد الآبدين، هذا مذهب كافة العلماء، ومن يعتد بقوله من الفقهاء " انتهى.
ولو ذهبنا نسرد مواقفهم التي نصروا فيها الدين، وأعمالهم التي استحقوا بها الرفعة والمنزلة العالية، لما كفتنا المجلدات الطوال، فقد كانت حياتهم كلها في سبيل الله تعالى، وأي قرطاس يسع حياة المئات من الصحابة الذين ملؤوا الدنيا بالخير والصلاح.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه:
" إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئا فهو عند الله سيئ " انتهى
رواه أحمد في "المسند" (1/379) وقال المحققون: إسناده حسن.
وسبق التوسع أيضا في تقرير ذلك في جواب السؤال رقم (13713) (45563)
ثانيا:
لا بدَّ أن نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم ليسوا بمعصومين، وهذا هو مذهبُ أهل السنة والجماعة، وإنما هم بشرٌ يجوزُ عليهم ما يجوز على غيرهم.
وما صدر من بعضهم من المعاصي أو الأخطاء، فهو إلى جانبِ شرفِ الصحبة وفضلِها مُغْتَفَرٌ ومَعْفُوٌّ عن صاحبه، والحسناتِ يُذْهِبْنَ السيئات، ومقامُ أَحَدِ الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم لحظة من اللحظات في سبيل هذا الدين لا يعدلها شيء.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: " وأهل السنة تحسن القول فيهم وتترحم عليهم وتستغفر لهم، لكن لا يعتقدون العصمة من الإقرار على الذنوب وعلى الخطأ في الاجتهاد إلا لرسول الله، ومن سواه فيجوز عليه الإقرار على الذنب والخطأ، لكن هم كما قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ) الاحقاف/16 الآية، وفضائل الأعمال إنما هي بنتائجها وعواقبها لا بصورها " [مجموع الفتاوي 4/434] .
وقد قرر ذلك الكتاب والسنة في أكثر من موقف:
فقد تجاوزَ الله سبحانه وتعالى عمن تولى يوم أُحُدٍ من الصحابة، فقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) آل عمران/155
ولما أذنب بعض الصحابة حين أخبر قريشا بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم بالجيش عام الفتح، وهَمَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقتله، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّهُ قَد شَهِدَ بَدرًا، وَمَا يُدرِيكَ؟ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهلِ بَدرٍ فَقَالَ: اعمَلُوا مَا شِئتُم، فَقَد غَفَرتُ لَكُم) رواه البخاري ومسلم (2494)
وغير ذلك من المواقف التي وقع فيها بعض الصحابة بالمعصية والذنب، ثم عفا الله تعالى عنهم، وغفرها لهم، مما يدل على أنهم يستحقون الفضل والشرف، وأنه لا يقدح في ذلك شيء مما وقعوا فيه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته، فإن الآيات السابقة في فضلهم وتبشيرهم بالجنة، أخبار لا ينسخها شيء.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/40)
كما تَدِينُ تُدَان
[السُّؤَالُ]
ـ[ (كَمَا تَدِينُ تُدَانُ) ماذا يدل على صحة هذه المقولة من الدين؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
(كما تدين تدان) ، أو (الجزاء من جنس العمل) ، حكمة بليغة تناقلها الناس قديما، وجاءت الشواهد من الكتاب والسنة دالة على صدقها، فهي سنة كونية جعلها الله سبحانه وتعالى عظة وعبرة للناس.
يقول ابن القيم رحمه الله في "مفتاح دار السعادة" (1/71) :
" تظاهر الشرع والقدر على أن الجزاء من جنس العمل " انتهى.
وروى عبد الرزاق في "المصنف" (11/178) عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(البِرُّ لا يَبْلَى، وَالِإثْمُ لَا يُنْسَى، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ، فَكُن كَمَا شِئتَ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ)
قال الحافظ ابن حجر "فتح الباري" (13/466) : " مرسل، ورجاله ثقات " انتهى.
وضعفه الألباني في ضعيف الجامع.
وعن مالك بن دينار قال: مكتوب في التوراة (كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَكَمَا تَزرَعُ تَحصُدُ)
رواه الخطيب البغدادي في "اقتضاء العلم العمل" (98)
قال ابن قتيبة رحمه الله: ويقولون "كما تَدِينُ تُدان" أي: كما تَفعل يُفعل بك، وكما تُجازِي تُجازَى، وهو من قولهم: "دِنْتُه بما صَنَعَ" أي: جازيته.
قال في لسان العرب (13/164) : " أي: كما تُجازِي تُجازَى، أي: تُجَازَى بفعلك وبحسب ما عملت " انتهى.
وهي قاعدة عظيمة مطردة في جميع الأحوال، وبالتأمل في الكتاب والسنة نجد شواهد ذلك:
فقد عاقب الله تعالى المنافقين بجنس ما أذنبوا وارتكبوا، فقال في سورة البقرة:
(وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) فعاقبهم على استهزائهم بدين الله عقابا من جنس عملهم، فقال سبحانه:
(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) البقرة/14-15
وقال تعالى في سورة التوبة:
(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) التوبة/79
قال ابن كثير رحمه الله "تفسير القرآن العظيم" (4/128) :
" قوله (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين؛ لأن الجزاء من جنس العمل " انتهى.
وكذلك الحدود التي شرعها الله تعالى، كان الجزاء فيها من جنس العمل.
يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) المائدة/38
" أي مجازاة على صنيعهما السيء في أخذهما أموال الناس بأيديهم، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك، والجزاء من جنس العمل " انتهى.
ومما وعد الله به عباده المؤمنين قوله تعالى (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) الرحمن/60
قال ابن القيم في "بدائع الفوائد" (3/528) :
" لأن الجزاء من جنس العمل، فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن الله إليهم برحمته " انتهى.
كما رتب الله تعالى من الأجور والثواب على بعض الأعمال ما هو مشاكل ومناسب للعمل نفسه، ومن ذلك:
قوله تعالى: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) البقرة/40
وقوله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) البقرة/152
وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) محمد/7
وقوله سبحانه: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) النور/22
يقول ابن كثير رحمه الله "تفسير القرآن العظيم" (3/368) :
" فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك " انتهى.
ومن السنة أحاديث كثيرة، منها:
قوله صلى الله عليه وسلم: (ارحَمُوا مَن فِيْ الأَرضِ يَرحَمْكُمْ مَن فِي السَّمَاءِ)
رواه أبو داود (4941) وصححه الألباني في صحيح أبي دواد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (احفَظِ اللَّهَ يَحفَظْكَ) رواه الترمذي (2516) وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ لا يَظلِمُهُ وَلا يُسْلِمُه، مَن كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَن فَرَّجَ عَن مُسلِمٍ كُربَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنهُ بِهَا كُربَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ) رواه البخاري (2442) ومسلم (2580)
قال ابن رجب "جامع العلوم والحكم" (1/338) :
" هذا يرجع إلى أن الجزاء من جنس العمل، وقد تكاثرت النصوص بهذا المعنى " انتهى.
ومن ذلك أيضا ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، في قول الله تعالى للرحم حين تعلقت به سبحانه: (أَمَا تَرضَينَ أَن أَصِلَ مَن وَصَلَكِ وَأَقطَعَ مَن قَطَعَكِ؟ قَالَت: بَلَى، قَالَ: فَذَاكِ لَكِ) رواه البخاري (4830) ومسلم (2554) .
وقد جاء في السنة من الوعيد على بعض الذنوب ما هو مناسب ومشاكل لها، فمن ذلك:
قوله صلى الله عليه وسلم:
(مَن لَعَنَ شَيئًا لَيسَ لَهُ بِأَهلٍ رَجَعَتِ الَّلعنَةُ عَلَيهِ)
رواه الترمذي (1978) وقال: حسن غريب.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَن ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَن شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيهِ)
رواه الترمذي (1940) وقال: حسن غريب.
ومنه ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(مَن سُئِلَ عَن عِلمٍ ثُمَّ كَتَمَهُ أُلجِمَ يَومَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِن نَارٍ)
رواه الترمذي (2649) وقال: حديث حسن.
قال المناوي في "فيض القدير" (6/146) : " الحديث خرج على مشاكلة العقوبة للذنب " انتهى
وهكذا كلما تأملت في نصوص الوحي، وفي حوادث التاريخ، وفي سنن الله في أرضه، تجد أنها لا تتخلف عن هذه السنة (الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان) ، وذلك من مقتضى عدله وحكمته سبحانه وتعالى، فمن عاقب بجنس الذنب لم يظلم، ومن دانك بما دنته به لم يتجاوز:
فَلا تَجزَعنَ مِن سُنَّةٍ أَنتَ سِرتَها وَأَوَّلُ راضي سُنَّةٍ مِن يَسيرُها
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/41)
معنى كلمة الإسلام
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى كلمة الإسلام؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا رجعت إلى معاجم اللغة وعلمت أن معنى كلمة الإسلام هو: الانقياد والخضوع والإذعان والاستسلام والامتثال لأمر الآمر ونهيه بلا اعتراض , وإخلاص العبادة له سبحانه وتصديق خبره والإيمان به , وأصبح اسم الإسلام عَلَماً على الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم
لماذا سمي الدين بالإسلام؟ إن جميع ما في الأرض من مختلف الديانات , قد سميت بأسمائها , إما نسبة إلى اسم رجل خاص وأو أمة معينة وفالنصرانية أخذت اسمها من (النصارى) , وتسمت البوذية على اسم بانيها: (بوذا) , واشتهرت الزرادشتية بهذا الاسم لأن مؤسسها وحامل لوائها كان (زرادشت) , وكذلك اليهودية ظهرت بين ظهراني قبيلة تعرف (بيهوذا) , فسميت باليهودية , وهلم جرا. إلا الإسلام , فإنه لا ينتسب إلى رجل خاص , ولا إلى أمة بعينها , وإنما يدل اسمه على صفة خاصة يتضمنها معنى كلمة الإسلام , ومما يظهر من هذا الاسم أنه ما عني بإيجاد هذا الدين وتأسيسه رجل من البشر , وليس خاصاً بأمةً معينة دون سائر الأمم , وإنما غايته أن يحلي أهل الأرض جميعاً بصفة الإسلام , فكل من اتصف بهذه الصفة , من غابر الناس وحاضرهم فهو مسلم , ويكون مسلماً كل من سيتحلى بها في المستقبل.
[الْمَصْدَرُ]
من كتاب الإسلام أصوله ومبادؤه تأليف د. محمد بن عبد الله بن صالح السحيم.(1/42)
هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج
[السُّؤَالُ]
ـ[هل رأى النبي محمد صلى الله عليه وسلم الله تعالى مباشرة في اليوم الذي رأى فيه الجنة والنار.. الخ؟
وإذا كان الجواب بنعم، فأنا أرجو أن ترسل إلي بدليل ذلك من الكتاب السنة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ذهب أغلب الصحابة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير الله عز وجل بعينه ليلة المعراج
فقد ثبت عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ وَهُوَ يَقُولُ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ... ) رواه البخاري (التوحيد/6832)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ قَالَ نُورٌ أَنَّى أراه رواه مسلم (الإيمان/261)
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى قَالَ رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ رواه مسلم (الإيمان/258) ،
قال ابن القيم: وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرؤية له إجماع الصحابة على أنه لم ير ربه ليلة المعراج، وبعضهم استثنى ابن عباس فيمن قال ذلك، وشيخنا يقول ليس ذلك بخلاف في الحقيقة، فإن ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين حيث قال إنه رآه عز وجل ولم يقل بعيني رأسه ولفظ أحمد لفظ ابن عباس رضي الله عنهما ويدل على صحة ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه قوله في الحديث الآخر حجابه النور فهذا النور هو والله أعلم النور المذكور في حديث أبي ذر رضي الله عنه رأيت نورا.
اجتماع الجيوش الإسلامية ج: 1 ص: 12
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: فصل وأما الرؤية فالذى ثبت فى الصحيح عن ابن عباس انه قال راى محمد ربه بفؤاده مرتين، وعائشة أنكرت الرؤية. فمن الناس من جمع بينهما فقال عائشة أنكرت رؤية العين وابن عباس أثبت رؤية الفؤاد، والألفاظ الثابتة عن ابن عباس هى مطلقة أو مقيدة بالفؤاد، تارة يقول راى محمد ربه، وتارة يقول رآه محمد، ولم يثبت عن ابن عباس لفظ صريح بأنه رآه بعينه. وكذلك الامام أحمد تارة يطلق الرؤية وتارة يقول رآه بفؤاده ولم يقل أحد أنه سمع أحمد يقول رآه بعينه، لكن طائفة من أصحابه سمعوا بعض كلامه المطلق ففهموا منه رؤية العين، كما سمع بعض الناس مطلق كلام ابن عباس ففهم منه رؤية العين وليس فى الادلة ما يقتضى أنه رآه بعينه ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة ولا فى الكتاب والسنة ما يدل على ذلك بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل كما فى صحيح مسلم عن أبى ذر قال سألت رسول الله هل رأيت ربك فقال نور أنى أراه. وقد قال تعالى: (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا) ولو كان قد أراه نفسه بعينه لكان ذكر ذلك أولى، وكذلك قوله: أفتمارونه على ما يرى لقد رأى من آيات ربه الكبرى. ولو كان رآه بعينه لكان ذِكْرُ ذلك أولى.
قال: وقد ثبت بالنصوص الصحيحة واتفاق سلف الامة انه لا يرى الله أحد فى الدنيا بعينه الا ما نازع فيه بعضهم من رؤية نبينا محمد خاصة واتفقوا على أن المؤمنين يرون الله يوم القيامة عيانا كما يرون الشمس والقمر. أهـ والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
مجموع الفتاوى ج: 6 ص: 509-510.(1/43)
الحقوق الإسلامية
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي أهم الحقوق التي يحترمها الإسلام؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الحقوق الإسلامية كثيرة ومن أهم هذه الحقوق:
حق الله
نِعم الله على العباد لا تعد ولا تحصى وكل نعمة تستوجب شكراً وحقوق الله على العباد كثيرة ومن أهمها:
1. التوحيد ومعناه أن يوحدوا الله في ذاته , وأسمائه, وصفاته وأفعاله فيعتقدوا أن الله وحده هو الرب المالك المتصرف الخالق الرازق الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير) الملك/1.
2. العبادة وهي أن يعبدوا الله وحده لأنه ربهم , وخالقهم ورازقهم وذلك بصرف جميع أنواع العبادة لله وحده كالدعاء , والذكر والاستعانة , والاستغاثة والتذلل , والخضوع والرجاء , والخوف والنذر والذبح ونحو ذلك قال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) النساء/36.
3. الشكر فالله هو المنعم المتفضل على جميع الخلق فعليهم شكر هذه النعم بألسنتهم , وقلوبهم , وجوارحهم وذلك بحمد الله والثناء عليه واستعمال هذه النعم في طاعة الله وفيما أحل الله: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) البقرة/152.
حق الرسول
بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم نعمة كبرى للبشرية كافة فقد أرسله الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ويبين لهم ما يسعدهم في الدنيا والآخرة.
ومن حق الرسول علينا أن نحبه , ونطيعه , ونصلي عليه , ومحبته عليه السلام تكون بطاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر , وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
حق الوالدين
يهتم الإسلام بالأسرة ويؤكد على المحبة والاحترام داخلها والوالدان قاعدتها وأساسها لذا كان بر الوالدين من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله تعالى.
بر الوالدين يكون بطاعتهما واحترامهما والتواضع لهما والإحسان إليهما والإنفاق عليهما والدعاء لهما وصلة أرحامهما وإكرام صديقهما: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً) الإسراء/23.
والأم في هذه الحقوق حقها أعظم , لأنها هي التي حملته , وولدته وأرضعته: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي قال: أمك , قال: ثم من؟ قال: أمك , قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك) متفق عليه واللفظ للبخاري/الأدب/78.
حق المسلم على المسلم
المؤمنون أخوة وهم أمة متماسكة , كالبنيان يشد بعضه بعضاً يتراحمون فيما بينهم ويتعاطفون ويتحابون ولحفظ هذا البنيان , وتلك الأخوة شرع الله حقوقاً للمسلم على أخيه المسلم ومنها محبته ونصيحته وتفريج كربته وستر زلته ونصرته في الحق واحترام جواره وإكرام ضيفه.
ومنها رد السلام وعيادة المريض وإجابة الدعوة وتشميته إذا عطس واتباع جنازته قال عليه الصلاة والسلام: (حق المسلم على المسلم خمس رد السلام وتشميت العاطس وإجابة الدعوة , وعيادة المريض , واتباع الجنائز) رواه مسلم/2625.
حق الجار
الإسلام يهتم بشأن الجار مسلماً كان أو غيره , لما في ذلك من المصالح التي تجعل الأمة كالجسد الواحد قال عليه الصلاة والسلام: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) متفق عليه.
ومن الحقوق التي قررها الإسلام للجار على جاره أن يبدأه السلام ويعوده إذا مرض ويعزيه في المصيبة ويهنئه في الفرح ويصفح عن زلاته ويستر عوراته ويصبر على أذاه ويهدي له ويقرضه إذا احتاج ويغض بصره عن محارمه ويرشده إلى ما ينفعه في دينه ودنياه قال عليه الصلاة والسلام: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه , وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره) رواه البخاري في الأدب المفرد/115.
وفي حق الجار يقول تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب) النساء/36.
وقد حذر الإسلام من إيذاء الجار , والإساءة إليه , وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك سبب للحرمان من الجنة بقوله: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه) متفق عليه.
وأوجب الإسلام تحقيقاً للمصلحة حقوقاً للوالي على الرعية وحقوقاً للرعية على الوالي وحقوقاً للزوج على زوجته وحقوقاً للزوجة على زوجها , وغير ذلك من الحقوق العادلة التي أوجبها الإسلام.
[الْمَصْدَرُ]
من كتاب أصول الدين الإسلامي للشيخ محمد بن ابراهيم التويجري.(1/44)
الإنسان محاسب
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يحاسب الإنسان على كل ما عمل في الدنيا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كل إنسان بما كسب رهين فمن آمن وعمل صالحاً دخل الجنة ومن كفر بالله ورسوله دخل النار قال تعالى: (إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً، والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلاً ظليلاً) النساء/56-57.
والأعمال الصالحة , إنما تنفع صاحبها , والله غني عنا والأعمال السيئة إنما تضر صاحبها , ولا تضر الله شيئاً , كما قال سبحانه: (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد) فصلت/46.
وقال سبحانه: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين) العنكبوت/6.
والله سبحانه كريم يضاعف الحسنات، كما قال تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلاّ مثلها وهم لا يظلمون) الأنعام/160.
والأعمال الصالحة كالصلاة والزكاة والصوم والحج والأمر بالمعروف والنهي من المنكر والجهاد , وتلاوة القرآن وغيرها من شعائر الإسلام كلها جزاؤها الجنة كما قال تعالى: (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً) النساء/124.
والأعمال السيئة والمعاصي كالظلم والشرك والقتل والفساد والكبر وغيرها من المعاصي كلها جزاؤها النار إلاّ من تاب قال تعالى: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين) النساء/14.
والأقوال والأعمال , خيراً كانت أو شراً , كلها مقيدة عند رب العالمين , قال تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنّا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) الجاثية /29.
ولا يقبل الله من الأعمال إلاّ ما كان خالصاً لله موافقاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) الكهف/110.
ويوم القيامة يرى كل إنسان ما عمل من طاعة أو معصية من خير أو شر كما قال سبحانه: (يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) الزلزلة/6 - 8.
وفي يوم القيامة كل إنسان سيعطى كتابه ويقال له: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً) الإسراء/14.
فمن آمن وعمل صالحاً أخذ كتابه بيمينه مسروراً ودخل الجنة ومن عصى الله ورسوله أخذ كتابه بشماله , أو من وراء ظهره , ودخل النار كما قال سبحانه: (فأما من أوتي كتابه بيمينه، فسوف يحاسب حساباً يسيراً، وينقلب إلى أهله مسروراً، وأما من أوتي كتابه وراء ظهره، فسوف يدعو ثبوراً، ويصلي سعيراً) الانشقاق/7 - 12.
وشتان بين الإيمان والكفر وبين الطاعات والمعاصي وبين أهل الجنة وأهل النار: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون، أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون، وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) السجدة/18 - 20.
وقد بين الله أن أهل الإيمان هم الفائزون وأهل الكفر هم الخاسرون كما قال سبحانه: (والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) سورة العصر.
اللهم ارزقنا الجنة وأجرنا من النار وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين..
[الْمَصْدَرُ]
من كتاب أصول الدين الإسلامي للشيخ محمد بن ابراهيم التويجري.(1/45)
الدراسة في جامعة كاثوليكية
[السُّؤَالُ]
ـ[عندي سؤال عن الالتحاق بالمدراس الكاثوليكية. أنا ادرس في جامعة كاثوليكية والعديد من أصدقائي من المسلمين اخبروني انه لا يصح لي أن ادرس بها. علما باني لا أرغم علي اخذ أي من المواد المتعلقة بالكاثوليكية. وأيضا أصلي بالجامعة. فهل هناك مأخذ علي لصلاتي هناك؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لاشك أن تلك المدارس فيها خطر كبير على المسلم الذي يكون جاهلا بالإسلام وتعاليمه، ذلك لأنه يتلقى تلك الدروس والمعلومات التي فيها إطراء ومدحٌ للكفار ولأديانهم وعقائدهم، وفيها غالباً تعرض للإسلام وقدح في المسلمين، أما إذا كان الطالب في هذه المدارس متمكناً من معرفة عقيدة المسلمين وعارفاً بأركان الإسلام وبالحلال والحرام في الدين الإسلامي، واحتاج إلى تلك المدارس لتعلم صناعة أو حرفة أو معلومات خاصة وواثقاً من نفسه بأنه لا يتأثر بدروسهم ولا بمدرّسيهم وانه لا يُرغم على أخذ أي من المواد المتعلقة بالكاثوليكية
ففي هذه الحال نرى أنه لا بأس بالدراسة فيها، وإنما يُخاف على الجاهل الذي لا يعرف حيل الكفار ومكرهم وخدعهم على المسلمين، فمن كان واثقاً من نفسه ومتمسكاً بالإسلام عقيدة وعملاً فالغالب أنه لا يتأثر بعلومهم وأعمالهم.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ: عبد الله بن جبرين.(1/46)
العقيدة الإسلامية منهج عملي جاد، والكتب المهمة في العقيدة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل العقيدة الإسلامية منهج نظري أم منهج عملي جاد؟ ما هي الكتب التي يرجع إليها لتعلم العقيدة؟ كيف يمكن تطبيق العقيدة في ظل هذا الواقع؟ ما هي طرق تعلم العقيدة؟ هل عمل شيء من الإسلام وعدم عمل شيء آخر (يصلي ولا يزكي أو لا يغض البصر وما ينتج عنه) يعتبر هذا خللا في العقيدة؟ هل المسلمون اليوم بحاجة إلى من يعلمهم العقيدة؟
الرجاء بث بعض التعليمات لمن أراد أن يتعلم العقيدة الصحيحة على منهج الصحابة رضوان الله عليهم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
العقيدة الإسلامية ليست منهجا نظريا فلسفيا، بل هي منهج عملي جاد، فالعمل ركن ركين في هذه العقيدة، ولهذا اتفق أهل السنة على أن الإيمان قول وعمل، أو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان.
فمن آمن بالله تعالى ربا وإلها، عبده وأطاعه بالصلاة والزكاة ونحوها.
ومن آمن باليوم الآخر وما فيه من حساب وجزاء، دعاه ذلك إلى فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه.
ومن آمن بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاده ذلك إلى طاعته وتطبيق سنته، ونشر ملته.
وهكذا تترجم المبادئ التي يعتقدها الإنسان إلى أعمال وأقوال، وسعي، واجتهاد. وكلما زاد الإيمان في القلب زادت آثاره على الجوارح.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) رواه البخاري (52) ومسلم (1599) .
وقال الحسن البصري رحمه الله: " ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإذا كان القلب صالحا بما فيه من الإيمان علما وعملا قلبيا لزم ضرورةً صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أئمة أهل الحديث: قول وعمل، قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن لازم له، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد، ولهذا قال من قال من الصحابة عن المصلى العابث: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه) . اهـ مجموع الفتاوى (7/187)
ثانياً:
وأما الكتب التي يرجع إليها في العقيدة فكثيرة، وأعظمها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ففيهما العصمة والنجاة لمن تمسك بهما. وقد اهتم العلماء ببيان العقيدة الصحيحة ونشرها، وألفوا لذلك ما لا يحصى من الكتب، ومن أشهر هذه المؤلفات: السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، والتوحيد لابن خزيمة، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي، وعقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني، والعقيدة الواسطية لابن تيمية، والعقيدة الطحاوية وشرحها لابن أبي العز الحنفي، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني، ومعارج القبول لحافظ حكمي، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للشيخ صالح الفوزان، وهذا الأخير كتاب سهل مبسط نافع.
ثالثاً:
وأما تطبيق العقيدة في هذا الواقع، فيكون بتعلمها، ونشرها، والدعوة إليها، والرد على مخالفيها بالحكمة والموعظة الحسنة، فبهذا تنتشر العقيدة، وتظهر آثارها، وينعم الناس في ظلالها.
رابعاً:
وأما طرق تعلم العقيدة، فبالتلقي المباشر عن أهلها العالمين بها، العاملين بمقتضاها، وهذا هو الطريق الأسلم والأنفع، لمن تيسر له ذلك. وأما من كان بعيدا عن أهل العلم فعليه الرجوع إلى شروحهم ومؤلفاتهم وأشرطتهم، مع السؤال عما أشكل وغمض فهمه عليه.
خامساً:
إذا عمل الإنسان بعض شرائع الإسلام وترك البعض الآخر، بأن ترك بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات، كان ذلك نقصا في إيمانه، وضعفا في يقينه ومحبته لربه ودينه، وهذا خلل في العقيدة ولا شك.
ولذلك كان من أصول أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وقد يكون هذا النقص والخلل مزيلاً للإيمان بالكلية، فيصير صاحبه مرتداً عن الإسلام، كما لو ترك الصلاة، انظر السؤال رقم (5208) (2182)
وأما المعاصي التي لا تصل إلى حد الكفر، كمنع الزكاة الواجبة، أو إطلاق البصر المحرم ونحو ذلك فهذه ينقص بها الإيمان.
سادساً:
المسلمون بحاجة إلى من يوضح لهم العقيدة الصحيحة الصافية، المبنية على الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، وذلك لوجود الجهل، وانتشار البدع والخرافات، والمذاهب الفكرية المنحرفة.
فالواجب على كل مسلم أن ينصح لنفسه أولا بتعلم العقيدة الصحيحة، وتلقيها من مصادرها المأمونة، ثم نشرها وتعليمها للناس، عن طريق الدروس والمحاضرات، والكتب والنشرات والمجلات، قياما بواجب البلاغ والبيان، كما قال سبحانه: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) آل عمران/187، وقال: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) آل عمران/104
وقال: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يوسف/108
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/47)
لماذا سمي الدين الإسلامي بالإسلام
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا سمي الدين الإسلامي بالإسلام؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
لأن من دخل فيه أسلم وجهه لله واستسلم وانقاد لكل ما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحكام، قال تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين، إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) البقرة/130-131، وقال: (من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه) .
من فتاوىاللجنة الدائمة.
[الْمَصْدَرُ]
مجلة الدعوة العدد/1789 ص/42.(1/48)
مذهب أهل السنة في الصحابة وإمامة أبي بكر الصديق
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو الدليل الذي يجعلك تقول بأن الإمام علي (عليه السلام) لم يكن ليصبح القائد بعد النبي محمد (عليه السلام) ؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً: من أصول أهل السنة والجماعة، سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سلامة القلب من البغض والغل والحقد والكراهة، وسلامة ألسنتهم من كل قولٍ لا يليق بهم؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيم} سورة الحشر/10.
وطاعةً للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده؛ لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهباً ما بلغ مدُّ أحدهم ولا نصيفه " رواه البخاري (3673) ومسلم (2541) .
ومن أصول أهل السنة قبول ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم، ويفضلون من أنفق من قبل الفتح ـ وهو صلح الحديبية ـ وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل، لقول الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} سورة الحديد/10.
ويقدمون المهاجرين على الأنصار؛ لقول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} سورة التوبة/100. فقدم المهاجرين على الأنصار.
ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر ـ وكانوا ثلاث مئة وبضعة عشر ـ: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ " رواه البخاري (3007) ومسلم (2494) من حديث علي بن أبي طالب.
ويؤمنون بأنه لا يدخل النار أحدٌ بايع تحت الشجرة؛ كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأربع مئة؛ لقول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} الفتح/18. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها " رواه مسلم (2496) فكان من جملة المبايعين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين.
ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم كالعشرة، وثابت بن قيس بن شماس، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ وَسَعْدٌ فِي الْجَنَّةِ وَسَعِيدٌ فِي الْجَنَّةِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي الْجَنَّةِ " رواه أبو داود (4649) والترمذي (3747) وصححه الألباني.
ويُقرون بما تواتر به النقل عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر. فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ قُلْتُ لأَبِي (علي ابن أبي طالب) أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قُلْتُ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ عُمَرُ وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ عُثْمَانُ قُلْتُ ثُمَّ أَنْتَ قَالَ مَا أَنَا إِلا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ " رواه البخاري (3671) ، ويُثلثون بعثمان، ويربعون بعلي، رضي الله عنهم.
أنظر الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية مع شرحها.
ثانياً: ومن مذهب اهل السنة أن أحق الناس بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وإليك الأدلة على إمامة أبي بكر رضي الله عنه:
1ـ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَتْ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ قَالَتْ أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ كَأَنَّهَا تَقُولُ الْمَوْتَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ " رواه البخاري (3659) .
2ـ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ " رواه الترمذي (3805) وصححه الألباني.
3ـ عنَ ابن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَا أَنَا عَلَى بِئْرٍ أَنْزِعُ مِنْهَا إِذْ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ الدَّلْوَ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ ثُمَّ أَخَذَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ يَدِ أَبِي بَكْرٍ فَاسْتَحَالَتْ فِي يَدِهِ غَرْبًا فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنْ النَّاسِ يَفْرِي فَرْيَهُ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ " رواه البخاري (3676) قال ابن حجر في شرح هذا الحديث:
" قَوْله: (بَيْنَا أَنَا عَلَى بِئْر) أَيْ فِي الْمَنَام. قَوْله: (أَنْزِع مِنْهَا) أَيْ أَمْلأ الْمَاء بِالدَّلْوِ. قَوْله: (فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ) الذنوب: الدَّلْو الْكَبِيرَة إِذَا كَانَ فِيهَا الْمَاء , وَالَّذِي يَظْهَر لِي أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَة إِلَى مَا فُتِحَ فِي زَمَانه مِنْ الْفُتُوح الْكِبَار وَهِيَ ثَلاثَة , وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَعَرَّض فِي ذِكْر عُمَر إِلَى عَدَد مَا نَزَعَهُ مِنْ الدِّلاء وَإِنَّمَا وَصَفَ نَزْعه بِالْعَظَمَةِ إِشَارَة إِلَى كَثْرَة مَا وَقَعَ فِي خِلافَته مِنْ الْفُتُوحَات وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيّ تَفْسِير هَذَا الْحَدِيث فِي " الأُمّ " فَقَالَ بَعْد أَنْ سَاقَهُ: وَمَعْنَى قَوْله: " وَفِي نَزْعه ضَعْف " قِصَر مُدَّته وَعَجَلَة مَوْته وَشُغْله بِالْحَرْبِ لأَهْلِ الرِّدَّةِ عَنْ الافْتِتَاح وَالازْدِيَاد الَّذِي بَلَغَهُ عُمَر فِي طُول مُدَّته , اِنْتَهَى.
قَوْله: (وَاَللَّه يَغْفِر لَهُ) قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا دُعَاء مِنْ الْمُتَكَلِّم , أَيْ أَنَّهُ لا مَفْهُوم لَهُ. وَقَالَ غَيْره: فِيهِ إِشَارَة إِلَى قُرْب وَفَاة أَبِي بَكْر , وَهُوَ نَظِير قَوْله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلام (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) فَإِنَّهَا إِشَارَة إِلَى قُرْب وَفَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْت: وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ قِلَّة الْفُتُوح فِي زَمَانه لا صُنْع لَهُ فِيهِ , لأَنَّ سَبَبه قِصَر مُدَّته , فَمَعْنَى الْمَغْفِرَة لَهُ رَفْع الْمَلامَة عَنْهُ.
قَوْله: (فَاسْتَحَالَتْ فِي يَده غَرْبًا) أَيْ دَلْوًا عَظِيمَة. قَوْله: (فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا) وَالْمُرَاد بِهِ كُلّ شَيْء بَلَغَ النِّهَايَة , قَوْله (فَرِيَّهُ) وَمَعْنَاهُ يَعْمَل عَمَله الْبَالِغ. "
4ـ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ أَبَاكِ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُولُ قَائِلٌ أَنَا أَوْلَى وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلا أَبَا بَكْرٍ " رواه مسلم (2387) .
5- أنه صلى الله عليه وسلم في مرض موته عين أبا بكر الصديق إماماً للمسلمين في الصلاة ولم يرض بغيره بدلاً منه فكان استخلافه في الإمامة الصغرى تنبيهاً على استخلافه في الإمامة الكبرى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/49)
استحباب العزلة عند الفتن وخوف المسلم على دينه
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت الحديث التالي والذي أخرجه البخاري ولم أفهم معناه، وهذا الحديث فيما معناه: (سيأتي زمان يكون خير مال المسلم غنيمات يأوي بها إلى الجبال فاراً بدينه من الفتن) .أرجو أن توضحوا لي معنى هذا الحديث.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
شرح الحديث:
هذا الحديث رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه منها (7088) كتاب الفتن، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَن) . وروى مسلم في صحيحه نحوه (1888) عن أبي سعيد الخدري أيضاً رضي الله عنه الله عنه أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللَّهَ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ) .
قوله: (شَعَفَ الْجِبَالِ) أي: رؤوس الجبال. وَأَمَّا (الشِّعْب) : فَهُوَ مَا انْفَرج بَيْن جَبَلَيْنِ. قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم (13/34) : وَلَيْسَ الْمُرَاد نَفْس الشِّعْب خُصُوصًا ; بَلْ الْمُرَاد الانْفِرَاد وَالاعْتِزَال , وَذَكَرَ الشِّعْب مِثَالا لأَنَّهُ خَالٍ عَنْ النَّاس غَالِبًا اهـ.
والحديث يدل على أفضلية العزلة عن الناس وترك الاختلاط بهم، في حال خوف المسلم على دينه لكثرة الفتن، بحيث إنه لو خالط الناس لا يأمن على دينه من أن يرتد عنه، أو يزيع عن الحق، أو يقع في الشرك، أو يترك مباني الإسلام وأركانه، ونحو ذلك.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/42) : وَالْخَبَر دَالّ عَلَى فَضِيلَة الْعُزْلَة لِمَنْ خَافَ عَلَى دِينه اهـ.
وقال السندي في حاشيته على النسائي (8/124) : فِيهِ أَنَّهُ يَجُوز الْعُزْلَة بَلْ هِيَ أَفْضلُ أَيَّام الْفِتَن اهـ.
وفي الحديث الثاني المذكور آنفاً جعل النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم المؤمنَ المعتزلَ يتلو المجاهد في سبيل الله في الفضيلة، قال الحافظ في الفتح (6/6) : وَإِنَّمَا كَانَ الْمُؤْمِن الْمُعْتَزِل يَتْلُوهُ فِي الْفَضِيلَة لأَنَّ الَّذِي يُخَالِط النَّاس لا يَسْلَم مِنْ ارْتِكَاب الآثَام، وَقَدْ تكون هذه الآثام أكثر من الحسنات التي يحصلها بسبب اختلاطه بالناس. ولكن تفضيل الاعتزال خاص بحالة وقوع الفتن اهـ بمعناه.
وأما العزلة في غير وقت الفتن وخوف المسلم على دينه فاختلف العلماء في حكمها، وذهب الجمهور إلى أن الاختلاط بالناس أفضل من العزلة واستدلوا على ذلك بعدة أدلة، منها:
1- أن ذلك هو حال النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم، والأنبياء من قبله صلوات الله وسلامه عليهم، وجماهير الصحابة رضي الله عنهم. شرح مسلم للنووي (13/34) .
2- ما رواه الترمذي (5207) وابن ماجه (4032) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ) . صححه الألباني في صحيح الترمذي (2035) .
قال السندي في حاشيته على ابن ماجه (2 / 493) : الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُخَالِطَ الصَّابِرَ خَيْرٌ مِنْ الْمُعْتَزِل اهـ
وقال الصنعاني في سبل السلام (4/416) : فيه أفضلية من يخالط الناس مخالطة يأمرهم فيها بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحسن معاملتهم فإنه أفضل من الذي يعتزلهم ولا يصبر على المخالطة اهـ
3- ما رواه الترمذي (1574) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِن مَاءٍ عَذْبَةٌ فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا. فَقَالَ: لَوْ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ، وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (لا تَفْعَلْ، فَإِنَّ مُقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ الْجَنَّةَ؟ اغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ. مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ) وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (1348) .
4- ما يحصله المسلم في المخالطة من المصالح الشرعية من مَنَافِع الاخْتِلاط بالناس كَالْقِيَامِ بِشَعَائِر الإِسْلام وَتَكْثِير سَوَاد الْمُسْلِمِينَ وَإِيصَال أَنْوَاع الْخَيْر إِلَيْهِمْ مِنْ إِعَانَة وَإِغَاثَة ونَحْو ذَلِكَ. وشُهُودِ الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة وَالْجَنَائِز وَعِيَادَة الْمَرْضَى وَحِلَق الذِّكْر. . . وَغَيْر ذَلِكَ. فتح الباري (13/43) شرح مسلم للنووي (13/34) . والله الموفق، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/50)
الكفر وأنواعه
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت في السؤال رقم 12811 أن الكفر الأكبر المخرج من الملة أنواع فآمل منكم توضيحها وضرب الأمثلة عليها.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
وبعد: فالكلام على حقيقة الكفر وأنواعه يطول لكن سنجمل الكلام عليه من خلال النقاط التالية:
أولاً: أهمية معرفته ومعرفة أنواعه:
دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الإيمان لا يصح ولا يقبل إلا بأمرين ـ هما معنى شهادة أن لا إله إلا الله " ـ وهما الاستسلام لله بالتوحيد، والبراءة من الكفر والشرك بجميع أنواعه.
ولا يمكن للشخص أن يتبرأ من شيء ويحذره إلا بعد أن يعرفه ويتبينه، فعلم بهذا ضرورة تعلم التوحيد للعمل به وتحقيقه، ومعرفة الكفر والشرك للحذر منه ومجانبته.
ثانيا ً: تعريف الكفر
الكفر في اللغة: ستر الشيء وتغطيته
وأما في الاصطلاح الشرعي فهو " عدم الإيمان بالله ورسله، سواءً كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب، بل شك وريب، أو إعراض عن الإيمان حسدا ًأو كبراً أو اتباعا لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة فالكفر صفةٌ لكل من جحد شيئاٌ مما افترض الله تعالى الإيمان به، بعد أن بلغه ذلك سواء جحد بقلبه دون لسانه، أو بلسانه دون قلبه، أوبهما معاٌ، أو عمل عملاٌ جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان " انظر [مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 12/335] و [الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: 1 / 45] .
وقال ابن حزم في كتابه الفصل: " بل الجحد لشيء مما صح البرهان أنه لا إيمان إلا بتصديقه كفرٌ، والنطق بشيء من كل ما قام البرهان أن النطق به كفرٌ كفر، والعمل بشيء مما قام البرهان بأنه كفرٌ كفر "
ثالثا: أنواع الكفر الأكبر المخرج من الملة:
قسم العلماء الكفر إلى عدة أقسام تندرج تحتها كثير من صور الشرك وأنواعه وهي:
1) كفر الجحود والتكذيب: وهذا الكفر تارة يكون تكذيباً بالقلب ـ وهذا الكفر قليل في الكفار كما يقول ابن القيم رحمه الله ـ وتارة يكون تكذيبا باللسان أو الجوارح وذلك بكتمان الحق وعدم الانقياد له ظاهرا مع العلم به ومعرفته باطنا ً، ككفر اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد قال الله تعالى عنهم: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) البقرة/89 وقال أيضا: (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) (البقرة:146) وذلك أن التكذيب لا يتحقق إلا ممن علمَ الحقَّ فرده ولهذا نفى الله أن يكون تكذيب الكفار للرسول صلى الله عليه وسلم على الحقيقة والباطن وإنما باللسان فقط؛ فقال تعالى: (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) الأنعام/33 وقال عن فرعون وقومه: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً) النمل/14
ويلحق بهذا الكفر كفر الاستحلال فمن استحل ما عَلِم من الشرع حرمته فقد كذَّب
الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، وكذلك من حَرَّم ما عَلِم من الشرع حِله.
2) كفر الإعراض والاستكبار: ككفر إبليس إذ يقول الله تعالى فيه: (إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) البقرة/34
وكما قال تعالى: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) النور/47 فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل، وإن كان أتى بالقول. فتبين أن كفر الإعراض هو: ترك الحق لا يتعلمه ولا يعمل به سواء كان قولا أو عملا أو اعتقادا. يقول تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) الأحقاف/3 فمن أعرض عما جاء به الرسول بالقول كمن قال لا أتبعه، أو بالفعل كمن أعرض وهرب من سماع الحق الذي جاء به أو وضع أصبعيه في أذنيه حتى لا يسمع، أو سمعه لكنه أعرض بقلبه عن الإيمان به، وبجوارحه عن العمل فقد كفرَ كُفْر إعراض.
3) كفر النفاق:وهو ما كان بعم تصديق القلب وعمله، مع الانقياد ظاهرا رئاء الناس ككفر ابن سلول وسائر المنافقين الذين قال الله تعالى عنهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ.. الخ الآيات) البقرة/8–20
4) كفر الشك والريبة: وهو التردد في اتباع الحق أو التردد في كونه حقاً، لأن المطلوب هو اليقين بأن ما جاء به الرسول حق لا مرية فيه، فمن جوَّز أن يكون ما جاء به ليس حقا ًفقد كفر؛ كفر الشك أو الظن كما قال تعالى: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً. وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً. قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً. لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) الكهف/35-38
فنخلص من هذا أن الكفر ـ وهو ضد الإيمان ـ قد يكون تكذيبا بالقلب، فهو مناقض لقول القلب ِأي تصديقه، وقد يكون الكفر عملاً قلبياً كبغض الله تعالى أو آياته، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يناقض الحب الإيماني الذي هو آكد أعمال القلوب وأهمها. كما أن الكفر يكون قولاً ظاهرا كسب الله تعالى، وتارة يكون عملا ظاهراً كالسجود للصنم، والذبح لغير الله، فكما أن الإيمان يكون بالقلب واللسان والجوارح فكذلك الكفر يكون بالقلب واللسان والجوارح. نسأل الله أن يعيذنا من الكفر وشعبه،وأن يزينا بزينة الإيمان ويجعلنا هداة مهتدين ... آمين. والله تعالى أعلم.
ينظر (أعلام السنة المنشورة 177) و (نواقض الإيمان القولية والعملية للشيخ عبد العزيز آل عبد اللطيف36 – 46) و (ضوابط التكفير للشيخ عبد الله القرني 183 – 196) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/51)
شروط العمل الصالح
[السُّؤَالُ]
ـ[متى يقبل الله عمل العبد؟ وما هي الشروط في العمل كي يكون صالحاً مقبولاً عند الله؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
وبعد: فإن العمل لا يكون عبادة إلا إذا كمل فيه شيئان وهما: كمال الحب مع كمال الذل قال الله تعالى: (والذين آمنوا أشد حبا لله) البقرة/165، وقال سبحانه: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) الأنبياء/90.
فإذا علم هذا فليعلم أن العبادة لا تقبل إلا من المسلم الموحد كما قال تعالى عن الكفار: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) الفرقان/23.
وفي صحيح مسلم (214) عن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ قَالَ لا يَنْفَعُهُ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ" يعني أنه لم يكن يؤمن بالبعث، ويعمل وهو يرجو لقاء الله.
ثم إن المسلم لا تقبل منه العبادة إلا إذا تحقق فيها شرطان أساسيان:
الأول: إخلاص النية لله تعالى: وهو أن يكون مراد العبد بجميع أقواله وأعماله الظاهرة والباطنة ابتغاء وجه الله تعالى دون غيره.
الثاني: موافقة الشرع الذي أمر الله تعالى أن لا يعبد إلا به، وذلك يكون بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، وترك مخالفته، وعدم إحداث عبادة جديدة أو هيئة جديدة في العبادة لم تثبت عنه عليه الصلاة والسلام.
والدليل على هذين الشرطين قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا ً) الكهف/110
قال ابن كثير رحمه الله: " (فمن كان يرجوا لقاء ربه) أي ثوابه وجزاءه الصالح (فليعمل عملا صالحا) أي ما كان موافقا لشرع الله (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له وهذان ركنا العمل المتقبل لابد أن يكون خالصا لله صوابا على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.ا. هـ
وكلما كان الإنسان أعلم بربه وأسمائه وصفاته كان أكثر إخلاصاً، وكلما كان أعرف بنبيه صلى الله عليه وسلم وسنته كلما كان أكثر اتباعاً، وبالإخلاص والمتابعة تحصل النجاة للعبد في الدارين. نسأل الله الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(1/52)
شروط العمل الصالح
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي الشروط التي يجب توفرها في العمل ليكون صالحا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ الشنقيطي:
وقوله في هذه الآية الكريمة: (الذين يعملون الصالحات) الكهف/2، بيَّنت المراد به آياتٌ أخر فدلت على أن العمل لا يكون صالحاً إلا بثلاثة أمور:
الأول: أن يكون مطابقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكلُّ عملٍ مخالفٍ لما جاء به صلوات الله وسلامه عليه فليس بصالح، بل هو باطل، قال الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه …) الحشر/7، وقال: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) النساء/10، وقال: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) الشورى/21، إلى غير ذلك من الآيات.
الثاني: أن يكون العاملُ مخلِصاً في عمله لله فيما بينه وبين الله، قال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) البينة/5، وقال: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين. وأمرت لأن أكون أول المسلمين. قل إني أخاف إن عصيتُ ربي عذابَ يومٍ عظيمٍ. قل الله أعبد مخلصاً له ديني. فاعبدوا ما شئتم من دونه) الزمر/11 - 15، إلى غير ذلك من الآيات.
الثالث: أن يكون العملُ مبنيّاً على أساس الإيمان والعقيدة الصحيحة؛ لأن العمل كالسقف، والعقيدة كالأساس، قال تعالى: (من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ) النحل/97، فجعل الإيمان قيداً في ذلك.
ويبين مفهوم هذا القيد آيات كثيرة؛ كقوله في أعمال غير المؤمنين: (وقدمنا إلى ما عملوا مِن عملٍ فجعلناه هباءاً منثوراً) الفرقان/23، وقوله: (أعمالهم كسرابٍ …) النور/39، وقوله: (أعمالهم كرمادٍ اشتدت به الريح …) إبراهيم/18، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه.
[الْمَصْدَرُ]
" أضواء البيان " (4 / 9 - 10) .(1/53)
كلمة عقيدة: اشتقاقها ومدلولها
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى كلمة عقيدة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
العقائد هي الأمور التي تصدق بها النفوس، وتطمئن إليها القلوب، وتكون يقيناً عند أصحابها، لا يمازجها ريب ولا يخالطها شك.
وكلمة عقيدة في اللغة مأخوذة من مادة (عقد) ومدارها على اللزوم والتأكد والاستيثاق، ففي القرآن: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذاكم بما عقدتم الأيمن) وتعقيد الأيمان إنما يكون بقصد القلب وعزمه. ويُقال (عقد الحبل) أي: شدّ بعضه ببعض، والاعتقاد: من العقد وهو الربط والشد، يقال: اعتقدت كذا، يعني: جزمت به في قلبي، فهو حكم الذهن الجازم.
والعقيدة في الشّرع هي: أمور علمية يجب على المسلم أن يعتقدها في قلبه ويؤمن بها إيمانا جازما دون شكّ ولا ريب ولا تردّد، لأن الله أخبره بها بطريق كتابه، أو بطريق وحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأصول العقائد التي أمرنا الله باعتقادها هي المذكورة في قوله تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل أمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) ، وحددها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور بقوله: (الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتابه، ولقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث الآخر) .
إذن العقيدة في الإسلام: هي المسائل العلمية التي صح بها الخبر عن الله ورسوله، والتي يجب أن ينعقد عليها قلب المسلم تصديقاً لله ورسوله.
[الْمَصْدَرُ]
المصدر: شرح لمعة الاعتقاد لابن عثيمين والعقيدة في الله لعمر الأشقر(1/54)
مزايا دين الإسلام
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا يظن المسلمون أن دينهم هو الحق؟ هل لديهم أسباب مقنعة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
السائلة المكرّمة
تحية طيبة وبعد
فإن سؤالك يبدو للوهلة الأولى منطقيا من شخص لم يدخل في دين الإسلام لكن الذي مارس هذا الدين واعتقد بما فيه وعمل به يعرف فعلا مقدار النّعمة التي يعيش فيها وهو يتفيؤ ظلال هذا الدّين، وذلك لأسباب كثيرة منها:
1- أن المسلم يعبد إلها واحدا لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفات العلى فتتوحّد وجهة المسلم وقصده ويثق بربّه وخالقه ويتوكّل عليه ويطلب منه العون والنّصر والتأييد وهو يؤمن بأنّ ربه على كلّ شيء قدير لا يحتاج إلى زوجة ولا ولد خلق السموات والأرض وهو المحيي المميت الخالق الرازق فيطلب العبد منه الرزق السميع المجيب فيدعوه العبد ويرجو الإجابة التواب الغفور الرحيم فيتوب إليه العبد إذا أذنب وقصّر في عبادة ربّه، العليم الخبير الشهيد الذي يعلم النيات والسرائر وما في الصّدور فيستحيي العبد أن يقترف الذّنب بظلم نفسه أو ظلم الخلق لأنّ ربّه مطّلع عليه وشاهد، وهو يعلم أنّ ربّه حكيم يعلم الغيب فيثق في اختيار الربّ له وقدره فيه وأنّ ربّه لم يظلمه وأنّ كلّ قضاء قضاه له فهو خير وإن غابت الحكمة عن العبد.
2- آثار العبادات الإسلامية على نفس المسلم فالصلاة صلة بينه وبين ربّه إذا دخل فيها بخشوع أحسّ بالسكينة والطمأنينة والرّاحة لأنّه يأوي إلى ركن شديد وهو الله عزّ وجلّ ولذلك كان نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم يقول: أرحنا بالصلاة وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وكلّ من وقعت له مصيبة فجرّب الصلاة أحسّ بمدد من الصّبر وعزاء عمّا أصابه ذلك لأنّه يتلو كلام ربّه في صلاته وأثر تلاوة كلام الربّ لا يُقارن بأثر قراءة كلام مخلوق وإذا كان كلام بعض الأطبّاء النفسانيين فيه راحة وتخفيف فما بالك بكلام من خلق الطبيب النّفساني.
وإذا جئنا إلى الزكاة وهي أحد أركان الإسلام فإنها تطهير للنّفس من الشحّ والبخل وتعويد على الكرم ومساعدة للفقراء والمحتاجين وأجر ينفع يوم القيامة كبقيّة العبادات، ليست باهظة ومرهقة كضرائب البشر وإنما في كلّ 1000 يدفع 25 فقط يؤديها المسلم الصادق عن طواعية نفس لا يتهرّب منها حتى ولو لم يلاحقه أحد.
وأمّا الصيام فامتناع عن الطعام والنكاح عبادة لله وشعورا بحاجة الجائعين والمحرومين وتذكيرا بنعمة الخالق على المخلوق وأجر بلا حساب.
والحجّ إلى بيت الله الحرام الذي بناه إبراهيم عليه السلام والتزام بأمر الله ودعاء مستجاب وتعرّف على المسلمين من أقطار الأرض
3- أنّ الإسلام قد أمر بكلّ خير ونهى عن كلّ شرّ وأمر بسائر الآداب ومحاسن الأخلاق مثل الصّدق والحلم والأناة والرّفق والتواضع والحياء والوفاء بالوعد والوقار والرحمة والعدل والشّجاعة والصّبر والألفة والقناعة والعفّة والإحسان والسّماحة والأمانة والشكر على المعروف وكظم الغيظ، ويأمر ببرّ الوالدين وصلة الرّحم وإغاثة الملهوف والإحسان إلى الجار وحفظ مال اليتيم ورعايته ورحمة الصغير واحترام الكبير والرّفق بالخدم والحيوانات وإماطة الأذى عن الطريق والكلمة الطيبة والعفو والصّفح عند المقدرة ونصيحة المسلم لأخيه المسلم وقضاء حوائج المسلمين وإنظار المعسر والإيثار والمواساة والتعزية والتبسّم في وجوه الناس وإغاثة الملهوف وعيادة المريض ونصرة المظلوم والهديّة بين الأصحاب وإكرام الضّيف ومعاشرة الزوجة بالمعروف والإنفاق عليها وعلى الأولاد وإفشاء التحية وهي السّلام والاستئذان قبل الدخول إلى البيوت حتى لا يرى الإنسان عورات أصحاب البيت.
وإذا كان بعض غير المسلمين يفعلون بعض هذه الأمور فإنما يفعلونها من باب الآداب العامة لكنهم لا يرجون جزاء ولا ثوابا من الله ولا فوزا ولا فلاحا يوم القيامة.
وإذا جئنا إلى ما نهى الإسلام عنه لوجدناه في مصلحة الفرد والمجتمع وكلّ النواهي لحماية العلاقة بين الربّ والعبد وبين الإنسان ونفسه وبين الإنسان وبني جنسه. ولنأخذ هذه الأمثلة الكثيرة لتوضيح المقصود:
فقد جاء الإسلام بالنهي عن الشرك بالله وعبادة غير الله وأنّ عبادة غير الله تعاسة وشقاء والنهي عن إتيان الكهان والعرافين وعن تصديقهم والنهي عن السحر الذي يعمل للتفريق بين شخصين أو الجمع بينهما وعن الاعتقاد في تأثير النجوم والكواكب في الحوادث وحياة الناس والنهي عن سب الدهر لأن الله هو الذي يصرفه والنهي عن الطيرة وهي التشاؤم.
والنهي عن إبطال الأعمال كما إذا قصد الرياء والسمعة والمن.
وعن الانحناء أو السجود لغير الله وعن الجلوس مع المنافقين أو الفساق استئناسا بهم أو إيناسا لهم.
وعن التاعن بلعنة الله أو بغضبه أو بالنار.
والنهي عن البول في الماء الراكد وعن قضاء الحاجة على قارعة الطريق وفي ظل الناس وفي موارد الماء وعن استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط. والنهي أن يمسك الرجل ذكره بيمينه وهو يبول وعن السلام على من يقضي حاجته ونهي المستيقظ من نومه عن إدخال يده في الإناء حتى يغسلها.
والنهي عن التنفل عند طلوع الشمس وعند زوالها وعند غروبها وهي تطلع وتغرب بين قرني شيطان.
والنهي عن الصلاة وهو بحضرة طعام يشتهيه وعن الصلاة وهو يدافع البول والغائط والريح لأن كل ذلك يشغل المصلي ويصرفه عن الخشوع المطلوب.
والنهي أن يرفع المصلي صوته في الصلاة فيؤذي المؤمنين وعن مواصلة قيام الليل إذا أصابه النعاس بل ينام ثم يقوم وعن قيام الليل كله وبخاصة إذا كان ذلك تباعا.
وأيضا النهي أن يخرج المصلي من صلاته إذا شك في الحدث حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا.
والنهي عن الشراء والبيع ونشد الضالة في المساجد لأنها أماكن العبادة وذكر الله فلا يليق فعل الأمور الدنيوية فيها.
والنهي عن الإسراع بالمشي إذا أقيمت الصلاة بل يمشي وعليه السكينة والوقار والنهي عن التباهي في المساجد وعن تزيينها بتحمير أو تصفير أو زخرفة وكل ما يشغل المصلين
والنهي أن يصل يوما بيوم في الصوم دون إفطار بينهما والنهي أن تصوم المرأة صيام نافلة وبعلها شاهد إلا بإذنه
والنهي عن البناء على القبور أوتعليتها ورفعها والجلوس عليها والمشي بينها بالنعال وإنارتها والكتابة عليها ونبشها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد
والنهي عن النياحة وعن شق الثوب ونشر الشعر لموت ميت والنهي عن نعي أهل الجاهلية أما مجرد الإخبار بموت الميت فلا حرج فيه.
والنهي عن أكل الربا والنهي عن كلّ أنواع البيوع التي تشتمل على الجهالة والتغرير والخداع، والنهي عن بيع الدم والخمر والخنزير والأصنام وكل شيْء حرمه الله فثمنه حرام بيعا وشراء وكذلك النهي عن النجش وهو أن يزيد في ثمن السلعة من لا يريد شراءها كما يحصل في كثير من المزادات والنهي عن كتم عيوب السلعة وإخفائها عند بيعها، والنهي عن بيع ما لا يملك وعن بيع الشيء قبل أن يحوزه والنهي أن يبيع الرجل على بيع أخيه وأن يشتري على شراء أخيه وأن يسوم على سوم أخيه، والنهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها وتنجو من العاهة والنهي عن التطفيف في المكيال والميزان، والنهي عن الاحتكار ونهي الشريك في الأرض أو النخل وما شابهها عن بيع نصيبه حتى يعرضه على شريكه والنهي عن أكل أموال اليتامى ظلما واجتناب أكل القمار والنهي عن الميسر والغصب والنهي عن أخذ الرشوة وإعطائها والنهي عن نهب أموال الناس والنهي عن أكل أموالهم بالباطل وكذلك أخذها بقصد إتلافها والنهي عن بخس الناس أشياءهم والنهي عن كتمان اللقطة وتغييبها وعن أخذ اللقطة إلا لمن يعرفها والنهي عن الغش بأنواعه والنهي عن الاستدانة بدين لايريد وفاءه والنهي أن يأخذ المسلم من مال أخيه المسلم شيئا إلا بطيب نفس منه وما أخذ بسيف الحياء فهو حرام والنهي عن قبول الهدية بسبب الشفاعة
والنهي عن التبتل وهو ترك النكاح والنهي عن الاختصاء والنهي عن الجمع بين الأختين والنهي عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها لا الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى خشية القطيعة والنهي عن الشغار وهو أن يقول مثلا زوجني ابنتك أو أختك على أن أزوجك ابنتي أو أختي فتكون هذه مقابل الأخرى وهذا ظلم وحرام والنهي عن نكاح المتعة وهو نكاح إلى متفق عليه بين الطرفين ينتهي العقد بانتهاء الأجل، والنهي عن وطء المرأة في المحيض وإنما يأتيها بعد أن تتطهر والنهي عن إتيان المرأة في دبرها والنهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك أو يأذن له والنهي أن تنكح الثيب حتى تستأمر والبكر حتى تستأذن والنهي عن التهنئة بقولهم بالرفاء والبنين لأنها من تهنئة الجاهلية وأهل الجاهلية كانوا يكرهون الإناث، والنهي أن تكتم المطلقة ما خلق الله في رحمها، والنهي أن يحدث الزوج والزوجة بما يكون بينهما من أمور الاستمتاع والنهي عن إفساد المرأة على زوجها والنهي عن اللعب بالطلاق والنهي أن تسأل المرأة طلاق أختها سواء كانت زوجة أو مخطوبة مثل أن تسأل المرأة الرجل أن يطلق زوجته لتتزوجه، ونهي المرأة أن تنفق من مال زوجها إلا بإذنه ونهي المرأة أن تهجر فراش زوجها فإن فعلت دون عذر شرعي لعنتها الملائكة والنهي أن ينكح الرجل امرأة أبيه والنهي أن يطأ الرجل امرأة فيها حمل من غيره والنهي أن يعزل الرجل عن زوجته الحرة إلا بإذنها والنهي أن يطرق الرجل أهله ويفاجأهم ليلا إذا قدم من سفر فإذا أخبرهم بوقت قدومه فلا حرج، ونهي الزوج أن يأخذ من مهر زوجته بغير طيب نفس منها، والنهي عن الإضرار بالزوجة لتفتدي منه بالمال.
ونهي النساء عن التبرج والنهي عن المبالغة في ختان المرأة والنهي أن تدخل المرأة أحدا بيت زوجها إلا بإذنه ويكفي إذنه العام إذا لم يخالف الشرع والنهي عن التفريق بين الوالدة وولدها والنهي عن الدياثة والنهي عن إطلاق النظر إلى المرأة الأجنبية وعن اتباع النظرة النظرة.
والنهي عن الميتة سواء ماتت بالغرق أو الخنق أو الصعق أو السقوط من مكان مرتفع وعن الدم ولحم الخنزير وما ذبح على غير اسم الله وما ذبح للأصنام.
والنهي عن أكل لحم الجلالة وهي الدابة التي تتغذى على القاذورات والنجاسات وكذا شرب لبنها وعن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وأكل لحم الحمار الأهلي والنهي عن صبر البهائم وهو أن تمسك ثم ترمى بشيئ إلى أن تموت أو أن تحبس بلا علف، والنهي عن الذبح بالسن والظفر وأن يذبح بهيمة بحضرة أخرى وأن يحد الشفرة أمامها.
في اللباس والزينة
النهي عن الإسراف في اللباس وعن الذهب للرجال والنهي عن التعري وعن المشي عريانا وعن كشف الفخذ.
والنهي عن إسبال الثياب وعن جرها خيلاء وعن لبس ثوب الشهرة
والنهي عن شهادة الزور والنهي عن قذف المحصنة والنهي عن قذف البريء وعن البهتان.
والنهي عن الهمز واللمز والتنابز بالألقاب والغيبة والنميمة والسخرية بالمسلمين وعن التفاخر بالأحساب والطعن في الأنساب وعن السباب والشتم والفحش والخنا والبذاءة وكذلك الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم.
والنهي عن الكذب ومن أشده الكذب في المنام مثل اختلاق الرؤى والمنامات لتحصيل فضيلة أو كسب مادي أو تخويفا لمن بينه وبينهم عداوة
والنهي أن يزكي المرء نفسه والنهي عن النجوى فلا يتناجى اثنان دون الثالث من أجل أن ذلك يحزنه، وعن لعن المؤمن ولعن من لايستحق اللعن.
والنهي عن سب الأموات والنهي عن الدعاء بالموت أو تمنيه لضر نزل به وعن الدعاء على النفس والأولاد والخدم والأموال.
والنهي عن الأكل مما بين أيدي الآخرين وعن الأكل من وسط الطعام وإنما يأكل من حافته وجوانبه فإن البركة تنزل وسط الطعام وعن الشرب من ثلمة الإناء المكسور حتى لايؤذي نفسه وعن الشرب من فم الإناء والنهي عن التنفس فيه وأن يأكل الشخص وهو منبطح على بطنه، والنهي عن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر
والنهي عن ترك النار في البيت موقدة حين النوم والنهي أن يبيت الرجل وفي يده غمر مثل الزهومة والزفر والنهي عن النوم على البطن، والنهي أن يحدث الإنسان بالرؤيا القبيحة أو أن يفسرها لأنها من تلاعب الشيطان
والنهي عن قتل النفس بغير حق، والنهي عن قتل الأولاد خشية الفقر والنهي عن الانتحار والنهي عن الزنا والنهي عن اللواط وشرب الخمر وعصره وحمله وبيعه والنهي عن إرضاء الناس بسخط الله، والنهي عن نهر الوالدين وقول أف لهما، والنهي عن انتساب الولد لغير أبيه والنهي عن التعذيب بالنار والنهي عن تحريق الأحياء والأموات بالنار والنهي عن المثلة وهي تشويه جثث القتلى، والنهي عن الإعانة على الباطل والتعاون على الإثم والعدوان والنهي عن إطاعة أحد في معصية الله والنهي عن الحلف كاذبا وعن اليمين الغموس والنهي أن يستمع لحديث قوم بغير إذنهم والنهي عن النظر إلى العورات والنهي أن يدّعي ما ليس له والنهي أن يتشبع بما لم يعط وأن يسعى إلى أن يحمد بما لم يفعل والنهي عن الاطلاع في بيت قوم بغير إذنهم والنهي عن الإسراف والتبذير والنهي عن اليمين الآثمة والتجسس وسوء الظن بالصالحين والصالحات والنهي عن التحاسد والتباغض والتدابر والنهي عن التمادي في الباطل والنهي عن الكبر والفخر والخيلاء والإعجاب بالنفس والفرح والمرح أشرا وبطرا والنهي أن يعود المسلم في صدقتة ولو بشرائها، والنهي عن استيفاء العمل من الأجير وعدم إيفائه أجره والنهي عن عدم العدل في العطية بين الأولاد، والنهي أن يوصي بماله كله ويترك ورثته فقراء فإن فعل فلا تنفذ وصيته إلا في الثلث والنهي عن سوء الجوار والنهي عن المضارة في الوصية والنهي عن هجر المسلم فوق ثلاثة أيام دون سبب شرعي والنهي عن الخذف وهو رمي الحصاة بين أصبعين لأنها مظنة الأذى مثل فقء العين وكسر السن، والنهي عن الوصية لوارث لأن الله قد أعطى الورثة حقوقهم، والنهي عن إيذاء الجار، والنهي عن إشارة المسلم لأخيه بالسلاح والنهي عن تعاطي السيف مسلولا خشية الإيذاء والنهي أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما، والنهي عن ردّ الهدية إذا لم يكن فيها محذور شرعي، والنهي عن الإسراف والتبذير، والنهي عن إعطاء المال للسفهاء، ونهي الناس أن يتمنى ما فضل الله بعضهم على بعض من الرجال والنساء والنهي عن إبطال الصدقات بالمن والأذى، والنهي عن كتمان الشهادة، والنهي عن قهر اليتيم ونهر السائل، والنهي عن التداوي بالدواء الخبيث فإن الله لم يجعل شفاء الأمة فيما حرم عليها والنهي عن قتل النساء والصبيان في الحرب، والنهي أن يفخر أحد على أحد، والنهي عن إخلاف الوعد، والنهي عن خيانة الأمانة والنهي عن سؤال الناس دون حاجة والنهي أن يروع المسلم أخاه المسلم أو يأخذ متاعه لاعبا أو جادا والنهي أن يرجع الشخص في هبته وعطيته إلا الوالد فيما أعطى ولده والنهي عن ممارسة الطب بغير خبرة والنهي عن قتل النمل والنحل والهدهد والنهي أن ينظر الرجل إلى عورة الرجل والمرأة إلى عورة المرأة والنهي عن الجلوس بين اثنين إلا بإذنهما والنهي عن جعل السلام للمعرفة وإنما يسلم على من عرف ومن لم يعرف والنهي عن جعل اليمين حائلة بين الحالف وعمل البر بل يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه والنهي عن القضاء بين الخصمين وهو غضبان أو يقضي لأحدهما دون أن يسمع كلام الآخر والنهي أن يمر الرجل في السوق ومعه ما يؤذي المسلمين كالأدوات الحادة المكشوفة، والنهي أن يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يقعد فيه، والنهي أن يقوم الرجل من عند أخيه حتى يستأذن.
إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي التي جاءت لسعادة الإنسان وسعادة البشرية، فهل رأيت أو عرفت أيتها السائلة دينا مثل هذا الدّين؟
أعيدي قراءة الجواب ثمّ سائلي نفسك: أليس من الخسارة أن لا تكوني أحد أتباعه؟
قال الله تعالى في القرآن العظيم: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (85) سورة آل عمران
وختاما أتمنى لكِ ولكلّ من قرأ هذا الجواب التوفيق لسلوك سبيل الصواب واتّباع الحقّ، والله يحفظنا وإياكم من كلّ سوء.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/55)
لماذا نحاسب على ما كتب علينا
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا كان مصير الفرد كتب مسبقا عند الله. وكان في قسمة شخص ما أنه سيقتل شخصا معينا. كيف يمكنه أن يمنع هذا من الوقوع؟ ولماذا يكون عرضة للمعاقبة على هذا الذنب وهو لا يملك ما يمنع به ذلك من الوقوع؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قدَر الله قدرته، ومن أركان الإيمان؛ الإيمان بالقضاء والقدر فإن الله خلق الخلق وهو يعلم ما هم عاملون لعلمه الواسع، واطلاعه جل وعلا. وأعطى العبد اختيارا، ورسم له طريق الخير، فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها، قال تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) .
وقال تعالى: (ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها وقد خاب من دسّاها) .
فلا يحل له إيذاء أحد بغير حق من القتل أو غيره، ومن فعل ذلك استحق العقوبة في الدنيا، والعذاب في الآخرة لمخالفته ما شرعه الله.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ وليد الفريان(1/56)
المكاشفات
[السُّؤَالُ]
ـ[هل كشف الإلهام حقيقي في ضوء الإسلام؟ الصوفيون يدعون كل مرة أن عندهم العلم بالغيب وهم يطلقون على ذلك "كشف الإلهام"، والبعض يبررون ذلك قائلين أنه عندما كان عمر رضي الله عنه يخطب ذات مرة قال أن هناك جيش في ساحة المعركة، أرجو توضيح ذلك.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
الكشف الذي يحصل للمرء أنواع، فمنه النفساني وهو مشترك بين المسلم والكافر، ومنه الرحماني وهو الذي يكون عن طريق الوحي والشرع، ومنه الشيطاني وهو ما يحصل عن طريق الجن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
نحن لا ننكر أن النفس يحصل لها نوع من الكشف إما يقظةً وإما مناماً بسبب قلة علاقتها مع البدن إما برياضة أو بغيرها، وهذا هو الكشف النفساني وهو القسم الأول من أنواع الكشف.
لكن قد ثبت أيضاً بالدلائل العقليَّة مع الشرعيَّة وجود الجن وأنها تخبر الناس بأخبار غائبة عنهم كما للكهان المصروعين وغيرهم …
ولكن المقصود هنا أنه يعلم وجود أمور منفصلة مغايرة لهذه القوى كالجن المخبرين لكثير من الكهان بكثير من الأخبار وهذا أمر يعلمه بالضرورة كل من باشره أو من أخبره من يحصل له العلم بخبره ونحن قد علمنا ذلك بالاضطرار غير مرة فهذا نوع من المكاشفات والإخبار بالغيب غير النفساني وهو القسم الثاني من أنواع الكشف.
وأما القسم الثالث: وهو ما تخبر به الملائكة فهذا أشرف الأقسام كما دلت عليه الدلائل الكثيرة السمعية والعقلية، فالإخبار بالمغيبات يكون عن أسباب نفسانية ويكون عن أسباب خبيثة شيطانية وغير شيطانية ويكون عن أسباب ملكية.
" الصفدية " (ص 187 - 189) .
وقال ابن القيم:
الكشف الجزئي مشترك بين المؤمنين والكفار والأبرار والفجار كالكشف عما في دار إنسان أو عما في يده أو تحت ثيابه أو ما حملت به امرأته بعد انعقاده ذكراً أو أنثى وما غاب عن العيان من أحوال البعد الشاسع ونحو ذلك فإن ذلك يكون من الشيطان تارة، ومن النفس تارة، ولذلك يقع من الكفار كالنصارى وعابدي النيران والصلبان فقد كاشف ابن صياد النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بما أضمره له وخبَّأه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما أنت من إخوان الكهان "، فأخبر أن ذلك الكشف من جنس كشف الكهان، وأن ذلك قدره، وكذلك مسيلمة الكذاب مع فرط كفره كان يكاشف أصحابه بما فعله أحدهم في بيته وما قاله لأهله يخبره به شيطانه ليغوي الناس، وكذلك الأسود العنسي، والحارث المتنبي الدمشقي الذي خرج في دولة عبد الملك بن مروان وأمثال هؤلاء ممن لا يحصيهم إلا الله، وقد رأينا نحن وغيرنا منهم جماعة وشاهد الناس من كشف الرهبان عباد الصليب ما هو معروف.
والكشف الرحماني من هذا النوع هو مثل كشف أبي بكر لما قال لعائشة رضي الله عنهما إن امرأته حامل بأنثى، وكشف عمر رضي الله عنه لما قال يا سارية الجبل – أي إلزم الجبل - وأضعاف هذا من كشف أولياء الرحمن.
" مدارج السالكين " (3 / 227، 228) .
ثانياً:
وما حدث مع عمر بن الخطاب رضي الله صحيح ثابت عنه، فقد قال نافع أن عمر بعث سريَّة فاستعمل عليهم رجلاً يقال له " سارية "، فبينما عمر يخطب يوم الجمعة، فقال: " يا ساريةُ الجبلَ، يا ساريةُ الجبلَ "، فوجدوا " سارية " قد أغار إلى الجبل في تلك الساعة يوم الجمعة وبينهما مسيرة شهر ".
رواه أحمد في " فضائل الصحابة " (1 / 269) ، وصححه الشيخ الألباني في " السلسلة الصحيحة " (1110) .
وهذا كرامة لعمر رضي الله عنه وذلك إما بإلهامه وتبليغ صوته – وهو ما يراه ابن القيم – أو بالكشف النفساني وتبليغ صوته – وهو ما سيأتي في كلام الشيخ الألباني -، وفي كلا الحالين هو كرامة له ولا شك.
ثالثاً:
وأمّا ما يحصل مع الصوفية فليس من الكشف الرحماني بل إما أن يكون من النفساني وهو ما يشركهم به الكفار، وإما أن يكون الشيطاني وهو الأغلب.
والكشف الرحماني إنما يحدث لأولياء الله تعالى الذين يقيمون الشرع ويعظمونه، وقد عُرف من حال الصوفية أنهم ليسوا كذلك، وما حصل من عمر إن صحَّ تسميته " كشفاً " فهو من الكشف الرحماني.
قال الشيخ الألباني – عن حادثة عمر بن الخطاب -:
ومما لا شك فيه أن النداء المذكور إنما كان إلهاماً من الله تعالى لعُمر، وليس ذلك بغريب عنه فإنه " محدَّث " كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس فيه أن عمر كُشف له حال الجيش، وأنه رآهم رأي العين، فاستلال بعض المتصوفة بذلك على ما يزعمونه من الكشف للأولياء وعلى إمكان اطلاعهم على ما في القلوب: من أبطل الباطل، كيف لا وذلك من صفات رب العالمين المنفرد بعلم الغيب والاطلاع على ما في الصدور.
وليت شعري كيف يزعم هؤلاء ذلك الزعم الباطل والله عز وجل يقول في كتابه {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الجن / 26، 27؟ فهل يعتقدون أن أولئك الأولياء رسل الله حتى يصحَّ أن يقال إنهم يطلعون على الغيب باطاع الله إياهم؟! سبحانك هذا بهتان عظيم ….
فالقصة صحيحة ثابتة، وهي كرامة أكرم الله بها عمر، حيث أنقذ به جيش المسلمين من الأسر أو الفتك به، ولكن ليس فيها ما زعمه المتصوفة من الاطلاع على الغيب، وإنما هو من باب الإلهام (في عرف الشرع) أو (التخاطر) في عرف العصر الحاضر الذي ليس معصوماً، فقد يصيب كما في هذه الحادثة، وقد يخطئ كما هو الغالب على البشر، ولذلك كان لا بدَّ لكل وليٍّ من التقيد بالشرع في كل ما يصدر منه من قول أو فعل خشية الوقوع في المخالفة، فيخرج بذلك عن الولاية التي وصفها الله تعالى بوصف جامع شامل {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} يونس / 63، ولقد أحسن من قال:
إذا رأيت شخصاً قد يطير وفوق ماء البحر قد يسير
ولم يقف على حدود الشرعِ فإنه مُستَدرج وبدعي.
" السلسلة الصحيحة " (3 / 102 – 104) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/57)
الكفار إذا كانت أخلاقهم حميدة هل يدخلون الجنة؟ وكذلك أطفال الكفار هل يدخلون أيضا؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أن جميع الكفار حتى لو كانت أخلاقهم حميدة ولا يؤذون أحداً سيدخلون النار؟ إذا كان الجواب نعم فماذا عن الأطفال غير المسلمين والذين لم يكن لهم الخيار أن يولدوا كفاراً؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اعلم أن جميع الكفار الذين بلغتهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدخلوا في دين الإسلام فهم في النار، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) البينة / 6.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) رواه مسلم (153)
وليست العبرة أن تكون أخلاقهم حميدة، بل العبرة انقيادهم لله تعالى ولأوامره، ألا ترى إلى المجوسي أو البوذي الذي يعبد النار مثلا أو الأصنام من دون الله، ولم يعبد الله، ويقر له بالعبودية دونما سواه، وكذلك النصارى الذين قالوا إن الله إتخذ ولدا، وغيرهم من المشركين هؤلاء أساءوا الأدب مع الله تعالى، وسبوه وشتموه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفئاً أحد) رواه البخاري (4974) ، فهؤلاء كيف تكون أخلاقهم حميدة وهم يسيئون الأدب مع الله عز وجل، مع أن الله عز وجل جعل لهم الأسماع والأبصار، ويسر لهم كل شي، وأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه، وأسبغ عليهم نعمه، فكان حقه عليهم أن يشكروه فلا يكفروه، فلما لم يمتثلوا ذلك استحقوا غضب الله ونقمته، قال تعالى: (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) الكهف / 49.
وأما حال أطفالهم الذيت ماتوا في الصغر، فسئل عنهم الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فقال:
" إذا مات غير المكلف بين والدين كافرين فحكمه حكمهما في أحكام الدنيا فلا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين.
أما في الآخرة فأمره إلى الله سبحانه، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما سئل عن أولاد المشركين قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين) رواه البخاري (1384) ، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن علم الله سبحانه فيهم يظهر يوم القيامة، وأنهم يمتحنون كما يمتحن أهل الفترة ونحوهم، فإن أجابوا إلى ما يطلب منهم دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار، وقد صحت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في امتحان أهل الفترة يوم القيامة، وهم الذين لم تبلغهم دعوة الرسل ومن كان في حكمهم كأطفال المشركين لقول لله عزوجل: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) الاسراء / 15، وهذا القول أصح الأقوال في أهل الفترة ونحوهم ممن لم تبلغهم الدعوة الإلهية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم وجماعة من السلف والخلف رحمة الله عليهم جميعا "
(مجموع فتاوى ومقالات متنوعة 3/163 -164) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/58)
حكم المؤمن المرتكب لبعض المعاصي
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو حال المؤمن الذي ارتكب الكثير من المعاصي في حياته؟ هل يغفر الله له أم أنه يُعذب؟ وما هو مقدار عذابه؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فالمؤمنون الذين يموتون على الإيمان إذا كانوا قد ارتكبوا في حياتهم معصيةً دون الكفر والشرك المخرج من الملة، لهم حالتان:
الأولى: أن يكونوا قد تابوا من المعصية في حياتهم، فإن تابوا منها توبة نصوحاً قبلها الله منهم. فيعودون كمن لا ذنب له، ولا يعاقبون على معصيتهم في الآخرة، بل ربما أكرمهم ربهم فبدل سيئاتهم حسنات.
الثانية: الذين يموتون ولم يتوبوا من المعاصي أو كانت توبتهم ناقصة لم تستوف الشروط، أو لم تقبل توبتهم فيها، فإن الذي أثبتته الآيات القرآنية والسنن النبوية واتفق عليه السلف الصالح أن هؤلاء ـ العصاة من أهل التوحيد ـ على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قوم تكون لهم حسنات كثيرة تزيد وترجح على هذه السيئات، فهؤلاء يتجاوز الله عنهم، ويسامحهم في سيئاتهم، ويدخلهم الجنة، ولا تمسهم النار أبداً إحساناً من الله وفضلاً وإنعاماً. كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله سبحانه وتعالى يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم، أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا ربهم ألا لعنة الله على الظالمين" رواه البخاري (2441) ومسلم (2768) .
وقال تعالى: {فمن ثقلت موازينه فأولئك المفلحون} الأعراف/8.
وقال سبحانه: {فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية * وأما من خفت موازينه فأمه هاوية} القارعة/:6-7.
القسم الثاني: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، وهؤلاء هم أصحاب الأعراف الذين ذكر الله تعالى أنهم يوقفون بين الجنة والنار ما شاء الله أن يوقفوا ثم يؤذن لهم في دخول الجنة كما قال تعالى بعد أن أخبر بدخول أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ فقال سبحانه: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلّاً بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ. وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين َ) إلى قوله: (أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) الأعراف/46-49
القسم الثالث: قوم لقوا الله تعالى مصرين على الكبائر والإثم والفواحش فزادت سيئاتهم على حسناتهم فهؤلاء هم الذين يستحقون دخول النار بقدر ذنوبهم فمنهم من تأخذه إلى كعبيه ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه حتى أن منهم من لا يحرم على النار منه إلا أثر السجود، وهؤلاء هم الذين يأذن الله في خروجهم من النار بالشفاعة فيشفع فيهم النبي صلى الله عليه وسلم،وسائر الأنبياء، والملائكة والمؤمنون ومن شاء الله أن يكرمه. فمن كان من هؤلاء العصاة أعظم إيمانا وأخف ذنبا كان أخف عذاباَ وأقل مكثا فيها وأسرع خروجا منها، وكل من كان أعظم ذنباً وأضعف إيماناً كان أعظم عذاباً وأكثر مكثاً نسأل الله السلامة والعافية من كل سوء.
فهذه حال عصاة المؤمنين في الآخرة.
وأما في الدنيا فهم ما داموا لم يرتكبوا عملاً يخرجهم من الملة فهم مؤمنون ناقصوا الإيمان كما أجمع على ذلك السلف الصالح مستدلين بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ فمن تلك الآيات:
قوله تعالى في آية القصاص: (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف) البقرة/178 فجعل الله القاتل أخاً لأولياء المقتول وهذه الأخوَّة هي أخوة الإيمان فدل ذلك على أن القاتل لم يكفر مع أن قتل المؤمن كبيرة من أكبر الكبائر.
وقوله جل شأنه: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الحجرات/9:10 فسمى الله الطائفتين المقتتلتين مؤمنين مع أن الاقتتال من كبائر الذنوب، بل وجعل المصلحين بينهم أخوة لهم؛ فدل هذا على أن مرتكب المعصية والكبيرة التي لا تصل إلى حد الشرك والكفر؛ يثبت له اسم الإيمان وأحكامه. لكنه يكون ناقص الإيمان. وبهذا تجتمع النصوص الشرعية وتأتلف. والله أعلم.
يراجع (أعلام السنة المنشورة 212) و (شرح العقيدة الواسطية للشيخ ابن عثيمين 2 / 238) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/59)
معنى حديث: (إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ)
[السُّؤَالُ]
ـ[ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب) ، وورد في حديث آخر: (لا يذهب الليل والنهار حتى تُعْبد اللات والعزى) ، وفي رواية: (حتى تضطرب أليات نساء دوس عند ذي الخلصة)
والإشكال: أنه في الحديث الأول يفهم أن الشرك لا يقع في الجزيرة العربية والحديث الثاني يدل على أنه سيقع؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
من الأمور المقررة عند أهل العلم أن الشرك واقع في هذه الأمة كما دلت على ذلك النصوص الصحيحة، والواقع يؤيد ذلك.
وقد ارتد أكثر العرب بعد وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكثير منهم رجع إلى عبادة الأوثان.
وقال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبدون الأوثان، ثم ذكر بعض الأحاديث الدالة على ذلك.
وأما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون ... ) فللعلماء عليه أجوبة:
1- أن الشيطان قد أيس أن يجمع كل المصلين على الكفر.
واختار هذا القول العلامة ابن رجب الحنبلي. الدرر السنة (12/117)
2- أن هذا إخبار عما وقع في نفس الشيطان من اليأس لما رأى الفتوح، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، فالحديث أخبر عن ظن الشيطان وتوقعه، ثم كان الواقع بخلاف ذلك لحكمة يريدها الله عز وجل. واختار هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله. القول المفيد (1/211)
3- أن الشيطان أيس من المؤمنين كاملي الإيمان، فلم يطمع فيهم الشيطان أن يعبدوه، واختاره الألوسي. وانظر دعاوى المناوئين. (224)
4- أن (أل) في كلمة (المصلون) للعهد، والمراد بهم الصحابة.
والأقوال كلها قريبة، وأقربها الثاني، والله أعلم.
انظر " أحاديث العقيدة التي يوهم ظاهرها التعارض في الصحيحين " (2/232-238) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/60)
جهاد المنافقين
[السُّؤَالُ]
ـ[لا تزال رؤوس المنافقين تطل بين الحين والحين، كلما سنحت لهم الفرصة، من أجل الطعن في شيء من ثوابت الأمة، أو التشكيك في مسلماتها، وسلخ المجتمع من هويته الإسلامية، فما واجبنا نحو هؤلاء، وكيف نصون الأمة عن شرهم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا ريب أن هذه البلية لا تزال الأمة تعاني منها في كل حين وحين، ولا سيما حينما تحل المحن والنكبات بالأمة، ويأمن هؤلاء المنافقون من أخذهم بالعقوبة إن هم طعنوا في أصول هذا الدين، وأطلعوا رؤوس فتنتهم.
ولا شك أن ضرر هؤلاء أعظم من ضرر الكفار المعلنين بكفرهم، كما قال الله تعالى في أمثالهم: (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) المنافقون/4.
ولأجل ذلك جاء الشرع بجهادهم، والحث على الغلظة عليهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في شأن النصيرية، وفيهم من يظهر الكفر والإلحاد وفيهم من يظهر محبة آل البيت نفاقاً:
(لا ريب أن جهاد هؤلاء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات، وهو أفضل من جهاد من لا يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب؛ فإن جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين، والصديق وسائر الصحابة بدؤوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب؛ فإن جهاد هؤلاء حفظ لما فتح من بلاد المسلمين، وأن يدخل فيه من أراد الخروج عنه، وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين؛ وحفظ رأس المال مقدم على الربح.
وأيضا فضرر هؤلاء على المسلمين أعظم من ضرر أولئك، بل ضرر هؤلاء من جنس ضرر من يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب، وضررهم في الدين على كثير من الناس أشد من ضرر المحاربين من المشركين وأهل الكتاب، ويجب على كل مسلم أن يقوم في ذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب؛ فلا يحل لأحد أن يكتم ما يعرفه من أخبارهم، بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم، ولا يحل لأحد أن يعاونهم على بقائهم في الجند والمستخدمين، ولا يحل لأحد السكوت عن القيام عليهم بما أمر الله به ورسوله، ولا يحل لأحد أن ينهى عن القيام بما أمر الله به ورسوله، فإن هذا من أعظم أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى، وقد قال الله تعالى لنبيه
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) التوبة/73، وهؤلاء لا يخرجون عن الكفار والمنافقين. والمعاون على كف شرهم وهدايتهم بحسب الإمكان له من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فإن المقصود بالقصد الأول هو هدايتهم، كما قال الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) آل عمران/110.
قال أبو هريرة: كنتم خير الناس للناس، تأتون بهم في القيود والسلاسل حتى تدخلوهم الإسلام [البخاري 4557 بنحوه] .
فالمقصود بالجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هداية العباد لمصالح المعاش والمعاد، بحسب الإمكان فمن هداه الله سعد في الدنيا والآخرة، ومن لم يهتد كف الله ضرره عن غيره) .
[مجموع الفتاوى 35/159-160] .
ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى:
(الواجب على الأمة الإسلامية أن تقابل كل سلاح يصوب نحو الإسلام بما يناسبه، فالذين يحاربون الإسلام بالأفكار والأقوال يجب أن يبين بطلان ما هم عليه بالأدلة النظرية العقلية، إضافة إلى الأدلة الشرعية، حتى يتبين بطلان ما هم عليه.
والذين يحاربون الإسلام من الناحية الاقتصادية يجب أن يدافعوا، بل أن يُهاجموا إذا أمكن بمثل ما يحاربون به الإسلام، ويبين أن أفضل طريقة لتقويم الاقتصاد على وجه عادل هي طريقة الإسلام، والذين يحاربون الإسلام بالأسلحة، يجب أن يقاوموا بما يناسب تلك الأسلحة، ولهذا قال الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) التوبة/73.
ومن المعلوم أن جهاد المنافقين ليس كجهاد الكفار، لأن جهاد المنافقين يكون بالعلم والبيان، وجهاد الكفار يكون بالسيف والسهام) .
[فتاوى علماء البلد الحرام ص 1733] .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/61)
حوار مع نصراني حول عقيدة الفداء عند النصارى
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا يصر المسلون على إنكار أن المسيح قد جاء مخلصا لفدائنا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
تعد عقيدة الفداء عند النصارى وأصلها الذي بنيت عليه، وهو قولهم بصلب المسيح عليه السلام، من العقائد الأساسية عند النصارى؛ حتى إنهم ليراهنون بالديانة كلها إذا لم تصح هذه العقيدة. يقول الكاردينال الإنجليزي منينغ في كتابه: " كهنوت الأبدية ": (لا تخفى أهمية هذا البحث الموجب للحيرة، فإنه إذا لم تكن وفاة المسيح صلباً حقيقية، فحينئذ يكون بناء عقيدة الكنيسة قد هدم من الأساس، لأنه إذا لم يمت المسيح على الصليب، لا توجد الذبيحة، ولا النجاة، ولا التثليث. . فبولس والحواريون وجميع الكنائس كلهم يدعون هذا، أي أنه إذا لم يمت المسيح لا تكون قيامة أيضاً) .
وهذا ما يقرره بولس: {وإن لم يكن المسيح قد قام، فباطل كرازتنا، وباطل أيضاً إيمانكم} [كورنثوس 1/14-15] .
وعلى نحو ما تخبطوا في قولهم بالتثليث، وما مفهومه، وكيف يوفقون بينه وبين التوحيد الذي يقرره العهد القديم، [راجع السؤال رقم 12628] ، وعلى نحو تخبطهم أيضا في كل ما يتعلق بالصلب من تفصيلات، وهو أصل قولهم بالفداء الذي يعتبرونه علة لهذا الصلب، [راجع أيضا سؤال رقم 12615] ، نقول: على نحو هذا الخبط الملازم لكل من حاد عن نور الوحي المنزل من عند الله، كان تخبطهم في عقيدة الفداء.
فهل الفداء خلاص لجميع البشر، كما يقول يوحنا: {يسوع المسيح البار، شفيع عند الآب، فهو كفارة لخطايانا، لا لخطايانا وحدها، بل لخطايا كل العالم أيضاً} [رسالة يوحنا الأولى 2/2] ، أو هو خاص بمن آمن واعتمد: {من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن} [مرقس 16/16] .
إن المتأمل في سيرة المسيح وأقواله يرى بوضوح أن دعوة المسيح كانت لبني إسرائيل، وأنه خلال سني دعوته نهى تلاميذه عن دعوة غيرهم، وعليه فالخلاص أيضاً يجب أن يكون خاصاً بهم، وهو ما نلمسه في قصة المرأة الكنعانية التي قالت له: {ارحمني يا سيد يا ابن داود. ابنتي مجنونة جداً، فلم يجبها بكلمة واحدة، فتقدم إليه تلاميذه، وطلبوا إليه قائلين: اصرفها لأنها تصيح وراءنا، فأجاب وقال: لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة، فأتت وسجدت له قائلة: يا سيد أعني، فأجاب وقال: ليس حسناً أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب { (متى 15/22 - 26) ، فالمسيح لم يقم بشفاء ابنة المرأة الكنعانية، وهو قادر عليه، فكيف يقوم بالفداء عن البشرية جمعاء؟
وهل هذا الخلاص من خطيئة آدم الأولى فقط، أو هو عام لجميع خطايانا؟
إن أحدا لا يحمل إثم أحد، ولا يفديه بنفسه، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) فاطر/18.
وهذا هو ما تقرره نصوص كتابكم المقدس: {النفس التي تخطيء هي تموت، الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن، بر البار عليه يكون، وشر الشرير عليه يكون} [حزقيال 18/20 - 21] .
فليس هناك خطيئة موروثة: {لولا أني جئت وكلمتهم، لما كانت عليهم خطيئة، وأما الآن فلا عذر لهم في خطيئتهم. . لولا أني عملت بينهم أعمالاً ما عمل أحد مثلها، لما كانت لهم خطيئة، لكنهم الآن رأوا، ومع ذلك أبغضوني وأبغضوا أبي} [يوحنا 15/22 - 24] .
وحين تكون هناك خطيئة، سواء كانت مما اكتسبه العبد، أو ورثه عن آدم، أو من دونه من الآباء (؟!!) ، فلم لا يكون محو هذه الخطيئة بالتوبة؟!
إن فرح أهل السماء بالتائب كفرح الراعي بخروفه الضائع إذا وجده، والمرأة بدرهمها الضائع إذا عثرت عليه، والأب بابنه الشارد إذا رجع:
{هكذا يكون الفرح في السماء بخاطئ واحد يتوب، أكثر من الفرح بتسعة وتسعين من الأبرار لا يحتاجون إلى التوبة} [لوقا 15/1-31} .
ولقد وعد الله التائبين بالقبول: {فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها، وحفظ كل فرائضي وفعل حقاً وعدلاً، فحياة يحيا، لا يموت، كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه، بره الذي عمل يحيا} [حزقيال 18/21-23] ، وانظر [إشعيا 55/7]
إن الاتكال على النسب من غير توبة وعمل صالح، ضرب من الخبال؛ فمن أبطأ به عمله، لم يسرع به نسبه، كما يقول نبينا صلى الله عليه وعلى إخوانه المرسلين وسلم [صحيح مسلم 2699] ، وهكذا علمكم يوحنا المعمدان (يحي عليه السلام) : {يا أولاد الأفاعي من علمكم أن تهربوا من الغضب الآتي، أثمروا ثمراً يبرهن على توبتكم، ولا تقولوا لأنفسكم: نحن أبناء إبراهيم، أقول لكم: إن الله قادر على أن يجعل من هذه الحجارة أبناء لإبراهيم؛ ها هي الفأس على أصول الشجر: فكل شجرة لا تعطي ثمرا جيدا تقطع، وترمى في النار} [متى 3/7 - 11] .
إن غفران الذنب بتوبة صاحبه هو اللائق بالله البر الرحيم، لا الذبح والصليب، وإراقة الدماء، ها ما يقرره الكتاب المقدس:
{إني أريد رحمة لا ذبيحة، لأني لم آت لأدعو أبراراً، بل خطاة إلى التوبة} [متى 9/13]
ولهذا يقول بولس: {طوبى للذين غفرت آثامهم وسترت خطاياهم، طوبى للرجل الذي لا يحسب له الرب خطية} [رومية 4/7-8] .
هذا مع إيماننا بأن الله تعالى لو أمر بعض عباده بقتل أنفسهم توبة من خطاياهم، لم يكن كثيرا عليهم، ولم يكن منافيا لبره سبحانه ورحمته، وقد أمر بذلك بني إسرائيل لما طلبوا أن يروا الله جهرة، لكن حينئذ لا يقتل أحد عن أحد، بل يقتل المرء عن إثم نفسه، لا عن آثام غيره، وقد كان ذلك من الإصر والأغلال التي وضعها الله عن هذه الأمة المرحومة.
ومما يبطل نظرية وراثة الذنب أيضاً النصوص التي تحمل كل إنسان مسئولية عمله؛ كما قال الله تعالى في كتابه الكريم: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) فصلت /46 وقال: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) المدثر/38.
وهكذا في كتابكم المقدس:
{لا تَدينوا لئلا تُدانوا، فكما تدينون تُدانون، وكما تكيلون يُكال لكم} [متى 7/1-2]
{فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله} [متى 16/27]
وأكد المسيح على أهمية العمل الصالح والبر، فقال للتلاميذ: {ليس كل من يقول: لي يا رب يا رب، يدخل ملكوت السموات. بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات، كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة، فحينئذ أصرّح لهم: إني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم} [متى 7/20-21] .
ومثله قوله: {يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون في ملكوته جميع المعاثر، وفاعلي الإثم، ويطرحونهم في أتون النار} [متى 13/41-42] .
فلم يحدثهم عن الفداء الذي سيخلصون به من الدينونة.
والذين يعملون الصالحات هم فقط الذين ينجون يوم القيامة من الدينونة، بينما يحمل الذين عملوا السيئات إلى الجحيم، من غير أن يكون لهم خلاص بالمسيح أو غيره:
{تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة} [يوحنا 5/28-29] .
{متى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة والقديسين معه، فحينئذ يجلس على كرسي مجده. . . ثم يقول أيضاً للذين عن اليسار: اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته} [متى 25/31 - 42] .
ويقول المسيح لهم: {أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم} (متى 23/33) .
ويلاحظ أدولف هرنك أن رسائل التلاميذ خلت من معتقد الخلاص بالفداء، بل إنها جعلت الخلاص بالأعمال كما جاء في رسالة يعقوب {ما المنفعة يا إخوتي إن قال أحد: إنّ له إيماناً، ولكن ليس له أعمال، هل يقدر الإيمان أن يخلصه؟ الإيمان أيضاً إن لم يكن له أعمال ميت في ذاته. . الإيمان بدون أعمال ميت} [يعقوب 2/14 – 20 وانظر:1/22 , 1/27] .
ويقول بطرس: {أرى أن الله لا يفضل أحدا على أحد في الحقيقة، فمن خافه من أية أمة كانت، وعمل الخير، كان مقبولا عنده} [أعمال الرسل 10/34-35] . ومثل هذا كثير في أقوال المسيح والحواريين.
وصدق الله العظيم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات/13.
والعجب أن بولس نفسه الذي أعلن نقض الناموس وعدم فائدة الأعمال، وأن الخلاص إنما يكون بالإيمان، هو ذاته أكد على أهمية العمل الصالح في مناسبات أخرى منها قوله: {إن الذي يزرعه الإنسان، إياه يحصد أيضاً. . . فلا تفشل في عمل الخير لأننا سنحصده في وقته { (غلاطية 6/7) .
ويقول: {كل واحد سيأخذ أجرته حسب تعبه} (كورنثوس (1) 3/8) .
[انظر حول هذه القضية بتوسع: د. منذر السقار: هل افتدانا المسيح على الصليب]
وهكذا، فليس أمامك حيال هذا التناقض إلا أن تلغي فهمك وعقلك، وتعلل نفسك بالأماني الكاذبة، على نحو ما فعلت في عقيدة التثليث والتوحيد، وهو ما ينصحك به "ج. ر. ستوت" في كتابه "المسيحية الأصلية": (لا أجسر أن أتناول الموضوع، قبل أن أعترف بصراحة بأن الكثير منه سوف يبقى سرا خفيا. . .، ويا للعجب كيف أن عقولنا الضعيفة لا تدركه تماما، ولا بد أن يأتي اليوم الذي فيه ينقشع الحجاب، وتُحل كل الألغاز، وترى المسيح كما هو!!
. . فكيف يمكن أن يكون الله حل في المسيح، بينما يجعل المسيح خطية لأجلنا، هذا ما لا أستطيع أن أجيب عنه، ولكن الرسول عينه يضع هاتين الحقيقتين جنبا إلى جنب، وأنا أقبل الفكرة تماما، كما قبلت أن يسوع الناصري هو إنسان وإله في شخص واحد. . . وإن كنا لا نستطيع أن نحل هذا التناقض، أو نفك رموز هذا السر، فينبغي أن نقبل الحق كما أعلنه المسيح وتلاميذه، بأنه احتمل خطايانا)
[المسيحية الأصلية ص 110، 121، نقلا عن د. سعود الخلف: اليهودية والنصرانية ص 238] .
ونعم، سوف نرى نحن وأنتم المسيح كما هو؛ عبدا من عباد الله المقربين، وأنبيائه المرسلين، وفي هذا اليوم الذي ينقشع فيه الحجاب يتبرأ ممن اتخذه إلها من دون الله، أو نسب إليه ما لم يقله، لتعلم ساعتها أنه لم يكن هناك لغز ولا أسرار:
(وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)) سورة المائدة.
فهل من وقفة قبل فوات الأوان، وعودة إلى كلمة سواء، لا لغز فيها ولا حجاب:
(قُلْ يا أهل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) آل عمران /64.
والله اعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/62)
نصيحة إلى كاهنة تقرأ الفنجان
[السُّؤَالُ]
ـ[امرأة تقوم بقراءة الفنجان وقد وضعت عنوانها في إحدى المجلات الساقطة. أرجو توجيه نصيحة إليها.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
السؤال فيه جانبان:
الأول: حكم هذا العمل
لا شك أن الكهانة والسحر والتنجيم من أعظم المنكرات، ومن الإفساد في الأرض وأذية المسلمين بغير حق.
واختلف العلماء رحمهم الله تعالى: هل يكفر الكاهن ويخرج من الملة، أم أنه كفر دون كفر،
واستدل من قالوا بأنه يكفر بما رواه الإمام أحمد في مسنده (9171) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً أو عرّافاً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) . صححه الألباني في صحيح الجامع (5942) .
ولأن هذا ادعاء لعلم الغيب، ومن ادعى أنه يعلم الغيب فقد كفر، أن الله تعالى يقول: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) الجن/25-26. ويقول: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ) النمل/65.
الأمر الثاني: النصيحة لهذه المرأة التي تقوم بهذا العمل أن تتركه وتبتعد عنه وتتوب إلى الله تعالى، إذ هذا الفعل من الكبائر الموبقات، وأن تتقي الله في أذية المسلمين بهذا العمل الشنيع، والله تعالى يقول: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) الأحزاب: 58.
فعليها أن تتوب من هذا العمل إلى الله تعالى قبل أن ينزل بها ملك الموت بغتة ولات ساعة مندم، وعليها أن تلجأ إلى ربها في جميع أمورها الذي بيده النفع والضر، وألا يستجريها الشيطان في حبائله حتى يوقعها في الجحيم والعياذ بالله.
وفي عملها هذا فتنة لضعاف الدين من المسلمين، والله تعالى يقول: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق) البروج /10.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
" علم النجوم وما يسمى بالمطالع وقراءة الكفّ وقراءة الفنجان ومعرفة الخط، وما أشبه ذلك مما يدّعيه الكهنة والعرافون والسحرة كلها من علوم الجاهلية التي حرّمها الله ورسوله، ومن أعمالهم التي جاء الإسلام بإبطالها والتحذير من فعلها أو إتيان من يتعاطاها وسؤاله عن شيء منها أو تصديقه فيما يخبر به من ذلك، لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله به.
ونصيحتي لكل من يتعلق بهذه الأمور أن يتوب إلى الله ويستغفره، وأن يعتمد على الله وحده ويتوكل عليه في كل الأمور مع أخذه بالأسباب الشرعية والحسية المباحة وأن يدع هذه الأمور ويبتعد عنها ويحذر سؤال أهلها أو تصديقهم، طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وحفاظاً على دينه وعقيدته، وحذراً من غضب الله عليه، وابتعاداً عن أسباب الشرك والكفر التي من مات عليها خسر الدنيا والآخرة " اهـ.
مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (2 / 120 – 122) .
وينبغي الإشارة هنا إلى أن ما تأخذه هذه المرأة من كسب بهذا العمل المحرّم الشنيع هو كسب محرم، لما جاء في صحيح البخاري (2237) ومسلم (1567) عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن.
والمراد بحلوان الكاهن: هو ما يعطاه على كهانته.
قال النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث (10 / 490) : " قال البغوي من أصحابنا والقاضي عياض: أجمع المسلمون على تحريم حلوان الكاهن، لأنه عوض عن محرّم ولأنه أكل المال بالباطل ".
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/63)
حكم كلمة الولاء للوطن
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم مناداة البعض بوجوب الولاء للوطن؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الواجب الولاء لله ولرسوله بمعنى أن يوالي العبد في الله ويعادي في الله وقد يكون وطنه ليس بإسلامي فكيف يوالي وطنه أما إذا كان وطنه إسلامياً فعليه أن يحب له الخير ويسعى إليه لكن الولاء لله لأن من كان من المسلمين مطيعاً لله فهو وليه ومن كان مخالفاً لدين الله فهو عدوه وإن كان من أهل وطنه وإن كان أخاه أو عمه أو أباه أو نحو ذلك، فالموالاة في الله والمعاداة في الله.
أما الوطن فيحب إن كان إسلامياً وعلى الإنسان أن يشجع على الخير في وطنه وعلى بقائه إسلامياً وأن يسعى لاستقرار أوضاعه وأهله وهذا هو الواجب على كل المسلمين نسأل الله لنا ولكم ولجميع المسلمين التوفيق والهداية وصلاح النية والعمل وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[الْمَصْدَرُ]
كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله. م/9 ص/317.(1/64)
هل للمعصية تأثير على أهل العاصي
[السُّؤَالُ]
ـ[يقول والدي أنني ارتكبت إثماً يؤثّر على كل الأسرة وفيما بعد عاشوا أوقات عصيبة كفقد أموال عن طريق السرقة ودفع غرامات فهل يمكن أن يكون هذا بسبب ذنوبي، هذا لا يبدوا مستقيماً فهل يعاقب الله كل الأطفال إذا ارتكبت أمهم ذنباً.]ـ
[الْجَوَابُ]
لا يُؤَاخَذُ الإنسان بذنب غيره، فكل إنسانٍ يُحَاسَب على أعمَالِه، قال تعالى: (ولا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى) فاطر/18، لكنَّ كَون الأم أو الأب يَقْتَرِفُ ذنباً فإنّه من الوسائِل التي تجعَل أهلَ البيْتِ يقْتَدُونَ بهِ.
مجموع فتاوى الشيخ ابن باز 2/610.
لكن قد يتعدىَّ شؤم المعصية من العاصي إلى بعض أهله، فيكون عقوبة له وابتلاء لأهله، والله عزّ وجل يبتَلِي الإنسان بالمصائِب لِكَي يكَفِّر الله بها ذنوبه، وقد يبتلي الله بالنعم، قال تعالى: (ونَبْلوكُم بالشَّرِ والخيْرِ فتْنَة) الأنبياء/35.
وعلى كل حال يجب على المسلم أن يَتَجَنَّبَ المعاصي حتى لا ينزل عليه سخَطِ الله وغَضَبِه، والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/65)
بطلان حديث توسل آدم بمحمد عليهما الصلاة والسلام
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت هذا الحديث وأريد أن أعرف هل هو صحيح أو غير صحيح؟
(لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي. فقال الله: يا آدم، وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب، لأنك لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك، رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوبا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك. فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، ادعني بحقه، فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك) .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الحديث موضوع، رواه الحاكم من طريق عبد الله بن مسلم الفهري، حدثنا إسماعيل بن مسلمة، أنبأ عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما اقترف آدم الخطيئة. . . ثم ذكر الحديث باللفظ الذي ذكره السائل.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد اهـ.
هكذا قال الحاكم! وقد تعقبه جمع من العلماء، وأنكروا عليه تصحيحه لهذا الحديث، وحكموا على هذا الحديث بأنه باطل موضوع، وبينوا أن الحاكم نفسه قد تناقض في هذا الحديث.
وهذه بعض أقوالهم في ذلك:
قال الذهبي متعقبا على كلام الحاكم السابق: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ، وعبد الله بن مسلم الفهري لا أدري من هو اهـ.
وقال الذهبي أيضاً في "ميزان الاعتدال": خبر باطل اهـ.
وأقره الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان".
وقال البيهقي: تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، من هذا الوجه، وهو ضعيف اهـ. وأقره ابن كثير في البداية والنهاية (2/323) .
وقال الألباني في السلسلة الضعيفة (25) : موضوع اهـ.
والحاكم نفسه –عفا الله عنه- قد اتهم عبد الرحمن بن زيد بوضع الحديث، فكيف يكون حديثه صحيحاً؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة" (ص 69) :
ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه، فإنه نفسه قد قال في كتاب "المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم": عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه، قلت: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيراً اهـ.
انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني (1/38-47) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/66)
شروط العبادة في الإسلام
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي شروط العبادة الصحيحة في الإسلام؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ الفقيه محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله تعالى:
أولا: أن تكون العبادة موافقة للشريعة في (سببها) فأي إنسان يتعبد لله بعبادة مبنية على سبب لم يثبت بالشرع فهي عبادة مردودة، ليس عليها أمر الله ورسوله، ومثال ذلك الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الذين يحتفلون بليلة السابع والعشرين من رجب يدّعون أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج به في تلك الليلة فهو غير موافق للشرع مردود.
1 - لأنه لم يثبت من الناحية التاريخية أن معراج الرسول صلى الله عليه وسلم كان ليلة السابع والعشرين، وكتب الحديث بين أيدينا ليس فيها حرف واحد يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج به في ليلة السابع والعشرين من رجب ومعلوم أن هذا من باب الخبر الذي لا يثبت إلا بالأسانيد الصحيحة.
2 - وعلى تقدير ثبوته فهل من حقنا أن نحدث فيه عبادة أو نجعله عيدا؟ أبدا. ولهذا لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ورأى الأنصار لهم يومان يلعبون فيهما قال: (إن الله أبدلكم بخير منهما) وذكر لهم عيد الفطر وعيد الأضحى وهذا يدل على كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لأي عيد يحدث في الإسلام سوى الأعياد الإسلامية وهي ثلاثة: عيدان سنويان وهما عيد الفطر والأضحى وعيد أسبوعي وهو الجمعة. فعلى تقدير ثبوت أن الرسول صلى الله عليه وسلم عرج به ليلة السابع والعشرين من رجب - وهذا دونه خرط القتاد - لا يمكن أن نحدث فيه شيئا بدون إذن من الشارع.
وكما قلت لكم إن البدع أمرها عظيم وأثرها على القلوب سيئ حتى وإن كان الإنسان في تلك اللحظة يجد من قلبه رقة ولينا فإن الأمر سيكون بعد ذلك بالعكس قطعا لأن فرح القلب بالباطل لا يدوم بل يعقبه الألم والندم والحسرة وكل البدع فيها خطورة لأنها تتضمن القدح في الرسالة، لأن مقتضى هذه البدعة أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يتم الشريعة، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) . والغريب أن بعض المبتلين بهذه البدع تجدهم يحرصون غاية الحرص على تنفيذها، مع أنهم متساهلون فيما هو أنفع وأصح وأجدى.
لذلك نقول إن الاحتفال ليلة سبع وعشرين على أنها الليلة التي عرج فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم هذه بدعة؛ لأنها بنيت على سبب لم يأت به الشرع.
ثانيا: أن تكون العبادة موافقة للشريعة في (جنسها)
مثل أن يضحي الإنسان بفرس، فلو ضحى الإنسان بفرس، كان بذلك مخالفا للشريعة في جنسها. (لأن الأضحية لا تكون إلا من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم) .
ثالثا: أن تكون العبادة موافقة للشريعة في (قدرها) لو أن أحدا من الناس قال إنه يصلي الظهر ستا، فهل هذه العبادة تكون موافقة للشريعة؟ كلا؛ لأنها غير موافقة لها في القدر. ولو أن أحدا من الناس قال سبحان الله والحمد لله والله أكبر خمسا وثلاثين مرة دبر الصلاة المكتوبة فهل يصح ذلك؟ فالجواب: إننا نقول إن قصدت التعبد لله تعالى بهذا العدد فأنت مخطئ، وإن قصدت الزيادة على ما شرع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنك تعتقد أن المشروع ثلاثة وثلاثون فالزيادة لا بأس بها هنا، لأنك فصلتها عن التعبد بذلك.
رابعا: أن تكون العبادة موافقة للشريعة في (كيفيتها)
لو أن الإنسان فعل العبادة بجنسها وقدْرها وسببها، لكن خالف الشرع في كيفيتها، فلا يصح ذلك. مثال ذلك: رجل أحدث حدثا أصغر، وتوضأ لكنه غسل رجليه ثم مسح رأسه، ثم غسل يديه، ثم غسل وجهه، فهل يصح وضوؤه؟ كلا لأنه خالف الشرع في الكيفية.
خامسا: أن تكون العبادة موافقة للشريعة في (زمانها)
مثل أن يصوم الإنسان رمضان في شعبان، أو في شوال، أو أن يصلي الظهر قبل الزوال، أو بعد أن يصير ظل كل شيء مثله؛ لأنه إن صلاها قبل الزوال صلاها قبل الوقت، وإن صلى بعد أن يصير ظل كل شيء مثله، صلاها بعد الوقت فلا تصح صلاته.
ولهذا نقول إذا ترك الإنسان الصلاة عمدا حتى خرج وقتها بدون عذر فإن صلاته لا تقبل منه حتى لو صلى ألف مرة. وهنا نأخذ قاعدة مهمة في هذا الباب وهي كل عبادة مؤقتة إذا أخرجها الإنسان عن وقتها بدون عذر فهي غير مقبولة بل مردودة.
ودليل ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
سادسا: أن تكون العبادة موافقة للشريعة في (مكانها)
فلو أن إنسانا وقف في يوم عرفة بمزدلفة، لم يصح وقوفه، لعدم موافقة العبادة للشرع في مكانها. وكذلك على سبيل المثال لو أن إنسانا اعتكف في منزله، فلا يصح ذلك؛ لأن مكان الاعتكاف هو المسجد، ولهذا لا يصح للمرأة أن تعتكف في بيتها؛ لأن ذلك ليس مكانا للاعتكاف. والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى بعض زوجاته ضربن أخبية لهن في المسجد أمر بنقض الأخبية وإلغاء الاعتكاف ولم يرشدهن إلى أن يعتكفن في بيوتهن وهذا يدل على أنه ليس للمرأة اعتكاف في بيتها لمخالفة الشرع في المكان.
فهذه ستة أوصاف لا تتحقق المتابعة إلا باجتماعها في العبادة:
1- سببها.
2- جنسها.
3- قدرها.
4- كيفيتها.
5- زمانها.
6- مكانها.
انتهى.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/67)
الطائفة البريلوية
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي الطائفة البريلوية وما هي معتقداتهم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لقد ولدت البريلوية في الهند إبان الاحتلال البريطاني، وهي فرقة صوفية، ويعتقد أتباع هذه الفرقة ويروا أنفسهم في تجاوز الحب للأولياء والأنبياء عامة ورسولنا صلى الله عليه وسلم خاصة.
مؤسس هذه الفرقة اسمه أحمد رضا خان بن تقي علي خان والمولود في عام 1272 هـ (1851م) ، وسمى نفسه: "عبد المصطفى".
وُلد في مدينة برايلي في إقليم أوتار براديش، وكان تلميذا للميرزا غلام قادر بيج الذي كان بدوره شقيق الميرزا غلام أحمد القادياني: مؤسس القاديانية.
لقد كان ضئيل الحجم ولكنه كان أيضا معروفا بالذكاء والدهاء والقسوة، كما أنه كان بذيء اللسان وحاد الطبع سريع الغضب، كما كان يعاني من الأمراض المزمنة ويكثر الشكوى من الصداع المستمر وآلام الظهر.
وفي عام 1295 هـ (1874م) زار مكة ودرس على بعض علمائها.
من كتبه المشهورة: "أنباء المصطفى" , "خالص الاعتقاد".
من اعتقاد هذه الفرقة أن النبي صلى الله عليه وسلم والأولياء لديهم القدرة على التصرف في الخلق وما قد يحدث أو يكون.
وقد غلو خاصة في الرسول صلى الله عليه وسلم إلى درجة أنهم كادوا أن يعبدوه، فقد قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، وأنه لم يكن بشرا من بني آدم ولكنه كان نورا، إذ هو نور الله، وهم يجيزون الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالأولياء إلى آخر معتقداتهم الباطلة.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/68)
أعمال تُخرج صاحبها من الإسلام
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي الأعمال التي إذا عملها المسلم يكون مرتداً عن الإسلام؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله:
اعلم أيها المسلم أن الله سبحانه أوجب على جميع العباد الدخول في الإسلام والتمسك به والحذر مما يخالفه، وبعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم للدعوة إلى ذلك، وأخبر عزّ وجلّ أن من اتبعه فقد اهتدى، ومن أعرض عنه فقد ضل، وحذر في آيات كثيرات من أسباب الردة، وسائر أنواع الشرك والكفر، وذكر العلماء رحمهم الله في باب حكم المرتد، أن المسلم قد يرتد عن دينه بأنواع كثيرة من النواقض التي تحل دمه وماله، ويكون بها خارجاً عن الإسلام، ومن أخطرها وأكثرها وقوعاً عشرة نواقض ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيره من أهل العلم رحمهم الله جميعاً ونذكرها لك فيما يلي على سبيل الإيجاز، لتَحْذَرَها وتُحَذِّر منها غيرك، رجاء السلامة والعافية منها، مع توضيحات قليلة نذكرها بعدها:
الأول:
الشرك في عبادة الله تعالى، قال الله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يٌشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء / 116، وقال تعالى: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) المائدة / 72، ومن ذلك دعاء الأموات، والاستغاثة بهم، والنذر والذبح لهم كمن يذبح للجن أو للقبر.
الثاني:
من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم، فقد كفر إجماعاً.
الثالث:
من لم يُكَفِّر المشركين، أو شَكَّ في كفرهم، أو صحّح مذهبهم كفر.
الرابع:
من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر.
الخامس:
من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به فقد كفر، لقوله تعالى: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) محمد / 9.
السادس:
من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو ثوابه، أو عقابه كفر، والدليل قوله تعالى: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) التوبة / 65 و 66.
السابع:
السحر ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) البقرة / 102.
الثامن:
مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) المائدة / 51.
التاسع:
من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر؛ لقوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آل عمران / 85
العاشر:
الإعراض عن دين الله، لا يتعلمه ولا يعمل به؛ والدليل قوله تعالى: (ومن أظلم ممن ذٌكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون) السجدة / 22.
ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره، وكلها من أعظم ما يكون خطراً، وأكثر ما يكون وقوعاً. فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم. انتهى كلامه رحمه الله.
ويدخل في القسم الرابع: من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس، أفضل من شريعة الإسلام، أو أنها مساوية لها، أو أنه يجوز التحاكم إليها، ولو اعتقد أن الحكم بالشريعة أفضل، أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين، أو أنه كان سبباً في تخلف المسلمين، أو أنه يحصر في علاقة المرء بربه دون أن يتدخل في شؤون الحياة الأخرى.
ويدخل في القسم الرابع: أيضاً من يرى أن إنفاذ حكم الله بقطع يد السارق، أو رجم الزاني المحصن لا يناسب العصر الحاضر.
ويدخل في ذلك أيضاً : كل من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات، أو الحدود، أو غيرهما، وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة، لأنه بذلك يكون قد استباح ما حرم الله إجماعاً وكل من استباح ما حرّم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة، كالزنى والخمر والربا، والحكم بغير شريعة الله فهو كافر بإجماع المسلمين.
ونسأل الله أن يوفقنا جميعاً لما يرضيه، وأن يهدينا وجميع المسلمين صراطه المستقيم إنه سميع قريب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/69)
طفلة نصرانية تسأل عن أعياد المسلمين وشعارهم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل للمسلمين أعياد لا توجد عند النصارى وما هي؟
ما هو شعار الإسلام؟ مثلا عندنا الصليب فهل للإسلام شعار معين؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
المسلمون لديهم يومان فقط يحتفلون بهما وهما عيد الفطر الذي يأتي بعد رمضان وعيد الأضحى الذي في الحج. والمسلمون يحتفلون بعيد الأضحى بذبح شاة اتباعاً لما فعله النبي إبراهيم عليه السلام لما أمره الله عز وجل بذبح ابنه البكر إسماعيل. ولما أخبر ابنه بهذا الأمر أطاعه وأخبره أنه سوف يكون صابراً. ولما أراد إبراهيم أن يشرع بذبح إسماعيل فدى الله تعالى إسماعيل من السماء بشاة عظيمة يذبحها بدلاً منه ومن هنا صارت سنة ذبح الشاة كذكرى لهذين النبيين عليهما السلام. وهو اتباع لسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. والمسلمون فقط يحتفلون بهذه الأيام بينما لا يحتفلون بأعياد النصارى.
أما بالنسبة للرمز أو الشعار فالمسلمون يعبدون الله ويرفضون أي أوثان ونحن نعتقد أن النصارى يتخذون الصليب كرمز لربهم أو ابن ربهم كما يزعمون وهم يبحثون عن البركة والحماية من هذا الصليب. والمسلمون يطلبون البركة والحماية من الله وحده ولذا ليس للمسلمين رمز كصليب النصارى. بعض المسلمين اخترعوا الهلال كرمز مقابل الصليب ولكن هذا ليس صحيحاً وهو بدعة في الإسلام.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/70)
الشهادة لمعيّن بالجنة والنار
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت محاضرة لبعض المشايخ يقولون أنهم سلفيون ويقولون بما يلي: أمي كافرة وستدخل النار أعلم ذلك. يقولون أنهم متأكدون من دخول شخص النار. فهل هذا مباح؟ هل نقول أن شخصاً ما سيدخل جهنم بسبب دينه؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
القاعدة في مذهب أهل السنة والجماعة؛ أن الشهادة لمعيّن بالجنة والنار من أمور العقيدة التي تؤخذ بالتلقي من الكتاب والسنة، ولا مجال للعقل بالاجتهاد فيها.
فمن شهد له الشرع - الكتاب والسنة - بجنة أو نار؛ شهدنا له، ومع ذلك فنحن نرجو للمحسن الجنة، ونخاف على المسيء النار، والله أعلم بالخواتيم.
والشهادة بالجنة والنار تنقسم إلى قسمين:-
1. الشهادة العامة: المتعلقة بوصف، كأن تقول: من أشرك بالله تعالى شركاً أكبر فقد كفر وخرج من الدين وهو في النار.
وكذلك نقول: من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة. ومثل هذه النصوص وغيرها كثيرة في القرآن الكريم، والسنة النبوية.
وإذا سأل شخص: هل الذي يدعو غير الله ويستغيث به في الجنة أم في النار؟ . فنقول هو كافر وفي النار إذا قامت عليه الحجة والدليل وأصرّ ومات على ذلك.
وإذا قيل: من حج فلم يرفث ولم يفسق؛ ومات بعد حجه - مثلاً فأين مصيره؟ قلنا هو في الجنة، أو من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله " فهو في الجنّة ونحو ذلك.
كلٌّ هذا للوصف لا للشخص المعيّن.
2. الشهادة الخاصة أو المعيّنة: لشخص بذاته واسمه أنه في الجنة أو في النار، فهذه لا تجوز إلا في حق من أخبر الله تعالى عنه، أو رسوله أنه في الجنّة أو في النار.
فمن شهد لهم الله أو رسوله بالجنة بأعيانهم فهم من أهلها قطعا كالعشرة المبشرين بالجنة، وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة، أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنه.
وممن شهد له الشّرع بالنار على التعيين فهو من أهلها كأبي لهب، وامرأته، وأبي طالب، وعمرو بن لحي، وغيرهم.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة بمنّه وكرمه وصلى الله على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/71)
حكم من يسب الحياة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز لإنسان أن يشتم الحياة إذا غضب أو ضاق منها نرجو منكم التوجيه في ذلك؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يحل للإنسان إذا ضاق من الحياة أن يشتم الحياة لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال تعالى: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي أقلب الليل والنهار) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر) أي هو المصرف للدهر وعلى الإنسان إذا ابتلي ببلية أن يصبر ويحتسب فإن الله أمر بالصبر.
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (تلك من أنباء الغيب نُوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين) هود /49، وليعلم الإنسان أنه ما من مصيبة إلا في الدنيا أعظم منها فإذا علم ذلك هانت عليه مصيبته.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين لمجلة الدعوة العدد 1757 ص 45.(1/72)
هل يعذب صاحب الكبيرة إذا رجحت حسناته على سيئاته؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أجد تعارضا في أقوال العلماء بين أمرين في أنهم يذكرون أن فاعل الكبيرة تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وفي أنهم يذكرون أن من رجحت حسناته على سيئاته فهو من أهل الجنة فما حل هذا الإشكال. وهو كالتالي فاعل الكبيرة الواحدة إن رجحت حسناته على سيئاته هل نقول هو موعود بالجنة ولا يكون من أهل النار أم نقول هو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا تعارض بين أقوال أهل العلم في هذه المسألة بحمد الله، وبيان ذلك كالتالي:
أولا:
اتفق أهل السنة والجماعة على أن صاحب الكبيرة إن لقي الله تعالى تائبا منها توبة نصوحا لم يعذبه الله عليها، ولم يؤاخذه بها؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وقد قال الله تعالى:
(إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) الفرقان / 70
ثانيا:
من لقي الله ولم يتب من كبيرته: فهو في مشيئة الله: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، خلافا لمن أوجب نفوذ الوعيد في أهل الكبائر، بل حكم بخلودهم في النار لأجل ذلك، كالخوارج والمعتزلة. أو نفى أن يلحق الوعيد أحدا من أهل القبلة، من غلاة المرجئة.
قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) النساء / 48
قال ابن جرير الطبري رحمه الله:
" وقد أبانت هذه الآية أنّ كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن كبيرته شركًا بالله " انتهى.
"تفسير الطبري" (8 / 450) .
ثالثا:
من لقي الله تعالى من أهل التوحيد من أصحاب الذنوب، من الكبائر وغيرها: فمن رجحت حسناته على سيئاته، دخل الجنة ولم يعذب، ومن رجحت سيئاته على حسناته دخل النار على قدر سيئاته، ثم مآله إلى الجنة.
قال الله تعالى:
(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) الأعراف / 8 - 9
وقال سبحانه: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) القارعة / 6 - 9
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
" وأما الصحابة وأهل السنة والجماعة فعلى أن أهل الكبائر يخرجون من النار، ويشفع فيهم، وأن الكبيرة الواحدة لا تحبط جميع الحسنات؛ ولكن قد يحبط ما يقابلها عند أكثر أهل السنة، ولا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما لا يحبط جميع السيئات إلا التوبة، فصاحب الكبيرة إذا أتى بحسنات يبتغي بها رضا الله أثابه الله على ذلك وإن كان مستحقا للعقوبة على كبيرته "
انتهى. "مجموع الفتاوى" (10/321-322) .
وقال ابن القيم رحمه الله:
" أقوام خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فعملوا حسنات وكبائر ولقوا الله مصرين عليها غير تائبين، منها لكن حسناتهم أغلب من سيئاتهم، فإذا وزنت بها ورجحت كفة الحسنات فهؤلاء أيضا ناجون فائزون. قال تعالى: (والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون)
قال حذيفة وعبد الله بن مسعود وغيرهما من الصحابة: " يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: فمن رجحت حسناته على سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته بواحدة دخل النار، ومن استوت حسناته وسيئاته فهو من أهل الأعراف ".
وهذه الموازنة تكون بعد قصاص واستيفاء المظلومين حقوقهم من حسناته، فإذا بقي شيء منها وزن هو وسيئاته " انتهى.
"طريق الهجرتين" (1 / 562) .
رابعا:
لا يعني ذلك أن من رجحت سيئاته بواحدة دخل النار؛ بل هو مستحق للعذاب بفعله، ثم هو ـ مع ذلك ـ داخل في مشيئة الله تعالى، كما هي قاعدة أهل السنة في أهل الكبائر؛ إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه.
قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله:
" س: ما الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه» [متفق عليه] ، وبين ما تقدم من أن من رجحت سيئاته بحسناته دخل النار؟
جـ: لا منافاة بينهما، فإن من يشأ الله أن يعفو عنه يحاسبه الحساب اليسير الذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالعرض، وقال في صفته: «يدنو أحدكم من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقول: عملت كذا وكذا، فيقول: نعم، ويقول: عملت كذا وكذا، فيقول: نعم. فيقرره ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم» [متفق عليه] .
وأما الذين يدخلون النار بذنوبهم فهم ممن يناقش الحساب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب عذب» [متفق عليه] ". انتهى.
"أعلام السنة المنشورة" (171) .
والله تعالى أعلم.
وللاستزادة: راجع إجابة السؤال رقم: (98964) ، (107241) ، (112113) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/73)
كيف يتيقن الإنسان من صحة إيمانه؟
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف يتأكد الإنسان من صحة إيمانه وهو في شك عظيم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الله تعالى: (ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) العنكبوت/1-3
قال السعدي رحمه الله:
" يخبر تعالى عن تمام حكمته وأن حكمته لا تقتضي أن كل من قال " إنه مؤمن " وادعى لنفسه الإيمان، أن يبقوا في حالة يسلمون فيها من الفتن والمحن، ولا يعرض لهم ما يشوش عليهم إيمانهم وفروعه، فإنهم لو كان الأمر كذلك، لم يتميز الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل، ولكن سنته وعادته في الأولين وفي هذه الأمة، أن يبتليهم بالسراء والضراء، والعسر واليسر، والمنشط والمكره، والغنى والفقر، وإدالة الأعداء عليهم في بعض الأحيان، ومجاهدة الأعداء بالقول والعمل ونحو ذلك من الفتن، التي ترجع كلها إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة، والشهوات المعارضة للإرادة، فمن كان عند ورود الشبهات يثبت إيمانه ولا يتزلزل، ويدفعها بما معه من الحق، وعند ورود الشهوات الموجبة والداعية إلى المعاصي والذنوب، أو الصارفة عن ما أمر الله به ورسوله، يعمل بمقتضى الإيمان، ويجاهد شهوته، دل ذلك على صدق إيمانه وصحته.
ومن كان عند ورود الشبهات تؤثر في قلبه شكا وريبا، وعند اعتراض الشهوات تصرفه إلى المعاصي أو تصدفه عن الواجبات، دلَّ ذلك على عدم صحة إيمانه وصدقه.
والناس في هذا المقام درجات لا يحصيها إلا الله، فمستقل ومستكثر " انتهى.
"تفسير السعدي" (ص 626)
فمن عصفت بقلبه الفتن عند ورودها، ولم يستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وهي كلمة التوحيد ولوازمها، وجعل قلبه يتنقل بكل واد، وإنما أمره في الحيرة والتردد، وحاله حال المذبذبين المتحيرين، فتارة مع هؤلاء، وتارة مع هؤلاء، وتارة لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، ذو قلب محجوب، لا يتخلله الوعظ، ولا يثبت على الصراط؛ فمن كانت هذه حاله فليت أمه لم تلده، إلا أن يتداركه الله برحمته، فيغفر زلته، ويقيل عثرته.
فليبادر عبد خاف على نفسه، ونصح لها: أن يعود إلى الله، وإلى الإيمان به وبرسوله، وإلى اليقين بموعوده، وإلى التصديق بكتابه، وإلى الكفر بالطاغوت وأوليائه، وإلى موالاة أولياء الرحمن صفوة خلقه، ومعاداة أولياء الشيطان.
روى مسلم (118) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا)
وروى الإمام أحمد (15489) والحاكم (96) عَنْ كُرْزٍ الْخُزَاعِيِّ رضي الله عنه قَالَ:
سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هل للإسلام من منتهى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم أيما أهل بيت من العرب والعجم أراد الله بهم خيرا أدخل عليهم الإسلام، ثم تقع الفتن كأنها الظلل) صححه الألباني في الصحيحة" (51) .
أما حال المؤمنين فهو حال المصدقين الموقنين، الذين يقولون سمعنا وأطعنا، لا تزيدهم الفتن إلا إيمانا ويقينا، فكيف بدواعي الإيمان من الكلم الطيب والعمل الصالح؟
(وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) التوبة /124، 125
(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) الإسراء/82
(وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) الأحزاب / 22
وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا طَوِيلًا عَنْ الدَّجَّالِ فَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَنْ قَالَ: (يَأْتِي الدَّجَّالُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا عَنْكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَهُ فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ لَا. فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ فَيَقُولُ حِينَ يُحْيِيهِ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الْيَوْمَ. فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَقْتُلُهُ. فَلَا أُسَلَّطُ عَلَيْهِ) متفق عليه، واللفظ للبخاري (1882)
فهذه حال المؤمن: على خير حال، في كل حال، يزداد بالطاعة إيمانا، ولا تضره فتنة ما اختلف الليل والنهار، روى مسلم (144) عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ) .
قال النووي:
" قَالَ صَاحِب التَّحْرِير: مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الرَّجُل إِذَا تَبِعَ هَوَاهُ وَارْتَكَبَ الْمَعَاصِي دَخَلَ قَلْبه بِكُلِّ مَعْصِيَة يَتَعَاطَاهَا ظُلْمَة , وَإِذَا صَارَ كَذَلِكَ اُفْتُتِنَ وَزَالَ عَنْهُ نُور الْإِسْلَام. وَالْقَلْب مِثْل الْكُوز فَإِذَا اِنْكَبَّ اِنْصَبَّ مَا فِيهِ، وَلَمْ يَدْخُلهُ شَيْء بَعْد ذَلِكَ " انتهى.
والخلاصة:
أن العبد ما دام يسمع ويطيع لمولاه، ويوالي فيه، ويعادي فيه، ولا شيء أحب إليه من طاعة سيده ومولاه، ولا أكره لديه من عصيانه والبعد عن صراطه، ولا تزيده الفتن إلا تعلقا به إيمانا ويقينا، فهو المؤمن حقا.
وقد روى الإمام أحمد (178) عن عُمَر رضي الله عنه أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ كَانَ مِنْكُمْ تَسُرُّهُ حَسَنَتُهُ وَتَسُوءُهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ) صححه الألباني في الصحيحة (430)
ومن انشغل بالهوى عن الهدى، وآثر محبة عدوه على طاعة ربه، وكلما وردت فتنة عصفت بقلبه، ثم لا يزال في الشك والحيرة، قليل الحظ من اليقين: فذاك مدخول الإيمان.
وقول السائل: "وهو في شك عظيم":
إن كان يقصد أنه في شك عظيم من إيمانه بالله: فمن شك في الإيمان فليس بمؤمن.
وإن كان يقصد أنه في شك من صحة إيمانه، هل هو مؤمن أم لا؟
فقد قدمنا ما يستطيع به أن يتأكد من ذلك، إثباتا ونفيا.
فإن كان السائل في شك من دينه، وله في ذلك من نفسه أمارات فليتق الله، وليراجع نفسه، وليقبل على ربه وعلى طاعته، ولا يلتفت إلى ما يعرض له من الشبهات، وليصاحب أهل الإيمان، ولا يصاحب أهل العصيان وأهل الكفران، ولا يسمع لهم، ولا يقرأ لهم، وليرض بالله ودينه ورسوله.
أما إن كان ما يعرض له مجرد هواجس نفسية، أو وساوس شيطانية، فلا يلتفت إليها، ولينصرف عنها، وليقبل على الله.
وقد روى البخاري (3276) ومسلم (134) عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ) .
قال النووي:
" َمَعْنَاهُ: إِذَا عَرَضَ لَهُ هَذَا الْوَسْوَاس فَلْيَلْجَأْ إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي دَفْع شَرّه عَنْهُ , وَلْيُعْرِضْ عَنْ الْفِكْر فِي ذَلِكَ , وَلْيَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخَاطِر مِنْ وَسْوَسَة الشَّيْطَان , وَهُوَ إِنَّمَا يَسْعَى بِالْفَسَادِ وَالْإِغْوَاء فَلْيُعْرِضْ عَنْ الْإِصْغَاء إِلَى وَسْوَسَته وَلْيُبَادِرْ إِلَى قَطْعهَا بِالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا "
انتهى.
وإن من علامات صلاح القلب عن تلك الوساوس الشيطانية، والعوارض الإبليسية أن يستعظم أمرها، حتى لو خير بين أن تستقر في نفسه تلك الخواطر الرديئة، وبين الموت، لكان الموت أحب إليه من ذلك:
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ يُعَرِّضُ بِالشَّيْءِ، لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ؟!
فَقَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ؛ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ)
رواه أبو داود (5112) ، وصححه الألباني.
نسأل الله - لنا ولإخواننا المسلمين - أن يثبت قلوبنا على دينه.
للاستزادة: تراجع إجابة السؤال رقم: (82866) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/74)
هل الإيمان بالقلب يكفي ليكون الإنسان مسلماً؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الإيمان بالقلب يكفي ليكون الإنسان مسلماً بعيداً عن الصلاة والصوم والزكاة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"الإيمان بالقلب لا يكفي عن الصلاة وغيرها، بل يجب أن يؤمن بقلبه، وأن الله واحد لا شريك له، وأنه ربه وخالقه، ويجب أن يخصه بالعبادة سبحانه وتعالى، ويؤمن بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله حقاً إلى جميع الثقلين، كل هذا لابد منه، فهذا أصل الدين وأساسه كما يجب على المكلف أن يؤمن بكل ما أخبر به الله ورسوله من أمر الجنة والنار والصراط والميزان وغير ذلك مما دل عليه القرآن الكريم والسنة الصحيحة المطهرة، ولابد مع ذك النطق بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، كما أنه لابد من الصلاة، وبقية أمور الدين، فإذا صلى فقد أدى ما عليه، وإن لم يُصلِّ كفر؛ لأن ترك الصلاة كفر.
أما الزكاة والصيام والحج وبقية الأمور الواجبة إذا اعتقدها وأنها واجبة، ولكن تساهل فلا يكفر بذلك، بل يكون عاصياً، ويكون إيمانه ضعيفاً ناقصاً؛ لأن الإيمان يزيد وينقص؛ يزيد الإيمان بالطاعات والأعمال الصالحات، وينقص بالمعاصي عند أهل السنة والجماعة.
أما الصلاة وحدها خاصة فإن تركها كفر عند كثير من أهل العلم وإن لم يجحد وجوبها، وهو أصح قولي العلماء، بخلاف بقية أمور العبادات، من الزكاة والصوم والحج ونحو ذلك، فإن تركها ليس بكفر أكبر على الصحيح، ولكن نقص في الإيمان، وضعف في الإيمان، وكبيرة عظيمة من كبائر الذنوب، فترك الزكاة كبيرة عظيمة، وترك الصيام كبيرة عظيمة، وترك الحج مع الاستطاعة كبيرة عظيمة، ولكن لا يكون كفراً أكبر إذا كان مؤمناً بأن الزكاة حق، وأن الصيام حق، وأن الحج لمن استطاع إليه سبيلاً حق، ما كذَّب بذلك ولا أنكر وجوب ذلك، ولكنه تساهل في الفعل، فلا يكون كافراً بذلك على الصحيح.
أما الصلاة فإذا تركها يكفر في أصح قولي العلماء كفراً أكبر والعياذ بالله وإن لم يجحد وجوبها كما تقدم؛ لقول النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ) أخرجه مسلم في صحيحه، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ) أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة بإسناد صحيح، والمرأة مثل الرجل في ذلك. نسأل الله العافية والسلامة". انتهى.
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله
"فتاوى نور على الدرب" لابن باز (1/27، 28) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/75)
حديث إخراج أناس من النار لم يعملوا خيرا قط لا يعني الكفار
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف نجمع بين حديث: (أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان) ... قال: (فيقبض قبضة من النار - أو قال قبضتين - ناسا لم يعملوا لله خيرا قط..) وبين خلود الكافر في النار؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا تعارض بين إخراج أناس من النار جاء في وصفهم أنهم (لم يعملوا خيرا قط) ، وبين الآيات الكثيرة التي تقرر خلود الكفار في نار جهنم، وذلك لأن هؤلاء الموصوفين في الحديث ليسوا من الكفار، بل هم من المؤمنين الموحدين، ولكنهم فرطوا في جنب الله، وأسرفوا على أنفسهم حتى تركوا أكثر العبادات والطاعات، ولم يبق لهم ما يدخلهم الجنة إلا الشفاعة.
والحديث يرويه الإمام مسلم في صحيحه (رقم/183) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ فِي النَّارِ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا، وَيُصَلُّونَ، وَيَحُجُّونَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ. فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتْ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ.
فَيَقُولُ: ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ.
فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا.
ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ.
فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا أَحَدًا.
ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ.
فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا.
وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)
فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: شَفَعَتْ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، قَدْ عَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهَرُ الْحَيَاةِ، فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِي رِقَابِهِمْ الْخَوَاتِمُ يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ)
والحديث يرويه أيضا الإمام أحمد في " المسند " (18/394) من طريق أخرى.
وقد بين العلماء أن هذه الشفاعة هي لمن قال لا إله إلا الله، وجاء بأصل التوحيد، ولكنه لم يعمل خيرا قط.
يقول ابن حجر رحمه الله:
" وشفاعة أخرى هي شفاعته فيمن قال لا إله إلا الله ولم يعمل خيرا قط " انتهى.
" فتح الباري " (11/428)
ويقول الحافظ ابن عبد البر رحمه الله – في شرح رواية أبي هريرة لحديث الرجل الذي أوصى بنيه أن يحرقوه ويذروا نصفه في البر ونصفه في البحر خوفا من عقاب الله، حيث جاء فيها: (قال رجل لم يعمل خيرا قط إلا التوحيد) – قال ابن عبد البر رحمه الله:
" وهذه اللفظة – يعني (إلا التوحيد) - إن صحت رفعت الإشكال في إيمان هذا الرجل، وإن لم تصح من جهة النقل فهي صحيحة من جهة المعنى، والأصول كلها تعضدها، والنظر يوجبها؛ لأنه محال غير جائز أن يغفر للذين يموتون وهم كفار، لأن الله عز وجل قد أخبر أنه لا يغفر أن يشرك به لمن مات كافرا، وهذا ما لا مدفع له، ولا خلاف فيه بين أهل القبلة، وفي هذا الأصل ما يدلك على أن قوله في هذا الحديث: (لم يعمل حسنة قط) ، أو (لم يعمل خيرا قط لم يعذبه) إلا ما عدا التوحيد من الحسنات والخير، وهذا سائغ في لسان العرب جائز في لغتها، أن يؤتى بلفظ الكل والمراد البعض، والدليل على أن الرجل كان مؤمنا قوله حين قيل له: لم فعلت هذا؟ فقال: من خشيتك يا رب)
والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق، بل ما تكاد تكون إلا لمؤمن عالم، كما قال الله عز وجل: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) قالوا: كل من خاف لله فقد آمن به وعرفه ومستحيل أن يخافه من لا يؤمن به. وهذا واضح لمن فهم وألهم رشده.
ومثل هذا الحديث في المعنى ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا أبو صالح حدثني الليث عن ابن العجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلا لم يعمل خيرا قط وكان يداين الناس فيقول لرسوله: خذ ما يسر واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا. فلما هلك قال الله: هل عملت خيرا قط؟ قال لا، إلا أنه كان لي غلام فكنت أداين الناس، فإذا بعثته يتقاضى قلت له خذ ما يسر واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا، قال الله قد تجاوزت عنك)
قال أبو عمر: فقول هذا الرجل الذي لم يعمل خيرا قط غير تجاوزه عن غرمائه (لعل الله يتجاوز عنا) : إيمان وإقرار بالرب، ومجازاته، وكذلك قول الآخر: (خشيتك يا رب) إيمان بالله واعتراف له بالربوبية والله أعلم " انتهى.
" التمهيد " (18/40-41)
ويقول الإمام ابن خزيمة رحمه الله – وقد أورد هذا الحديث تحت باب: " ذكر الدليل أن جميع الأخبار التي تقدم ذكري لها إلى هذا الموضع في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في إخراج أهل التوحيد من النار إنما هي ألفاظ عامة مرادها خاص ":
" هذه اللفظة: (لم يعملوا خيرا قط) من الجنس الذي يقول العرب، ينفي الاسم عن الشيء لنقصه عن الكمال والتمام، فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل: لم يعملوا خيرا قط على التمام والكمال، لا على ما أوجب عليه وأمر به، وقد بينت هذا المعنى في مواضع من كتبي " انتهى.
" التوحيد " (2/732)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/76)
طلب منها زوجها الحلف فحلفت كاذبة
[السُّؤَالُ]
ـ[أعيش مع زوجي وأهله في منزل واحد تقريباً. أحد معارف زوجي أقنعه بأن يشتري قطعة أرض منه ونحن لا نملك عشر المبلغ المطلوب وقد اقتنع زوجي بذلك وحاولت أن اقنع زوجي بان لا نشتري الأرض لأننا سوف نقع في الدين فلم يقتنع. وحتى أمنعه من الشراء تركتهم يذهبون إلى مناسبة وعبثت بخزانة المنزل لإيهامه بأن البيت قد تعرض لعملية سطو ثم لحقت بهم ولما عدت أنا وزوجي اقتنع بذلك وتظاهرت بعدم معرفتي للأمر فقمت بتفقد الأغراض فوجدت أن مبلغا من المال قد سرق (المبلغ كان موجودا أصلا ولكني صرفته على بيتي وزوجي العاطل عن العمل وهو لا يعلم) وقلت أن المبلغ سرق فاقتنع زوجي بروايتي فقرر زوجي أن نحلف يمينا أنا وزوجي وإخوانه بأن لا علم لنا بما جرى فحلف الجميع وحلفت أنا معهم ومنذ تلك اللحظة وأنا أعيش في صراع مع نفسي واقضي اليوم ابكي خائفة من ربي على زوجي وأطفالي فأنا اشعر بالذنب.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الحلف الكاذب يسمى باليمين الغموس، وهو كبيرة من كبائر الذنوب؛ لما روى البخاري (6675) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْكَبَائِرُ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ) .
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبًا لِيَقْتَطِعَ مَالَ رَجُلٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ولَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ) رواه البخاري (2677) ومسلم (138) .
وقد أخطأت في حلفك بالله كاذبة وإن كان مقصدك الأول صالحا، والواجب عليك أن تتوبي إلى الله تعالى توبة صادقة بالندم على ما فعلت، والعزم على عدم العودة إلى ذلك أبدا.
وهذه اليمين الكاذبة لا كفارة فيها عند كثير من أهل العلم؛ لأنها أعظم من أن تكفّر.
قال الإمام مالك رحمه الله في اليمين الغموس: " الْغَمُوسُ: الْحَلِفُ عَلَى تَعَمُّدِ الْكَذِبِ. . . وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفِّرَهُ الْكَفَّارَةُ " انتهى باختصار من "التاج والإكليل" (4/406) ، ونحوه في
"المدونة" (1/577) .
وقال ابن قدامة رحمه الله: " (ومن حلف على شيء , وهو يعلم أنه كاذب , فلا كفارة عليه ; لأن الذي أتى به أعظم من أن تكون فيه الكفارة) هذا ظاهر المذهب , نقله الجماعة عن أحمد، وهو قول أكثر أهل العلم , منهم ابن مسعود , وسعيد بن المسيب , والحسن , ومالك , والأوزاعي , والثوري , والليث , وأبو عبيد , وأبو ثور , وأصحاب الحديث , وأصحاب الرأي من أهل الكوفة، وهذه اليمين تسمى يمين الغموس ; لأنها تغمس صاحبها في الإثم. قال ابن مسعود: كنا نعدّ من اليمين التي لا كفارة لها , اليمين الغموس. وعن سعيد بن المسيب , قال: هي من الكبائر , وهي أعظم من أن تكفر.
وروي عن أحمد , أن فيها الكفارة. وروي ذلك عن عطاء , والزهري , والحكم , والبتي. وهو قول الشافعي ; لأنه وجدت منه اليمين بالله تعالى , والمخالفة مع القصد , فلزمته الكفارة , كالمستقبلة " انتهى من "المغني" (9/392) .
وأما المال الذي أخذت، فإن كان قد صرف في النفقة التي تحتاجينها أنت وعيالك فلا حرج عليك فيه، وإن كنت توسعت في الإنفاق زيادة على النفقة بالمعروف، لزمك رده إلى زوجك، ولو بدون علمه.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/77)
عمل الجوارح ركن وجزء من الإيمان لا يصح بدونه
[السُّؤَالُ]
ـ[بعض الناس يرون أن أعمال الجوارح شرط كمال للإيمان، وليست من أركانه الأصلية، أو بتعبير آخر: ليست شرطا في صحته، وقد كثر اختلاف الناس حول هذه المسألة؛ فنرجو تبيين مدى صحة هذا الكلام أثابكم الله، ونرجو تبيين منزلة عمل الجوارح من الإيمان؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الذي دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه السلف الصالح أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وأنه لا إيمان إلا بعمل، كما أنه لا إيمان إلا بقول، فلا يصح الإيمان إلا باجتماعهما، وهذه مسألة معلومة عند أهل السنة، وأما القول بأن العمل شرط كمال فهذا قد صرح به الأشاعرة ونحوهم، ومعلوم أن مقالة الأشاعرة في الإيمان هي إحدى مقالات المرجئة.
قال الشافعي رحمه الله: " وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر " انتهى نقلا عن "شرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي" (5/956) ، مجموع الفتاوى (7/209) .
وقال الآجري رحمه الله: " اعلموا رحمنا الله تعالى وإياكم: أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح.
ثم اعلموا أنه لا تجزيء المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقا، ولا تجزيء معرفة بالقلب ونطق باللسان حتى يكون عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال كان مؤمنا. دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين " انتهى من "الشريعة" (2/611) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وهذه المسألة لها طرفان: أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر.
والثاني: في إثبات الكفر الباطن.
فأما الطرف الثاني فهو مبني على مسألة كون الإيمان قولا وعملا كما تقدم، ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح " انتهى من "مجموع الفتاوى" (7/616) .
وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: " لا خلاف بين الأمة أن التوحيد: لابد أن يكون بالقلب، الذي هو العلم؛ واللسان الذي هو القول، والعمل الذي هو تنفيذ الأوامر والنواهي، فإن أخل بشيء من هذا، لم يكن الرجل مسلما.
فإن أقر بالتوحيد، ولم يعمل به، فهو كافر معاند، كفرعون وإبليس. وإن عمل بالتوحيد ظاهراً، وهو لا يعتقده باطناً، فهو منافق خالصاً، أشر من الكافر والله أعلم " انتهى من "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" (2/124) .
وقال أيضا: " اعلم رحمك الله أن دين الله يكون على القلب بالاعتقاد وبالحب وبالبغض، ويكون على اللسان بالنطق وترك النطق بالكفر، ويكون على الجوارح بفعل أركان الإسلام، وترك الأفعال التي تكفّر، فإذا اختل واحدة من هذه الثلاث كفر وارتد " انتهى من "الدرر السنية" (10/87) .
وكلام أهل السنة في هذه المسألة مستفيض، ومنه ما أفتت به اللجنة الدائمة في التحذير من بعض الكتب التي تبنت مقالة أن عمل الجوارح شرط كمال للإيمان، وصرحت اللجنة أن هذا مذهب المرجئة. وينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (2/127 – 139) المجموعة الثانية.
فعمل الجوارح عند أهل السنة ركن وجزء من الإيمان، لا يصح الإيمان بدونه، وذهابه يعني ذهاب عمل القلب؛ لما بينهما من التلازم، ومن ظن أنه يقوم بالقلب إيمان صحيح، دون ما يقتضيه من عمل الجوارح، مع العلم به والقدرة على أدائه، فقد تصور الأمر الممتنع، ونفى التلازم بين الظاهر والباطن، وقال بقول المرجئة المذموم.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/78)
الأفضل للمرأة لبس جورب وإن كان ثوبها ساتراً لقدميها
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا كانت عباءة المرأة طويلة إلى حد يستر قدميها، فهل يجب عليها أن ترتدي الجوربين؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
المطلوب من المرأة المسلمة ستر جميع جسمها عن الرجال، ولذلك رخِّص لها في إرخاء ثوبها قدر ذراع من أجل ستر قدميها، والذي ينبغي على المرأة أن تستر قدميها إما بثوب ضافٍ وإما بلبس جورب أو شبهها فإذا سترت قدميها فلا يجب عليها أن تلبس الجورب، ولكن إذا لبسته كان هذا من الزيادة في الستر وهو أمر مستحسن. والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/79)
أسباب ضعف الإيمان
[السُّؤَالُ]
ـ[لدي بعض المشاكل في إيماني بعض الأحيان، أعلم بأنها من الشيطان، هل يمكن أن تذكر لي بعض القصص التي تقوي إيماني؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إن الإنسان قد تعتريه الغفلة فيضف إيمانه، وعلاج ذلك الإكثار من الاستغفار والمداومة على ذكر الله، وقراءة القرآن بتدبر وحضور قلب مع العمل بما فيه، فإن في ذلك جلاء للقلب من غفلته، وإيقاظه من رقدته، فالله الله بالإكثار من الصالحات.
ولضعف الإيمان أسباب منها:
أولا: الجهل بأسماء الله وصفاته يوجب نقص الإيمان لأن الإنسان إذا نقصت معرفته بأسماء الله وصفاته نقص إيمانه.
ثانيا: الإعراض عن التفكير في آيات الله الكونية والشرعية , فإن هذا يسبب نقص الإيمان , أو على الأقل ركوده وعدم نموه.
ثالثا: فعل المعصية فإن للمعصية آثاراً عظيمة على القلب وعلى الإيمان ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) . الحديث رواه البخاري (2475) ومسلم (57) .
رابعا: ترك الطاعة فإن ترك الطاعة سبب لنقص الإيمان , لكن إن كانت الطاعة واجبة وتركها بلا عذر فهو نقص يلام عليه ويعاقب , وإن كانت الطاعة غير واجبة , أو واجبة لكن تركها بعذر فإنه نقص لا يلام عليه.
مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين 1/52
ونوصيك أختي السائلة بالإكثار من قراءة القرآن وتدبر آياته ففيه شفاء لما في صدرك بإذن الله، قال تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) الإسراء/ 82
كما نوصيك بتدبر قصص الأنبياء، فالله أوردها في كتابه ليثبت بها فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وأفئدة المؤمنين معه، قال تعالى: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) هود/120.
وننصحك بقراءة السؤال رقم (14041) .
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/80)
روح الميت لا تعود إلى أهله وبيته
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يشعر موتى المسلمون بأحاسيس أقربائهم بعد الموت؟ أحزانهم، بكائهم، سعادتهم وإن كانوا يذكرون الميت أم لا يذكرونه؟
هل تعود روح المسلم إلي هذا العالم لتعرف ماذا يحدث للعائلة؟ سمعت أن الروح تعود لمدة أربعين يوماً إلي المكان الذي قبضت فيه. هل نرى أو نشعر بأرواح الأقرباء؟ وما مدى تصديق الأحلام عن الموتى؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الإنسان إذا مات يغيب عن هذه الحياة ويصير إلى عالم آخر، ولا تعود روحه إلى أهله ولا يشعرون بشيء عنه، وما ذكر من عودة الروح لمدة أربعين يوما فهي من الخرافات التي لا أصل لها، والميت كذلك لا يعلم بشيء من أحوالهم لأنه غائب عنهم في نعيم أو عذاب، ولكن قد يُطلع الله بعض الموتى على بعض أحوال أهله ولكن دون تحديد. وقد جاءت آثار لا يعتمد عليها بأن الأموات قد يعرفون أشياء من أحوال أهلهم، واما الأحلام أي الرؤى فمنها ما هو حق ومنها ما هو من تلاعب الشيطان، فقد يعرف الأحياء بطريق الرؤيا الصالحة شيئا من أحوال الميت، ولكن ذلك يعتمد على صدق الرائي، وصدق الرؤية، وقدرة المعبّر لتلك الرؤيا، ومع ذلك فلا يصح الجزم بمضمونها إلا أن يقوم دليل على ذلك، فقد يرى الحي قريبه الميت فيوصيه بأشياء ويذكر له بعض الأمور التي يمكن معرفة صدقها إذا طابقت الواقع وقد حصل من هذا وقائع بهذا الشأن فمنها ما يكون مطابقا للواقع، ومنها ما لا تعلم صحته ومنها ما يعلم كذبه فهي ثلاثة أقسام، فيجب أن يراعى ذلك بالتعامل مع الأخبار والروايات والقصص المتعلقة بأحوال الموتى.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ: عبد الرحمن البراك.(1/81)
حلفت ألا تأكل من مالهم إذا لم يرجعوا عن التعامل بصكوك اختلف العلماء في حكمها
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أعيش في دولة خليجية وظهر هناك ما يسمى بالصكوك الوطنية ويقولون إنها حلال فاشتركت أنا وعائلتي ولكن بعد فترة ظهر بعض المشايخ ومنهم كبير المفتيين في إحدى إمارات الدولة وقال إنهم عندما راجعوا هذه الصكوك وجدوا فيها بعض المخالفات الشرعية ونبهوا هذا البنك " الإسلامي" على هذه المخالفات ولكن لم يلتفتوا لهم ولم يعيروهم اهتماما ... فأصبحت هذه الصكوك بين الحلال والحرام منهم من يقول حلال ومنهم من يقول حرام وعندما علمت بذلك قلت لأهلي إنني أريد أن أسحب نقودي وسحبتها فعلا ولله الحمد ولكنني نصحت أهلي بسحب نقودهم فهذا أسلم لنا ولكن لم يستجيبوا لي فأقسمت ألا أشرب حتى مجرد كوب ماء لو فازوا بأي مبلغ وكررت القسم أكثر من مرة في مرات متفرقة وليس في مجلس واحد ماذا أفعل مع العلم أنني فتاة وكيف أكفر عن قسمي وهل يجوز لي أن آكل من هذا المال أنا لا أريد فعلا أن أشرب حتى كوب ماء من هذا المال ولكن ماذا أفعل فأنا فتاة ولا أستطيع العيش بمفردي أجبني جزاك الله خيراً.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
يلزم من أراد الدخول في معاملة من شركة أو غيرها أن يعلم حكمها، ويقف على مشروعيتها، إما بنفسه أو بسؤال أهل العلم كما قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النحل/43.
وأنتم إن اشتركتم في هذه الصكوك اعتمادا على من أفتى من أهل العلم الثقات بحلها، فلا حرج عليكم.
ومن تبين له حرمتها لم يجز له أن يشارك فيها. وكذلك من شارك فيها ثم تبين له التحريم، فإنه يلزمه الخروج منها، ولا إثم عليه فيما مضى.
وقد أحسنت في الخروج منها وسحب نقودك، فهذا أسلم وأورع.
ثانياً:
إذا لم يتبين لأهلك أنها حرام، فلا يلزمهم التخلص من هذه الصكوك؛ لأنهم اعتمدوا فيها على من أفتى بحلها، فإذا لم تكن لهم أهلية لمعرفة الخلاف والراجح منه، وركنوا إلى تقليد من وثقوا فيه، فلا شيء عليهم.
ثالثاً:
يجوز لك الأكل والانتفاع مما يقدمه أهلك من الطعام والشراب وغيره، لاختلاط مالهم، ولأن المال المحرّم لكسبه حرامٌ على الكاسب فقط دون غيره ممن يأخذه بوجه مباح. وينظر جواب السؤال رقم (45018) .
وأما يمينك، فإن شئت بقيت عليها، ولم تنتفعي بشيء ناتج عن أرباح هذه الصكوك، مع الانتفاع بغيرها من أموالهم، وإن شئت كفرت عن يمينك.
ولا يلزمك غير كفارة واحدة؛ لأن من حلف أيمانا متعددة على شيء واحد، لزمته كفارة واحدة في حال الحنث. وينظر جواب السؤال رقم (38602) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/82)
هل يلزم أن يعذب الله المتبرجات بزينتهن من النساء؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ي عن مرتكب الكبيرة، عندنا أنَّ أمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، ولكن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما بعد ... - حتى ذكر - نساء كاسيات عاريات ... لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها) فسَّرها الإمام النووي رحمه الله: أنهن: إما مستحلات للفعل، فلايدخلن الجنة أبدا. أو لا يدخلن الجنة في البداية، ثم يدخلنها بعد أن يعذبن، وهذا يقتضي أنهن لا بد أن يعذبن وهن من مرتكبي الكبائر، فهل يمكن ألا يعذبن؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
مرتكب الكبيرة في عقيدة المسلمين على خطر عظيم، فقد تعرض لغضب الله وعقابه، إلا أنَّ مشيئة الله هي الحاكمة، فقد يغفر الله له ويتجاوز عنه، وقد يعذبه بقدر ذنبه، إلا من بلغت معصيته حد الكفر بالله تعالى، فإنه يستوجب حينئذ العقوبة والخلود في النار.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية – كما في "مجموع الفتاوى" (11/646) -:
" عن النساء اللاتي يتعمَّمن بالعمائم الكبار، لا يرين الجنة، ولا يشممن رائحتها، وقد روي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) ؟
فأجاب:
قد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رءوسهن مثل أسنمة البخت، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد الله)
ومن زعم أن هذا الحديث ليس بصحيح بما فيه من الوعيد الشديد فإنه جاهل ضال عن الشرع، يستحق العقوبة التي تردعه وأمثاله من الجهال الذين يعترضون على الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والأحاديث الصحيحة في " الوعيد " كثيرة:
مثل قوله: (من قتل نفسا معاهدة بغير حقها لم يجد رائحة الجنة، وريحها يوجد من مسيرة أربعين خريفا)
ومثل قوله الذي في الصحيح: (لا يدخل الجنة مَن في قلبه ذرة من كبر) .
ومثل قوله في الحديث الصحيح: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وفقير مختال)
وفي القرآن من آيات الوعيد ما شاء الله، كقوله: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين)
وهذا أمر متفق عليه بين المسلمين، أن " الوعيد " في الكتاب والسنة لأهل الكبائر موجود، ولكن الوعيد الموجود في الكتاب والسنة قد بين الله في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنه لا يلحق التائب، بقوله: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) أي لمن تاب.
وقال في الآية الأخرى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)
فهذا في حق من لم يتب، فالشرك لا يغفر، وما دون الشرك إن شاء الله غفره، وإن شاء عاقب عليه.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما يصيب المؤمن من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا غم، ولا حزن، ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)
ولهذا لما نزل قوله: (من يعمل سوءا يجز به) ، قال أبو بكر: يا رسول الله؛ قد جاءت قاصمة الظهر وأينا لم يعمل سوءا؟ فقال: يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأوى؟ فذلك مما تجزون به.
فالمصائب في الدنيا يكفر الله بها من خطايا المؤمن ما به يكفر وكذلك الحسنات التي يفعلها. قال الله تعالى: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) فالله تعالى لا يظلم عبده شيئا كما قال: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)
فالوعيد ينتفي عنه: إما بتوبة، وإما بحسنات يفعلها تكافئ سيئاته، وإما بمصائب يكفر الله بها خطاياه، وإما بغير ذلك " انتهى.
ولذلك يفسر العلماء كل آية أو حديث ظاهره خلود صاحب الكبيرة في النار بتفسيرات توافق نصوص الكتاب والسنة الأخرى.
يقول النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (17/191) :
" قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخلن الجنة) : يتأول التأويلين السابقين فى نظائره:
أحدهما: أنه محمول على من استحلت حراما من ذلك، مع علمها بتحريمه، فتكون كافرة مخلدة فى النار لا تدخل الجنة أبدا.
والثانى: يحمل على أنها لا تدخلها أول الأمر مع الفائزين " انتهى.
وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (2/27) :
" السؤال: هل يجوز أن نعتقد كفر النساء الكاسيات العاريات لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) الحديث؟
والجواب:
يكفر من اعتقد حل ذلك منهن بعد البيان والتعريف بالحكم، ومن لم تستحل ذلك منهن ولكن خرجت كاسية عارية فهي غير كافرة، لكنها مرتكبة لكبيرة من كبائر الذنوب، ويجب الإقلاع عنها، والتوبة منها إلى الله، عسى أن يغفر الله لها، فإن ماتت على ذلك غير تائبة فهي تحت مشيئة الله كسائر أهل المعاصي؛ لقول الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) " انتهى.
وجاء فيها أيضا (17/104) :
" من استحل منهن ذلك اللباس فهن كافرات مخلدات في النار إذا متن على ذلك، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن لبسن ذلك اللباس مع اعتقادهن تحريمه فقد ارتكبن كبيرة من كبائر الذنوب، لكن لا يخرجن بها من ملة الإسلام، وهن تحت مشيئة الله: إن شاء الله غفر لهن، وإن شاء عذبهن مما ارتكبن من السيئات، فلا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها إلا بعد سابقة عذاب.
وهذا مذهب أهل السنة، وفيه جمع بين نصوص الوعد والوعيد، وهو وسط بين مذاهب المرجئة والخوارج والمعتزلة.
ويقول الشيخ ابن باز – كما في "مجموع فتاوى" (6/356) -:
" أما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) فهذا وعيد شديد، ولا يلزم من ذلك كفرهن ولا خلودهن في النار كسائر المعاصي إذا متن على الإسلام، بل هن وغيرهن من أهل المعاصي، كلهم متوعدون بالنار على معاصيهم، ولكنهم تحت مشيئة الله: إن شاء سبحانه عفا عنهم وغفر لهم، وإن شاء عذبهم، كما قال عز وجل في سورة النساء في موضعين: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) ، من دخل النار من أهل المعاصي فإنه لا يخلد فيها خلود الكفار، بل من يخلد منهم كالقاتل والزاني، والقاتل نفسه لا يكون خلوده مثل خلود الكفار بل هو خلود له نهاية عند أهل السنة والجماعة، خلافا للخوارج والمعتزلة ومن سار على نهجهم من أهل البدع؛ لأن الأحاديث الصحيحة قد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دالة على شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل المعاصي من أمته، وأن الله عز وجل يقبلها منه صلى الله عليه وسلم عدة مرات، في كل مرة يحد له حدا فيخرجهم من النار، وهكذا بقية الرسل والمؤمنون والملائكة والأفراط، كلهم يشفعون بإذنه سبحانه، ويشفعهم عز وجل فيمن يشاء من أهل التوحيد الذين دخلوا النار بمعاصيهم وهم مسلمون، ويبقى في النار بقية من أهل المعاصي لا تشملهم شفاعة الشفعاء، فيخرجهم الله سبحانه برحمته وإحسانه، ولا يبقى في النار إلا الكفار فيخلدون فيها أبد الآباد كما قال عز وجل في حق الكفرة: (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) ، وقال تعالى: (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا) ، وقال سبحانه في الكفرة من عباد الأوثان: (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) ، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، نسأل الله العافية والسلامة من حالهم " انتهى.
فالحاصل أن المرأة المتبرجة مع تعرضها للعقاب الأليم عند الله عز وجل، إلا أنها تحت مشيئة الله تعالى، قد يغفر لها فلا يعذبها، وقد يعذبها العذاب الشديد، مع أنه لا بد أن يدخل النار من يدخلها من عصاة المؤمنين، كما تواترت بذلك الأحاديث.
وانظر جواب السؤال رقم: (14627) ، (9924)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/83)
هل تحبط الكبائر الأعمال الصالحة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يقبل الله أعمال الزناة أم يجعلها هباءً منثورًا، وهل الزنا يحبط العمل، هل للزاني المُصر على الزنا حسنات عند ربه، أم أن حسناته لا ترفع حتى يتوب إلى الله، هل يقبل الله صيام وزكاة وصلاة الزاني، علما أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث: (تفتح أبواب السماء نصف الليل، فينادي منادٍ: هل من داع فيستجاب له، هل من سائل فيعطى، هل من مكروب فيفرج عنه، فلا يبقى مسلم يدعو بدعوة إلا استجاب الله عز وجل له، إلا زانية تسعى بفرجها أو عشَّارا) وفي الحديث السابق ... فيجعلها الله هباء منثورا ... إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها؟ أرجو منكم التوضيح، وهل ما ذهبت إليه صحيح.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
من الثوابت التي يقررها القرآن الكريم، ويتفق عليها أهل السنة، أن المعاصي والكبائر لا تحبط حسنات المسلم جميعها، وأنه ليس ثمة ما يحبط عمل المسلم بالكلية إلا الكفر والشرك.
دل عليه قوله تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة/217.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – كما في "مجموع الفتاوى" (10/321-322) :
" وأما الصحابة وأهل السنة والجماعة فعلى أن أهل الكبائر يخرجون من النار، ويشفع فيهم، وأن الكبيرة الواحدة لا تحبط جميع الحسنات؛ ولكن قد يحبط ما يقابلها عند أكثر أهل السنة، ولا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما لا يحبط جميع السيئات إلا التوبة، فصاحب الكبيرة إذا أتى بحسنات يبتغي بها رضا الله أثابه الله على ذلك وإن كان مستحقا للعقوبة على كبيرته. وكتاب الله عز وجل يفرق بين حكم السارق والزاني وقتال المؤمنين بعضهم بعضا، وبين حكم الكفار في " الأسماء والأحكام "، والسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة يدل على ذلك، وعند أهل السنة والجماعة يُتقبل العمل ممن اتقى الله فيه فعمله خالصا لله موافقا لأمر الله، فمن اتقاه في عمل تقبله منه وإن كان عاصيا في غيره، ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه وإن كان مطيعا في غيره " انتهى باختصار.
والحديث المذكور في السؤال، وهو حديث ثَوْبَانَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا.
قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ.
قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا) .
رواه ابن ماجه في سننه (رقم/4245) ، والروياني في "المسند" (1/425) ، والطبراني في "الأوسط" (5/46) و"الصغير" (1/396) و"مسند الشاميين" (رقم/667) ، والديلمي في "مسند الفردوس" (7715) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (505) .
وهو من الأدلة على الأصل الذي ذكرناه، من أن بعض السيئات قد تحبط قدرا من حسنات المرء، وأجر علمه الصالح.
وانظر تفصيل ما ذكرناه في المسألة في جواب السؤال رقم (81874) .
وأما الحديث الثاني الذي ذكرته، فهو حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(تُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ نِصْفَ اللَّيْلِ فَيُنَادِي مُنَادٍ: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَيُسْتَجَابَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَيُعْطَى؟ هَلْ مِنْ مَكْرُوبٍ فَيُفَرَّجَ عَنْهُ؟ فَلا يَبْقَى مُسْلِمٌ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ إِلا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ إِلا زَانِيَةٌ تَسْعَى بِفَرْجِهَا أَوْ عَشَّارٌ) .
رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (9/59) ، وفي "المعجم الأوسط" (3/154) وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/156) : رجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1073) : إسناده صحيح.
على أن هذا ليس فيه حبوط عمله، ولكن فيه: عدم قبول دعاء الزاني المصر على زناه، وهذا معنى صحيح، فإن الكبائر من موانع قبول الدعاء، وكيف يستجيب الله عز وجل لمن هو باق على المعصية لا ينزع عنها ولا يتوب منها!
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/84)
ما ينتشر اليوم عن " معجزات الطبيعة "!
[السُّؤَالُ]
ـ[انتشرت في الآونة الأخيرة عبر المواقع والمنتديات مواضيع تحتوي على صور وملفات صوت وفيديو تعبر عن معجزات.. كخروج نافورة من الرمال في الصحراء، وظهور لفظ الجلالة على جلود الماعز.. وسحابة ترسم لفظ الجلالة، والفتاة التي تحولت إلى حيوان.. ومعظم هذه الأشياء تكون غير صحيحة وملفقة.. وهذه الأشياء منتشرة جدا. فما هو الحكم في مثل هذه الأشياء؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
آيات الله في هذا الكون كثيرة، فكل ذرة فيه تشهد له سبحانه بالعظمة والجلال، وتنطق له بالوحدانية.
قال الله عز وجل: (حم. تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) الجاثية/1-6
وهكذا جاءت دعوة التأمل والتدبر في عشرات الآيات في القرآن الكريم، تحث على النظر في آيات الكون الظاهرة للعيان، لتتفكر فيها فترجع منها باليقين بالخالق، وبالإيمان بوحدانيته سبحانه.
والسمة المشتركة بين هذه الآيات هي الظهور للعموم، فالسماء والأرض والجبال والشمس والقمر والأنعام والمطر والنفس وغيرها، كلها آيات يشترك في رؤيتِها ومعرفتِها جميعُ البشر، ويتمكن كل إنسان من إدراك عظمتها ودلالتها على الرب الخلاَّق، وإن كان فيها للعالِم مِن الأسرار التي يختص بها دون العامي، ولكنها باديةٌ للجميع، يستخرج منها كلٌّ بِحَسَبِهِ.
أما ما ينتشر اليوم من حديث عن " معجزات الطبيعة " ومنها الأمثلة التي ذكرها السائل، فمن حيث قدرة الله تعالى، فإن الله على كل شيء قدير، كظهور لفظ الجلالة على جلود الماعز أو على بيضة، أو مسخ بعض الناس.
بل نؤمن بأن المسخ سيقع، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى الترمذي (2212) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَتَى ذَاكَ؟ قَالَ: إِذَا ظَهَرَتْ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ) صححه الألباني في صحيح الترمذي.
هذا بالنظر إلى قدرة الله تعالى، وأما بالنظر إلى وقوع هذه " المعجزات "! فإن أكثر ما ينتشر اليوم منها لا حظَّ له من التوثيق والتوكيد، وأغلب ما يتناقله الناس منها إنما هي أحاديث مجالس، وصور منتديات، لا يُدرَى مصدرُها ولا منشؤُها.
أفبمثل هذه الحكايات يحتج المسلم على صحة دينه وعقيدته؟!
وهل نقصت عنه أدلة الفطرة واليقين كي يلجأ إلى تلك الإشاعات؟!
والموقف الصحيح من هذه الأخبار، هو التوقف فيها، فلا نصدقها، لاحتمال أنها كذب، ولا نكذبها، لاحتمال أنها صدق، ما لم يكن عندنا دليل واضح على صدقها أو كذبها فنجزم به حينئذٍ.
فينبغي على المسلم العاقل – الذي يعي ضوابط التلقي والاستدلال – التأني في الإيمان بها والتصديق لها، فضلا عن نشرها ودعوة الناس إلى التسبيح بعجبها.
غير أن الذي وقع خلاف ذلك، حيث انساق كثيرون وراء هذه " الحكايات "، فراحوا ينشرونها ويتحدثون بها في المجالس، ويتناقلونها في جوالاتهم ورسائلهم، ثم يفاجؤون بعد أيام أنها كذب مصنوع مختلق، نشره بعض المتحمِّسين للدين - جهلا وسذاجة -، أو بعضُ الملحدين الحاقدين - استهزاءً وسخرية -، مما كان السببَ في فتنة الكثيرين، والله المستعان.
فالذي ننكره هو التسرع في إثباتها، وإلباسها لَبوس الإعجاز والتحدي، ودعوة الناس إليها، واتخاذها شكل الظاهرة المتفشية التي لا حدود لها، فكل يوم يحمل منها قصة جديدة وحكاية.
حتى وصل الحال إلى صور من السخافة التي يترفع عن تصديقها العقل السليم، ترى ذلك في حكاية " صوت زئير الأسد " الذي يسمع فيه بعضهم - شططا وتكلفا - صوت لفظ الجلالة.
وأشنع من ذلك وأسوأ: ما بلغ في بعض البلاد من التبرك والتمسح والاستشفاء بشجرة ظهر على جذعها لفظ الجلالة، ثم تبين بالبحث أنه منحوت بفعل فاعل يريد إضلال الناس.
فعلى المسلمين التوقف عن ترويج مثل هذه الشائعات، التي قد تكون سبباً لإضلال الناس.
ونسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/85)
هل شرب الدخان ينقض الوضوء؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم الشريعة في بائع الدخان بأنواعه؟ أنا أدخن وحينما أسمع المؤذن أدخل المسجد هل يجب علي أن أعيد الوضوء، أم المضمضة تكفيني وأنا أعلم بأن الدخان يسبب أمراضاً شتى؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يحرم بيع الدخان لخبثه وأضراره الكثيرة، وفاعل ذلك يعد فاسقاً، ولا يجب إعادة الوضوء من شرب الدخان، لكن يشرع له إزالة الرائحة الكريهة من فمه بما يذهبها، مع وجوب المبادرة بالتوبة إلى الله من ذلك.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة ج13/57.(1/86)
يشك في نطقه بالشهادتين بعد عامين من إسلامه!!
[السُّؤَالُ]
ـ[أخ اعتنق الإسلام بعد عامين تقريبا لكنه لم يذكر هل نطق الشهادتين وهو يصلي ويصوم ويجتهد في الدين قدر المستطاع.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
نحمد الله تعالى أن هدى أخانا هذا إلى الإسلام، ونسأله سبحانه أن يثبته ويقوي إيمانه ويزيد في طاعاته.
ثانيا:
كون هذا الأخ يشك في نطقه بالشهادتين بعد سنتين من صلاته وصيامه واجتهاده في الدين قدر المستطاع، لا شك أن هذا من وساوس الشيطان يريد بذلك أن يحزنه ويوقعه في الضيق والحرج، فإن المقطوع به أن هذا الأخ قد كرر الشهادتين خلال هذه المدة الطويلة مرات ومرات، ألم يردد الأذان خلف المؤذن طول هذه المدة، أو لم يقل يوما ما: " لا إله إلا الله محمد رسول الله "، أليس يصلي؟ وهو يقول في تشهده في الصلاة: " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ".
ثم مجرد صلاته تعتبر دخولاً في الإسلام، ولذلك قال العلماء عن الكافر: " إنه إن صلى فمسلم حكماً "، أي يحكم له بالإسلام وإن لم يتلفظ بالشهادتين.
انظر: "الشرح الممتع" (2/12) ، و "الموسوعة الفقهية" (4/272) .
ويدل على ذلك ما روه البخاري (391) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِم) .
وينبغي الحذر من الوسوسة، التي تصيب بعض الناس، فيبقى في حيرة من أمره، هل قال كذا أو لم يقل؟ هل فعل أو لم يفعل؟
لأن الوسوسة مرض، وعلاجها بالذكر، وعدم الالتفات إليها.
وانظر جواب السؤال (62839) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/87)
ضوابط التكفير
[السُّؤَالُ]
ـ[نرجو من سيادتكم معرفة الضوابط التي يمكن الحكم بها على شخص ما بالكفر أو النفاق، حتى لا أقع في البدع التي وقع فيها كثير من الفرق، وبأي كتب توصيني أن أقرأ فيها، مع العلم أني طالب علم مبتدئ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
الحكم بالتكفير والتفسيق ليس إلينا، بل هو إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو من الأحكام الشرعية التي مردها إلى الكتاب والسنة، فيجب التثبت فيه غاية التثبت، فلا يكفر ولا يفسق إلا من دل الكتاب والسنة على كفره أو فسقه.
والأصل في المسلم الظاهر العدالة بقاء إسلامه وبقاء عدالته، حتى يَتَحَقَّقَ زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي. ولا يجوز التساهل في تكفيره أو تفسيقه؛ لأن في ذلك محذورين عظيمين:
أحدهما: افتراء الكذب على الله تعالى في الحكم، وعلى المحكوم عليه في الوصف الذي نبزه به.
الثاني: الوقوع فيما نبز به أخاه إن كان سالماً منه.
ففي صحيحي البخاري (6104) ومسلم (60) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا كَفَّرَ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَقَد بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا) وفي رواية: (إِن كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيهِ)
ثانيا:
وعلى هذا فيجب قبل الحكم على المسلم بكفر أو فسق أن ينظر في أمرين:
أحدهما: دلالة الكتاب أو السنة على أن هذا القول أو الفعل موجب للكفر أو الفسق.
الثاني: انطباق هذا الحكم على القائل المعين أو الفاعل المعين، بحيث تتم شروط التكفير أو التفسيق في حقه، وتنتفي الموانع.
ومن أهم الشروط:
1- أن يكون عالماً بمخالفته التي أوجبت أن يكون كافراً أو فاسقاً؛ لقوله تعالى:
(وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) النساء/115
وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) التوبة/115
ولهذا قال أهل العلم: لا يكفر جاحد الفرائض إذا كان حديث عهد بإسلام حتى يُبَيَّنَ له.
2- ومن الموانع أن يقع ما يوجب الكفر أو الفسق بغير إرادة منه، ولذلك صور:
منها: أن يكره على ذلك، فيفعله لداعي الإكراه، لا اطمئناناً به، فلا يكفر حينئذ؛ لقوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) النحل/106
ومنها: أن يُغلَقَ عليه فِكرُهُ، فلا يدري ما يقول لشدة فرح أو حزن أو خوف أو نحو ذلك.
ودليله ما ثبت في صحيح مسلم (2744) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ)
3- ومن الموانع أن يكون متأولا: يعني أن تكون عنده بعض الشبه التي يتمسك بها ويظنها أدلة حقيقية، أو يكون لم يستطع فهم الحجة الشرعية على وجهها، فالتكفير لا يكون إلا بتحقق تعمد المخالفة وارتفاع الجهالة.
قال تعالى: (ولَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) الأحزاب/5
يقول ابن تيمية رحمه الله "مجموع الفتاوى" (23/349) :
" فالإمام أحمد رضي الله تعالى عنه ترحم عليهم (يعني الخلفاء الذين تأثروا بمقالة الجهمية الذين زعموا القول بخلق القرآن، ونصروه) واستغفر لهم، لعلمه بأنه لم يتبين لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال ذلك لهم " انتهى.
ويقول رحمه الله "مجموع الفتاوى" (12/180) :
" وأما التكفير فالصواب أن من اجتهد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقصد الحق فأخطأ لم يكفر، بل يغفر له خطؤه، ومن تبين له ما جاء به الرسول، فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر، ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب، ثم قد يكون فاسقاً. وقد يكون له حسنات ترجح على سيئاته " انتهى.
وقال رحمه الله (3/229) :
" هذا مع أني دائماً ومن جالسني يعلم ذلك مني، أني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية. وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية ... "
وذكر أمثلة ثم قال:
" وكنت أبين أن ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا، فهو أيضاً حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين.. "
إلى أن قال: " والتكفير هو من الوعيد؛ فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً.
وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: (إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين. ففعلوا به ذلك، فقال الله: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك. فغفر له)
فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك.
والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا " انتهى.
(مستفاد من خاتمة القواعد المثلى للشيخ ابن عثيمين رحمه الله مع بعض الزيادات) .
وإذا كان أمر التكفير بهذه المثابة، والخطر والخطأ فيه شديد؛ فالواجب على طالب العلم، خاصة إذا كان مبتدئا، أن يتوقى الخوض في ذلك، وأن ينشغل بتحصيل العلم النافع الذي يصلح به أمر معاشه ومعاده.
ثالثا:
قبل أن نشير عليك بشيء من الكتب، فإننا ننصحك بأن تستعين في تعلمك بأهل العلم من أهل السنة؛ فإن ذلك هو الطريق الأسهل والأكثر أمنا، لكن شريطة أن يكون ذلك الذي تأخذ عنه من الموثوق في علمه ودينه، واتباعه للسنة، وبعده عن الأهواء والبدع.
قال مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ رحمه الله: (إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ) رواه مسلم في مقدمة صحيحه.
فإن لم يتيسر لك، في مكانك أن تحضر دروس أهل العلم، فيمكنك أن تستعين بأشرطتهم، وقد أصبح الحصول عليها عن طريق الأقراص، أو المواقع الإسلامية أكثر سهولة، والحمد لله. ثم يمكنك أيضا أن تنتفع ببعض طلاب العلم، الذين يحرصون على العلم الشرعي، واتباع السنة، وقلما يخلو منهم مكان، إن شاء الله.
رابعا:
من الكتب التي ينبغي أن تعتني باقتنائها، والنظر والدراسة فيها:
- التفسير: تفسير الشيخ ابن سعدي، وتفسير ابن كثير.
- الحديث: الأربعين النووية، مع أحد شروحها، والاهتمام بجامع العلوم والحكم لابن رجب، ثم رياض الصالحين، مع زيادة العناية بهذا الكتاب المبارك، ويمكنك الاستعانة بشرح الشيخ ابن عثيمين رحمه الله له.
- العقيدة: تهتم بكتاب التوحيد، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، مع شرح ميسر له، والعقيدة الواسطية، لشيخ الإسلام ابن تيمية. مع بعض الرسائل النافعة في هذا الباب، مثل: تحقيق كلمة الإخلاص لابن رجب، والتحفة العراقية في الأعمال القلبية لابن تيمية.
- الاستعانة بزاد المعاد لابن القيم رحمه الله، وكثير من كتبه، مثل: الوابل الصيب، والداء والدواء.
وهذه مجموعة مبدئية، ومع المطالعة، لا سيما إن وجدت من يعينك على القراءة والفهم، فسوف تزداد معرفتك بالكتب النافعة والمهمة لك، شيئا فشيئا، إن شاء الله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/88)
هل النطق بالشهادتين كافٍ لدخول الجنة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أنه إذا كانت عائلة الشخص تؤمن أنه " لا إله إلا الله وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسوله " فإن ذلك يكون كافياً لدخول المذكور الجنة؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ليس الإسلام هو النطق بالشهادتين فقط، بل لا بدَّ من تحقيق شروطٍ في هاتين الشهادتين حتى يكون الناطق بهما مسلماً حقّاً، وأركان الإسلام: الاعتقاد والنطق والعمل.
عن عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ) . رواه البخاري (3252) ومسلم (28) .
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله -:
قوله (من شهد أن لا إله إلا الله) أي: من تكلم بها عارفاً لمعناها عاملاً بمقتضاها باطناً وظاهراً، فلابدَّ في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولها كما قال الله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إلاَّ الله) .
وقوله (إِلاَّ من شهد بالحق وهم يعلمون) أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه: من البراءة من الشرك وإخلاص القول والعمل: قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح: فغير نافع بالإجماع.
قال القرطبي في " المفهم على صحيح مسلم ": " باب لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لابدَّ من استيقان القلب " هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كافٍ في الإيمان، وأحاديث هذا الباب تدل على فساده، بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها؛ ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح، وهو باطل قطعاً ا. هـ
وفي هذا الحديث ما يدل على هذا وهو قوله: (من شهد) فإن الشهادة لا تصح إلا إذا كانت عن علم ويقين وإخلاص وصدق.
" فتح المجيد " (ص 36)
وشروط " شهادة أن لا إله إلا الله " سبعة شروط، لا تنفع قائلها إلا باجتماعها؛ وهي على سبيل الإجمال:
الأول: العلم المنافي للجهل، الثاني: اليقين المنافي للشك، الثالث: القبول المنافي للرد، الرابع: الانقيادُ المنافي للترك، الخامس: الإخلاص المنافي للشرك، السادس: الصدق المنافي للكذب، السابع: المحبة المنافية لضدها، وهو البغضاء.
وشروط " شهادة أن محمَّداً رسول الله " هي نفسها شروط " شهادة أن لا إله إلا الله "، وهي مذكورة بأدلتها في جواب السؤالين (9104) و (12295) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/89)
السيئات قد تُحبِطُ الحسنات
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي الأعمال السيئة التي يفعلها العبد فتحبط أعماله الصالحة وتردها، وتُمحَى بسببها من صحيفة الأعمال؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
من الأصول المقررة عند أهل السنة والجماعة أن الأعمال لا تُقبل مع الكفر، ولا يبطلها كلَّها غيرُ الكفر.
دل عليه قوله تعالى: (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ، وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) التوبة/53-54
قال ابن تيمية رحمه الله:
" ولا يحبط الأعمال غير الكفر؛ لأن من مات على الإيمان فإنه لا بد أن يدخل الجنة، ويخرج من النار إن دخلها، ولو حبط عمله كله لم يدخل الجنة قط، ولأن الأعمال إنما يحبطها ما ينافيها، ولا ينافي الأعمال مطلقًا إلا الكفر، وهذا معروف من أصول السنة " انتهى. "الصارم المسلول" (ص/55)
وقد خالف أهل البدعة من الخوارج والمعتزلة والمرجئة، فغلا الخوارج والمعتزلة وقالوا: إن الكبائر تمحو وتبطل جميع الحسنات والطاعات، وعاكستهم المرجئة فقالوا: إن حسنة الإيمان تمحو جميع السيئات.
ثانيا:
لما تبين أنه لا يمكن أن يحبط الحسنات كلها إلا ما يناقض الإيمان مناقضة تامة وهو الكفر، فهل يمكن أن يحبط شيء من المعاصي بعض الحسنات ويمحوها؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى "مجموع الفتاوى" (10/638) :
" فإذا كانت السيئاتُ لا تحبط جميع الحسناتِ، فهل تحبط بقدرها، وهل يحبط بعض الحسنات بذنب دون الكفر؟
فيه قولان للمنتسبين الى السنة، منهم من ينكره، ومنهم من يثبته " انتهى.
القول الأول: أن السيئات لا تبطل الحسنات، بل الحسنات هي التي تمحو السيئات، وذلك بفضل الله سبحانه وكرمه وإحسانه.
يقول القرطبي رحمه الله تعالى "الجامع لأحكام القرآن" (3/295) :
" والعقيدة أن السيئاتِ لا تبطل الحسناتِ ولا تحبطها " انتهى.
القول الثاني: أن المعاصي والبدع تحبط أجر ما يقابلها من الحسنات على سبيل الجزاء، نسبه شيخ الإسلام ابن تيمية لأكثر أهل السنة. انظر "مجموع الفتاوى" (10/322)
وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وقال في مدارج السالكين (1/278) :
" وقد نص أحمد على هذا في رواية فقال: ينبغي للعبد أن يتزوج إذا خاف على نفسه، فيستدين ويتزوج؛ لا يقع في محظور فيحبط عمله " انتهى.
قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الإيمان من صحيحه:
بَاب خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ؛ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَيُذْكَرُ عَنْ الْحَسَنِ مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ، وَمَا يُحْذَرُ مِنْ الْإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) .
وترجم الإمام مسلم ـ أيضا ـ بَاب مَخَافَةِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ.
قال الإمام ابن رجب رحمه الله:
وتبويب البخاري لهذا الباب يناسب أن يذكر فيه حبوط الأعمال الصالحة ببعض الذنوب، كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ) الحجرات2.
قال الإمام أحمد حدثنا الحسن بن موسى قال: ثنا حماد بن سلمة عن حبيب بن الشهيد، عن الحسن قال: ما يرى هؤلاء أن أعمالا تحبط أعمالا، والله عز وجل يقول {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} إلى قوله {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} .
ومما يدل على هذا - أيضا - قول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} الآية [البقرة: 264] ، وقال {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَاب} الآية [البقرة: 266] .
وفي صحيح البخاري " أن عمر سأل الناس عنها فقالوا: الله أعلم فقال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل، قال عمر: لأي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل، قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم يبعث الله إليه الشيطان فيعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله.
وقال عطاء الخراساني: هو الرجل يختم له بشرك أو عمل كبيرة فيحبط عمله كله.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من ترك صلاة العصر حبط عمله " [رواه البخاري (553) ] .
وفي " الصحيح " - أيضا - أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان فقال الله: " من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، قد غفرت لفلان وأحبطت عملك " [مسلم (2621) ] .
وقالت عائشة رضي الله عنها: أبلغي زيدا أنه أحبط جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. [رواه الدارقطني (3/52) والبيهقي (5/330) ] .
وهذا يدل على أن بعض السيئات تحبط بعض الحسنات، ثم تعود بالتوبة منها. وخرج ابن أبي حاتم في " تفسيره " من رواية أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع الإخلاص ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل صالح، فأنزل الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم} [محمد: 33] فخافوا الكبائر بعد أن تحبط الأعمال.
وبإسناده، عن الحسن في قوله {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم} قال: بالمعاصي. وعن معمر، عن الزهري في قوله تعالى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم} قال الكبائر.
وبإسناده، عن قتادة في هذه الآية قال: من استطاع منكم أن لا يبطل عملا صالحا بعمل سيء فليفعل ولا قوة إلا بالله؛ فإن الخير ينسخ الشر، وإن الشر ينسخ الخير، وإن ملاك الأعمال: خواتيمها ...
قال ابن رجب رحمه الله: والآثار عن السلف في حبوط الأعمال بالكبيرة كثيرة جدا يطول استقصاؤها. حتى قال حذيفة قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة. ..
وعن عطاء قال: إن الرجل ليتكلم في غضبه بكلمة يهدم بها عمل ستين سنة أو سبعين سنة. وقال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد، عنه: ما يؤمن أحدكم أن ينظر النظرة فيحبط عمله.
وأما من زعم أن القول بإحباط الحسنات بالسيئات قول الخوارج والمعتزلة خاصة، فقد أبطل فيما قال ولم يقف على أقوال السلف الصالح في ذلك. نعم المعتزلة والخوارج أبطلوا بالكبيرة الإيمان وخلدوا بها في النار. وهذا هو القول الباطل الذي تفردوا به في ذلك. [شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري (206-210) باختصار] .
قال ابن القيم رحمه الله: " ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر وليس الشأن في العمل إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه " [الوابل الصيب (18) ] .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/90)
تأتيها وساوس الشيطان إذا رأت ثبات أهل الكفر والباطل وتفانيهم في ذلك
[السُّؤَالُ]
ـ[باختصار أنا اشتكي من القلق على ديني وعقيدتي، أتمنى أن لا يحاسبني الله على سؤالي ولكني فعلا بحث عن الإجابة الشافية.
حين أرى النصارى واليهود أو حتى الفئات التي ضلت عن العقيدة الإسلامية الصحيحة حين ألحظ عليهم مدى تمسكهم باعتقادهم وتصديقهم به بل والراحة النفسية التي يشعرون بها أو - لا أدري إن كان حقيقيا- أسأل نفسي كيف يعرف المسلم أنه على العقيدة الصحيحة؟ طالما أن الراحة النفسية موجودة لدى الجميع، خاصة أنه بعلم النفس وارد أن ما تؤمن به فعليا هو ما يجعلك تطمئن إليه وتثق به ولو كان غير صحيح؟ وما يحيرني خاصة الفئات الخاطئة التي تفرعت من الإسلام مثل الصوفية والشيعة؟ أنا فقط بدأت أشعر بهذه الوساوس بعد أن أصبحت والحمد لله أقرب إلى ربي من قبل بعد ترك الأغاني، وقيام الليل والنوافل والاستغفار.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فقد أحسنتِ حينما أطلقتِ على هذه الخواطر التي تجول في نفسك بأنها وساوس، ومعلوم أن الوسوسة من الشيطان، والشيطان لا يحب من العبد أن يعود لخالقه تائباً نادما مقبلاً على الخير، بل يحرص أن يصده عن دينه بسائر أنواع الفتن والشهوات، فإذا أعجزته الحيل لجأ إلى الوسوسة والتشكيك، ليشعره بالقلق وعدم الطمأنينة، ولذا تجدين أنك لم تشعري بهذه الوساوس إلا بعد أن تركت بعض المعاصي التي كان يزينها لك، فلما انتصرت عليه في هذا الميدان، لجأ إلى أضعف حيله وهي الوسوسة، وقد شكا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له أنه ينتابهم بعض الوساوس التي يكرهونها ولا يحبون التكلم بها، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة) رواه أبو داود عن عبد الله بن عباس (5112) وصححه الألباني كما في صحيح أبي داود.
فحيث عجز عن صدهم عن الخير لجأ إلى الوسوسة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" والوسواس يعرض لكل من توجه إلى الله تعالى بذكر أو بغيره، لا بد له من ذلك، فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر، ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة ولا يضجر، فإنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشيطان (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) النساء/76.
وكلما أراد العبد توجهاً إلى الله تعالى بقلبه جاءه من الوسوسة أمور أخرى، فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد السير إلى الله تعالى، أراد قطع الطريق عليه، ولهذا قيل لبعض السلف: إن اليهود والنصارى يقولون: لا نوسوس. قال: صدقوا! وما يصنع الشيطان بالبيت الخرب؟!! .
"مجموع الفتاوى" (22/608) .
لذا فعليك ألا تلتفتي لهذه الوساوس، ولا تجعليها عائقاً عن مواصلة طريقك في السير إلى الله تعالى.
وأما ما ذكرتِه عن بعض الكفار وأهل البدع من أنهم يكونون في راحة نفسية، فجميل منك أنك قلت في ثنايا سؤالك: (لا أدري إن كان حقيقياً) فإن كثيراً من هذه السعادات زائفة، تكون في الظاهر بينما يبقى الباطن يشعر بفراغ وضيق قاتل، لا يزيله إلا صدق العبد مع الله في عبوديته وتحقيق مرضاته.
وهنا ينبغي أن تنتبهي إلى عدة أمور:
الأول: أن مقياس العقيدة الصحيحة لا يعرف بالراحة النفسية أو عدمها، وإنما تعرف العقيدة بما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله على وفق ما التزمه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأي أمر أشكل عليك فاعرضيه على كلام الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام صحابته، فإن وجدت أصحاب رسول الله قائلين به فاعلمي أنه الحق، وما سواه فهو باطل، فإن عجزت عن ذلك فاسألي أهل العلم الذين يسيرون في علمهم وطريقتهم على منهج الصحابة والسلف الصالح؛ فهذا هو المقياس الصحيح الوحيد.
وأما السعادة والراحة النفسية فهي نتيجة لصدق العبد في تحصيل رضى ربه، ومتابعة سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) النحل/97.
الثاني: أن الشعور بالضيق والضنك أمر نسبي، وهو يختلف من شخص لآخر، وأحيانا يكون الإنسان يعيش في أشد حالات الضيق ولا يشعر بشيء من ذلك لأنه ميت القلب، ألست ترين الأعمى يكون في أشد أنواع الظلمة ولا يشعر بالظلام، وما ذلك إلا لأنه لا بصر عنده أصلاً، فكذلك ميت القلب، ليس عنده حياة أصلاً ليشعر بألم ضيق الصدر من عدمه، وقديما قال الشاعر: ما لجرحٍ بميت إيلام
لكن الله عز وجل قال وقوله الحق: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) طه/124.
والضنك: قد فسر بعدة تفسيرات، ففي تفسير ابن كثير رحمه الله ما ملخصه:
" أي: ضَنْك فِي الدُّنْيَا، فَلا طُمَأْنِينَة لَهُ، وَلا اِنْشِرَاح لِصَدْرِهِ، بَلْ صَدْره ضَيِّق حَرَج لِضَلالِهِ، وَإِنْ تَنَعَّمَ ظَاهِره وَلَبِسَ مَا شَاءَ وَأَكَلَ مَا شَاءَ وَسَكَنَ حَيْثُ شَاءَ فَإِنَّ قَلْبه مَا لَمْ يَخْلُص إِلَى الْيَقِين وَالْهُدَى فَهُوَ فِي قَلَق وَحِيرَة وَشَكّ، فَلا يَزَال فِي رِيبه يَترَدَّد فَهَذَا مِنْ ضَنْك الْمَعِيشَة.
وَقَالَ الضَّحَّاك: هُوَ الْعَمَل السَّيِّئ وَالرِّزْق الْخَبِيث.
وعَنْ أَبِي سَعِيد فِي قَوْله: (مَعِيشَة ضَنْكًا) قَالَ: يُضَيِّق عَلَيْهِ قَبْره حَتَّى تَخْتَلِف أَضْلاعه فِيهِ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَة ضَنْكًا) قَالَ (عَذَاب الْقَبْر) إِسْنَاد جَيِّد " انتهى.
فلو فرض أن الكافر أو الفاجر عاش في هذه الدنيا في سعادة حتى لو كانت داخلية، فإنه فاقد للطمأنينة والسكينة التي يتنعم بها المؤمنون الصادقون، ثم إن ما ينتظره من العذاب في البرزخ وما بعده ضنك وأي ضنك، نسأل الله أن يعيذنا وإياكِ من عذاب القبر، وأن يثبتنا وإياكِ على الحق حتى نلقاه.
وختاماً: عليك بالاجتهاد في الطاعات وعمل الصالحات، والابتعاد عن الوساوس الجالبة للهموم، وعليك بتعلم العلم النافع، فإنه يقيك بإذن الله من أنواع الفتن والشبهات.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/91)
ما هي أسباب نقصان الإيمان
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي أسباب نقصان الإيمان؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أسباب نقصان الإيمان كالتالي:
السبب الأول: الجهل بأسماء الله وصفاته يوجب نقص الإيمان لأن الإنسان إذا نقصت معرفته بأسماء الله وصفاته نقص إيمانه.
السبب الثاني: الإعراض عن التفكير في آيات الله الكونية والشرعية , فإن هذا يسبب نقص الإيمان , أو على الأقل ركوده وعدم نموه.
السبب الثالث: فعل المعصية فإن للمعصية آثاراً عظيمة على القلب وعلى الإيمان ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) . الحديث.
السبب الرابع: ترك الطاعة فإن ترك الطاعة سبب لنقص الإيمان , لكن إن كانت الطاعة واجبة وتركها بلا عذر فهو نقص يلام عليه ويعاقب , وإن كانت الطاعة غير واجبة , أو واجبة لكن تركها بعذر فإنه نقص لا يلام عليه , ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم النساء ناقصات عقل ودين وعلل نقصان دينها بأنها إذا حاضت لم تصل ولم تصم , مع أنها لا تلام على ترك الصلاة والصيام في حال الحيض بل هي مأمورة بذلك لكن لما فاتها الفعل الذي يقوم به الرجل صارت ناقصة عنه من هذا الوجه.
[الْمَصْدَرُ]
مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ج/1 ص 52.(1/92)
ما هي أسباب زيادة الإيمان؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما سبب زيادة الإيمان؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
للزيادة أسباب:
السبب الأول: معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته , فإن الإنسان كلما ازداد معرفة بالله وبأسمائه وصفاته ازداد إيماناً بلا شك , ولهذا تجد أهل العلم الذين يعلمون من أسماء الله وصفاته ما لا يعلمه غيرهم تجدهم أقوى إيماناً من الآخرين من هذا الوجه.
السبب الثاني: النظر في آيات الله الكونية , والشرعية , فإن الإنسان كلما نظر في الآيات الكونية التي هي المخلوقات ازداد إيماناً قال تعالى: (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون) الذاريات /20-21 والآيات الدالة على هذا كثيرة أعني الآيات الدالة على أن الإنسان بتدبره وتأمله في هذا الكون يزداد إيمانه.
السبب الثالث: كثرة الطاعات فإن الإنسان كلما كثرت طاعاته ازداد بذلك إيماناً سواء كانت هذه الطاعات قولية أم فعلية , فالذكر يزيد الإيمان كمية وكيفية , والصلاة والصوم والحج تزيد الإيمان أيضاً كمية وكيفية.
[الْمَصْدَرُ]
مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ج/1 ص 49.(1/93)
أركان الإيمان وشعب الإيمان
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف نجمع بين أن الإيمان هو (الإيمان بالله وملائكته وكتبه واليوم الآخر, وبالقدر خيره وشره) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة ... إلخ) ؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الإيمان الذي هو العقيدة أصوله ستة وهي المذكورة في حديث جبريل - عليه الصلاة والسلام - حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) متفق عليه.
وأما الإيمان الذي يشمل الأعمال وأنواعها وأجناسها فهو بضع وسبعون شعبة , ولهذا سمى الله تعالى الصلاة إيماناً في قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) البقرة/143. قال المفسرون: إيمانكم يعني صلاتكم إلى بيت المقدس، لأن الصحابة كانوا قبل أن يؤمروا بالتوجه إلى الكعبة كانوا يصلون إلى المسجد الأقصى.
[الْمَصْدَرُ]
مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ج/1 ص 54.(1/94)
أريد ما يقوي إيماني
[السُّؤَالُ]
ـ[هل لك أن ترسل لي برسالة روحانية تقوي إيماني حيث أنني أصلي وأصوم وأؤدي أساسيات الإسلام ولكنني في نفس الوقت أشعر وكأني لا أفعل شيئاً ولا أناضل ولا أجاهد.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يوجد في هذا الموقع رسالة بعنوان " ظاهرة ضعف الإيمان " فيها بيان تام لما يعانيه كثير من الناس من ضعف الإيمان وبيان الأسباب والعلاج، ولا مزيد عليها إن شاء الله فننصحك بقراءتها، وهذا رابطها:
http://www.islam-qa.com/books/dofuleeman/arabic.html
وهذه نصيحتان من كبار أهل العلم تضاف إلى ما سبق وتختصر لك المراد منك والمطلوب:
1. ننصحك أن تقرأ القرآن كثيراً، وتكثر من الاستماع لتلاوته وتتدبر معاني ما تقرأ وما تسمع منه بقدر استطاعتك، وما أشكل عليك فهمه فاسأل عنه أهلَ العلم ببلدك أو مكاتبة غيرهم من أهل العلم من علماء السنَّة.
وننصحك أيضاً بالإكثار من ذِكر الله بما ورد من الأذكار في الأحاديث الصحيحة مثل " لا إله إلا الله " ومثل " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " ونحو ذلك، وارجع في ذلك إلى كتاب " الكلِم الطيب " لابن تيمية، وكتاب " الوابل الصيِّب " لابن القيم، وكتاب " رياض الصالحين " وكتاب " الأذكار النووية " للنووي وأمثالها.
فإنَّ ذِكر الله يزداد به الإيمان وتطمئن به القلوب، قال الله تعالى {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} .
وحافظ على الصلاة والصيام وسائر أركان الإسلام مع رجاء رحمة الله، والتوكل عليه في كل أمورك، قال الله تعالى {إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون. الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقّاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} .
" اللجنة الدائمة للإفتاء " (3 / 185، 186) .
2. الإيمان يزيد بطاعة الله، وينقص بمعصيته، فحافظ على ما أوجب الله من أداء الصلوات في وقتها جماعة في المساجد، وأداء الزكاة طيبة بها نفسك طُهرة لك من الذنوب ورحمة بالفقراء والمساكين.
وجالس أهل الخير والصلاح ليكونوا عوناً لك على تطبيق الشريعة، وليرشدوك إلى ما فيه السعادة في الدنيا والآخرة.
وجانب أهل البدع والمعاصي لئلا يفتنوك ويضعفوا عزيمة الخير فيك.
وأكثِر مِن فِعل نوافل الخير، والْجأ إلى الله، واسأله التوفيق.
إنك إن فعلتَ ذلك: زادك الله إيماناً، وأدركتَ ما فاتك من المعروف، وزادك الله إحساناً واستقامة على جادة الإسلام.
" اللجنة الدائمة للإفتاء " (3 / 187) .
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(1/95)
تفسير خاطيء لكلمة التوحيد وزعم باطل بأنها تغني عن الطعام
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد قال لي شيخي مرةً أن معنى لا إله إلا الله هو، لا: (لا أحد قادر على) ، إله: (تلبية الحاجات) ، إلا الله: (غير الله) . ولكن الكثيرين غيره يقولون بأن معناها الحقيقي هو: لا معبود بحق سوى الله. وأنا أثق جدا في تعليمه. إنه يشرح قائلا: أولا، لدينا الحاجة إلى أن نكون أحياء. فإن لم تكن (ربما يقصد "الحاجة") لله، فمن ذا يستطيع تلبية هذه الحاجة غيره؟ وقد قال أيضا، بأنه إذا إستطاع الإنسان العيش بلا إله إلا الله، فإن هذا الإنسان يكون صوفيا. وأكثر الناس اليوم يعادون الصوفية. فما هو رأيكم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أما بعد فقد قال تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) . ففي هذه الآية الكريمة دلالة على فقر العباد إلى ربهم في جميع أمورهم، في وجودهم وبقائهم، وفي منافعهم وسلامتهم من كل مكروه. فالله هو الواهب لذلك كله، قال تعالى: (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم) وقال تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله) . وهو سبحانه وتعالى غنيٌ عن عباده له الملك كله وله الحمد كله، لا يبلغ العباد نفعه ولا ضره، لو آمنوا كلهم ما زادوا في ملكه شيئا، ولو كفروا كلهم ما نقصوا من ملكه شيئا. وهو رب العالمين، رب الأولين والآخرين، وهو الإله الحق الذي لا يستحق العبادة سواه، كل معبود سواه باطل. فمعنى لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله، هذا هو الصواب في معناها وليس معناها لا خالق إلا الله، أو لا قادر على قضاء الحوائج إلا الله، بل هذا كله من معناها، فالإله الحق هو الخالق لكل شيء والقادر على كل شيء. فقول هذا الشيخ أن معنى لا إله إلا الله: (هو لا أحد يقدر على قضاء الحاجات إلا الله) إن أراد أن هذا من معناها فهو صحيح، وإن أراد أن هذا هو المقصود منها فباطل، فإنه لو كان المقصود منها ما قاله هذا الشيخ لما امتنع المشركون الأولون أن يقولوها حين قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم قولوا لا إله إلا الله تفلحوا؟ لأنهم يقرّون أنه لا خالق إلا الله، ولكنهم كانوا يفهمون المعنى المقصود منها وهو لا معبود بحق إلا الله. فالله هو المعبود بحق وكل معبود سواه باطل وهذا يقتضي بطلان آلهة المشركين التي يعبدونها من دون الله، قال تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير) . فلما كان المشركون يعلمون معناها وأنها تقتضي بطلان معبوداتهم امتنعوا أن يقولوها وتواصوا بالصبر على آلهتهم كما قال تعالى: (وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عُجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يُراد) . وبهذا تعلم أن قول الكثيرين المخالفين لشيخك في معنى لا إله إلا الله هو الصواب.
وقول شيخك (أن لدينا الحاجة إلى الله...... إلى قوله هذه الحاجة غيره) معناه ان الله وحده هو الذي يَمدّنا بالحياة وهذا حق، ولكن ليس هو معنى لا إله إلا الله، بل معناها لا معبود بحق إلا الله كما تقدّم. والإله الحق هو المستحق للعبادة وهو الذي يحيي ويميت، وهو الله تعالى.
وقول شيخك (إذا استطاع الإنسان..........إلى قوله وأكثر الناس اليوم يعادون الصوفية) إن أراد أنه يستغني عن الطعام والشراب دائما فهو قول باطل فإنه لا أحد من الناس يستغني دائما عن الطعام والشراب ولا الأنبياء فضلا عمّن سواهم، وزعمه أن الصوفي يستطيع العيش بلا طعام أو شراب، وأنّ ذكره لله يُغنيه عن ذلك دائما فهو باطل ومن ادعى ذلك منهم فهو كذاب، فلا تغتر أيها السائل بهذا الشيخ، فهو إما جاهل ضال وإما كذاب دجال، فاحذر منه ومن أمثاله. نسأل الله لك الهداية والتوفيق.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ عبد الرحمن البراك.(1/96)
الدنيا دار الابتلاء والفتن
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي الدنيا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الدنيا دار العمل والآخرة دار الجزاء والجزاء سيكون بالجنة للمؤمنين والنار للكافرين.
ولما كانت الجنة طيبة. ولا يدخلهما إلا من كان طيباً والله طيب لا يقبل إلا طيباً لذا جرت سنة الله في عباده الابتلاء بالمصائب والفتن , ليعلم المؤمن من الكافر ويتميز الصادق من الكاذب كما قال سبحانه: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) العنكبوت/2- 3.
ولن يتم الفوز والنجاح إلا من بعد امتحان يعزل الطيب عن الخبيث ويكشف المؤمن من الكافر كما قال سبحانه (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب) آل عمران/197.
ومن الابتلاء الذي يبتلي الله به عباده ليتميز به المؤمن من الكافر ما ذكره الله بقوله: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) البقرة/154-156.
فالله يبتلي العباد ويحب الصابرين ويبشرهم بالجنة.
ويبتلى الله عباده بالجهاد كما قال سبحانه: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) آل عمران/142.
والأموال والأولاد فتنة يبتلي الله بهما عباده ليعلم من يشكره عليها ومن، يشتغل بها عنه (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم) الأنفال/28.
ويبتلي الله بالمصائب تارة وبالنعم تارة ليعلم من يشكر ومن يكفر ومن يطيع ومن يعصى ثم يجازيهم يوم القيامة (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) الأنبياء/35.
والابتلاء يكون حسب الإيمان فأشد الناس بلاءً الأنبياء , ثم الأمثل فالأمثل قال عليه الصلاة والسلام (إني أوعك كما يوعك رجلان منكم) أخرجه البخاري/5648.
والله سبحانه يبتلي عباده بأنواع من الابتلاء.
فتارة ً يبتليهم بالمصائب والفتن امتحاناً لهم ليعلم المؤمن الكافر والمطيع من العاصي والشاكر من الجاحد.
وتارة يبتلى الله عباده بالمصائب، إذا عصوا ربهم فيؤدبهم بالمصائب لعلهم يرجعون كما قال سبحانه: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) الشورى/30.
وقال سبحانه: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) المؤمنون/76.
والله رحيم بعباده يكرر الفتن على الأمة لعلها ترجع وتنيب إليه وتهجر ما حرم الله , ليغفر الله لها كما قال سبحانه: (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون) التوبة/126.
ومن رحمة الله , أن تكون العقوبة على المعاصي في الدنيا لعل النفوس تزكو وتعود إلى الله قبل الموت (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون) السجدة/21.
وتارة يبتلي الله عباده بالمصائب لرفع درجاتهم وتكفير سيئاتهم كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب , ولا هم ولا حزن , ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) متفق عليه، أخرجه البخاري/5641.
[الْمَصْدَرُ]
من كتاب أصول الدين الإسلامي للشيخ محمد بن ابراهيم التويجري.(1/97)
متعجب من طول آدم عليه السلام
[السُّؤَالُ]
ـ[في صحيح البخاري، حديث رقم 246 ذكر رسول الله بأن آدم خُلق وطوله 30 متراً، أنا لا أستطيع أن أفهم هذا أو أتخيله، فأرجو أن تشرح لي.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لفظ هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا، ثم قال: اذهب فسلم على أولئك من الملائكة فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك. فقال السلام عليكم فقالوا: السلام عليكم ورحمة الله. فزادوه: ورحمة الله فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن) . رواه البخاري (3336) ومسلم (7092) .
وفي لفظ مسلم: (فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعاً فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن) .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن) .
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (6/367) : (أي أن كل قرن يكون نشأته في الطول أقصر من القرن الذي قبله، فانتهى تناقص الطول إلى هذه الأمة واستقر الأمر على ذلك) أ. هـ.
وعلى المسلم أن يؤمن بكل خبر جاء به الدليل من كتاب الله والسنة الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: (آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله) انظر الإرشاد شرح لمعة الاعتقاد ص (89) .
فالمؤمن يجب عليه أن يؤمن إيماناً جازماً بكل ما أخبر به الله جل جلاله، وبكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم إذا ثبتت صحته إليه صلى الله عليه وسلم، إيماناً جازماً لا يعتريه أدنى شك ويجب عليه أن يقبله جملة وتفصيلاً سواء فهمه أو لم يفهمه، أو استغربه أم لم يستغربه؛ لأن عدم استيعابه للأمر الصادق المجزوم بصحته وثبوته لا يعني عدم ثبوت هذا الأمر، ولكن القضية أن عقله لم يستطع أن يستوعب ذلك الأمر ويفهمه، والمولى سبحانه وتعالى أمرنا أن نؤمن بكل ما أخبر عنه سبحانه أو أخبر عنه نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) الحجرات / 15.
ومن جملة الإيمان الإيمان بالغيب، وهذا الحديث الذي بين أيدينا من هذا القبيل، ولقد أثنى الله جل جلاله على الذين يؤمنون بالغيب فقال تعالى: (آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ... ) البقرة / 1-3.
واعلم أخي الكريم أن الله على كل شيء قدير فكما خلق الإنسان في صورته التي هو عليها الآن قادر على أن يخلقه في صورة أكبر من ذلك أو أصغر.
وإذا أشكل عليك هذا الأمر فاعتبر ذلك بهؤلاء الأقزام الذين نراهم وهم رجال في حجم الأطفال فإذا كان ذلك واقعاً فما الذي يمنع من العكس وهو أن يكون رجلاً وطوله ستون ذراعاً، وقد وجد في التاريخ البشري عماليق كما يقول ذلك علماء الآثار والحفريات.
وأصل المسألة هو التسليم لكمال قدرة الله تعالى والتسليم لخبره وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، ونقول كما قال الراسخون في العلم: (آمنا به كل من عند ربنا) آل عمران / 7
نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/98)
حكم المؤمن المرتكب لبعض المعاصي
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو حال المؤمن الذي ارتكب الكثير من المعاصي في حياته؟ هل يغفر الله له أم أنه يُعذب؟ وما هو مقدار عذابه؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فالمؤمنون الذين يموتون على الإيمان إذا كانوا قد ارتكبوا في حياتهم معصيةً دون الكفر والشرك المخرج من الملة، لهم حالتان:
الأولى: أن يكونوا قد تابوا من المعصية في حياتهم، فإن تابوا منها توبة نصوحاً قبلها الله منهم. فيعودون كمن لا ذنب له، ولا يعاقبون على معصيتهم في الآخرة، بل ربما أكرمهم ربهم فبدل سيئاتهم حسنات.
الثانية: الذين يموتون ولم يتوبوا من المعاصي أو كانت توبتهم ناقصة لم تستوف الشروط، أو لم تقبل توبتهم فيها، فإن الذي أثبتته الآيات القرآنية والسنن النبوية واتفق عليه السلف الصالح أن هؤلاء ـ العصاة من أهل التوحيد ـ على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قوم تكون لهم حسنات كثيرة تزيد وترجح على هذه السيئات، فهؤلاء يتجاوز الله عنهم، ويسامحهم في سيئاتهم، ويدخلهم الجنة، ولا تمسهم النار أبداً إحساناً من الله وفضلاً وإنعاماً. كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله سبحانه وتعالى يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم، أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا ربهم ألا لعنة الله على الظالمين" رواه البخاري (2441) ومسلم (2768) .
وقال تعالى: {فمن ثقلت موازينه فأولئك المفلحون} الأعراف/8.
وقال سبحانه: {فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية * وأما من خفت موازينه فأمه هاوية} القارعة/:6-7.
القسم الثاني: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، وهؤلاء هم أصحاب الأعراف الذين ذكر الله تعالى أنهم يوقفون بين الجنة والنار ما شاء الله أن يوقفوا ثم يؤذن لهم في دخول الجنة كما قال تعالى بعد أن أخبر بدخول أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ فقال سبحانه: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلّاً بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ. وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين َ) إلى قوله: (أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) الأعراف/46-49
القسم الثالث: قوم لقوا الله تعالى مصرين على الكبائر والإثم والفواحش فزادت سيئاتهم على حسناتهم فهؤلاء هم الذين يستحقون دخول النار بقدر ذنوبهم فمنهم من تأخذه إلى كعبيه ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه حتى أن منهم من لا يحرم على النار منه إلا أثر السجود، وهؤلاء هم الذين يأذن الله في خروجهم من النار بالشفاعة فيشفع فيهم النبي صلى الله عليه وسلم،وسائر الأنبياء، والملائكة والمؤمنون ومن شاء الله أن يكرمه. فمن كان من هؤلاء العصاة أعظم إيمانا وأخف ذنبا كان أخف عذاباَ وأقل مكثا فيها وأسرع خروجا منها، وكل من كان أعظم ذنباً وأضعف إيماناً كان أعظم عذاباً وأكثر مكثاً نسأل الله السلامة والعافية من كل سوء.
فهذه حال عصاة المؤمنين في الآخرة.
وأما في الدنيا فهم ما داموا لم يرتكبوا عملاً يخرجهم من الملة فهم مؤمنون ناقصوا الإيمان كما أجمع على ذلك السلف الصالح مستدلين بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ فمن تلك الآيات:
قوله تعالى في آية القصاص: (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف) البقرة/178 فجعل الله القاتل أخاً لأولياء المقتول وهذه الأخوَّة هي أخوة الإيمان فدل ذلك على أن القاتل لم يكفر مع أن قتل المؤمن كبيرة من أكبر الكبائر.
وقوله جل شأنه: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الحجرات/9:10 فسمى الله الطائفتين المقتتلتين مؤمنين مع أن الاقتتال من كبائر الذنوب، بل وجعل المصلحين بينهم أخوة لهم؛ فدل هذا على أن مرتكب المعصية والكبيرة التي لا تصل إلى حد الشرك والكفر؛ يثبت له اسم الإيمان وأحكامه. لكنه يكون ناقص الإيمان. وبهذا تجتمع النصوص الشرعية وتأتلف. والله أعلم.
يراجع (أعلام السنة المنشورة 212) و (شرح العقيدة الواسطية للشيخ ابن عثيمين 2 / 238) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/99)
هل رؤية الله عز وجل في المنام جائزة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل رؤية الله عز وجل في المنام جائزة أم لا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
رؤية الله تعالى في الدنيا يقظة غير ممكنة، والدليل على ذلك أن موسى عليه السلام وهو من أفضل الرسل، وهو أحد أولى العزم الخمسة (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) قال الله له: (لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً) ، اندك الجبل أمام موسى وهو يشاهد: (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً) . غشي عليه لأنه شاهد شيئاً لا تتحمله نفسه: (فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) الأعراف/143. فتاب إلى الله من هذا السؤال، لأنه سؤال ما لا يمكن، والله عز وجل يقول: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) الأعراف/55.
فرؤية الله في الدنيا حال اليقظة لا يمكن حتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج لم ير ربه، وقد سئل هل رأيت ربك؟ قال: (رأيت نوراً) . وفي لفظ: (نورٌ أنَّى أراه) . يعني بيني وبينه حجب عظيمة من النور، وقد جاء في الحديث في الصحيح أن الله عز وجل محتجب بالنور، وذلك في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حجابه النور لو كشفه لأحرقته سبحات وجهه من انتهى إليه بصره من خلقه) .
وسبحاته: بهاؤه وعظمته، فلو كشف هذا النور الذي بينه وبين الخلق لاحترق الخلق جميعاً، لأن بصره ينتهي إلى كل شيء، فيحترق كل شيء بهذا النور العظيم، وعلى هذا نقول: لا تمكن رؤية الله في الدنيا في اليقظة.
أما في المنام فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه في المنام، لكن هل غيره يمكن أن يراه؟ يذكر أن الإمام أحمد رحمه الله رأى ربه، وذكر بعض العلماء أن ذلك ممكن، فالله أعلم، لكن أخشى إن فتح الباب أن تدخل علينا شيوخ الصوفية وغيرهم فيقول أحدهم رأيت ربي البارحة، وجلست أنا وإياه، وتنادمنا وتناقشنا، ثم يجيء من هذه الخزعبلات التي لا أصل لها، فأرى أن سد هذا الباب هو الأولى.
[الْمَصْدَرُ]
"لقاءات الباب المفتوح" (3/418) .(1/100)
هل يزيد الإيمان وينقص عند أهل السنة والجماعة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة وهل يزيد وينقص؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الإيمان عند أهل السنة والجماعة هو (الإقرار بالقلب , والنطق باللسان , والعمل بالجوارح) . فهو يتضمن الأمور الثلاثة:
1. إقرار بالقلب
2. نطق باللسان
3. عمل بالجوارح
وإذا كان كذلك فإنه سوف يزيد وينقص , وذلك لأن الإقرار بالقلب يتفاضل فليس الإقرار بالخبر كالإقرار بالمعانية , وليس الإقرار بخبر الرجل كالإقرار بخبر الرجلين وهكذا , ولهذا قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) البقرة/260. فالإيمان يزيد من حيث إقرار القلب وطمأنينته وسكونه, والإنسان يجد ذلك من نفسه فعندما يحضر مجلس ذكر فيه موعظة, وذكر للجنة والنار يزداد الإيمان حتى كأنه يشاهد ذلك رأي العين , وعندما توجد الغفلة ويقوم من هذا المجلس يخف هذا اليقين في قلبه.
كذلك يزداد الإيمان من حيث القول فإن من ذكر الله مرات ليس كمن ذكر الله مئة مرة , فالثاني أزيد بكثير.
وكذلك أيضاً من أتى بالعبادة على وجه كامل يكون إيمانه أزيد ممن أتى بها على وجه ناقص.
وكذلك العمل فإن الإنسان إذا عمل عملاً بجوارحه أكثر من الآخر صار الأكثر أزيد إيماناً من الناقص , وقد جاء ذلك في القرآن والسنة - أعني إثبات الزيادة والنقصان - قال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) المدثر/31.
وقال تعالى: (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) التوبة/124 - 125. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن) . فالإيمان إذن يزيد وينقص.
[الْمَصْدَرُ]
مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ج/1 ص 49.(1/101)
وسوس له الشيطان في خلق الله
[السُّؤَالُ]
ـ[شخص يوسوس إليه الشيطان بهذا السؤال: (من خلق الله؟) فهل يؤثر ذلك عليه؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الوسواس لا يؤثر عليه وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يأتي إلى الإنسان فيقول من خلق كذا؟! ومن خلق كذا!؟ إلى أن يقول من خلق الله؟ وأعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدواء الناجع وهو أن نستعيد بالله من الشيطان الرجيم وننتهي عن هذا.
فإن طرأ عليك هذا الشيء وخطر ببالك فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وانته عنه وأعرض إعراضاً كلياً وسيزول بإذن الله.
[الْمَصْدَرُ]
مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ج/1 ص 60.(1/102)
هل في الإسلام نقاط ضعف تمكن الكفار من مهاجمته؟
[السُّؤَالُ]
ـ[باعتبارنا مسلمين جدد، فنحن نواجه صعوبات كثيرة وانتقادات شديدة من غير المسلمين، بسبب المحيط حولنا، هل يجب أن لا نكون منفتحين في الكلام عن مواطن ضعفنا ونحاول أن نناقش الموضوع من جهة غير دفاعية ونبدو وكأننا نعتذر أو نتستر على الأخطاء؟
سبب هذا السؤال أننا إذا ظهرنا وكأننا ننكر ونموه عن نقطة ضعف ظاهرة فلن يجعلنا هذا نجتاز هذا الموقف، ربما بعض المسلمين يظن بأننا لو حاولنا أن نحل مشاكلنا علناً فإن هذا سوف يساعد الكفار في هجومهم على الإسلام. أرجو النصيحة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
ليس في الإسلام – بحمد الله – نقاط ضعف يخشى منها المسلم، فالإسلام هو دين الله تعالى المحكم، وقد قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً} الأنعام / 115، قال بعض أهل العلم في معناها: أي: صدقٌ في الأخبار، عدلٌ في الأحكام.
وقد امتن الله تعالى علينا بإكمال الدين وإتمام النعمة فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} المائدة / 3.
وكل ما يظهر للإنسان في نظره في أحكام الإسلام أنها نقاط ضعف فليعلم أن القصور ناتج من خلل المعيار الموجود عنده للقوة والضعف، لأن بعض ما هو حكمة وعدل من أحكام الشريعة قد يظنها الإنسان بخلاف ذلك بسبب كونها بعض هوى النفس أو مخالفته لما اعتاده الناس في حياتهم المخالفة للشرع ممن يظن أن قوامة الرجل على المرأة ضعف بسبب اعتيادهم على خلاف ذلك الذي هو مخالف للفطرة أيضاً.
ثانياً:
والأمر المهم الذي ينبغي التنبيه عليه هنا: أنه لا يجوز لآحاد الناس الكلام في أحكام الإسلام أو في تفسير القرآن وشرح الحديث، بل مرجع ذلك إلى أهل العلم الراسخين.
والذي يحدث هو عرض الشبهة على عامي من عوام المسلمين فيحتار في الجواب عنها أو يجيب عليها خطئاً، أو تبقى في قلبه شبهةً يصعب عليه ردها، {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} النساء / 83.
لذا فإننا نقول: إن الله تعالى حفظ لنا الدين بحفظ العلماء وتوفيقهم للفهم الصحيح للذب عن دينه وتبيين حكمه عز وجل للناس، وليس ذلك لعامة الناس بل هو لخاصتهم وهم العلماء.
وقد كان بعض أهل العلم يتحدى أن يأتيه واحد من الناس بآية تخالف آية أو تخالف حديثاً، أو يأتي بحديث يخالف آية أو حديثاً إلا ويبين لهم ما أشكل عليهم، وقد كانوا يعلنون ذلك ويتحدون به العالمين.
وقد وقف الدارقطني رحمه الله – وهو من أئمة الحديث – وقف ببغداد خطيباً فقال: يا أهل بغداد لا يستطيع أحدٌ أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حي، وهذا الكلام منه يدل على قوة علمهم وفهمهم للدين بما يعجز معه أهل الباطل أن يطعنوا في الدين أو يدسوا فيه ما ليس منه.
ولذلك.. فالنصيحة للسائل وغيره من المسلمين لاسيما الذين يخالطون الكفار بسبب العمل أو الإقامة في بلادهم أن يجتهدوا في طلب العلم والتعرف على الأحكام الشرعية الصحيحة المستنبطة من الكتاب والسنة مع الاهتمام بمعرفة علل هذه الأحكام وحَكَمِها حتى يكون عندهم من العلم ما يرد به شبهات المبطلين، ويمكنهم ذلك من الدعوة إلى الله على بصيرة.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/103)
حكم قول أنا مؤمن إن شاء الله
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يستطيع المسلم قول: أنا مؤمن إن شاء الله؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
مسألة الاستثناء في الإيمان من المسائل التي وقع فيها لأهل العلم مناقشات مطولة ومستفيضة والموقف الصحيح حيال هذه العبارة أن يُستفصل عن معنى قوله: (مؤمن) فإن أراد أصل الإيمان الذي هو بمعنى الإسلام والذي يكون بدونه كافرا فلا يصح الاستثناء والحالة هذه لأنه يكون حينئذ متضمنا لمعنى الشك في أصل الدين وهو محرم بل يجب على المسلم أن يجزم بإيمانه بهذا الاعتبار ويقول: أنا مؤمن دون استثناء، وأما إن أراد كمال الإيمان والمرتبة العالية التي هي فوق مرتبة الإسلام فعليه أن يستثني ويقول إن شاء الله لأن في عدم الإستثناء تزكية منعت الشريعة منها كما في قوله تعالى: (فلا تزكوا أنفسكم) .
وإذا أراد الإنسان لفظة لا إشكال فيه ليعبّر بها عن دينه الذي يعتقده فليقل: أنا مسلم ولا يحتاج إلى استثناء في هذه الحالة والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/104)
هل للمنافقين إيمان
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم هذا التقسيم للإيمان هل هو صحيح أو لا؟ الإيمان خمسة: إيمان مطبوع وهو إيمان الملائكة , وإيمان معصوم وهو إيمان الأنبياء, وإيمان مقبول وهو إيمان المؤمنين, وإيمان مردود وهو إيمان المنافقين, وإيمان موقوف وهو إيمان المبتدعة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أقول في هذا التقسيم إنه ليس بصحيح , لا من أجل التقسيم لأن التقسيم قد يكون صحيحاً في أصله ولا مشاحة في الاصطلاح والتقسيم , لكنه ليس بصحيح في حد ذاته فإن المنافقين قد نفي الله الإيمان عنهم في القرآن فقال - تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) البقرة/8. وإيمان البشر مطبوعون عليه لولا وجود المانع المقاوم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه) . صحيح أن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم , وصحيح أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يمكن أن يرتدوا بعد إيمانهم, ولكن التقسيم الثاني غير صحيح وهو أنه جعل الملائكة مطبوعين على الإيمان دون البشر, البشر كما تقدم قد طبعوا على الإيمان بالله وتوحيده, وخير من ذلك أن نرجع إلى تقسيم السلف الصالح لأنه هو التقسيم الذي يكون مطابقاً للكتاب والسنة للإجماع عليه. وهو أن الإيمان قول باللسان , وعمل بالأركان , واعتقاد بالجنان.
[الْمَصْدَرُ]
مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ج/1 ص 56 - 57.(1/105)
علاقة الروح بالبدن
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يوجد في الإسلام تفسير لعلاقة الروح بالبدن؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال ابن القيم رحمه الله:
الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام:
أحدها تعلقها به في بطن الأم جنينا.
الثاني تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض.
الثالث تعلقها به في حال النوم فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه.
الرابع تعلقها به في البرزخ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى لها التفات إليه البتة وقد ذكرنا في أول الجواب من الأحاديث والآثار ما يدل على ردّها إليه وقت سلام المسلِّم وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة.
الخامس تعلقها به يوم بعث الأجساد وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه إذ (هو) تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا.
… وإذا كان النائم روحه في جسده وهو حي وحياته غير حياة المستيقظ فإن النوم شقيق الموت فهكذا الميت إذا أعيدت روحه إلى جسده كانت له حال متوسطة بين الحي وبين الميت الذي لم ترد روحه إلى بدنه كحال النائم المتوسطة بين الحي والميت فتأمل هذا يزيح عنك إشكالات كثيرة.
[الْمَصْدَرُ]
كتاب الروح 44(1/106)
حكم ما يُسمى بـ " حرية الكلام "، و " حرية الرأي "؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو رأي الإسلام في حرية الكلام وحرية الرأي؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
معرفة الحكمة من وجود الإنسان فيه الجواب على هذا السؤال , فإنَّ مَن علم المقصد من خلقه ووجوده: يعلم أنَّ فعله، وكلامه، ورأيه، منضبط بما أراده الله، ورضيه , وأما الماديون، ودعاة التفسخ والانحلال: فينطلقون من مبدأ: قل ما تشاء، وافعل ما تشاء، واعبد ما تشاء.
فالحكمة من خلق الإنسان ووجوده على الأرض: أن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن يستسلم لأوامر الله تعالى، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) الذاريات/ 56 – 58، وقال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) المؤمنون/ 115،116.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
أي: (أَفَحَسِبْتُمْ) أيها الخلق، (أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) أي: سدى، وباطلا، تأكلون، وتشربون، وتمرحون، وتتمتعون بلذات الدنيا، ونترككم لا نأمركم، ولا ننهاكم، ولا نثيبكم، ولا نعاقبكم؟ ولهذا قال: (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) لا يخطر هذا ببالكم، (فَتَعَالَى اللَّهُ) أي: تعاظم وارتفع عن هذا الظن الباطل، الذي يرجع إلى القدح في حكمته (الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)
" تفسير السعدي " (ص 560) .
فمن علم أنه عبد لله: فلا بد أن يتقيد بما أمر الله به، وينتهي عما نهى الله عنه , وهذا ينافي دعوة حرية الكلام، والرأي، والأفعال , فالله لا يرضى من العبد التكلم بكلمة الكفر , أو أن يتكلم بالفسق، والفجور , أو أن يدعو إليها , وأما دعاة الحرية: فالأمر سيان عندهم، تكلم بما شئت، واعمل ما شئت , في حق الله، وفي حق الدين.
ثانياً:
لا شك أن الإسلام عظَّم خطورة الكلمة التي يتكلم بها المرء , قال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ق/ 18.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالاً يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالاً يَهْوِى بِهَا فِي جَهَنَّمَ) رواه البخاري (6113) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – أيضاً - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) رواه البخاري (5672) ومسلم (47) .
قال النووي رحمه الله:
وقد ندب الشرع إلى الإمساك عن كثير من المباحات؛ لئلا ينجر صاحبها إلى المحرمات، أو المكروهات , وقد أخذ الإمام الشافعي رضي الله عنه معنى الحديث فقال: " إذا أراد أن يتكلم: فليفكر , فإن ظهر له أنه لا ضرر عليه: تكلم , وإن ظهر له فيه ضرر، أوشك فيه: أمسك ".
" شرح مسلم " (2 / 19) .
ثالثاً:
إن حرية الكلام ليست مطلقة ـ حتى عند دعاتها ـ بل مقيدة بأمور، منها:
1. القانون.
ومن العجب أن ترى اجتماع دول الغرب على تجريم من يشكك في محرقة اليهود، بل يحاكمون من يثبتها لكن يشكك في أرقام قتلاها! دون أن يسمحوا لأهل التاريخ، ولأهل الفكر، أن يبحثوا القضية، ويتم مناقشتها وفق الأدلة والبراهين، ولا يزال بعض الكتَّاب والمفكرين قابعين في سجون تل البلدان بسبب موقفهم من ثبوت المحرقة، أو موقفهم من المبالغة في عدد قتلاها من اليهود.
ومنها: العرف، والذوق العام، والاصطدام بحرية الآخرين.
فإن كنا قد اتفقنا على تقيد حرية الكلام والتعبير عن الرأي، فليكن الحكم في ذلك، لحكم الله، الذي هو أعدل الأحكام وأحسنها، ولا يكون الحكم لقانون من وضع البشر، يعتيريه ما يعتري غيره من أنظمة البشر من الهوى والظلم والجهل.
وإنه لتناقض عند هؤلاء أن يكون القانون يُلجم أفواههم عن الكلام عن محرقة اليهود، وأخبار جنودهم القتلى في أرض المسلمين – بينما يستنكرون علينا أن نمنع من يسب الله أو رسوله أو دينه أو يقذف المحصنات المؤمنات أو غير ذلك مما حرم الله النطق به؛ لما يترتب عليه من مفاسد ومضار.
إن المسلم مطلوب منه أن لا يسكت على الخطأ والزلل، وعليه واجب التذكير والنصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر , وهذا منافٍ لدعوة حرية الكلام , فمن تكلم بكلام محرم، فالواجب منعه من هذا الكلام، ونهيه عن هذا المنكر.
والإسلام لا يمنع الناس من التعبير عن آرائهم فيما يجري حولهم في السياسة والاقتصاد، والمسائل الاجتماعية، ولا يمنع من الكلام في نقد الأخطاء، ونصح المخطئين، وكل ذلك ينبغي أن يكون مقيَّداً بشروط الشرع، وآدابه، فلا تهييج للعامة، ولا دعوة للفوضى، ولا اتهام للأبرياء، ولا قذف للأعراض، وغير ذلك مما هو معروف من أحكام الشرع التي تضبط هذه المسائل.
وقد وجدنا أن أكثر أصحاب دعاوى حرية الكلام، والرأي: مقصدهم من ذلك: حرية التطاول على الدِّين الإسلامي، وشرائعه , فيصلون إلى مقصدهم من خلال ـ حرية الرأي ـ.
فتطاولوا على حكم الله بدعوى حرية الكلام , وطعنوا في القرآن والسنَّة بدعوى حرية الكلام , ودعوا إلى الزنا والفجور والخنا بدعوى حرية الكلام.
وقد تبع هؤلاء بعض المنافقين في بلاد الإسلام، الذين يطعنون في أحكام الشريعة الإسلامية، ويطعنون في القرآن وفي السنة النبوية الصحيحة.
والواجب على حكام المسلمين الأخذ على أيدي هؤلاء، ومنعهم من هذا المنكر، حفاظاً على دين الأمة، وقياماً بما أوجب الله عليهم من حماية الدين والدفاع عنه.
والحاصل: أننا ـ نحن المسلمين ـ ليس عندنا ما يسمى بـ "حرية الرأي" أو "حرية التعبير" وإنما عندنا الخضوع لحكم الله تعالى، وعدم الخروج عن شرعه، فمن تكلم بالحق وجب أن يعان، ومن تكلم بالباطل وجب أن يمنع.
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
هل يجوز أن يكون هناك ما يسمَّى بـ " حرية الرأي "، أي: يُفتح المجال لأهل الخير، وأهل الشر، كلٌّ يدلي بدلوه في المجتمع؟ .
فأجاب:
"هذا باطل، لا أصل له في الإسلام، بل يجب أن يُمنع الباطل، ويُسمح للحق، ولا يجوز أن يُسمح لأحد يدعو إلي الشيوعية، أو الوثنية، أو يدعو إلى الزنا، أو القمار، أو غير ذلك، سواء بالأسلوب المباشر، أم غير المباشر، بل يُمنع، ويؤدب، بل إن هذه هي: " الإباحية المحرمة " انتهى.
" فتاوى إسلامية " (4 / 367، 368) .
وانظر لمزيد الفائدة جوابي السؤالين: (98134) و (9410) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/107)
التوكل والأخذ بالأسباب
[السُّؤَالُ]
ـ[حصل نقاش حول مسألة التوكل والأخذ بالأسباب، وتوكل بعض الصالحين كتوكل مريم والتي تأتيها فاكهة الصيف في الشتاء والعكس، ولم تتخذ الأسباب بل انقطعت للعبادة. فأيدونا في ذلك بارك الله فيكم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"التوكل يجمع الأمرين، فالتوكل يجمع شيئين:
أحدهما: الاعتماد على الله، والإيمان بأنه مسبب الأسباب، وأن قَدَره نافذ، وأنه قَدَّر الأمور وأحصاها وكتبها سبحانه وتعالى.
الشيء الثاني: تعاطي الأسباب، فليس من التوكل تعطيل الأسباب، بل من التوكل الأخذ بالأسباب، والعمل بالأسباب، ومن عَطَّلها فقد خالف شرع الله وقَدَرَه، فالله أمر بالأسباب وحث عليها سبحانه وتعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك.
فلا يجوز للمؤمن أن يعطل الأسباب، بل لا يكون متوكلاً على الحقيقة إلا بتعاطي الأسباب، ولهذا شُرِعَ النكاح لحصول الولد، وأمر بالجماع، فلو قال أحد من الناس: أنا لا أتزوج وأنتظر ولداً من دون زواج، لعُد من المجانين، فليس هذا أمر العقلاء، وكذلك لا يجلس في البيت أو في المسجد يتحرى الصدقات ويتحرى الأرزاق تأتيه، بل يجب عليه أن يسعى ويعمل ويجتهد في طلب الرزق الحلال.
ومريم رحمة الله عليها لم تدع الأسباب؛ فقد قال الله لها: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) مريم/25، هزت النخلة وتعاطت الأسباب حتى وقع الرطب، فليس من عملها ترك الأسباب، ووجود الرزق عندها وكون الله أكرمها وأتاح لها بعض الأرزاق وأكرمها ببعض الأرزاق لا يدل على أنها معطلة الأسباب، بل هي تتعبد وتأخذ بالأسباب وتعمل بالأسباب.
وإذا ساق الله لبعض أوليائه من أهل الإيمان شيئاً من الكرامات فهذا من فضله سبحانه وتعالى، لكن لا يدل على تعطيل الأسباب، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ) رواه مسلم (2664) ، وقال الله سبحانه: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) الفاتحة/5" انتهى.
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله
"فتاوى نور على الدرب" (1/364) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/108)
الحكمة من خلق الإنسان
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا غير مسلمة ولكني أود أن أعرف ماذا يقول الإسلام عن: لماذا خلق الله الإنسان؟ هل هناك سبب معين؟ ما معنى الوجود؟ هل فقط لطاعة الله؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نحن نعتقد أن الله هو خالق البشر، وأنه الذي تفرّد بخلق جميع المخلوقات كلها من الدواب والطيور، والحشرات والأسماك وغيرها من إنس أو جن، ونعتقد أنه ما خلقهم عبثا، فقد قال تعالى في القرآن: (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق) الأنبياء / 16، وأنه فَضَّل الإنسان على سائر المخلوقات فأعطاه العقل والسمع والبصر والفؤاد، وأنطق منه اللسان، وفَضَّله على غيره من المخلوقات، فقال تعالى في كتابه: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) الإسراء / 70. فالإنسان ميّزه الله عن الخلق، فلما أعطاه العقل والقلب كلّفه أن يعبده، والإنسان يعلم مَنْ خلقه، فأمره الله أن يعبده وهو ربه ومالكه، والمالك له حق على المملوكين، فالله خلق الخلق من البشر لعبادته، ولذلك قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات / 56، وأنكر عليهم أن يكونوا خُلِقوا كما خُلِقت البهائم، فقال تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) المؤمنون / 115، فهذا ظن سوء. وقال تعالى: (أيحسب الإنسان أن يترك سُدى) القيامة /36 أي مهملا، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يكلف.
فلما ميّز الله البشر عن غيره من المخلوقات كان من حكمة ذلك أن أمره بالعبادة، ونهاه عن المحرمات، ووعده على الطاعة بالجنة، وأخبره أنه سوف يعيده بعد موته، وسيلقى جزاءه كاملا، فمن صدّق بذلك كان من الأتقياء المؤمنين، ومن كذّب بذلك فقد عصى الله تعالى وتعرّض للعقاب في عاجل أمره وآجله، ولا يضرّ إلا نفسه.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
سماحة الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله(1/109)
إن كان لدى المسلم شكوك فهل يضره أن يسأل عن صحة معجزة ما؟
[السُّؤَالُ]
ـ[إن كان لدى المسلم شكوك حول الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم فيطلب أن يطمئن قلبه لشكوكه التي تساوره فيسأل عن مدى صحة معجزة ما جرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم فهل يضعه هذا خارج حظيرة الإسلام؟ وهل يغفر الله مثل تلك الذنوب؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
على المسلم أن يحمد الله تعالى ويشكره على نعمة الإسلام والهداية، فإنها أعظم النعم، كما قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأنعام/122، وقال سبحانه: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) الزمر/22، وقال: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) النور/21.
ولو نظر هذا المسلم فيما حوله، وتأمل ما عليه أهل الشرك والوثنية من نصارى وغيرهم لأدرك عظيم فضل الله عليه.
ومع ذلك فقد يعتري المسلم بعض الشكوك؛ لقلة علمه أو لضعف إيمانه، أو لوجود من يشككه، فيلزمه حينئذ أن يرفع الشك عنه بسؤال أهل العلم، والتدبر في كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، والنظر في السيرة والآيات والمعجزات، فإن ذلك مما يزيد الإيمان ويوصل إلى طمأنينة القلب وانشراح الصدر.
ولا حرج أن يسأل عن المعجزة وعن صحتها ليزداد يقينا وثباتا، ولا يعد سؤاله هذا خروجا عن الإسلام، لكن ليحذر من التمادي في الشك أو الانقطاع عن العمل كأن يترك الصلاة عياذا بالله، فإن ترك الصلاة كفر على الراجح من قولي العلماء.
وليعلم المسلم أنه مهما أذنب من ذنب ثم تاب واستغفر فإن الله تعالى يغفر له مهما كان ذنبه، وقد تاب الله تعالى على أناس عاشوا دهرهم في الكفر والشرك والصد عن سبيل الله، ثم صاروا أئمة للهدى ومصابيح للدجى ومنارات على طريق الحق والاستقامة، وقد قال تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) التوبة/104، وقال: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) الشورى/25.
فمهما عظم الذنب، فإن رحمة الله وعفوه وكرمه أعظم.
وقد أحسن من قال:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظمُ
إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يدعو ويرجو المجرمُ
ونصيحتنا لمن ابتلي بشيء من الشكوك أن يقبل على كتاب الله تعالى فإنه الدواء والشفاء، كما قال سبحانه: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) الإسراء/82.
ولينطرح بين يدي الله، يدعوه ويرجوه أن يزيل همه، ويفرج كربه، وينوّر قلبه، ويُذهب عنه كيد الشيطان.
وإن كان شكه مبنيا على شبهة معينة فليسأل عنها أهل العلم، فإن دين الإسلام من العظمة والقوة بحيث لا يقف في وجهه شبهة، ولا تقاومه حجة.
وإن كان ما يأتيه نوع من الوسوسة التي لا تقوم على شبهة معينة، فإن علاجها بالذكر والطاعة والاستعاذة والتشاغل والتغافل عنها، وينظر جواب السؤال رقم (12315) .
نسأل الله أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/110)
يعتقد أن عيسى خير من محمد ويطعن في نبينا
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا تقولون إن محمداً هو خير خلق الله - والذي لا أظن ذلك -؛ لأن خير خلق الله يجب أن لا يكون له ذنوب، وهذا يخالف محمَّداً؛ لأنه كثير الذنوب. خير خلق الله هو الذي ليس للشيطان عليه سلطان، وهو المسيح، وأنتم تعرفون والقرآن يقر بذلك. وكذلك خير خلق الله لا يلقي الشيطان على لسانه آيات دون أن يعلم , وكذلك خير خلق الله لا يخالف أمراً من الله، وخير خلق الله لا يمكن أن يجري عليه سحرٌ، وكيف يكون أَبَوَا خير خلق الله مشركين، وماتا مشركين؟ وأيضاً فإن خير خلق الله لا ينشر دينه بالسيف، أو بالمال يبيعه. إنكم تبالغون كثيراً، إن أردتم أورد لكم الآيات التي تثبت صحة كلامي.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
قد قرأنا ما كتبت بحروفه كلها، وأعدنا القراءة مرة وأخرى، فمن حقنا عليك أن تقرأ لنا ما ندافع به عن ديننا، وعن نبينا محمد - صلى الله عليه وعلى أخيه عيسى وسلم -، ومن حقنا عليك أن تتأمل كلامنا كما تأملْنا كلامك، أليس كذلك؟ .
ثانياً:
من الجيد أن تكون خاتمة رسالتك فيها إقرار بأن " عيسى " عليه السلام خير خلق الله تعالى، والإقرار بأنه مخلوق ينفي عنه الألوهية، وأنه إله رب؛ لأنك أقررتَ أنه مخلوق مربوب، ولن يجتمع في ذات أنها خالق ومخلوق، ورب ومربوب، أو " لاهوت وناسوت "، ولعلك باعتقادك هذا تعتقد أيضاً بطلان العقيدة التي تثبت لهذا المخلوق أنه إله، أليس كذلك؟ .
إن المسيح الذي تتكلم عنه في سؤالك، ليس هو المسيح الذي تؤمنون به معشر النصارى، فعن أيهما تريد أن تتحدث، وأن يدور حوارنا: عبد الله عيسى ابن مريم، المخلوق؛ أو الابن الذي اتخذتموه إلها؟!
انظر إجابة السؤال رقم (82361)
ثالثاً:
لسنا في صدد المقارنة بين عيسى ومحمد عليهما السلام، فنحن في شرعنا قد نهينا عن المفاضلة بين الأنبياء، وبخاصة تلك المفاضلة التي فيها إنقاص لقدر الطرف الآخر، وهو ما فعلته أنتَ، فلم تستطع إثبات خيرية عيسى عليه السلام على خلق الله تعالى إلا بالطعن بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا أمرٌ مرفوض في شرعنا لو كان الطرف الآخر أقل منزلة، وأما مع الطعن بأحد الأنبياء فإن من يفعل ذلك يكفر ويخرج من ملة الإسلام، فديننا المطهَّر يحفظ كرامة الأنبياء والرسل، ويُعلي شأنهم، والإيمان بهم جميعاً ركن من أركان الإيمان، ولا يكون مسلماً من لم يؤمن ولو بنبي واحد، وليس في شرعنا المطهَّر إلا ذِكر الأنبياء والرسل بخير، فقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم " القرآن " عبادتهم، وأثنى عليها، وذكر دعاءهم، وخشيتهم، ودعوتهم لأقوامهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وليس في كتاب الله تعالى ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يسيء لأحدٍ منهم، بل فيهما وجوب تعظيم قدرهم، وإعلاء شأنهم.
رابعاً:
بحث المفاضلة بين عيسى ومحمد عليهما السلام ليس هو مقصوداً عندنا في الدين، ولا ينبغي أن يكون عندك كذلك، والسبب: أننا أُمرنا باتباعه صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك بالشهادة أنه رسول الله، وهذا لا علاقة له بكونه خير خلق الله أو لا، وليس هذا في ديننا فحسب، بل كل قوم أرسل لهم رسول من قبَل ربهم تعالى فإنهم مأمورون بالإيمان به وباتباعه ولو لم يكن خير خلق الله، وهل من شرط النبي أن يكون خير خلق الله؟! فماذا إذن يكون حال الأمم السابقة التي اجتمع في عصر واحدٍ مجموعة عظيمة من الأنبياء والرسل؟! نحن لم نشهد لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة لأنه خير خلق الله، ولا قال هو اتبعوني لأنني خير خلق الله، بل نحن عرفنا ذلك من رفع الله تعالى لمقامه، ومن إعلائه لشأنه، وسنذكر ما يؤيد هذا بآية، وحادثة، وحديث:
1. أما الآية: فهي قول الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) آل عمران/ 81.
فهذا عهد وميثاق أخذه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى الأنبياء جميعاً أن يؤمنوا بمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن ينصروه في دعوته.
2. وأما الحادثة: فهي صلاة نبينا صلى الله عليه وسلم بالأنبياء جميعاً إماماً، وذلك في رحلته المسماة " الإسراء والمعراج "، فقد صلَّى بهم جميعاً عليهم السلام في بيت المقدس.
وإن لم يدل هذا على فضله وخيريته فلا ندري أي شيء يمكن أن يدل على ذلك.
3. وأما الحديث: فهو ما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم مما يجري يَوْمَ القِيَامَةِ حين يتراجع الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم كلهم عن الشفاعة للناس في الفصل بينهم، فيعتذرون، وكلهم يقول: نفسي، نفسي، فيتقدم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للشفاعة العظمى ويقول: أنا لها، أنا لها، ثُمَّ يكرمه ربه تعالى، ويقبل شفاعته في أهل المحشر، وذلك هو المقام المحمود الذي لم يجعله الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لبشرٍ غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهذه بعض أدلة من ديننا على أفضلية النبي صلى الله عليه وسلم على إخوانه الأنبياء عليهم السلام، وليسوا ينكرون هم ذلك، فها هو موسى عليه السلام يعترف بذلك في حديث صحيح عندنا، وها هو عيسى عليه السلام يرفض أن يؤم بالمسلمين، بل يرضى أن يكون مأموماً؛ لأنه سيعمل بالعهد والميثاق الذي أخذهما الله تعالى عليه، فعندما ينزل في آخر الزمان فإنه سيقتل الخنزير، وسيكسر الصليب، وسيصلي مأموماً وراء إمامٍ من أئمة المسلمين.
وقد ثبت في أصح الكتب عندنا – البخاري ومسلم – بيان هذه الأمور مجتمعة، مع تعظيم قدر عيسى عليه السلام، ومدى ارتباطه به صلى الله عليه وسلم، فقف على هذا الحديث:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ) رواه البخاري ومسلم.
ومعنى (أولى الناس بعيسى) : أي: أخصهم به، وأقربهم إليه.
ومعنى (إخوة لِعَلاَّت) : أي: إخوة لأب من أمهات شتى.
معنى الحديث: أن أصل إيمان الأنبياء واحد، وشرائعهم مختلفة.
فأنت بكلامك الوارد في سؤالك تظن أنه ثمة فجوة بين الأنبياء والمرسلين وبين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وليس هذا هو واقعهم عليهم السلام، بل هم جميعاً إخوة، جاءوا برسالة عقائدية واحدة، وهي الدعوة لعبادة الله تعالى وحده، وترك الإشراك به.
خامساً:
وأما قولك عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه " كثير الذنوب ": فهو قول يمكن أن يزعمه أي أحد في أي شخص، ولو كنت تسلك الجادة العلمية لما قلتَ هذا القول، ونحن ننزه الأنبياء والمرسلين الذين أرسلوا لغيرنا من الأمم أن يكونوا من أصحاب المعاصي والذنوب: فكيف يكون حال أفضلهم وخيرهم؟ وانظر للفرق العظيم بيننا وبينك، ففي الوقت الذي تطعن فيه بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم دون بيِّنة: فإننا ننكر هذا أن يكون من أخلاق أحد من الأنبياء والرسل لغيرنا، وهكذا علَّمنا ديننا: أن نحترم الأنبياء والمرسلين، وأن نجلَّهم، ونقدِّرهم.
ونحن لا نعجب منكم إذا طعنتم بنبينا وأسأتم له؛ لأن شتم الأنبياء ديدنكم، والطعن فيهم منهجكم، وقد لبَّس عليكم اليهود دينَكم، وحرَّفوه فتبعتموهم على عماية وضلالة، وكل ما في التوراة من طعن في الأنبياء والمرسلين فأنتم تصدقونه، وأضفتم إليه ما في كتبكم المحرَّفة من طعن في صفوة الناس:
1. جاء في إنجيل " متَّى " أن عيسى من نسل سليمان بن داود، وأن جدهم فارض الذي هو من نسل الزنى من يهوذا بن يعقوب. إصحاح متى الأول، عدد (10) .
2. وفي إنجيل " يوحنَّا " إصحاح (2) عدد (4) : أن يسوع أهان أمَّه في وسط جمع من الناس! .
3. وفي إنجيل " يوحنا "، إصحاح (10) عدد (8) : أن يسوع شهد بأن جميع الأنبياء الذين قاموا في بني إسرائيل هم سرَّاق ولصوص! .
وجاء في التلمود - وهو مؤلَّف ضخم، يعد مصدراً أساسيّاً من مصادر التشريع اليهودي، ويعد في وقتنا الحالي المرجع الديني لليهود الأصوليين، والمتشددين في إسرائيل، والعالم أجمع، وهو يتبوأ مكانة أسمى من مكانة التوراة -:
1. " إن تعاليم يسوع كفر , وتلميذه يعقوب كافر , وإن الأناجيل كتُب الكافرين ".
2. وجاء فيه - والعياذ بالله -:
" إن يسوع الناصري موجود في لجات الجحيم بين القار والنار، وإن أمَّه مريم أتت به من العسكري " بانديرا " عن طريق الخطيئة، وإن الكنائس النصرانية هي مقام القاذورات والواعظون فيها أشبه بالكلاب النابحة ".
3. وقال الحاخام " اباربانيل ":
" المسيحيون كافرون؛ لأنهم يعتقدون أن الله له لحم ودم ".
4. وجاء في التلمود:
" كل الشعوب ماعدا اليهود: وثنيون , وتعاليم الحاخامات مطابقة لذلك ".
5. وجاء في موضع آخر من التلمود:
" إن المسيح كان ساحراً ووثنيّاً، فينتج أن المسيحيين وثنيون أيضاً مثله ".
6. وجاء في التلمود - أيضاً -:
" النعيم مأوى أرواح اليهود، ولا يدخل الجنة إلا اليهود، أما الجحيم: فمأوى الكفار من المسيحيين، والمسلمين، ولا نصيب لهم فيها سوى البكاء؛ لما فيها من الظلام والعفونة ".
فأين هذا الذي تدعيه كتبكم على أنبياء الله الكرام، مما تدعيه على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من كثرة الذنوب. وانظر جواب السؤال رقم (42216) .
سابعاً:
وأما قولك " وكذلك خير خلق الله لا يلقي الشيطان على لسانه آيات دون أن يعلم ": فأنت تريد به " قصة الغرانيق " وملخصها:
أن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يقرأ: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) النجم/ 19، 20 ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى! وأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمشركون سجدوا بعد ذلك!
وهذه القصة قد ضعَّفها كثير من أهل العلم والتحقيق.
قال البيهقي:
هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل.
انظر " تفسير الفخر الرازي " (23 / 44) .
وقال ابن حزم:
وأما الحديث الذي فيه: " وأنهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى " فكذب بحت موضوع؛ لأنه لم يصح قط من طريق النقل، ولا معنى للاشتغال به، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد.
" الفِصَل في الملل والنحل " (2 / 311) .
وقال القاضي عياض:
هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل....، ومن حُكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية.
" الشفا في أحوال المصطفى " (2 / 79) .
وقال الحافظ ابن كثير:
قد ذكر كثير من المفسرين قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة، ظنّاً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم.
" تفسير ابن كثير " (3 / 239) .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -:
ليس في إلقاء هذه الألفاظ في قراءته صلى الله عليه وسلم حديث صحيح يعتمد عليه فيما أعلم، ولكنها رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث مرسلة، كما نبه على ذلك الحافظ ابن كثير في تفسير آية الحج، ولكن إلقاء الشيطان في قراءته صلى الله عليه وسلم في آيات النجم وهي قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج / 52] فقوله سبحانه: {إِلا إِذَا تَمَنَّى} أي: تلا، وقوله سبحانه: {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي: في تلاوته، ثم إن الله سبحانه ينسخ ذلك الذي ألقاه الشيطان ويوضح بطلانه في آيات أخرى، ويحكم آياته؛ ابتلاء وامتحانا، كما قال سبحانه بعد هذا: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} الآيات [الحج / 53] .
فالواجب على كل مسلم أن يحذر ما يلقيه الشيطان من الشبه على ألسنة أهل الحق وغيرهم، وأن يلزم الحق الواضح الأدلة، وأن يفسر المشتبه بالمحكم حتى لا تبقى عليه شبهة، كما قال الله سبحانه في أول سورة آل عمران: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران / 7] وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه قال: " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم " متفق على صحته.
والله ولي التوفيق.
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " (8 / 301، 302) .
وقد تكلَّم على القصة سنداً ومتناً وبيَّن ضعف سندها ونكارة متنها: الشيخ الألباني - رحمه الله - في رسالته النافعة " نصب المجانيق في بطلان قصة الغرانيق ".
ومن صحح القصة من العلماء فإنه لم يقل بما توهمه في ظاهرها من التغيير والتبديل في كلام الله تعالى ومن الخطأ من النبي صلى الله عليه وسلم، بل بيَّنوا لها أوجهاً تلتقي مع اعتقاد المسلمين جميعاً بعدم تحريف القرآن وبعصمة النبي صلى الله عليه فيما يبلغ عن ربه تعالى.
ومن وجوه التأويل ما ذكره بعض العلماء من كون الشيطان ألقى تلك الكلمات في أسماع المشركين لا أنه ألقاها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (2 / 282) .
أما عن سبب سجود المشركين في نهاية تلاوة السورة: فإليك ما قاله العلماء فيه.
قال الشيخ الألباني - رحمه الله - في آخر كتابه السابق الذكر -:
رب سائل يقول: إذا ثبت بطلان إلقاء الشيطان على لسانه عليه الصلاة والسلام جملة " تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى " فَلِمَ إذن سجد المشركين معه صلى الله عليه وسلم وليس ذلك من عادتهم؟ .
والجواب ما قاله المحقق الآلوسي بعد سطور من كلامه الذي نقلته آنفاً:
" وليس لأحد أن يقول: إن سجود المشركين يدل على أنه كان في السورة ما ظاهره مدح آلهتهم، وإلا لما سجدوا؛ لأننا نقول: يجوز أن يكونوا سجدوا لدهشة أصابتهم وخوف اعتراهم عند سماع السورة لما فيها من قوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى. وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى. وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى. وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى. فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} إلى آخر الآيات [النجم / 50 - 54] ، فاستشعروا نزول مثل ذلك بهم، ولعلهم لم يسمعوا قبل ذلك مثلها منه صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بين يديْ ربه سبحانه في مقام خطير وجمع كثير، وقد ظنّوا من ترتيب الأمر بالسجود على ما تقدم أن سجودهم ولو لم يكن عن إيمان كافٍ في دفع ما توهَّموه، ولا تستبعد خوفهم من سماع مثل ذلك منه صلى الله عليه وسلم، فقد نزلت سورة (حم السجدة) بعد ذلك كما جاء مصرّحا به في حديث عن ابن عباس، ذكره السيوطي في أول " الإتقان " فلما سمع عُتبة بن ربيعة قوله تعالى فيها: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} " [فصّلت / 13] ! أمسك على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وناشده الرحم واعتذر لقومه حين ظنوا به أنه صبأ وقال: " كيف وقد علمتم أن محمَّداً إذا قال شيئاً لم يكذب؟ فخفت أن ينزل بكم عذاب " وقد أخرج ذلك البيهقي في " الدلائل " وابن عساكر في حديث طويل عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
ثامناً:
وأما قولك: " وكذلك خير خلق الله لا يخالف أمراً من الله ": لا نعرف ما الأمر الذي أمر الله تعالى نبيَّه ولم يفعله! وقد وصفه ربه تعالى بالعبودية، وأثنى عليه، وهو أعلم الناس بربه، وأتقاهم وأخشاهم له، فأي أمرٍ يمكن أن يخالفه؟! إن هذا إلا اختلاق.
تاسعاً:
وقولك: " وخير خلق الله لا يمكن أن يجري عليه سحرٌ ": قول باطل، فالسحر الذي جرى له صلى الله عليه وسلم لم تعلمه أنت حتى أعلمك به النبي صلى الله عليه وسلم! ولم يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حتى أذن الله تعالى له بالإخبار به! فهو من جملة العوارض التي تصيب الإنسان، وهو يدل على أنه صلى الله عليه وسلم بشر، وقد ردَّ بعض أهل البدع من المنتسبين للإسلام هذا الحديث، وظنوه مخالفاً لكونه معصوماً صلى الله عليه وسلم، ومحطاًّ لقدر النبوة، وقد كفانا العلماء الأثبات مئونة الرد على أولئك قديماً، وعليكم حديثاً.
قال النووي – رحمه الله –:
قال الإمام المازري: وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث بسببٍ آخر، فزعم أنه يحط منصب النبوة، ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع! وهذا الذي ادَّعاه هؤلاء المبتدعة: باطل؛ لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه، وصحته، وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ، والمعجزة شاهدة بذلك، وتجويز ما قام الدليل بخلافه: باطل، فأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث بسببها، ولا كان مفضَّلا من أجلها، وهو مما يعرض للبشر: فغير بعيد أن يخيَّل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، وقد قيل: إنه إنما كان يتخيل إليه أنه وطىء زوجاته وليس بواطئ، وقد يتخيل الإنسان مثل هذا في المنام، فلا يبعد تخيله في اليقظة ولا حقيقة له، وقيل: إنه يخيل إليه أنه فعله وما فعله ولكن لا يعتقد صحة ما يتخيله فتكون اعتقاداته على السداد.
قال القاضي عياض: وقد جاءت روايات هذا الحديث مبيِّنة أن السحر إنما تسلَّط على جسده وظواهر جوارحه، لا على عقله، وقلبه، واعتقاده، ويكون معنى قوله في الحديث " حتى يظن أنه يأتي أهله ولا يأتيهن "، ويروى: " يُخيل إليه " أي: يظهر له من نشاطه، ومتقدم عادته القدرة عليهن فإذا دنى منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن، ولم يتمكن من ذلك كما يعتري المسحور، وكل ما جاء في الروايات من أنه يخيل إليه فعل شيء لم يفعله، ونحوه: فمحمول على التخيل بالبصر لا لخلل تطرق إلى العقل، وليس في ذلك ما يدخل لبساً على الرسالة، ولا طعناً لأهل الضلالة.
" شرح مسلم " (14 / 174، 175) .
وقال الإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله -:
قد أنكر هذا طائفة من الناس، وقالوا: لا يجوز هذا عليه، وظنُّوه نقصاً وعيباً، وليس الأمر كما زعموا، بل هو من جنس ما كان يعتريه صلى الله عليه وسلم من الأسقام والأوجاع، وهو مرض من الأمراض، وإصابته به كإصابته بالسم لا فرق بينهما، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إن كان ليخيل إليه أنه يأتي نساءه ولم يأتهن، وذلك أشد ما يكون من السحر.
" زاد المعاد " (4 / 113) .
ثم نسألك، إن كنت جاداً في الحوار: أيهما أشد على صاحبه، وأدل على نزول قدره، جريان هذا السحر، الذي هو مرض من الأمراض، تسبب فيه هذا اليهودي، أو تسلّط اليهود على عيسى ابن مريم النبيّ عندنا، والإله أو ابن الإله عندكم، حتى صلبوه وقتلوه وسط شماتة الأعداء وإهانتهم:
(وكان المارة يهزون رؤوسهم ويشتمونه، ويقولون: ... إن كنت ابن الله، فخلص نفسك، وانزل عن الصليب. وكان رؤساء الكهنة، ومعلمو الشريعة والشيوخ يستهزئون به، فيقولون: خلَّصَ غيره، ولا يقدر أن يخلص نفسه؟! هو ملك إسرائيل، فلينزل الآن عن الصليب لنؤمن به؛ توكَلَ على الله وقال: أنا ابن الله، فلينقذه الله إن كان راضيا عنه. وعيره اللصان المصلوبان معه أيضا، فقالا مثل هذا الكلام.)
(وعند الظهر خيم على الأرض كلها ظلام حتى الساعة الثالثة , ونحو الساعة الثالثة صرخ يسوع بصوت عظيم: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟!!) [متى: 27/38-47] وأيضا:
[مرقس: 15/29-35]
راجع جواب السؤال رقم (12615)
ونحن نقول: حاشا لأنبياء الله الكرام، محمد وأخيه عيسى وإخوانهم جميعاً عليهم السلام من هذا الإفك والبهتان ومن كل ذلة وهوان "
عاشراً:
وأما قولك: " وكيف يكون أبوا خير الله مشركين، وماتا مشركين؟ ": فهذا من العجائب، وما دخل كونه أفضل الخلق بكون والديه مشركين؟! وهل الرب تعالى اصطفاه هو أم اصطفاه واصطفى أهله وأقرباءه؟! وها هو إبراهيم عليه السلام قد توفي والده على الشرك، فلم يُنقص ذلك من رتبته ومنزلته، وهو أبو الأنبياء، صلى الله عليه وسلم، وها هو نوح عليه السلام تموت زوجته وابنه على الكفر، وها هو لوط عليه السلام تُهلك زوجته وهي على الكفر، فكان ماذا؟ .
ثم انظروا، ما تقوله كتبكم المقدسة عندكم، وعند اليهود عن مريم البتول عليها السلام، بل وعن أنبياء الله أنفسهم، لتعلم أيها السائل أي الفريقين أصدق قيلاً، وأهدى سبيلاً؟!
حادي عشر:
وأما قولك: "؟ وأيضاً فإن خير خلق الله لا ينشر دينه بالسيف، أو بالمال يبيعه "
فقد سبق أن ناقشنا ذلك في موقعنا، فنرجو مراجعة جواب السؤالين (43087) و (100521)
فإذا انتهيت من مراجعة هذين الجوابين، فمن الحسن أن تتأمل هذه النصوص من كتبكم، لعلك أن يكون لك رأي آخر:
1. قال المسيح عليه السلام: " لا تظنوا أني جئتُ لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً، وإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته. من أحب أبا أو أماً أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابناً أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني، ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني، من وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها ".
" إنجيل متى، الإصحاح العاشر، فقرة 35 وما بعدها.
2. قال المسيح عليه السلام: " من له سيف: فليأخذه، ومن ليس له: فليبع ثوبه، ويشتري سيفاً ".
" لوقا " (22 / 36، 37) .
3. ويقول المسيح عليه السلام: " أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم: فأتوا بهم إلى هنا، واذبحوهم قدامي ".
" لوقا " (11) .
ج. واسمع لعقلاء من غير المسلمين من الكتَّاب والأدباء والتاريخيين ماذا يقولون:
1. قال توماس كارليل في كتابه " الأبطال وعبادة البطولة ": " إن اتهامه - أي: محمد صلى الله عليه وسلم - بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة لدعوته: سخفٌ غير مفهوم؛ إذ ليس مما يجوز في الفهم أن يُشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس، أو يستجيبوا له، فإذا آمن به مَن يقدرون على حرب خصومهم: فقد آمنوا به طائعين مصدقين، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها ".
انظر: " حقائق الإسلام وأباطيل خصومه " لعباس لعقاد (ص 227) .
2. ويقول المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه " حضارة العرب " وهو يتحدث عن سر انتشار الإسلام في عهده صلى الله عليه وسلم وفي عصور الفتوحات من بعده -: " قد أثبت التاريخ أن الأديان لا تُفرض بالقوة، ولم ينتشر الإسلام إذن بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخراً كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند - التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل - ما زاد عدد المسلمين إلى خمسين مليون نفس فيها، ولم يكن الإسلام أقل انتشاراً في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منها قط، وسترى في فصل آخر سرعة الدعوة فيها، ويزيد عدد مسلميها على عشرين مليوناً في الوقت الحاضر ".
فهل تبين لك مدى بُعد التهمة عن الإسلام؟! هل تبين لك مدى تضليل الأحبار والرهبان ووسائل الإعلام لك؟ .
د. وكأني بك تريد تنزيه دينك عن انتشاره بالسيف! وكأني بك تريد إقناع الناس بما يحمله أهل دينك من الرحمة والرأفة! وكل ذلك غير صحيح، وإليكَ أمثلة من واقعكم:
1. الملِك " أولاف " ذبَح كلَّ مَن رفض اعتناق النصرانية في " النرويج "، قطع أيديهم، وأرجلهم، ونفاهم، وشرَّدهم، حتى انفردت النصرانية بالبلاد.
2. وفي الجبل الأسود بالبلقان قاد الأسقف الحاكم " دانيال بيتر وفتش " عملية ذبح غير المسيحيين ليلة عيد الميلاد.
3. وفي الحبشة قضى الملك سيف أرعد (1342 – 1370 م) بإعدام كل من أبى الدخول في النصرانية، أو نفيهم من البلاد.
4. ثم نجد أن النصرانية - وليس الإسلام - هي التي أبادت الهنود الحمر في أمريكا.
5. ثم نجد النصرانية هي التي اقتلعت الشعب الفلسطيني من أرضه لتسليمها إلى أعداء المسيح ومحمد - عليهما السلام - على السواء.
6. من الذي أشعل الحروب العالمية؟ لقد قُتل في الحرب العالمية الأولى عشرة ملايين، وفي الثانية حوالي 70 مليوناً! .
7. وكم قُتل من البشر بالقنابل الذرية التي ألقيت على مدينتي " نجازاكي " و " هيروشيما " في اليابان؟ .
8. وترى النصرانية في حربها الصليبية عندما حاصرت بيت المقدس وشددت الحصار ورأى أهلها أنهم مغلوبين فطلبوا من قائد الحملة " طنكرد " الأمان على أنفسهم وأموالهم، فأعطاهم الأمان على أن يلجأوا إلى المسجد الأقصى رافعين راية الأمان، فامتلاء المسجد الأقصى بالشيوخ والأطفال والنساء، وذُبحوا كالنعاج، وسالت دماؤهم في المعبد حتى ارتفعت الدماء إلى ركبة الفارس، وعجَّت شوارعنا بالجماجم المحطمة، والأذرع، والأرجل المقطعة، والأجسام المشوهة، ويذكر المؤرخون أن الذين قُتلوا في داخل المسجد الأقصى فقط سبعين ألفاً، ولا ينكر مؤرخو الفرنج هذه الفضائح.
9. وعصرنا اليوم خير شاهد على ذلك، لقد قصفوا أفغانستان، ثم تحولوا إلى العراق ليدمروها، فقصفوا، وقتلوا، وعاثوا في الأرض فساداً، وقد قال كبيرهم: إن الله أمره بدخول العراق!! فأين وصايا المسيح التي يدعونها ويتشدقون بها؟! .
10. ألم يقف " اللورد اللنبي " ممثل الحلفاء: إنجلترا، وفرنسا، وإيطاليا، ورومانيا، وأميركا في بيت المقدس في سنة 1918 حين استولى عليه في أخريات الحرب الكبرى الأولى قائلاً: " اليوم انتهت الحروب الصليبية "؟! .
11. ألم يقف الفرنسي " غورو " ممثل الحلفاء أيضاً - وقد دخل دمشق - أمام قبر البطل المسلم " صلاح الدين الأيوبي " قائلاً: " لقد عدنا يا صلاح الدين "؟! .
12. وهل هدمت الديار، وسفكت الدماء، واغتصبت الأعراض في البوسنة والهرسك إلا باسم الصليب؟ .
13. بل أين هؤلاء مما حدث في الشيشان - ومازال يحدث -؟ وفي إفريقيا؟ وإندونيسيا؟ وغيرها؟ وهل يستطيع هؤلاء إنكار أن ما حدث في كوسوفا كان حربا صليبية؟ ألم يقل بوش في حربه الأخيرة " ستكون حربا صليبية "؟! .
ومثل هذه الفظائع لم يقع في جهاد المسلمين لأعدائهم، فما كانوا يقتلون النساء، ولا الأطفال، ولا الدهماء من الناس، ويجدر أن نذكر بوصية أبي بكر الصدِّيق حيث قال لأسامة بن زيد وجنده:
" لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تعزقوا نخلاً، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيراً إلا للأكل، وإذا مررتم بقوم فرَّغوا أنفسهم في الصوامع: فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له ".
ينظر: " موسوعة شبهات النصارى حول الإسلام "، " السيرة النبوية " للشيخ محمد أبو شهبة.
وأما كلامك عن المال: فإن هذا يجب أن يُستحيى من ذِكره، فالعالم كله يعرف من الذي يذهب إلى الدول الفقيرة وبيده اليمنى خبزة، وبالأخرى نسخة من الإنجيل! وكل العالم يعرف من يحمل بيده حبة الدواء وحفنة الدولارات، وبيده الأخرى نسخة من الإنجيل! .
وأخيراً:
لعلنا أن نكون قد أظهرنا لك خطأ ما ذكرتَه عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولعلك علمت أنك ضحية إعلام مزوَّر، جعلك تسيء إلى من لا يستحق الإساءة، وتسكت عمن يستحق البيان والفضح، واعلم أن الإسلام دين الأدلة والبراهين، وليس دين الادعاءات والتزوير، فأدرك نفسك، والتحق بركب الأنبياء والصالحين، واحرص على أن لا تموت إلا على الدين الذي كان يعتقده الأنبياء والمرسلون، وهو التوحيد، واحرص على أن تكون ضمن قافلة أتباع خير الأديان وخاتمتها.
نسأل الله تعالى أن يهديك، ويشرح صدرك للإسلام، ونسأله أن يريك الحق حقا ويرزقك اتباعه، ويريك الباطل باطلا ويرزقك اجتنابه.
والله الموفق
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/111)
مصاب بالوساوس في إيمانه، ومحاسبته على ماضيه السيء؟!
[السُّؤَالُ]
ـ[لدي استفساران، وأتمنى أن أجد لهما إجابة: الأول: وهو أنني كنت شديد البعد عن الله عز وجل، وكنت من مرتكبي الذنوب والمعاصي بشتى أنواعها، حتى تاب الله تعالى علي في شهر رمضان الحالي، وشعرت فيه بسعادة لم أشعرها بحياتي من قبل، وأصبحت - وبفضل الله - من المحافظين على صلاة الجماعة، وأقوم بما يقدرني الله من الليل، لكن تأتيني بعض الهواجس بأن الله لن يغفر لي مهما فعلت، إضافة لبعض الهواجس التي تراودني عن الذات الإلهية، وعن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والتي أتمنى الموت على أن أفكر فيها، وأصبحت تراودني بشدة لدرجة أني أصبحت أظن بأني لست مسلما؟ خاصة بعد أن وقعت - بحكم عملي - في بعض المجادلات مع أحد القساوسة من النصارى الذي كان يحاول تشويه ديننا، وبعد أن تجاهلته خوفا على نفسي من أي فتنة، اتهمني بالهزيمة، وأنه على الحق، وأننا - المسلمين - على الباطل، لزمت الاستغفار والدعاء والبكاء لكن بلا فائدة. فبالله عليكم ماذا أفعل، لأني أشعر أنه قد أصابني الإحباط واليأس، وكيف أتفقه في الدين؟ وكيف أجادل هذا القسيس وأقنعه أنه جاهل، وأنه يفتري على الله تعالى. أفيدوني أفادكم الله، وجعل هذا المجهود الطيب في ميزان حسناتكم، وأعانكم على فعل الخير.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
والله، يا عبد الله، إن حالك لعجب من العجب!!
تَصِفُ الدَّواءَ لِذي السَّقامِ وَذي الضَّنا كيما يَصحّ بِهِ وَأَنتَ سَقيمُ
أنت مبتلى بالوساوس في أعظم أمرك، وأجل شأنك، مبتلى في أمر فيه نجاتك، إن شككت فيه هلكت، وإن تزعزع في قلبك لم ينفعك شيء، ثم أنت تفتح على نفسك أبوابا من الشبهات الجديدة، بمجادلتك مع هذه الكافر؛ أنت مهزوز، فكيف تثبت غيرك، ابحث عن نفسك أولا، وداو مرضك، قبل أن تفكر في علاج غيرك.
فاعلم ـ يا عبد الله ـ أنك إن لم تشغل نفسك بالحق، شغلتك بالباطل، وإن لم تحملها على الهدى، حملتك على الضلال؛ فانظر يا عبد الله ماذا تختار لنفسك، وترضه لدينك؟!
ونحيلك في موقعنا إلى أجوبة سابقة فيها حل لإشكال الخطرات والوساوس، سبق بيان الجواب عنه في الأرقام الآتية: (12315) ، (25778) ، (98295) .
كما ننقل لك هنا كلاما للعلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله، فنرجو أن تتأمل فيه، ففيه بيان شاف لهذه المسألة، يقول رحمه الله:
" معلوم أنه لم يعط الإنسان أمانة الخواطر، ولا القوة على قطعها، فإنها تهجم عليه هجوم النفس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها، ورضاه به، ومساكنته له، وعلى دفع أقبحها، وكراهته له، ونفرته منه، كما قال الصحابة: يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه ما إن أن يحترق حتى يصير حممة أحب إليه من أن يتكلم به؟ فقال: أوقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذلك صريح الإيمان. أخرجه مسلم في باب الإيمان، وأبو داود في كتاب الأدب.
وفيه قولان:
أحدهما: أن رده وكراهته صريح الإيمان. والثاني: أن وجوده وإلقاء الشيطان له في النفس صريح الإيمان، فإنه إنما ألقاه في النفس طلبا لمعارضة الإيمان وإزالته به.
وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن، ولا بد لها من شيء تطحنه، فإن وضع فيها حَب طحنته، وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته، فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحَب الذي يوضع في الرحى، ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط، بل لا بد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حَبًّا يخرج دقيقا ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملا وحصى وتبنا ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه.
فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر، ومَن فكَّر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه، فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفسك، فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي لا تبتعد بها أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه ورضاه عنك، وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك، ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئا خسيسا لم يكن في سائر أمره إلا كذلك.
وإياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك، فإنه يفسدها عليك فسادا يصعب تداركه، ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك، فمثالك معه مثال صاحب رحى يطحن فيها جيد الحُبوب، فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونته، فإن طرده ولم يمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه، وإن مكنه من إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحَب، وخرج الطحين كله فاسدا.
" انتهى باختصار.
"الفوائد" (ص/191-194)
أما عن شأن مناقشة القس النصراني، فنصيحتنا لك ألا تشتغل بذلك، فذلك علم واسع لم تتخصص أنت فيه، فكيف تريد الخوض فيه، بل وإقناع ذلك النصراني الذي قد يكون متخصصا في هذا الأمر، أرأيت لو أردت أن تناقش طبيبا لتقنعه بعلاج معين لمرض خطير فهل تراه يسمع منك، أو يأخذ عنك، أو يقتنع بكلامك؟! ، فلماذا تسعى للخوض في علم واسع - وهو علم الفرق والأديان والعقائد - وأنت لست من العلماء به، بل وتحمل بسببه هما تلوم به نفسك، ونحن نصدقك القول أننا نراك مخطئا في هذا الشعور، وإن كنا نرجو أن يثيبك الله تعالى على حرصك على إفحام ذلك النصراني المجادل، ولكن عليك أن تسلك سبيل التعلم بالمطالعة والدراسة والاستماع سنوات عديدة، ثم بعد ذلك تتصدى للدفاع عن الإسلام، ودعوة غير المسلمين إليه.
فإن كان قد وقع في قلبك شيء من شبه هذه القسيس، أعاذك الله من ذلك، فبإمكانك أن تستعين بمن عنده علم في هذا الباب أن يحلها لك، ويزيل عنك الإشكال.
وإن كنت بحمد الله على بنية من أمرك، كما يبدو من سؤالك؛ فاعلم أن هذا الرجل كاذب، ويعلم أنه كاذب.
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) المائدة /41.
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره (231) : " كان الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه على الخلق يشتد حزنه لمن يظهر الإيمان، ثم يرجع إلى الكفر، فأرشده الله تعالى، إلى أنه لا يأسى ولا يحزن على أمثال هؤلاء؛ فإن هؤلاء لا في العير ولا في النفير، إن حضروا لم ينفعوا، وإن غابوا لم يفقدوا، ولهذا قال مبينا للسبب الموجب لعدم الحزن عليهم - فقال: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} فإن الذين يؤسى ويحزن عليهم، من كان معدودا من المؤمنين، وهم المؤمنون ظاهرا وباطنا، وحاشا لله أن يرجع هؤلاء عن دينهم ويرتدوا، فإن الإيمان -إذا خالطت بشاشته القلوب- لم يعدل به صاحبه غيره، ولم يبغ به بدلا.
{وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} أي: اليهود {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أي: مستجيبون ومقلدون لرؤسائهم، المبني أمرهم على الكذب والضلال والغي. وهؤلاء الرؤساء المتبعون {لَمْ يَأْتُوكَ} بل أعرضوا عنك، وفرحوا بما عندهم من الباطل وهو تحريف الكلم عن مواضعه، أي: جلب معان للألفاظ ما أرادها الله ولا قصدها، لإضلال الخلق ولدفع الحق، فهؤلاء المنقادون للدعاة إلى الضلال، المتبعين للمحال، الذين يأتون بكل كذب، لا عقول لهم ولا همم. فلا تبال أيضا إذا لم يتبعوك، لأنهم في غاية النقص، والناقص لا يؤبه له ولا يبالى به.
{يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} أي: هذا قولهم عند محاكمتهم إليك، لا قصد لهم إلا اتباع الهوى.
يقول بعضهم لبعض: إن حكم لكم محمد بهذا الحكم الذي يوافق أهواءكم، فاقبلوا حكمه، وإن لم يحكم لكم به، فاحذروا أن تتابعوه على ذلك، وهذا فتنة واتباع ما تهوى الأنفس.
{وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} كقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .
{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} أي: فلذلك صدر منهم ما صدر.
فدل ذلك على أن من كان مقصوده بالتحاكم إلى الحكم الشرعي اتباع هواه، وأنه إن حكم له رضي، وإن لم يحكم له سخط، فإن ذلك من عدم طهارة قلبه، كما أن من حاكم وتحاكم إلى الشرع ورضي به، وافق هواه أو خالفه، فإنه من طهارة القلب، ودل على أن طهارة القلب، سبب لكل خير، وهو أكبر داع إلى كل قول رشيد وعمل سديد.
{لَهُم فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي: فضيحة وعار {وَلَهُم فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} هو: النار وسخط الجبار." انتهى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/112)
القرآن مُنَزَّل من الله تعالى غيرمخلوق
[السُّؤَالُ]
ـ[هل لكم أن تخبرونا عن كتاب بالإنجليزية يتكلم على أن القرآن ليس مخلوقاً وما يجب أن نعتقده كمسلمين؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الذي يجب علينا أن نَعْتَقِده نحن المسلمين، هو ما جاءنا من الله عز وجل، وما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخْبَرنا الله عز وجل أنه يتكلم قال تعالى: (ومن أصْدَق من الله حديثا) النساء/87 وقال تعالى: (ومن أصْدَق من الله قِيلاً) النساء /122.
ففي هاتين الآيتين إثبات أن الله يَتَكَلَّم، وأنّ كلامَه صِدْقٌ، وحَقٌ، ليس فيه كَذِبٌ بِوَجْهٍ من الوجوه.
وقال تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم) المائدة /166 ففي هذه الآية أن الله يقول، وأن قوله مَسْمُوع فيكون بصوت، وأن قوله كَلِمَات وجمل، والدليل على أنه بحرف قول الله تعالى: (يا موسى إني أنا ربُّك) طه/11-12 فإن هذه الكلمات حروف وهي من كلام الله.والدليل على أنه بصوت قوله تعالى: (وناديناه من جانب الطور الأيمن وقرَّبناه نجياً) مريم/52، والنداء والمناجاة لا تكون إلا بصوت.
انظر شرح لمعة الاعتقاد لابن عثيمين ص 73.
ولهذا كانت عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله يتكلم بكلام حقيقي متى وكيف شاء بما شاء بحرف وصوت لا يُمَاثِلُ أصوات المخلوقين، والدليل على أنه لا يُمَاثِل أصْوَاتَ المَخْلُوقين، قوله تعالى: (ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو السَمِيعُ البَصِير) الشورى/11، فَعُرِفَ ابْتِداءً أن هذه العقيدة هي عقيدة أهل السنة والجماعة، وأهل السنة والجماعة يَعْتَقِدون أن القرآن كلام الله، ومن الأدلة على هذا الاعتقاد قول الله تعالى: (وإنْ أحَدٌ من المشْرِكين استجارك فأجِرْه حتى يَسْمَع كلام الله) التوبة /6 والمراد القرآن بالاتفاق، وأضاف الكلام إلى نفسه فدل على أن القرآن كلامه.
وعقيدة أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود.
والأدلة على أنه منزل ما يأتي:
قول الله عز وجل: (شَهْرُ رمضان الذي أنزل فيه القُرآن) البقرة/185، وقوله تعالى: (إنّا أنْزَلناه في ليلة القدر) القدر /1، وقوله: (وقُرْآناً فَرَقْنَاه لِتَقْرَأَه على الناس على مُكْثٍ ونَزَّلنَاه تَنْزِيلاً) الإسراء /106، قوله: (وإذا بَدَّلنا آية مكان آية والله أعلم بما يُنَزِّل قالوا إنما أنت مُفْتَرٍ بل أكثرهم لا يعلمون قل نَزَّله رُوح القُدُسِ من ربك بالحق ليُثَبِّت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون إنّما يُعَلِّمُه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعْجَمِِي وهذا لسان عربي مبين) النحل /101-103. والذي يبدل آية مكان آية هو الله سبحانه وتعالى.
والأدلة على أنه غير مخلوق قوله تعالى: (ألا له الخلق والأمر) فجعل الخلق شيئاً والأمر شيئا آخر
لأن العطف يقتضي المغايرة والقرآن من الأمر بدليل قوله تعالى: (وكذلك أوْحَيْنَا إليك روحا من أمرنا
ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نَهْدِي به من نَشَاءُ من عبادنا) الشورى /52، فإذا كان القرآن أمراً وهو قسيم للخلق، صار غير مخلوق، لأنه لو كان مخلوقاً ما صح التقسيم فهذا هو الدليل من القرآن.
والدليل العقلي أن نقول القرآن كلام الله والكلام ليس عينا قائمة بنفسها حتى يكون بائنا من الله ولو كان عينا قائمة بنفسها بائنة من الله لقلنا إنه مخلوق لكن الكلام صفة للمتكلم فإذا كان صفة للمتكلم به وكان من الله كان غير مخلوق لأن صفات الله عز وجل كلها غير مخلوقة. شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين 1/418-426 - 441
فيجب علينا أن نعتقد ذلك ونوقن به، ولا نُحَرِّف آيات الله عز وجل عن مرادها، فإنها صريحة الدلالة على أن القرآن مُنَزَّل من عند الله، ولذلك قال الإمام الطحاوي رحمه الله: " وإنّ القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر وقد ذَمَّه الله وعَابَهُ وأوعده بسقر حيث قال تعالى: (سأُصلِيه سَقَر) المدثر/26، فلما أوْعَدَ بِسَقَر لمن قال (إنْ هذا إلا قول البشر) المدثر /25 عَلِمْنَا وأيْقَنَّا أنَه قولَ خالقِ البَشَر ولا يُشْبِه قول البشر. أهـ شرح العقيدة الطحاوية 179.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/113)
حكم إطلاق لفظة نحن أبناء الله
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم من قال من المسلمين "نحن نؤمن أن كلنا أبناء الله" مستشهداً بالحديث الضعيف " الخلق كلهم عيال الله ".؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فالحديث المذكور رواه البزار وأبو يعلى من حديث أنس، ولفظه: " الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله". وهو حديث ضعيف جدا كما قال الألباني في ضعيف الجامع (حديث رقم 2946) .
ومن قال من المسلمين: نحن نؤمن بأننا جميعا أبناء الله، وجب أن يُستفصل عن مراده قبل أن يُحكم عليه:
1- فإن أراد بالبنوة المعنى المجازي، وهو كون الناس محتاجين مفتقرين إلى الله تعالى، واستعمل هذه العبارة في غرض مشروع كالرد على النصارى القائلين بأن المسيح ابن الله، فلا حرج عليه في إلزامه النصارى بهذا لإبطال عقيدتهم - مع عدم التسليم باستعماله مع غيرهم لما يورثه من لبس ومعانٍ باطلة – وذلك لأن من وسائل إبطال اعتقاد النصارى في عيسى عليه السلام إيقافهم على عبارات وردت في كتابهم المقدس تثبت البنوة لغير عيسى بما يدل بصورة واضحة على أن معنى النبوة في كل نصوص الإنجيل ليس المراد به البنوة الحقيقة التي زعموها لعيسى بما أدخله القسيس بولس لحرفهم عن عقيدة التوحيد، معتمداً على اللبس الذي توحيه كلمة (الأب) و (الابن) ومن هذه النصوص التي ترد عليهم ما جاء في إنجيل لوقا (20/36) قال عيسى عن المؤمنين به (هم مثل الملائكة، لا يموتون، وهم أبناء الله لأنهم أبناء القيامة) .
وكما في سفر أشعيا (43/6) (ائت ببني من بعيد وبناتي من أقصى الأرض) .
وكما في إنجيل يوحنا (1/12) (وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنين باسمه، الذين ولدوا ليس من دم ولا مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله) .
وهكذا ما جاء في وصف الله بالأب، كما في إنجيل متى (6/1) من كلام المسيح لتلاميذه (وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السموات) .
وفي إنجيل لوقا (11/2) (متى صليتم فقولوا: أبانا الذي في السموات) .
وفي إنجيل يوحنا (20/17) (إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم) .
فالنصارى لا يقولون بأن الملائكة وبني إسرائيل والحواريين أبناء الله حقيقة، كما لا يقولون بأن الله أب لهؤلاء حقيقة، وإنما يحملون ذلك على المعنى المجازي، أي أب لهم في النعمة والإحسان والحفظ والرعاية، وهم أبناؤه في العبادة والحاجة والافتقار.
وبهذا يبطل استدلالهم على بنوة عيسى لله بكونه وصف في الإنجيل بأنه ابن الله.
2- وإن أراد أن الناس جميعا أبناء الله كبنوة المسيح لله، على نحو ما يعتقده النصارى، فهذا كفر فوق كفر النصارى.
3- وإن أراد أن الجميع أبناء الله أو عياله فلا فرق بين المسلم والكافر، وأراد بذلك عدم تكفير اليهود والنصارى وعباد الأوثان، فهذه ردة منه عن الإسلام؛ فإن من شك في كفر اليهود والنصارى أو صحح مذهبهم كفر إجماعاً.
4- وإن أراد من ذلك تسويغ إطلاق لفظ " الأخ " على اليهودي والنصراني لأن الجميع عيال الله، فهذا باطل، فإنه لا أخوة بين المؤمنين والكافرين، والحديث لم يصح، ولو صح لما كان فيه مستند لهذا الإطلاق.
وينبغي الحذر من إطلاق الألفاظ الموهمة، التي قد توقع الإنسان في المحظور، وتدعو إلى إساءة الظن به لاسيما ما يتعلق منها بتوحيد الله تعالى، وإفراده في أسمائه وصفاته إذ حق الله تعالى هو أولى ما يراعى ويجنب ما يخدشه، لاسيما وأن هذه اللفظة قد استعملها اليهود وساقها الله تعالى في القرآن عنهم في سياق الذم (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءالله وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِم يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ) المائدة / 18
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/114)
تقلقه الوسواس والخطرات
[السُّؤَالُ]
ـ[عندما أصلي أو أنوي فعل أمر طيب تخطر لي أفكار شيطانية. عندما أركز في الصلاة وأحاول أن أركز على معاني الكلمات تدخل الأفكار الشيطانية إلى عقلي وتكون لي اقتراحات سيئة عن كل شيء بما في ذلك الله. أشعر بالغضب من أجل ذلك. أعلم أنه لا أحد يقبل التوبة إلا الله وحده، ولكن بسبب أفكاري أشعر أنه لا يوجد أسوأ من أن يخطر ببالي أفكار سيئة عن الله. أسأل الله المغفرة بعد الصلاة ولكني أشعر بالضيق لأني أريد أن أوقف هذه الأفكار السيئة ولكني لا أستطيع. هذه الأفكار تفقدني التمتع بالصلاة وتشعرني بأني مشؤوم. أرجو منكم نصحي.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الوساوس السيئة في الصلاة وغيرها من الشيطان، وهو حريص على إضلال المسلم، وحرمانه من الخير وإبعاده عنه، وقد اشتكى أحد الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الوسواس في الصلاة فقال: إنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلاثًا قَالَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي " رواه مسلم (2203)
والخشوع في الصلاة هو لبها، فصلاة بلا خشوع كجسد بلا روح، وإن مما يعين على الخشوع " شيئان:
الأول: اجتهاد العبد في أن يعقل ما يقوله ويفعله، وتدبر القراءة والذكر والدعاء، واستحضار أنه مناجٍ لله تعالى كأنه يراه، فإن المصلي إذا كان قائماً فإنما يناجي ربه، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ثم كلما ذاق العبد حلاوة الصلاة كان انجذابه إليها أوكد، وهذا يكون بحسب قوة الإيمان – والأسباب المقوية للإيمان كثيرة – ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة ". وفي حديث آخر أنه قال: " أرحنا يا بلال بالصلاة " ولم يقل أرحنا منها.
الثاني: الاجتهاد في دفع ما يُشغل القلب من تفكر الإنسان فيما لا يعنيه، وتدبر الجواذب التي تجذب القلب عن مقصود الصلاة، وهذا في كل عبدٍ بحسبه، فإن كثرة الوسواس بحسب كثرة الشبهات والشهوات، وتعلق القلب بالمحبوبات التي ينصرف القلب إلى طلبها، والمكروهات التي ينصرف القلب إلى دفعها ". انتهى من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (22/605) .
وأما ما ذكرته من أن الوساوس بلغت بك مبلغاً عظيماً بحيث أصبحتَ توسوس في ذات الله بما لا يليق بالله، فإن هذا من نزغات الشيطان، وقد قال الله تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغٌ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم) فصلت /36.
وقد اشتكى بعض الصحابة من الوساوس التي تنغص عليهم، فجَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ قَالَ وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ قَالُوا نَعَمْ قَالَ ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ " رواه مسلم (132) من حديث أبي هريرة.
قال النووي في شرح هذا الحديث: " قوله صلى الله عليه وسلم: (ذَلِكَ صَرِيح الإِيمَان) مَعْنَاهُ اِسْتِعْظَامُكُمْ الْكَلام (بهذه الوساوس) هُوَ صَرِيح الإِيمَان , فَإِنَّ اِسْتِعْظَام هَذَا وَشِدَّة الْخَوْف مِنْهُ وَمِنْ النُّطْق بِهِ فَضْلا عَنْ اِعْتِقَاده إِنَّمَا يَكُون لِمَنْ اِسْتَكْمَلَ الإِيمَان اِسْتِكْمَالا مُحَقَّقًا وَانْتَفَتْ عَنْهُ الرِّيبَة وَالشُّكُوك.
وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّ الشَّيْطَان إِنَّمَا يُوَسْوِس لِمَنْ أَيِسَ مِنْ إِغْوَائِهِ فَيُنَكِّد عَلَيْهِ بِالْوَسْوَسَةِ لِعَجْزِهِ عَنْ إِغْوَائِهِ , وَأَمَّا الْكَافِر فَإِنَّهُ يَأْتِيه مِنْ حَيْثُ شَاءَ وَلا يَقْتَصِر فِي حَقّه عَلَى الْوَسْوَسَة بَلْ يَتَلَاعَب بِهِ كَيْف أَرَادَ. فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْحَدِيث: سَبَب الْوَسْوَسَة مَحْض الإِيمَان , أَوْ الْوَسْوَسَة عَلامَة مَحْض الإِيمَان " انتهى انظر السؤال (12315)
إذاً " فكراهة ذلك وبغضه، وفرار القلب منه، هو صريح الإيمان ... والوسواس يعرض لكل من توجه إلى الله تعالى بذكر أو غيره، لابد له من ذلك، فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر، ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة، ولا يضجر فإنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشيطان {إن كيد الشيطان كان ضعيفاً} ، كلما أراد العبد توجهاً إلى الله تعالى بقلبه جاء من الوسواس أمور أُخرى، فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد السير إلى الله تعالى أراد قطع الطريق عليه، ولهذا قيل لبعض السلف: إن اليهود والنصارى يقولون: لا نوسوس، فقال: صدقوا، وما يصنع الشيطان بالبيت الخراب " انتهى من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (22/608)
* العلاج..
1- إذا شعرت بهذه الوساوس فقل آمنت بالله ورسوله، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِيهِ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَكَ فَيَقُولُ اللَّهُ فَيَقُولُ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقْرَأْ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ عَنْهُ " رواه أحمد (25671) وحسنه الألباني في الصحيحة 116
2- محاولة الإعراض عن التفكير في ذلك بقدر الإمكان والاشتغال بما يلهيك عنه.
وختاماً نوصيك بلزوم اللجوء إلى الله في كل حال، وطلب العون منه، والتبتل إليه، وسؤاله الثبات حتى الممات، وأن يختم لك بالصالحات.. والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/115)
من هو معبود المسلمين
[السُّؤَالُ]
ـ[من يعبد المسلمون؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قبل الإجابة نريد أن نسجّل إعجابنا باهتمامك - أيتها السائلة على صغر سنك - بدين الإسلام ولعل الله أن يفتح لك باب خير عظيم من جراء هذا السؤال ويكتب لك هداية لم تكن بحسبانك قال تعالى: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) سورة الأنعام 88، وقال: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ) سورة الأنعام 125
أما بالنسبة للسؤال العظيم: من يعبد المسلمون؟ فالجواب عليه من القرآن الكريم وهو كتاب الإسلام ومن كلام نبي الإسلام محمد عليه السلام الموحى إليه من ربه.
قال الله تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) سورة الفاتحة
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) سورة البقرة
وقال: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) سورة الأنعام
وقال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا (23) سورة الإسراء
المسلمون يعبدون الله الذي عبده جميع الأنبياء: قال تعالى: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ ءابَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) سورة البقرة
المسلمون يعبدون الله ويدعون غيرهم من أصحاب الأديان إلى عبادة الله وحده كما قال عزّ وجلّ: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) سورة آل عمران
الله وحده الذي دعا نوح عليه السلام قومه إلى عبادته، قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) سورة الأعراف
الله وحده الذي نادى المسيح عليه السلام إلى عبادته كما قال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) سورة المائدة
وقال تعالى: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) سورة المائدة
ولما كلّم الله نبيه موسى عليه السلام قال له: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) سورة طه
وأمر الله سبحانه تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بما يلي: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) سورة يونس
وهو وحده لا شريك له تعبده الملائكة ولا تعبد معه غيره كما قال تعالى: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) سورة الأنبياء
وكل معبود من دون الله فلا يضر ولا ينفع ولا يخلق ولا يرزق، قال الله تعالى: (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) سورة المائدة وقال تعالى: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) سورة العنكبوت
وبعد هذا الجواب نريد إكمال الموضوع بالسؤال التالي لماذا نعبد الله وحده لا شريك له والجواب:
أولا: لأنه لا يستحق العبادة في الكون أحد غيره لأنه هو الخالق الرازق الموجد من العدم الذي أمدنا بالنعم، قال تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ ءايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ ءايَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ ءايَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) سورة الروم
وقال تعالى: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) سورة النمل
فهل هناك أحد غير الله يستحقّ العبادة؟
ثانيا: إن الله لم يخلقنا إلا لعبادته فقال عزّ وجلّ: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (56) سورة الذاريات
ثالثا: إنه لن ينجو أحد يوم القيامة إلا من كان يعبد الله حقّا، وبعد الموت سيبعث الله العباد ليحاسبهم ويجازيهم على أعمالهم فلا ينجو يومئذ إلا من كان يعبد الله وحده ويحشر البقية إلى جهنم وبئس المصير، قال نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم: مجيبا أصحابه لما سألوه: هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ هَلْ تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِذَا كَانَتْ صَحْوًا قُلْنَا لا قَالَ فَإِنَّكُمْ لا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ إِلا كَمَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا ثُمَّ قَالَ يُنَادِي مُنَادٍ لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فَيَذْهَبُ أَصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ وَأَصْحَابُ الأَوْثَانِ مَعَ أَوْثَانِهِمْ وَأَصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ فَمَا تُرِيدُونَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا فَيُقَالُ اشْرَبُوا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ فَيَقُولُونَ كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ فَمَا تُرِيدُونَ فَيَقُولُونَ نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا فَيُقَالُ اشْرَبُوا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ فَيُقَالُ لَهُمْ مَا يَحْبِسُكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ فَيَقُولُونَ فَارَقْنَاهُمْ وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ الْيَوْمَ وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا قَالَ فَيَأْتِيهِمْ الْجَبَّارُ.. فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا فَلا يُكَلِّمُهُ إِلا الأَنْبِيَاءُ.. فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ) رواه البخاري رقم 6886 وهؤلاء المؤمنون هم أهل الجنة الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون خالدين فيها إلى الأبد
نرجو أن تكون هذه القضية قد اتضّحت، وبعد هذا لا نقول إلا كما قال الله تعالى (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا.. (15) سورة الإسراء، والسلام على من اتبع الهدى.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/116)
الكفّار يسألون من خلق الله
[السُّؤَالُ]
ـ[عندما أقول للكفار بأن الله خلق كل شيء حينها يسألونني ومن خلق الله؟
وكيف كان الله موجوداً منذ البداية؟
كيف أرد على هذا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
1. هذا السؤال الموجَّه إليك من الكفار: باطل من أصله، متناقض في نفسه!
ذلك لو أننا فرضنا - جدلا - أن هناك خالقاً لله تعالى! فسيقول السائل: من خلق خالق الخالق؟؟! ثم من خلق خالق خالق الخالق؟؟! وهكذا يتسلسل إلى ما لا نهاية.
وهذا محال في العقول.
أما أن المخلوقات تنتهي إلى خالقٍ خلق كل شيء، ولم يخلقه أحد، بل هو الخالق لما سواه: فإن هذا هو الموافق للعقل والمنطق، وهو الله سبحانه وتعالى.
2. أما من حيث الشرع والدين عندنا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قد أخبرنا عن هذا السؤال، من أين مصدره، وما هو علاجه والرد عليه:
= عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق اللهُ الخلقَ، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله ".
= وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ فيقول: الله، - ثم ذكر بمثله - وزاد: " ورسله ".
= وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له من خلق ربَّك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته ".
= وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأتي العبد الشيطان فيقول من خلق كذا وكذا؟ ..".
رواها جميعاً الإمام مسلم (134) .
ففي هذه الأحاديث:
بيان مصدر هذا السؤال، وهو: الشيطان.
وبيان علاجه ورده، وهو:
1. أن ينتهي عن الانسياق وراء الخطرات وتلبيس الشيطان.
2. وأن يقول " آمنتُ بالله ورسله ".
3. وأن يستعيذ بالله من الشيطان.
وورد أيضا التفل عن الشِّمال ثلاثا وقراءة سورة قل هو الله أحد (انظر كتاب "شكاوى وحلول " في زاوية الكتب من هذا الموقع)
3. أما عن وجود الله أولاً، فعندنا في ذلك أخبار من نبينا صلى الله عليه وسلم، ومنها:
1. قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ". رواه مسلم (2713) .
2. قوله صلى الله عليه وسلم: " كان الله ولم يكن شيء غيره "، وفي رواية " ولم يكن شيء قبله ". رواهما البخاري، الأولى (3020) ، والثانية (6982) . بالإضافة لما في الكتاب العزيز من الآيات، فالمؤمن يُؤمن ولا يشكّ والكافر يجحد والمنافق يشكّ ويرتاب، نسأل الله أن يرزقنا إيمانا صادقا ويقينا لاشكّ فيه والله الموفق.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/117)
شروط لاإله إلا الله
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجوا توضيح شروط لا إله إلا الله (العلم واليقين ... الخ) .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ حافظ الحكمي في منظومته سلم الوصول:
العلم واليقين والقبول ... ** والانقياد فادر ما أقول
والصدق والإخلاص والمحبة ... ** وفقك الله لما أحبه
الشرط الأول: (العلم) بمعناها المراد منها نفياً وإثباتاً المنافي للجهل بذلك، قال الله تعالى: "فاعلم أنه لاإله إلا الله " وقال تعالى: " إلا من شهد بالحق " أي بلا إله إلا الله " وهم يعلمون " بقلوبهم معنى ما نطقوا به بألسنتهم. وفي الصحيح عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة ".
الشرط الثاني (اليقين) بأن يكون قائلها مستيقناً بمدلول هذه الكلمة يقيناً جازماً، فإن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن، فكيف إذا دخله الشك، قال الله عز وجل: " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون " فاشترط في صدق إيمانهم بالله ورسوله كونهم لم يرتابوا، أي لم يشكوا، فأما المرتاب فهو من المنافقين. وفي الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة " وفي رواية لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيُحجب عن الجنة ". وفيه عنه رضي الله عنه من حديث طويل أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه بنعليه فقال " من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة " الحديث، فاشترط في دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقناً بها قلبه غير شاك فيها، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط.
الشرط الثالث (القبول) لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه، وقد قص الله عز وجل علينا من أنباء ما قد سبق من إنجاء من قَبِلها وانتقامه ممن ردها وأباها قال تعالى: (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم، وقفوهم إنهم مسؤلون) إلى قوله (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون) فجعل الله علة تعذيبهم وسببه هو استكبارهم عن قول لا إله إلا الله، وتكذيبهم من جاء بها، فلم ينفوا ما نفته ولم يثبتوا ما أثبتته، بل قالوا إنكاراًً واستكباراً (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيءٌ عجاب. وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على ألهتكم إن هذا لشيءٌ يُراد. ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق) فكذبهم الله عز وجل ورد ذلك عليهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فقال (بل جاء بالحق وصدق المرسلين) ... ثم قال في شأن من قبلها (إلا عباد الله المخلصين. أولئك لهم رزقٌ معلوم. فواكه وهم مكرمون. في جنات النعيم) وفي الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وأصاب منها طائفة أُخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تُنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه مابعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذللك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلت به ".
الشرط الرابع (الانقياد) لما دلت عليه المنافي لترك ذلك، قال الله عز وجل (ومن يُسلم وجهه لله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) أي بلا إله إلا الله (وإلى الله عاقبة الأُمور) ومعنى يُسلم وجهه أي ينقاد، وهو محسن موحد، ومن لم يسلم وجهه إلى الله ولم يك محسناً فإنه لم يستمسك بالعروة الوثقى، وهو المعني بقوله عز وجل بعد ذلك (ومن كفر فلا يحزنك كفره، إلينا مرجعهم فننبؤهم بما عملوا) وفي حديث صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يُؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جِئت به" وهذا هو تمام الانقياد وغايته.
والخامس (الصدق) فيها المنافي للكذب، وهو أن يقولها صدقاً من قلبه يواطىء قلبه لسانه، قال الله عز وجل (الم أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا أمنا وهم لا يُفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) وقال في شأن المنافقين الذين قالوها كذباً (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين. يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون)
وفي الصحيحين من حديث معاذ بن جبل رضي لله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على لنار".
والسادس (الإخلاص) وهوتصفية العمل عن جميع شوائب الشرك قال تبارك وتعالى: (ألا لله الدين الخالص) وقال (قل الله أعبد مخلصاً له ديني) وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه " ...
والسابع (المحبة) لهذه الكلمه ولما اقتضته ودلت عليه ولأهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها وبغض ما ناقض ذلك، قال الله تعالى (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله) فأخبر الله تعالى أن الذين آمنوا أشد حباً لله؛ وذلك لأنهم لم يشركوا معه في محبته أحدا كما فعل مدعوا محبته من المشركين الذين اتخذوا من دونه أنداداً يحبونهم كحبه، وفي الصحيحين من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ".
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(1/118)
نصراني يسأل لماذا خلق الله البشر
[السُّؤَالُ]
ـ[وفقا للقرآن و/أو السنة، لماذا خلق الله البشر؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
خلق الله الجن والبشر لعبادته وتوحيده، وامتثال أمره واجتناب نواهيه، قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ، أي يوحدونه فيفردونه بالعبادة دون غيره، ومن شرط صحة عبادته الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، والإقتداء به لأنه هو القدوة والأسوة، قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) .
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ عبد الكريم الخضير.(1/119)
تفسير قوله تعالى: (وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا)
[السُّؤَالُ]
ـ[في سورة الجن، الآية (رقم/3) : (وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) يكررها النصارى تشكيكا في ديننا، كيف نرد عليهم ردا مفحما؟ هل المتحدث هنا هم الجن جهلا منهم؟ أم المقصود بقوله (جد) ضد الهزل؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذه الآية من سورة " الجن " ذات الوقع المؤثر في النفوس، تحكي حديثا صدر عن الجن الذين استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، فآمنوا بالقرآن، وأسلموا.
قال الله تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا. وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا. وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا) الجن/1-4.
وظاهر جداً من سياق الآيات: أن الجن أعلنوا إيمانهم بوحدانية الله، ورفضهم لما يقوله المشركون من نسبة الصاحبة والولد إلى الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
والجد في الآية معناه: العظمة والجلال، وليس معناه "أبو الأب" كما فهم هؤلاء المفترون.
قال ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" (1/364) :
" الجيم والدال أصولٌ ثلاثة: الأوَّل العظمة، والثاني: الحَظ، والثالث: القَطْع.
فالأوّل: العظمة: قال الله جلّ ثناؤُه إخباراً عمّن قال: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) الجن/3.
ويقال: " جَدَّ الرجُل في عَينِي " أي: عَظُم، قال أنسُ بنُ مالكٍ: (كان الرجلُ إذا قرأ سورةَ البقرة وآلِ عِمرانَ جَدَّ فينا) أي: عَظُم في صُدورِنا.
والثاني: الغِنَى والحظُّ: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه: (لا يَنْفَع ذا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ) يريد: لا ينفَعُ ذا الغنى منك غِناه، إنّما ينفعه العملُ بطاعتك.
والثالث: يقال: جَدَدت الشيءَ جَدّاً، وهو مجدودٌ وجَديد، أي: مقطوع " انتهى.
وانظر: "لسان العرب" (3/107) .
فتفسير عبارة الجن التي حكاها الله عنهم: (وأنه تعالى جد ربنا) كتفسير دعاء استفتاح الصلاة أيضا: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، تَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ)
رواه مسلم موقوفا عن عمر (399) .
والمقصود في كل منهما: تعالت وارتفعت عظمة الله تعالى، وكبرياؤه، وعزته، ونحو ذلك من المعاني التي فيها تعظيم الله تعالى وإجلاله.
لذلك حكى ابن الجوزي في "زاد المسير" (8/378) الأقوال في تفسير الآية، فقال:
" للمفسرين في معنى: (تعالى جَدُّ ربِّنا) سبعة أقوال: أحدها: قدرة ربنا، قاله ابن عباس. والثاني: غنى ربنا، قاله الحسن. والثالث: جلال ربنا، قاله مجاهد وعكرمة. والرابع: عظمة ربنا، قاله قتادة. والخامس: أمر ربنا، قاله السُّدِّي. والسادس: ارتفاعُ ذِكْرِه وعظمته، قاله مقاتل. والسابع: مُلك ربنا وثناؤه وسلطانه، قاله أبو عبيدة " انتهى.
وهذه المعاني كلها متقاربة وتدل على عظمة الله تعالى وكبريائه.
والمعنى الإجمالي منها في الآية: هو التعبير عن الشعور باستعلاء الله سبحانه وبعظمته وجلاله عن أن يتخذ صاحبة، أي: زوجة، وولداً، بنين أو بنات!
وكانت العرب تزعم أن الملائكة بنات الله، جاءته من صهر مع الجن! فكذبت الجن هذه الخرافة الأسطورية.
قال ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (14/222) :
"التعالي: شدة العلوّ.
والجَدّ: العظمة والجلال، وهذا تمهيد وتوطئة لقوله: (ما اتخذ صاحبة ولا ولَداً) ، لأن اتخاذ الصاحبة للافتقار إليها لأنسها وعونها والالتذاذ بصحبتها، وكل ذلك من آثار الاحتياج، والله تعالى الغني المطلق، وتعالى جَدّه بغناه المطلق، والولد يرغب فيه للاستعانة والأنس به. . . وكل ذلك من الافتقار والانتقاص" انتهى.
وقال السعدي في تفسيره (ص 1055) :
" (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) أي: تعالت عظمته وتقدست أسماؤه، (مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا) فعلموا من جَدِّ الله وعظمته، ما دلهم على بطلان من يزعم أن له صاحبة أو ولدا، لأن له العظمة والكمال في كل صفة كمال، واتخاذ الصاحبة والولد ينافي ذلك، لأنه يضاد كمال الغنى" انتهى
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله:
ما معنى قولنا في دعاء الاستفتاح للصلاة: (وتعالى جدك) ؟
الجواب:
" معنى ذلك: تعالى كبرياؤك وعظمتك، كما قال سبحانه في سورة الجن - عن الجن - أنهم قالوا: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا) " انتهى.
"فتاوى الشيخ ابن باز" (11/74) .
فتبين من ذلك أن في الآية رداًّ على من نسب لله الصاحبة والولد، كالمشركين والنصارى، لأن ذلك يتنافى من عظمة الله وجلاله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
موقع الإسلام سؤال وجواب(1/120)
يعاني من وساوس الشيطان في ذات الله
[السُّؤَالُ]
ـ[رجل يوسوس له الشيطان بوساوس عظيمة فيما يتعلق بالله - عز وجل - وهو خائف من ذلك جداً فماذا يفعل؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ما ذكر من جهة مشكلة السائل التي يخاف من نتائجها , أقول له: أبشر بأنه لن يكون لها نتائج إلا النتائج الطيبة , لأن هذه وساوس يصول بها الشيطان على المؤمنين, ليزعزع العقيدة السليمة في قلوبهم, ويوقعهم في القلق النفسي والفكري ليكدر عليهم صفو الإيمان , بل صفو الحياة إن كانوا مؤمنين.
وليست حاله بأول حال تعرض لأهل الإيمان, ولا هي آخر حال, بل ستبقى ما دام في الدنيا مؤمن. ولقد كانت هذه الحال تعرض للصحابة رضي الله عنهم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به , فقال: (أو قد وجدتموه؟) . قالوا: نعم , قال: (ذاك صريح الإيمان) . رواه مسلم وفي الصحيحين عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟! فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: إني أحدث نفسي بالشيء لأن أكون حممة أحب إلي من أن أتكلم به, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة) . رواه أبو داود.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان: والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان بوساوس الكفر التي يضيق بها صدره. كما قالت الصحابة يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به. فقال (ذاك صريح الإيمان) . وفي رواية ما يتعاظم أن يتكلم به. قال: (الحمد الله الذي رد كيده إلى الوسوسة) . أي حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له, ودفعه عن القلوب هو من صريح الإيمان, كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه, فهذا عظيم الجهاد, إلى أن قال: (ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعباد من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم, لأنه (أي الغير) لم يسلك شرع الله ومنهاجه, بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه, وهذا مطلوب الشيطان بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة , فإنه عدوهم يطلب صدهم عن الله تعالى) أ. هـ المقصود منه ذكره في ص 147 من الطبعة الهندية.
فأقول لهذا السائل: إذا تبين لك أن هذه الوساوس من الشيطان فجاهدها وكابدها , واعلم أنها لن تضرك أبداً مع قيامك بواجب المجاهدة والإعراض عنها, والانتهاء عن الانسياب وراءها, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل به أو تتكلم) . متفق عليه.
وأنت لو قيل لك: هل تعتقد ما توسوس به؟ وهل تراه حقاً؟ وهل يمكنك أن تصف الله سبحانه به؟ لقلت: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا , سبحانك هذا بهتان عظيم , ولأنكرت ذلك بقلبك ولسانك, وكنت أبعد الناس نفوراً عنه, إذن فهو مجرد وساوس وخطرات تعرض لقلبك , وشباك شرك من الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم, ليرديك ويلبس عليك دينك.
ولذلك تجد الأشياء التافهة لا يلقي الشيطان في قلبك الشك فيها أو الطعن , فأنت تسمع مثلاً بوجود مدن مهمةٍ كبيرة مملوءة بالسكان والعمران في المشرق والمغرب ولم يخطر ببالك يوماً من الأيام الشك في وجودها أو عيبها بأنها خراب ودمار لا تصلح للسكنى , وليس فيها ساكن ونحو ذلك , إذا لا غرض للشيطان في تشكك الإنسان فيها ولكن الشيطان له غرض كبير في إفساد إيمان المؤمن , فهو يسعى بخيله ورجله ليطفئ نور العلم والهداية في قلبه , ويوقعه في ظلمة الشك الحيرة , والنبي صلى الله عليه وسلم بين لنا الدواء الناجع الذي فيه الشفاء , وهو قوله: (فليستعذ بالله ولينته) . فإذا انتهى الإنسان عن ذلك واستمر في عبادة الله طلباً ورغبة فيما عند الله زال ذلك عنه بحول الله , فأعرض عن جميع التقديرات التي ترد على قلبك في هذا الباب وها أنت تعبد الله وتدعوه وتعظمه , ولو سمعت أحداً يصفه بما توسوس به لقتلته إن أمكنك , إذن فما توسوس به ليس حقيقة واقعة بل هو خواطر ووساوس لا أصل لها.
ونصيحة تتلخص فيما يأتي:
1. الاستعاذة بالله والانتهاء بالكلية عن هذه التقديرات كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
2. ذكر الله تعالى وضبط النفس عن الاستمرار في هذه الوساوس.
3. الانهماك الجدي في العبادة والعمل امتثالاً لأمر الله , وابتغاء لمرضاته، فمتى التفت إلى العبادة التفاتاً كلياً بجدٍّ وواقعية نسيت الاشتغال بهذه الوساوس إن شاء الله.
4. كثرة اللجوء إلى الله والدعاء بمعافاتك من هذا الأمر.
وأسال الله تعالى لك العافية والسلامة من كل سوء ومكروه.
[الْمَصْدَرُ]
مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ج/1 ص 57 - 60.(1/121)
الأدلة على وجود الله، والحكمة من خلقه للعباد
[السُّؤَالُ]
ـ[سألني صديقي وهو على غير الإسلام أن أثبت له وجود الله، ولماذا وهبنا الحياة، وما هو المقصود من وراء ذلك. لكن إجابتي لم تقنعه، فأرجو أن تخبرني بالأمور التي يجب علي إخباره بها]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أيها الأخ المسلم.. إنّ ما قمت به من الدعوة إلى الله ومحاولة إيضاح حقيقة وجود الله سبحانه وتعالى وهو أمر يجلب السرور حقاً، إن معرفة الله تتفق مع الفطر السليمة والعقول المستقيمة , وكم هم أولئك الذين إذا ظهرت لهم الحقيقة سرعان ما يسلم أحدهم , فلو أن كل واحد منا قام بواجبه تجاه دينه لحصل خير كثير , فهنيئاً لك أيها الأخ المسلم أن تقوم بمهمة الأنبياء والمرسلين، وبشراك بما أنت موعود به من الأجر العظيم الذي جاء على لسان نبيك صلى الله عليه وسلم حيث يقول (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) رواه البخاري3/ 134 ومسلم 4/1872، و (حمر النعم) هي الإبل الحمراء وهي أحسن أنواع الإبل.
ثانياً:
وأما عن أدلة وجود الله فهي واضحة لمن تأملها ولا تحتاج لكثرة بحث وطول نظر، وعند التأمل نجد أنها تنقسم إلى ثلاثة أنواع: الأدلة الفطرية، والأدلة الحسية، والأدلة الشرعية، وسوف تتضح لك بإذن الله تعالى.
أولاً:
الأدلة الفطرية:
قال الشيخ ابن عثيمين:
دلالة الفطرة على وجود الله أقوى من كل دليل لمن لم تجتله الشياطين، ولهذا قال الله تعالى (فطرت الله التي فطر الناس عليها) الروم/30، بعد قوله: (فأقم وجهك للدين حنيفاً) فالفطرة السليمة تشهد بوجود الله ولا يمكن أن يعدل عن هذه الفطرة إلا من اجتالته الشياطين، ومن اجتالته الشياطين فقد يمنع هذا الدليل. انتهى من شرح السفارينية
فإن كل إنسان يحسّ من تلقاء نفسه أنّ له رباً وخالقاً ويشعر بالحاجة إليه وإذا وقع في ورطة عظيمة اتجهت يداه وعيناه وقلبه إلى السماء يطلب الغوث من ربه.
الأدلة الحسية:
وجود الحوادث الكونية، وذلك أن العالم من حولنا لابد وأن تحصل فيه حوادث فمن أول تلك الحوادث حادثة الخلق، خلق الأشياء، كل الأشياء من شجر وحجر وبشر وأرض وسماء وبحار وأنهار......
فإن قيل هذه الحوادث وغيرها كثير من الذي أوجدها وقام عليها؟
فالجواب إما أن تكون وجدت هكذا صدفة من غير سبب يدعو لذلك فيكون حينها لا أحد يعلم كيف وجدت هذه الأشياء هذا احتمال، وهناك احتمال آخر وهو أن تكون هذه الأشياء أوجدت نفسها وقامت بشؤونها , وهناك احتمال ثالث وهو أن لها موجداً أوجدها وخالقاً خلقها، وعند النظر في هذه الاحتمالات الثلاث نجد أنه يتعذر ويستحيل الأول والثاني فإذا تعذر الأول والثاني لزم أن يكون الثالث هو الصحيح الواضح وهو أن لها خالقاً خلقها وهو الله، وهذا ما جاء ذكره في القرآن الكريم قال الله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون) الطور/35
ثم هذه المخلوقات العظيمة منذ متى وهي موجودة؟ كل هذه السنين من الذي كتب لها البقاء في هذه الدنيا وأمدها بأسباب البقاء؟
الجواب هو الله، أعطى كل شيء ما يصلحه ويؤمن بقاءه، ألا ترى ذلك النبات الأخضر الجميل إذا قطع الله عنه الماء هل يمكن أن يعيش؟ كلا بل يكون حطاماً يابساً وكل شئ إذا تأملته وجدته متعلقاً بالله، فلولا الله ما بقيت الأشياء.
ثم إصلاح الله لهذه الأشياء، كل شيء لما يناسبه؛ فالإبل مثلاً للركوب، قال الله تعالى: (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون (71) وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون) يس/72 انظر إلى الإبل كيف خلقها الله قوية مستوية الظهر لكي تكون مهيئة للركوب وتحمل المشاق الصعبة التي لا يتحمله من الحيوانات غيرها.
وهكذا إذا قلبت طرفك في المخلوقات وجدتها متناسبة مع ما خلقت من أجله فسبحان الله تعالى.
ومن أمثلة الأدلة الحسية:
النوازل التي تنزل لأسبب دالة على وجود الخالق مثل دعاء الله ثم استجابة الله للدعاء دليل على وجود الله قال الشيخ ابن عثيمين: لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يغيث الخلق، قال اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، ثم نشأ السحاب، وأمطر قبل أن ينزل من المنبر، هذا يدل على وجود الخالق. انتهى من شرح السفارينية
الأدلة الشرعية:
وجود الشرائع , قال الشيخ ابن عثيمين:
جميع الشرائع دالة على وجود الخالق وعلى كمال علمه وحكمته ورحمته لأن هذه الشرائع لابد لها من مشرع والمشرع هو الله عز وجل. انتهى من شرح السفارينية
وأما سؤالك، لماذا خلقنا الله؟
فالجواب من أجل عبادته وشكره وذكره، والقيام بما أمرنا به سبحانه، وأنت تعلم أن الخلق فيهم الكافر وفيهم المسلم , وهذا لأن الله أراد أن يختبر العباد ويبتليهم هل يعبدونها من يعبدون غيره، وذلك بعد أن أوضح الله السبيل لكل أحد، قال الله تعالى (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) تبارك/2 وقال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات/56
نسأل الله أن يوفقنا وإياك لما يحب ويرضى، والمزيد المزيد من الدعوة والعمل للدين وصلى الله على النبي صلى الله عليه وسلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/122)
رحمة الله بعباده
[السُّؤَالُ]
ـ[الله رحيم جداً، فقد سمعت بأن الله يحبنا أكثر من محبة 70 أم لطفلها، هل هذا صحيح؟ أرجو الشرح.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الله سبحانه وتعالى هو الرحمن الرحيم وهو أرحم الراحمين الذي وسعت رحمته كل شيء، قال تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء) الأعراف / 156
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعا وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة) مسلم / 6908.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبي تبتغي، إذا وجدت صبيا في السبي، أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ ، قلنا: لا، والله! وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها) متفق عليه، البخاري (5653) ومسلم (ا6912) .
ومن رحمة الله بعباده إرسال الرسل وإنزال الكتب والشرائع لتستقيم حياتهم على سنن الرشاد بعيدا عن الضنك والعسر والضيق , قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء / 107
ورحمته تعالى هي التي تدخل عباده المؤمنين الجنة يوم القيامة ولن يدخل أحد الجنة بعمله كما قال عليه الصلاة والسلام: (لن يُدخل أحداً عمله الجنة) . قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (لا، ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا، ولا يتمنين أحدكم الموت،: إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب) رواه البخاري (5349) ومسلم (7042) .
وعلى المؤمن أن يبقى بين رجاء رحمة الله والخوف من عقابه، فهو القائل: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم) الحجر / 49-50.
وأما قولك " بأن الله يحبنا أكثر من محبة سبعين أم لطفلها " فالله أعلم بذلك، ويكفينا أنّ نعلم بأن رحمة الله وسعت كل شيء، فاللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/123)
الله مستو على عرشه وهو قريب منا بعلمه
[السُّؤَالُ]
ـ[يقول الله عز وجل في القرآن: "تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة". فهل يدل ذلك على أن الله يتحكم في الأمور الدنيوية وهو جالس (مستو) على العرش؟ وعليه فكيف يكون الله أقرب إلينا من أوردتنا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فقد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن الله سبحانه وتعالى فوق سمواته على عرشه وأنه العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء، وليس فوقه شيء، قال تعالى: (الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون)
وقال تعالى: (ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر)
وقال تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) ، وقال تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) . وقال عليه الصلاة والسلام: " وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ". والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، ومع ذلك فقد أخبر الله سبحانه أنه مع عباده أينما كانوا: (ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا) . بل قد جمع الله سبحانه بين ذكر علوّه على عرشه ومعيّته لعباده في آية واحدة وذلك في قوله تعالى: (هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم) . وليس معنى كونه معنا أنه مختلط بالخلق بل هو مع عباده بعلمه، وهو فوق عرشه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم وأما قوله سبحانه: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) ، فقد قال أكثر المفسرين أن المراد هو قربه سبحانه بملائكته الموكّلين بحفظ أعمال العباد. ومن قال المراد بقربه تعالى فسّره بقربه بعلمه، كما قيل في المعيّة.
هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة يثبتون علوّ الله على خلقه، ومعيّته لعباده، وينزهونه تعالى عن الحلول في المخلوقات، وأما المعطلة كالجهمية ومن تبعهم فإنهم ينفون علوّه بذاته فوق المخلوقات واستواءه على عرشه ويقولون أنه حالٌ في كل مكان، نسأل الله تعالى الهداية للمسلمين.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ عبد الرحمن البراك.(1/124)
الأدلة على علوّ الله تعالى على خلقه وأنّه سبحانه فوق السموات
[السُّؤَالُ]
ـ[بعض الناس يقولون أن الله فوق السموات، وبعض العلماء يقولون أن الله ليس له مكان، فما هو القول الصحيح في هذه المسألة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
استدلّ أهل السنة على علو الله تعالى على خلقه علواً ذاتياً بالكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة:
أولا: فأما الكتاب فقد تنوعت دلالته على علو الله، فتارة بذكر العلو، وتارة بذكر الفوقية، وتارة بذكر نزول الأشياء من عنده، وتارة بذكر صعودها إليه، وتارة بكونه في السموات ...
فالعلو مثل قوله: (وهو العلي العظيم) البقرة/255، (سبح اسم ربك الأعلى) الأعلى/1.
والفوقية: (وهو القاهر فوق عباده) الأنعام/18، (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) النحل/50.
ونزول الأشياء منه، مثل قوله: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض) السجدة/5، (إنا نحن نزلنا الذكر) الحجر/9 وما أشبه ذلك.
وصعود الأشياء إليه، مثل قوله: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) فاطر/10 ومثل قوله: (تعرج الملائكة والروح إليه) المعارج/4.
كونه في السماء، مثل قوله: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض) الملك /16.
ثانياً: وأما السنة فقد تواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله وإقراره:
فمما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم في ذكر العلو والفوقية قوله (سبحان ربي الأعلى) كما كان يقول في سجوده وقوله في الحديث: (والله فوق العرش) .
(2) وأما الفعل، فمثل رفع أصبعه إلى السماء، وهو يخطب الناس في أكبر جمع، وذلك في يوم عرفه، عام حجة الوداع فقال علية الصلاة والسلام (ألا هل بلغت؟) . قالوا: نعم (ألا هل بلغت؟) قالوا: نعم (ألا هل بلغت؟) قالوا: نعم. وكان يقول: (اللهم! أشهد) ، يشير إلى السماء بأصبعه، ثم يُشير إلى الناس. ومن ذلك رفع يديه إلى السماء في الدعاء كما ورد في عشرات الأحاديث. وهذا إثبات للعلو بالفعل.
(3) وأما التقرير، كما جاء في حديث الجارية التي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء. فقال: (من أنا؟) قالت: رسول الله. فقال لصاحبها: (أعتقها، فإنها مؤمنة) .
فهذه جارية غير متعلمة كما هو الغالب على الجواري، وهي أمة غير حرة، لا تملك نفسها، تعلم أن ربها في السماء، وضُلّال بني آدم ينكرون أن الله في السماء، ويقولون: إنه لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال بل يقولون: إنه في كل مكان!!.
ثالثاً: وأما دلالة الإجماع، فقد أجمع السلف على أن الله تعالى بذاته في السماء، كما نقل أقوالهم أهل العلم كالذهبي رحمه الله في كتابه: " العلوّ للعليّ الغفار ".
رابعاً: وأما دلالة العقل فنقول إن العلو صفة كمال باتفاق العقلاء، وإذا كان صفة كمال، وجب أن يكون ثابتاً لله لأن كل صفة كمال مطلقة، فهي ثابتة لله.
خامساً: وأما دلالة الفطرة: فأمر لا يمكن المنازعة فيها ولا المكابرة، فكل إنسان مفطور على أن الله في السماء، ولهذا عندما يفجؤك الشيء الذي لا تستطيع دفعه، وتتوجه إلى الله تعالى بدفعه، فإن قلبك ينصرف إلى السماء وليس إلى أيّ جهة أخرى، بل العجيب أنّ الذين ينكرون علو الله على خلقه لا يرفعون أيديهم في الدعاء إلا إلى السماء.
وحتى فرعون وهو عدو الله لما أراد أن يجادل موسى في ربه قال لوزيره هامان: (يا هامان ابن لي صرحاً لعلي ابلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى.. الآية) . وهو في حقيقة أمره وفي نفسه يعلم بوجود الله تعالى حقّا كما قال عزّ وجلّ: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) .
فهذه عدّة من الأدلة على أن الله في السماء من الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة بل ومن كلام الكفار نسأل الله الهداية إلى الحق.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/125)
أجوبة من دخل في الإسلام على السؤال المتبادر " لماذا أسلمتَ "؟
[السُّؤَالُ]
ـ[يسألني أحد زملاء العمل " لماذا أسلمت؟ " فقلت له: إن هذا هو الطريق الذي كان يجب أن أسلكه، لا أعرف أحيانًا ما يجب أن أقوله، وعندما أحاول: أشعر أن ردي غير صحيح، كيف أرد على مثل هذا السؤال؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
نسأل الله تعالى أن يتقبل إسلامك، وأن يثبتك على الحق، ويهديك لما يحب ويرضى.
واعلمي أيتها الأخت الفاضلة أنك سلكتِ الطريق الصحيح، فالإسلام دين الفطرة، ودين الأمن، والسعادة، يشعر بذلك كل من انتسب لهذا الدين العظيم، وقد يشعر بذلك أكثر من كان غارقاً في ظلمات الجهل والضلال والكفر، ويشعر الناطق بالشهادتين بشيء في قلبه لا يستطيع وصفه لأحدٍ، ولذلك تغلب أكثرهم دموع الفرح والسعادة، ولا شك أن الله تعالى قد جعل للإسلام طعماً، وللإيمان حلاوة، وهو ما نصَّت عليه نصوص شريعتنا، ويشعر بذلك الطعم، ويتذوق تلك الحلاوة من آمن بالله ربّاً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيّاً ورسولاً.
ثانياً:
إن الذي يكرمه الله تعالى بدخول الإسلام يجد من الأسباب لدخوله فيه ما لا يجده غيره، ويرى فيه من الجوانب ما لا يراه غيره، وما ذلك إلا لعظمة هذا الدين، وكثرة جوانب الخير فيه، وصلاحيته لجميع طبقات الناس وبيئاتهم وثقافاتهم، ومن هنا فإن من يدخل في هذا الدين العظيم يذكر من الأسباب لإسلامه ما لا يذكره غيره غالباً، وكلها إجابات صحيحة تحكي واقعهم وواقع الإسلام ذاته، ويمكنك الوقوف على بعض تلك الإجابات، والاستفادة منها، ونحن نفضل أن تذكري شعورك أنت، والسبب الذي دفعك أنت للدخول في هذا الدين، فهو تعبير عن واقعك الذي تعيشين، وأنت أبلغ من يستطيع التعبير عنه.
ولا مانع من ذِكر بعض تلك الأسباب عند غيرك ممن دخل في الإسلام؛ فقد يكون ثمة اشتراك في بعضها بينك وبينهم.
1. سئل أعرابي: لماذا أسلمتَ؟ قال: لم أرَ شيئاً من قول، أو فعل يستحسنه العقل، وتستطيبه الفطرة: إلا وحثَّ عليه الإسلام، وأمر به، وأحلَّه رب العزة سبحانه، ولم أجد شيئاً يستقبحه العقل، وتستقذره الفطرة: إلا ونهى الله عنه، وحرَّمه على عباده.
2. قال " روبرت ديكسن " رئيس جمعية المحامين الأمريكيين: جوابي لمن سألني لماذا أسلمت: هو: أن الإسلام دين التوحيد، والسعادة، والراحة النفسية، والعيشة الهانئة، إذا التزمت به، وطبقت تعاليمه، وهو دين العدل الإلهي.
3. قال " محمد أسد " - السياسي، والمؤلف النمساوي -: لم يكن هناك شيء بعينه من تعاليم الإسلام هو الذي أخذ بمجامع قلبي، إنه المجموع المتكامل المتناسب والمتماسك من هذه التعاليم الروحية من جانب، والتي ترسم برنامجاً عمليّاً للحياة من الجانب الآخر.
4. قالت الفرنسية المهتدية " سيلفي فوزي: لقد وجدت في الإسلام منهاج حياة يجيب عن كل التساؤلات، وينظم للإنسان حياته وفق ما ينفعه، ويتناسب مع فطرته، ملبسه، ومأكله، وعمله، ونظام زواجه، اختياراته في الحياة، علاقاته بالآخرين، ومن ثم فلا عجب أن من يلتزم بالإسلام يستشعر الاطمئنان، والأمان النفسي، الذي هو في رأيي أهم العناصر لاستمرار الحياة.
5. قالت أم عبد الملك – الأمريكية المسلمة -: أذهلني الإسلام الذي رفع من مقدار الوالدين.
6. قال الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمه الله -: إن أَحد فلاسفة الهنود درس تاريخ الأَديان كلها، وبحث فيها بحثَ مستقلٍّ منصفٍ، وأَطال البحث في النصرانية؛ لما للدول المنسوبة إليها من الملك، وسعة السلطان، والتبريز في الفنون، والصناعات، ثم نظر في الإسلام، فعرف أَنه الدين الحق، فأَسلم، وأَلف كتاباً باللغة الإنجليزية سماه " لماذا أَسلمت "، بيَّن فيه ما ظهر له من مزايا الإسلام على جميع الأَديان، وكان أَهمها عنده: أَن الإسلام هو الدين الوحيد الذي له تاريخ صحيح محفوظ، فالآخذ به يعلم أَنه هو الدين الذي جاء به محمد بن عبد الله، النبي الأمي العربي، المدفون في المدينة المنورة من بلاد العرب، وقد كان من مثار العجب عنده أَن ترضى أُوربا لنفسها دينًا ترفع من تنسبه إليه عن مرتبة البشر، فتجعله إلهاً وهي لا تعرف من تاريخه شيئًا يعتد به، فإن هذه الأناجيل الأربعة على عدم ثبوت أَصلها، وعدم الثقة بتأْريخها، ومؤلفيها: لا تذكر من تاريخ المسيح إلا وقائع قليلة، حدثت - كما تقول - في أَيام معدودة، ولا يذكر فيها شيء يعتد به عن نشأَة هذا الرجل، وتربيته، وتعليمه، وأَيام صباه، وشبابه، ولله في خلقه شئون.
" فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم " (1 / 48) .
7. قال " يوسف خطَّاب " – المتحول من اليهودية إلى الإسلام – لما سئل لماذا أسلمت -: لأن الإسلام دين التوحيد، قرأت عنه كثيراً، وأخيراً اقتنعت بأنه هو السبيل للجنة.
والكلمات كثيرة، ويجمعها أن الإسلام دين الفطرة، والأمن، والسعادة، والأحكام الحكيمة، والأخلاق الرفيعة، ومن رام المقارنة بين الإسلام وغيره من الأديان المحرَّفة، أو الأنظمة والقوانين البشرية: فسيتبين له بجلاء أوجه الاختلاف، وأنه ليس ثمة مجال للمقارنة أصلاً.
8. وتصف " ميري واتسون " – الأمريكية الحاصلة على ثلاث درجات علمية، وبعضها في علم اللاهوت لحظة تسلل نور الإيمان إلى قلبها فتقول: شعرت في ليلة - وأنا مستلقية على فراشي وكاد النوم يقارب جفوني - بشيء غريب استقر في قلبي، فاعتدلت من فوري، وقلت: يا رب أنا مؤمنة بك وحدك، ونطقت بالشهادة، وشعرت بعدها باطمئنان، وراحة تعم كل بدني، والحمد لله على الإسلام، ولم أندم أبداً على هذا اليوم الذي يعتبر يوم ميلادي.
انتهى
وننصحك – أختنا الفاضلة – بقراءة كتاب: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، للشيخ أبي الحسن الندوي، وكتاب: الإسلام على مفترق الطرق، والطريق إلى الإسلام، وهما للأستاذ محمد أسد، والثلاثة متوفرة باللغة الإنجليزية.
كما ننصحك بقراءة قصص واقعية لمن اهتدوا إلى الطريق المستقيم، وأسلموا لله تعالى، وفيها بيان: كيف اهتدوا، وما هي خطواتهم الأولى نحو الهداية، وذلك تحت هذا الرابط:
http://www.themwl.com/AlDaawa/default.aspx?ct=1&cid=7&l=AR
ونسأل الله لك الثبات على الحق، والتوفيق للعلم النافع، والعمل الصالح.
والله الموفق
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/126)
الحذر من وسوسة الشيطان في ذات الله
[السُّؤَالُ]
ـ[منذ أسبوعين وهذا السؤال يراودني، ولم أفلح في الإجابة عليه، ولكن بإذن الله ستكون الإجابة لديكم: ما الدليل على أن الله لا يكذب، أو ما الدليل على أنه صادق دائما، ولم، ولن يكذب أبدا؟ أعرف أنه سؤال غريب، وقد استحيت لفترة من سؤال أحد فيه، ولكن احترت في الإجابة عليه، وأُصبت بنوع من الضيق حتى في أثناء الصلاة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله:
والله ما ندري ـ يا عبد الله ـ من أي أمريك نعجب؛ أمن استرسالك وراء وساوس الشيطان، حتى بلغ بك إلى حافة الهاوية، لتسقط فيها، أو تكاد؟!! أم من استصعابك لهذا السؤال، وعدم قدرتك على الإجابة عنه؟!!
فماذا عرفت من دينك يا عبد الله، إن جهلت هذا؟!!
وماذا تظن بربك، إن كنت تبحث في هذا؟!!
يا عبد الله، لقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، لما قال لها مولاها مَسْرُوقٍ: يَا أُمَّتَاهْ، هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ؟!!
فَقَالَتْ: لَقَدْ قَفَّ شَعَرِي مِمَّا قُلْتَ..!!
وإذا كان شعر أم المؤمنين قد قف، أي: قام من شدة فزعها، لأجل من سألها هذا السؤال: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه، يعني: وهو في الدنيا، مع أن المؤمنين يرونه في الجنة، وهو أعظم نعيمهم، لا حرمنا الله منه، فكيف بسؤالك يا عبد الله؟!!
ألهذا الحد تركت قلبك فارغا، حتى يتلاعب به الشيطان، وينتهي به ذلك المنتهى؟!!
هل سمعت يا عبد الله بما رواه مسلم في صحيحه (2268) عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَأْسِي قُطِعَ؟!!
قَالَ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: إِذَا لَعِبَ الشَّيْطَانُ بِأَحَدِكُمْ فِي مَنَامِهِ فَلَا يُحَدِّثْ بِهِ النَّاسَ!!) .
فإذا كان مثل هذا المنام لعبا من الشيطان، فبالله عليك ماذا كان يجيب النبي صلى الله عليه وسلم لو رأى راء في منامه ما رأيت؟ فبالله عليك ماذا كان يقول لو كان ذلك اللعب في اليقظة، لا في المنام؟!!
لقد حُق لك ـ والله ـ أن يطول حياؤك، بل وبكاؤك على نفسك ـ أن ظفر الشيطان منك بهذا!!
نعم، نفهم أن الشيطان قد يتلاعب بمثل ذلك بالعبد، لكنه لا يسترسل مع وحي الشيطان، ويؤصل له، ويبحث له عن أدلة، وإنما إيمانه الراسخ يدفعه، فالشيطان خبيث، وكيده ضعيف: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) (النساء: 67) .
عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا حَتَّى يَقُولَ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ) متفق عليه.
أرأيت كيف كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا السؤال المعضل (!!) للعدو اللعين؟!!
أن يستعيذ بالله من تلك الوساوس، وأن ينتهي عن التفكير فيها، والاسترسال وراءها؛ لأن اللعين لا يحتاج بسؤاله هذا جوابا، وهو يعلم أن سؤاله مغالطة محضة، فالخالق لا يصلح أن يكون له خالق، وإلا كان مخلوقا آخر من المخلوقين!!
وإنما هدفه التشكيك والزعزعة، حتى يظفر بمن يموت وهو على تلك الحال، إن استطاع.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله، في شرحه للحديث السابق:
قَوْلُهُ: (مَنْ خَلَقَ رَبّك فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ) أَيْ عَنْ الِاسْتِرْسَال مَعَهُ فِي ذَلِكَ , بَلْ يَلْجَأ إِلَى اللَّه فِي دَفْعه , وَيَعْلَم أَنَّهُ يُرِيد إِفْسَاد دِينه وَعَقْله بِهَذِهِ الْوَسْوَسَة , فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَهِد فِي دَفْعهَا بِالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَجْه هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الشَّيْطَان إِذَا وَسْوَسَ بِذَلِكَ فَاسْتَعَاذَ الشَّخْص بِاللَّهِ مِنْهُ وَكَفّ عَنْ مُطَاوَلَته فِي ذَلِكَ اِنْدَفَعَ ... فَلَيْسَ لِوَسْوَسَتِهِ اِنْتِهَاء , بَلْ كُلَّمَا أُلْزِمَ حُجَّة زَاغَ إِلَى غَيْرهَا إِلَى أَنْ يُفْضِيَ بِالْمَرْءِ إِلَى الْحِيرَة , نَعُوذ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ... عَلَى أَنَّ قَوْله مَنْ خَلَقَ رَبّك كَلَام مُتَهَافِت يَنْقُض آخِرُهُ أَوَّلَهُ لِأَنَّ الْخَالِق يَسْتَحِيل أَنْ يَكُون مَخْلُوقًا.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا أَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ وَالِاشْتِغَال بِأَمْر آخَر وَلَمْ يَأْمُر بِالتَّأَمُّلِ وَالِاحْتِجَاج لِأَنَّ الْعِلْم بِاسْتِغْنَاءِ اللَّه جَلَّ وَعَلَا عَنْ الْمُوجِد أَمْر ضَرُورِيّ لَا يَقْبَل الْمُنَاظَرَة , وَلِأَنَّ الِاسْتِرْسَال فِي الْفِكْر فِي ذَلِكَ لَا يَزِيد الْمَرْء إِلَّا حَيْرَة , وَمَنْ هَذَا حَاله فَلَا عِلَاج لَهُ إِلَّا الْمَلْجَأ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَالِاعْتِصَام بِهِ.
وَفِي الْحَدِيث إِشَارَة إِلَى ذَمّ كَثْرَة السُّؤَال عَمَّا لَا يَعْنِي الْمَرْء وَعَمَّا هُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ , وَفيهِ عِلْم مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة لِإِخْبَارِهِ بِوُقُوعِ مَا سَيَقَعُ فَوَقَعَ. انتهى كلامه رحمه الله، مختصرا.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، قد أمر بالانتهاء عن تلك الوساوس، وعدم الخوض فيها، فإن المؤمن، إذا غُلب على شيء منها، وألقاها العدو اللعين في صدره؛ فإن إيمانه يُعظم ذلك البلاء، أن يقع شيء منه في صدره.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: (جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ؟!! قَالَ: وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟!! قَالُوا: نَعَمْ!!
قَالَ: ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ!!) رواه مسلم (132) .
قال النووي رحمه الله:
مَعْنَاهُ اِسْتِعْظَامُكُمْ الْكَلَام بِهِ هُوَ صَرِيح الْإِيمَان , فَإِنَّ اِسْتِعْظَام هَذَا وَشِدَّة الْخَوْف مِنْهُ وَمِنْ النُّطْق بِهِ فَضْلًا عَنْ اِعْتِقَاده إِنَّمَا يَكُون لِمَنْ اِسْتَكْمَلَ الْإِيمَان اِسْتِكْمَالًا مُحَقَّقًا وَانْتَفَتْ عَنْهُ الرِّيبَة وَالشُّكُوك.
يا عبد الله: إن الحر من الرجال، ومن له مقام بين الناس، يأنف أن يكذب، أو يُنسب إليه الكذب، وقصة أبي سفيان مع هرقل في هذا مشهورة معروفة، فكيف لو كان هذا الحر الكريم مؤمنا: إن الكذب مجانب للإيمان!!
فكيف لو كان هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن توهم الظِّنة فيه، وهو الصادق المصدوق، تقشعر له الجلود، وتقِفُّ الرؤوس!!
فكيف..؟!!
يا عبد الله؛ إن أغلب الظن أنك أُتيت من أمرين اثنين، تسلط الشيطان عليك بالوساوس لأجلهما:
فأما أولها: أنك أعرضت عن الانشغال بذكر الرحمن تبارك وتعالى، ومطالعة آياته، والعيش مع ما في كتابه الكريم من أسمائه الحسنى وصفاته العليا، والتعرف على عظمته وجلاله، وجماله وكماله، بما عرفك في كتابه، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وأما الأمر الثاني، وربما كان عقوبة من الله لك على الأمر الأول، فهو: مصاحبتك لشياطين الإنس، الذين يُظاهرون شياطين الجن، وينصرونهم عليك.
وليس بالضروري من تلك المصاحبة أن يكون صديقا لك، يذهب ويجيء معك؛ بل ربما كانت تلك المصاحبة عن طريق شبكة الإنترنت، حيث يجرك الفضول، أو فراغ القلب إلى الدخول في بعض المنتديات الإلحادية: اللادينيين، فأرسل الواحد منهم سهما من شبهته، فاستقر في فؤادك، فأورثك الداء الذي تشكوه!!
قال الله تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) .
عبد الله؛ أقبل على قلبك فأصلحه، وأقبل على ربك فتعرف عليه كما عرفك في كتابه، وأقبل على كتابه فاتله وتدبره، وعليك بذكره فاجعل لسانك رطبا منه، فإنه حصنك:
(وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ..!!) رواه الترمذي (2863) وصححه الألباني.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/127)
يرتكب المعاصي ويقول: الإيمان في القلب!
[السُّؤَالُ]
ـ[بعض الناس يرتكب المحرمات كحلق اللحية وشرب الدخان وإذا نصح بترك ذلك يقول: الإيمان في القلب، وليس الإيمان في تربية اللحية وترك الدخان، ويقول: إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم؟ فكيف نجيب عليه؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذه الكلمة كثيراً ما يقولها بعض الجهال أو المغالطين، وهي كلمة حق يراد بها باطل. لأن قائلها يريد تبرير ما هو عليه من المعاصي؛ لأنه يزعم أنه يكفي الإيمان الذي في القلب عن عمل الطاعات وترك المحرمات، وهذه مغالطة مكشوفة، فإن الإيمان ليس في القلب فقط، بل الإيمان كما عرفه أهل السنة والجماعة: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح.
قال الإمام الحسن البصري رضي الله عنه: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال.
وعمل المعاصي وترك الطاعات دليل على أنه ليس في القلب، إيمان أو فيه إيمان ناقص. والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا) آل عمران/130، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) المائدة/35. (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً) المائدة/69، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) البقرة/277، (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً) البقرة/62، فالإيمان لا يسمى إيماناً كاملاً إلا مع العمل الصالح وترك المعاصي. ويقول الله تعالى: (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) العصر/1-3، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) النساء/59، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) الأنفال/24، فلا يكفي العمل الظاهر بدون إيمان بالقلب؛ لأن هذه صفة المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار.
ولا يكفي الإيمان بالقلب دون نطق باللسان وعمل بالجوارح؛ لأن هذا مذهب المرجئة من الجهمية وغيرهم، وهو مذهب باطل، بل لا بد من الإيمان بالقلب والقول باللسان والعمل بالجوارح، وفعل المعاصي دليل على ضعف الإيمان الذي في القلب ونقصه، لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
"المنتقى من فتاوى الشيخ صالح الفوزان" (1/19) .
وهذا الحديث الذي أشار إليه ذلك المجادل (ولكن ينظر إلى قلوبكم) قد جاء في صحيح مسلم (2564) بلفظ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ) وهو نص صريح أن إصلاح القلوب وإصلاح الأعمال كلاهما مقصود، يؤمر به الإنسان، فلا يجوز لمسلم أن يقصر في الأعمال أو يرتكب المحرمات، ثم يقول: إن الله ينظر إلى القلوب، بل ينظر إلى القلوب والأعمال، ويحاسب على ما في القلوب والأعمال.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/128)
تسلط الشيطان عليه بالشهوات المحرمة، والشبهات الباطلة!!
[السُّؤَالُ]
ـ[في رمضان الماضي مارستُ العادة السرية حوالى 4 أيام في نهار رمضان، وأكلتُ بعدها لتأكدي من فساد صيامي، والأكثر من ذلك أنني أصبحتُ وفي رمضان الحالي أمارسها بعد الإفطار، لا أعرف كيف أصبر في نهار رمضان وأفعلها في ليله، وصرت أسمع الغناء كذلك في رمضان.
كانت تأتيني بعض الوساوس والشبهات التى تدور في ذهني دون أن أسمعها من أحد، ولكنني أتجاهلها؛ ليقيني بأن هذا هو الدين الحق؛ لما قرأت عنه في الإعجاز العلمي , وأحاديث صدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، بينما لا توجد بشارات أو إعجاز في الأديان الأخرى، ولم نسمع مطلقاً بذلك إلا في الإسلام , ولكن دون جدوى، أحياناً أسمع حديثاً ما، وعقلي لايصدقه، ويرفضه، كالحديث الذي يخبر أن الجنة تفتح أبوابها كل يوم إثنين وخميس، فقلت في نفسي كيف ذلك؟! هناك بعض الدول البعيدة عنا والتى تختلف معنا في الأيام، فمثلا اليوم عندنا الإثنين، وفي نيوزيلندا وتلك البلاد قد يكون عندهم الثلاثاء، أعني عدم توافق الزمن، وهكذا , عقلي أجده يفكر في أشياء وحده من هذا النوع.
آسف جدّاً على الإطالة، إفادتي فيما يجب عليَّ فعله، وجزاكم الله خيراً.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
أما حكم العادة السرية: فالصحيح من أقوال أهل العلم أنها محرمة، وقد بيَّنا ذلك في جواب السؤال رقم (329) ، لذا فالواجب عليك التوبة والاستغفار من هذه الفعلة، والكف عنها، وعدم الرجوع لفعلها.
ثانياً:
قد اتفق الأئمة الأربعة على أن من فعل ذلك فقد بطل صومه، ووجب عليه القضاء.
سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
في رمضان السابق وأنا صائم وقعت في العادة السرية، فماذا يجب عليَّ؟ .
فأجاب فضيلته:
عليك أن تتوب إلى الله من هذه العادة؛ لأنها محرمة على أصح القولين لأهل العلم؛ لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْعَادُونَ) ؛ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) ، فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم الشباب الذين لا يستطيعون الباءة إلى الصوم، والصوم فيه نوع من المشقة بلا شك، ولو كانت العادة السرية جائزة لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليها؛ لأنها أهون على الشباب؛ ولأن فيها شيئاً من المتعة، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعدل عن الأسهل إلى الأشق لو كان الأسهل جائزاً؛ لأنه كان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فعدول النبي صلى الله عليه وسلم عن الأيسر في هذه المسألة يدل على أنه ليس بجائز.
أما بالنسبة لعمله إياها وهو صائم في رمضان: فإنه يزداد إثماً؛ لأنه بذلك أفسد صومه، فعليه أن يتوب إلى الله توبتين، توبة من عمل العادة السرية، وتوبة لإفساد صومه، وعليه أن يقضي هذا اليوم الذي أفسده.
" فتاوى الشيخ العثيمين " (19 / السؤال 191) .
وانظر جواب الأسئلة: (38074) و (37887) و (2571) .
ولم يكن لك أن تأكل بعد أن أفسدتَ صيامك بالعادة السرية، وليس لمن أبطل صومه بفعل مباحٍ في الأصل كالجماع، أو فعل محرَّم كالاستمناء أن يأكل ويشرب؛ بل يجب عليه الإمساك بقية يومه، وإن كان إمساكه لا يعدُّ صياماً، وإنما الذي يجوز له الأكل والشرب والجماع هو من أفطر برخصة من الشرع، وبعذر شرعي.
سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -:
إذا أفطر الإنسان لعذرٍ وزال العذر في نفس النهار فهل يواصل الفطر أم يمسك؟ .
فأجاب:
الجواب: أنه لا يلزمه الإمساك؛ لأن هذا الرجل استباح هذا اليوم بدليل من الشرع، فحرمة هذا اليوم غير ثابتة في حق هذا الرجل، ولكن عليه أن يقضيه، وإلزامنا إياه أن يمسك بدون فائدة له شرعاً، ليس بصحيح، ومثال ذلك: رجل رأى غريقاً في الماء، وقال: إن شربت أمكنني إنقاذه، وإن لم أشرب لم أتمكن من إنقاذه، فنقول: اشرب وأنقذه، فإذا شرب وأنقذه فهل يأكل بقية يومه؟ نعم، يأكل بقية يومه؛ لأن هذا الرجل استباح هذا اليوم بمقتضى الشرع، فلا يلزمه الإمساك.
ولهذا لو كان عندنا إنسان مريض، هل نقول لهذا المريض: لا تأكل إلا إذا جعت ولا تشرب إلا إذا عطشت؟ لا؛ لأن هذا المريض أبيح له الفطر، فكلُّ مَن أفطر في رمضان بمقتضى دليل شرعي: فإنه لا يلزمه الإمساك، والعكس بالعكس، لو أن رجلاً أفطر بدون عذر، وجاء يستفتينا: أنا أفطرت وفسد صومي هل يلزمني الإمساك أو لا يلزمني؟ قلنا: يلزمك الإمساك؛ لأنه لا يحل لك أن تفطر، فقد انتهكت حرمة اليوم بدون إذن من الشرع، فنلزمك بالبقاء على الإمساك، وعليك القضاء؛ لأنك أفسدت صوماً واجباً شرعت فيه.
" فتاوى ابن عثيمين " (19 / السؤال رقم 57) .
ثالثاً:
أما سماعك الغناء: فهو فعل محرَّم، وقد سبق بيان حكم الأغاني المصاحبة للآلات المحرَّمة في أجوبة الأسئلة: (43736) و (5000) و (20406) و (5011) .
ربعاً:
أما عن الشبهات التي تطرأ على قلبك أخي الفاضل: فاعلم أنها من مكائد الشيطان، واعلم أن مثل هذه الشبهات لا تطرأ على صاحب العلم واليقين، فكن من أهلهما، واحرص على زيادتهما لترى أنه لا مكان للشبهات عند أصحابهما.
واجعل في صحابة نبيك صلى الله عليه وسلم خير أسوة لك، فعندما أخبرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من كل ليلة – كما جاء في الصحيحين – هل استشكلوا ذلك؟ هل قالوا كيف ذلك وهنا ثلث ليل وهناك في أقصى الأرض نهار في الوقت نفسه؟ لم يكن من ذلك شيء؛ لما عندهم من علم بالكتاب والسنَّة، ويقين بصدق نبيهم، وأن ما قاله وحي من ربه تعالى، فماذا فعلوا؟ سارعوا إلى الدعاء والصلاة في ثلث الليل الآخر، وهذا هو المطلوب من كل مسلم، أن يسلِّم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، ويستجيب لأوامره، وإلا كان مشابهاً للكفار الذين أنكروا إسراءه لبيت المقدس، ومعراجه للسماء في جزء من الليل، ومن كان مصدِّقاً لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: كان مشابهاً للصدِّيق أبي بكر رضي الله عنه.
وعندما أخبرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم أن الدجال يمكث في الأرض أربعين يوماً، يوم كسنَة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وسائر أيامه كأيامكم – كما رواه مسلم -، فماذا فعل الصحابة رضي الله عنهم؟ هل توقفوا؟ هل استشكلوا؟ هل ردوا الخبر؟ كل ذلك لم يكن، وإنما سألوا عن صلاتهم في اليوم الذي يكون كسنَة!! وهذا هو موقف أهل العلم واليقين من الأخبار الصادقة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وما ذكرته من أن الجنة تفتح أبوابها يوم الاثنين والخميس: هو حديث صحيح، رواه مسلم وغيره، فهل علمتَ ماذا حوى من علم وتوجيه للمسلمين؟ اقرأ الحديث وتمعن فيه جيداً:
روى مسلم في صحيحه (2565) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا) .
انظر في الحديث وما حوى من عظم الشرك وخطره، وانظر إلى عظم القطيعة والشحناء بين المسلمين، ثم انظر لنفسك تترك ذلك كله لتستشكل ما استشكلت، وليس الأمر عجزاً عن الرد، بل هو لتأصيل موقف المسلم من صحيح السنَّة، وموقفه مما يطرأ على قلبه من الشبهات، ومعرفة سبب ذلك، وكيف يدفعه.
واعلم أنك لو تراجع نفسك في اعتقادك بربك تعالى فإنك ستجد نفسك تؤمن بما هو أعظم وأعلى من ذلك بكثير، فأنت تؤمن أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور لكل خلقه في اللحظة نفسها، وأنت تؤمن أن الله تعالى يسمع كلام خلقه على اختلاف لغاتهم في اللحظة نفسها، فأين هذا مما يجيء به الشيطان للمسلم من استعظامه لبعض صفات الرب تعالى، أو لبعض الأحكام؟! .
وقد رأينا للإمام ابن القيم كلاماً متيناً حول هذا الموضوع بعينه، نرجو أن يكون كافياً لكل أحدٍ يقرؤه في قطع كل شبهة ترد على القلب مما ليس أساس من العلم، وفي كلامه رحمه الله بيان أسباب ورود الشبهات، وطريقة دفعها.
قال ابن القيم – رحمه الله -:
وقوله – أي: علي بن أبي طالب رضي الله عنه - " ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة ": هذا لضعف علمه، وقلة بصيرته، إذا وردت على قلبه أدنى شبهة: قدحت فيه الشك والريب، بخلاف الراسخ في العلم لو وردت عليه من الشبَه بعدد أمواج البحر ما أزالت يقينه، ولا قدحت فيه شكّاً لأنه قد رسخ في العلم، فلا تستفزه الشبهات، بل إذا وردت عليه: ردها حَرَسُ العلم، وجيشه، مغلولةً، مغلوبةً، والشبهة وارد يرد على القلب يحول بينه وبين انكشاف الحق له، فمتى باشر القلب حقيقة العلم: لم تؤثر تلك الشبهة فيه، بل يقوى علمه ويقينه بردها ومعرفة بطلانها، ومتى لم يباشر حقيقة العلم بالحق قلبه: قدحت فيه الشك بأول وهلة، فإن تداركها وإلا تتابعت على قلبه أمثالها حتى يصير شاكّاً مرتاباً، والقلب يتوارده جيشان من الباطل: جيش شهوات الغي، وجيش شبهات الباطل، فأيما قلب صغا إليها، وركن إليها: تشرَّبها، وامتلأ بها، فينضح لسانه وجوارحه بموجبها، فإن أُشرب شبهات الباطل تفجرت على لسانه الشكوك والشبهات والإيرادات، فيظن الجاهل أن ذلك لسعة علمه، وإنما ذلك من عدم علمه ويقينه.
وقال لي شيخ الاسلام رضي الله عنه – أي: ابن تيمية - وقد جعلت أُورد عليه إيراداً بعد إيراد -: لا تجعل قلبَك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها: صار مقرّاً للشبهات، أو كما قال، فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك.
وإنا سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق بالباطل فيها؛ فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل، وأكثر الناس أصحاب حُسن ظاهر، فينظر الناظر فيما ألبسته من اللباس: فيعتقد صحتها، وأما صاحب العلم واليقين: فإنه لا يغتر بذلك، بل يجاوز نظره إلى باطنها، وماتحت لباسها، فينكشف له حقيقتها، ومثال هذا: الدرهم الزائف، فإنه يغتر به الجاهل بالنقد نظراً إلى ما عليه من لباس الفضة، والناقد البصير يجاوز نظره إلى ما وراء ذلك، فيطَّلع على زيفه.
" مفتاح دار السعادة " (1 / 139، 140) .
ونسأل الله تعالى أن يهديك لما يحب ويرضى، وأن يوفقك لكل خير، وأن يثبت قلبك على الإيمان، وأن يزيدك هدى وعلماً وتوفيقاً.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/129)
أخفى إسلامه ودُفن في مقابر الكفار فهل يكون كافراً؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لنفرض أن هناك نصرانيّاً قد أسلم ولم يخبر أهله، فبعد فترة توفي، ولكن أهله لا يعرفون أنه قد أسلم فسيصلون عليه في الكنيسة ويدفنونه على الطريقة النصرانية، أريد أن أعرف ما حكم هذا؟ هل يموت على الإسلام أم على الكفر؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اعلم أخي الكريم ـ أولا ـ أن الفقهاء اتفقوا على أنه لا يجوز أن يدفن المسلم في مقابر الكفار، ولا الكافر في مقابر المسلمين، إلا لضرورة [انظر: الموسوعة الفقهية: 21/20، أحكام المقابر في الشريعة الإسلامية، د عبد الله السحيباني، ص:231-232] .
وإذا مات المسلم في بلاد الكفار، فإنه يجب على وليه، أو من علم به من المسلمين، أن ينقله إلى بلاد المسلمين حتى يدفن فيها.
وهذا النقل والتحويل إلى بلاد الإسلام حسب الاستطاعة، فإن تعذر نقله فيدفن في بلاد الكفار، لكن في غير مقابرهم. [انظر: أحكام المقابر ص: 225-226] .
قال شيخ الإسلام رحمه الله: " وهذا آكد من التمييز بينهم حال الحياة، بلبس الغيار ونحوه؛ فإن مقابر المسلمين فيها الرحمة، ومقابر الكفار فيها العذاب " [الاختيارات ص 94] .
ثانيا: الصورة التي سألت عنها، وهي حالة تتكرر لكثير من المسلمين المستضعفين في بلاد الكفر، الذين لا يتمكنون من الهجرة إلى بلد يعلنون فيه إسلامهم، ويأمنون فيه على دينهم وأنفسهم، ولا يستطيعون ـ أيضا ـ إظهار إسلامهم في البلاد التي يعيشون فيها، إما خشية على أنفسهم من بطش أقربائهم بهم، كما هو الحال في سؤالك، أو لغير ذلك من الأسباب؛ فهؤلاء يبعثون على نياتهم، وحكم في الآخرة حكم ما عندهم من الإيمان والعمل الصالح، وليس حكم الأرض التي ماتوا فيها، أو القبر الذي دفنوا فيه؛ عَنْ جَابِر بنِ عَبْدِ الله قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ) رواه مسلم (2878)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَنَازَةٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِسْلامِ اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ.
رواه أبو داود (3201) وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
قال الشيخ محمد الصالح العثيمين – رحمه الله -:
" اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِسْلامِ) الحياة ذكر معها الإسلام، وهو الاستسلام الظاهر، ومع الموت ذكر الإيمان؛ لأن الإيمان أفضل، ومحله القلب، والمدار على ما في القلب عند الموت وفي يوم القيامة "
" شرح رياض الصالحين " (2 / 1200) .
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عما يقول بعض الناس: إن لله ملائكة ينقلون من مقابر المسلمين إلى مقابر اليهود والنصارى، وينقلون من مقابر اليهود والنصارى إلى مقابر المسلمين؛ ومقصودهم: أن من ختم بشر في علم الله، وقد مات في الظاهر مسلما، أو كان كتابيا وختم له بخير، فمات مسلما في علم الله، وفي الظاهر مات كافرا، فهؤلاء ينقلون؛ فهل ورد في ذلك خبر أم لا؟ وهل لذلك حجة؟ أم لا؟
فقال رحمه الله: أما الأجساد فإنها لا تنقل من القبور، لكن نعلم أن بعض من يكون ظاهره الإسلام، ويكون منافقا: إما يهوديا أو نصرانيا أو مرتدا..، فمن كان كذلك فإنه يكون يوم القيامة مع نظرائه، كما قال تعالى: (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) أي أشباههم ونظراءهم. وقد يكون بعض من مات، وظاهره الكفر، قد آمن بالله قبل أن يغرغر، ولم يكن عنده مؤمن، وكتم عن أهله ذلك؛ إما لأجل ميراث أو لغير ذلك، فيكون مع المؤمنين، وإن كان مقبورا مع الكفار.
وأما الأثر في نقل الملائكة فما سمعت في ذلك أثرا. انتهى من الفتاوى الكبرى (3/27) بتصرف يسير.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/130)
الطيب من أسماء الله تعالى
[السُّؤَالُ]
ـ[هل اسم الطيب من أسماء الله تعالى أم من باب الأوصاف والأخبار؟ وما هو الضابط في تمييز الأسماء من الأوصاف والأخبار؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
الطيب من أسماء الله تعالى؛ لما روى مسلم (1015) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَقَالَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ) .
وقد عدّ الشيخ ابن عثيمين رحمه الله اسم "الطيب" من أسماء الله تعالى الثابتة بالسنة الصحيحة. انظر: "القواعد المثلى" ضمن مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين (3/278) .
ثانيا:
الفرق بين الاسم والصفة:
جاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (3/16) سؤال عن الفرق بين الاسم والصفة، فأجابت:
" أسماء الله كل ما دل على ذات الله مع صفات الكمال القائمة به؛ مثل: القادر، العليم، الحكيم، السميع، البصير؛ فإن هذه الأسماء دلَّت على ذات الله، وعلى ما قام بها من العلم والحكمة والسمع والبصر، أما الصفات؛ فهي نعوت الكمال القائمة بالذات؛ كالعلم والحكمة والسمع والبصر؛ فالاسم دل على أمرين، والصفة دلت على أمر واحد، ويقال: الاسم متضمن للصفة، والصفة مستلزمة للاسم " انتهى.
وانظر السؤال رقم (22642)
وقال الشيخ علوي بن عبد القادر السقاف: " ولمعرفة ما يُميِّز الاسم عن الصفة، والصفة عن الاسم أمور، منها:
أولاً: أن الأسماء يشتق منها صفات، أما الصفات؛ فلا يشتق منها أسماء، فنشتق من أسماء الله الرحيم والقادر والعظيم، صفات الرحمة والقدرة والعظمة، لكن لا نشتق من صفات الإرادة والمجيء والمكر اسم المريد والجائي والماكر.
فأسماؤه سبحانه وتعالى أوصاف؛ كما قال ابن القيم في النونية
أسماؤُهُ أوْصافُ مَدْحٍ كُلُّها ... مُشْتَقَّةٌ قَدْ حُمِّلَتْ لِمَعان ِ
ثانياً: " أن الاسم لا يُشتق من أفعال الله؛ فلا نشتق من كونه يحب ويكره ويغضب اسم المحب والكاره والغاضب، أما صفاته؛ فتشتق من أفعاله فنثبت له صفة المحبة والكره والغضب ونحوها من تلك الأفعال، لذلك قيل: باب الصفات أوسع من باب الأسماء "
[مدارج السالكين 3/415] .
ثالثاً: أن أسماء الله عَزَّ وجَلَّ وصفاته تشترك في الاستعاذة بها والحلف بها، لكن تختلف في التعبد والدعاء، فيتعبد الله بأسمائه، فنقول: عبد الكريم، وعبد الرحمن، وعبد العزيز، لكن لا يُتعبد بصفاته؛ فلا نقول: عبد الكرم، وعبد الرحمة، وعبد العزة؛ كما أنه يُدعى اللهُ بأسمائه، فنقول: يا رحيم! ارحمنا، ويا كريم! أكرمنا، ويا لطيف! الطف بنا، لكن لا ندعو صفاته فنقول: يا رحمة الله! ارحمينا، أو: يا كرم الله! أو:يا لطف الله! ذلك أن الصفة ليست هي الموصوف؛ فالرحمة ليست هي الله، بل هي صفةٌ لله، وكذلك العزة، وغيرها؛ فهذه صفات لله، وليست هي الله، ولا يجوز التعبد إلا لله، ولا يجوز دعاء إلا الله؛ لقوله تعالى: (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) النور: 55، وقوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) غافر:60، وغيرها من الآيات " انتهى من "صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة" ص 17
وأما الفرق بين باب الأسماء والصفات، وباب الأخبار فمن وجهين:
الأول: أن الأسماء والصفات توقيفية، فلا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. وفي الإخبار يجوز أن يخبر عن الله تعالى بما لم يرد في الكتب والسنة مما يصح معناه، كقولهم: قديم الإحسان، واسع الجود.
والثاني: أن أسماءه سبحانه حسنى، وصفاته علا، كما قال: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأعراف/180، وقال: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) النحل/60
والحسنى: تأنيث الأحسن، أي أسماؤه بالغة في الحسن غايته. والمثل الأعلى: الوصف الأعلى، قال الشوكاني في "فتح القدير" (4/314) : " قال الخليل: المثل الصفة: أي وله الوصف الأعلى في السموات والأرض " انتهى.
أما الأخبار: فيجوز أن يخبر عن الله تعالى بما لا نقص فيه، وإن لم يتضمن أعلى الكمال، كالإخبار عن الله بأنه قديم وموجود وشيء، قال تعالى: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) الأنعام/19
قال ابن القيم رحمه الله: " ويجب أن تعلم هنا أمورً:
أحدها: أن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، كالشيء والموجود والقائم بنفسه، فإنه يخبر به عنه ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا.
الثاني: أن الصفة إذا كانت منقسمة إلى كمال ونقص لم تدخل بمطلقها في أسمائه، بل يطلق عليه منها كمالها، وهذا كالمريد والفاعل والصانع، فإن هذه الألفاظ لا تدخل في أسمائه، ولهذا غلط من سماه بالصانع عند الإطلاق، بل هو الفعال لما يريد، فإن الإرادة والفعل والصنع منقسمة، ولهذا إنما أطلق على نفسه من ذلك أكمله فعلا وخبرا.
الثالث: أنه لا يلزم من الإخبار عنه بالفعل مقيدا أن يشتق له منه اسم مطلق، كما غلط فيه بعض المتأخرين، فجعل من أسمائه الحسنى المضل الفاتن الماكر، تعالى الله عن قوله؛ فإن هذه الأسماء لم يطلق عليه سبحانه منها إلا أفعال مخصوصة معينة فلا يجوز أن يسمى بأسمائها ...
السابع: أن ما يطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي، وما يطلق عليه من الأخبار لا يجب أن يكون توقيفا، كالقديم والشيء والموجود والقائم بنفسه.
فهذا فصل الخطاب في مسألة أسمائه هل هي توقيفية أو يجوز أن يطلق عليه منها بعض ما لم يرد به السمع.
الثامن: أن الاسم إذا أطلق عليه جاز أن يشتق منه المصدر والفعل، فيخبر به عنه فعلا ومصدرا، نحو السميع البصير القدير يطلق عليه منه السمع والبصر والقدرة، ويخبر عنه بالأفعال من ذلك نحو: (قد سمع الله) (فقدرنا فنعم القادرون) هذا إن كان الفعل متعديا، فإن كان لازما لم يخبر عنه به نحو: الحي، بل يطلق عليه الاسم والمصدر دون الفعل ... " انتهى من "بدائع الفوائد" (1/170) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/131)
يوسوس له الشيطان بتخيل صورة لله تعالى ليحقق معنى الإحسان!
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أحاول في العبادات المتعلقة بالذكر كالصلاة والدعاء أن أعبد الله كأني أراه , لذلك فقد اعتدت أمراً لا أدري إن كان صحيحاً أم لا , وذلك أنى أحاول أن أتصور الله أمامي وأنا في صلاتي مثلاً , ولكن عقلي البشري الضعيف أقرب ما يذهب إليه هو صورة إنسان، وأنا أعلم أن هذا أبعد ما يكون عن الملِك الذي ليس كمثله شيء , أيضاً أحاول أن أهيئ لنفسي وأنا ساجد مثلا أني أمام الكعبة، وقد أشعر بأني قريب من الله فعلا، ولكني أيضا لا أشعر بكامل القرب من الله لأني أدرك أن الله أعظم من ذلك كثيراً. أرجو أن تعلموا أن أمري ليس وسوسة، ولكني أريد القرب أكثر من الله , فانصحوني]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً: اعلم يا عبد الله أن الله تعالى احتجب عن خلقه في دار الدنيا، فلا يراه بشر فيها، لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا من دونه.
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ) رواه البخاري (4855) ومسلم (177) واللفظ له.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وقد اتفق أئمة المسلمين على أن أحدا من المؤمنين لا يرى الله بعينه في الدنيا، ولم يتنازعوا إلا في النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، مع أن جماهير الأئمة على أنه لم يره بعينه في الدنيا؛ وعلى هذا دلت الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وأئمة المسلمين.) مجموع الفتاوى 2/335
وإذا كان البشر، كل البشر، قد حجبوا في دار الدنيا عن هذه الرؤية، فالبشر، كل البشر أيضا، عاجزون عن الوقوف على حقيقة ذاته سبحانه، أو كيفية شيء من صفاته؛ لأن الإنسان لا يتخيل شيئا تخيلا صحيحا إلا أن يكون رآه، أو رأى شبيه هذا الشيء أو نظيره، حتى ينتقل خياله من صورة الشيء الذي رآه إلى صورة ما غاب عنه.
وبناء على ذلك، اعلم ـ أيها الأخ الكريم ـ أن كل صورة في خيالك، أو توهم كيفيةٍ في بالك، فالله تعالى بخلاف ذلك، بل: الله تعالى أجل وأعظم من كل ذلك. وأن اشتغالك بهذه الخيالات وساوس واستدراج من الشيطان، ليشغلك بما يضرك عما ينفعك، وبالباطل عن الحق. قال الإمام الطحاوي رحمه الله في عقيدته: (ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام. فمن رام علمَ ما حُظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان؛ فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، مُوَسْوِسا تائها شاكا، لا مؤمنا مصدقا، ولا جاحدا مكذبا) [متن العقيدة الطحاوية ص 14] .
وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم طريق دفع الوساوس التي يلقيها الشيطان في قلب العبد، فيما يتعلق بالله جل جلاله، فقال: (يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولَ مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا حَتَّى يَقُولَ لَهُ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ) رواه البخاري (3276) ومسلم (134)
قال النووي رحمه الله: مَعْنَاهُ: إِذَا عَرَضَ لَهُ هَذَا الْوَسْوَاس فَلْيَلْجَأْ إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي دَفْع شَرّه عَنْهُ , وَلْيُعْرِضْ عَنْ الْفِكْر فِي ذَلِكَ , وَلْيَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخَاطِر مِنْ وَسْوَسَة الشَّيْطَان , وَهُوَ إِنَّمَا يَسْعَى بِالْفَسَادِ وَالْإِغْوَاء فَلْيُعْرِضْ عَنْ الْإِصْغَاء إِلَى وَسْوَسَته وَلْيُبَادِرْ إِلَى قَطْعهَا بِالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا وَاَللَّه أَعْلَم. وراجع كلاما مفيدا في فتاوى الشيخ ابن عثيمين (1 / السؤال رقم 18)
وأما القرب الذي تبحث عنه وتنشده في عبادتك لربك عز وجل، فنعم مقام العابدين هو:
(أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه، فإنه يراك!!) .
غير أن هذا المقام العظيم الجليل لا يحتاج منك أن تجهد نفسك، وتشتت قلبك في البحث عن شيء لن تدركه، وهو تخيل صورة الله عز وجل؛ وإنما يحتاج منك أن تستحضر من صفات الجلال والكمال والجمال لله عز وجل ما يعينك على حضور القلب في عبادته سبحانه، والإقبال عليه بكليتك. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (وقوله صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه..، يشير إلى أن العبد يعبد الله على هذه الصفة؛ وهي استحضار قربه، وأنه بين يديه؛ وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، كما جاء في رواية أبي هريرة:
" أن تخشى الله كأنك تراه " [رواه بهذا اللفظ: مسلم (10) ] .
ويوجب أيضا النصح في العبادة وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها) جامع العلوم والحكم 1/104
وقال ابن القيم – رحمه الله -: ومشهد الإحسان أصل أعمال القلوب كلها فإنه يوجب الحياء والإجلال والتعظيم والخشية والمحبة والإنابة والتوكل والخضوع لله سبحانه والذل له ويقطع الوسواس وحديث النفس ويجمع القلب والهم على الله.
فحظ العبد من القرب من الله على قدر حظه من مقام الإحسان وبحسبه تتفاوت الصلاة حتى يكون بين صلاة الرجلين من الفضل كما بين السماء والأرض وقيامهما وركوعهما وسجودهما واحد. " رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه " (ص 38، 39) ، وانظر أيضا: جامع العلوم والحكم، لابن رجب (1/103) وما بعدها، ط دار ابن الجوزي، معارج القبول، للشيخ حافظ الحكمي (3 / 999، 1000) .
وقد أشار أهل العلم إلى جملة من الأعمال والأحوال، متى اجتهد العبد في تحقيقها كانت له عونا على القرب من ربه عز وجل، وبحسب سعي العبد في القرب من ربه عز وجل، يكون قرب الله تعالى منه؛ فأقلَّ إن شئت أو استكثر!!
ومن هذه الأمور:
1. تحقيق التوحيد وترك الشرك الأكبر والأصغر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
وهذا تحقيق الإخلاص والتوحيد الذي من حققه كان أقرب الخلق إلى الله، وهو تحقيق كلمة الإخلاص " لا إله إلا الله ". الاستقامة " (ص 195) .
2. معرفة صفات الله تعالى وأسمائه وأفعاله.
قال ابن القيم – رحمه الله -: (مشهد الإحسان، وهو مشهد المراقبة، وهو أن يعبد الله كأنه يراه، وهذا المشهد إنما ينشأ من كمال الإيمان بالله وأسمائه وصفاته، حتى كأنه يرى الله سبحانه فوق سمواته مستوياً على عرشه، يتكلم بأمره ونهيه ويدبر أمر الخليقة؛ فينزل الأمر من عنده ويصعد إليه، وتعرض أعمال العباد وأرواحهم عند الموافاة عليه؛ فيشهد ذلك كله بقلبه ويشهد أسماءه وصفاته ويشهد قيوماً حيّاً سميعاً بصيراً عزيزاً حكيماً آمراً ناهياً، يحب ويبغض، ويرضى ويغضب، ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وهو فوق عرشه لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد ولا أقوالهم ولا بواطنهم، بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (ص 38) .
3. تحقيق الولاية، ويكون تحقيقها بالإيمان والتقوى، كما قال تعالى: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) يونس/62،63.
قال ابن القيم رحمه الله: (الولاية هي القرب من الله عز وجل، فولي الله هو القريب منه، المختص به، والولاء هو في اللغة: القرب.) بدائع الفوائد (3 / 621) .
4. المداومة على الصلاة، وبخاصة استشعار القرب من الله تعالى في السجود؛ فإنه أقرب ما يكون العبد فيه قرباً لربه تعالى، وكذا الصلاة في آخر الليل. قال تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) العلق/19.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ) رواه مسلم (482) .
وعن عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ) .
رواه الترمذي (3579) والنسائي (572) ، وصححه الألباني في " صحيح الجامع " (1173) .
5. تحقيق التوبة من الذنوب صغيرها وكبيرها:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وينبغي أن يعرف أن التوبة لا بد منها لكل مؤمن ولا يكمل أحد ويحصل له كمال القرب من الله ويزول عنه كل ما يكره إلا بها) . مجموع الفتاوى " (15 / 55) .
6. ذكر الله تعالى على كل حال، من أذكار وأدعية وتسبيح وتحميد وتهليل:
قال ابن القيم رحمه الله: (والذِّكر يوجب له القرب من الله عز وجل والزلفى لديه، وهذه هي المنزلة) . " الوابل الصيب " (1 / 96) .
7. تحقيق الخوف منه عز وجل:
قال ابن القيم رحمه الله: (هذا الخوف على حسب القرب من الله والمنزلة عنده، وكلما كان العبد أقرب إلى الله كان خوفه منه أشد؛ لأنه يطالَب بما لا يطالَب به غيره، ويجب عليه من رعاية تلك المنزلة وحقوقها ما لا يجب على غيره، ونظير هذا في الشاهد أن الماثل بين يدي أحد الملوك المشاهد له، أشد خوفاً منه من البعيد عنه؛ بحسب قربه منه ومنزلته عنده، ومعرفته به وبحقوقه، وأنه يطالب من حقوق الخدمة وأدائها بما لا يطالب به غيره، فهو أحق بالخوف من البعيد، ومَن تصور هذا حق تصوره فهم قوله (إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية) طريق الهجرتين (1 / 427، 428) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/132)
تحمَّل المسئولية فأصيب بالقلق والاكتئاب
[السُّؤَالُ]
ـ[أولاً أنا شاب أبلغ من العمر 20 سنة، أدرس في كلية الطب، توفي والدي في الفترة الأخيرة، وأصبح جُلّ المسؤوليات على عاتقي، علماً بأن لي أخاً أكبر مني لكنه عاجز، أصبت قبل أيام بحالات اضطراب نفسي، وأصبحت أخاف من المرض والموت وتأتيني حالات بأني سأموت اليوم وما شابه ذلك من الأفكار الغريبة، ذهبت إلى دكتور نفسي وقال لي: إنك تعانى من القلق والاكتئاب، أعطاني دواء ولكن لم آخذه.
التزمت - والحمد لله - والتجأت إلى الله عز وجل، والحمد لله أنا الآن أحسن بكثير مع قراء ة القرآن والصلاة في المسجد، سؤالي هو: هل حالتي تتطلب الدواء أو لا؟ وهل هذا من الشيطان أم مرض عضوي؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا غنى للمؤمن عن ربه عز وجل، فهو – عز وجل – الذي يجلب النفع ويدفع الضر، فلجوؤك إلى الله عز وجل هو الفعل الصحيح.
الموت حق، وقد كتبه الله تعالى على كل نفسٍ، كما قال عز وجل: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) آل عمران/185، ومهما بذل الإنسان من أسباب فإنها لن تدفع عنه قدر الله عز وجل وقضاءه ومنه الموت.
لا ينبغي للخوف أن يصد العبدَ عن الطاعة بل العكس هو الصواب، فالخوف هو الذي يقوده للطاعة ويحثه على العبادة، والخوف – كما يقول ابن قدامة – " سوط الله تعالى يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل، لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى ".
وقد يؤدي الخوف بصاحبه إلى همٍّ وغمٍّ ومرض، وقد يؤدي به إلى اليأس من رحمة الله تعالى، وهنا يكون خوفه غير محمود بل مذموم.
وينبغي أن يُعلم أن كثيراً من الهموم والضغوط النفسية سببها عدم الرضا، فقد لا نحصل على ما نريد، وحتى لو حصلنا على ما نريد فقد لا يعطينا ذلك الرضا التام الذي كنا نأمله، فالصورة التي كنا نتخيلها قبل الإنجاز كانت أبهى من الواقع.
وحتى بعد حصولنا على ما نريد فإننا نظل نعاني من قلق وشدة خوفا من زوال النعم، فلا علاج لهذا إلا بالرضا بقدر الله تعالى والشكر على نعمه والصبر على ما يقدره الله تعالى من الشدائد والمصائب
وقد تكون حالتك بحاجة لطبيب، لكن لتعلم أن أكثر أمراض الناس ليست أمراضاً عضوية بل هي نفسية تؤثر على الأعضاء.
يقول الدكتور الفاريز: لقد اتضح أن أربعة من كل خمسة مرضى ليس لعلتهم أساس عضوي البتة، بل مرضهم ناشئ من الخوف، والقلق، والبغضاء والأثرة المستحكمة، وعجز الشخص عن الملاءمة بين نفسه والحياة ".
فانظر كيف أن بكاء يعقوب عليه السلام على ابنه يوسف عليه السلام أفقده بصره، وكيف أن الغم بلغ مداه بعائشة رضي الله عنه عندما تطاول عليها أهل الإفك فظلت تبكي حتى قالت: " ظننت أن الحزن فالق كبدي " متفق عليه.
قال الدكتور حسَّان شمسي باشا:
وفي حالات القلق يزداد إفراز مادة في الدم تدعى " الأدرينالين "، فيرتفع ضغط الدم، ويتسرع القلب، ويشكو الإنسان من الخفقان، أو يشعر وكأن شيئا ينسحب إلى الأسفل داخل صدره.
ويظن بقلبه الظنون، ويهرع من طبيب إلى طبيب، وما به من علة في قلبه، ولا مرض في جسده إلا أنه يظل يشكو من ألم في معدته واضطراب في هضمه، أو انتفاخ في بطنه، واضطراب في بوله أو صداع في رأسه. اهـ
انتهى
فعليك بالإيمان والتقوى والمحافظة على الأذكار والأوراد الشرعيَّة فهي من أعظم أنواع العلاجات لإزالة ما يتكدر به الخاطر، وما تحزن من أجله النفوس.
ومن الأدعية النبوية في هذا الباب:
1. عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضَلَع الدين وغلبة الرجال ".
رواه البخاري (6008) .
ضَلع الدَّين: غلبته وثقله.
2. عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أصاب أحداً قط همٌّ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماضٍ فيَّ حكمك عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي: إلا أذهب الله همَّه وحزنه، وأبدله مكانه فرجاً.
قال: فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها.
رواه أحمد (3704) .
والحديث: صححه الشيخ الألباني في " السلسلة الصحيحة " (199) .
3. عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له.
رواه الترمذي (3505) .
والحديث: صححه الشيخ الألباني في " صحيح الجامع " (3383) .
ومن المهم الرجوع إلى جواب السؤال: (21677) و (32457) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/133)
الحكمة مِن خَلْق البشر؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لما خُلق البشر؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
من عظيم صفات الله تعالى " الحكمة "، ومن أعظم أسمائه تعالى " الحكيم "، وينبغي أن يُعلم أنه ما خلق شيئاً عبثاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما يخلق لِحِكَمٍ بالغة عظيمة، ومصالح راجحة عميمة، عَلِمَها من عَلِمها، وجَهِلها من جهلها، وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه الكريم، فبيَّن أنه لم يخلق البشر عبثاً، ولم يخلق السموات والأرض عبثاً، فقال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ. فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) المؤمنون/115،116، وقال سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) الأنبياء/16، وقال عز وجل: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الدخان/38، 39، ويقول سبحانه وتعالى: (حم. تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) الأحقاف/1 – 3.
وكما أن ثبوت الحكمة في خلق البشر ثابت من ناحية الشرع , فهو ثابت – أيضاً - من ناحية العقل، فلا يمكن لعاقل إلا أن يسلِّم أنه قد خلقت الأشياء لحكَمٍ، والإنسان العاقل ينزه نفسه عن فعل أشياء في حياته دون حكمة، فكيف بالله تعالى أحكم الحاكمين؟!
ولذا أثبت المؤمنون العقلاء الحكمة لله تعالى في خلقه، ونفاها الكفار، قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) آل عمران/190، 191، وقال تعالى – في بيان موقف الكفار من حكمة خلقه -: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) ص/27.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
" يخبر تعالى عن تمام حكمته في خلقه السموات والأرض، وأنه لم يخلقهما باطلاً، أي: عبثاً ولعباً، من غير فائدة ولا مصلحة.
(ذلك ظن الذين كفروا) بربهم، حيث ظنوا ما لا يليق بجلاله.
(فويل للذين كفروا من النار) فإنها التي تأخذ الحق منهم، وتبلغ منهم كل مبلغ، وإنما خلق الله السموات والأرض بالحق وللحق، فخلقهما ليعلم العباد كمال علمه وقدرته، وسعة سلطانه، وأنه تعالى وحده المعبود، دون من لم يخلق مثقال ذرة من السموات والأرض، وأن البعث حق، وسيفصل الله بين أهل الخير والشر، ولا يظن الجاهل بحكمة الله، أن يسوي الله بينهما في حكمه، ولهذا قال: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) هذا غير لائق بحِكمَتنا وحُكْمنا " انتهى.
" تفسير السعدي " (ص 712) .
ثانياً:
ولم يخلق الله تعالى الإنسان ليأكل ويشرب ويتكاثر، فيكون بذلك كالبهائم، وقد كرَّم الله تعالى الإنسان، وفضَّله على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً، ولكن أبى أكثر الناس إلا كفوراً فجهلوا أو جحدوا الحكمة الحقيقية من خلقهم، وصار كل هَمِّهِم التمتع بشهوات الدنيا , وحياة هؤلاء كحياة البهائم , بل هم أضل، قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) محمد/12، وقال تعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) الحجر/3 , وقال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) الأعراف/179. ومن المعلوم عند عقلاء الناس أن الذي يصنع الشيء هو أدرى بالحكمة منه من غيره، ولله المثل الأعلى فإنه هو الذي خلق البشر، وهو أعلم بالحكمة من خلقه للناس، وهذا لا يجادل فيه أحد في أمور الدنيا، ثم إن الناس كلهم يجزمون أن أعضاءهم خُلقت لحكمة، فهذه العين للنظر، وهذه الأذن للسمع، وهكذا، أفيُعقل أن تكون أعضاؤه مخلوقةً لحكمة، ويكون هو بذاته مخلوقاً عبثاً؟! أو أنه لا يرضى أن يستجيب لمن خلقه عندما يخبره بالحكمة من خلقه؟!
ثالثاً:
وقد بيَّن الله تعالى أنه خلق السموات والأرض، والحياة والموت للابتلاء والاختبار، ليبتلي الناس , مَنْ يطيعه ليثيبه، ومَنْ يعصيه ليعاقبه، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ) هود/ 7، وقال عز وجل: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) الملك/ 2.
وبهذا الابتلاء تظهر آثار أسماء الله تعالى وصفاته، مثل اسم الله تعالى " الرحمن "، و " الغفور " و " الحكيم " و " التوَّاب " و " الرحيم " وغيرها من أسمائه الحسنى.
ومن أعظم الأوامر التي خلق الله البشر من أجلها – وهو من أعظم الابتلاءات -: الأمر بتوحيده عز وجل وعبادته وحده لا شريك له، وقد نصَّ الله تعالى على هذه الحكمة في خلق البشر فقال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات/56.
قال ابن كثير رحمه الله:
" أي: إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: إلا ليعبدون، أي: إلا ليقروا بعبادتي طوعاً أو كرهاً، وهذا اختيار ابن جرير، وقال ابن جريج: إلا ليعرفون، وقال الربيع بن أنس: إلا ليعبدون، أي: إلا للعبادة " انتهى.
" تفسير ابن كثير " (4 / 239) .
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
" فالله تعالى خلق الخلق لعبادته، ومعرفته بأسمائه وصفاته، وأمرهم بذلك، فمن انقاد، وأدى ما أمر به، فهو من المفلحين، ومن أعرض عن ذلك، فأولئك هم الخاسرون، ولا بد أن يجمعهم في دار، يجازيهم فيها على ما أمرهم به ونهاهم، ولهذا ذكر الله تكذيب المشركين بالجزاء، فقال: (ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) أي: ولئن قلتَ لهؤلاء، وأخبرتهم بالبعث بعد الموت، لم يصدقوك، بل كذبوك أشد التكذيب، وقدحوا فيما جئت به، وقالوا: (إن هذا إلا سحر مبين) ألا وهو الحق المبين " انتهى.
" تفسير السعدي " (ص 333) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/134)
الجواب عن سؤال أهل الإلحاد " هل يستطيع الله أن يخلق صخرة لا يمكنه رفعها؟ "
[السُّؤَالُ]
ـ[هذا السؤال قد يُطرح من قبل أحد دعاة التنصير: " هل يستطيع الله أن يخلق صخرة لا يمكنه رفعها؟ " كيف نرد على ذلك؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا السؤال – وأمثاله – فيه مغالطة كبيرة، ويحاول كثير من الملحدين أن يستعمله في حواراته مع المسلمين، وهم يريدون الإلزام للمجيب فإن قال: لا يستطيع. قالوا: كيف يكون إلها وهو عاجز عن الخلق؟! وإن قال: يستطيع. قالوا: كيف يكون إلهاً وهو عاجز عن الحمل والرفع لهذه الصخرة؟!
والجواب:
أن هذا السؤال غير صحيح في الأصل، فقدرة الله تعالى لا تتعلق بالمستحيلات؛ فكيف يكون إلهاً وهو عاجز عن رفع " صخرتهم " ومن صفات الله تعالى القدرة؟! وهل سيوجد في صفات المخلوقات ما هو أعظم من صفات خالقها؟!
وقد أجاب الأستاذ سعد رستم عن هذا السؤال بجواب علمي رصين ننقله بنصه، إذ قال:
قدرة الله - التي هي بلا شك مطلقة وغير محدودة - إنما تتعلق بالممكنات العقلية لا بالمستحيلات العقلية، فالقدرة مهما كانت مطلقة ولا حدود لها تبقى في دائرة ممكنات الوجود، ولا تتعلق بالمستحيلات، وليس هذا بتحديد لها، ولتوضيح هذه النقطة نضرب بعض الأمثلة:
نسأل جميع هؤلاء الأساقفة واللاهوتيين: هل يستطيع الله تعالى أن يخلق إلهاً آخر مثله؟ إن قالوا: نعم. قلنا لهم: هذا المخلوق كيف يكون إلهاً وهو مخلوق؟ وكيف يكون مثل الله مع أنه حادث في حين أن الله أزلي قديم؟ في الحقيقة إن عبارة " خلق إله " سفسطة وتناقض عقلي لأن الشيء بمجرد أن يُخلَق فهو ليس بإله، فسؤالنا هذا بمثابة سؤالنا هل يستطيع الله تعالى أن يخلق " إلها غير إله "؟! وبديهي أن الجواب لا بد أن يكون: إن قدرة الله لا تتعلق بذلك؛ لأن كون الشيء إلهاً وغير إله تناقض عقلي مستحيل الوجود، وقدرة الله لا تتعلق بالمستحيلات.
مثال آخر: نسألهم أيضاً: هل يستطيع الله تعالى أن يخرِج أحداً حقيقة من تحت سلطانه؟
إن أجابوا بالإيجاب حددوا نفوذ الله تعالى وسلطانه، وإن أجابوا بالنفي - وهو الصحيح - وافقونا بأن قدرة الله المطلقة لا تتعلق بالمستحيلات؛ لأنه مستحيل عقلاً أن يخرج أي مخلوق من سلطان ونفوذ خالقه وموجِده.
مثال ثالث: سألني مرة أحد الملحدين فقال: " هل يستطيع ربكم أن يخلق صخرة هائلة تكون من الضخامة بحيث يعجز هو نفسه عن تحريكها "؟ وأضاف متهكِّماً: " إن قلت لي نعم يستطيع: فقد أثبت لربك العجز عن تحريك صخرة، وهذا دليل على أنه ليس بإلهٍ، وإن قلت لي: كلا، لا يستطيع، اعترفت بأنه لا يقدر على كل شيء، وبالتالي فهو ليس بإلهٍ "! .
فأجبت هذا الملحد بكل بساطة: نعم، لا يدخل ضمن قدرة الله أن يخلق صخرة يعجز عن تحريكها؛ لأن كل ما يخلقه الله يقدر على تحريكه، ولكن عدم إمكان تعلق قدرة الله تعالى بخلق مثل هذه الصخرة المفترضة ليس دليلا على عجزه بل - على العكس تماماً - هو دليل على كمال قدرته! لأن سؤالك هذا بمثابة من يسأل: هل يستطيع الله تعالى أن يكون عاجزاً عن شيء ممكن عقلا؟ وبديهي أن الإجابة بالنفي لا تفيد تحديد قدرة الله بل تفيد تأكيد كمال قدرته تعالى وتمامها؛ لأن عدم العجز عين القدرة وليس عجزاً، تماماً كما أنه لو قلنا إن الله لا يمكن أن يجهل أو ينسى شيئاً، لا يكون في قولنا هذا إثباتٌ لعجز فيه تعالى أو نقص، بل يكون تأكيداً على كماله تعالى وكلية قدرته وعلمه.
" الأناجيل الأربعة ورسائل بولس ويوحنا تنفي ألوهية المسيح كما ينفيها القرآن "
للأستاذ " سعد رستم "
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/135)
معنى الإيمان بالله
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت وسمعت كثيراً عن فضائل تحقيق الإيمان بالله تعالى، وأريد منكم أن تفصلوا لي من معنى الإيمان بالله بما يساعدني على تحقيقه، وعلى البعد عما يخالف منهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومنهج أصحابه؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الإيمان بالله هو الاعتقاد الجازم بوجوده سبحانه وتعالى، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته.
الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور، فمن آمن بها فهو المؤمن حقاًّ.
الأول: الإيمان بوجود الله تعالى
ووجود الله تعالى قد دل عليه العقل والفطرة، فضلاً عن الأدلة الشرعية الكثيرة التي تدل على ذلك.
1 ـ أما دلالة الفطرة على وجوده: فإن كل مخلوق قد فطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه عنها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) رواه البخاري (1358) ومسلم (2658) .
2 ـ وأما دلالة العقل على وجود الله تعالى؛ فلأن هذه المخلوقات سابقها ولاحقها لا بد لها من خالق أوجدها، إذ لا يمكن أن توجِدَ نفسها بنفسها، ولا يمكن أن توجد صدفة.
فهي لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها لأن الشيء لا يَخلق نفسَه، لأنه قبل وجوده معدوم، فكيف يكون خالقاً؟!
ولا يمكن أن توجد صدفة، لأن كل حادث لا بد له من محدث، ولأن وجودها على هذا النظام البديع المحكم، والتناسق المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب ومسبباتها، وبين الكائنات بعضها مع بعض يمنع منعاً باتاًّ أن يكون وجودها صدفة، إذ الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده، فكيف يكون منتظماً حال بقائه؟!
وإذا لم يمكن أن تُوجِد هذه المخلوقات نفسَها بنفسها، ولا أن توجَد صدفة، تعين أن يكون لها موجِدٌ وهو الله رب العالمين.
وقد ذكر الله تعالى هذا الدليل العقلي والبرهان القطعي في سورة الطور، حيث قال: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) الطور /35.
يعني أنهم لم يخلقوا من غير خالق، ولا هم الذين خلقوا أنفسهم، فتعين أن يكون خالقهم هو الله تبارك وتعالى، ولهذا لما سمع جبير بن مطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور فبلغ هذه الآيات: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون. أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون. أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون) الطور /35-37. وكان جبير يومئذ مشركاً قال: (كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي) رواه البخاري في عدة مواضع.
ولنضرب مثلاً يوضح ذلك:
فإنه لو حدثك شخص عن قصر مشيد، أحاطت به الحدائق، وجرت بينها الأنهار، وملئ بالفُرُش والأَسِرّة، وزُيِّن بأنواع الزينة من مقوماته ومكملاته، وقال لك: إن هذا القصر وما فيه من كمال قد أوجد نفسه، أو وجد هكذا صدفة بدون موجد، لبادرت إلى إنكار ذلك وتكذيبه، وعددت حديثه سفهاً من القول، أفيجوز بعد ذلك أن يكون هذا الكون الواسع بأرضه، وسمائه، وأفلاكه، البديعُ الباهرُ، المحكَم المتقَنُ قد أوجد نفسه، أو وجد صدفة بدون موجد؟!
وقد فهم هذا الدليل العقلي أعرابي يعيش في البادية، وعَبَّر عنها بأسلوبه، فلما سُئِل: بم عرفت ربك؟ فقال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟!!
ثانياً: الإيمان بربوبيته تعالى
أي: بأنه وحده الرب لا شريك له ولا معين.
والرب: هو من له الخلق، والملك، والتدبير، فلا خالق إلا الله، ولا مالك إلا الله، ولا مدبر للأمور إلا الله، قال الله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) الأعراف /45. وقال تعالى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) يونس/31. وقال تعالى: (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) السجدة /5. وقال: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) فاطر/13.
وتأمل قول الله تعالى في سورة الفاتحة: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) الفاتحة /4. وفي قراءة متواترة (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وإذا جمعت بين القراءتين ظهر معنى بديع، فالملك أبلغ من المالك في السلطة والسيطرة، لكن الملك أحياناً يكون ملكاً بالاسم فقط لا بالتصرف، أي أنه لا يملك شيئاً من الأمر، وحينئذٍ يكون ملكاً ولكنه غير مالك، فإذا اجتمع أن الله تعالى ملكٌ ومالكٌ تم بذلك الأمر، بالملك والتدبير.
الثالث: الإيمان بألوهيته
أي: بأنه الإله الحق لا شريك له.
و (الإله) بمعنى (المألوه) أي: (المعبود) حباًّ وتعظيماً، وهذا هو معنى (لا إله إلا الله) أي: لا معبودَ حقٌّ إلا الله. قال تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) البقرة /163. وقال تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) آل عمران /18.
وكل ما اتخذ إلهاً مع الله يعبد من دونه فألوهيته باطلة، قال الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) الحج /62.
وتسميتها آلهة لا يعطيها حق الألوهية. قال الله تعالى في (اللات والعزى ومناة) : (إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) النجم/23.
وقال تعالى عن يوسف عليه السلام أنه قال لصاحبي السجن: (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ - مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) يوسف /40.
فلا يستحق أحد أن يعبد، ويفرد بالعبادة إلا الله عز وجل، لا يشاركه في هذا الحق أحدٌ، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولهذا كانت دعوة الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم هي الدعوة إلى قول (لا إله إلا الله) قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) الأنبياء /35. وقال: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) النحل/36.
ولكن أبى ذلك المشركون، واتخذوا من دون الله آلهة، يعبدونهم مع الله سبحانه وتعالى، ويستنصرون بهم ويستغيثون.
الرابع: الإيمان بأسمائه وصفاته
أي: إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على الوجه اللائق به سبحانه من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل. قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأعراف /180.
فهذه الآية دليل على إثبات الأسماء الحسنى لله تعالى. وقال تعالى: (وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الروم /27. وهذه الآية دليل على إثبات صفات الكمال لله تعالى، لأن (المثل الأعلى) أي: الوصف الأكمل. فالآيتان تثبتان الأسماء الحسنى والصفات العلى لله تعالى على سبيل العموم. وأما تفصيل ذلك في الكتاب والسنة فكثير.
وهذا الباب من أبواب العلم، أعني: أسماء الله تعالى وصفاته من أكثر الأبواب التي حصل فيها النزاع والشقاق بين أفراد الأمة، فقد اختلفت الأمة في أسماء الله تعالى وصفاته فرقاً شتى.
وموقفنا من هذا الاختلاف هو ما أمر الله به في قوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) النساء /59.
فنحن نرد هذا التنازع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مسترشدين في ذلك بفهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهذه الآيات والأحاديث، فإنهم أعلم الأمة بمراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم. ولقد صدق عبد الله بن مسعود وهو يصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من كان منكم مستنا، فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لإقامة دينه، وصحبة نبيه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) .
وكل من حاد عن طريق السلف في هذا الباب فقد أخطأ وضل واتبع غير سبيل المؤمنين واستحق الوعيد المذكور في قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) النساء /115.
والله تعالى قد اشترط للهداية أن يكون الإيمان بمثل ما آمن به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في قوله تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) البقرة /137.
فكل من بَعُدَ وحاد عن طريق السلف فقد نقص من هدايته بمقدار بعده عن طريق السلف.
وعلى هذا فالواجب في هذا الباب إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، وإجراء نصوص الكتاب والسنة على ظاهرها، والإيمان بها كما آمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، الذين هم أفضل هذه الأمة وأعلمها.
ولكن يجب أن يعلم أن هناك أربعة محاذير من وقع في واحد منها لم يحقق الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته كما يجب، ولا يصح الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته إلا بانتفاء هذه المحاذير الأربعة وهي: التحريف، والتعطيل، والتمثيل، والتكييف.
ولذلك قلنا في معنى الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته هو (إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على الوجه اللائق به من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل) .
وهذا هو بيان هذه المحاذير الأربعة باختصار:
1- التحريف:
والمراد به تغيير معنى نصوص الكتاب والسنة من المعنى الحق الذي دلت عليه، والذي هو إثبات الأسماء الحسنى والصفات العلى لله تعالى إلى معنى آخر لم يرده الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
مثال ذلك:
تحريفهم معنى صفة اليد الثابتة لله تعالى والواردة في كثير من النصوص بأن معناها النعمة أو القدرة.
2- التعطيل:
والمراد بالتعطيل نفي الأسماء الحسنى والصفات العلى أو بعضها عن الله تعالى.
فكل من نفى عن الله تعالى اسماً من أسمائه أو صفة من صفاته مما ثبت في الكتاب أو السنة فإنه لم يؤمن بأسماء الله تعالى وصفاته إيماناً صحيحاً.
3- التمثيل:
وهو تمثيل صفة الله تعالى بصفة المخلوق، فيقال مثلاً: إن يد الله مثل يد المخلوق. أو إن الله تعالى يسمع مثل سمع المخلوق. أو إن الله تعالى استوى على العرش مثل استواء الإنسان على الكرسي. . . وهكذا.
ولا شك أن تمثيل صفات الله تعالى بصفات خلقه منكر وباطل، قال الله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى /11.
4- التكييف:
وهو تحديد الكيفية والحقيقة التي عليها صفات الله تعالى، فيحاول الإنسان تقديراً بقلبه، أو قولاً بلسانه أن يحدد كيفية صفة الله تعالى.
وهذا باطل قطعاً، ولا يمكن للبشر العلم به، قال الله تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) طه /110.
فمن استكمل هذه الأمور الأربعة فقد آمن بالله تعالى إيماناً صحيحاً.
نسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان يتوفانا عليه.
والله تعالى أعلم.
انظر: رسالة شرح أصول الإيمان للشيخ ابن عثيمين.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/136)
شروط قبول الشهادتين
[السُّؤَالُ]
ـ[وسؤالي يتعلق بموضوع إحدى الخطب. فقد تكلم الإمام عن الكلمة. وقال بأن لها شروط, ذكر العلماء أنها 9 أو نحو ذلك، حتى يتمكن الإنسان من دخول الجنة. وقال إن مجرد التلفظ بالكلمات لا يكفي. وكنت أرغب في معرفة هذه الشروط. وذكر بعضها، منها: أولا, العلم بالكلمة. ثانيا, اليقين. فهل تعلم عن ذلك شيئا؟ وهل يمكنك تقديم باقي الشروط؟ وسأقدر لك مساعدتك إن شاء الله.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لعلك تعني بالكلمة كلمة التوحيد وهي الشهادتان (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، وهذا ما عناه الخطيب أيضا.
وللشهادتين عدة شروط، وهي:
الأول: العلم
وهو العلم بمعناها المراد منها نفيا وإثباتا المنافي للجهل بذلك، قال الله عز وجل: " فاعلم أنه لا إله إلا الله " (محمد: 19) وقال تعالى: " إلا من شهد بالحق " (الزخرف: 86) أي بلا إله إلا الله " وهم يعلمون " بقلوبهم معنى ما نطقوا به بألسنتهم. وفي الصحيح عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة ".
الثاني: اليقين
وهو اليقين المنافي للشك بأن يكون قائلها مستيقنا بمدلول هذه الكلمة يقينا جازما، فإن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن، فكيف إذا دخله الشك، قال الله عز وجل: " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون " (الحجرات: 15) ، فاشترط في صدق إيمانهم بالله ورسوله كونهم لم يرتابوا، أي لم يشكوا، فأما المرتاب فهو من المنافقين - والعياذ بالله -.
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عنه الجنة ".
الثالث: القبول
وهو القبول بما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه، قال تعالى في شأن من قبلها: " إلا عباد الله المخلصين، أولئك لهم رزق معلوم، فواكه وهم مكرمون، في جنات النعيم " (الصافات: 40 - 43) إلى آخر الآيات، وقال تعالى: " من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون " (النمل: 89) وفي الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به "
الرابع: الانقياد
وهو الإنقياد لما دلت عليه، المنافي لترك ذلك، قال الله عز وجل: " وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له " (الزمر: 54) ، وقال تعالى: " ومن أحسن دينا ممن أسلم وجه لله وهو محسن " (النساء: 125) ، وقال تعالى: " ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى " (لقمان: 22) أي بلا إله إلا الله " وإلى الله عاقبة الأمور " ومعنى يسلم وجهه أي ينقاد، وهو محسن: موحد.
الخامس: الصدق
وهو الصدق فيها المنافي للكذب، وهو أن يقولها صدقا من قلبه يواطئ قلبه لسانه، قال الله عز وجل: " الم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " (العنكبوت: 1-3) إلى آخر الآيات، وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار ".
السادس: الإخلاص
وهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك، قال الله تبارك وتعالى: " ألا لله الدين الخالص " (الزمر: 3) ، وقال تعالى: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء " (البينة: 5) الآية، وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه ".
السابع: المحبة
وهي المحبة لهذه الكلمة وما اقتضته ودلت عليه، ولأهلها العاملين بها، الملتزمين لشروطها، وبغض ما ناقض ذلك، قال الله عز وجل: " ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله " (البقرة: 165) ، وعلامة حب العبد ربه تقديم محابه وإن خالفت هواه، وبغض ما يبغض ربه وإن مال إليه هواه، وموالاة من والى الله ورسوله ومعاداة من عاداه، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثره وقبول هداه. وكل هه العلامات شروط في المحبة لا يتصور وجود المحبة مع عدم شرط منها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار " (أخرجاه من حديث أنس بن مالك) .
وزاد بعضهم شرطا ثامنا وهو الكفر بما يعبد من دون الله (الكفر بالطاغوت) ، قال صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز جل " رواه مسلم. فلا بد لعصمة الدم والمال مع قوله (لا إله إلا الله) من الكفر بما يعبد من دون الله كائنا من كان.
[الْمَصْدَرُ]
مختصر معارج القبول لمحمد بن سعيد القحطاني ص 119 - 122.(1/137)
ما معنى لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الحديث لا تسبوا الوقت فإن الله هو الوقت يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وإذا كان صحيحا, فكيف تفسره؟ فقد أشكل علي هذا الموضوع.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الحديث ليس بهذا اللفظ " لا تسبوا الوقت فإن الله هو الوقت "، وإنما هو بلفظ " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " (وقد يكون اللفظ المذكور جاء بسبب طريقة ترجمة السؤال) ، وقد رواه مسلم عن أبي هريرة (5827) ، وفي لفظ آخر: " لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر "، وفي لفظ آخر: " لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر "، وفي لفظ: " قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن يا خيبة الدهر فأنا الدهر أقلب الليل والنهار فإذا شئت قبضتهما ".
وأما معنى الحديث فقد قال النووي:
قالوا: هو مجاز وسببه أن العرب كان شأنها أن تسب الدهر عند النوازل والحوادث والمصائب النازلة بها من موت أو هرم أو تلف مال أو غير ذلك فيقولون " يا خيبة الدهر " ونحو هذا من ألفاظ سب الدهر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " أي: لا تسبوا فاعل النوازل فإنكم إذا سببتم فاعلها وقع السب على الله تعالى لأنه هو فاعلها ومنزلها، وأما الدهر الذي هو الزمان فلا فعل له بل هو مخلوق من جملة خلق الله تعالى.
ومعنى " فإن الله هو الدهر " أي: فاعل النوازل والحوادث وخالق الكائنات والله أعلم.
" شرح مسلم " (15 / 3) .
وينبغي أن يعلم أنه ليس من أسماء الله اسم " الدهر " وإنما نسبته إلى الله تعالى نسبة خلق وتدبير، أي: أنه خالق الدهر، بدليل وجود بعض الألفاظ في نفس الحديث تدل على هذا مثل قوله تعالى: " بيدي الأمر أقلِّب ليلَه ونهارَه " فلا يمكن أن يكون في هذا الحديث المقلِّب - بكسر اللام - والمقلَّب - بفتح اللام - واحداً، وإنما يوجد مقلِّب - بكسر اللام - وهو الله، ومقلَّب - بفتح اللام - وهو الدهر، الذي يتصرف الله فيه كيف شاء ومتى شاء.
انظر " فتاوى العقيدة " للشيخ ابن عثيمين (1 / 163) .
قال الحافظ ابن كثير - عند قول الله تعالى: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} [الجاثية / 24]-:
قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا: " يا خيبة الدهر " فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه وإنما فاعلها هو الله تعالى فكأنهم إنما سبوا الله عز وجل لأنه فاعل ذلك في الحقيقة فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار لأن الله تعالى هو الدهر الذي يصونه ويسندون إليه تلك الأفعال.
وهذا أحسن ما قيل في تفسيره، وهو المراد. والله أعلم
" تفسير ابن كثير " (4 / 152) .
وسئل الشيخ ابن عثيمين حفظه الله عن حكم سب الدهر:
فأجاب قائلا:
سب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام.
القسم الأول: أن يقصد الخبر المحض دون اللوم: فهذا جائز مثل أن يقول " تعبنا من شدة حر هذا اليوم أو برده " وما أشبه ذلك لأن الأعمال بالنيات واللفظ صالح لمجرد الخبر.
القسم الثاني: أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل كأن يقصد بسبه الدهر أن الدهر هو الذي يقلِّب الأمور إلى الخير أو الشر: فهذا شرك أكبر لأنه اعتقد أن مع الله خالقا حيث نسب الحوادث إلى غير الله.
القسم الثالث: أن يسب الدهر ويعتقد أن الفاعل هو الله ولكن يسبه لأجل هذه الأمور المكروهة: فهذا محرم لأنه مناف للصبر الواجب وليس بكفر؛ لأنه ما سب الله مباشرة، ولو سب الله مباشرة لكان كافراً.
" فتاوى العقيدة " (1 / 197) .
ومن منكرات الألفاظ عند بعض الناس أنه يلعن الساعة أو اليوم الذي حدث فيه الشيء الفلاني (مما يكرهه) ونحو ذلك من ألفاظ السّباب فهو يأثم على اللعن والكلام القبيح وثانيا يأثم على لعن ما لا يستحقّ اللعن فما ذنب اليوم والسّاعة؟ إنْ هي إلا ظروف تقع فيها الحوادث وهي مخلوقة ليس لها تدبير ولا ذنب، وكذلك فإنّ سبّ الزمن يعود على خالق الزّمن، فينبغي على المسلم أن ينزّه لسانه عن هذا الفحش والمنكر. والله المستعان.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/138)
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام
[السُّؤَالُ]
ـ[جاء في سورة النجم أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم قد رأى سيدنا جبريل مرتين، فما هي المرتان؟ وهل كانت المرة الأولى في الأفق الأعلى في أول نزول الوحي، والثانية في سدرة المنتهى؟ وإذا كان وقعت رؤية الروح الأمين مرتين، فكيف نفسر سورة المدثر، بأنه رأى الروح الأمين جالسا على كرسي بين السماء والأرض؟ لعلها لم تكن هذه الهيئة هي هيئة سيدنا جبريل الحقيقية! والصورة التي تصورها الآيات من 5 إلى 12 في سورة النجم تصور سيدنا جبريل بأنه جالس ويملأ الأفق، ثم يقترب من الرسول صلى الله عليه وسلم. فهل فهمي للآية هكذا صحيح؟ أم أن المرة الأولى حين نزل الوحي كانت قبل بلوغ الأفق الأعلى. أنا طالب لعلم التفسير، وأريد ردا على هذا السؤال.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الذي تقرره الأدلة الصريحة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على صورته التي خلقه الله عليها مرتين اثنتين فقط، وقد عد السيوطي رحمه الله هذا الأمر من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم كما في " الخصائص الكبرى " (1/197) ، وهاتان الرؤيتان هما:
الرؤية الأولى: كانت في الأرض في بداية الوحي، ونزلت عليه بعدها سورة المدثر.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ – أي انقطاع - الْوَحْيِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: (فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَئِثْتُ مِنْهُ رُعْبًا فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ – إلى – والرجز فَاهْجُر) رواه البخاري (4641) ومسلم (161) .
وهذه الرؤية هي التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ) التكوير/23.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
"يعني: ولقد رأى محمدٌ جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن الله عز وجل على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح، (بِالأفُقِ الْمُبِينِ) أي: البين، وهي الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء (موضع بمكة) ، وهي المذكورة في قوله: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إَلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) النجم/5 –10، كما تقدم تفسيرُ ذلك وتقريره، والدليلُ أن المرادَ بذلك جبريل عليه السلام.
والظاهر- والله أعلم - أن هذه السورة – يعني سورة التكوير - نزلت قبل ليلة الإسراء؛ لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤية، وهي الأولى.
وأما الثانية وهي المذكورة في قوله: (وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) النجم: 13 -16، فتلك إنما ذكرت في سورة " النجم "، وقد نزلت بعد سورة الإسراء " انتهى.
" تفسير القرآن العظيم " (8/339) .
والرؤية الثانية: كانت في السماء، ليلة الإسراء والمعراج عند سدرة المنتهى.
وقد نصت الآية في سورة النجم على الرؤية الثانية، وأشارت إلى الرؤية الأولى، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى) النجم/13-14.
قال ابن مسعود رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: رأى جبريل له ستمائة جناح.
رواه البخاري (3232) ومسلم (174) .
قال النووي رحمه الله:
"وهكذا قاله أيضا أكثر العلماء، قال الواحدي: قال أكثر العلماء: المراد رأى جبريل في صورته التي خلقه الله تعالى عليها" انتهى.
"شرح النووي على مسلم" (3/7) .
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
"هذه الرؤية – يعني الأولى - لجبريل ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الأرض، فهبط عليه جبريل عليه السلام وتدلى إليه، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح.
ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، يعني ليلة الإسراء" انتهى.
"تفسير القرآن العظيم" (7/445) .
ولم يثبت وقوع رؤية ثالثة حقيقية لجبريل عليه السلام، وقد قالت عائشة رضي الله عنها:
(وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ) رواه البخاري (4855) ، وهو عند الإمام مسلم (177) من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/139)
كيف عرفت الملائكة أن البشر سيفسدون في الأرض؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل خلق الله البشر أولا أم الملائكة؟ وإذا كان الملائكة، فكيف عرفوا أن البشر سيفسدون في الأرض كما في سورة البقره آيه 30؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
لا شك أن خلق الملائكة كان سابقا على خلق آدم عليه السلام، فقد أخبرنا الله تعالى في أكثر من موضع من كتابه العزيز أنه أعلم الملائكة بأنه سيخلق بشرا من طين، ثم أمرهم بالسجود له حين يتم خلقه، وذلك دليل ظاهر على أن الملائكة كانوا موجودين قبل خلق البشر.
يقول الله تعالى: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) ص/71-72
ثانيا:
وقد أخبر سبحانه وتعالى في سورة البقرة عن حواره مع الملائكة قبل خلق آدم، وذلك دليل ظاهر أيضا على وجودهم قبل آدم عليه السلام.
قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) البقرة/30
ولكن كيف عرفت الملائكة أن الخليفة الجديد في الأرض سيفسد فيها ويسفك الدماء؟
اختلف في ذلك أهل العلم على أقوال:
القول الأول: أنهم علموا ذلك بإعلام الله تعالى لهم، وإن كان ذلك لم يذكر في السياق.
قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وابن قتيبة.
كما في "زاد المسير" لابن الجوزي (1/60)
وهو قول أكثر المفسرين كما قاله ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (7/382)
يقول ابن القيم رحمه الله: " وفي هذا دلالة على أن الله قد كان أعلمهم أن بني آدم سيفسدون في الأرض، وإلا فكيف كانوا يقولون ما لا يعلمون، والله تعالى يقول وقوله الحق (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون) ، والملائكة لا تقول ولا تعمل إلا بما تؤمر به لا غير، قال الله تعالى (ويفعلون ما يؤمرون) " انتهى. "مفتاح دار السعادة" (1/12) .
القول الثاني: أنهم قاسوه على أحوال من سلف قبل آدم على الأرض، وهم الجن، فقد سبقوا الإنسان في الأرض وكانوا يفسدون فيها ويسفكون الدماء، فعلمت الملائكة أن البشر سيكونون على حال من سبقهم.
روي نحو هذا عن ابن عباس وأبي العالية ومقاتل. انظر "زاد المسير" (1/61)
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " قول الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) يرجِّحُ أنهم خليفة لمن سبقهم، وأنه كان على الأرض مخلوقات قبل ذلك تسفك الدماء وتفسد فيها، فسألت الملائكة ربها عزّ وجلّ: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) كما فعل من قبلهم " انتهى. "تفسير القرآن الكريم" (1/آية 30) .
القول الثالث: أنهم فهموا ذلك من الطبيعة البشرية.
وهو الذي يبدو من اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "منهاج السنة" (6/149)
يقول العلامة الطاهر ابن عاشور: " وإنما ظنوا هذا الظن بهذا المخلوق من جهة ما استشعروه من صفات هذا المخلوق المستخلف، بإدراكهم النوراني لهيئة تكوينه الجسدية والعقلية والنطقية، إما بوصف الله لهم هذا الخليفة، أو برؤيتهم صورة تركيبه قبل نفخ الروح فيه وبعده، والأظهر أنهم رأوه بعد نفخ الروح فيه، فعلموا أنه تركيب يستطيع صاحبه أن يخرج عن الجبلة إلى الاكتساب، وعن الامتثال الى العصيان ... ، ومجرد مشاهدة الملائكة لهذا المخلوق العجيب المراد جعله خليفة في الأرض كاف في إحاطتهم بما يشتمل عليه من عجائب الصفات.. "
قال: " وفي هذا ما يغنيك عما تكلف له بعض المفسرين من وجه اطلاع الملائكة على صفات الإنسان قبل بدوها منه.. " انتهى مختصرا من "التحرير والتنوير" (1/230) .
القول الرابع: أنهم فهموا من قوله تعالى (خليفة) أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم، ويردعهم عن المحارم والمآثم، قاله القرطبي "الجامع لأحكام القرآن" (1/302) .
والمعنى: أنه إذا كان هناك خليفة يحكم بين الناس في المظالم، فإنه يلزم من ذلك أن هؤلاء الناس تقع منهم المظالم.
وأنت ترى أخي السائل أنها أقوال مختلفة ليس على أي منها نصوص صريحة من الكتاب والسنة، إنما هي استنباطات لأهل العلم، قد تصيب وقد تخطئ، وإنما أراد الله تعالى أن نتعلم ما في هذه القصة من العبرة والعظة، وما كرم الله تعالى به الإنسان حين خلق آدم فأسجد له الملائكة، وما سوى ذلك من تفاصيل القصة، لا يضر الجهل بها، لذلك لم يأت الكتاب ببيانها، والله تعالى أعلم بالصواب.
تنبيه: ليس في هذا السؤال من الملائكة المكرمين لرب العزة سبحانه، عن خلق آدم وذريته اعتراض على الحكمة، أو معارضة لله سبحانه، فإنهم منزهون عن ذلك. قال ابن كثير رحمه الله: وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم، كما قد يتوهمه بعض المفسرين , وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول، أي: لا يسألونه شيئاً لم يأذن لهم فيه ,.. وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك؛ يقولون: يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء، مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟!! فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي نصلي لك ... ولا يصدر منا شيء من ذلك, وهلا وقع الاقتصار علينا؟
قال الله تعالى مجيباً لهم عن هذا السؤال: {إني أعلم مالا تعلمون} أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف، على المفاسد التي ذكرتموها، مالا تعلمون أنتم؛ فإني جاعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء والعاملون والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم..) تفسير ابن كثير (1/69) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/140)
يسأل عن مصير الملكين الموكلين بكتابة أعمال الإنسان بعد وفاته!
[السُّؤَالُ]
ـ[أفتونا عن الملائكة الموكلين بالإنسان لإحصاء أعماله في مدة الحياة عندما يموت الإنسان، هل يموت الملكان الموكلان به أو أين يكون مصيرهما بعد وفاة الإنسان؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
" أحوال الملائكة وشؤونهم من الغيبيات، ولا تعرف إلا من قبل السمع [الكتاب والسنة] ، ولم يرد نص في موت كتبة الحسنات والسيئات عند موت من تولوا كتابة حسناته وسيئاته، ولا نص ببقاء حياتهم ولا عن مصيرهم، وذلك إلى الله، وليس ما سئل عنه مما كلفنا اعتقاده، ولا يتعلق به عمل، فالسؤال عن ذلك دخول فيما لا يعني؛ لذا ننصح السائل أن لا يدخل فيما لا يعنيه، ويبذل جهده في السؤال عما يعود عليه وعلى المسلمين بالنفع في دينهم ودنياهم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم " انتهى.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن منيع
"فتاوى اللجنة الدائمة" (2/402) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/141)
هل ثبت شيء في " الملائكة الكروبيون "؟
[السُّؤَالُ]
ـ[من هم الملائكة الكروبيون؟ حيث إن الشيخ الألباني رحمه الله أنكر هذا الاسم في فتاوى " جدة " الشريط رقم 17 (01:03:42) ]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
الإيمان بالملائكة من أركان ديننا الحنيف، قال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) البقرة/ 285، وقد ذكرنا كثيراً من المسائل المتعلقة بالملائكة، من حيث خلقهم، وصفاتهم، ووظائفهم، وذلك في جوابي السؤالين: (14610) و (843) .
ثانياً:
ما يُطلق عليه " الملائكة الكَروبيُّون " ليس له أصل في الأحاديث النبوية الصحيحة ـ فيما نعلم ـ، وغاية ما جاء ذِكرهم فيه: أحاديث ضعيفة جدّاً، وموضوعة، وآثار عن السلف، وطائفة من المفسرين، وقد ذكر بعض العلماء أن الكروبيين هم:
من يكونون حول عرش الرحمن، أو هم حملة العرش أنفسهم.
وقال آخرون: هم سادة الملائكة وعظماؤهم.
وقال فريق ثالث: هم ملائكة العذاب.
ومثل هذا الأمر هو من الغيب الذي لا يجوز إثباته إلا بوحي من الله، ولم يثبت في ذلك شيء.
أ. ما ورد فيهم من أحاديث غير صحيحة:
1. عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة وهم الكروبيون من شحمة أذن أحدهم إلى ترقوته مسيرة خمسمائة عام للطائر السريع في انحطاط) .
والحديث حكم عليه الشيخ الألباني بأنه ضعيف جدّاً، وقال:
رواه ابن عساكر (12 / 231 / 2) عن محمد بن أبي السري: أخبرنا عمرو بن أبي سلمة عن صدقة بن عبد الله القرشي عن موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله مرفوعا وقال: " روى إبراهيم بن طهمان عن
موسى بن عقبة شيئا من هذا ". قلت: وهذا سند واهٍ جدّاً، وله علتان:
الأولى: محمد بن أبي السري، وهو متهم.
والأخرى: صدقة هذا وهو الدمشقي السمين وهو ضعيف، ووقع في السند " القرشي، ولم ترد هذه النسبة في ترجمته من " التهذيب "، فلعله تحرف على الناسخ نسبته " الدمشقي " بالقرشي، والله أعلم.
وقد خالفه إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة به بلفظ: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة) . وهو بهذا اللفظ صحيح كما قد بينته في " الأحاديث الصحيحة " رقم (151) .
" سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة " (2 / 323، حديث 923) .
2. وذكر ابن الجوزي في " بستان الواعظين ورياض السامعين " (ص 20) حديثاً طويلاً، وفيه موت الملائكة، ومنه:
(وتموت ملائكة السبع سموات، والحجب، والسرادقات، والصادقون، والمسبحون، وحملة العرش، والكرسي، وأهل سرادقات المجد، والكروبيون، ويبقى جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت عليه السلام ... .) انتهى.
والحديث ليس له إسناد، والكتاب مظنة الضعيف، والموضوع.
ب. ما جاء ذِكرهم فيه من كلام السلف ومن بعدهم:
1. قال الخطابي - رحمه الله -:
الملائكة الكَرُوبيّون، وهم: المُقَرّبون، وقال بعضهم: إنما سُمُّوا: " كَرُوبيين " لأنهم يُدْخِلون الكَرْب على الكفار، وليس هذا بشيء.
" غريب الحديث " (1 / 440) .
2. وقال ابن الأثير - رحمه الله -:
في حديث أبي العالية: (الكروبيون سادة الملائكة) هم المقربون، ويقال لكل حيوانٍ وَثِيْقِ المفاصل: إنه لمُكْرَب الخَلْق، إذا كان شديد القُوَى.
والأول أشبه.
" النهاية في غريب الحديث والأثر " (4 / 161) .
والخلاصة:
لم يصح شيء من الأحاديث المرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يسمى " الملائكة الكروبيون "، والواجب الوقوف في مسائل الغيب عند إثبات الوحي لها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/142)
الحكمة من إيجاد الكرام الكاتبين مع أن الله يعلم كل شيء
[السُّؤَالُ]
ـ[ما الحكمة من إيجاد الكرام الكاتبين مع أن الله يعلم كل شيء؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
" نقول في مثل هذه الأمور: إننا قد ندرك حكمتها، وقد لا ندرك، فإن كثيراً من الأشياء لا نعلم حكمتها، كما قال الله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) الإسراء/85.
فإن هذه المخلوقات لو سألنا سائل: ما الحكمة أن الله جعل الإبل على هذا الوجه، وجعل الخيل على هذا الوجه، وجعل الحمير على هذا الوجه، وجعل الآدمي على هذا الوجه؟ وما أشبه ذلك، لو سألنا عن الحكمة في هذه الأمور ما علمناها، ولو سُئلنا: ما الحكمة في أن الله عز وجل جعل صلاة الظهر أربعاً، وصلاة العصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، وصلاة العشاء أربعاً؟ وما أشبه ذلك ما استطعنا أن نعلم الحكمة في ذلك.
وبهذا علمنا أن كثيراً من الأمور الكونية، وكثيراً من الأمور الشرعية تخفى علينا حكمتها، وإذا كان كذلك فإنا نقول: إن التماسنا للحكمة في بعض الأشياء المخلوقة أو المشروعة، إنْ مَنَّ اللهُ علينا بالوصول إليها فذاك زيادة فضل وخير وعلم، وإن لم نصل إليها، فإن ذلك لا ينقصنا شيئاً.
ثم نعود إلى جواب السؤال، وهو ما الحكمة في أن الله عز وجل وَكَّل بنا كراماً كاتبين يعلمون ما نفعل؟
فالحكمة من ذلك: بيان أن الله سبحانه وتعالى نَظَّم الأشياء وقَدَّرها، وأحكمها إحكاماً متقناً، حتى إنه سبحانه وتعالى جعل على أفعال بني آدم وأقوالهم كراماً كاتبين، موكلين بهم، يكتبون ما يفعلون، مع أنه سبحانه وتعالى عالم بما يفعلون قبل أن يفعلوه، ولكن كل هذا من أجل بيان كمال عناية الله عز وجل بالإنسان، وكمال حفظه تبارك وتعالى، وأن هذا الكون منظم أحسن نظام، ومحكم أحسن إحكام، والله عليم حكيم.
والله أعلم " انتهى.
"مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين" (1/121) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/143)
الاستهزاء بملك الموت
[السُّؤَالُ]
ـ[توفي قريب لأحد معارفي منذ فترة، وبعدها بفترة وجيزة توفي له قريب آخر، فبعدها بفترة طويلة عندما كنا نتحدث عنهما قلت له وبلا قصد: يبدو أن هناك ثأرا ما بين عائلتكم وبين ملك الموت، على سبيل المزاح، فهل يعتبر هذا كفرا بالله؛ لأني قلت هذا على أحد ملائكة الله، أم ماذا، وماذا أفعل؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الواجب على المسلم أن يحفظ لسانه، فلا يتكلم بما يغضب الله تعالى، ورُبَّ كلمة يتكلم بها الإنسان، وهو لا يظن أن لها شأناً، تكون سبب هلاكه وعذابه، والعياذ بالله.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ) رواه البخاري (6477) ومسلم (2988) .
وفي رواية الترمذي (2314) : (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ لاَ يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
وعن بلال المزني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ) رواه الترمذي (2319) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
والإيمان بالملائكة وإجلالهم وتقديرهم من أركان الإيمان الستة، وملك الموت لا يتصرف إلا بما يأمره الله به، كما قال عز وجل: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) الأنعام/61.
فهم موكلون من الله عز وجل بتقدير حكيم، وليس ذلك عن ثأر ولا عن بغض أو انتقام – تعالى الله عن ذلك -: قال الله سبحانه وتعالى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) السجدة/11.
وقد ذكر أهل العلم أن الاستهزاء بالملائكة أو بأحد منهم كفر، وخروج عن الإسلام واستدلوا بقول الله عز وجل: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ. لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) التوبة/65-66.
قال ابن حزم رحمه الله:
" وصح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، أو بملك من الملائكة، أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من فرائض الدين، فهي كلها آيات الله تعالى، بعد بلوغ الحجة إليه، فهو كافر " انتهى.
"الفصل في الملل والأهواء والنحل" (3/142) .
وقال أيضا:
" كل من سب الله تعالى أو استهزأ به، أو سب ملكا من الملائكة أو استهزأ به، أو سب نبيا من الأنبياء أو استهزأ به، أو سب آية من آيات الله تعالى أو استهزأ بها، والشرائع كلها والقرآن من آيات الله تعالى، فهو بذلك كافر، مرتد، له حكم المرتد " انتهى.
"المحلى" (11/413) .
وقال ابن نجيم الحنفي رحمه الله:
" يكفر بعيبه ملكا من الملائكة أو الاستخفاف به " انتهى.
"البحر الرائق" (5/131) .
بل ذكر بعض العلماء أنه يكفر مَن تكلم بما فيه مجرد إشعار بالاستهزاء والسخرية.
قال ابن نجيم الحنفي:
"ويكفر بقوله لغيره: " رؤيتي إياك كرؤية ملك الموت " عند البعض، خلافاً للأكثر " انتهى.
والكلمة التي تكلمت بها فيها شيء من الاستهزاء بملك الموت، فعليك التوبة منها والاستغفار، وسؤال الله تعالى العفو والعافية، والعزم على عدم العودة لذلك مرة أخرى، وتجديد إيمانك بالنطق بالشهادتين، وأكثر من الأعمال الصالحة – الصدقة وغيرها – فإن الله تعالى يقبل توبة من تاب إليه.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/144)
هل إبليس من الجن أو من الملائكة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل إبليس ملك أم جني؟ فإن كان ملكاً فكيف عصى الله والملائكة لا يعصون الله؟ وإن كان جنياً فإن هذا يوضح أن له اختيار الطاعة أو المعصية. أرجو الإجابة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إبليس - لعنه الله - من الجن، ولم يكن يوماً ملكاً من الملائكة، ولا حتى طرفة عين؛ فإن الملائكة خلق كرام لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وقد جاء ذلك في النصوص القرآنية الصريحة التي تدل على أن إبليس من الجن وليس من الملائكة، ومنها:
1- قال الله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) الكهف / 50.
2- وقد بيّن الله تعالى أنه خَلَقَ الجن من النار، قال تعالى: (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ) الحجر/27، وقال: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) الرحمن/15. وجاء في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خُلِقَت الملائكة من نور، وّخُلِقَ الجَّان من مارجٍ من نار، وخُلِقَ آدم مما وُصِفَ لكم " رواه مسلم في صحيحه برقم 2996، ورواه أحمد برقم 24668، والبيهقي في السنن الكبرى برقم 18207، وابن حبان برقم 6155.
فمن صفات الملائكة أنها خُلِقت من نور، والجن خُلِق من نار، وقد جاء في الآيات أن إبليس - لعنه الله - خُلِقَ من النار، جاء ذلك على لسان إبليس لما سأله الله سبحانه وتعالى عن سبب رفضه السجود لآدم لمّا أمره الله بذلك، فقال - لعنه الله -: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) الأعراف/12، ص/76، فيدل هذا على أنه كان من الجن.
3- وقد وَصَفَ الله عز وجل الملائكة في كتابه الكريم، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) التحريم /6. وقال سبحانه: (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمون * لا يَسْبِقُوْنَهُ بالقَولِ وهُم بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ) الأنبياء / 26 -27. وقال: (وَلِلّهِ يَسجُدُ مَا فِي السَمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ والمَلاَئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُوْنَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُوْنَ مَا يُؤْمَرُوْنَ) النحل / 49 -50. فلا يمكن أن يعصي الملائكة ربهم لأنهم معصومون من الخطأ ومجبولون على الطاعة.
4- وكون إبليس ليس من الملائكة فإنه ليس مجبراً على الطاعة، وله الاختيار، كما لنا نحن البشر، قال تعالى: (إناّ هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) ، وأيضاً فإن هناك المسلمين والكافرين من الجن؛ جاء في الآيات من سورة الجن: (قل أوحي إلي أنه استمع نفرٌ من الجنّ فقالوا إنّا سمعنا قرآناً عجباً * يهدِي إلى الرُّشد فآمنّا به ولن نُشرِك برنا أحداً) الجن / 1-2. وجاء في نفس السورة على لسان الجن: (وأنّا لمّا سمعنا الهدى آمنّا به فمن يُؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رَهَقاً * وأنّا منّا المسلمون ومنّا القاسطون..) الآيات.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: (قال الحسن البصري: " ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم عليه السلام أصل البشر " رواه الطبري بإسناد صحيح) ج3/ 89.
وقد قال بعض العلماء إن إبليس ملَكٌ من الملائكة، وأنه طاووس الملائكة، وأنه كان من أكثر الملائكة اجتهاداً في العبادة.. إلى غير ذلك من الروايات التي معظمها من الإسرائيليات، ومنها ما يُخالِف النصوص الصريحة في القرآن الكريم..
وقد قال ابن كثير مبيّناً ذلك: " وقد روي في هذا آثار كثيرة عن السلف، وغالبها من الإسرائيليات - التي تُنْقَلُ لِيُنْظَرَ فيها - والله أعلم بحال كثير منها، ومنها ما قد يُقْطَعُ بكذِبِهِ لمُخَالَفَتِهِ للحقّ الذي بأيدينا، وفي القرآن أخبار غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وضع فيها أشياء كثيرة، وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذي ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء والسادة والأتقياء والبررة والنجباء من الجهابذة النقاد والحفاظ الجياد الذين دَوّنوا الحديث وحرروه وبينوا صحيحه من حسنه من ضعيفه من منكره وموضوعه ومتروكه ومكذوبه وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين وغير ذلك من أصناف الرجال كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي خاتم الرسل وسيد البشر صلى الله عليه وسلم أن ينسب إليه كذب أو يحدث عنه بما ليس منه فرضي الله عنهم وأرضاهم وجعل جنات الفردوس مأواهم " تفسير القرآن العظيم ج 3/90. والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/145)
الملائكة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل لك أن تعطيني بعض المعلومات عن الملائكة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
خلق الله الملائكة من نور قال عليه الصلاة والسلام: (خُلقت الملائكة من نور , وخلق الجان من مارج من نار , وخُلق آدم مما وصف لكم) رواه مسلم/2996.
والملائكة مجبولون على طاعة الله: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) التحريم/6.
وهم خلق لا يأكلون ولا يشربون وإنما طعامهم التسبيح والتهليل كما أخبر الله عنهم: (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) الأنبياء/20.
وقد شهد الملائكة بوحدانية الله كما قال سبحانه: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) آل عمران/18.
وفي مقام التشريف اصطفى الله من الملائكة رسلاً كما اصطفى من الناس رسلاً: (الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس) الحج/75.
ولما خلق الله آدم وأراد تشريفه أمر الملائكة بالسجود له: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) البقرة/34.
والملائكة خلق عظيم ولهم أعمال متعددة وهم طوائف كثيرة لا يعلمهم إلا الله فمنهم حملة العرش: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا) غافر/7.
ومنهم من ينزل بالوحي على الرسل وهو جبريل عليه السلام الذي نزل بالقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم: (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين) الشعراء/193.
ومنهم ميكائيل الموكل بالقطر والنبات وإسرافيل الموكل بالنفخ بالصور عند قيام الساعة.
ومنهم الحفظة الموكلون بحفظ بني آدم وأعمالهم: (وإن عليكم لحافظين، كراماً كاتبين، يعلمون ما تفعلون) الانفطار/10-12.
ومنهم الموكلون بكتابة الأعمال كلها خيراً كانت أو شراً: (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) ق/17-18.
ومنهم الموكلون بقبض أرواح المؤمنين: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) النحل/32.
ومنهم الموكلون بقبض أرواح الكافرين: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق) الأنفال/50.
ومنهم خزنة الجنة وخدم أهل الجنة: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) الرعد/23.
ومنهم خزنة جهنم: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد) التحريم/6.
ومنهم المجاهدون مع المؤمنين: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان) الأنفال/12.
وفي ليلة القدر من شهر رمضان تنزل الملائكة ليشهدوا الخير مع المسلمين كما قال سبحانه: (ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) القدر/3-4.
والملائكة لا تدخل بيتاً فيه تمثال أو صورة أو كلب قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة) رواه مسلم/2106.
والإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان ومن جحدهم فقد كفر: (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً) النساء/136.
[الْمَصْدَرُ]
من كتاب أصول الدين الإسلامي للشيخ محمد بن ابراهيم التويجري.(1/146)
عدد الملائكة مع كل شخص
[السُّؤَالُ]
ـ[ما عدد الملائكة الذين يكونون مع المسلم وما وظيفتهم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الملائكة الكرام يصحبون بني آدم من يوم تكوينهم في بطون أمهاتهم حتى نزع أرواحهم من أجسادهم يوم موتهم، وهم أيضاً يصحبونهم في قبورهم وفي الآخرة.
ـ أما صحبتهم له في الدنيا فتكون كما يلي:
أولا: يقومون عليه عند خلقه.
عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وكَّل الله بالرحم ملَكاً، فيقول: أي رب نطفة؟ أي رب علقة؟ أي رب مضغة؟ فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: أي رب ذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه.
رواه البخاري (6595) ومسلم (2646) واللفظ للبخاري.
ثانيا: حراستهم لابن آدم.
قال تعالى: {سوآءٌ منكم مَن أسرَّ القول ومَن جهر به ومَن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار. له معقِّبات مِن بين يديه ومِن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد/10-11] .
وقد بين ترجمان القرآن ابن عباس أن المعقبات مِن الله هم الملائكة جعلهم الله ليحفظوا الإنسان من أمامه ومن ورائه، فإذا جاء قدر الله - الذي قدّر عليه أن يقع به من حادث ومصاب ونحوه - تخلوا عنه.
وقال مجاهد: ما من عبد إلا له ملَك موكل بحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه إلا قال له الملك: وراءك، إلا شيء أذن الله فيه فيصيبه.
وقال رجل لعلي بن أبي طالب: إن نفرا من مراد يريدون قتلك، فقال - أي: علي -: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يُقدَّر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه، إن الأجل جُنَّة حصينة.
والمعقبات المذكورة في آية الرعد هي المرادة بالآية الأخرى: {وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} .
فالحفظة الذي يرسلهم الله يحفظون العبد حتى يأتي أجله المقدر له.
ثالثا: الملائكة الذين يكتبون الحسنات والسيئات.
ما من أحد من الناس إلا وله ملكان يكتبان أعماله من الخير والشر من صغير أو كبير، قال تعالى: {وإن عليكم لحافظين، كراماً كاتبين، يعلمون ما تفعلون} [الانفطار/10 -12] .
وقال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق/16-18]
ويكتب صاحب اليمين الحسنات وصاحب الشمال يكتب السيئات.
عن أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتبت واحدة.
رواه الطبراني في " المعجم الكبير " (8 / 158) .
والحديث: صححه الشيخ الألباني في " صحيح الجامع " (2 / 212) .
وإذا علمنا هذا تبين أن عدد الذين يصحبون ابن آدم بعد ولادته: أربعة ملائكة.
قال ابن كثير رحمه الله:
وقوله: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} أي: للعبد ملائكة يتعاقبون عليه حرس بالليل وحرس بالنهار، يحفظونه من الأسواء والحادثات، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر ملائكة بالليل وملائكة بالنهار.
فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال صاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب السيئات.
وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحد من ورائه وآخر من قدامه.
فهو بين أربعة أملاك بالنهار وأربعة آخرين بالليل. " تفسير ابن كثير " (2 / 504) .
والله أعلم
وللمزيد يراجع السؤال رقم 843.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/147)
حكم وصف الممرضات بملائكة الرحمة
[السُّؤَالُ]
ـ[نقرأ ونسمع كثيراً من عامة الناس وكتابهم وشعرائهم من يصف في كتابه أو شعره الممرضات بأنهن ملائكة الرحمة؟ هل يجوز ذلك؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الوصف لا يجوز إطلاقه على الممرضات، لأن الملائكة ذكور وليسوا إناثاً، وقد أنكر الله سبحانه على المشركين وصفهم الملائكة بالأنوثية، ولأن ملائكة الرحمة لهم وصف خاص لا ينطبق على الممرضات ولأن الممرضات فيهن الطيب والخبيث , فلا يجوز إطلاق هذا الوصف عليهن. والله الموفق.
[الْمَصْدَرُ]
كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله. م/8 ص / 423.(1/148)
هل يصلي على الملائكة في التشهد؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز أن أصلي على الملائكة في التشهد كما أصلي على النبي صلى الله عليه وسلم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سبق في جواب السؤال رقم (105330) مشروعية الصلاة على الملائكة.
أما في التشهد فلا يشرع ذلك، لأن الواجب الاقتصار على ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، من غير زيادة عليه.
وقد سئل الشيخ صالح الفوزان: هل يصلي على الملائكة في التشهد كما يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم؟
فأجاب:
"لا، الصلاة التي في التشهد يُقتصر فيها على الوارد، ولكن في قولنا: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) هذا يشمل كل عبد صالح في السماء أو في الأرض، وتدخل فيه الملائكة ".
"مجموع فتاوى الشيخ صالح الفوزان" (1/52)
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/149)
مشروعية الصلاة على الملائكة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تجوز الصلاة على الملائكة لفضلهم ورفعة قدرهم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"الصلاة على الملائكة مشروعة أن تقول: عليهم الصلاة والسلام، وتقول: عليهم السلام، لأنهم عبادٌ مكرمون، وهم خلق من خلق الله فضلهم الله وسبحانه وتعالى، على غيرهم كما قال تعالى في حقهم: (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) الأنبياء/ 26، وكما قال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ) الانفطار/10،11، وقال تعالى (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ) عبس/15،16، إلى غير ذلك، فهم لهم قدرهم ولهم فضلهم وشرفهم ويُشرع الصلاة عليهم، لا مانع من ذلك، بل هذا مشروع" انتهى.
"مجموع فتاوى الشيخ صالح الفوزان" (1/52) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/150)
الملائكة
[السُّؤَالُ]
ـ[ماذا تعتقد في الملائكة بخصوص وظيفتهم، هيئتهم، أشكالهم، قوتهم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الإيمان بالملائكة أحد أركان الإيمان الستة التي لا يقوم الإيمان إلا بها، ومن لم يؤمن بواحدة منها فليس بمؤمن، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشرّه من الله تعالى.
والملائكة من عالم الغيب الذي لا نُدركه، وقد أخبرنا الله عنهم بأخبار كثيرة في كتابه وعلى لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وفيما يلي طائفة من المعلومات الصحيحة والأخبار الثابتة الواردة فيهم، لعلك أيتها السائلة الكريمة تقدّرين الأمر حقّ قدره وتعلمين عظمة الخالق سبحانه وعظمة هذا الدّين الذي جاءنا بأخبارهم:
من أيّ شيء خلقوا؟ :
خلقوا من نور كما قالت عَائِشَةُ رضي الله عنها: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ ". رواه مسلم رقم 2996
متى خلقوا؟ :
ليس لنا علم على وجه التحديد بوقت خلقهم لعدم ورود النص في ذلك لكنهم سابقون لخلق الإنس يقينا لنص القرآن: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} سورة البقرة آية 30. فأخبرهم بإرادته خلق الإنسان فدلّ على أنهم موجودون قبله.
عظم خلقهم:
يقول تعالى في ملائكة النار: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} سورة التحريم آية 6.
وأعظمه على الإطلاق جبريل عليه السلام ومما جاء في وصفه:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ وَلَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْ سَدَّ الأُفُقَ يَسْقُطُ مِنْ جَنَاحِهِ مِنَ التَّهَاوِيلِ وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ. رواه أحمد في المسند قال ابن كثير في البداية 1/47 إسناده جيد.
وقال رسول الله واصفا جبريل: " رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ " رواه مسلم رقم 177
ومن الملائكة العظام أيضا حَمَلة العرش ومما جاء في وصفهم: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ ". سنن أبي داود: كتاب السنة: باب في الجهمية.
لهم أجنحة:
يقول الله تعالى: {الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شئ قدير} . سورة فاطر آية 1
جمالهم:
قال تعالى واصفا جبريل عليه السلام: {علمه شديد القوى. ذو مرة فاستوى} سورة النجم آية 5-6 قال ابن عباس: {ذو مرة} ذو منظر حسن، وقال قتادة: ذو خَلْق طويل حسن.
وقد تقرر عند الناس جميعا وصف الملائكة بالجمال ولذا فهم يشبّهون الجميل من البشر بالملائكة كما قالت النسوة في حق يوسف الصديق: {فلما رأينه أكبرنه وقطّعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم} . سورة يوسف آية 31
تفاوتهم في الخلق والمقدار:
الملائكة ليسوا على درجة واحدة في الخلق والمقدار بل يتفاوتون كما يتفاوتون في الفضل كذلك فأفضلهم من شهد بدرا كما جاء في حديث مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ عَنْ أَبِيهِ وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَالَ جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ قَالَ: مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا قَالَ وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَلائِكَةِ. رواه البخاري رقم 3992
لا يأكلون ولا يشربون:
ويدل على هذا ما جرى بين خليل الرحمن إبراهيم وأضيافه من الملائكة لما زاروه، قال تعالى: {فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم} .سورة الذاريات آية 28
وفي آية أخرى: {فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط} .سورة هود أية 70
لا يملون ولا يتعبون من ذكر الله وعبادته:
قال تعالى: {يسبحون الليل والنهار لا يَفْتُرون} سورة الأنبياء آية 20، وقال سبحانه: {فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون} سورة فصلت آية 38.
عددهم:
الملائكة خلق كثير لا يعلم عددهم إلا الله يقول النبي صلى الله عليه وسلم واصفا البيت المعمور في السماء السابعة: " فرفع لي البيت المعمور فسألت جبريل فقال هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم " رواه البخاري. فتح رقم 3207
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ: " يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا ". رواه مسلم رقم 2842
أسماؤهم:
للملائكة أسماء لكننا لا نعلم من أسمائهم إلا القليل فمن نُصّ على اسمه وجب الإيمان به تفصيلا وإلا كان الإيمان به مجملا داخلا في عموم إيمان العبد بالملائكة، ومن أسماء الملائكة:
1، 2 - جبريل وميكائيل:
{قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين، من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} سورة البقرة آية 98.
3 - إسرافيل:
عن أَبُي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ صَلاتَهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَتْ: كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلاتَهُ اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ". رواه مسلم رقم 270.
4- مالك:
وهو خازن النار قال تعالى: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك..} سورة الزخرف آية 77.
5، 6 - منكر ونكير:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَوْ قَالَ أَحَدُكُمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لأَحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ وَالآخَرُ النَّكِيرُ فَيَقُولانِ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ مَا كَانَ يَقُولُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولانِ قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ نَمْ فَيَقُولُ أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ فَيَقُولانِ نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لا يُوقِظُهُ إِلا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ فَقُلْتُ مِثْلَهُ لا أَدْرِي فَيَقُولانِ قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ فَيُقَالُ لِلأَرْضِ الْتَئِمِي عَلَيْهِ فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ فَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَضَْاعُهُ فلا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ". رواه الترمذي رقم 1071 وقَالَ أَبو عِيسَى: حديثٌ حَسَنٌ غَرِيب وحسنه في صحيح الجامع رقم 724.
7، 8 - هاروت وماروت:
يقول تعالى: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} سورة البقرة آية 102 ومنهم غير ذلك {وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر} سورة المدثر آية31 ومنهم غير ذلك
قدراتهم
للملائكة قدرات عظيمة وهبهم الله إياها ومنها:
قدرتهم على التشكل:
أعطى الله الملائكة القدرة على التشكل بغير أشكالهم فقد أرسل الله إلى مريم جبريل في صورة بشر يقول تعالى: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشر سويا} سورة مريم آية 17.
وإبراهيم جاءته الملائكة في صورة بشر ولم يعرف أنهم ملائكة حتى أعلموه بذلك، وكذا لوط أتوه في صورة شباب حسان الوجوه، وقد كان جبريل يأتي النبي في صور متعددة فتارة يأتي في صورة دحية الكلبي وكان صحابيا جميل الصورة، وتارة في صورة أعرابي ورآه الصحابة على صورته البشرية كما في الصحيحين من حديث عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ …. الحديث. صحيح مسلم رقم 8
وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة الدالة على تصورهم بالصور الآدمية كحديث قاتل المائة وفيه " فجاءهم ملك في صورة آدمي " وحديث الأبرص والأقرع والأعمى.
سرعتهم:
أعظم سرعة يعرفها البشر اليوم سرعة الضوء وسرعة الملائكة فوق هذه السرعة بكثير إذ أن السائل ما كاد يفرغ من سؤال النبي إلا وقد جاء جبريل بالجواب من رب العزة.
وظائفهم:
· منهم الموكل بالوحي من الله على رسله وهو الروح الأمين جبريل عليه السلام قال الله تعالى: {من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} سورة البقرة آية 97 وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ (194) } سورة الشعراء.
· ومنهم الموكل بالمطر وتصريفه إلى حيث يشاء الله وهو ميكائيل عليه السلام، وله أعوان يفعلون ما يأمرهم به بأمر ربه ويصرفون الرياح والسحاب كما يشاء الله عز وجل.
· ومنهم الموكل بالصور وهو إسرافيل (والصور هو عنق كالبوق ينفخ فيه إسرافيل عند قيام الساعة) .
· ومنهم المُوكّل بقبض الأرواح وهو ملك الموت وأعوانه قال تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون} سورة السجدة آية 11. ولم يثبت في حديث صحيح تسميته بعزرائيل.
· ومنهم المُوكّل بحفظ العبد في حله وترحاله، في يقظته ونومه وفي كل حالاته وهم المعقبات الذين قال الله في شأنهم: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) } سورة الرعد.
· ومنهم المُوكّل بحفظ عمل العبد من خير أو شر وهم الكرام الكاتبون وهؤلاء يشملهم قوله تعالى: {ويرسل عليكم حفظة} سورة الأنعام آية 61، وقال تعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} سورة الزخرف آية 80، وقال عزّ وجلّ: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد ٌ (18) } سورة ق، وقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِين َ (11) } سورة الإنفطار
· ومنهم الموكل بفتنة القبر وهم منكر ونكيرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَوْ قَالَ أَحَدُكُمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لأَحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ وَالآخَرُ النَّكِيرُ فَيَقُولانِ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ… الحديث وقد تقدّم.
· ومنهم خزنة الجنة قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) } سورة الزمر.
· ومنهم خزنة جهنم وهم الزبانية ورؤساؤهم تسعة عشر ومُقدَّمهم مالك عليه السلام، قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) } سورة الزمر، وقال سبحانه: {فليدع ناديه (17) سندع الزبانية (18) } سورة العلق، وقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا..} سورة المدثر، وقال تعالى: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون} سورة الزخرف آية 77.
· ومنهم الموكل بالنطفة في الرَّحِم كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ فَوَالَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا. رواه البخاري فتح رقم 3208 ومسلم رقم 2643.
· ومنهم حملة العرش قال تعالى في شأنهم: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم} سورة غافر آية 7.
· ومنهم ملائكة سياحون في الأرض يتبعون مجالس الذكر، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ قَالَ فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا يَقُولُ عِبَادِي قَالُوا يَقُولُونَ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ قَالَ فَيَقُولُ هَلْ رَأَوْنِي قَالَ فَيَقُولُونَ لا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ قَالَ فَيَقُولُ وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي قَالَ يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا قَالَ يَقُولُ فَمَا يَسْأَلُونِي قَالَ يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ قَالَ يَقُولُ وَهَلْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُ فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً قَالَ فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ قَالَ يَقُولُونَ مِنْ النَّارِ قَالَ يَقُولُ وَهَلْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً قَالَ فَيَقُولُ فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ قَالَ يَقُولُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلائِكَةِ فِيهِمْ فُلانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ قَالَ هُمْ الْجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ. رواه البخاري فتح رقم 6408
· ومنهم الموكل بالجبال عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الأَخْشَبَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. رواه البخاري فتح رقم 3231
· ومنهم زُوّار البيت المعمور قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث الإسراء والمعراج الطويل: فَرُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إِذَا خَرَجُوا لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِم ْ.
· ومنهم ملائكة صفوف لا يفترون وقيام لا يجلسون، وركع وسجود لا يرفعون كما جاء عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لا تَسْمَعُونَ أَطَّتْ السَّمَاءُ (صوّتت وضجّت) وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلاّ وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ (الطّرُق) تَجْأَرُونَ (تتضرّعون) إِلَى اللَّهِ. سنن الترمذي رقم 2312
هذه خلاصة عن ملائكة الله الكرام نسأل الله أن يجعلنا من المؤمنين بهم المحبين لهم وصلى الله على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/151)
كيف تعلم الملائكة ما في قلب الإنسان؟
[السُّؤَالُ]
ـ[في بعض الأحيان الشخص يقول دعاء دخول الحمام ـ أكرمكم الله ـ في نفسه، أو يبسمل في نفسه؛ فهل حديث النفس الداخلي هل يعلمه الملائكة الحفظة؟ ويسجل علينا وسنحاسب عنه؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
روى البخاري (6491) ومسلم (131) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً) .
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (11/325) :
" وفيه دليل على أن الملك يطَّلع على ما في قلب الآدمي؛ إما بإطلاع الله إياه، أو بأن يخلق له علما يدرك به ذلك.
ويؤيد الأول: ما أخرجه بن أبي الدنيا عن أبي عمران الجوني، قال: ينادى الملك اكتب لفلان كذا وكذا، فيقول يا رب: إنه لم يعمله، فيقول: إنه نواه.
وقيل: بل يجد الملك للهم بالسيئة رائحة خبيثة، وبالحسنة رائحة طيبة وأخرج، ذلك الطبري عن أبي معشر المدني، وجاء مثله عن سفيان بن عيينة "
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن قوله صلى الله عليه وسلم:
(إذا هم العبد بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة.... الحديث) فإذا كان الهم سرا بين العبد وبين ربه فكيف تطلع الملائكة عليه؟
فأجاب: " الحمد لله، قد روي عن سفيان بن عيينة فى جواب هذه المسألة قال: " أنه إذا هم بحسنة شم الملك رائحة طيبة، وإذا هم بسيئة شم رائحة خبيثة ".
والتحقيق أن الله قادر أن يعلم الملائكة بما فى نفس العبد كيف شاء " انتهى.
"مجموع الفتاوى " (4/253)
وقال رحمه الله أيضا:
" وهم وإن شموا رائحة طيبة ورائحة خبيثة، فعلمهم لا يفتقر إلى ذلك، بل ما فى قلب ابن آدم يعلمونه، بل ويبصرونه ويسمعون وسوسة نفسه، بل الشيطان يلتقم قلبه؛ فاذا ذكر الله خنس، وإذا غفل قلبه عن ذكره وسوس، ويعلم هل ذكر الله أم غفل عن ذكره، ويعلم ما تهواه نفسه من شهوات الغى فيزينها له!!
وقد ثبت فى الصحيح عن النبى فى حديث ذكر صفية رضى الله عنها (إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم)
وقرب الملائكة والشيطان من قلب ابن آدم مما تواترت به الآثار، سواء كان العبد مؤمنا أو كافرا " انتهى من "مجموع الفتاوى" (5/508) .
وأما الذكر في النفس من غير حركة اللسان به، فإن صاحبه يثاب على ذلك لكن ليس الثواب الخاص المرتب من الشارع على من أتى بذلك الذكر فإن ذلك الثواب مرتب على القول، والقول لا يتحقق من غير لفظ باللسان، لكن من أهل العلم من يرى أن حركة اللسان تكفي ولو لم يصدر صوت يسمعه المتلفظ، وهذا ما ذهب إليه المالكية ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، قال ابن مفلح رحمه الله في "الفروع" (1/410) : " واختار شيخنا –يعني ابن تيمية- الاكتفاء بالحروف وإن لم يسمعها " انتهى.
وجمهور أهل العلم يرون أنه لا بد من لفظ يسمعه نفسه، قال النووي رحمه الله في شرح المهذب (3/120) : " فإن لم يسمع نفسه فليس ذلك بأذان ولا كلام " انتهى.
وقال أيضا: " اعلم أن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها، واجبة كانت أو مستحبة، لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع لا عارض له " الأذكار (42) .
وأما حساب الإنسان على ما تحدثه به نفسه، فقد سبق الإجابة عنه في السؤال رقم (99324)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/152)
إبليس ليس من الملائكة
[السُّؤَالُ]
ـ[صديقي قال بأن الشيطان كان من الملائكة وزوجتي تقول بأن هذا غير صحيح. هل يمكن أن تعطيني بعض المعلومات؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لم يكن إبليس من الملائكة قطعاً، ويدل على ذلك أشياء ثلاثة:
تصريح القرآن، وصفات إبليس الخَلقية، وصفاته الخُلُقية.
1. أما تصريح القرآن بذلك، فقد جاء في قوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن} الكهف /50.
قال الحسن البصري: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم عليه السلام أصل البشر.
رواه الطبري بإسناد صحيح كما قال ابن كثير في " تفسيره " (3/89) .
2. وأما الصفات الخَلقية، فقد ذكر الله تعالى أنه خلق إبليس من نار، فقال {خَلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار} الرحمن / 14،15. وثبت في صحيح مسلم (2996) من حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم ".
المارج لهب النار الصافي، أو الذي خالطه الدخان، (تفسير السعدي 7/248) ، (لسان العرب 2/365)
فتبين الفرق بين خلق الملائكة وبين خلق إبليس، فعلم قطعاً أنه ليس منهم.
3. وأما الصفات الخُلُقية، فإن إبليس قد عصى الله تعالى في عدم سجوده لآدم، وقد علِمنا من القرآن أن الملائكة لا يمكن لهم أن يعصون الله تعالى، قال الله عز وجل {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} التحريم / 6.
وقد ورد عن بعض السلف آثار غير صحيحة منها أنه طاووس الملائكة، وأنه من خزنة الجنة..الخ، وقد علَّق على ذلك الإمام ابن كثير فقال:
وقد رُوي في هذا آثار كثيرة عن السلف وغالبها من الإسرائيليات التي تُنقل لينظر فيها والله أعلم بحال كثير منها، ومنها ما قد يُقطع بكذبه لمخالفته للحق الذي بأيدينا، وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وضع فيها أشياء كثيرة، وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذي ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء والسادة والأتقياء والبررة والنجباء من الجهابذة النقاد والحفاظ الجياد الذين دونوا الحديث وحرروه وبينوا صحيحه من حسنه من ضعيفه من منكره وموضوعه ومتروكه ومكذوبه وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين وغير ذلك من أصناف الرجال كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي خاتم الرسل وسيد البشر صلى الله عليه وسلم أن ينسب إليه كذب أو يحدث عنه بما ليس منه فرضي الله عنهم وأرضاهم وجعل جنات الفردوس مأواهم. أ. هـ " تفسير القرآن العظيم " (3/90) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/153)
تشكل الملائكة على صورة البشر، ومن يراهم على صورتهم الحقيقية؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أن الأطفال ينظرون إلى الملائكة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
خلق الله تعالى الإنسان من تراب، وخلق الجان من نار، وخلق الملائكة من نور، وقد ثبت بالنصوص القطعية أنه لا يمكن أن يرى الناس الجنَّ، إلا إن تشكلوا بصور أخرى كالبشر والبهائم، ولا تُرى الملائكة على أصل خلقتها من عامة الناس إلا وهي متشكلة على صور بشر.
وفي جواب السؤال رقم (70364) تفصيل وافٍ في استحالة رؤية الملائكة من قبَل عامة الناس على أصل خلقتها، وأن ذلك لم يكن لأحدٍ من هذه الأمة إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما تشكل الملائكة على صورة أحدٍ من البشر فقد ثبت ذلك في القرآن وصحيح السنَّة، وإذا جاء الملَك متشكلاًّ أمكن الجميع أن يروه، ولا فرق بين ذكر وأنثى، ولا صغير وكبير.
ولا يستطيع أحدٌ الجزم بأن ما يراه من الأشخاص أنه من الملائكة، فإن إثبات أنهم ملائكة متوقف على وحي من الله عز وجل، وأنَّى ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
وقد تشكل الملائكة على صورة بشر وجاءوا لإبراهيم ولوط عليهما السلام فلم يعلما بحقيقتهما حتى أخبرتهم الملائكة، فغيرهم من الناس أولى بعدم تلك المعرفة.
ومن أدلة تشكل الملائكة، وإمكان رؤيتهم على هيئتهم المتشكَّلة:
1. قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا. قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) مريم/16-19.
2. وقال تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ. فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ. فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) الذاريات/24-28.
3. وقال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ) هود/77.
4. عن عُمَر بْن الْخَطَّابِ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ ... قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ.
رواه البخاري (8) .
5. قصة اختبار الأبرص والأقرع والأعمى من بني إسرائيل، وفيها أن ملَكاً بعثه الله على صورة بشر ليخبرهم.
رواه البخاري (3277) ومسلم (2964) .
6. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ قَالَ هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا قَالَ لَا غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ.
رواه مسلم (2567) .
وغير ذلك من الأدلة الصحيحة، والتي يتبين من خلالها أنه يُمكن رؤية الملائكة لكن على الصورة التي أمرهم الله تعالى بالتشكل بها، وحينها يراه كل من يقدر الله تعالى له رؤيته.
ومن ادَّعى أنه يرى الملائكة على أصل خلقتها فهو كاذب أو واهم، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته الحقيقية وقد سدَّ الأفق له ستمائة جناح، فمن ذا الذي زعم أنه رآه في ذلك الوقت؟! فظهر بهذا أنه لا يوجد أحد من هذه الأمة يمكنه رؤية الملائكة على صورتها الحقيقية إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الأطفال فكغيرهم من الناس فإنه لا يمكنهم رؤيتهم إلا بالتشكل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملَك في صورته إلا من أيَّده الله، كما أيَّد نبيَّنا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (وقالوا لولا أُنزل عليه ملَك ولو أنزلنا ملَكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون. ولو جعلناه ملَكا لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون) الأنعام/8،9، قال غير واحد من السلف: هم لا يطيقون أن يروا الملَك في صورته، فلو أنزلنا إليهم ملكاً: لجعلناه في صورة بشر، وحينئذ كان يشتبه عليهم هل هو ملَك أو بشر، فما كانوا ينتفعون بإرسال الملَك إليهم فأرسلنا إليهم بشراً مِن جنسهم يمكنهم رؤيته والتلقي عنه، وكان هذا من تمام الإحسان إلى الخلق والرحمة.
" منهاج السنة النبوية " (2 / 333) .
وانظر تفصيلاً وافياً في الملائكة في جواب السؤال رقم: (843) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/154)
الملائكة هل يموتون، وهل هم ذكور؟
[السُّؤَالُ]
ـ[عن الملائكة: هل يموتون؟ وهل هناك ملائكة ذكور وإناث؟ وهل يكون بينهم تناسل؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
الذي عليه أكثر الناس أن الملائكة يموتون، وأن ملك الموت يموت، لكن ليس في هذا نص صحيح صريح، بل جاء فيه نصوص محتملة، وجاء فيه حديث الصور المشهور، وهو حديث منكر. انظر: ضعيف الترغيب والترهيب رقم (2224) .
ومما ورد في هذا الباب، قوله تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) القصص/88
قال ابن كثير رحمه الله: " يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون، وكذلك أهل السماوات إلا من شاء الله، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم؛ فإن الرب تعالى وتقدس لا يموت، بل هو الحي الذي لا يموت أبدا " (تفسير القرآن العظيم 4/273) .
وقال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) الزمر/68
وروى البخاري (7383) ومسلم (2717) عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون) .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هل جميع الخلق حتى الملائكة يموتون؟
فأجاب: " الذي عليه أكثر الناس أن جميع الخلق يموتون حتى الملائكة، وحتى عزرائيل ملك الموت، وروي في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والمسلمون واليهود والنصارى متفقون على إمكان ذلك وقدرة الله عليه، وإنما يخالف في ذلك طوائف من المتفلسفة أتباع أرسطو وأمثالهم، ومن دخل معهم من المنتسبين إلى الإسلام أو اليهود والنصارى، كأصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم ممن زعم أن الملائكة هي العقول والنفوس، وأنه لا يمكن موتها بحال، بل هي عندهم آلهة وأرباب لهذا العالم.
والقرآن وسائر الكتب تنطق بأن الملائكة عبيد مدبرون كما قال سبحانه (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) ، وقال تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ* يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) ، وقال: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) . والله سبحانه قادر على أن يميتهم ثم يحييهم، كما هو قادر على إماتة البشر والجن ثم إحيائهم، وقد قال سبحانه (وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) .
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وعن غير واحد من الصحابة أنه قال: (إن الله إذا تكلم بالوحي أخذ الملائكة مثل الغشي) وفى رواية (إذا سمعت الملائكة كلامه صعقوا) وفى رواية (سمعت الملائكة كجرّ السلسلة على الصفوان فيصعقون فإذا فزع عن قلوبهم) أي أزيل الفزع عن قلوبهم (قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق فينادون الحق الحق) .
فقد أخبر في هذه الأحاديث الصحيحة أنهم يصعقون صعق الغشي، فإذا جاز عليهم صعق الغشي جاز صعق الموت
وأما الاستثناء [أي قوله سبحانه: إلا من شاء الله] فهو متناول لمن دخل في الجنة من الحور العين، فإن الجنة ليس فيها موت، ومتناول لغيرهم، ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله، فإن الله أطلق في كتابه، وقد ثبت في الصحيح أن النبي قال (إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى آخذا بساق العرش فلا أدرى هل أفاق قبلي أم كان ممن استثناه الله) ... ؛ فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر بكل من استثنى الله لم يمكنا نحن أن نجزم بذلك، وصار هذا مثل العلم بوقت الساعة وأعيان الأنبياء، وأمثال مما لم يخبر به، وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر، والله أعلم
" انتهى من "مجموع الفتاوى" (4/259) .
وقال السيوطي رحمه الله: " سئلت: هل تموت الملائكة بنفخة الصعق ويحيون بنفخة البعث؟ والجواب: نعم، قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصَورِ فَصَعِقَ مَن فَي السَمَواتِ وَمَن فَي الأَرضِ إِلا مَن شاءَ الله) وتقدم في أول الكتاب أن المستثنى حملة العرش وجبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت، وأنهم يموتون على أثر ذلك.
وتقدم عن وهب أن هؤلاء الأملاك الأربعة أول من خلقهم الله من الخلق، وآخر من يميتهم، وأول من يحييهم ".
ثم أيد كلامه بما جاء من النص على موت أهل السماء وأهل الأرض، حتى جبريل وميكائيل وإسرافيل، وحملة العرش، ثم موت ملك الموت في آخر الأمر..
انظر: الحبائك في أخبار الملائك " ص (91) .
لكن النص المشار إليه، والذي نقله السيوطي في كلامه، هو نفسه حديث الصور الذي أشرنا إلى ضعفه ونكارته في أول الإجابة.
وسئلت اللجنة الدائمة: أفتونا عن الملائكة الموكلين بالإنسان لإحصاء أعماله في مدة الحياة وهم رقيب وعتيد عندما يموت الإنسان، هل يموت الملكان الموكلان به أو أين يكون مصيرهما بعد وفاة الإنسان؟
فأجابت: أحوال الملائكة وشؤونهم من الغيبيات، ولا تعرف إلا من قبل السمع، ولم يرد نص في موت كتبة الحسنات والسيئات عند موت من تولوا كتابة حسناته وسيئاته، ولا نص ببقاء حياتهم ولا عن مصيرهم، وذلك إلى الله وليس ما سئل عنه مما كلفنا اعتقاده، ولا يتعلق به عمل، فالسؤال عن ذلك دخول فيما لا يعني؛ لذا ننصح السائل أن لا يدخل فيما لا يعنيه، ويبذل جهده في السؤال عما يعود عليه وعلى المسلمين بالنفع في دينهم ودنياهم " انتهى.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (2/185)
ثانيا:
الملائكة لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة، أما الأنوثة، فلأن الله تعالى نفى ذلك عنهم فقال: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) الزخرف/19
وقال: (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ) الصافات/150
وأما الوصف بالذكورة فلعدم وروده.
قال الحليمي في المنهاج ثم القونوي في مختصره: وقد قيل إن أصحاب الأعراف ملائكة يحبون أهل الجنة ويبكّتون أهل النار، وهو بعيد لوجهين: أحدهما قوله تعالى (وَعَلى الأَعرافِ رِجالُ) والرجال: الذكور العقلاء، والملائكة لا ينقسمون إلى ذكور وإناث، والثاني إخباره تعالى عنهم وأنهم يطمعون أن يدخلوا الجنة، والملائكة غير محجوبين عنها كيف والحيلولة بين الطامع وطمعه تعذيب له ولا عذاب يومئذ على ملك. انتهى.
نقله السيوطي في الحبائك ص (88)
وقال الدكتور محمد بن عبد الرحمن الخميس: " ونقول إن من قال بأنهم إناث فقد كفر لمخالفته كتاب الله، ولا يقال إنهم ذكور؛ إذ لم يرد في ذلك نص صحيح " انتهى من "اعتقاد أهل السنة".
ثالثا:
الملائكة لا يتناكحون ولا يتناسلون، وقد حكي الاتفاق على ذلك.
قال الرازي رحمه الله في تفسيره: " اتفقوا على أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون " انتهى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/155)
حقيقة الإيمان بالملائكة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى الإيمان بالملائكة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
وبعد: فالملائكة عالم غيبي خلقهم الله عز وجل من نور، يقومون بأمر الله (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) التحريم/6.
والإيمان بالملائكة يتضمن أربعة أمور لا بد منها:
1- الإقرار الجازم بوجودهم وأنهم خلق من خلق الله، مربوبون مسخرون و (عباد مكرمون.لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) الأنبياء/26:27 و (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) التحريم/6 و (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) الأنبياء/19:20.
2- الإيمان بأسماء من علمنا اسمه منهم: كجبريل، وميكائيل، وإسرافيل،،ومالك، ورضوان، وغيرهم عليهم السلام.
3-الإيمان بأوصاف من علمنا وصفه: كما علمنا من السنة وصف جبريل عليه السلام، وأن له ستمائة جناح قد سد الأفق (أي ملأ السماء) .
4-الإيمان بأعمال من علمنا عمله منهم: فجبريل عليه السلام، موكل بما فيه حياة القلوب وهو الوحي، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور، وميكائيل موكل بالمطر، ومالك موكل بالنار، وهكذا.
ومن أهم ما يجب أن نؤمن به أن كل شخص معه ملكان يكتبان عمله كما قال الله تعالى: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ق/17:18 أي رقيب حاضر من هؤلاء الملائكة. فإياك أيها المسلم أن يكتب هذا ن الملكان عنك ما يسوؤك يوم القيامة، فكل شيء تقوله أو تلفظ به فهو مكتوب عليك، فإذا كان يوم القيامة يخرج للعبد كتابه: (يلقاه منشورا. اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) الإسراء/13:14 نسأل الله أن يسترنا ويتجاوزنا عنا إنه سميع مجيب. والله أعلم.
انظر: أعلام السنة المنشورة (86) ومجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين (3 / 160) . وللاستزادة يراجع سؤال (843) و (14610) .
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(1/156)
ما صح من الأحاديث في وصف منكر ونكير
[السُّؤَالُ]
ـ[ماذا عن سؤال الملكين منكر ونكير في القبر وماذا عن شكلهما، وهل الحديث الخاص بهما للنبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه صحيح، وأن شكلهما يجران أشعارهما وأعينهم كالبرق وأصواتهم كالرعد ويضربان القبر بأنيابهما، ويقولان: من ربك؟ وما دينك: وما النبي الذي بعث فيكم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
صح في صفة الملكين المُوكّلين بسؤال الميت، أنهما أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، والآخر: النكير.
فقد روى الترمذي (1071) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَوْ قَالَ أَحَدُكُمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لأَحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ وَالآخَرُ النَّكِيرُ، فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ مَا كَانَ يَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ، ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: نَمْ، فَيَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ، فَيَقُولَانِ: نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لا يُوقِظُهُ إِلا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ فَقُلْتُ مِثْلَهُ لا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ، فَيُقَالُ لِلأَرْضِ: الْتَئِمِي عَلَيْهِ، فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ، فَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَضْلاعُهُ، فَلا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ) والحديث حسنه الألباني في صحيح الترمذي.
وأما حديث عمر رضي الله عنه الذي أشرت إليه، فقد رُوي من طرق ضعيفة، منها ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (6738) مرسلا عن عمرو بن دينار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: (كيف بك يا عمر بفتاني القبر إذا أتياك يحفران الأرض بأنيابهما، ويطآن في أشعارهما، أعينهما كالبرق الخاطف، وأصواتهما كالرعد القاصف، معهما مزربة لو اجتمع عليها أهل منى لم يقلوها. قال عمر: وأنا على ما أنا عليه اليوم؟ قال: وأنت على ما أنت عليه اليوم. قال: إذاً أكفيكهما إن شاء الله) .
قال العراقي في تخريج الإحياء (4/223) : " أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور هكذا مرسلا ورجاله ثقات. قال البيهقي في الاعتقاد: رويناه من وجه صحيح عن عطاء بن يسار مرسلا.
قلت: ووصله ابن بطة في الإبانة من حديث ابن عباس، ورواه البيهقي في الاعتقاد من حديث عمر وقال غريب بهذا الإسناد تفرد به مفضل، ولأحمد وابن حبان من حديث عبد الله بن عمر فقال عمر: أترد إلينا عقولنا؟ فقال " نعم كهيئتكم اليوم " فقال عمر: بفيه الحجر " انتهى.
وقال الأستاذ فريح بن صالح البهلال، في تحقيق "الاعتقاد" للبيهقي، (ص 254) بعد أن أشار إلى الطرق الضعيفة: " ولعله بهذه الطرق والشواهد يكون إسناده حسنا " انتهى.
ثانيا:
الأسئلة التي يوجهها الملكان للميت في قبره هي: من ربك؟ وما دينك؟ وما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟
وانظر السؤال رقم (10403) ، ورقم (22203) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/157)
هل الملائكة والجن يموتون
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الملائكة والجن يموتون؟ وأين يدفنون؟ وهل يصلى عليهم؟ وكم عمر كل منهم؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يقول الله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان ٍ- وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَام ِ) الرحمن /26-27، قال ابن كثير رحمه الله: " يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون، وكذلك أهل السماوات إلا من شاء الله، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم؛ فإن الرب تعالى وتقدس لا يموت، بل هو الحي الذي لا يموت أبدا " (تفسير القرآن العظيم 4/273) .
وروى البخاري (7383) ومسلم (2717) عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون)
أما قولك: أين يدفنون؟ وهل يصلى عليهم؟ وكم عمر كل منهم؟
فهذا مما حُجب عنا علمه، وقد قال الله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً) الإسراء/ 85، والواجب على المسلم أن يسعى ويبحث عما له أثر في سلوكه، من معرفة الله، وأسمائه وصفاته، وما يجب اعتقاده، ومعرفة الأحكام الشرعية، ويترك التعمق فيما لم يكلف بعلمه ولا فائدة فيه، أسأل الله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/158)
هل إبليس من الملائكة أم من الجن
[السُّؤَالُ]
ـ[هل كان إبليس من الملائكة أم من الجن، وهل الجن هم من الملائكة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمة الله تعالى عليه -:
وقوله في هذه الآية الكريمة: (كان من الجن ففسق عن أمر ربه) الكهف/50، ظاهر في أن سبب فسقه عن أمر ربه كونه من الجن وقد تقرر في الأصول في مسلك النص، وفي مسلك الإيماء والتنبيه: أن الفاء من الحروف الدالة على التعليل كقولهم: سرق فقطت يده، أي: لأجل سرقته، وسها فسجد، أي لأجل سهوه، ومن هذا القبيل قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) المائدة/38، أي لعلة سرقتهما وكذلك قوله هنا: (كان من الجن ففسق) ، أي: لعلة كينونته من الجن؛ لأن هذا الوصف فرق بينه وبين الملائكة؛ لأنهم امتثلوا الأمر وعصى هو، ولأجل ظاهر هذه الآية الكريمة ذهبت جماعة من العلماء إلى أن إبليس ليس من الملائكة في الأصل بل من الجن، وأنه كان يتعبد معهم فأطلق عليهم اسمهم لأنه تبع لهم كالحليف في القبيلة يطلق عليه اسمها، والخلاف في إبليس هل هو ملك في الأصل فمسخه الله شيطاناً، أو ليس في الأصل بملك، وإنما شمله لفظ الملائكة لدخوله فيهم وتعبده معهم، مشهور عند أهل العلم، وحجة من قال: إن أصله ليس من الملائكة أمران:
أحدهما: عصمة الملائكة من ارتكاب الكفر الذي ارتكبه إبليس، كما قال تعالى عنهم: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون) التحريم/6، وقال تعالى: (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) الأنبياء/27.
والثاني: أن الله صرح في هذه الآية الكريمة بأنه من الجن، والجن غير الملائكة، قالوا: وهذا نص قرآني في محل النزاع.
…
وممن جزم بأنه ليس من الملائكة في الأصل لظاهر هذه الآية الكريمة:الحسن البصري، ونصره الزمخشري في تفسيره.
وقال القرطبي في تفسير سورة " البقرة ": " كونه من الملائكة هو قول الجمهور: ابن عباس وابن مسعود وابن جريج وبن المسيب وقتادة وغيرهم، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن ورجحه الطبري وهو ظاهر قوله: (إلا إبليس) . اهـ.
وما يذكره المفسرون عن جماعة من السلف كابن عباس وغيره، من أنه كان من أشراف الملائكة، ومن خزان الجنة، وأنه كان يدبر أمر السماء الدنيا، وأنه كان اسمه عزازيل، كله من الإسرائيليات التي لا معول عليها.
وأظهر الحجج في المسألة، حجة من قال: إنه غير ملك لأن قوله تعالى: (إلا إبليس كان من الجن ففسق …) ، وهو أظهر شئ في الموضوع من نصوص الوحي، والعلم عند الله تعالى.
[الْمَصْدَرُ]
" أضواء البيان " (4 / 130 – 132) .(1/159)
هل يمكن للبشر رؤية الملائكة والنبي صلى الله عليه وسلم يقظة عياناً؟
[السُّؤَالُ]
ـ[كنا قد قمنا بمسيرة احتجاجية كبيرة بالعاصمة لمساندة الشعب الفلسطيني والشعب العراقي ضد الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي، بعد انتهاء المسيرة سمعت بعض الإخوان والأخوات يتحدثون أنهم رأوا سيدنا جبريل نازلاً من السماء وكذلك رأوا سيدنا محمد (ص) والكثير من الملائكة يرافقونهم، تأييداً لهذه المسيرة، فهل هذه المشاهدات قد تكون حقيقية ويجب علينا تصديقها وإلا سوف نعاقب بسوء الظن في إخواننا المسلمين؟ بالنسبة لي لم أستطع التصديق علما أن أهل بدر والصحابة الأجلاء العشرة المبشرين بالجنة لم يروا الملائكة الكرام بالعين المجردة ولا رأوا سيدنا جبريل! فهل نستطيع أن نقول إن هذا وهَم المشاهدة؟ أي: تخيل رؤية الشيء حتى يصبح حقيقة يصدقه العقل وتراه العين؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
سبق في جواب السؤال رقم (11469) بيان حكم المظاهرات فلينظر.
ثانياً:
لا ينبغي اختصار الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بحرف الصاد، ولا بكلمة " صلعم "! ومن كتب مثل هذا السؤال الطويل لا يعجزه كتابة الصلاة والسلام عليه كاملة.
وقد سبق بيان حكم كتابة هذين الاختصارين في جواب السؤال رقم (47976) فلينظر.
ثالثاً:
الملائكة خلقت من نور - كما رواه مسلم (2996) - ولا يمكن لأحدٍ أن يدَّعي أنه رآها على صورتها الحقيقية إلا أن يكون نبيّاً يُصدَّق قوله، وأما أن يراهم متشكلين على هيئات أحدٍ من البشر فيمكن هذا لعامة الناس وخاصتهم، وقد جاء في السنَّة النبوية من ذلك كثير، سواء في هذه الأمة أم في الأمم التي قبلها.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو موفور العقل والدين لم يحتمل رؤية جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها، فكيف أطاقه هؤلاء - هذا إن سلَّمنا أنهم رأوه أصلاً -؟!
قال الشيخ عمر الأشقر:
ولما كانت الملائكة أجساماً نورانيَّة لطيفة؛ فإن العباد لا يستطيعون رؤيتهم، خاصة أن الله لم يُعطِ أبصارنا القدرة على هذه الرؤية، ولم يرَ الملائكةَ في صُوَرهم الحقيقية من هذه الأمَّة إلا الرسول صلى الله عليه وسلَّم؛ فإنه رأى جبريل مرتين في صورته التي خلَقه الله عليها، وقد دلَّت النصوص على أن البشر يستطيعون رؤية الملائكة إذا تمثَّلت الملائكة في صورة البشر.
" عالَم الملائكة الأبرار " (ص 11) .
وقال أيضاً - في سياق إثبات بشرية الرسل والرد على من اقترح أن يكونوا من الملائكة -:
الرابع: صعوبة رؤية الملائكة، فالكفار عندما يقترحون رؤية الملائكة، وأن يكون الرسل إليهم ملائكة لا يدركون طبيعة الملائكة، ولا يعلمون مدى المشقة والعناء الذي سيلحق بهم من جراء ذلك.
فالاتصال بالملائكة ورؤيتهم أمر ليس بسهل، فالرسول صلى الله عليه وسلم مع كونه أفضل الخلق، وهو على جانب عظيم من القوة الجسميَّة والنفسيَّة عندما رأى جبريل على صورته أصابه هول عظيم ورجع إلى منزله يرجف فؤاده، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعاني من اتصال الوحي به شدّة، ولذلك قال في الردّ عليهم: (يومَ يروْنَ الملائكةَ لا بُشرى يومئذٍ للمُجرمين) الفرقان/22، ذلك أنَّ الكفار لا يرون الملائكة إلا حين الموت أو حين نزول العذاب، فلو قُدّر أنّهم رأوا الملائكة لكان ذلك اليوم يوم هلاكهم.
فكان إرسال الرسل من البشر ضروريّاً كي يتمكنوا من مخاطبتهم، والفقه عنهم، والفهم منهم، ولو بعث الله رسله إليهم من الملائكة لما أمكنهم ذلك (ومَا مَنَعَ النَّاس أنْ يؤمنوا إذ جاءَهُم الهُدى إلاّ أنْ قالوا أبَعَثَ اللهُ بشراً رسُولاً. قُلْ لو كان في الأرضِ ملائكةٌ يمشون مطمئنينَ لنزّلنا عليهم من السّماء ملكاً رسُولاً) الإسراء/94، 95، أما وأن الذين يسكنون الأرض بشر فرحمة الله وحكمته تقتضي أن يكون رسولهم من جنسهم (لَقَدْ مَنَّ اللهُ على المؤمنينَ إذْ بعثَ فيهم رسُولاً من أنفسِهِم) آل عمران/164.
وإذا كان البشر لا يستطيعون رؤية الملائكة والتلقي عنهم بيسر وسهولة فيقتضي هذا - لو شاء الله أن يرسل مَلكا رسولا إلى البشر - أن يجعله رجلا (ولَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لجعلناهُ رَجُلاً ولَلَبسْنا عليهم ما يلبِسون) الأنعام/9.
والتباس الأمر عليهم بسبب كونه في صورة رجل، فلا يستطيعون أن يتحققوا من كونه ملكاً، وإذا كان الأمر كذلك فلا فائدة من إرسال الرسل من الملائكة على هذا النحو، بل إرسالهم من الملائكة على هذا النحو لا يحقق الغرض المطلوب، لكون الرسول الملك لا يستطيع أن يحس بإحساس البشر وعواطفهم وانفعالاتهم وإن تشكل بأشكالهم.
" الرسل والرسالات " (72، 73) .
رابعاً:
وأما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة فهو من أقوال المخرفين من الصوفية، ولا أصل له في الشرع ولا في واقع الحال، وقد وقعت للصحابة رضي الله عنهم أمورٌ عظيمة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وكانوا في أمس الحاجة لوجوده بينهم، فَلِمَ لمْ يظهر لهم؟ ولم يروه وهو أحب الناس إليهم، وهم أحب الناس إليه؟!
وأما استدلال بعضهم بالحديث الذي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة) على إمكانية رؤية النبي صلى الله عليه وسم يقظة: فليس فيه ما يدل على ما قالوه، بل هذا فيه البشرى لمن رآه في المنام أن يراه في الجنة، وليس المعنى أنه يراه يقظة في الدنيا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع - يعني الرؤية - بعيني الرأس حقيقة.
" فتح الباري " (12 / 384) .
وقال النووي رحمه الله في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فسيراني في اليقظة) : فيه أقوال:
أحدها: أن يراد به أهل عصره، ومعناه: أن من رآه في النوم ولم يكن هاجر يوفقه الله للهجرة ورؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة عياناً.
وثانيها: أنه يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة؛ لأنه يراه في الآخرة جميع أمته.
وثالثها: أنه يراه في الآخرة رؤية خاصة في القرب منه وحصول شفاعته، ونحو ذلك.
" شرح مسلم " (15 / 26) .
ولا يتعارض ما ذكره النووي في القول الأول مع ما أنكره الحافظ ابن حجر؛ لأن النووي ذكر أنه يراد به أهل عصره صلى الله عليه وسلم، وما أنكره الحافظ إنما هو لمن زعم الرؤية حقيقة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو العباس القرطبي - ردّاً على من قال برؤيته صلى الله عليه وسلم يقظة -:
وهذا يدرك فساده بأوائل العقول، ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن يراه رائيان في آن واحد في مكانين، وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده ولا يبقى في قبره منه شيء، فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب؛ لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره.
نقله عنه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (12 / 384) .
وأيضاً لو كان صحيحاً أن أحداً يرى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لكان عداده في الصحابة ولاستمرت الصحبة إلى يوم القيامة.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني أن ابن أبى جمرة نقل عن جماعة من المتصوفة " أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى طريق تفريجها فجاء الأمر كذلك "! ثم تعقب الحافظ ذلك بقوله:
" وهذا مشكل جدّاً، ولو حمل على ظاهره: لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة، ويعكِّر عليه أن جمعاً جمّاً رأوه في المنام ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة، وخبر الصادق لا يتخلف.
" فتح الباري " (12 / 385) .
وفي رد علماء اللجنة الدائمة على عقيدة التيجاني قالوا:
ولم يثبت عن الخلفاء الراشدين ولا سائر الصحابة رضي الله عنهم أن أحداً منهم وهم خير الخلق بعد الأنبياء ادعى أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن التشريع قد أكمل في حياته صلى الله عليه وسلم، وأن الله قد أكمل للأمة دينها وأتم عليها نعمته قبل أن يتوفى رسوله صلى الله عليه وسلم إليه، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) المائدة/3، فلا شك أن ما زعمه أحمد التيجاني لنفسه من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة وأنه أخذ عنه الطريقة التيجانية يقظة مشافهة، وأنه عيَّن له الأوراد التي يذكر الله بها ويصلي على رسوله بها لاشك أن هذا من البهتان والضلال المبين.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (2 / 325، 326) .
وقالوا أيضاً:
فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما بلغ الرسالة وأكمل الله به دينه وأقام به الحجة على خلقه، وصلى عليه أصحابه رضي الله عنهم صلاة الجنازة، ودفنوه حيث مات في حجرة عائشة رضي الله عنها، وقام من بعده الخلفاء الراشدون، وقد جرى في أيامهم أحداث ووقائع فعالجوا ذلك باجتهادهم، ولم يرجعوا في شيء منها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن زعم بعد ذلك أنه رآه في اليقظة حيا وكلمه أو سمع منه شيئا قبل يوم البعث والنشور فزعمه باطل؛ لمخالفته النصوص والمشاهدة وسنة الله في خلقه، وليس في هذا الحديث دلالة على أنه سيرى ذاته في اليقظة في الحياة الدنيا؛ لأنه يحتمل أن المراد بأنه: فسيراني يوم القيامة، ويحتمل أن المراد: فسيرى تأويل رؤياه؛ لأن هذه الرؤيا صادقة بدليل ما جاء في الروايات الأخرى من قوله صلى الله عليه وسلم: " فقد رآني " الحديث، وقد يراه المؤمن في منامه رؤيا صادقة على صفته التي كان صلى الله عليه وسلم عليها أيام حياته الدنيوية.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (1 / 486، 487) .
وخلاصة ما سبق:
أنه لا يجوز لأحدٍ - بعد الأنبياء - أن يدَّعي رؤية الملائكة؛ فهم أجسام نورانية لم يجعل الله تعالى في مقدور البشر رؤيتهم إلا إن تشكلوا.
ولا يجوز لأحدٍ أن يدَّعي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، ولعل هذه الأوهام والخيالات كانت من بعض مَنْ ليس عنده علم شرعي ولا عقل ناضج فراح يتخيل ويتصور وجود ما لا حقيقة له.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/160)
حماية الملائكة للنبي صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هناك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول بأنه كان هناك جن يحرسون النبي صلى الله عليه وسلم عندما أرادت زوجة أبي لهب أن تؤذيه؟
أرجو أن تخبرني إذا كان هذا صحيحاً، وهل هناك أي حديث عن زوجة أبي لهب؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
1. إثبات أنّ أحدا من الجنّ كان يحمي النبي صلى الله عليه وسلم من زوجة أبي لهب يحتاج إلى دليل فعلى من قاله أن يأتي به ولعلّ الذي قال ذلك اختلط عليه الأمر لأنّ الذي ثبت حماية الملائكة - بأمر الله للنبي صلى الله عليه وسلم من زوجة أبي لهب كما سيأتي.
2. إن الله تعالى قد تكفّل بحفظ نبيه صلى الله عليه وسلم كما قال عزّ وجلّ (والله يعصمك من الناس) ومن حفظه لنبيه أنه سخر له من الملائكة من يحميه ويحرسه، وقد أخفته عن عيني زوجة أبي لهب فلم تره والدليل على ذلك ما جاء عن ابن عباس: " قال لما نزلت {تبت يدا أبي لهب} جاءت امرأة أبي لهب ورسول الله جالس ومعه أبو بكر فقال له أبو بكر: لو تنحيتَ لا تؤذيك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيحال بيني وبينها"، فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر فقالت يا أبا بكر هجانا صاحبك؟ فقال أبو بكر: لا ورب هذه البنيَّة ما ينطق بالشعر ولا يتفوه به، فقالت: إنك لمصدَّق، فلما ولَّت قال أبو بكر رحمة الله عليه: ما رأتْك؟ قال: "لا ما زال مَلَكٌ يسترني حتى ولت ".
رواه البزار في مسنده (1 / 68) ، وقال: وهذا الحديث حسن الإسناد. وكذا حسَّنه ابن حجر في " فتح الباري " (8 / 958) .
ب. ومن الأحاديث الواردة فيها قبحها الله:
= عن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة فقالت: يا محمد! إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركَك لم أره قَرِبَك منذ ليلتين أو ثلاثة! فأنزل الله عز وجل {والضحى. والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما قلى} ".
رواه البخاري (4667) ومسلم (1797) .
قال الحافظ ابن حجر: قوله: (فجاءت امرأة..) هي: أم جميل بنت حرب امرأة أبي لهب، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب قيام الليل. أ. هـ " فتح الباري " (8 / 921) .
ومن الأدلّة أيضا على حماية الملائكة - بأمر الله - للنبي صلى الله عليه وسلم في حادثة أخرى مع أبي جهل ما رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أَبُو جَهْلٍ هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ - أي يسجد كما كان يصلي عند الكعبة - بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ قَالَ فَقِيلَ نَعَمْ فَقَالَ وَاللاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ أَوْ لأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ قَالَ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ قَالَ فَمَافَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ قَالَ فَقِيلَ لَهُ مَا لَكَ؟ فَقَالَ إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلا وَأَجْنِحَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ دَنَا مِنِّي لاخْتَطَفَتْهُ الْمَلائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.. (كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى - يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ - أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ - يَعْنِي قَوْمَهُ - سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلا لا تُطِعْهُ.. سورة القلم) .. صحيح مسلم 2797، والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/161)
معنى " الملأ الأعلى "
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا طالبة غير مسلمة أدرس حالياً التقاليد الإسلامية وأكتب بحثاً وكان من الكلمات التي قابلتني كثيراً كلمة "الملأ الأعلى" ولا أعرف ماذا تعني. فهل يمكنك أن تساعدني في فهم معناها ولك جزيل الشكر.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
وردت كلمة الملأ الأعلى في القرآن والسنة
فقال الله تعالى في سورة ص: (مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلأِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلاّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير الآية وقوله: {ما كان لي من علم بالملإ الأعلى} يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لمشركي قومك: {ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون} في شأن آدم من قبل أن يوحي إلي ربي فيعلمني ذلك, يقول: ففي إخباري لكم عن ذلك دليل واضح على أن هذا القرآن وحي من الله وتنزيل من عنده, لأنكم تعلمون أن علم ذلك لم يكن عندي قبل نزول هذا القرآن, ولا هو مما شاهدته فعاينته, ولكني علمت ذلك بإخبار الله إياي به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
.. عن ابن عباس , قوله: {ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون} قال: الملأ الأعلى: الملائكة حين شووروا في خلق آدم, فاختصموا فيه, وقالوا: لا تجعل في الأرض خليفة.
عن السدي {بالملإ الأعلى إذ يختصمون} هو: {إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30]
عن قتادة, قوله: {ما كان لي من علم بالملإ الأعلى} قال: هم الملائكة, كانت خصومتهم في شأن آدم حين قال ربك للملائكة: {إني خالق بشرا من طين} ..
وأما من السنة فقد جاء عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (في كلام الله له في المنام) يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْملأُ الأَعْلَى.. قَالَ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَالْكَفَّارَاتُ الْمُكْثُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ وَالْمَشْيُ عَلَى الأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكَارِهِ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ
الترمذي 3157 وهو في صحيح الجامع 59
قال المباركفوري رحمه الله في شرح الحديث (فيم) أي في أي شيء (يختصم) أي يبحث (الملأ الأعلى) أي الملائكة المقربون، والملأ هم الأشراف الذين يملئون المجالس والصدور عظمة وإجلالا ووصفوا بالأعلى إما لعلو مكانهم وإما لعلو مكانتهم عند الله تعالى. واختصامهم إما عبارة عن تبادرهم إلى إثبات تلك الأعمال والصعود بها إلى السماء وإما عن تقاولهم في فضلها وشرفها وإما عن اغتباطهم الناس بتلك الفضائل.. وإنما سماه مخاصمة لأنه ورد مورد سؤال وجواب وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه. والله تعالى أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/162)
لا نجزم بأن اسم ملك الموت عزرائيل
[السُّؤَالُ]
ـ[هل ورد ما يدل على أن ملك الموت اسمه عزرائيل؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اشتهر أن اسم ملك الموت عزرائيل، إلا أنه لم ترد تسمية ملك الموت بهذا الاسم في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية الصحيحة، وإنما ورد ذلك في بعض الآثار والتي قد تكون من الإسرائيليات.
وعلى هذا، لا ينبغي الجزم بالنفي ولا بالإثبات، فلا نثبت أن اسم ملك الموت عزرائيل، ولا ننفي ذلك، بل نفوض الأمر إلى الله تعالى ونسميه بما سماه الله تعالى به "مللك الموت" قال الله تعالى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) السجدة /11.
قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/49) :
وأما ملك الموت فليس بمصرح باسمه في القرآن، ولا في الأحاديث الصحاح، وقد جاء تسميته في بعض الآثار بعزرائيل، والله أعلم.
وقد قال الله تعالى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) السجدة /11.
وقال السندي: لم يرد في تسميته حديث مرفوع اهـ.
وقال المناوي في "فيض القدير" (3/32) بعد أن ذكر أن ملك الموت اشتهر أن اسمه عزرائيل، قال:
ولم أقف على تسميته بذلك في الخبر اهـ.
وقال الشيخ الألباني في تعليقه على قول الطحاوي:
" ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين ". قال رحمه الله:
قلت: هذا هو اسمه في القرآن، وأما تسميته بـ "عزرائيل" كما هو الشائع بين الناس فلا أصل له، وإنما هو من الإسرائيليات اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين:
(ملك الموت) : وقد اشتهر أن اسمه (عزرائيل) ، لكنه لم يصح، إنما ورد هذا في آثار إسرائيلية لا توجب أن نؤمن بهذا الاسم، فنسمي من وُكِّل بالموت بـ (ملك الموت) كما سماه الله عز وجل في قوله: (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون) اهـ.
"فتاوى ابن عثيمين" (3/161) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/163)
باحث غير مسلم يسأل عن دليل تكليم جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[أدرس في كلية في الولايات المتحدة. وأطرح هذا السؤال عليك لأستفيد منه في بحثي (وذكرت اسم المادة) .
ما هو الدليل عندكم على أن جبريل كلّم محمدا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لقد كلّم جبريل عليه السلام محمداً صلى الله عليه وسلم دون حجاب، وقد رآه صلى الله عليه وسلم على صورته الحقيقية، وقد ثبت هذا في كثير من الآيات والأحاديث:
1. قوله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) النجم / 1 - 6.
وقد ذكر المفسرون أن المقصود بقوله تعالى: (علّمه شديد القوى) هو جبريل عليه السلام، علّم محمداً صلى الله عليه وسلم الوحي. ومن صور الوحي: الكلام المباشر بين المَلَك والنبي؛ فدلّ هذا على أن جبريل عليه السلام كلّم محمداً صلى الله عليه وسلم. ومما يؤيد هذه الدلالة قوله عز وجل: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الشعراء / 192 - 195. وقوله سبحانه: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) البقرة / 97.
2. وكذلك حادثة بدء الوحي المشهورة، عندما كان عليه الصلاة والسلام معتزلاً في غار حراء، إذ أتاه جبريل عليه السلام، وأمره أن يقرأ. عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: " أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا. حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ.. " رواه البخاري برقم 3، ومسلم برقم 231.
3. وعن عائشة رضي الله عنها: أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ.. " رواه البخاري برقم 2.
4. حديث جبريل الطويل، عندما جاء متمثلاً على شكل رجل غريب، وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والرسول صلى الله عليه وسلم يجيبه، وهو يعلم أنه جبريل، فعندما فرغ من أسئلته وذهب أخبر النبي الصحابة أن هذا جبريل أتاهم يعلمهم دينهم. انظر صحيح البخاري برقم 48، ومسلم برقم 9.
5. وما جاء في ذكر حادثة الإسراء والمعراج، فقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل جبريل وجبريل يجيبه. انظر صحيح البخاري برقم 2968، ومسلم برقم 238، والأحاديث التي تروي قصة الإسراء والمعراج.
6. وأيضاً الأحاديث الكثيرة التي يقول فيها عليه الصلاة والسلام: " أتاني جبريل فقال.. "، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ. قُلْتُ: وَإِنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ " رواه البخاري برقم 2213، ومسلم برقم 137.
وعندما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق هو وأصحابه ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل وقد عَصَبَ رَأْسَهُ الْغُبَارُ، فقال: " وَضَعْتَ السِّلاحَ! فَوَ اللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَيْنَ؟ قَالَ: هَاهُنَا - وَأَوْمَأَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ - فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رواه البخاري برقم 2602، ومسلم برقم 3315.
ونحو ذلك من الأدلة، والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/164)
تتعلم اللغة الإنجليزية عن طريق دراسة الإنجيل
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا طالب أدرس في بلاد أجنبية، في هذه البلاد يقدمون بعض الخدمات لأسر الطلاب مثل دروس تعليم اللغة الإنجليزية وزوجتي تحضر هذه الدروس من أجل تعلم اللغة الإنجليزية والكتاب المقرر لهذه الدروس هو الإنجيل. سؤالي هو: ما هو حكم دراسة الإنجيل بهدف تعلم اللغة الإنجليزية؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا حرج على المسلم في تعلم اللغات الأجنبية، بل قد يكون ذلك مطلوباً ويثاب عليه إذا قصد تعلم لغتهم من أجل دعوتهم إلى الإسلام، والعمل على هدايتهم إلى الحق الذي ضلوا عنه، أو يقصد الانتفاع بما عندهم من علوم لا توجد عند المسلمين حتى يتمكن من نفع المسلمين بهذه العلوم.
ولكن الطريقة التي ذكرتها نرى أنها لا تجوز، ونرى أن هؤلاء يمكرون بالمسلمين، ليصرفوهم عن دينهم، فلن يكون هذا الدرس درساً في تعلم اللغة، وإنما سيكون درساً في التنصير.
ونحن – المسلمين – نعتقد في الإنجيل أنه قد حُرِّف، وتلاعب به علماء النصارى، فصار يحتوي على أباطيل وخرافات لا يمكن لصاحب عقل سليم أن يؤمن بها أو يصدقها.
والقراءة في هذه الكتب المحرفة لا تجوز، إلا لمن عنده من العلم الشرعي ما يستطيع أن يميز بين ما فيها من حق وباطل، وقرأها بقصد الرد على أهلها، وإقناعهم بما في هذه الكتب من أباطيل.
ولهذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتاباً أخذه من بعض أهل الكتاب، فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قَالَ: (أَمُتَهَوِّكُونَ [أي: متحيرون] فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي) رواه الإمام أحمد (14736) وحسنه الألباني في "الإرواء" (6/34) .
وقد بَيَّن الله تعالى لنا مكر هؤلاء، وأنهم يبذلون ما يستطيعون لإخراج المسلمين عن دينهم، فقال تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) البقرة/217.
قال الشيخ السعدي رحمه الله:
"أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين، وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم، وإنما غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم، ويكونوا كفارا بعد إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب السعير، فهم باذلون قدرتهم في ذلك، ساعون بما أمكنهم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وهذا الوصف عام لكل الكفار، لا يزالون يقاتلون غيرهم، حتى يردوهم عن دينهم، وخصوصا أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، الذين بذلوا الجمعيات، ونشروا الدعاة، وبثوا الأطباء، وبنوا المدارس، لجذب الأمم إلى دينهم، وتدخيلهم عليهم كل ما يمكنهم من الشبه، التي تشككهم في دينهم.
ولكن المرجو من الله تعالى، الذي مَنّ على المؤمنين بالإسلام، واختار لهم دينه القيم، وأكمل لهم دينه، أن يتم عليهم نعمته بالقيام به أتم القيام، وأن يخذل كل من أراد أن يطفئ نوره، ويجعل كيدهم في نحورهم، وينصر دينه، ويعلي كلمته.
وتكون هذه الآية صادقة على هؤلاء الموجودين من الكفار، كما صدقت على من قبلهم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) " انتهى.
"تفسير السعدي" (ص 97) .
فالواجب عليك منع زوجتك من الذهاب إلى هؤلاء، وعدم مطاوعتهم فيما هم عليه من الخبث، والواجب تحذير كل مسلم ومسلمة ممن قد يروج عليه تضليل هؤلاء ومكرهم، وكشف عوار تدبيرهم وتخطيطهم.
وتعليم اللغة الانجليزية ممكن بطرق كثيرة ميسورة، لا شبهة فيها، ولا خلط، ولا تضليل.
نسأل الله تعالى أن يرد كيد هؤلاء في نحرهم، ويبصر المسلمين بمخططاتهم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/165)
حكم الاطلاع على الإنجيل والتوراة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز لي وأنا مسلم أن أطَّلع على الإنجيل وأقرأ فيه من باب الاطلاع فقط، وليس لأي غرض آخر؟ وهل الإيمان بالكتب السماوية يعني الإيمان بأنها من عند الله أو نؤمن بما جاء فيها؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"على كل مسلم أن يؤمن بها أنها من عند الله؛ التوراة والإنجيل والزبور، فيؤمن أن الله أنزل الكتب على الأنبياء، وأنزل عليهم صحفاً فيها الأمر والنهي، والوعظ والتذكير، والإخبار عن الأمور الماضية، وعن أمور الجنة والنار ونحو ذلك، لكن ليس له أن يستعملها؛ لأنها دخلها التحريف والتبديل والتغيير، فليس له أن يقتني التوراة أو الإنجيل أو الزبور أو يقرأ فيها؛ لأن في هذا خطراً، لأنه ربما كذَّب بحق، أو صدَّق بباطل؛ لأن هذه الكتب قد حُرِّفت وغُيِّرت، ودخلها من أولئك اليهود والنصارى وغيرهم التبديلُ والتحريفُ والتقديمُ والتأخيرُ، وقد أغنانا الله عنها بكتابنا العظيم القرآن الكريم.
وقد رُوي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رأى في يد عمر شيئاً من التوراة فغضب، وقال: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ لقد جئتُكم بها بيضاء نقيةً، لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) عليه الصلاة والسلام.
والمقصود: أننا ننصحك وننصح غيرك ألا تأخذوا منها شيئاً، لا من التوراة ولا من الزبور، ولا من الإنجيل، ولا تقتنوا منها شيئاً، ولا تقرأوا فيها شيئاً، بل إذا وُجِد عندكم شيء فادفنوه أو احرقوه، وما دخلها من التغيير والتبديل فهو منكر وباطل، فالواجب على المؤمن أن يتحرز من ذلك، وأن يحذر أن يطلع عليها، فربما صدَّق بباطل، وربما كذَّب حقًّا، فطريق السلامة منها إما بدفنها وإما بحرقها.
وقد يجوز للعالم البصير أن ينظر فيها للرد على خصوم الإسلام من اليهود والنصارى، كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالتوراة لما أنكر اليهودُ الرجم حتى اطلع عليها عليه الصلاة والسلام، واعترفوا بعد ذلك.
فالمقصود: أن العلماء العارفين بالشريعة المحمدية قد يحتاجون إلى الاطلاع على التوراة أو الإنجيل أو الزبور لقصد إسلامي، كالرد على أعداء الله، ولبيان فضل القرآن وما فيه من الحق والهدى، أما العامة وأشباه العامة فليس لهم شيء من هذا، بل متى وُجد عندهم شيء من التوراة أو الإنجيل أو الزبور، فالواجب دفنها في محل طيب أو إحراقها حتى لا يضل بها أحد" انتهى.
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله
"فتاوى نور على الدرب" (1/9، 10) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/166)
ما هي صحف إبراهيم عليه السلام؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي صحف إبراهيم عليه السلام؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
صحف إبراهيم عليه السلام هي الصحف التي أنزلها الله على نبيه إبراهيم عليه السلام؛ غالب ما جاء فيها ـ كما قال أهل العلم ـ مواعظ وحكم وعبر.
وقد ذكرها ربنا عز وجل في القرآن الكريم في عدة مواضع، منها المجمل، ومنها المبيَّن:
أما المواضع المجملة ففي قوله تعالى:
(قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) البقرة/136
وقوله عز وجل:
(قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) آل عمران/84.
وأما المواضع الصريحة المبينة ففي سورة النجم، حيث يقول الله تعالى:
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى. وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى. أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى. أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى. وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى. أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى. ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) إلى آخر السورة.
وفي سورة الأعلى، حيث قال سبحانه:
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى. بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى. إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) الأعلى/14-19.
يقول ابن جرير الطبري رحمه الله:
" وأما الصحف: فإنها جمع صحيفة، وإنما عُنِي بها: كتب إبراهيم وموسى " انتهى.
" جامع البيان " (24/377)
يقول العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله:
" (وما أنزل إلى إبراهيم) لم يبين هنا هذا الذي أنزل إلى إبراهيم، ولكنه بيَّن في سورة الأعلى أنه صحف، وأن من جملة ما في تلك الصحف: (بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى) وذلك في قوله: (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى) " انتهى.
" أضواء البيان " (1/45)
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن تاريخ نزوله، كما جاء عن وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ) رواه أحمد في "المسند" (4/107) وحسنه الألباني في " السلسلة الصحيحة " (1575)
وقد وقع في بعض الأحاديث الضعيفة، وبعض الآثار عن التابعين نقولٌ عن صحف إبراهيم، يغلب على الظن أنها منقولة عن كتب بني إسرائيل، وهي – إن صحت - تدل على أن موضوع صحف إبراهيم الرئيس هو الحكمة والموعظة.
يقول داود بن هلال النصيبي:
(مكتوب في صحف إبراهيم عليه السلام:
يا دنيا ما أهونك على الأبرار الذين تصنعتِ لهم وتزينتِ لهم، إني قد قذفت في قلوبهم بغضك والصدود عنك، ما خلقت خلقا أهون عليَّ منك، كل شأنك صغير، وإلى الفناء تصيرين، قضيت عليك يوم خلقتُ الخلق ألا تدومي لأحد، ولا يدوم لك أحد، وإن بخل بك صاحبك وشح عليك، طوبى للأبرار الذين أطلعوني من قلوبهم على الرضا، وأطلعوني من ضميرهم على الصدق والاستقامة، طوبى لهم، ما لهم عندي من الجزاء إذا وفدوا إلي من قبورهم إلا النور يسعى أمامهم، والملائكة حافون بهم حتى أبلغ بهم ما يرجون من رحمتي)
" الزهد " ابن أبي الدنيا (رقم/200)
جاء في " الموسوعة الفقهية " (15/167) :
" وأما صحف إبراهيم وداود فقد كانت مواعظ وأمثالا لا أحكام فيها، فلم يثبت لها حكم الكتب المشتملة على أحكام " انتهى.
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" صحف إبراهيم صحف أنزلها الله تعالى على إبراهيم فيها المواعظ والأحكام " انتهى.
" لقاءات الباب المفتوح " (لقاء رقم/176)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/167)
عقيدة السلف في القرآن الكريم
[السُّؤَالُ]
ـ[نود أن نعرف عقيدة السلف في القرآن الكريم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
" عقيدة السلف في القرآن الكريم كعقيدتهم في سائر أسماء الله وصفاته، وهي عقيدة مبنية على ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلنا يعلم أن الله سبحانه وتعالى وصف القرآن الكريم بأنه كلامه، وأنه منزل من عنده، قال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) التوبة/6، والمراد بلا ريب بكلام الله هنا القرآن الكريم، وقال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) النمل/76، فالقرآن كلام الله تعالى لفظاً ومعنىً، تكلم الله به حقيقة، وألقاه إلى جبريل الأمين، ثم نزل به جبريل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين.
ويعتقد السلف أن القرآن منزل، نزله الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم منجماً، أي: مفرقاً، في ثلاث وعشرين سنة حسب ما تقتضيه حكمة الله عز وجل.
ثم إن النزول يكون ابتدائياً، ويكون سببياً، بمعنى: أن بعضه ينزل لسبب معين اقتضى نزوله، وبعضه ينزل بغير سبب، وبعضه ينزل في حكاية حال مضت للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبعضه ينزل في أحكام شرعية ابتدائية على حسب ما ذكره أهل العلم في هذا الباب.
ثم إن السلف يقولون: إن القرآن من عند الله ابتداءً وإليه يعود في آخر الزمان، هذا قول السلف في القرآن الكريم.
ولا يخفى علينا أن الله تعالى وصف القرآن الكريم بأوصاف عظيمة، وصفه بأنه حكيم، وبأنه كريم، وبأنه عظيم، وبأنه مجيد، وهذه الأوصاف التي وصف الله بها كلامه تكون لمن تمسك بهذا الكتاب، وعمل به ظاهراً وباطناً، فإن الله تعالى يجعل له من المجد، والعظمة، والحكمة، والعزة، والسلطان، ما لا يكون لمن لم يتمسك بكتاب الله عز وجل، ولهذا أدعو من هذا المنبر جميع المسلمين حكاما ًومحكومين، علماء وعامة إلى التمسك بكتاب الله عز وجل ظاهراً وباطناً، حتى تكون لهم العزة، والسعادة، والمجد، والظهور في مشارق الأرض ومغاربها " انتهى.
فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
"فتاوى كبار علماء الأمة" ص (45) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/168)
القرآن الكريم هل هو من أنواع الشِّعْر أم من النثر أم هو شيء آخر؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن القول بأن القرآن شكل من أشكال الشعر، مع العلم أنه يقال إن في القرآن مذكور أنه ليس بقول شاعر؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
ليس القرآن شعراً، ولم يكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم شاعراً، بل وما ينبغي له، قال تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ. وَمَا لا تُبْصِرُونَ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ. وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الحاقة/38-43، وقال تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) يس/69.
ثانياً:
كلام العرب لا يخرج عن كونه شعراً ونثراً، ولا يعرف العرب غيرهما، وما يذكره بعض العلماء من وجود قسم ثالث وهو " السجع ": فهو داخل في النثر، وليس قسماً مستقلاًّ، حتى جاء الله تعالى بالقرآن، وأنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فبهرت كلماته عقول العرب، وأخذ أسلوبه بألبابهم، فتركهم في حيرة، فلا هو بالشعر الذي ينظمونه، ولا هو بالنثر الذي يقولونه، ومن قال منهم إنه " شعر ": فهو مكابر، كاذب، يعرف نفسه أنه غير صادق، أو أنه لا يعرف الشعر، ولو كان شعراً فما الذي منعهم من النظم على منواله؟! .
ولذلك رأينا اعتراف الصادقين منهم أن القرآن ليس بشعر، ومن هؤلاء المعترفين بذلك:
1. أبو الوليد عتبة بن ربيعة:
روى ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي قال: حُدثت أن عتبة بن ربيعة - وكان سيِّداً -، قال يوماً - وهو في نادي قريش، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده -: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه، وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنَّا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي اللَّه عنه، ورأوا أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يكثرون، ويزيدون، فقالوا: بلى، يا أبا الوليد قم إليه، فكلمه، فقام إليه عتبة، حتى جلس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن أخي إنك منَّا حيث قد علمت من السطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها، قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد أسمع، قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً: جمعنا لك من أموالنا كيْ تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً: سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً: ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رِئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك: طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه - أو كما قال له - حتى إذا فرغ عتبة، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: أفعل، فقال: بسم اللَّه الرحمن الرحيم (حم. تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ. كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ) فصلت/ 1 – 5، ثم مضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: قد سمعتَ يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف باللَّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً واللَّه ما سمعت مثله قط، واللَّه ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو اللَّه ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب: فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب: فمُلكه ملككم، وعزُّه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك واللَّه يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
رواه البيهقي في " دلائل النبوة " (2 / 205) ، وأبو نعيم في " الدلائل " (1 / 304) وحسَّنه الألباني في التعليق على " فقه السيرة " للغزالي (ص 113) .
2. الشاعر أنيس الغفاري:
قد روى مسلم (2473) من حديث أبي ذر رضي الله عنه: قصة إسلامه وإسلام أنيس أخيه، وفيها قال: (فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة فاكفني - أي: ابق مع أمي - فانطلق أنيس، حتى أتى مكة، فراث علىَّ، ثم جاء، فقلت ما صنعت؟ قال: لقيت رجلا بمكة على دينك، يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر وكان أنيس أحد الشعراء.
قال أنيس لقد سمعت قول الكهة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر - (أي على أنواع الشعر وطرقه وأوزانه، واحدها: قَرْء) - فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر - أي: إنه ليس بشعر - والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون ... ) .
قال أبو العباس القرطبي – رحمه الله -:
ومعنى الكلام: أنه لما اعتبر القرآن بأنواع الشعر: تبيَّن له أنه ليس من أنواعه، ثم قطع: بأنه لا يصح لأحد أن يقول: إنه شِعر.
" المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم " (6 / 394) .
ثالثاً:
إذا كان القرآن ليس شعراً، كما نفاه الله تعالى عنه، ونفاه عنه الشعراء الصادقون، فهل هو من النثر؟ والجواب: لا، ولا هو من النثر، ومن تأمل في كتاب الله تعالى حق التأمل، وكان له ذوق لغوي وبلاغي: علم أنه ليس من النثر، بل هو قسم ثالث من أقسام الكلام في لغة العرب، وقد اعترف بهذا كبار الأدباء قديماً وحديثاً، ونذكر هنا شهادة رجل من الأدباء، وله موقف معروف من الشرع، وهو " طه حسين " وشهادته هنا مهمة؛ لأنه من أهل الاختصاص من جهة، ومن جهة أخرى فهو لن يجامل أحداً!
ومما قاله طه حسين:
ولكنكم تعلمون أن القرآن ليس نثراً، كما أنه ليس شعراً، إنما هو قرآن، ولا يمكن أن يسمَّى بغير هذا الاسم، ليس شعراً، وهذا وضع، فهو لم يتقيد بقيود الشعر، وليس نثراً؛ لأنه مقيّد بقيود خاصة به، لا توجد في غيره، فهو ليس شعراً، ولا نثراً، ولكنه: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) ، فلسنا نستطيع أن نقول: إنه نثر، كما نص على أنه ليس شعراً.
كان وحيدا في بابه، لم يكن قبله، ولم يكن بعده مثله، ولم يحاول أحد أن يأتي بمثله، وتحدى الناس أن يحاكوه، وأنذرهم أن لن يجدوا إلى ذلك سبيلاً ... .
" من حديث الشعر والنثر " - الأعمال الكاملة – (5 / 577) بواسطة مقال " حول إعجاز القرآن الكريم، الابتداء بالأسلوب " (من ص 75 - 84) للدكتور علي حسن العماري، نشر في مجلة " الجامعة الإسلامية " العدد 24،، ربيع الثاني 1394هـ.
وهذا المقال نفيس، وفيه بيان المسألة بوضوح وجلاء، ومما قاله الدكتور الفاضل فيه:
فمشركو العرب ادَّعوا أن القرآن شعر، وادعوا أنه كهانة، ومعنى هذا: أن شبه القرآن عندهم بالشعر، وبكلام الكهان هو الذي يمكن أن يذيعوه، وهم حريصون على أن يقولوا ما يمكن أن يُصدّقوا فيه، فهم - بذلك - يقرون أنه ليس كسائر الكلام، وإنما هو نوع خاص منه، وقد نفى بعض فصحائهم أن يكون القرآن شعراً، أو أن يكون قول كاهن، كما نفى القرآن الكريم ذلك، فثبت أن القرآن في أسلوبه وطريقة أدائه ومبناه الكلي: مخالف لكلام العرب، ومتميز عنه، وإن كانت ألفاظه ألفاظهم، وتراكيبه تراكيبهم.
وقال:
ذكر " عيسى بن علي الرماني " (متوفى 386 هـ) في رسالته " النكت في إعجاز القرآن " أن القرآن جاء بأسلوب جديد حيث قال: " وأما نقض العادة: فإن العادة كانت جارية بضروب من أنواع الكلام معروفة: منها الشعر، ومنها السجع، ومنها الخطب، ومنها الرسائل، ومنها المنثور الذي يدور بين الناس في الحديث، فأتى القرآن بطريقة مفردة خارجة عن العادة لها منزلة في الحسن، تفوق كل طريقة " انتهى.
وقال الدكتور الفاضل:
وسار على هذا المنهج أبو بكر الباقلاني، فأطال القول في هذا المعنى، ومن ذلك قوله: " إنه نظم خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلامهم، ومباين لأساليب خطابهم، ومن ادعى ذلك: لم يكن له بدٌّ من أن يصحح أنه ليس من قبيل الشعر، ولا من قبيل السجع، ولا الكلام الموزون غير المقفى؛ لأن قوماً من كفار قريش ادعوا أنه شعر، ومن الملحدة من يزعم أن فيه شعراً، ومن أهل الملة من يقول: إنه كلام مسجع، إلا أنه أفصح مما قد اعتادوه من أسجاعهم، ومنهم من يدعي أنه كلام موزون، فلا يخرج بذلك عما يتعارفونه من الخطاب " انتهى.
فتبين مما سبق أن القرآن كلام الله تعالى، أحكم آياته، وفصَّلها، وبيَّنها، بكلام عربي مبين، وليس هو على طريقة ما عرفه العرب من الشعر، والنثر، بل هو قرآن، قسم خاص، لا يشبه الشعر والنثر، ولا يشبهانه.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/169)
حقيقة الإيمان بالكتب
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى الإيمان بالكتب؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
وبعد: فالإيمان بالكتب يتضمن أربعة أمور:
الأول: التصديق الجازم بأن جميعها منزَّل من عند الله، وأن الله تكلم بها حقيقة فمنها المسموع منه تعالى من وراء حجاب بدون واسطة الرسول الملكي، ومنها ما بلغه الرسول الملكي إلى الرسول البشري، ومنها ما كتبه الله تعالى بيده كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) الشورى/51 وقال تعالى: (وكلم الله موسى تكليما) النساء/164
وقال تعالى في شأن التوراة: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) الأعراف/145.
الثاني: ما ذكره الله من هذه الكتب تفصيلا وجب الإيمان به تفصيلا وهي الكتب التي سماها الله في القرآن وهي (القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى) .
وما ذكر منها إجمالا وجب علينا الإيمان به إجمالا فنقول فيه ما أمر الله به رسوله: (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب) الشورى/15.
الثالث: تصديق ما صح من أخبارها، كأخبار القرآن، وأخبار ما لم يُبَدل أو يُحَرف من الكتب السابقة.
الرابع: الإيمان بأن الله أنزل القرآن حاكما على هذه الكتب ومصدقا لها كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) المائدة/48، قال أهل التفسير: مهيمنا: مؤتمنا وشاهدا على ما قبله من الكتب، ومصدقا لها يعني: يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، ويحكم عليها بنسخ ـ أي رفع وإزالة ـ أحكام سابقة، أو تقرير وتشريع أحكام جديدة؛ ولهذا يخضع له كل متمسك بالكتب المتقدمة ممن لم ينقلب على عقبيه كما قال تبارك وتعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُون. وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) القصص/52:53.
- وأن الواجب على جميع الأمة اتباع القرآن ظاهراً وباطناً والتمسك به، والقيام بحقه كما قال تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا) الأنعام/155
ومعنى التمسك بالكتاب والقيام بحقه: إحلال حلاله، وتحريم حرامه، والانقياد لأوامره والانزجار بزوا جره والاعتبار بأمثاله، والاتعاظ بقصصه، والعلم بمحكمه، والتسليم بمتشابهه والوقوف عند حدوده والذب عنه مع حفظه وتلاوته وتدبر آياته والقيام به آناء الليل والنهار، والنصيحة له بكل معانيها، والدعوة إلى ذلك على بصيرة.
وهذا الإيمان يثمر للعبد ثمرات جليلة أهمها:
1- العلم بعناية الله بعباده حيث أنزل لكل قوم كتابا يهديهم به.
2- العلم بحكمة الله تعالى في شرعه حيث شرع لكل قوم ما يناسب أحوالهم كما قال الله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)
3- القيام بواجب شكر الله على هذه النعمة العظيمة.
4- أهمية العناية بالقرآن العظيم، بقراءته وتدبره وتفهم معانيه والعمل به. والله أعلم.
انظر (أعلام السنة المنشورة 90 – 93) و (شرح الأصول الثلاثة للشيخ ابن عثيمين 91، 92) .
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(1/170)
الحكمة من وقوع التحريف في الإنجيل
[السُّؤَالُ]
ـ[لم سمح الله سبحانه وتعالى بتحريف الإنجيل، مع أنه سبحانه قادر على حفظه؟ وما هي التعاليم التي اتبعها المسلمون قبل مجيء النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله:
أولا:
قد وكَّل الله تعالى حفظ التوراة والإنجيل إلى علمائهم ورهبانهم، بدليل قوله: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء) المائدة/44.
ولم يتكفل سبحانه وتعالى بحفظه كما تكفل بحفظ القرآن، وفي ذلك بعض الحِكَم:
1. أراد سبحانه وتعالى أن يبقى القرآن الكريم هو الكتاب الخالد، والشريعة الباقية إلى يوم القيامة، قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) المائدة/48، فلم تكن ثمة حاجة لحفظ الكتب السابقة وتخليدها، وخاصة أن عهد القرآن قريب من عهد الإنجيل، فليس بينهما سوى ستمائة عام.
2. وليكون ذلك فتنة واختباراً للذين أوتوا الكتاب هل يقومون بدورهم في حفظ الكتاب؟ وهل يؤمنون بما جاء فيه؟ وهل يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، أم يصروا على عنادهم، فيقوموا بالتحريف والكتمان والتزوير؟!
3. وفي ذلك بلاء أيضا لكل أتباع الديانة النصرانية إلى يوم القيامة، وهم يرون كتابهم الذي يؤمنون به لم يسلم من يد التحريف أو التشكيك أو الضياع، ويرون كتاب خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم محفوظا متواتراً لا يشك أحد في صحته، فيكون ذلك داعيا لهم إلى الإيمان بالكتاب المبين - القرآن الكريم -.
ثانيا:
كان الناس في الجاهلية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم على الشرك والوثنية، ولم يكن لأغلبهم دين متبع، ولا شريعة محترمة، اللهم إلا بعض من اتبعوا شريعة المسيح عليه السلام، مثل ورقة بن نوفل، وبعض من كان حنيفا على دين إبراهيم، يجتنب الشرك والأوثان والخمر والفواحش ويسجد لله الواحد رب العالمين، مثل زيد بن عمرو بن نفيل الذي صح في البخاري (3614) أنه قال: (إِنِّي لَا آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ وَلَا آكُلُ إِلَّا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وكان يقول أيضا: (يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ! وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي. وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: لَا تَقْتُلْهَا، أَنَا أَكْفِيكَهَا مَئُونَتَهَا، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا: إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ، وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا) رواه البخاري (3616) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/171)
هل الإنجيل المكتوب بالآرامية موجود اليوم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الإنجيل الأصلي الذي باللغة الآرامية موجود هذا الزمان وأين؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
اختلف الباحثون والمتخصصون في علوم الديانات والتاريخ القديم في اللغة التي كان يتحدث بها الرسول الكريم عيسى بن مريم عليه السلام.
" ويجمع الباحثون أن فلسطين زمن بعثة عيسى كانت بمثابة لوحة فسيفسائية، وأن سكانها كانوا خليطا من كل أمة ولسان، وكانوا يتكلمون بدرجات متفاوتة: العبرانية، والآرامية بلهجاتها، والإغريقية، واللاتينية.
ولكن الاختلاف يقوم بينهم حين يسعون إلى تلمس الحدود الجغرافية لكل واحدة من تلك اللغات، وحين يريدون حصر الخصائص المميزة لتلك اللغات، وتحديد نسبة تأثر بعضها ببعض،
ونحن حين نقرأ سيرة عيسى في الأناجيل الأربعة نجده يخاطب فئات مختلفة من الناس:
فقد خاطب عامة الناس من مختلف المدائن والبوادي، وخاطب أعضاء المجلس الأعلى، ومعلمي الشريعة، والقائمين على تسيير الهيكل وإدارة الشؤون الدينية اليهودية، كما خاطب الحاكم الروماني لفلسطين وكانت لغته اللاتينية.
وفي كلمات المسيح المنسوبة إليه في الإنجيل كلمات آرامية:
" إيلي إيلي لما شبقتني؟! أي إلهي إلهي لماذا تركتني؟! (إنجيل متى 27 / 46) .
" وأمسك بيد الصبية وقال لها: " طليثا، قومي! " الذي تفسيره: يا صبية، لك أقول: قومي! (إنجيل مرقص 5 / 41) .
وفيه كلمات عبرية:
" قال لها يسوع: " يا مريم " فالتفتت تلك وقالت له: " رَبُّونِي "، الذي تفسيره: يا معلم " (إنجيل يوحنا 20 / 17) .
" وكان يخاطب ويباحث اليونانيين " (أعمال الرسل 9 / 29) وظاهره أن المباحثة كانت بلغتهم، ولاختلاف هذه الشواهد كان الخلاف شديدا بين العلماء والباحثين في تحديد لغة المسيح عليه السلام.
وذهب ابن تيمية وابن القيم إلى أنه لم يتكلم بغير العبرانية، فقال ابن تيمية في " الجواب الصحيح " (3 / 75) :
" والمسيح كان عبرانيا لم يتكلم بغير العبرانية " انتهى.
وقال في (1 / 90) : " ومن قال إن لسان المسيح كان سريانيّاً (أي آراميّاً) أو روميّاً: فقد غلط " انتهى.
وذهب بعضهم إلى أن " هذه المعطيات جميعها تبين أن أغلب حديث عيسى عليه السلام كان باللغة الآرامية، وهي اللغة الشعبية التي كانت شائعة أكثر من غيرها، ثم يتلوه حديثه باللغة العبرانية لغة العهد القديم، كما يبدو أنه كان مثقفا باللاتينية والإغريقية ".
انظر " لغة المسيح عيسى بن مريم " بحث د. عبد العزيز شهبر (ص 112، 113) ، منشور في كتاب " لغات الرسل ".
ثانيا:
يجب على المسلمين جميعا الإيمان بالإنجيل الذي أوحاه الله إلى نبيه عيسى المسيح عليه السلام، ومن أنكره كفر باتفاق أهل العلم.
يقول سبحانه وتعالى: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) المائدة/46.
وإيماننا بالإنجيل يقتضي منا الإيمان بوجوده وتمام وحيه، وكذلك الإيمان بكل ما جاء فيه أنه حق ومن عند الله.
ولكن لم يأت في شريعتنا شيء في بيان هل كان هذا الإنجيل مكتوبا ومجموعا جميعه في عهد عيسى عليه السلام، ومن الذي كتبه، ومن الذي حفظه ونشره، أم كان المسيح يعلمه الناس مشافهة، ثم يتناقله الحواريون ومن آمن به؟ أم كتب بعضه وترك بعض آخر؟ فهذه أسئلة قد لا نستطيع أن نجزم فيها بجواب اليوم، بل إن بعض الباحثين ينفي أن يكون الإنجيل الحقيقي مدونا على هيئة كتاب، وإنما كان أقوالا متناقلة.
يقول العلامة الطاهر ابن عاشور في " التحرير والتنوير " (3 / 26) في مطلع تفسير آل عمران:
" وأما الإنجيل: فاسم للوحي الذي أوحي به إلى عيسى عليه السلام فجمعه أصحابه " انتهى.
يقول الشيخ أحمد ديدات – رحمه الله -:
فنحن نؤمن بإخلاص بأن كل ما كان يقوله عيسى عليه السلام كان وحياً من الله، وبأنه هو الإنجيل والبشارة إلى بني إسرائيل، وخلال حياته لم يكتب عيسى كلمة واحدة، كما أنه لم يأمر أحداً بالكتابة.
" هل الكتاب المقدس كلمة الله " (ص 14) .
وإن كان الظاهر أن المسيح عليه السلام يعرف الكتابة والقراءة، ويفهم ذلك من قوله تعالى:
(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ) آل عمران/48
قال ابن كثير – رحمه الله -:
الظاهر أن المراد بالكتاب ههنا الكتابة.
" تفسير القرآن العظيم " (1 / 485) .
إلا أننا لا نملك دليلا على كتابة الوحي زمن عيسى عليه السلام، وليس في تسمية الإنجيل " كتابا " في القرآن الكريم دليل على كتابته في الصحف زمن الوحي، فإن التسمية بـ " الكتاب " إنما هي باعتبار ما عند الله في اللوح المحفوظ، أو باعتبار تهيئه للكتابة والتدوين، واعتبر ذلك بالقرآن الكريم، فقد سماه الله " كتابا "، وإنما كان يتناقل شفاها مع كتابة متفرقة له في الجلود والصحف، وفي الحقيقة لم يكن كتابا مجموعا حتى كان زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بل قال سبحانه وتالى: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ) الأنعام/7.
يقول الطاهر ابن عاشور في تفسير سورة مريم الآية/30:
والكتاب: الشريعة التي من شأنها أن تكتب لئلا يقع فيها تغيير. فإطلاق الكتاب على شريعة عيسى كإطلاق الكتاب على القرآن.
" التحرير والتنوير " (8 / 470) .
والنصارى كذلك لا يؤمنون أن ثمة كتابا كتبه المسيح أو أحد تلامذته في عهده، ثم فُقِدَ بعد ذلك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
وأما الإنجيل الذي بأيديهم فهم معترفون بأنه لم يكتبه المسيح عليه السلام، ولا أملاه على من كتبه، وإنما أملوه بعد رفع المسيح.
" الجواب الصحيح " (1 / 491) .
وهذا فرق ظاهر بين الوحي الذي أنزل على موسى والوحي الذي أنزل على عيسى، فقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على كتابة الأول في قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) الأعراف/145.
وإن كان يبدو من كلام بعض علماء المسلمين أن الإنجيل الحقيقي كان مدونا ومكتوبا في عهد المسيح عليه السلام، تجد ذلك في كلام ابن حزم في " الفِصَل "، وابن تيمية في " الجواب الصحيح ".
وكذلك جاء في " الإنجيل " إطلاق هذا اللفظ على ما أوحاه الله إلى المسيح، حيث جاء في (إنجيل مرقص 8/35) : " ومن أهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل يخلصها ".
أما الأناجيل الموجودة اليوم، فليست هي الإنجيل الحقيقي، ولكن لا ينكر احتواؤها على كثير من الإنجيل الذي أوحاه الله سبحانه إلى المسيح.
قال ابن تيمية - رحمه الله -
هذه المقالات الأربعة التي يسمونها الإنجيل، وقد يسمون كل واحد منهم إنجيلا إنما كتبها هؤلاء بعد أن رفع المسيح، فلم يذكروا فيها أنها كلام الله، ولا أن المسيح بلغها عن الله، بل نقلوا فيها أشياء من كلام المسيح، وأشياء من أفعاله ومعجزاته، وذكروا أنهم لم ينقلوا كل ما سمعوه منه ورأوه، فكانت من جنس ما يرويه أهل الحديث والسير والمغازي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله التي ليست قرآنا، فالأناجيل التي بأيديهم شبه كتاب السيرة وكتب الحديث أو مثل هذه الكتب، وإن كان غالبها صحيحاً.
" الجواب الصحيح " (2 / 14) .
وانظر جواب السؤال رقم (47516) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/172)
آخر وصية ليعقوب ومواضع صحف إبراهيم في القرآن والبلد الذي يحتوي على أعلى نسبة للمسلمين وكيف أسلموا
[السُّؤَالُ]
ـ[1- ما هي آخر وصية للنبي يعقوب لأولاده قبل موته؟
2-الصحف التي أُنزلت على النبي إبراهيم ضاعت ولكنها مذكورة في القرآن في اكثر من موضع؟ اذكر موضعين من هذه المواضع؟
3-في أي بلد تكون أعلى نسبة للمسلمين؟ كيف اسلم أهل هذا البلد]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
1 - دلّ القرآن الكريم على أن يعقوب قد أوصى بنيه قبل موته، فقال: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) فقالوا: (نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) البقرة / 133.
2- ذكر صحف إبراهيم في سورة الأعلى 19: (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) ، وفي سورة النجم 37: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) .
4- أكبر بلد إسلامي من الناحية العددية في إفريقيا: نيجيريا. وفي آسيا: أندونيسيا. وقد أسلم الأندونوسيون بسبب الاحتكاك بالتجار المسلمين الحضارمة كما هو معلوم. ولعل هذا هو مطلوب السائل، وإن كان السؤال غير دقيق، لأن اعتبار النسبة يعني غير ذلك.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/173)
ما هي طبيعة سلطة القرآن على المسلمين
[السُّؤَالُ]
ـ[أدرس دورة في ديانات العالم، وأجد مشكلة في إيجاد حل للسؤال التالي:
ما هي طبيعة سلطة القرآن تبعاً للعرف الإسلامي؟ وما هو دور القرآن في التشريع الإسلامي طبقاً للتراث الإسلامي الحنيف؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
القرآن أنزله الله عز وجل شريعة ومرجعا في الحلال والحرام والأمر والنهي لزاما على الناس، فما فيه من الأمر امتثلوه وما فيه من نهي اجتنبوه وما فيه من حلال أحلوه وما فيه من حرام حرموه، وفيه خبر ما قبلنا ونبأ ما بعدنا وحكم ما بيننا، قال الله عز وجل: " ما فرطنا في الكتاب من شئ "، وبعد أن تم نزوله قال الله عز وجل: " اليوم أكملت لكم دينكم "، وجاءت السنة مبينة ومكملة للقرآن قال صلى الله عليه وسلم: " ألا إنني أوتيت القرآن ومثله معه " ومعنى قوله ومثله أي السنّة، حديث صحيح، وأمر الله عز وجل بالرجوع إلى هذين الدستورين، قال الله عز وجل: (وما اختلفتم فيه من شئ فردوه إلى الله والرسول) ، فالرد إلى الله يعني إلى القرآن والرد إلى الرسول يعني إلى السنة، فالقرآن هو المصدر الأول للتشريع ثم تأتي السنة والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/174)
أشياء أخبر عن وقوعها القرآن ووقعت
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هناك أي من الأشياء التي أخبر القرآن أنها ستقع ثم وقعت بالفعل؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نعم، هناك بعض الأشياء التي ذكر الله تعالى في القرآن أنها ستقع، وقد وقعت بالفعل، ومنها:
أ. هزيمة الفرس على أيدي الروم في بضع سنين:
قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} الروم / 2 – 4.
قال الشوكاني:
قال أهل التفسير: غَلبت فارسُ الرومَ، ففرح بذلك كفارُ مكة وقالوا: الذين ليس لهم كتاب غلبوا الذين لهم كتاب، وافتخروا على المسلمين، وقالوا: نحن أيضاً نغلبكم كما غَلبت فارسُ الرومَ، وكان المسلمون يحبُّون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب … {وهم من بعد غلبهم سيغلبون} أي: والروم من بعد غَلب فارس إياهم سيغلبون أهلَ فارس …
قال الزجاج: وهذه الآية من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند الله؛ لأنه إنباء بما سيكون، وهذا لا يعلمه إلا الله سبحانه.
" فتح القدير " (4 / 214) .
ب. العداوة بين فِرق النصارى إلى يوم القيامة.
قال تعالى {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} المائدة / 14.
قال ابن كثير:
{فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} أي: فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضاً، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة، ولذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً، فكل فرقةٍ تحرم الأخرى ولا تدعها تلج معبدها، فالملكية تكفر باليعقوبية، وكذلك الآخرون، وكذلك النسطورية والآريوسية، كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.
" تفسير ابن كثير " (2 / 34) .
ت. ما وعد الله نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان.
قال الله تعالى: {هوَ الذي أرْسَل رَسُولَه بِالهُدَى ودِينِ الحقِّ ليظهره على الدين كله} الآية سورة التوبة / 33 وسورة الفتح / 28، وسورة الصف / 9.
قال القرطبي:
ففعل ذلك، وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أغزى جيوشه عرَّفهم ما وعدهم الله في إظهار دينه ليثقوا بالنصر وليستيقنوا بالنجاح، وكان عمر يفعل ذلك، فلم يزل الفتح يتوالى شرقاً وغرباً برّاً وبحراً.
" تفسير القرطبي " (1 / 75) .
ث. فتح مكة
قال الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} الفتح / 27.
قال الطبري:
يقول تعالى ذكره: لقد صدق الله رسولَه محمَّداً رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيتَ الله الحرام آمنين لا يخافون أهل الشرك مقصِّراً بعضهم رأسَه ومحلِّقاً بعضهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
" تفسير الطبري " (26 / 107) .
ج. وقوع غزوة بدر
قال الله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} الأنفال / 7.
قال ابن الجوزي:
والمعنى: اذكروا إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين، والطائفتان: أبو سفيان وما معه من المال، وأبو جهل ومن معه من قريش، فلما سبق أبو سفيان بما معه كتب إلى قريش إن كنتم خرجتم لتحرزوا ركائبكم فقد أحرزتها لكم، فقال أبو جهل: والله لا نرجع، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد القوم فكره أصحابه ذلك، وودوا أن لو نالوا الطائفة التي فيها الغنيمة دون القتال، فذلك قوله {وتودون أن غير ذات الشوكة} أي: ذات السلاح.
" زاد المسير " (3 / 324) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/175)
حكم اقتناء الإنجيل والتوراة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يصح لي أن أقتني نسخة من الإنجيل لأعرف كلام الله لسيدنا عيسى وهل الإنجيل الموجود الآن صحيح؟ حيث إنني سمعت أن الإنجيل الصحيح غرق في الفرات؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يجوز اقتناء شيء من الكتب السابقة على القرآن من إنجيل أو توراة أو غيرهما لسببين:
- أن كل ما كان نافعاً فيها فقد بينه الله سبحانه وتعالى في القرآن.
- أن في القرآن ما يغني عن كل هذه الكتب لقوله تعالى: (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه) .
فكل ما في الكتب السابقة من خير موجود في القرآن، أما قول السائل أنه يريد أن يعرف كلام الله لعبده ورسوله عيسى عليه السلام، فإن النافع منه لنا موجود في القرآن فلا حاجة للبحث عنه من غيره.
وأيضاً فالإنجيل الموجود الآن محرف، والدليل على ذلك أنه أربعة أناجيل يخالف بعضها بعضاً وليس إنجيلاً واحداً، إذن فلا يعتمد عليها، أما طالب العلم الذي لديه علم يتمكن به من معرفة الحق من الباطل فلا مانع من دراسته لها لرد ما فيها من الباطل وإقامة الحجة على معتنقيها.
الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -.
[الْمَصْدَرُ]
مجلة الدعوة العدد/1789 ص/43.(1/176)
إذا كان اليهودي والنصراني يوحّد الله ولكن لا يُحكّم القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا كان هناك شخص يهودي أو نصراني يؤمن بالله وأنه لا شريك له، ويؤمن بالرسل المرسلين من الله عليهم السلام ولكنه لا يحكم بالقرآن مع أنه يؤمن بأنه من عند الله ولكنه يفترض أنه يجوز أن يحكم التوراة الأصلية. فهل هذا يعتبر مسلما؟]ـ
[الْجَوَابُ]
أرسلنا بهذا السؤال إلى شيخنا الشيخ عبد الرحمن البراك فأجاب بما يلي:
الحمد لله وبعد
فإن من أصول الإيمان: الإيمان بجميع الكتب المنزلة من عند الله والإيمان بجميع الرسل ويدخل في هذين الأصلين الإيمان بأشرف الكتب وهو القرآن وأفضل الرسل وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم المرسلين ورسول الله إلى الناس أجمعين منذ بعثه الله إلى أن تقوم الساعة فيجب على كل إنسان من جميع الأمم الإيمان به واتباعه وتحكيم شريعته فمن ادعى الإيمان به وبالقرآن ولم يحكّمه ولم يلتزم اتباعه في كل ما جاء به ولم يصدّقه في جميع أخباره فليس بمسلم ولا مؤمن، وإن مات على ذلك فهو من أصحاب الجحيم ولو ادعى أنه يؤمن بالله وحده لا شريك له ويؤمن بجميع الرسل فإن الإيمان بالرسول وبالقرآن ليس هو مجرد التصديق من غير انقياد ولا اتباع ولا تحكيم فإن كثيراً من المشركين كانوا مصدقين للرسول صلى الله عليه وسلم بقلوبهم بل منهم من هو مصدق بقلبه وبلسانه مثل عمه أبي طالب، ولم ينفعهم هذا التصديق لمّا أصروا على عدم اتباعه، وهكذا اليهود والنصارى كانوا يعرفونه كما يعرفون آباءهم ومنهم من يُظهر تصديقه للرسول صلى الله عليه وسلم، فلم تنفعهم هذه المعرفة وهذا التصديق لما أبَوا اتباعه كانوا كفاراً وأحلّ الله له دماءهم وأموالهم فقاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم فأظهره الله عليهم وأظهر دينه عل كل الأديان، قال تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون) . أهـ
فالواجب على كل يهودي أو نصراني أن يدخل في دين الإسلام الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، لأنّ الرسالة المحمدية هي الخاتمة والناسخة للديانات السابقة، قال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه) ، وفي الحديث الصحيح: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ.) رواه مسلم 218، وعلى هذا فلا يصح من يهودي ولا نصراني دين حتى يؤمن بشريعة الإسلام ويلتزم بحكم القرآن الكريم، فالقرآن مهيمن وناسخ للكتب السابقة، والتوراة والإنجيل منسوخة واعتراها التحريف والتبديل. والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ عبد الرحمن البراك(1/177)
حكم اقتناء الكتب السابقة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز للمسلم أن يقتني الإنجيل ليعرف كلام الله لعبده ورسوله عيسى عليه الصلاة والسلام؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يجوز اقتناء شيء من الكتب السابقة على القرآن من إنجيل أو توراة أو غيرهما لسببين:
السبب الأول: أن كل ما كان نافعاً فيها فقد بينه الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم.
السبب الثاني: أن في القرآن ما يغني عن كل هذه الكتب لقوله تعالى: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْه ِ) آل عمران/3. وقوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) المائدة/48. فإن ما في الكتب السابقة من خير موجود في القرآن.
أما قول السائل إنه يريد أن يعرف كلام الله لعبده ورسوله عيسى , فإن النافع منه لنا قد قصه الله في القرآن فلا حاجة للبحث في غيره , وأيضاً فالإنجيل الموجود الآن محرَّف , والدليل على ذلك أنها أربعة أناجيل يخالف بعضها بعضاً وليست إنجيلاً واحداً إذن فلا يعتمد عليه.
أما طالب العلم الذي لديه علم يتمكن به من معرفة الحق من الباطل فلا مانع من معرفته لها لرد ما فيها من الباطل وإقامة الحجة على معتنقيها.
[الْمَصْدَرُ]
مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ج/1 ص/33-32.(1/178)
البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدّمة
[السُّؤَالُ]
ـ[أخبرني بعض المسلمين أنّ محمدا وعيسى نبيين عظيمين وأخبروني أنّ السبب وراء عدم ذكر محمد في الإنجيل أنّه قد وُلد بعد كتابة الإنجيل. حسنا لقد ولد عيسى بعد كتابة التوراة (العهد القديم) ومع ذلك هناك أكثر من 600 إشارة ونبأ فيه لذكر عيسى تحققّت كلها بينما لا يوجد إشارة لمحمد في كلّ الكتاب المقدّس فكيف يستوي عيسى ومحمد إذن؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نحن بين أمرين إمّا أنّ الذي قال لك ذلك جاهل لا يُعتدّ بقوله وإمّا أنّ الادّعاء كذب وافتراء، فنحن المسلمين نعلم جيدا الآية الكريمة التي يقول الله تعالى فيها: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (157) سورة الأعراف
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية:
"الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل" وهذه صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كتب الأنبياء بشروا أممهم ببعثته وأمروهم بمتابعته ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم. كما روى الإمام أحمد حدثنا إسماعيل عن الجريري عن أبي صخر العقيلي حدثني رجل من الأعراب قال جلبت حلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغت من بيعي قلت لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه قال فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟ " فقال برأسه هكذا أي لا فقال ابنه إي والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله فقال "أقيموا اليهودي عن أخيكم" ثم تولى كفنه والصلاة عليه هذا حديث جيد قوي
وعن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال أجل والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا" وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي اسمك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح به قلوبا غلفا وآذانا صما وأعينا عميا. قال عطاء ثم لقيت كعبا (وهو مسلم من أهل الكتاب) فسألته عن ذلك فما اختلف حرفا.. وقد رواه البخاري في صحيحه عن عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ لَقِيتُ عبد الله بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِي اللَّهم عنهما قُلْتُ أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ قَالَ أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) وَحِرْزًا لِلأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلا سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ وَلا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا " البخاري. فتح رقم 2125
ولم يُرسِل الله نبيا من الأنبياء إلا وقد أخذ عليه العهد والميثاق لأن خرج النبي محمد صلى الله عليه وسام في عهده أن يتابع محمدا صلى الله عليه وسلم:
قال الله تعالى في سورة آل عمران (التي لا يدرسها نصراني بقلب مفتوح إلا أسلم) : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ (81)
قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية:
قيل: أخذ الله تعالى ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضا ويأمر بعضهم بالإيمان بعضا; فذلك معنى النصرة بالتصديق.. قال طاووس: أخذ الله ميثاق الأول من الأنبياء أن يؤمن بما جاء به الآخر..
[و] الرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم في قول علي وابن عباس رضي الله عنهما.
فأخذ الله ميثاق النبيين أجمعين أن يؤمنوا بمحمد عليه السلام وينصروه إن أدركوه, وأمرهم أن يأخذوا بذلك الميثاق على أممهم.
وإذا أردت أن تعرف شيئا من الإشارات إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في الإنجيل بعد تحريفه! فنُحيلك إلى كتاب " محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب المقدّسة " أو " ماذا قال الإنجيل عن محمد صلى الله عليه وسلم " لأحمد ديدات
ونسأل الله لك الهداية.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/179)
يسأل عن إعراب كلمة (الصابئون) وكيف نردّ على من يقول إنها خطأ نحوي في القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد إعراب كلمة "الصابئون" في سورة المائدة، ولماذا جاءت بالواو، مع أنها في آية أخرى جاءت بالياء، وتشابه الكلام في الآيتين كبير. وقد كان ذلك سببا في خلاف كبير بيني وبين شخص نصراني يقول: إن القرآن فيه أخطاء نحوية، فقلت له: سأترك الإسلام إن كان هناك خطأ نحوي واحد في القرآن. وقولي هذا عن قوه إيمان، وعن ثقة بأن القرآن، كلام الله سبحانه وتعالى، منزه عن قول المفترين.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
وردت كلمة " الصابئين " بياء النصب في سورتي البقرة والحج؛ في قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة/62، وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) الحج/17
ووردت نفس الكلمة بواو الرفع في سورة المائدة؛ في قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) المائدة/69 أما الآيتان الأوليان فلا إشكال في إعرابهما؛ لأن الكلمة فيهما وقعت معطوفة بالواو على كلمة محلها النصب، وهي " الذين "؛ اسم إن، فنصبت، وعلامة نصبها الياء، لأنها جمع مذكر سالم.
وإنما محل الإشكال هو الآية الثالثة، آية سورة المائدة؛ فقد وقعت في نفس موقعها في الآيتين الأوليين، ومع ذلك جاءت مرفوعة.
وقد ذكر النحاة والمفسرون في توضيح ذلك الإشكال عدة وجوه، وذكروا نظائرها المعروفة في لغة العرب، ونكتفي هنا بثلاثة منها، هي من أشهر ما قيل في ذلك:
الأول: أن الآية فيها تقديم وتأخير، وعلى ذلك يكون سياق المعنى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى، من آمن بالله ... فلا خوف عليهم، ولاهم يحزنون، والصابئون كذلك، فتعرب مبتدأً مرفوعا،وعلامة رفعه الواو، لأنه جمع مذكر سالم. ونظير ذلك من لغة العرب قول الشاعر:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وَقَيَّار ٌبها لغريب
وموطن الشاهد قوله "قيار"، وهو اسم لفرسه، أو جمله؛ فقد جاءت هذه الكلمة مرفوعة على أنها مبتدأ، ولم تجئ منصوبة على أنها معطوفة على اسم إن المنصوب وهو ياء المتكلم في قوله (فإني)
الثاني: أن " الصابئون " مبتدأ، والنصارى معطوف عليه، وجملة من آمن بالله ... خبر "الصابئون"، وأما خبر "إن" فهو محذوف دل عليه خبر المبتدأ "الصابئون"، ونظير ذلك من لغة العرب قول الشاعر:
نحن بما عندنا، وأنت بما عندك راضٍ، والأمر مختلف
والشاهد فيه أن المبتدأ "نحن" لم يذكر خبره، اكتفاء بخبر المعطوف "أنت"؛ فخبره "راض" يدل على خبر المبتدأ الأول، وتقدير الكلام: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راض.
الثالث: أن " الصابئون " معطوف على محل اسم " إن "؛ فالحروف الناسخة، إن وأخواتها، تدخل على الجملة الاسمية المكونة من مبتدأ وخبر، واسم إن محله الأصلي، قبل دخول إن عليه الرفع لأنه مبتدأ، ومن هنا رفعت "الصابئون" باعتبار أنها معطوفة على محل اسم إن. [انظر: أوضح المسالك، لابن هشام، مع شرح محيي الدين، 1/352-366 , تفسير الشوكاني والألوسي، عند هذه الآية] .
وما ذكرته، من قوة يقينك , وثقتك بكلام الله سبحانه، هو الواجب على كل مسلم، قال الله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) النساء/82 قال الشيخ ابن عاشور، رحمه الله في تفسيره:
(وبعد فمما يجب أن يوقَن به أن هذا اللفظ كذلك نزل، وكذلك نطق به النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك تلقاه المسلمون منه وقرؤوه، وكتب في المصاحف، وهم عرب خُلَّص، فكان لنا أصلا نتعرف منه أسلوبا من أساليب استعمال العرب في العطف، وإن كان استعمالا غير شائع، لكنه من الفصاحة والإيجاز بمكان ... ) اهـ
وتلمس ابن عاشور الفائدة البلاغية من الإتيان بلفظ " الصابئون " موفوعاً، فقال ما معناه:
إن الرفع في هذا السياق غريب، فيستوقف القارئ عنده: لماذا رفع هذا الاسم بالذات، مع أن المألوف في مثل هذا أن ينصب؟
فيقال: إن هذه الغرابة في رفع الصابئون تناسب غرابة دخول الصابئين في الوعد بالمغفرة، لأنهم يعبدون الكواكب، فهم أبعد عن الهدى من اليهود والنصارى، حتى إنهم يكادون ييأسون من الوعد بالمغفرة والنجاة فنبه بذلك على أن عفو الله عظيم. يشمل كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً وإن كان من الصابئين. [انظر تفسير آية المائدة من تفسير ابن عاشور]
ولمعرفة من هم الصابئة؟ انظر الإجابة على السؤال رقم (49048)
لكن يبقى لنا عِبَرٌ لا ينبغي تفويتها في هذا السياق:
أولا: ينبغي علينا الاهتمام بالعلم الشرعي؛ فلا يكفي فقط أن يعتصم الإنسان بما عنده من يقين سابق، وإن كان ذلك أعظم ملجأ ومعاذ، بل إذا ضم إلى ذلك العلم الشرعي كان، إن شاء الله، في مأمن من أن تهز إيمانه هذه الشبهات وأمثالها، مما يثيره أعداء دينه.
ثانيا: ينبهنا مثل هذا الموقف إلى قدر من التفريط في واجب من أعظم واجباتنا نحو كتاب الله تعالى، ألا وهو واجب التدبر والمدارسة، وليس مجرد التلاوة، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ) ص/29، قال الشيخ ابن سعدي، رحمه الله: " أي هذه الحكمة من إنزاله، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها، ويتأملوا أسرارها وحكمها، فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة، تدرك بركته وخيره، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود "؛ والدليل من هذا الموقف على ما ذكر هو أننا لو كنا نقوم بهذا الواجب حينا بعد حين لأوشكت مثل هذه الآيات أن تستوقفنا، لنسأل عنها، أو نبحثها، قبل أن نواجه بالإشكال من أعدائنا.
ثالثا: إذا قمنا بالواجبين السابقين كنا مؤهلين لأخذ زمام المبادرة، لندعو نحن غيرنا، ونخبرهم بالحق الذي عندنا، ونكشف لهم، بالتي هي أحسن، الباطل الذي عندهم، بدلا من أن نقف موقف الدفاع، شأن الضعفة والمنهزمين.
والله الموفق.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/180)
الأناجيل الموجودة اليوم كتبت بعد عيسى عليه السلام وقع فيها تحريف كثير
[السُّؤَالُ]
ـ[من المعروف لدينا نحن المسلمين أن الله تعالى أنزل الإنجيل على نبيه عيسى عليه السلام، ولكن حينما درست بعض الأشياء عن المسيحية، أخبروني أن الإنجيل لم يأت به المسيح وإنما كتب على يد تلاميذ المسيح بعد صلبه (أو بعد أن رفعه الله إليه كما في القرآن) . فكيف يمكننا الجمع بين القولين؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ليس بين القولين اختلاف أو تناقض، بحمد الله، حتى نحتاج إلى السؤال عن الجمع بينهما، وإنما سبب الإشكال على السائل أنه خلط بين أمرين يجب الإيمان بهما، وكلاهما حق، بحمد الله:
أما الأمر الأول فهو الإنجيل المنزل من رب العالمين، على نبي الله عيسى، عليه السلام؛ والإيمان بأن الله تعالى أنزل على نبيه عيسى كتابا، وأن اسم هذا الكتاب الإنجيل، هو من أصول الإيمان وأركانه التي يجب الإيمان بها؛ قال تعالى:
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) البقرة/285، وقال صلى الله عليه وسلم، لجبريل لما سأله عن الإيمان، في حديثه المعروف: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه وسله واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره) متفق عليه
كما أن الكفر بذلك أو الشك فيه، ضلال وكفر بالله تعالى، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَد ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً) النساء/136
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً) النساء/150-151 وأما الأمر الثاني فهو الإنجيل، أو بتعبير أدق الأناجيل التي توجد في أيدي النصارى اليوم؛ فمع أن من أصول إيماننا الإيمان بالإنجيل الذي أنزل على عيسى، فإننا نؤمن كذلك بأنه لم يعد بين أيدي الناس كتاب كما أنزله الله، لا الإنجيل، ولا غيره، إلا القرآن. بل إن النصارى أنفسهم لا يدعون أن الكتب التي بين أيديهم منزلة هكذا من عند الله، بل ولا يدعون أن المسيح عليه السلام هو الذي كتبها، أو أنها، على الأقل كتبت في زمانه. يقول الإمام ابن حزم، رحمه الله في الفِصَل في الملل (2/2) :
(ولسنا نحتاج إلى تكلف برهان في أن الأناجيل وسائر كتب النصارى ليست من عند الله عز وجل ولا من عند المسيح عليه السلام، كما احتجنا إلى ذلك في التوراة والكتب المنسوبة إلى الأنبياء عليهم السلام التي عند اليهود، لأن جمهور اليهود يزعمون أن التوراة التي بأيديهم منزلة من عند الله عز وجل، على موسى عليه السلام، فاحتجنا إلى إقامة البرهان على بطلان دعواهم في ذلك، وأما النصارى فقد كفونا هذه المؤونة كلها، لأنهم لا يدعون أن الأناجيل منزلة من عند الله على المسيح، ولا أن المسيح أتاهم بها، بل كلهم أولهم عن آخرهم، أريسيهم وملكيهم ونسطوريهم ويعقوبيهم ومارونيهم وبولقانيهم، لا يختلفون في أنها أربعة تواريخ ألفها أربعة رجال معروفون في أزمان مختلفة: فأولها تاريخ ألفه متى اللاواني تلميذ المسيح بعد تسع سنين من رفع المسيح عليه السلام، وكتبه بالعبرانية في بلد يهوذا بالشام يكون نحو ثمان وعشرين ورقة بخط متوسط والآخر تاريخ ألفه مارقش (مرقس) تلميذ شمعون بن يونا، المسمى باطرة، بعد اثنين وعشرين عاما من رفع المسيح عليه السلام، وكتبه باليونانية في بلد إنطاكية من بلاد الروم، ويقولون إن شمعون المذكور هو الذي ألفه ثم محا اسمه من أوله ونسبه إلى تلميذه مارقش، يكون أربعا وعشرين ورقة بخط متوسط وشمعون المذكور تلميذ المسيح والثالث تاريخ ألفه لوقا الطبيب الأنطاكي تلميذ شمعون باطرة أيضا، كتبه باليونانية بعد تأليف مارقش المذكور، يكون من قدر إنجيل متى والرابع تاريخ ألفه يوحنا ابن سيذاي تلميذ المسيح بعد رفع المسيح ببضع وستين سنة وكتبه باليونانية يكون أربعا وعشرين ورقة بخط متوسط.)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الجواب الصحيح (3/21) :
(وأما الأناجيل التي بأيدي النصارى فهي أربعة أناجيل: إنجيل متى ولوقا ومرقس ويوحنا، وهم متفقون على أن لوقا ومرقس لم يريا المسيح، وإنما رآه متى ويوحنا وأن هذه المقالات الأربعة التي يسمونها الإنجيل، وقد يسمون كل واحد منها إنجيلا، إنما كتبها هؤلاء بعد أن رفع المسيح؛ فلم يذكروا فيها أنها كلام الله ولا أن المسيح بلغها عن الله بل نقلوا فيها أشياء من كلام المسيح وأشياء من أفعاله ومعجزاته)
ثم إن هذه الكتب التي كتبت بعد المسيح لم تبق على صورتها هذه التي كتبت عليها أول مرة؛ حيث اختفت النسخ الأولى، وفقدت من أيدي الناس مدة طويلة من الزمان. يقول ابن حزم:
(وأما النصارى فلا خلاف بين أحد منهم ولا من غيرهم في أنه لم يؤمن بالمسيح في حياته إلا مائة وعشرون رجلا فقط....، وأن كل من آمن به فإنهم كانوا مستترين مخافين في حياته وبعده، يدعون إلى دينه سرا ولا يكشف أحد منهم وجهه إلى الدعاء إلى ملته، ولا يظهر دينه، وكل من ظفر به منهم قتل....
فبقوا على هذه الحالة لا يظهرون البتة، ولا لهم مكان يأمنون فيه مدة ثلاثمائة سنة بعد رفع المسيح عليه السلام.
وفي خلال ذلك ذهب الإنجيل المنزل من عند الله عز وجل إلا فصولا يسيرة أبقاها الله تعالى حجة عليهم وخزيا لهم فكانوا كما ذكرنا إلى أن تنصر قسطنطين الملك فمن حينئذ ظهر النصارى وكشفوا دينهم واجتمعوا وآمنوا.
وكل دين كان هكذا فمحال أن يصح فيه نقل متصل لكثرة الدواخل الواقعة فيما لا يؤخذ إلا سرا تحت السيف لا يقدر أهله على حمايته ولا على المنع من تبديله) الفصل 2/4-5
وبالإضافة إلى هذا الانقطاع الهائل في إسناد كتبهم، والذي يتجاوز القرنين من الزمان، في أعلى أسانيدهم، فإن هذه الكتب لم تبق بلغتها التي كتبها بها أهلها أول مرة، وإنما ترجمت عن تلك اللغات، ثم ترجمت غير مرة، على أيدي أناس مجهولين في علمهم، وأمانتهم، واختلاف هذه الكتب وتناقضها فيما بينها من أقوى الأدلة على تحريفها وأنها ليست هي الإنجيل الذي أنزله الله على عبده ورسوله عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) النساء/82.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/181)
هل النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِر في الإنجيل
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو أن تخبرني أين ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم في الإنجيل؟ وهل تم ذكر اسمه أم رمز له؟ وما هي المراجع التي يمكن أن أستعملها لأثبت هذه المسألة، وهل الكُتاب والمترجمون النصارى قد حرفوا ذلك؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الله تعالى في كتابه: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين) الصف /6
وقال تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) الأعراف/157
فهاتان الآيتان تدلان على أن النبي صلى الله عليه وسلم مذكور في التوراة والإنجيل، مهما أدعى اليهود والنصارى عدم ذلك، فإن كلام الله تعالى أحسن حديثا، وأصدق قيلا.
ومما وورد في الكتاب السابقة ما يلي:
أولا: جاء في التوراة في سفر التثنية الإصحاح الثامن عشر الفقرات 18و19: " يا موسى أني سأقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم مثلك أجعل كلامي فيه ويقول لهم ما أمره به والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه "، وهذا النص موجود عندهم الآن، فقوله:" من إخوانهم "، لو كان منهم من بني إسرائيل لقال سأقيم لهم نبياً منهم قال من إخوتهم أي أبناء إسماعيل.
ثانيا: جاء في إنجيل يوحنا الإصحاح السادس عشر الفقرات 16-17: " إن خيراً لكم أن أنطلق لأني إن لم أذهب لم يأتكم الفارقليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم فإذا جاء فهو يوبخ العالم على الخطيئة، وان لي كلاماً كثيراً أريد قوله ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي "، وهذا لا ينطبق إلا على النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: قال ابن القيم رحمه الله: " قال في التوراة في السفر الخامس: -: " أقبل الله من سيناء، وتجلى من ساعير، وظهر من جبال فاران، ومعه ربوات الإظهار عن يمينه " وهذه متضمنة للنبوات الثلاثة: نبوة موسى، ونبوة عيسى، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فمجيئه من " سينا ": وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى، ونبأه عليه إخبار عن نبوته، وتجليه من ساعير هو مظهر المسيح من بيت المقدس، و " ساعير ": قرية معروفة هناك إلى اليوم، وهذه بشارة بنبوة المسيح.
"وفاران ": هي مكة، وشبه سبحانه نبوة موسى بمجيء الصبح، ونبوة المسيح بعدها بإشراقه وضيائه ونبوة خاتم الأنبياء باستعلاء الشمس، وظهور ضوءها في الآفاق، ووقع الأمر كما أخبر به سواء. فإن الله سبحانه صدع بنبوة موسى ليل الكفر فأضاء فجره بنبوته، وزاد الضياء والإشراق بنبوة المسيح، وكمل الضياء واستعلن وطبق الأرض بنبوة محمد صلوات الله وسلامه عليهم، وذكر هذه النبوات الثلاثة التي اشتملت عليها هذه البشارة نظير ذكرها في أول سورة (والتين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين " ا. هـ[انظر هداية الحيارى ص 110، وما ذكره ابن القيم هو في العهد القديم سفر التثنية الإصحاح 33 فقرة 1]
رابعا: ذكر الشيخ عبد المجيد الزنداني في كتابه: (البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم في الكتب السماوية السابقة) أن إنجيل برنابا في الباب 22 جاء فيه: " وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله "، وجاء في سفر أشعيا: إني جعلت اسمك محمدا يا محمد، يا قدوس الرب: اسمك موجود من الأبد، وجاء في سفر أشعيا: " وما أعطيته لا أعطيه لغيره، أحمد يحمد الله حمدا حديثا يأتي من أفضل الأرض، فتفرح به البرية، ويوحدون على كل شرف، ويعظمونه على كل رابية " انتهى.
وقد ذكر العلماء العديد من المواضع التي ذكر فيها اسم النبي صلى الله عليه وسلم، مرة بذكر اسمه الصريح، ومرة بذكر وصف لا ينطبق إلا عليه صلى الله عليه وسلم.
ويمكنك مراجعة العديد من النصوص في الوصلة التالية:
http://arabic.islamicweb.com/christianity/
واعلم أنه قد طرأ تغيير على الكتب الموجودة الآن من التوراة والإنجيل وحدث تغيير فيها، وقد ذكر المؤرخون من غير المسلمين هذا الأمر، لكن مع ذلك كله لازلنا نجد في التوراة والإنجيل التبشير بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الشيخ رحمة الله الهندي أن النصارى كلما استطاعوا تحريف موضع حرفوه، ولذلك تجد بعض العلماء القدامى يذكرون مواضع في التوراة والإنجيل ليست موجودة الآن، لكن هناك مواضع أخرى لا زالت تبشر بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم وقدومه.
واعلم أنه لا بد من تسلح الإنسان بالعلم الصحيح الوافي عند مناقشة النصارى، وهم وإن لم يكن لديهم حجج، إلا إنه يسعون لبث الشبه في نفوس الناس، ليستسلموا ها، وليغيب الحق، والله متم نوره ولو كره الكافرون.
ومن الكتب المفيدة في هذا السياق كتاب إظهار الحق للشيخ رحمة الله الهندي، وكتاب هداية الحيارى لابن القيم، ومن قبله الجواب الصحيح لابن تيمية.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/182)
هل هناك أنبياء أرسلوا إلى أهل إفريقيا وأوربا؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا ظهر الأنبياء جميعهم في منطقة واحدة من العالم، ولم يظهر نبي في مناطق أخرى، مثل أوروبا؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
من المقرر في شريعتنا: أن الله تعالى أقام الحجة على العباد، بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، ولم يكن هذا الإرسال لأمة دون أخرى، ولا لقارة دون غيرها، بل كان إرسالاً للأمم كافةً، على اختلاف مكانها، وزمانها، كما قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) فاطر /24، وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) النحل/ 36.
ولذا كان من عدل الله تعالى أنه قضى أنه لا يعذِّب أحداً لم تبلغه دعوة الأنبياء والرسل، كما قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) الإسراء/ 15، وقال تعالى: (ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) الأنعام/ 131.
إلا أن الله تعالى لم يقص علينا خبر جميع الرسل، بل قص علينا خبر بعضهم، وأكثرهم لم يقص علينا خبره، كما قال الله تعالى: (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) .
وعليه؛ فالقول بأن الأنبياء لم يكونوا إلا في منطقة واحدة من العالَم: قول غير صحيح، بل أرسل الله الرسل إلى جميع أمم الأرض.
وانظر جواب السؤال (95747) ففيه تفصيل مهم في الأحاديث الواردة في عدد الأنبياء والمرسلين، وذِكر أقوال العلماء في المسألة.
ثانياً:
من المعلوم أن أغلب الحضارات التي قامت على مر التاريخ: سكنت هذه البلاد، وهي ما يسمى بـ "منطقة حوض البحر المتوسط" وما قاربها، وهي: الشام، ومصر، والعراق، وجزيرة العرب، وبالتالي كانت الكثافة السكانية ـ في الأغلب ـ في تلك البلاد، وهذا مناسب جداً لكون أكثر الرسل أرسلوا إلى أهل هذه البلاد.
وأما الحكمة من أن الله تعالى قص علينا قصص أنبياء ورسل هذه المناطق دون غيرها:
1. فلأن أهل تلك البلاد هم أكمل الناس عقولاً، وأخلاقاً، وقد أثنى الله تعالى على بني إسرائيل في زمانهم أنهم خير الأمم، قال تعالى: (يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) البقرة/ 47، كما أثنى الله تعالى على أمة محمد صلى الله بأنها خير الأمم إلى قيام الساعة، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) آل عمران/ 110.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن دعوة الإسلام، وسبب انتشارها في تلك البلاد في بداية الأمر -:
"وانتشرت دعوته (يعني: النبي صلى الله عليه وسلم) في وسط الأرض، لأنهم أكمل عقولاً، وأخلاقاً، وأعدل أمزجة، بخلاف طرفي الجنوب، والشمال؛ فإن هؤلاء نقصت عقولهم، وأخلاقهم، وانحرفت أمزجتهم.
أما طرف الجنوب: فإنه لقوة الحرارة احترقت أخلاطهم، فاسودت ألوانهم، وتجعدت شعورهم.
وأما أهل طرق الشمال فلقوة البرد لم تنضج أخلاطهم، بل صارت فجة، فأفرطوا في سبوطة الشعر والبياض البارد الذي لا يستحسن.
ولهذا لما ظهر الإسلام غلب أهله على وسط المعمورة وهم أعدل بني آدم، وأكملهم، والنصارى الذين تربوا تحت ذمة المسلمين أكمل من غيرهم من النصارى عقولاً، وأخلاقا.
وأما النصارى المحاربون للمسلمين، الخارجون عن ذمتهم من أهل الجنوب والشمال: فهم أنقص عقولاً، وأخلاقاً , ولما فيهم من نقص العقول، والأخلاق: ظهرت فيهم النصرانية، دون الإسلام" انتهى.
"الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح" (1/164، 165) .
2. أن العبر والعظات في قصص أولئك الأنبياء والرسل الكرام أعظم من غيرها.
قال الطاهر بن عاشور رحمه الله:
"وإنَّما ترك الله أن يقصّ على النّبي صلى الله عليه وسلم أسماء كثير من الرسل للاكتفاء بمن قصّهم عليه: لأنّ المذكورين هم أعظم الرسل، والأنبياء، قصصاً ذات عبر" انتهى.
"التحرير والتنوير" (6/35) .
3. أن هؤلاء الرسل بحكم وجودهم في منطقة العرب وما حولها كانت أخبارهم معروفة عند العرب، وعند أهل الكتاب المتواجدين في هذه المنطقة، وهذا يكون أقوى في إقامة الحجة على هؤلاء، وتأثير الموعظة والعبرة بما وقع لهؤلاء.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/183)
الإيمان بالأنبياء والرسل من أركان الإيمان وليس الإيمان بالرسل فقط
[السُّؤَالُ]
ـ[جاء في حديث جبريل الطويل عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فذكر صلى الله عليه وسلم أركان الإيمان، والتي من ضمنها الإيمان بالرسل، وكما هو معلوم أنه ليس كل نبي رسول، فهل معنى هذا أنه لا يلزم الإيمان بمن كان نبياً ولم يكن رسولاً؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الإيمان الواجب هو الإيمان بالرسل والأنبياء جميعا، وليس بالرسل فقط، وهذا من مسلمات الدين، وأركان العقيدة المبينة في القرآن الكريم:
يقول الله تعالى:
(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) البقرة/136.
ويقول سبحانه:
(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) البقرة/177.
فتأمل كيف افترض الله على المؤمنين به الإيمان بجميع الرسل والأنبياء، وسمى منهم إسماعيل وإسحاق والأسباط، وأخبر عز وجل أن المؤمنين لا يفرقون بين أحد من الأنبياء والرسل، بل يعتقدون بكفر من أنكر نبوة من أثبت الله نبوته، لأن الكفر برسول أو نبي واحد كفر بجميع المرسلين.
قال القاضي عياض رحمه الله:
" حكم من سب سائر أنبياء الله تعالى ... واستخف بهم، أو كذبهم فيما أتوا به، وأنكرهم، وجحدهم، حكمُ نبيِّنَا صلى الله عليه وسلم " انتهى.
" الشفا " (2/1097)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" والمسلمون آمنوا بالأنبياء كلهم، ولم يفرقوا بين أحد منهم، فإن الإيمان بجميع النبيين فرض واجب، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم كلهم، ومن سب نبياً من الأنبياء فهو كافر يجب قتله باتفاق العلماء " انتهى.
" الصفدية " (2/311)
وقال العلامة السعدي رحمه الله – في تفسير الآية السابقة من سورة البقرة -:
" فيه الإيمان بجميع الكتب المنزلة على جميع الأنبياء، والإيمان بالأنبياء عموما وخصوصا، ما نص عليه في الآية لشرفهم، ولإتيانهم بالشرائع الكبار، فالواجب في الإيمان بالأنبياء والكتب أن يؤمن بهم على وجه العموم والشمول، ثم ما عرف منهم بالتفصيل وجب الإيمان به مفصلا " انتهى.
" تيسير الكريم الرحمن " (ص/67)
وأما حديث جبريل المشهور من رواية الإمام مسلم (رقم/8) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومما جاء فيه: (قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)
فليس المقصود به الاقتصار على الإيمان بالرسل دون الأنبياء، بل كلمة " الرسل " هنا تشمل الأنبياء أيضا، وإنما أطلقت هنا تغليبا لجانب الرسل الذين هم أشهر وأظهر، بدليل الآيات السابقة التي دلت على وجوب الإيمان بجميع الأنبياء.
والتفريق بين الأنبياء والرسل ليس مضطردا في كل سياق، بل متى جاء ورد ذكر أحد الاسمين في النص: فالمراد به الأنبياء والرسل جميعا، وإنما يفرق بينهما إذا اجتمعا في نص واحد.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/184)
هل إعادة الحياة بعد موت بعض الناس ما يناقض أن الموتة واحدة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[بصفتي أدرس الدين المقارن: بماذا أجيب من يسألني سؤالاً حول الآية في الإنجيل التي تقول "إنه قد كتب على ابن آدم أن يموت مرة واحدة، ثم يأتي الحساب"، مما يعنى أن كل إنسان سيموت مرة واحدة، فماذا أقول إذا سألني أحدهم: لماذا يقول الإنجيل بأن عيسى قد أعاد الحياة إلى " لزروس "، وبذلك فإنه عند وفاته فإنها ستكون ميتته الثانية؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
اختص الله تعالى الأنبياءَ بآيات بيّنات، وكانت آية كل نبي من جنس ما اشتهر به قومه، حتى تكون أدل على أنها من عند الله، وكانت آية عيسى عليه السلام إبراء الأكمه، والأبرص، وإحياء الموتى، بإذن الله تعالى، كما قال: (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) آل عمران/49.
قال ابن كثير رحمه الله:
قال كثير من العلماء: بعثَ الله كل نبيّ من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه؛ فكان الغالب على زمان موسى عليه السلام السحر، وتعظيم السحرة، فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار، وحيَّرت كلَّ سحَّار، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار: انقادوا للإسلام، وصاروا من عباد الله الأبرار، وأما عيسى عليه السلام: فبُعث في زمن الأطباء، وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه، إلا أن يكون مؤيدا من الذي شرع الشريعة، فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه، والأبرص، وبعث مَن هو في قبره رهين إلى يوم التناد؟! وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بُعث في زمان الفصحاء، والبلغاء، ونحارير الشعراء، فأتاهم بكتاب من الله عز وجل لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، أو بعَشر سور من مثله، أو بسورة من مثله: لم يستطيعوا أبداً.
"تفسير ابن كثير" (1/485) .
وآيات الأنبياء هي خروج عن المألوف، وخرق للعادة؛ تثبيتاً للنبي، وأتباعه، وعلامة على رسالته، وصدقه فيما يدعو إليه.
وكان من آيات عيسى عليه السلام: إحياء الموتى، وهذه الآية اختصه الله بها دون غيره من الأنبياء.
ونحن لا نعتمد على ما نقلتَه عن الإنجيل؛ لاعتقادنا تحريفه، ولكن نعتمد على ما جاء به شرعنا، لأن ما نقلته من الإنجيل موافق لما عندنا، من أن الخلق يموتون موتة واحدة، لا يرجعون بعدها إلى الدنيا؛ قال تعالى: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) الأنبياء/95، ولكن هذا العموم مخصوص ببعض النصوص والوقائع التي وقع فيها إحياء لبعض الموتى في الدنيا، آية على قدرة الله سبحانه على إحياء الناس جميعاً بعد موتهم، أو آيةً لنبي - كما خصّ به عيسى عليه السلام -، ومن أمثلة ذلك:
1. ما جاء في قصة القتيل زمن موسى عليه السلام، وما حصل من إحياء الله تعالى له ليدل على من قتله، قال تعالى: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) البقرة/ 73.
2. وما حصل من إحياء الله تعالى للرجل الذي أماته – وحماره – مائة عام، ثم أحياه، قال الله تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) البقرة/ 259.
3. وما حصل من إحياء الله تعالى لقوم كثُر، قال تعالى: (أَلَمْ ترَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) البقرة/ 243.
4. وما حصل من إحياء الله تعالى لمن أماتهم من قوم موسى عليه السلام الذين طلبوا منه رؤية الله تعالى، فأخذتهم الصاعقة، فماتوا، ثم بعثهم الرب تعالى، قال تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) البقرة/ 56.
وهذا كله يضاف إلى ما أخبر الله تعالى به من إحياء عيسى عليه السلام لبعض الموتى بإذن الله تعالى، وكل هذا استثناء من العموم.
ومثال ذلك لو قال قائل: إنه لا إنجاب إلا من ذكر وأنثى: لكان صادقاً، بل هو مؤيد بالقرآن والسنَّة، كمثل قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) الحجرات/13، وقد خُصَّ من هذا العموم آدم عليه السلام الذي خُلق من غير ذكر ولا أنثى، وخُصّت حواء عليها السلام، حيث خُلقت من ذكر بلا أنثى، وخُصَّ عيسى عليه السلام، حيث خُلق من أنثى بلا ذَكر.
وعلى هذا، فالعودة إلى الحياة بعد الموت في الدنيا حصل قطعاً في صور متعددة، ولذلك حكم جليلة منها:
1. إثبات قدرة الله على بعث الخلائق يوم القيامة.
2. جعلها آية على صدق النبي، وأنه مرسل من عند الله تعالى، كما في إحياء عيسى عليه السلام للموتى بإذن الله، وكما في إحياء قتيل قوم موسى.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله بعد أن عدَّد ما في سورة البقرة من مواضع أحيا الله فيها بعض الموتى:
"ولا ينافي هذا ما ذَكر الله في قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) المؤمنون/ 15، 16؛ لأن هذه القصص الخمس، وغيرها - كإخراج عيسى الموتى من قبورهم - تعتبر أمراً عارضاً، يُؤتى به لآية من آيات الله سبحانه وتعالى، أما البعث العام: فإنه لا يكون إلا يوم القيامة، ولهذا نقول في شبهة الذين أنكروا البعث من المشركين، ويقولون: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) الأنبياء/ 38، ويقولون: (فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) الدخان/ 36، نقول: إن هؤلاء مموِّهون، فالرسل لم تقل لهم: إنكم تبعثون الآن، بل يوم القيامة، ولينتظروا، فسيكون هذا بلا ريب" انتهى.
" تفسير سورة البقرة " (1/193) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/185)
الحكمة في عدم حصر الوحي لنبينا بالتكليم، والحكمة من إرسال جبريل دون غيره
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا لم ينزل الله وحيَه على نبيِّه محمد (ص) مباشرة دون اللجوء إلى واسطة - وهو جبريل عليه السلام -؟ وما الحكمة مِن أن جبريل كان مَن يُنزل الوحي عليه الصلاة والسلام؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا ينبغي اختصار الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بحرف الصاد، ولا بكلمة " صلعم "، ومن كتب مثل هذا السؤال لا يعجزه كتابة الصلاة والسلام عليه كاملة.
وقد سبق بيان حكم كتابة هذين الاختصارين في جواب السؤال رقم (47976) ، فلينظر.
ثانياً:
ذكر الله تعالى في كتابه الكريم طرق تبليغ رسله برسالاته وكلامه تعالى، فكان منها: الوحي – وله أشكال متعددة – يقظة ومناماً، والتكليم المباشر من وراء حجاب، وعن طريق جبريل عليه السلام، وقد سمَّى الله تعالى الطرق الثلاثة بـ " التكليم "، فقال: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) الزخرف/ 51، وهذا هو التكليم بمعناه العام، وليس هو التكليم الخاص الذي خصَّ به بعض رسله، قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) البقرة/ من الآية 253.
وكل صور الوحي وأشكاله قد حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه الوحي يقظة ومناماً، وكلمه الله في السماء في المعراج، وأرسل إليه جبريل عليه السلام، فحصل للنبي صلى الله عليه وسلم بذلك ما لم يحصل لغيره من إخوانه الأنبياء، بل إنه حتى التكليم الذي اشترك به مع أخيه موسى عليه السلام كان لنبينا المقام الرفيع فيه؛ حيث حصل تكليم رب العالمين له في السماء، فكان ما اختاره الله تعالى لنبيه عليه السلام أكمل وأفضل وأجل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
وقد ذكر الله تعالى أنواعَ جنسِ تكليمه لعباده في قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) ، فجعل ذلك ثلاثة أنواع:
الوحي الذي منه ما هو إلهام للأنبياء، يَقَظَةً ومناماً، فإنّ رؤيا الأنبياءِ وحي.
والتكليم من وراءِ حجاب، كما كلَّمَ موسَى بن عمرانَ حيثُ نادا وقَرَّبَه نَجِيّاً.
والتكليم بإرسال رسول يُوحي بإذنِه ما يشاءُ هو تكليمُه بواسطةِ إرسال الملَكِ، كما قال تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ) 17، 18، أي: علينا أن نجمعَه في قلبك، ثمَّ علينا أن نقرأه بلسانك، وهذا على أظهر القولين، وهو أن " قَرَأ " بالهمزة من الظهور والبيان، وقولهم: مَا قَرَأَتِ الناقةُ بسَلاَ جَزُوْرٍ قَطُّ، أي: ما أَظهرتْه، بخلاف " قَرَى يَقْرِيْ " فإنه من الجَمع، ومنه سُمِّيتِ القريةُ قريةً، والمَقْرَاةُ مُجتمع الماء.
فقوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ) أي: قرأناه بواسطةِ جبريل (فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ) ، وهذا كقوله تعالى: (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ) ، وإنما ذلك بتوسُّط قراءةِ جبريلَ وتلاوته، كقوله: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) ، فإنّ هذا قد جعله سبحانَه أحدَ أنواع الجنس العامّ المقسوم، وهو تكليمُ الله لعبادِه، ولهذا قال عُبادةُ بن الصامت: رؤيا المؤمنِ كلامٌ يُكلِّم به الربُّ عبدَه في منامِه.
" جامع المسائل " (5 / 284، 285) .
وقال – رحمه الله -:
وأحاديث المعراج وصعوده إلى ما فوق السموات وفرض الرب عليه الصلوات الخمس حينئذ ورؤيته لما رآه من الآيات والجنة والنار والملائكة والأنبياء في السموات والبيت المعمور وسدرة المنتهى وغير ذلك: معروف متواتر في الأحاديث، وهذا النوع لم يكن لغيره من الأنبياء مثله، يظهر به تحقيق قوله تعالى (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) فالدرجات التي رُفعها محمَّد ليلة المعراج، وسيُرفعها في الآخرة في المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون: ليس لغيره مثله.
" الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح " (6 / 168، 169) .
ثالثاً:
أما الحكمة من الاصطفاء والاختيار – ومنه اصطفاء جبريل عليه السلام لإرساله بالوحي -: فإن ذلك من أفعال الله تعالى الدالة على علمه وعدله وحكمته.
والله سبحانه وتعالى يختار ما يشاء من الأشياء المختلفة ليميزها على غيرها، قال تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) القصص/ 68.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله -:
هذه الآيات – أي: الآية السابقة وما بعدها - فيها عموم خلقه لسائر المخلوقات، ونفوذ مشيئته بجميع البريات، وانفراده باختيار من يختاره ويختصه، من الأشخاص، والأوامر، والأزمان، والأماكن، وأن أحداً ليس له من الأمر والاختيار شيء.
" تفسير السعدي " (ص 622) .
والله سبحانه وتعالى يصطفي ما يشاء من الأشياء المتشابهة ليميزها على غيرها، قال تعالى: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) الحج/ 75.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
جبريل رسولٌ ملَك، ومحمَّدٌ رسولٌ بشر، والله يصطفي من الملائكة رسلاً، ومن الناس، فاصطفى لكلامه الرسول الملكي، فنزل به على الرسول البشري الذي اصطفاه، وقد أضافه إلى كلٍّ من الرسوليْن لأنه بلغه وأداه؛ لا لأنه أنشأه وابتداه، قال تعالى: (إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش مكين) التكوير/ 19، 20.
" مجموع الفتاوى " (17 / 82) .
وقال ابن القيم – رحمه الله -:
وإذا تأملت أحوالَ هذا الخلقِ: رأيتَ هذا الاختيار والتخصيص فيه دالاًّ على ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمالِ حكمته وعلمه وقدرته، وأنه اللهُ الذي لا إله إلا هو، فلا شريك له يخلُق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبِّر كتدبيره، فهذا الاختيارُ والتدبير والتخصيص المشهود: أثرُه في هذا العالم مِنْ أعظم آيات ربوبيته، وأكبرِ شواهد وحدانيته، وصفات كماله، وصدقِ رسله.
" زاد المعاد في هدي خير العباد " (1 / 42) .
فاصطفى الله تعالى من الملائكة جبريل عليه السلام دون غيره لما فيه من صفات القوة، والأمانة، وغيرهما، وقد علم الرب تعالى ذلك أزلاً، فاصطفاه من أجل ذلك.
قال ابن القيم – رحمه الله -:
ذواتُ ما اختاره واصطفاه من الأعيان والأماكن والأشخاص وغيرها: مشتَمِلَة على صفات وأمور قائمة بها ليست لغيرها، ولأجلها اصطفاها اللهُ، وهو سبحانه الذي فضلها بتلك الصفاتِ، وخصها بالاختيار، فهذا خلقُه، وهذا اختياره، (وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) القصص/ 67.
" زاد المعاد في هدي خير العباد " (1 / 53) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/186)
هل يصلي خلف من لا يصدق أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد شاركت بعض المسلمين في عدة مناقشات هنا في أمريكا عن "خاتم النبيين"، الرجاء إيضاح التالي: - معنى خاتم في اللغة العربية (آخر) أم (خاتم) ؟ - الأدلة من القرآن والسنة. - هل نزول عيسى عليه السلام ينهي "خاتم النبيين" أم لا؟ - ما حكم من لا يؤمن بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين ولا نبي بعده، هل هو كافر أم لا؟ وهل يجوز الصلاة خلفه لو لم يكن هناك مسجد في منطقتنا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
النبي محمد عليه الصلاة والسلام هو آخر الأنبياء، قال عليه الصلاة والسلام: (فضّلت على الأنبياء بخمس: أعطيت الشفاعة وختم بي النبيون ... الحديث) فأخبر عليه الصلاة والسلام أنه آخرهم، وقال تعالى: (ولكن رسول الله وخاتَم النبيين) – بفتح التاء - وفي قراءة أخرى (وخاتِم النبيين) – بكسر التاء - والمعنى: أنه آخرهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي) أي أنه خُتم به أنبياء الله، فلا نبي بعده ولا رسول.
ولا شك أن عيسى عليه الصلاة والسلام عندما ينزل يكون بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، فيحكم بها، فلا يعتبر نبياً بعد رسول الله إنما هو واحدٌ من أمته، يحكم بشريعته.
ومن ادعى انه سوف يأتي نبي جديد فهو كافر، أو يجوز إتيان نبي بعد محمد عليه الصلاة والسلام، فيعتبر أن هذه الشريعة ليست آخر الشرائع، مثل هذا كافر ولا يصلى خلفه إن عُلِمَ هذا من عقيدته، وإن ثبت فعليك إعادة الصلاة ولو منفرداً.
[الْمَصْدَرُ]
سماحة الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله(1/187)
ما ورد في تخيير الرسل والأنبياء قبل الموت
[السُّؤَالُ]
ـ[بالنسبة لمسألة تخيير الرسل والأنبياء قبل الموت (أي هل يموتون الآن أم بعد مدة) كما حصل معه عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم، كيف نقول بالنسبة لمن قتل منهم أي الأنبياء والرسل، هل خُيروا أم لم يُخيروا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل نبي يخير عند موته بين الدنيا والآخرة، جاء ذلك في روايات عدة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
(كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ صَحِيحٌ يَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُحَيَّا أَوْ يُخَيَّرَ. فَلَمَّا اشْتَكَى وَحَضَرَهُ الْقَبْضُ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِ عَائِشَةَ غُشِي عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ شَخَصَ بَصَرُهُ نَحْوَ سَقْفِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى. فَقُلْتُ: إِذًا لاَ يُجَاوِرُنَا. فَعَرَفْتُ أَنَّهُ حَدِيثُهُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهْوَ صَحِيحٌ)
رواه البخاري (4437) ومسلم (2444)
وعنها رضى الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
(مَا مِنْ نَبيٍّ يَمْرَضُ إِلاَّ خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَكَانَ فِي شَكْوَاهُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ أَخَذَتْهُ بُحَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) فَعَلِمْتُ أَنَّهُ خُيِّرَ) رواه البخاري (4586)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" قوله: (كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يُخَيَّر) ولم تصرح عائشة بذكر من سمعت ذلك منه في هذه الرواية، وصرحت بذلك في الرواية التي تليها من طريق الزهري عن عروة عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: (إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يحيى أو يخير) وهو شك من الراوي، هل قال يُحَيَّى، أو يُخَيَّر.
وعند أحمد من طريق المطلب بن عبد الله عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (ما من نبي يقبض إلا يرى الثواب ثم يخير)
ولأحمد أيضا من حديث أبي مويهبة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة فاخترت لقاء ربي والجنة)
وعند عبد الرزاق من مرسل طاوس رفعه: (خيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل) " انتهى من " فتح الباري " (8/137)
وقال أيضا:
" هذه الحالة من خصائص الأنبياء أنه لا يقبض نبي حتى يخير بين البقاء في الدنيا وبين الموت " انتهى من " فتح الباري " (10/131)
ومن ذلك قصة استئذان ملك الموت على نبي الله موسى عليه السلام فلطمه موسى ففقأ عينه وهي مروية في الصحيحين أيضا.
يقول الدكتور عمر الأشقر حفظه الله:
" مما تفرد به الأنبياء أنّهم يخيَّرون بين الدنيا والآخرة " انتهى من " الرسل والرسالات " (ص/63)
ثانيا:
لما كان تخيير الرسل والأنبياء قبل الموت من عالم الغيب الذي لم نطلع عليه إلا بواسطة الوحي الصحيح، لم يجز لنا أن نتكلم في تفاصيله بغير علم ولا هدى، بل يجب الوقوف عند حدود النصوص الواردة في هذا الموضوع، وهي نصوص عامة لم تستثن أحدا من الأنبياء، بل جاءت بصيغة تؤكد العموم، ففي الرواية الأولى بلفظ: (لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ) ، وفي الرواية الثانية بلفظ: (مَا مِنْ نَبيٍّ يَمْرَضُ) ، فيظهر أنها تعم كل نبي، سواء مات ميتة طبيعية على فراشه، أو قتل شهيدا باعتداء المعتدين.
هذا ما يمكننا قوله، ولا نستطيع تجاوز ذلك.
ثالثا:
لا يفوتنا التنبيه هنا على كثرة الكذب في هذا الموضوع، فقد رويت أحاديث كثيرة ضعيفة تذكر قصة استئذان ملك الموت على النبي صلى الله عليه وسلم ليقبض روحه، وما دار من حوار طويل بينهما، سبق التنبيه عليه في جواب السؤال رقم: (71400)
يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله:
" وأما الجواب عن - استئذان ملك الموت على النبي صلى الله عليه وسلم - فهو أنّ الحديث في ذلك لا يَصِحُّ، ولا عبرة بسكوت بعض أهل السِّيَرِ عليه , ولا بذكره في بعض الخُطَب التي قَلَّمَا تحرى أصحابها الصحاح من السنن والآثار , بل أولع أكثرهم بالواهيات والموضوعات " انتهى من " مجلة المنار " (11/352)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/188)
لماذا اختص عيسى عليه السلام بالرفع إلى السماء؟
[السُّؤَالُ]
ـ[بما أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء فلم لم يرفع إلى السماء بدلا من عيسى؟ ولماذا اختص الله عيسى بالرفع دون سائر الأنبياء؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
" إن الله تعالى وسع كل شيء رحمة وعلما، وأحاط بكل شيء قوة وقهرا، سبحانه له الحكمة البالغة، والإرادة النافذة، والقدرة الشاملة، اصطفى من شاء من الناس أنبياء ورسلا مبشرين ومنذرين، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، وخص كلا منهم بما شاء من المزايا، فضلا منه ورحمة، فخص بالخلة خليله إبراهيم ومحمداً عليهما الصلاة والسلام، وخص كل نبي بما أراد من الآيات والمعجزات التي تتناسب مع زمنه، وبها تقوم الحجة على قومه، حكمةً منه وعدلاً، لا معقب لحكمه، وهو العزيز الحكيم اللطيف الخبير، وليس كل مزية بمفردها بموجبة للأفضلية، فاختصاص عيسى برفعه إلى السماء حيا جارٍ على مقتضى إرادة الله وحكمته، وليس ذلك لكونه أفضل من إخوانه المرسلين، كإبراهيم ومحمد وموسى ونوح عليهم الصلاة والسلام، فإنهم أعطوا من المزايا والآيات ما يقتضي تفضيلهم عليه.
وبالجملة، فمرجع الأمر في ذلك إلى الله، يدبره كما يشاء، لا يُسأل عما يفعل، لكمال علمه وحكمته، ثم إنه لا يترتب على السؤال عن ذلك عمل أو تثبيت عقيدة، بل ربما أصيب بالحيرة من حام حول ذلك، واستولت عليه الريب والشكوك، وعلى المؤمن التسليم فيما هو من شؤون الله، وليجتهد فيما هو من شؤون العباد عقيدة وعملا، وهذا هو منهج الأنبياء والمرسلين، وطريق الخلفاء الراشدين، وسلف الأمة المهديين. والله أعلم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم " انتهى.
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (3/476) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
(1/189)
حكم من يقول: الإسلام والإيمان ليسا محصورين برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[بعض الناس يقول: إن الإسلام والإيمان ليسا محصورين برسالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فقط، بل إن الإسلام والإيمان يخصان كل إنسان يعبد الله بأي صورة كانت قبل وبعد البعثة المحمدية المباركة، فما تعليقكم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"أما قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ فكل من آمن بالرسل الماضين فهو من أهل الجنة.. من آمن بموسى.. بعيسى.. بهود.. بصالح.. بجميع الرسل، فهو من أهل الجنة إذا مات على ذلك، أما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فليس من أهل الجنة إلا من تابع محمداً صلى الله عليه وسلم، فجميع أهل الأرض بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ليس لهم نجاة إلا باتباعه محمد عليه الصلاة والسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) . فأتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين يدخلون الجنة دون غيرهم، ويقول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار) ، فلا يكون من أهل الجنة بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من اتبعه. أما من بلغه خبره وكَفَرَ به، ولم يؤمن به، فهو من أهل النار، وأما من لم يبلغه خبر النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الفترات الذين لم يسمعوا بالرسول ولا بالقرآن، فهؤلاء يقال لهم: أهل الفترة، وهؤلاء أمرهم إلى الله يوم القيامة، يمتحنهم جل وعلا، فمن نجح في الامتحان دخل الجنة، ومن لم ينجح دخل النار، نسأل الله السلامة، وأما من بلغه رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وبلغه القرآن ولم يؤمن؛ به فهو من أهل النار. ومن لم يُكَفِّر الكفارَ فهو مثلهم، فيجب تكفير من لم يؤمن بالله، وتكفير من كفر به، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وحد الله وكفر بما عبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله) ، ويقول الله جل وعلا: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة/256. فلابد من الإيمان بالله، وتوحيده، وإخلاصه، والإيمان بإيمان المؤمنين، ولابد من تكفير الكافرين الذين بلغتهم الشريعة ولم يؤمنوا، كاليهود، والنصارى، والمجوس، والشيوعيين، وغيرهم ممن يوجد اليوم وقبل اليوم، فمن بلغته رسالة الله ولم يؤمن فهو من أهل النار، نسأل الله العافية" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (28/44) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/190)
هل تزوج المسيح عيسى عليه السلام؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قد كتب دان براون في كتابه: " سر داوينجي " أن المسيح عيسي بن مريم قد تزوج امرأة زانية اسمها مريم المجدلية، وكان لهما ابنة اسمها سارة. هل هذا صحيح حسب الروايات الإسلامية؟ وإن لم يكن صحيحًا فلماذا لم يتزوج عيسي بن مريم عليهما السلام؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لم يرد في صريح الكتاب والسنة الصحيحة نص يدل على إثبات أو نفي زواج السيد المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام، وإن كان في القرآن الكريم ما يدل على أن الزواج عموماً من هدي المرسلين، فقد قال سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً) الرعد/38، فذلك لا يمنع أن يكون بعضهم مستثنى من ذلك، وهذا الاستثناء كان كمالاً في حقه وفي شريعته، كما أن زواج الأنبياء ـ عموماً ـ وما أوتوا من الأزواج والذرية، كان كمالاً لهم.
وقد الله تعالى في بشارته لنبيه زكريا عليه السلام بولده الذي يولد له، يحي عليه السلام:
(فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ) آل عمران/39.
قال القاضي عياض رحمه الله:
" فإن قيل: كيف يكون النكاح وكثرته من الفضائل، وهذا يحيى بن زكريا عليه السلام قد أثنى الله تعالى عليه أنه كان حصوراً؛ فكيف يثنى الله عليه بالعجز عما تعده فضيلة؟! وهذا عيسى ابن مريم عليه السلام تبتل من النساء، ولو كان كما قررته لنكح؟
فاعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى ـ بأنه حصور ـ ليس كما قال بعضهم: إنه كان هيوباً، أو لا ذكر له؛ بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين ونقاد العلماء، وقالوا هذه نقيصة وعيب ولا يليق بالأنبياء عليهم السلام، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب، أي: لا يأتيها، كأنه حصر عنها.
وقيل: مانعا نفسه من الشهوات، وقيل: ليست له شهوة في النساء.
فقد بان لك من هذا: أن عدم القدرة على النكاح نقص؛ وإنما الفضل في كونها موجودة ثم قمعها، إما بمجاهدة كعيسى عليه السلام، أو بكفاية من الله تعالى كيحيى عليه السلام، فضيلة زائدة؛ لكونها مشغلة في كثير من الأوقات، حاطّة إلى الدنيا، ثم هي في حق من أقدر عليها وملكها وقام بالواجب فيها ولم يشغله عن ربه: درجة علياء، وهى درجة نبينا صلى الله عليه وسلم، الذي لم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة لتحصينهن وقيامه بحقوقهن واكتسابه لهن وهدايته إياهن. " انتهى.
الشفا بحقوق المصطفى، للقاضي عياض (188-89) ، وانظر: تفسير ابن كثير (2/38) ، وأيضا: "التحرير والتنوير"، لابن عاشور (13/162-163) .
وقال الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله:
" وأما ترك المسيح التزوج فلعله لعارض آخر أمره الله به لأجله، وليس ترك التزوج من شؤون النبوءة فقد كان لجميع الأنبياء أزواج قال تعالى: (وجعلنا لهم أزواجاً وذرية) الرعد/38 " انتهى.
"التحرير والتنوير" (27/425)
وأما ما جاء في رواية " شيفرة دافنشي " لكاتبها " دان براون "، فليس فيها إلا إثارة لمواضيع حساسة لدى الكنائس الغربية لقصد الإثارة وتحقيق الأرباح فقط، وليس بغرض البحث العلمي، ولا التحقيق التاريخي، وقد أثارت هذه الرواية جدلاً واسعاً في الأوساط النصرانية، وكتب الكثيرون منهم ردوداً على ما جاء فيها من تفصيلات تعارضها الكنيسة.
وأما نحن المسلمين فنقول: المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام من أولي العزم من الرسل، وهو كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه، وأما أنه تزوج أو لم يتزوج، فأي الأمرين وقع له، فهو فضل وكمال في حقه، ولا ينقص من قدره عند الله شيئاً، صلى الله عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والرسل.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/191)
هل كان عيسى عليه السلام يهوديا؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يعتقد المسلمون أن عيسى كان يهوديا؟ حيث ذكر في الإنجيل أن عيسى كان يهوديا]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
عيسى ابن مريم عليه السلام، أحد أنبياء الله الكرام، وأولي العزم من ورسله، أرسله الله إلى بني إسرائيل، وعلمه التوراة والإنجيل، وأخبر أنه جاء مصدقا لما في التوراة، أي مقررا لها ومؤمنا بها، إلا أنه نسخ بعض أحكامها، وأباح لأتباعه بعض ما حرم فيها.
قال تعالى: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) آل عمران/48- 50، وقال سبحانه: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) المائدة/46.
قال ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" (2/44) :
" وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ " فالتوراة: هو الكتاب الذي أنزله الله على موسى بن عمران، والإنجيل: هو الكتاب الذي أنزله الله على عيسى عليهما السلام، وقد كان [عيسى] عليه السلام، يحفظ هذا وهذا " انتهى.
وقال أيضاً رحمه الله:
" وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ " أي: متبعًا لها، غير مخالف لما فيها، إلا في القليل مما بيّن لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخبارًا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل: (وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) ؛ ولهذا كان المشهور من قولي العلماء أن الإنجيل نسخ بَعْضَ أحكام التوراة " انتهى.
"تفسير ابن كثير" (3/126) .
وعُلم بهذا أن عيسى عليه السلام كان مؤمنا بالتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام، متبعا لها، لم يخالفها إلا في أشياء قليلة.
وموسى وعيسى وجميع الأنبياء كان دينهم الإسلام العام، وهو توحيد الله عز وجل وعبادته وحده لا شريك له، كما قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) آل عمران/19، وقال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) آل عمران/85، وقال عن نوح عليه السلام: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يونس/72، وقال عن إبراهيم عليه السلام: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) آل عمران/67، وقال عن موسى عليه السلام: (يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) يونس/84، وقال عن يوسف عليه السلام: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) يوسف/101.
فلا يقال عن موسى عليه السلام إن دينه اليهودية، بل دينه الإسلام، وأتباعه سُموا باليهود إما لقولهم: هدنا إليك، أي: تبنا ورجعنا، أو نسبة ليهوذا أكبر أولاد يعقوب عليه السلام، وكذلك عيسى عليه السلام دينه الإسلام وليس النصرانية، والنصارى هم أتباعه الذين نصروره وآزروه.
لكنه عليه السلام كان متبعا للتوراة حافظا لها مقرا بها؛ لأنه من جملة بني إسرائيل الذين أرسل فيهم موسى عليه السلام، ثم أنزل الله عليه الإنجيل وفيه تصديق لما في التوراة، كما سبق.
وهذا الذي ذكرناه إنما نعني به الدين الذي كان جاء به عسى عليه السلام، إن كان السائل يريد البحث في دينه والسؤال عنه.
وأما إن كان السائل يسأل عن نسب المسيح عليه السلام، وقومه الذين ولد فيهم، وبعث إليهم، فنبي الله عيسى عليه السلام من بني إسرائيل من غير خلاف، وبنو إسرائيل هم الذين عرفوا بعد ذلك بأنهم اليهود، كما أشرنا.
على أن الذي يستعمله أهل العلم هنا أن ينسب إلى نسبه وقومه، فيقال: هو من بني إسرائيل، وأما كلمة اليهود فهي تحمل معنى دينيا خاصا، فلذلك ينبغي اجتنابه في حق عيسى عليه السلام، وإن كنا نعلم أنه قومه بنو إسرائيل كانوا على شريعة التوراة قبله، وهو قد جاء مصدقا لما فيها، وغير شيئا قليلا من أحكامها.
قال ابن الأثير رحمه الله:
" كان عمران بن ماثان [يعني: جد عيسى عليه السلام، والد مريم] من ولد سليمان بن داود، وكان آل ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم.. " انتهى.
"الكامل في التاريخ" (1/251) .
وقال ابن كثير رحمه الله:
" ولا خلاف أنها [يعني: مريم عليها السلام] من سلالة داود عليه السلام، وكان أبوها عمران صاحب صلاة بني إسرائيل في زمانه " انتهى.
"البداية والنهاية" (2/52) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" لا ريب أن قوم موسى عليه السلام هم بنو إسرائيل، وبلسانهم نزلت التوراة، وكذلك بنو إسرائيل هم قوم المسيح عليه السلام، وبلسانهم كان المسيح يتكلم، فلم يخاطب أحد من الرسولين أحدا إلا باللسان العبراني، لم يتكلم أحد منهما لا برومية ولا سريانية ولا يونانية ولا قبطية " انتهى.
"الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (2/94) .
وقال أيضا: " فمعلوم باتفاق النصارى أن المسيح لم يكن يتكلم إلا بالعبرية، كسائر أنبياء بني إسرائيل، وأنه كان مختونا، ختن بعد السابع كما يختن بنو إسرائيل، وأنه كان يصلي إلى قبلتهم، لم يكن يصلي إلى الشرق ولا أمر بالصلاة إلى الشرق " انتهى.
"المرجع السابق" (3/32) .
وينظر للفائدة: سؤال رقم (10277) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/192)
لم يثبت أن المسيح سيدفن في آخر الزمان في الحجرة النبوية
[السُّؤَالُ]
ـ[يروى أن هناك مساحة فارغة بجانب قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لكي يستخدمها نبي الله عيسى صلى الله عليه وسلم بعد موته، فهل هذا صحيح؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لم يَرِد في السنة النبوية ما يدلُّ على مكان دفن المسيح عيسى عليه السلام في آخر الزمان، وأما الحديث الذي يُروى في ذلك فضعيف جدا لا يثبت، وهذا بيانه:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينزل عيسى ابن مريم إلى الأرض، فيتزوج، ويولد له، ويمكث خمسا وأربعين سنة، ثم يموت فيدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى ابن مريم من قبر واحد بين أبي بكر وعمر) .
رواه ابن أبي الدنيا – كما عزاه إليه الذهبي في "ميزان الاعتدال" (2/562) - وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/915) وفي "المنتظم" (1/126) ، وفي "الوفا" (2/714) أيضا: من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي.
قال ابن الجوزي: " هذا حديث لا يصح، والإفريقي ضعيف بمرة " انتهى.
وأورده الذهبي في "ميزان الاعتدال" في سياق المناكير التي رواها هذا الراوي، وقال: " فهذه مناكير غير محتملة " انتهى.
وقال الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" برقم (6562) : " منكر " انتهى.
ووردت بعض الآثار في هذا الشأن عن علماء الصحابة ممن قرؤوا التوراة وعرفوا ما فيها:
1- قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: (مكتوب في التوراة صفة محمد، وصفة عيسى بن مريم، يدفن معه) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (6/229) ، والترمذي في "السنن" (رقم/3617) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (القطعة المفقودة ص/111) ، والآجري في كتاب "الشريعة" (3/1324) بألفاظ متقاربة، ولكني اخترت اللفظ الذي عند الترمذي لتصريحه بنقل الكلام عن التوراة.
كلهم رووه من طريق عثمان بن الضحاك عن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده.
وهذا إسناد ضعيف، فيه عثمان بن الضحاك: قال أبو داود: ضعيف. انظر "تهذيب التهذيب" (7/124) . وفيه: محمد بن يوسف لم يوثقه أحد، وإنما ذكره ابن حبان في "الثقات" انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" (9/534) لذلك قال البخاري رحمه الله بعد إخراجه الحديث في التاريخ الكبير في ترجمته: " هذا لا يصح عندي، ولا يتابع عليه " انتهى.
وقال الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" برقم (6962) : " موقوف ضعيف " انتهى.
2- عن سعيد بن المسيب قال: (إن قبور الثلاثة في صُفَّة بيت عائشة، وهناك موضع قبر يدفن فيه عيسى عليه السلام) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " من وجه ضعيف " انتهى.
"فتح الباري" (7/66) .
كما ذكر ذلك بعض العلماء والمؤرخين:
قال الإمام القرطبي رحمه الله: " ثم يقبض الله روح عيسى عليه السلام ويذوق الموت، ويدفن إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم في الحجرة ... ، وقد قيل إنه يدفن بالأرض المقدسة مدفن الأنبياء " انتهى.
"التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة" (ص/1301) وذكر نحوه ابن عساكر وغيره.
والذي يتحصل مما سبق أنه لم يثبت في حوادث آخر الزمان دفن عيسى عليه السلام في الحجرة النبوية، وما ورد في ذلك إنما هي آثار ضعيفة السند، ومأخوذة عن غير الكتاب والسنة.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
(1/193)
إشكال حول قول يوسف عليه السلام: اذكرني عند ربك؟!
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الله يعاقب الأنبياء؟ في قصة يوسف صلى الله عليه وسلم، هل ترك في السجن لعدد من السنين، كعقوبة من الله بسبب أنه سأل أحد زملائه في السجن أن يذكره عند ربه، بينما أن الله هو الوحيد الذي يدعى بالرب؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
سبق أن تكلمنا عن عصمة الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، من الكبائر، ومن سفاسف الأخلاق، وما يخل بالمروءات من فعل أهل الدناءات.
انظر جواب السؤال رقم: (7208) ، (42216) .
ثانيا:
أما قصة يوسف عليه السلام، فأظهر القولين في تفسيرها أن الذي نسي ذكر ربه في هذه الآية، ليس هو يوسف عليه السلام، وإنما هو السجين الآخر، الذي طلب منه يوسف أن يذكره عند ربه، قال تعالى: (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ، فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) سورة يوسف/42.
وإذا كان الأظهر في تفسير الآية أن الناسي هو حامل الرسالة من يوسف إلى عزيز مصر، فليس في إرسال هذه الرسالة: أن يذكر العزيز بأمر يوسف، شيء مما يخل بمنصب الرسالة، بل ولا منصب التوكل على الله وإنزال الحوائج به.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " قال تعالى: (فأنساه الشيطان ذكر ربه) ، قيل: أنسي يوسف ذكر ربه لما قال: (اذكرني عند ربك) .
وقيل: بل الشيطان أنسى الذي نجا منهما ذكر ربه، وهذا هو الصواب، فإنه مطابق لقوله: (اذكرني عند ربك) ، قال تعالى: (فأنساه الشيطان ذكر ربه) ، والضمير يعود إلى القريب إذا لم يكن هناك دليل على خلاف ذلك؛ ولأن يوسف لم ينس ذكر ربه؛ بل كان ذاكرا لربه. وقد دعاهما قبل تعبير الرؤيا إلى الإيمان بربه، وقال لهما: (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار. ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ، وقال لهما قبل ذلك: (لا يأتيكما طعام ترزقانه) ، أي: في الرؤيا (إلانبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما) ، يعني التأويل، (ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) ، فبذا يذكر ربه عز وجل فإن هذا مما علمه ربه؛ لأنه ترك ملة قوم مشركين لا يؤمنون بالله وإن كانوا مقرين بالصانع، ولا يؤمنون بالآخرة، واتبع ملة آبائه أئمة المؤمنين - الذين جعلهم الله أئمة يدعون بأمره - إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ فذكر ربه ثم دعاهما إلى الإيمان بربه، ثم بعد هذا عبر الرؤيا، فقال: (يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا) الآية، ثم لما قضى تأويل الرؤيا: (وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك) ، فكيف يكون قد أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه؟
وإنما أنسى الشيطان الناجي ذكر ربه، أي الذكر المضاف إلى ربه والمنسوب إليه، وهو أن يذكر عنده يوسف.
والذين قالوا ذلك القول، قالوا: كان الأَولى أن يتوكل على الله ولا يقول اذكرني عند ربك. فلما نسي أن يتوكل على ربه جوزي بلبثه في السجن بضع سنين.
فيقال: ليس في قوله: (اذكرني عند ربك) ما يناقض التوكل؛ بل قد قال يوسف: (إن الحكم إلا لله) كما أن قول أبيه: (لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) لم يناقض توكله، بل قال: (وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون) .
وأيضا: فيوسف قد شهد الله له أنه من عباده المخلَصين، والمخلص لا يكون مخلصا مع توكله على غير الله، فإن ذلك شرك، ويوسف لم يكن مشركا، لا في عبادته ولا توكله، بل قد توكل على ربه في فعل نفسه بقوله: (وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) ، فكيف لا يتوكل عليه في أفعال عباده.
وقوله: (اذكرني عند ربك) مثل قوله لربه: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) ، فلما سأل الولاية للمصلحة الدينية لم يكن هذا مناقضا للتوكل، ولا هو من سؤال الإمارة المنهي عنه، فكيف يكون قوله للفتى: (اذكرني عند ربك) مناقضا للتوكل، وليس فيه إلا مجرد إخبار الملك به؛ ليعلم حاله، ليتبين الحق، ويوسف كان من أثبت الناس.
ولهذا بعد أن طلب: (وقال الملك ائتوني به) ، قال: (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم) ، فيوسف يذكر ربه في هذه الحال كما ذكره في تلك.
ويقول: (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة) ، فلم يكن في قوله له: (اذكرني عند ربك) ترك لواجب ولا فعل لمحرم حتى يعاقبه الله على ذلك بلبثه في السجن بضع سنين ...
والمقصود أن يوسف لم يفعل ذنبا ذكره الله عنه، وهو سبحانه لا يذكر عن أحد من الأنبياء ذنبا إلا ذكر استغفاره منه، ولم يذكر عن يوسف استغفارا من هذه الكلمة " انتهى باختصار.
"مجموع الفتاوى" (15/112-118) .
ثالثاً:
أما قول يوسف عليه السلام لصاحبه في السجن: (اذكرني عند ربك) ، فليس هذا من ربوبية العبادة، بل هو من ربوبية الملك والتصرف.
قال الفيروزآبادي: " رب كل شيء: مالكه ومستحقه وصاحبه ... ولا يقال الرب مطلقا إلا لله تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات، وبالإضافة يقال لله تعالى ولغيره، نحو: رب العالمين، ورب الدار " انتهى.
"بصائر ذوي التمييز" (3/29) .
وقال الراغب الأصفهاني: " ويقال: رب الدار، ورب الفرس: لصاحبهما، وعلى ذلك قول الله تعالى: (اذكرني عند ربك) انتهى.
المفردات في غريب القرآن (186) .
ومراد الراغب رحمه الله: أن إطلاق الرب في الآية جائز؛ لأنه الرب هنا مضاف إلى صاحبه، وليس ربا على جهة الإطلاق، فهذا لا يجوز إلا لله تعالى.
لكن يشكل عليه أنه نهي عن مثل ذلك، كما في حديث أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، اسْقِ رَبَّكَ، وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي، مَوْلَايَ، وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي، أَمَتِي، وَلْيَقُلْ: فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي) رواه البخاري (2552) ، ومسلم (2249) .
قال النووي رحمه الله: " قال العلماء: لا يطلق الرب بالألف واللام، إلا على الله تعالى خاصة، فأما مع الإضافة فيقال: رب المال، ورب الدار، وغير ذلك، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في ضالة الإبل: (دعها حتى يلقاها ربها) والحديث الصحيح، (حتى يهم رب المال من يقبل صدقته) ، وقول عمر رضي الله عنه في الصحيح: (رب الصريمة والغنيمة) ، ونظائره في الحديث كثيرة مشهورة.
وأما استعمال حملة الشرع ذلك، فأمر مشهور معروف.
قال العلماء: وإنما كره للمملوك أن يقول لمالكه: ربي؛ لأن في لفظه مشاركة لله تعالى في الربوبية.
وأما حديث: (حتى يلقاها ربها) ، و (رب الصريمة) وما في معناهما، فإنما استعمل لأنها غير مكلفة، فهي كالدار والمال، ولا شك أنه لا كراهة في قول: رب الدار، ورب المال.
وأما قول يوسف عليه السلام: (اذكرني عند ربك) ، فعنه جوابان:
أحدهما: أنه خاطبه بما يعرفه، وجاز هذا الاستعمال؛ للضرورة، كما قال موسى عليه السلام للسامري: (وانظر إلى إلهك) طه / 97، أي: الذي اتخذته إلها.
الجواب الثاني: أن هذا شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا لا يكون شرعا لنا إذا ورد شرعنا بخلافه، وهذا لا خلاف فيه.
وإنما اختلف أصحاب الأصول في شرع من قبلنا إذا لم يرد شرعنا بموافقته ولا مخالفته، هل يكون شرعا لنا، أم لا؟ " انتهى.
"الأذكار للنووي" (1/363) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وَالسَّبَب فِي النَّهْيِ أَنَّ حَقِيقَة الرُّبُوبِيَّة لِلَّهِ تَعَالَى , لِأَنَّ الرَّبّ هُوَ الْمَالِك، وَالْقَائِم بِالشَّيْءِ فَلا تُوجَدُ حَقِيقَةُ ذَلِكَ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: سَبَب الْمَنْع أَنَّ الْإِنْسَان مَرْبُوبٌ مُتَعَبِّدٌ بِإِخْلَاصِ التَّوْحِيد لِلَّهِ وَتَرْك الْإِشْرَاك مَعَهُ , فَكَرِهَ لَهُ الْمُضَاهَاة فِي الِاسْم لِئَلَّا يَدْخُل فِي مَعْنَى الشِّرْك , وَلَا فَرْق فِي ذَلِكَ بَيْن الْحُرّ وَالْعَبْد , فَأَمَّا مَا لَا تَعَبُّد عَلَيْهِ مِنْ سَائِر الْحَيَوَانَات وَالْجَمَادَات فَلَا يُكْرَهُ إِطْلَاق ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْد الْإِضَافَة كَقَوْلِهِ رَبّ الدَّار وَرَبّ الثَّوْب.
وَقَالَ اِبْن بَطَّال: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَال لِأَحَدٍ غَيْر اللَّه رَبّ , كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَال لَهُ إِلَهُ اهـ. وَالَّذِي يَخْتَصُّ بِاللَّهِ تَعَالَى إِطْلَاق الرَّبّ بِلَا إِضَافَةٍ , أَمَّا مَعَ الْإِضَافَة فَيَجُوزُ إِطْلَاقُهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَنْ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام (اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) ، وَقَوْله: (اِرْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) ، وَقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي أَشْرَاط السَّاعَة: (أَنْ تَلِدَ الْأَمَة رَبَّهَا) ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْي فِي ذَلِكَ مَحْمُول عَلَى الْإِطْلَاق , وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ , وَمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فَلِبَيَانِ الْجَوَاز. وَقِيلَ هُوَ مَخْصُوص بِغَيْرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَرُدّ مَا فِي الْقُرْآن , أَوْ الْمُرَاد النَّهْي عَنْ الْإِكْثَار مِنْ ذَلِكَ وَاِتِّخَاذ اِسْتِعْمَال هَذِهِ اللَّفْظَة عَادَة , وَلَيْسَ الْمُرَاد النَّهْي عَنْ ذِكْرهَا فِي الْجُمْلَة " انتهى.
"فتح الباري" (5/179) .
والحاصل:
أن اسم "الرب" الذي يختص به الله سبحانه وتعالى هو ما يطلق من غير قيد، وأما إن قيد برب شيء معين، خاصة إذا كان هذا الشيء لا يعقل، ولا يكلف بعبادة: فهو جائز؛ ومنه هذه الآية.
وقد قيل في تأويلها أيضا: إنه خاطبهم بلغتهم التي يعرفونها، أو أن ذلك كان جائزا عندهم.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/194)
محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل
[السُّؤَالُ]
ـ[برجاء توضيح أدلة أن محمداً عليه الصلاة والسلام خاتم الرسل والنبيين معاً. فإن جميع الأدلة تدل على ختم النبوة فقط، ولا تشير من قريب أو بعيد إلى ختم الرسالة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اختلف العلماء رحمهم الله في الفرق بين النبي والرسول، وجمهور العلماء على أن النبي هو من أوحي إليه من الله ولم يؤمر بالتبليغ، والرسول هو من أوحي إليه وأُمر بالتبليغ.
ولكن.. مع هذا الاختلاف فإنهم اتفقوا على أن الرسول أفضل من النبي، وأن الرسول قد حاز شرف النبوة وزيادة، ولذلك قالوا: كل رسول فهو نبي، وليس كل نبي رسولا.
وبهذا يتضح أن كل ما ورد في أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين وأنه لا نبي بعده، أنه يدل على أنه لا رسول بعده أيضاً، لأنه لن يكون هناك رسول إلا وهو نبي.
ولو جاء النص على أن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل، لم يكن هذا النص نافيا لوجود نبي بعده، لأنه يحتمل أن يوجد نبي وليس برسول.
لكن.. قد جاء النص بأن الرسول صلى الله عليه ومسلم هو خاتم النبيين وأنه لا نبي بعده، فهذا ينفي وجود نبي بعده، وكذلك ينفي وجود رسول بعده.
قال ابن كثير رحمه الله:
" (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) ... فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بالطريق الأولى والأحرى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس".
"تفسير ابن كثير" (3/645) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "وإذا كان خاتم النبيين فهو خاتم الرسل قطعاً، إذ لا رسالة إلا بنبوة، ولهذا يقال: كل رسول نبي، وليس كل نبي رسول" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن عثيمين" (1/250) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/195)
الفيلم الهولندي المسيء للإسلام تعليق، ونقد، وتوجيه
[السُّؤَالُ]
ـ[خرج في هذه الأيام فيلم هولندي فيه إساءة للإسلام وأهله، واصفاً لهم بالإرهاب، فما هو توجيهكم للمسلمين حيال هذا الموضوع؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
إن الصراع بين الحق والباطل قديم، وما يزال جنود الباطل يقفون في وجه الحق في كل عصر ومصر، فيخذلهم الله تعالى بقوة الحق، ويقذف الله تعالى بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
ومنذ أن خُذل إبليس وترك استجابة أمر الله تعالى بالسجود لآدم عليه السلام بدأ الكيد للحق وأهله، وطلب إبليس من ربِّه الإنظار، لا ليتوب، بل ليكيد، وليُكثر من أتباعه، فيدخل وإياهم نار الله تعالى، وهناك سيقف خطيباً فيهم ويقول: (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) إبراهيم/ 22.
ثانياً:
قد تعرَّض الإسلام لمكائد كثيرة وكبيرة، ولكنَّ الله تعالى تكفَّل بحفظ دينه؛ لأنه جعله خير الأديان وخاتمتها.
ثالثاً:
نقف هنا مع حدَث حديث، لن يكون الأخير؛ لوجود شياطين الإنس والجن، ومحاولاتهم اليائسة البائسة للنيل من هذا الدين، وكتابه المقدس والنبي العظيم صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحدَث هو ما صنعته يد الإثم والبهتان المسمَّى " غيرت فيلدرز "، زعيم حزب " الحرية "، وهو يميني هولندي متعصِّب، أراد أن يطعن في هذا الدين العظيم؛ ليُعرف، وليحصِّل مكاسب سياسية، لكنَّ الله تعالى خذله، وسيُخذل أكثر وأكثر، إن شاء الله، فأنتج ذلك الحاقد " فيلماً " قصيراً لا يتجاوز 17 دقيقة عن الإسلام والقرآن ملأه بالأكاذيب والافتراءات، وقد سمَّاه " فِتنة "! ، ولو عُرض ما قاله وقاءه على معهد أو جامعة " أكاديمية ": لكان حقه التوبيخ والإهانة؛ لعدم موضوعيته؛ ولتحريفه وتزويره للحقائق.
وقد بدأ فيلمه وأنهاه بوضع صورة مشينة للنبي صلى الله عليه وسلم مما رسمته اليد الآثمة المجرمة، يد الرسام الدنماركي، وهي تمثل في أول الفيلم قنبلة على عمامة صورة للنبي صلى الله عليه وسلم – في زعمه – وهي في أول اشتعالها، وفي آخر الفيلم تصل الشعلة لنهايتها، وتنفجر! وهو يريد بذلك إيصال رسالة خسيسة بأن الإسلام جاء للدمار والخراب، وأن السكوت عنه سيؤدي إلى زوال الحضارات والأمم غير المسلمة! .
رابعاً:
يمكننا تقسيم وقفاتنا مع ذلك الفيلم السيئ إلى عدة أقسام:
1. آيات مقتطعة عن سياقاتها، ومحرَّفةٌ معانيها.
ومن أمثلة ذلك:
أ. أول الآيات في فيلمه قراءة هي قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) الأنفال/ 60.
وقد أوصل القراءة إلى هذا الحدِّ، ولم يُكملها، وأراد إثبات لفظ (تُرهِبون) للدلالة على أن الإسلام هو الإرهاب، وهو ما يسعى كثيرون من الحاقدين والجهلة للصقه بالإسلام.
ولسنا نخجل مما في كتاب ربنا تعالى، ولسنا ننكر هذه الآية، بل نتعبد الله بقراءتها، ونسأله التوفيق للعمل بها، ونرد على استدلاله بهذا المقطع بوجهين اثنين – خشية الإكثار وخروج الرد عن منهج الموقع -:
الأول: أن هذا الذي أنكره على الإسلام هو ما تفعله الدول الكبرى والعظمى، فهي تنتج الأسلحة الفتاكة، والقنابل النووية والذرية، والطائرات، والغواصات، وغيرها؛ حماية لنفسها؛ وإرهاباً لأعدائها خشية أن يتعدى أحد عليها! وهو المراد بهذه الآية، ولم يطمع الكفار المحتلون ببلاد المسلمين إلا عندما عطَّلوا العمل بهذه الآية، ومن آخر أمثلة ذلك: العراق، حيث ضغطوا على حكومته لتدمير أسلحته، وصواريخه، فلمّا تمَّ ذلك، وتأكدوا منه: غزوا البلد، واحتلوه، وساموا أهله سوء العذاب.
الثاني: أن تكملة سياق الآية بعدها يفسِد عليه ما أراده من إلصاق الإرهاب – بمفهومه هو وعصابته – بالإسلام، والآية التي بعدها مباشرة: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الأنفال/ 61.
ب. وثاني آية مسموعة في ذلك الفيلم: قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً) النساء/ 56.
ومن تدليس هذا المخرج أنه جاء بهذه الآية ليبين للمشاهدين أن الإسلام يأمر بحرق المخالفين له حتى تنضج جلودهم! وأن هذا من تشريع الله لهم.
والرد عليه من جهتين:
الأولى: أن فعله تدليس أخرق؛ لأن الله تعالى يذكر فيها عقوبة الكفار يوم القيامة! وليس هي في الدنيا، وقد جاء بعدها ذِكر جزاء الممنين الموحدين، فقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً) النساء/ 57.
والثانية: أن أدنى تأمل في الآية يبين به كذب وافتراء وتدليس هذا المخرج، ففي الآية قول الله تعالى (بدَّلْنَاهم جُلُوداً غَيْرَهَا) وهل يملك المسلمون تبديل جلود من احترقت جلودهم في الدنيا؟! .
2. صورٌ مفبركة، أو غير دالة على مراده، أو هي منكرة في الإسلام أصلاً.
ومن أمثلتها:
أ. صور لمجموعة من الرافضة – الشيعة – تجرح نفسها وأبناءها بالآلات الحادة، فتُدمى رؤوسهم، في منظر بشع سيء، وهذا ليس من ديننا، وإنما يفعله بعض المنتسبين إلى الإسلام جهلاً منهم وضلالاً.
والصورة التي فيها سيوف مرفوعة عليها دماء: أيضاً هي من صور الرافضة في مناسبات عندهم، وقد أفهم المخرجُ الكذابُ النّاسَ أنها لمسلمين! وأنهم للتو قد انتهوا من حفلة تقطيع رؤوس للكفار! .
ب. ومن الصور المضحكة الواضحة الكذب: صور لنساء مسلمات منتقبات يرفعن لوحات كُتب عليها " بارك الله في هتلر "! .
ونقول: وهذا واضح أنه كذب وتدليس، فإن ديننا يمنعنا من الدعاء لمن مات كافراً، قال الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) التوبة /113، فكيف تدعو نساء منتقبات ملتزمات بأحكام الإسلام لهتلر بالبركة.
3. مقاطع مرئية، بعضها يحتوي حقّاً لا ريب فيه، وبعضها تزوير للحقائق، وتدليس على المشاهدين.
ومن أمثلة ذلك:
أ. لقاء مفبرك مع طفلة صغيرة، وواضح أنهم لم يحسنوا تمثيلها، ولا فبركتها، وذلك من وجهين:
الأول: أنها محجبة، وهم يسألونها عن دينها! فلم التلبيس والتدليس وكأنه أمر طبيعي غير مفبرك؟! .
والثاني: أن الطفلة الممثلة! سئلت عن رأيها في اليهود والنصارى، فقالت: قردة وخنازير.
وهذا ليس من ديننا، فليس فيه أن اليهود والنصارى قردة وخنازير، وإنما فيه أن طائفة من اليهود السابقين احتالوا على شرع ربهم، فعاقبهم الله تعالى فمسخهم قردة، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) البقرة/ 65، وقال تعالى: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) الأعراف/ 166.
ب. ومن المقاطع المرئية المقطوعة عن سياقاتها: مقطع ذلك الخطيب الذي يُخرج السيف، ويتوعد الكفار! .
وهذا الشيخ معروف، وهو عراقي، رفع السيف في خطبته تهييجاً للناس على الجهاد ضد الكفار المحتلين لبلده - وقد قتله الرافضة عليهم من الله ما يستحقون -، وماذا يراد من المسلمين إذا احتلت بلادهم؟ التسليم لأموالهم وأعراضهم، وانتظار القتل، أو الرضا والعفو عن المحتل المجرم؟! بل الإسلام دين العزة، والكرامة، والمسلمون يأبوْن الذل، ولا بدَّ من قتال المحتل، وهذا مؤيد من أديان الأرض وشرائعه جميعاً، بل رأس الاحتلال نفسه قال: لو احتلت بلدي لقاتلت المحتل، وعلى فرض تصديقه أنه يقاتل ولا يفر: فهو لم يقل إلا الحقيقة والواقع، أي: أن المحتل يقاتَل.
فما هو المنكر في جهاد المسلمين لمن احتل أرضهم؟
خامساً:
انصبت الأفكار الرئيسية جميعاً على الطعن في الإسلام، من خلال: السخرية والاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن خلال الطعن في القرآن، وأنه كتاب " فاشي "! كما قال في الفيلم، ومن خلال التنبيه على خطر المساجد، وكل ذلك حاوله المخرج في فيلمه القصير عن طريق المقاطع المرئية، والصور المؤثرة، ومن خلال الموسيقى المصاحبة لهما، لكنه فشل فشلاً ذريعاً؛ لاستعماله الكذب، والتزوير، والتدليس، وهو ما لن يقبله منه المشاهد، حتى لو كان كافراً.
وقد أرجع الله تعالى مكر المخرج على نفسه، فقد انكبَّ الناس في " هولندا " على الكتب الإسلامية، وعلى المصاحف، لشرائها، والنظر فيها، وسيرون فيها ما يبين كذب وتزوير ذلك المخرج الفاشل، وقد حصل بالفعل، فقد أسلم ثلاثة أشخاص من تلك البلاد بعد عرض الفيلم، وقد هددت شركات هولندية برفع قضايا على النائب المخرج إذا قاطعت الدول الإسلامية منتوجاتها، وسيبوء ذلك النائب المخرج بالخزي والعار، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.
سادساً:
قد نصر الله تعالى دينه نصراً مبيناً، فمنذ الإعلان عن قرب عرض الفيلم والمؤسسات والحكومات والأفراد من غير المسلمين ينكرون على النائب فعله، ويبينون عدم ربط الإسلام بالعنف والإرهاب، وأن المسلمين هم ضحايا للإرهاب مثل غيرهم، ومن هؤلاء المنكرين الرافضين لفعل ذلك النائب المخرج: رئيس وزراء هولندا، وله كلام قوي في إنكاره ورفضه، وسكرتير هيئة الأمم المتحدة، والاتحاد الأوربي، وجمع من الساسة، والقادة، والدول، وقد رفضت المحطات الفضائية العامة والخاصة عرض هذا الفيلم، ولم يجد إلا موقعاً في " الإنترنت " لينشره.
وجاء في " مفكرة الإسلام " (السبت 22 ربيع الأول 1429هـ، 29 – 3 - 2008م) :
" ففي بروكسل: أدان البرلمان الأوروبي هذا الفيلم المسيء؛ حيث هاجم رئيس البرلمان " هانز غيرت بوتيرنغ " بشدة النائب الهولندي " فيلدرز " قائلاً في بيان له: إن محتوى الفيلم " يبدو مصمماً لاستفزاز الحساسية الدينية للمسلمين في هولندا وأوروبا والعالم ".
وأضاف قائلاً: " نيابة عن البرلمان الأوروبي أرفض بشدة تأويل الفيلم بأن الإسلام ديانة عنيفة "، مشيراً إلى أنه يصادق تماماً على بيان الحكومة الهولندية الرافض لفيلم (فتنة) ".
وكذلك أصدر الاتحاد الأوروبي بيانًا اعتبر فيه الفيلم الذي تبلغ مدته 15 دقيقة " معادياً للإسلام " و " مهيناً " و " ينشر الكراهية " انتهى.
وأما المسلمون فقد تحركوا في الإنكار، والشجب، وإخراج البيانات والتحذيرات من الاستمرار في الإساءة لشعائر ديننا ورموزه، وقد هددت بعض الدول بقطع علاقاتها مع هولندا، وطالب نواب في بعض الدول بطرد السفير الهولندي، ومقاطعة البضائع الهولندية، وعلى الضعف والتفرق الذي يعيشه المسلمون يعتبر هذا نصراً عظيماً للإسلام، حيث يوجد من يدافع عن ديننا من الكفار والمسلمين، وقد بعث رئيس وزراء هولندا نفسه رسالة لشيخ الأزهر يبين له فيها رفض حكومته لإنتاج هذا الفيلم وعرضه، وأن هناك قضية مرفوعة في المحاكم الهولندية.
فكيف سيكون الأمر والحال لو أن المسلمين كانوا على قلب رجل واحد، وكان لهم من القوة ما يهابهم الحاقدون الأفاكون بسببها؟! .
سابعاً:
الذي تبين لنا أن ذلك النائب الكاذب أراد تحقيق أهداف من خلال فيلمه ذاك، ومنها:
1. كسب شخصي، للشهرة، والفوز بالانتخابات.
2. إرضاء اليهود، وقد وضح ذلك في فيلمه في عدة مقاطع يُظهر فيه الشفقة عليهم! وهم محتلون مجرمون، وفي الوقت الذي تكلَّم فيه عن القتل عند المسلمين: نسي أو تناسى أمرين:
الأول: أن الذي حرق الملايين من اليهود: نصراني! وهو هتلر! وقد ذكر في كتابه " كفاحي " أن هذا كان بأمر الله! .
والثاني: أن اليهود قتلوا وشردوا من المسلمين أعداداً كبيرة، ولم يخجلوا من أنفسهم في معركتهم الأخيرة على " غزة " أن يسموا فعلهم " محرقة "! .
3. تنبيه الغرب على ارتفاع نسبة المسلمين في بلادهم، وأن كثرة أعداد المسلمين تشكل خطراً على أوربا! .
4. تنبيه أوربا عموما، وهولندا على وجه الخصوص من انتشار المساجد فيها، وقد بان ذلك من خلال نشره لصور مساجد في هولندا؛ ليحذر من وجودها.
5. محاولة منع المصحف من التداول في أوربا، ومقارنة القرآن الكريم بكتاب هتلر " كفاحي "! ومن هنا فقد وصف القرآن بـ " الفاشي "! وهو مصطلح يشير إلى العنف والقسوة.
وقد خذل الله هذا النائب المخرج بذلك العمل الهزيل، المليء بالكذب، والافتراء، وسيرى الناس الفرق بين الكذب والحقيقة عندما يطلعون على القرآن الكريم، وعلى ما كتب عنه وعن الإسلام من عقلاء أقوامهم، وسيكون هذا الفيلم دافعاً لهم لتلك القراءة، وذلك الاطلاع، إن شاء الله، ولعله يكون سبباً لإنقاذ كثيرين من الضلالة.
ثامناً:
وصفُ الإسلام بالإرهاب والعنف: هو الرسالة الأصلية لهذا الفيلم، وهذا: ليس إلا إفكاً مفترىً، فالإسلام دين الرحمة، والعدل، والإنسانية، وهو الذي أنقذ أهل الأديان من جور حكامهم، ومخالفيهم، كما كان الحال في " الأندلس "، وفي " مصر " وغيرهما من البلدان التي كان يسام فيها أهل المخالفة سوء العذاب، حتى اليهود منهم! .
قال " إسرائيل ولفنسون ":
" إن الخسارة القليلة التي لحقت بيهود بلاد الحجاز ضئيلة بالقياس إلى الفائدة التي اكتسبها اليهود من ظهور الإسلام، لقد أنقذ الفاتحون المسلمون آلافاً من اليهود كانوا منتشرين في أقاليم الدولة الرومية، وكانوا يقاسون ألواناً من العذاب ".
" اليهود والتحالف مع الأقوياء " الدكتور نعمان عبد الرزاق السامرائي، بواسطة مقال الأستاذ خالد جودة " الفارق الإنساني بين حضارة الإسلام وثقافة الغرب ".
وليس الإسلام دين ذل وهوان، فالجهاد في سبيل الله من شعائره، ومن أعظم الأعمال فيه، وهو مشروع لحماية المسلمين من عدوهم، ولتبليغ دين الله تعالى، ونشر كلمة التوحيد في آفاق الأرض، وليس في الإسلام أنه يُكره الناس على دخوله؛ لأن من شرط الإسلام الصدق والإخلاص، فإذا لم يتصف بهما فسيكون منافقاً بين صفوف المسلمين، ولا يحرص الإسلام على وجود هذا الصنف الدنيء بين أفراده، بينما نجد القساوسة والرهبان قد ساهموا في إجبار الناس على اعتناق النصرانية في أوربا وغيرها، حتى بلغ القتلى من أجل ذلك الهدف أعداداً مهولة، قال المؤرخ " بريفولت " إنها من 7 – 15 مليوناً! .
ومن الظلم البيِّن الالتفات إلى أخطاء بعض المسلمين مما ينكره علماؤه وأئمته من قتل الأبرياء، ونسبة ذلك للإسلام – كما جاء في بعض مقاطع في الفيلم نحو تفجير قطارات لندن ومدريد وأمثال ذلك، فهذا كله أنكره أهل العلم مع أنه لم يكن ابتداء من أحد، وإنما كان ردة فعل من الظلم والقهر - وفي الوقت ذاته يغفل هؤلاء عن قتلى الحرب العالمية الأولى والثانية والتي مات فيهما عشرات الملايين – قتلى الحرب الأولى: 14 مليوناً! وقتلى الثانية: 55 مليوناً! - ولم تكن بين المسلمين والنصارى، بل كانت بينهم أنفسهم، وعن قتلى اليابان من القنبلة الذرية الأميركية، وقتلى الهنود الحمر من الأمريكان، وقتلى الشعوب الآسيوية من الأمريكان أيضاً، وقتلى المستعمرين المحتلين.
ويغفلون عن الدمار والإرهاب الذي جاءت به الحملات الصليبية على بلاد المسلمين، ويغفلون عما تفعله أمريكا وحلفاؤها اليوم في أفغانستان، والعراق، وما فعله الصرب بمباركة القساوسة في المسلمين في " البوسنة "، وغير ذلك الكثير والكثير، وإن نسي التاريخ أشياء: فإنه لا ينسى " محاكم التفتيش "، وخاصة تلك التي كانت في " إسبانيا ".
قال " غوستاف لوبون " في كتابه " حضارة العرب ":
" وعاهد " فرديناند " العربَ على منحهم حرية التدين، واللغة، ولكنه في سنة 1499م: لم تكد تحل: حتى حلَّ بالعرب دور الاضطهاد، والتعذيب الذي دام قروناً! والذي لم ينته إلا بطرد العرب من " أسبانية "، وكان تعميد العرب كرهاً فاتحة ذلك الدور، ثم صارت " محاكم التفتيش " تأمر بإحراق كثير من المعمَّدين على أنهم من النصارى، ولم تتم عملية التطهر بالنار إلا بالتدريج، لتعذر إحراق الملايين من العرب دفعة واحدة! .
ونصح كردينال طليطلة التقي! الذي كان رئيساً لمحاكم التفتيش بقطع رؤوس جميع من لم يتنصر من العرب، رجالاً، ونساءً، وشيوخاً، وولداناً، ولم ير الراهب الدومينيكي " بليدا " الكفاية في ذلك، فأشار بضرب رقاب من تنصر من العرب، ومَن بقي على دينه منهم، وحجته في ذلك: أن من المستحيل معرفة صدق إيمان من تنصر من العرب، فمن المستحب إذن قتل جميع العرب بحد السيف؛ لكي يحكم الرب بينهم في الحياة الأخرى، ويُدخِل النار من لم يكن صادق النصرانية منهم! ....
ولا يسعنا سوى الاعتراف بأننا لم نجد بين وحوش الفاتحين من يؤاخذ على اقترافه مظالم قتل كتلك التي اقترفت ضد المسلمين.
" حضارة العرب " (ص 270 – 272) باختصار.
ومن يتأمل الآن يجد أن أهل الإرهاب هم أهل الأديان الأخرى من النصارى، واليهود، والهندوس، والسيخ، ويجد أن المسلمين هم ضحايا هذا الإرهاب، فمتى يستيقظ النيام من نومهم؟! ومتى يصحو الغافلون من غفلتهم؟! .
ونقول لهذا النائب الكاذب الذي يدعونا لتمزيق آيات إرهابية من القرآن الكريم – على حد زعمه -: تعال لنر كتابك المقدَّس ماذا فيه من الإرهاب - بنفس زعمك -:
إن كنت يهوديّاً تؤمن بالعهد القديم: فهاك ما فيه مما ينسب إلى الرب تعالى مما قاله لموسى:
في " سفر التثنية " (20، 10 – 17) : " إذا دَنوتَ منَ القرية لتقاتِلهم ادعُهم أوّلاً إلى الصّلح ... فأمّا القرى التي تعطَى أنت إيّاها فلا تستحيِ منها نفسًا ألبتّة، ولكن أهلِكهم إهلاكًا كلَّهم بحدِّ السيف الحَيثِيّ والأموري والكنعاني والفرزي، كما أوصاك الربّ إلَهُك ".
وإن كنت نصرانيّاً وأردت شيئاً من العهد الجديد: فهاك بعض ما فيه:
في " متَّى " (10 / 34 – 36) : يروى فيه عن عيسى عليه السلام قال: " لا تظنّوا أني جِئت لأحمِلَ السلام إلى العالم، ما جِئتُ لأحمل سلاماً بل سَيفاً، جئتُ لأفرّق بين الابن وأبيه، والبنتِ وأمّها، والكَنَّة وحماتها، ويكون أعداء الإنسان أهل بيته ".
وللاستزادة: ينظر كتاب " السيف بين القرآن والكتاب المقدس " للدكتور حبيب عبد الملك:
http://www.elforkan.com/7ewar/showthread.php?t=7597
تاسعاً:
الواجب على المسلمين الآن:
1. عدم إحداث مشكلات في بلادهم، من مظاهرات تُحطم فيها الممتلكات، أو تراق فيها الدماء.
2. إرجاع الأمر إلى العلماء والحكماء لمعالجة الأمر، هذا أو غيره مما يشبهه.
3. السعي نحو التمسك بالإسلام قولاً وعملاً، فهذا من جهة يساهم في انتشار الإسلام، ومن جهة أخرى يغيظ الكفار الحاقدين على الإسلام وأهله.
4. الدعوة إلى الله بحكمة وعلم، وتوزيع المصاحف المترجمة، والكتب الإسلامية الميسرة على غير المسلمين، والاستعانة في ذلك بالمؤسسات الإسلامية الموثوقة، والعلماء الثقات.
والله الهادي
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/196)
عدد الرسل والأنبياء
[السُّؤَالُ]
ـ[فضلا أخبرني عن عدد الرسل المذكورين في تاريخ الإسلام بالتفصيل؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة من أهم مصادر التاريخ التي يجزم بها المسلمون، ويمكننا الوقوف في شأن عدد الرسل والأنبياء على آيات واضحة في القرآن الكريم تذكر أسماء الرسل والأنبياء الذين بعثهم الله إلى الناس في زمانهم.
يقول سبحانه وتعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) الأنعام/83-86
وهنا يذكر الله سبحانه وتعالى أسماء ثمانية عشر رسولا، ولكن ذلك ليس على سبيل الحصر والتعداد، فقد ذكرت أسماء رسل آخرين في آيات أخرى لم تذكر في هذا السياق.
وقد جمع الحافظ ابن كثير أسماء من نص القرآن على أسمائهم، فبلغت (25) خمسة وعشرين اسما، فقال رحمه الله:
" هذه تسمية الأنبياء الذين نُصَّ على أسمائهم في القرآن، وهم:
آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهارون، ويونس، وداود، وسليمان، وإلياس، والْيَسَع، وزكريا، ويحيى، وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين، وسيدهم محمد صلى الله وعليه وسلم " انتهى.
"تفسير ابن كثير" (2/469)
وأما معرفة عدد جميع الرسل والأنبياء ممن لم يسمهم القرآن الكريم، فلا يبدو أن ذلك ممكنا لسببين اثنين:
1- لقوله سبحانه وتعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) النساء/163-164
ففي هذه الآية تصريح بيِّنُ أن الله سبحانه وتعالى طوى قصص كثير من الرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعلمه بهم، ويبدو أن ذلك يشمل تحديد أعدادهم أيضا.
يقول الشيخ العلامة محمد الحسن الددو في تعليقه على هذه الآية:
" هذا يقتضي أنه لم يبين أعدادهم ولم يذكر أسماءهم للنبي صلى الله عليه وسلم " انتهى.
نقلا من محاضرة للشيخ بعنوان: "الإيمان بالرسل" على هذا الرابط:
http://audio.islamweb.net/audio/index.php?page=FullContent&audioid=151437
2- اضطراب واختلاف روايات الأحاديث الواردة في هذا الشأن، وهي وإن كان حسنها بعض أهل العلم من المتأخرين – كالشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (رقم/2668) – إلا أن الصواب ضعفها، وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (7/409) عن الإمام أحمد ومحمد بن نصر أن حديث أبي ذر – وهو أشهر حديث في ذكر عدد الرسل وأنهم (315) رسولا – لم يثبت عندهم.
وقد سبق التوسع في بيان ضعف هذه الروايات في جواب السؤال رقم (95747) ، كما فيه النقل عن جماعة من أهل العلم في نفي الجزم بعدد معين للرسل والأنبياء، يرجى مراجعته والإفادة منه.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/197)
هل توفي عيسى عليه السلام؟ أين هو الآن؟ وتعليق على نقل من إنجيل " متى "
[السُّؤَالُ]
ـ[أرغب في معرفة الدليل على عدم وفاة نبي الله عيسى عليه السلام، وهل صح قوله عليه السلام في إنجيل متى " لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام، وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال "؟ ، وهل هذا دليل من الإنجيل على عدم وفاة نبي الله عيسى؟ وهل ظل نبي الله عيسى على الأرض للمدة نفسها التي قضاها يونس في بطن الحوت؟ وفقًا لمعلوماتي أن عيسى قضي يومين وليلتين فقط (ليلة السبت ويوم السبت، وليلة الأحد ويوم الأحد، ثم لم يجدوه في قبره، وفقًا لكلامهم) ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا تستطيع أمة من الأمم ـ سوى أمة الإسلام ـ أن تثبت إسناد قصصها وتاريخها إلى نبيها؛ ذلك أن الله تعالى لم يتكفل بحفظ كتب الأديان التي قبل القرآن، وليس يوجد أمة من الأمم عنيت بالأسانيد قبل أمة الإسلام، لذا فإن كل ما ينقلونه من حوادث وأخبار عن نبيهم وتاريخهم السالف فهو مما لا يمكن إثباته، ولذا فإن دياناتهم اعتراها التحريف، والتقول، والكذب.
وأما أمَّة الإسلام فإن الله تعالى قد أطلعها على شيء من أخبار من سلفها من الأمم، وعن بعض أحوال الأنبياء والرسل السابقين، وهي أخبار صدق، ليس ثمة ما يضادها إلا الافتراء والكذب.
ومن الأخبار الغيبية التي عندنا خبرها الموثَّق، والتي اختلفت فيها الأقوال عند غيرنا: هو ما حصل مع نبي الله عيسى عليه السلام، حيث أخبرنا الله تعالى أنه لم يُقتل، ولم يُصلب، وأنه تعالى قد ألقى شبهه على غيره، وأن هذا الآخر هو الذي قتلوه، وصلبوه، وليس عيسى عليه السلام، وقد أخبرنا ربنا تعالى أنه رفعه إليه، وأنه سينزل في آخر الزمان، يقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويحكم بالإسلام، وأما غيرنا ممن يدعي أنه من أتباعه فقد اختلفوا فيه اختلافاً عظيماً، فمنهم من قال عنه إنه هو الله! ومنهم من زعم أنه ابن الله! وطائفة قليلة هم الذين شهدوا رفع عيسى عليه السلام وإلقاء الشبه على غيره، وهم الذين لم يعتقدوا فيه أكثر من النبوة والرسالة.
قال ابن كثير رحمه الله في " تفسير ابن كثير " (2 / 47) : " فإن المسيح عليه السلام لمَّا رفعه الله إلى السماء: تَفَرَّقت أصحابه شيَعًا بعده، فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله، ورسوله، وابن أمَته، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله، وآخرون قالوا: هو الله، وآخرون قالوا: هو ثالث ثلاثة، وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن، ورَدَّ على كل فريق ... " انتهى.
ثانياً:
عدم صلب المسيح عيسى عليه السلام، وعدم قتله: عقيدة عند أهل السنَّة والجماعة، ومصدر هذا الاعتقاد نصوص القرآن الواضحة البيِّنة، ولم يخالف في هذا أحد من أهل الإسلام، ومن خالف فيه كان مرتدّاً.
سئل علماء اللجنة الدائمة:
هل عيسى بن مريم حي أو ميت؟ وما الدليل من الكتاب أو السنَّة؟ إذا كان حيّاً أو ميتا: فأين هو الآن؟ وما الدليل من الكتاب والسنَّة؟ .
فأجابوا: " عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام حيٌّ، لم يمت حتى الآن، ولم يقتله اليهود، ولم يصلبوه، ولكن شبِّه لهم، بل رفعه الله إلى السماء ببدنه وروحه، وهو إلى الآن في السماء، والدليل على ذلك: قول الله تعالى في فرية اليهود والرد عليها: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) النساء/ 157، 158.
فأنكر سبحانه على اليهود قولهم إنهم قتلوه وصلبوه، وأخبر أنه رفعه إليه، وقد كان ذلك منه تعالى رحمةً به، وتكريماً له، وليكون آية من آياته التي يؤتيها من يشاء من رسله، وما أكثر آيات الله في عيسى ابن مريم عليه السلام أولاً وآخراً، ومقتضى الإضراب في قوله تعالى: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) : أن يكون سبحانه قد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام بدناً وروحاً حتى يتحقق به الرد على زعم اليهود أنهم صلبوه وقتلوه؛ لأن القتل والصلب إنما يكون للبدن أصالة؛ ولأن رفع الروح وحدها لا ينافي دعواهم القتل والصلب، فلا يكون رفع الروح وحدها ردّاً عليهم؛ ولأن اسم عيسى عليه السلام حقيقة في الروح والبدن جميعاً، فلا ينصرف إلى أحدهما عند الإطلاق إلا بقرينة، ولا قرينة هنا؛ ولأن رفع روحه وبدنه جميعاً مقتضى كمال عزة الله، وحكمته، وتكريمه، ونصره مَن شاء مِن رسله، حسبما قضى به قوله تعالى في ختام الآية (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) .
الشيخ عبد العزيز بن باز , الشيخ عبد الرزاق عفيفي , الشيخ عبد الله بن غديان , الشيخ عبد الله بن قعود.
" انتهى "فتاوى اللجنة الدائمة" (3 / 305 , 306) .
وانظر تفصيلاً أوفى في المرجع نفسه: (3 / 299 – 305) .
وانظر اعتقاد المسلمين في المسيح عليه السلام في جواب السؤال رقم: (43148) .
وفي جواب السؤال رقم: (10277) تجد نبذة عن نبي الله عيسى عليه السلام.
وفي جواب السؤال رقم: (12615) تجد حواراً مع نصراني حول صلب المسيح.
وفي جواب السؤال رقم: (43506) تجد إجابة عن إشكالات في آيات حياة المسيح عليه السلام وموته.
ثالثاً:
أما فيما يتعلق بقبر المسيح وخروجه منه، وتشبيه تلك الآية بآية يونس عليه السلام: فقد تولَّى نقد هذه المسائل، وبيان ضلالها، وتنقضها: علماؤنا المختصون فبيَّنوا ما فيها من جهل، وتناقض.
قال الهندي – رحمه الله – معلِّقاً على الفقرة الواردة في السؤال -:
فطلب الكتبة والفريسيون معجزة، فما أظهرها عيسى عليه السلام في هذا الوقت، وما أحالهم إلى معجزة صدرت عنه فيما قبل هذا السؤال، بل سبَّهم، وأطلق عليهم لفظ " الفاسق " و " الشرير "، ووعد بالمعجزة التي لم تصدر عنه، لأن قوله " كما كان يونان في بطن الحوت الخ ": غلط، بلا شبهة - كما علمت في الفصل الثالث من الباب الأول -.
وإن قطعنا النظر عن كونه غلطاً: فمطلق قيامه لم يره الكتبة، والفريسيون بأعينهم، ولو قام عيسى عليه السلام من الأموات: كان عليه أن يُظهر نفسه على هؤلاء المنكرين الطالبين آية ليصير حجة عليهم، ووفاء بالوعد، وهو ما أظهر نفسه عليهم، ولا على اليهود الآخرين، ولو مرة واحدة، ولذلك لا يعتقدون هذا القيام، بل هم يقولون من ذاك العهد إلى هذا الحين: أن تلاميذه سرقوا جثته من القبر ليلاً.
" إظهار الحق " (4 / 1312) .
وللشيخ أحمد ديدات رحمه الله ثلاثة كتب في الباب نفسه، وهي: " ماذا كانت آية يونان؟ " و " قيامة أم إنعاش؟ " و " من دحرج الحجر؟ "، فانظرها.
وليس ثمة قيمة – أصلاً – لنقولاتهم، فقد دخلها التحريف والتبديل، وقد احتوت على الافتراءات والأباطيل، ومع ذلك فقد أبان علماؤنا عن عوارها.
وأخيراً:
ننصح الأخ السائل – وغيره ممن يقرأ هذه الكلمات – أن ينشغل بتعلم دينه، ويتقوى في طاعة ربه تعالى، وأن يصرِف نفسه عن تتبع ضلالات الفرَق والأديان، فتلك معركة لها فرسانها، ولا مانع أن يكون منهم، لكن يحتاج هذا لخبرة علمية، وطول نفس في طلب العلم، ومعرفة الحق بدليله، ونسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين لما فيه خير دينهم ودنياهم.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/198)
كم سنة عاش نوح عليه السلام؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل عاش نوح عليه السلام (950) سنة، ولماذا ذكر قي القرآن أنه عاش ألف سنة إلا خمسين عاما، حيث ميز بين السنة والعام؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
في عمر نوح عليه السلام العظة والعبرة البالغة:
فهي قرون طويلة قضاها في قومه يدعوهم إلى الله تعالى، يشفق عليهم من عذابه، ويرجو لهم رحمته، ولم يصبه اليأس ولا أخذه القنوط، بل رجا أن يهديهم الله على يديه وإن طال الزمان، فكانت سنوات عمره دروسا للدعاة والمعلمين والمربين في الصبر والعزيمة والإيمان.
كما أن فيها من العظة والعبرة لكل إنسان، ليدرك أن الموت آت وإن طال الزمان، وأن العمر إنما هو أيام تتقضى مع غروب شمس كل يوم، لتسدل الستار على قصة روحه التي منحت فرصة نيل السعادة الأبدية في الجنة، فيا فوزها إن كان سعيها في تحصيل هذه السعادة، ويا خسارها إن قصرت وفرطت.
روى ابن أبي الدنيا في "الزهد" (رقم/358) بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
جاء ملك الموت إلى نوح عليه السلام، فقال: يا أطول النبيين عمرا! كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال: " كرجل دخل بيتا له بابان، فقام في وسط البيت هنيهة – القليل من الزمان -، ثم خرج من الباب الآخر " انتهى.
والمسلم الحصيف هو الذي يلتفت إلى هذه المعاني والعبر، فتبعث في نفسه العزيمة وتحثها على العمل، ولا ينبغي أن يشغل باله كثيرا بتفاصيل التاريخ التي لم يلتفت إليها الوحي في بيانه، ولم يثبت فيها شيء من أدلة الشريعة المعتمدة.
ومن ذلك السؤال عن تحديد عمر نوح عليه السلام، فقد ورد فيه عدة أقوال لعلماء للسلف من الصحابة والتابعين، ولم يثبت فيه شيء من الكتاب والسنة الصريحة كي يجزم بأحد هذه الأقوال، ولكننا نسرد هذه الأقوال هنا من باب زيادة العلم بما تنقله كتب السلف:
القول الأول: (950) سنة: وهو قول قتادة.
جاء في "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (6/268) :
" وقال قتادة: يقال إن عمره كله كان ألف سنة إلا خمسين عاما، لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلثمائة سنة، ودعاهم ثلثمائة، ولبث بعد الطوفان ثلثمائة وخمسين سنة " انتهى.
روى نحوه ابن أبي حاتم في "التفسير" (رقم/18041)
القول الثاني: (1050) سنة: قاله ابن عباس.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
" بعث الله نوحا وهو ابن أربعين سنة، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله، وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا " انتهى.
عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (6/455) لكل من ابن أبي شيبة (7/18) ، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم (9/251) ، وصححه وابن مردويه.
القول الثالث: (1020) سنة: قول كعب الأحبار.
روى ابن أبي حاتم في "التفسير" (رقم/18043) حدثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، ثنا أبو رافع إسماعيل بن رافع، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن كعب الأحبار، في قول الله: " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما "، قال:"عاش بعد ذلك سبعين عاما".
القول الرابع: (1400) سنة: يحكى عن ابن عباس، وهو قول وهب بن منبه:
انظر "تفسير القرطبي" (13/332)
القول الخامس: (1650) سنة: قول عون بن أبي شداد.
عن عون بن أبي شداد، قال:
" إن الله تبارك وتعالى أرسل نوحا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاث مائة سنة، فدعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاث مائة سنة "
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير" (رقم/18044) والطبري في "جامع البيان" (20/17)
القول السادس: (1700) سنة، قول عكرمة.
عن عكرمة رضي الله عنه قال:
" كان عمر نوح عليه السلام قبل أن يبعث إلى قومه وبعدما بعث ألفا وسبعمائة سنة " انتهى.
عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (6/456) لعبد بن حميد
قال ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (6/268) بعد أن استغرب الأقوال السابقة:
" وقول ابن عباس أقرب " انتهى.
ثانيا:
اختلف المفسرون أيضا في الحكمة من استعمال لفظي " السنة " و " العام "، على قولين:
القول الأول: ذهب بعض المفسرين إلى أنها حكمة لفظية فحسب، لأن تكرار اللفظ نفسه فيه ثقل على اللسان، فجاء بلفظ مرادف مغاير، وهو " عاما " لتحقيق الخفة المطلوبة.
يقول الزمخشري في "الكشاف":
" فإن قلت: فلم جاء المميز أوّلاً بالسنة وثانياً بالعام؟ قلت: لأنّ تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيق بالاجتناب في البلاغة، إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض ينتحيه المتكلم من تفخيم أو تهويل أو تنويه أو نحو ذلك " انتهى.
وبنحوه في "التحرير والتنوير" (20/146)
القول الثاني: أن استعمال لفظ " السنة " جاء للدلالة على صعوبة السنوات التي قضاها نوح عليه السلام في دعوة قومه، فهي سنوات عجاف من حيث الخير والمطر والبركة، ومن حيث مشقتها أيضا على نوح عليه السلام في أمر الدعوة، حيث واجهه قومه بالإعراض والأذى، ثم عاش بعد الطوفان وهلاك الكفر من الأرض أعواما من الخصب والنعيم والرخاء، والعرب تطلق لفظ " السنة " على أيام الجدب والقحط، ولفظ " العام " على أيام الرخاء والنعيم.
يقول الراب الأصفهاني في "مفردات ألفاظ القرآن" (2/140) :
" العام كالسنة، لكن كثيرا ما تستعمل السنة في الحول الذي يكون فيه الشدة أو الجدب؛ ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة، والعام بما فيه الرخاء والخصب، قال: (عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) يوسف/49، وقوله: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) العنكبوت/14، ففي كون المستثنى منه بالسنة والمستثنى بالعام لطيفة.
وقال برهان الدين البقاعي "نظم الدرر" (14/404) :
" وعبر بفلظ " سنة " ذما لأيام الكفر ... وقال: " عاما " إشارة إلى أن زمان حياته عليه الصلاة والسلام بعد إغراقهم كان رغدا واسعا حسنا بإيمان المؤمنين، وخصب الأرض " انتهى.
ونحوه توجيه الإمام الزركشي في "البرهان في علوم القرآن" (3/386)
وجمع بعض أهل العلم بين هذين القولين، إذ لا مانع من اعتبار الحكمتين من هذه المغايرة: اللفظية والمعنوية، وأقوال المفسرين - إن لم تتعارض - فالأخذ بها جميعها أولى من اطراح بعضها:
يقول ابن عادل في "اللباب" (12/429) :
" وقد روعيت هنا نكتة لطيفة، وهو أن غَايَرَ بين تَمْيِيزي العَدَد فقال في الأول " سنة " وفي الثاني " عاماً "، لئلا يثقل اللفظ، ثم إنه خص لفظ العام بالخمسين إيذاناً بأن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما استراح منهم بقي في زمن حسن، فالعرب تعبر عن الخَصْب بالعام، وعن الجَدْب بالسنة " انتهى.
وانظر جواب السؤال رقم (10470) ، (10551)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/199)
من هو الذي ألقي عليه شبه عيسى عليه السلام؟
[السُّؤَالُ]
ـ[عندي بعض الأسئلة عن الشخص الذي صلب بدلا من عيسى عليه السلام، فقد قرأت أنه الشخص الذي خان عيسى (ص) وكان شبهه وأنه صلب بدلا منه، وفي مكان آخر قرأت أنه من أصحاب عيسى ضحى بنفسه وصلب بدلا من عيسى. فما هي الحقيقة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله:
ورد القرآن ببيان أن عيسى عليه السلام لم يصلب ولم يقتل وأنه رفع إلى السماء، ولم يرد نص من الوحي يبين لنا تفاصيل ما جرى يوم شُبِّه على اليهود ما شُبِّه عليهم، لكن صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المسيح عليه السلام قال لمن كان معه من أصحابه في البيت: (أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سنا، فقال له: اجلس. ثم أعاد عليهم فقام ذلك الشاب، فقال: اجلس. ثم أعاد عليهم، فقام ذلك الشاب فقال: أنا , فقال: أنت هو ذاك. فألقي عليه شبه عيسى ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء) .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (4/337) معلقا على هذا الأثر: "وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، وكذا ذكر غير واحد من السلف أنه قال لهم: أيكم يلقى إليه شبهي فيقتل مكاني وهو رفيقي في الجنة" انتهى.
ثم قال رحمه الله (4/341) : "واختار ابن جرير أن شبه عيسى ألقي على جميع أصحابه" انتهى.
وهذا وارد في أثر عن وهب بن منبه رواه ابن جرير رحمه الله وذكره ابن كثير (4/337) وفيه أنهم لما أحاطوا بعيسى وأصحابه ودخلوا عليهم: (صورهم الله عز وجل كلهم على صورة عيسى، فقالوا لهم: سحرتمونا ليبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعا) حتى خرج إليهم واحد منهم بعدما وعده عيسى عليه السلام بالجنة فأخذوه وصلبوه.
لكن قال ابن كثير بعده: "وهذا سياق غريب جدا" انتهى.
وقال أيضا رحمه الله (4/341) : "وبعض النصارى يزعم أن يودس زكريا يوطا ـ وهو الذي دل اليهود على عيسى ـ هو الذي شبه لهم فصلبوه، وهو يقول: إني لست بصاحبكم أنا الذي دللتكم عليه. فالله أعلم أي ذلك كان" انتهى.
هكذا ختم ابن كثير رحمه الله هذا البحث بقوله: "فالله أعلم أي ذلك كان".
والعلم بهذا ليس من ورائه كبير فائدة، ولو كانت لنا إليه حاجة لبينه لنا نبينا صلى الله عليه سلم.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/200)
من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكنكم ذكر قائمة بكل أو معظم معجزات النبي صوات الله وبركاته عليه؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله:
معجزات النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة متعددة، وقد جاوزت الألف، كما صرح بذلك العلامة ابن القيم رحمه الله في "إغاثة اللهفان" (2/691) ، وهذه المعجزات منها ما حصل وانتهى، ومنها ما هو باق إلى أن يشاء الله تعالى، وهو المعجزة العظمى، والآية الكبرى على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي القرآن العظيم، الآية الباقية الدائمة التي لا يطرأ عليها التغيير والتبديل، وهو معجز من وجوه عديدة: من جهة لفظه، فقد تحدى الله فصحاء العرب أن يأتوا بمثل سورة منه فعجزوا.
ومعجز بما فيه من أخبار مستقبلة وقعت كما أخبر عنها، كقوله تعالى: (الم * غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ) الروم/1-3.
ومعجز بما فيه من تشريعات محكمة ما كانت البشرية كلها تهتدي لمثلها.
ومعجز بما فيه من علوم وأخبار عن أسرار هذا الكون، والذي لا يزال العلم الحديث يكتشف يوماً بعد يوم شيئاً فشيئا من هذه الأسرار.
وأما المعجزات التي حصلت وانتهت فهي كثيرة كما قلنا ومن أشهرها:
1- معجزة الإسراء والمعراج، وقد جاء القرآن بذكر الإسراء صراحة والإشارة إلى المعراج، وجاءت الأحاديث من السنة الصحيحة المستفيضة ببيان المعراج وما كان فيه.
2- معجزة انشقاق القمر، وقد ورد القرآن بذكرها، وتواترت بها السنة، كما قال ابن كثير رحمه الله تعالى، وأجمع على ذلك المسلمون.
3- تكثير القليل من الطعام بين يديه صلى الله عليه وسلم حتى كان يأكل منه من معه من الجيش، وتبقى منه بقية، والأحاديث في ذلك في الصحيحين وغيرهما.
4- نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم وتكثير الماء حتى يشرب منه جميع الجيش ويتوضؤون والأحاديث في ذلك أيضاً في الصحيحين.
5- إخباره صلى الله عليه وسلم بالأمور الغيبية المستقبلة ثم تقع كما أخبر، وقد حدث مما أخبر به شيء كثير، ولا نزال نرى أشياء تحدث مما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
6- حنين الجذع إليه لما فارقه إلى المنبر. والحديث في صحيح البخاري.
7- تسليم الحجر عليه وهو في مكة. والحديث رواه مسلم.
8- إبراء المرضى، والأحاديث في ذلك كثيرة في الصحيحين وغيرها.
والمعجزات كما قلنا كثيرة وهذا طرف منها، وقد أَلَّف العلماء في جمع معجزات النبي صلى الله عليه وسلم مؤلفات عديدة كدلائل النبوة للبيهقي، وأعلام النبوة للماوردي، وكتب العقيدة مملوءة بذكرها في مبحث الإيمان بالرسل.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
موقع الإسلام سؤال وجواب(1/201)
أيهما أفضل الكعبة أم قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الكعبة أفضل أم قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله:
سبق في جواب السؤال (97384) إطلاق كثير من العلماء على النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفضل الخلق، فيدخل في عموم كلامهم أنه أفضل من الكعبة.
وهذا التفضيل إنما هو للنبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وليس للقبر الذي دفن فيه.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجلين تجادلا، فقال أحدهما: إن تربة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من السماوات والأرض. وقال الآخر: الكعبة أفضل، فمع من الصواب؟
فأجاب: "الحمد لله، أما نفس محمد صلى الله عليه وسلم فما خلق الله خلقا أكرم عليه منه، وأما نفس التراب فليس هو أفضل من الكعبة البيت الحرام، بل الكعبة أفضل منه، ولا يعرف أحد من العلماء فضل تراب القبر على الكعبة إلا القاضي عياض، ولم يسبقه أحد إليه، ولا وافقه أحد عليه، والله أعلم" انتهى.
"الفتاوى الكبرى" (4/411) و "مجموع الفتاوى" (27/38) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/202)
قصة الغرانيق
[السُّؤَالُ]
ـ[قصة الغرانيق المذكورة في تفسير سورة الحج هل ثبت منها شيء؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
أصل هذه القصة حادثة وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة في بداية الدعوة، أنه حين أوحيت إليه سورة النجم قرأها على جمعٍ من المسلمين والمشركين، فلما بلغ آخرَها حيث يقول الله تعالى: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ. وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ. فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) النجم/59-62 سجد النبي صلى الله عليه وسلم، وسجد معه جميعُ مَن حضر من المسلمين والمشركين، إلا رجلين اثنين: أمية بن خلف، والمطلب بن وداعة.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ) رواه البخاري (1071)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ فِيهَا سَجْدَةٌ (وَالنَّجْمِ) قَالَ: فَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَجَدَ مَنْ خَلْفَهُ، إِلاَّ رَجُلاً رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ فَسَجَدَ عَلَيْهِ، فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا، وَهُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَف) رواه البخاري (3972) وأيضا برقم (4863) ورواه مسلم (576)
ثانيا:
جاءت بعض الروايات تفسِّرُ سبب سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم، وسببَ استجابتهم لأمر الله تعالى، حاصلُها أن الشيطان ألقى في أثناء قراءته كلماتٍ على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فيها الثناء على آلهتهم، وإثبات الشفاعة لها عند الله، وهذه الكلمات هي: " تلك الغرانيق العُلى، وإن شفاعتهن لَتُرتَجَى " وأن المشركين لما سمعوا ذلك فرحوا واطمأنوا وسجدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم.
والغرانيق: جمع غرنوق: وهو طير أبيض طويل العنق. قال ابن الأنباري: " الغرانيق: الذكور من الطير، واحدها غِرْنَوْق وغِرْنَيْق، سمي به لبياضه، وقيل هو الكُرْكيّ، وكانوا يزعمون أن الأصنام تقرّبهم من الله عز وجل، وتشفع لهم إليه، فشبهت بالطيور التي تعلو وترتفع في السماء " انتهى. لسان العرب (10/286)
قالوا: فكانت هذه القصة سبب نزول قوله سبحانه وتعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الحج/52
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا القول في "منهاج السنة النبوية" (2/243) :
" على المشهور عند السلف والخلف مِن أن ذلك جرى على لسانه ثم نسخه الله وأبطله " انتهى
وبعد تتبع الآثار الواردة في هذه القصة، تبين أن مجموع السلف الذين يُحكى عنهم هذا القول يبلغ نحو ثلاثة عشر، وتبين أنه لم يثبت بالسند الصحيح إلا عن خمسةٍ منهم، وهم: سعيد بن جبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وأبو العالية، وقتادة، والزهري.
أما الباقون فلا تصح نسبته إليهم، لما في الأسانيد إليهم من ضعف ونكارة، وهم: ابن عباس، وعروة بن الزبير، ومحمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس، وأبو صالح، والضحاك، ومحمد بن فضالة، والمطلب بن حنطب.
انظر تخريج هذه الآثار والحكم عليها في رسالة الشيخ الألباني "نصب المجانيق" (10-34)
ثانيا:
إلا أن طائفة كبيرة من المحققين من أهل العلم، نفوا وقوع هذه القصة، ولم يأخذوا بإثبات مَن ذكرها من السلف، واستدلوا على ذلك بأن قالوا: مَن ذكرها مِن السلف لم يدركوا النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكروا مصادرهم للحادثة، فدخل الشك فيها، وساعد عليه ما في ظاهرها من طعن في النبوة، إذ كيف يُدخل الشيطان في الوحي كلماتِه الباطلة، مع أن الله تعالى حفظ وحيَه من التحريف والتبديل والزيادة، وعَصَمَه من الخطأ والزلل.
يقول القاضي عياض في "الشفا" (2/126) :
" فأما من جهة المعنى: فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم، ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، إمَّا مِن تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر، أو أن يتسوَّرَ عليه الشيطان ويشبِّهَ عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل عليه السلام، وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم.
أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدا - وذلك كفر -، أو سهوا وهو معصوم من هذا كله، وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته صلى الله عليه وسلم من جريان
الكفر على قلبه أو لسانه لا عمدا ولا سهوا، أو أن يتشبه عليه ما يلقيه الملك مما يلقى الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقول على الله لا عمدا ولا سهوا ما لم ينزل عليه، وقد قال الله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل) الآية، وقال تعالى (إذًا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) الآية " انتهى باختصار.
وقد عد الشيخ الألباني في رسالته "نصب المجانيق" (46-48) أسماء عشرة من العلماء المتقدمين والمتأخرين في نفي صحة هذه الحادثة، أكثرها يؤكد نفي وجود السند المتصل المرفوع بها، ومنافاتها لعصمة النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثا:
والمسألة فيها نوع اشتباه، يصعب الجزم فيها بأمر، ولكن يمكننا القول بأن الجزم بنفي هذه الحادثة فيه نظر، وأن اعتبارها منافية لأصول العقيدة ومهمات الدين فيه نظر، أيضا، فقد صحت القصة من طريق جماعة من السلف مِن قولهم، وهي وإن كانت مرسلة، فكثرتها تبعث على الاطمئنان بوقوعها، ولو كان فيها شيء مناقض لعصمة الوحي لَما نطق بها كبار أئمة التابعين كسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم.
يقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (8/439) في تخريجه لهذه القصة:
" كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا ... - ثم نقل تضعيف ابن العربي والقاضي عياض القصة ثم قال -: وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلا، وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يَحتجُّ بمثلها مَن يحتجُّ بالمرسل، وكذا من لا يحتج به، لاعتضاد بعضها ببعض " انتهى.
وليس في القصة أي طعن في عصمة التبليغ والرسالة، لأن النسخ والتصحيح جاء بوحي من الله، وسواء كان الخطأ من النبي صلى الله عليه وسلم أو بإيهام الشيطان على أسماع المشركين، فإن المآل واحد، هو وقوع الحق وزهوق الباطل، والإخلال بمقتضى الرسالة لا يكون إلا باستمرار الباطل واختلاطه بكلام الله تعالى، وذلك ما لم يكن ولن يكون.
يقول شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (10/290) :
" وهذه العصمة الثابته للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة ... فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين.
ولكن هل يصدر ما يستدركه الله فينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته؟ هذا فيه قولان: والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك.
والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله: " تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى " وقالوا: إن هذا لم يثبت.
ومن علم أنه ثبت قال: هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم يلفظ به الرسول.
ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضا، وقالوا في قوله: (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) هو حديث النفس.
وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف فقالوا: هذا منقول نقلا ثابتا لا يمكن القدح فيه، والقرآن يدل عليه بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) الحج/52-54
فقالوا: الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث، والقرآن يوافق ذلك، فإن نسخ الله لما يُلقي الشيطان، وإحكامه آياته، إنما يكون لرفع ما وقع في آياته، وتمييز الحق من الباطل حتى لا تختلط آياته بغيرها، وجعل ما ألقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، إنما يكون إذا كان ذلك ظاهرا يسمعه الناس لا باطنا في النفس، والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ، من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ، وهذا النوع أدل على صدق الرسول وبعده عن الهوى من ذلك النوع، فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه - وكلاهما من عند الله وهو مصدق في ذلك - فإذا قال عن نفسه إن الثاني هو الذي من عند الله وهو الناسخ، وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله ليس كذلك، كان أدل على اعتماده للصدق، وقوله الحق، وهذا كما قالت عائشة رضي الله عنها: (لو كان محمد كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) .
ألا ترى أن الذي يُعَظِّمُ نفسَه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله ولو كان خطأ، فبيان الرسول أن الله أحكم آياته ونسخ ما ألقاه الشيطان، هو أدل على تحريه للصدق وبراءته من الكذب، وهذا هو المقصود بالرسالة، فإنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان تكذيبه كفرا محضا بلا ريب " انتهى.
والخلاصة أن إثبات أصل القصة قول متجه، وهو أقرب إلى التحقيق العلمي إن شاء الله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/203)
التأدب في وصف النبي صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يقال للنبي صلى الله عليه وسلم إنه " بدوي "؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق، وسيد البشر، وأحب خلق الله إلى الله، له المقام المحمود، والحوض المورود، اصطفاه الله من بين ولد آدم كلهم، واختاره من خير العرب أعراقا وأنسابا وأحسابا، مولدُه في أعظم حاضرةٍ من حواضر العرب يومها، في مكة المكرمة، خير بقاع الأرض، وأحب أرض الله إلى الله، سماها القرآن الكريم " أم القرى " لعظيم مكانتها في جزيرة العرب، بل في الأرض كلها، "
قال الله عز وجل: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) الأنعام/92
وقد أورثت هذه المكانة الجليلة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه من الإكبار والإجلال والتقدير ما يبلغ الغاية والكمال، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يرجع عن موقف الإمامة في الصلاة ليتقدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ويقول: (مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) البخاري (684) ومسلم (421) .
ويرفض أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن يعلو سقيفة تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم (2053) .
وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول: (وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ، لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ) رواه مسلم (121) .
ولمَّا قام البراء بن عازب يَعُدُّ كما عد النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يجوز في الأضاحي قال: (وَأَصَابِعِي أَقْصَرُ مِنْ أَصَابِعِهِ، وَأَنَامِلِي أَقْصَرُ مِنْ أَنَامِلِهِ صلى الله عليه وسلم) رواه أبو داود (2802) وصححه ابن دقيق العيد في "الاقتراح" (ص/121) والشيخ الألباني في "صحيح أبي داود".
إلى غير ذلك من صُورِ الأدب العظيمة التي ضربها الصحابة رضوان الله عليهم للبشرية كلها في تكريمِ وإجلالِ أفضلِ الرسل وسيد البشر صلوات الله وسلامه عليه.
أما وَصفُهُ صلى الله عليه وسلم بما لا يليق به، أو لَمْزُهُ بسيء الألفاظ والمعاني، أو حكايةُ ما فيه تنقيصٌ لقدره فهو من الكذب الفج القبيح، والكفر الصريح، لِما فيه من تزويرٍ للحقائق وتَعَدٍّ على خير الخلائق، ولا يقع في ذلك إلا مَن لا يَعرف الأدبَ ولا الخلقَ ولا الإيمان.
قال الله عز وجل: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ) التوبة/65-66.
قال القاضي عياض رحمه الله في "الشفا" (2/214) :
" اعلم - وفقنا الله وإياك - أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم، أو عابه، أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو عرَّض به، أو شبَّهَه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه أو التصغير لشأنه أو الغض منه والعيب له، فهو سابٌّ له، والحكم فيه حكم الساب، يُقتل ... وكذلك مَن نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عَبَثَ في جهته العزيزة بسخفٍ من الكلام، وهُجر ومنكر من القول وزور، أو عَيَّره بشيءٍ مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو غَمَصَهُ ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه.
وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هَلُمَّ جرًّا " انتهى.
ولا شك أن إطلاق لفظ " البداوة " أو وصفه صلى الله عليه وسلم بـ " البدوي " هو من التنقص الصريح والعيب الواضح، فإن البداوة وصفُ ذمٍّ وتنقيص، يُقصَد به الوسمُ بالجهل والرعونة والجفاء، وهو صلى الله عليه وسلم مُعَلَّمٌ من رب الأرض والسماء، جاء وصفه في التوراة بأنه (ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق) ، كما وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم/4، فكيف يجرؤ كذاب أن يصفه صلى الله عليه وسلم بخلاف ذلك؟! لا جرم أن في هذا مِن الجرأة والوقاحة ما يستحق عليها متعمدها العذاب والنكال في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) التوبة/61.
قال النووي في "شرح مسلم" (1/169) :
" أهل البادية هم الأعراب، ويغلب فيهم الجهل والجفاء، ولهذا جاء فى الحديث: (من بدا جفا) والبادية والبدو بمعنًى: وهو ما عدا الحاضرة والعمران. والنسبة اليها بدوي " انتهى.
وقد أفتى العلماء بكفر كلِّ وَصفٍ فيه إشعارٌ بتنقُّصِ قدرِ الرسول صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن صريحا في ذلك، حتى روى ابن وهب عن الإمام مالك رحمه الله:
" مَن قال: إن رداء النبي صلى الله عليه وسلم وَسِخ - وأراد به عَيْبه - قُتل.
وقال أحمد بن أبى سليمان (من علماء المالكية، توفي عام 291هـ) : من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أسود، يُقتل.
وأفتى فقهاء الأندلس بقتل " ابن حاتم " المُتَفَقِّه الطُّلَيطلي وصلبه، بما شُهد عليه به من استخفافه بحق النبي صلى الله عليه وسلم، وتسميته إياه أثناء مناظرته بـ " اليتيم " و " ختن حيدرة "، وزعمه أن زهده لم يكن قصدا، ولو قدر على الطيبات أَكَلَهَا. إلى أشباهٍ لهذا " انتهى.
نقل جميع ما سبق القاضي عياض في "الشفا" (2/217-219) ، ثم قال:
" وكذلك أقول حكم من غَمَصَه، أو عَيَّره برعاية الغنم، أو السهو، أو النسيان، أو السحر، أو ما أصابه من جُرحٍ أو هزيمة لبعض جيوشه، أو أذى من عدوه، أو شدة من زمنه، أو بالميل إلى نسائه، فحُكمُ هذا كلِّه - لِمن قصد به نقصَه - القتل " انتهى.
ونسبته صلى الله عليه وسلم إلى " البداوة " من الكذب الصريح، لأنه عاش في مكة، ثم هاجر منها إلى المدينة، وهما أفضل مدينتين في الأرض كلها، فكيف يكون بدوياً؟!
ولم يعرف صلى الله عليه وسلم البادية إلا في صغره حين استرضع في بادية بني سعد عند مرضعته حليمة السعدية. انظر "السيرة النبوية الصحيحة" د. أكرم العمري (1/103) .
يقول الدكتور جواد علي في "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" (4/271) :
" المجتمع العربي: بدو وحضر. أهل وبر وأهل مدر، فأما أهل المدر، فهم الحواضر وسكان القرى، وكانوا يعيشون من الزرع والنخل والماشية والضرب في الأرض للتجارة. وأما أهل الوبر، فهم قطان الصحارى، يعيشون من ألبان الإبل ولحومها، منتجعين منابت الكلأ، مرتادين لمواقع القطَر، فيخيمون هنالك ما ساعدهم الخصب وأمكنهم الرعي، ثم يتوجهون لطلب العشب وابتغاء المياه، فلا يزالون في حلّ وترحال.
ويعرف الحضر، وهم العرب المستقرون بـ " أهل المدر "، عرفوا بذلك لأن أبنية الحضر إنما هي بالمدر. والمدر: قطع الطين اليابس.
وورد أن أهل البادية إنما قيل لهم " أهل الوبر "، لأن لهم أخبية الوبر. تمييزاً لهم عن أهل الحضر الذين لهم مبان من المدر.
وتطلق لفظة " عرب " على أهل المدر خاصة، أي على الحضر و " الحاضر " و " الحاضرة " من العرب، أما أهل البادية فعرفوا بـ " أعراب ". " انتهى.
وسئل الشيخ محمد الحسن الددو حفظه الله:
لماذا ذكر الله أنه ما أرسل رسولاً إلا من أهل القرى؟
فأجاب:
" أما كون الأنبياء جميعاً من سكان القرى كما أخبر الله بذلك في كتابه، فإن ذلك مقتض منهم لحصول الرفعة، وأهل البوادي دائماً أشد عنجهية وأسوأ أخلاقاً، وأقل نظافةً ممن سواهم؛ ولذلك قال الله تعالى في كتابه: (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) التوبة/97، وليس التحضر نسباً، حتى يقال: فلان بدوي، معناه: أن أباه كان كذلك، بل المقصود هو في نفسه، فلو سكن شخص من أهل البادية في الحاضرة، فإنه ليس من الأعراب، ولا يدخل في ذلك؛ بل المقصود به من يتصف بهذه الصفة بنفسه لا بنسبه.
الرسل عليهم الصلاة والسلام يراد بهم أن يسوسوا البشرية وأن يقودوها، فلا بد أن يعرفوا طرق تدبير المعاش، وهذه لا يعرفها أهل البوادي، ولا يعتنون بها، فأهل البوادي إنما يعيشون من الصيد – مثلاً - أو اتباع البهائم، ويعيشون مع الأحلام والأوهام كثيراً، وقد أخرج أحمد في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من طلب الصيد غفل، ومن بدا جفا) ومعناه: من سكن البادية غلظ طبعه، (ومن طلب الصيد غفل) أي: نقص عقله بقدر ذلك؛ فلهذا اختير الرسل من أهل القرى " انتهى. "سلسلة دروس منشورة" (الدرس الثالث/ص/9) .
وقال العلامة عبد الله بن جبرين حفظه الله:
" وكذلك أيضا من سخر بشيء من آيات الله تعالى، أو بالنبي صلى الله عليه وسلم، ذُكر عن بعض الكتاب أنه كتب مرة يطعن في النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: إنه بدوي، إنه كان يرعى الغنم، وإنه عاش في عهد ليس فيه تقدم، وليس فيه كذا وكذا، ولا شك أن هذا طعن في الدين؛ لأن هذا الدين جاءنا من قبل هذا النبي الكريم؛ فمن طعن فيه بأنه جاهل، أو بأنه بدوي لا يعرف شيئا، أو بأن هذا الذي جاء به من محادثة فكره، أو أنه مما خيل إليه، أو أنه يريد بذلك أن يكون له شهرة وأتباع ونحو ذلك؛ يعتبر قد كذب على الله، وكذب النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء بهذا الدين الشرعي، وكذَّب القرآن، وكذَّب الشرع كله، لا شك أن هذا أيضا قادح في الدين، قادح في العقيدة، وهو ما ذكر في هذه الآية: (قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) يعني بالاستهزاء بالله تعالى الاستهزاء بأسمائه وصفاته، وكذلك الاستهزاء بكلامه والتنقص له؛ داخل أيضا في القوادح في الدين.
وكذلك أيضا الاستهزاء بالقرآن، كما ذكر الله تعالى عن الكفار الذين قالوا: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا) الفرقان/4 وهؤلاء بلا شك أتوا بما يقدح في عقيدتهم وفي دينهم؛ فلأجل ذلك جعل الله مقالتهم مقالة كفرية، وكذلك أيضا هؤلاء الذين قدحوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنه جاهل، أو إنه بدوي، أو ما أشبه ذلك " انتهى. نقلا عن موقع الشيخ تحت هذا الرابط:
http://www.ibn-jebreen.com/print.php?page=6377
وقال الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله في "معجم المناهي اللفظية" (496) :
" ووصْفُ النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بدوي مُناقضةٌ للقرآن الكريم، فهو صلى الله عليه وسلم من حاضرة العرب لا من باديتها، قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) يوسف/109
وما يزال انعدام التوفيق يغْشى مَن في قلوبهم دخن، ففي العقد التاسع بعد الثلاثمائة والألف نشر أحد الكاتبين من البادية الدارسين مقالاً، صرَّح فيه بأن النبي صلى الله عليه وسلم من البادية. وقد ردَّ عليه الشيخ حمود بن عبد الله التويجري النجدي برسالة سمَّاها: " منشور الصواب في الرد من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم من الأعراب " والله أعلم " انتهى.
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي حفظه الله في "سلسلة دروس شرح زاد المستقنع" (درس رقم 395، ص/7) :
" إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم سباً مباشراً باللعن - والعياذ بالله -، أو انتقصه كأن يصف النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً ينتقصه به، كأن يقول: إنه بدوي يرعى الغنم، وقصد به التحقير له صلوات الله وسلامه عليه، ونحو ذلك من العبارات؛ فإنه يحكم بكفره " انتهى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/204)
حقيقة الإيمان بالرسل
[السُّؤَالُ]
ـ[ما المقصود بالإيمان بالرسل؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
وبعد: فالإيمان بالرسل يتضمن أربعة أمور:
الأول: التصديق الجازم بأن الله تعالى بعث في كل أمة رسولا منهم يدعوهم إلى عبادة الله وحده والكفر بما يعبد من دونه، وأنهم جميعا صادقون مصدقون بارون راشدون أتقياء أمناء، وأنهم بلغوا جميع ما أرسلهم الله به، لم يكتموا ولم يغيروا، ولم يزيدوا فيه من عند أنفسهم حرفا ولم ينقصوه (فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) (النحل: 35) .
- وأن دعوتهم اتفقت من أولهم إلى آخرهم على أصل العبادة وأساسها، وهو التوحيد بأن يُفرد الله تعالى بجميع أنواع العبادة، اعتقادا وقولا وعملا، ويُكفر بكل ما يعبد من دونه، والدليل على ذلك قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) الأنبياء/25) وقوله تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) الزخرف/45 وغيرها من الآيات وهي كثيرة جدا.
وأما الفروض المتعبد بها وفروع التشريع فقد يُفرض على هؤلاء من الصلاة والصوم ونحوها ما لا يُفرض على الآخرين، ويُحرم على هؤلاء ما يحل للآخرين امتحانا من الله (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) الملك/2 والدليل على ذلك قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) المائدة/48 قال ابن عباس رضي الله عنهما: سبيلا وسنة ومثله قال مجاهد وعكرمة وجماعات من المفسرين.
وفي صحيح البخاري (3443) ومسلم (2365 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " َالأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ " أي أن الأنبياء متحدون في الأصل وهو التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله، وضمنه كل كتاب أنزله،وشرائعهم مختلفة في الأوامر والنواهي والحلال والحرام لأن الأخوة لعلات أبوهم واحد وأمهاتهم متفرقات.
- ومن كفر برسالة واحد منهم فقد كفر بالجميع كما قال تعالى: (كذبت قوم نوح المرسلين) الشعراء/105 فجعلهم الله مكذبين لجميع الرسل مع أنه لم يكن رسول غيره حين كذبوه.
الثاني: الإيمان بمن علمنا اسمه منهم باسمه مثل محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح عليهم الصلاة والسلام، ومن ذُكر منهم إجمالا ولم نعلم اسمه وجب علينا الإيمان بهم إجمالا كما قال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) البقرة/285
وقال: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) غافر/78
ونؤمن بأن خاتمهم هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلا نبي بعده كما قال تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) الأحزاب/40. وفي البخاري (4416) ومسلم (2404) عن سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى تَبُوكَ وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا فَقَالَ أَتُخَلِّفُنِي فِي الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ قَالَ: " أَلا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي "
وأن الله فضله واختصه عن غيره من الأنبياء بخصائص عظيمة منها:
1- أن الله بعثه إلى جميع الثقلين الإنس والجن وكان النبي قبله يبعث في قومه خاصة.
2- أن الله نصره على أعدائه بالرعب مسيرة شهر.
3- وأن الأرض جُعلت له مسجدا وطهورا.
4- وأحلت له الغنائم ولم تحل لأحد قبله.
5- الشفاعة العظمى. وغيرها كثير من خصائصه عليه الصلاة والسلام.
الثالث: التصديق بما صح عنهم من أخبارهم.
الرابع: العمل بشريعة من أرسل إلينا منهم وهو خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم المرسل إلى جميع الناس. قال الله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) النساء/65.
وليعلم أن للإيمان بالرسل ثمرات جليلة منها:
1- العلم برحمة الله تعالى وعنايته بعباده حيث أرسل إليهم الرسل ليهدوهم إلى صراط الله تعالى، ويبينوا لهم كيف يعبدون الله لأن العقل البشري لا يستقل بمعرفة ذلك.
2- شكره تعالى على هذه النعمة الكبرى.
3- محبة الرسل عليهم الصلاة والسلام وتعظيمهم ِِِ، والثناء عليهم بما يليق بهم لأنهم رسل الله تعالى، ولأنهم قاموا بعبادته وتبليغ رسالته، والنصح لعباده. والله أعلم.
يراجع (أعلام السنة المنشورة 97- 102) و (شرح الأصول الثلاثة للشيخ ابن عثيمين 95، 96) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/205)
حاجة الناس إلى الرسل
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي حاجة الناس للأنبياء؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الأنبياء هم رسل الله تعالى إلى عباده يبلغونهم أوامره , ويبشرونهم بما أعد الله لهم من النعيم إن هم أطاعوا أوامره , ويحذرونهم من العذاب المقيم إن هم خالفوا نهيه , ويقصون عليهم أخبار الأمم الماضية وما حل بها من العذاب والنكال في الدنيا بسبب مخالفتها أمر ربها.
وهذه الأوامر والنواهي الإلهية لا يمكن أن تستقل العقول بمعرفتها؛ ولذلك شرع الله الشرائع وفرض الأوامر والنواهي؛ تكريماً لبني الإنسان وتشريفاً لهم وحفظاً لمصالحهم؛ لأن الناس قد ينساقون وراء شهواتهم فينتهكون المحرمات ويتطاولون على الناس فيسلبونهم حقوقهم , فكان من الحكمة البالغة أن يبعث الله فيهم بين آونة وأخرى رسلاً يذكَّرونهم أوامر الله , ويحذرونهم من الوقوع في معصيته , ويتلون عليهم المواعظ ويذكرون لهم أخبار السابقين , فإن الأخبار العجيبة إذا طرقت الأسماع , والمعاني الغريبة إذا أيقظت الأذهان , استمدتها العقول فزاد علمها , وصح فهمها , وأكثر الناس سماعاً أكثرهم خواطر , وأكثرهم خواطر أكثرهم تفكراً , وأكثرهم تفكراً أكثرهم علماً , وأكثرهم علماً أكثرهم عملاً , فلم يوجد عن بعثة الرسل معدل ولا منهم في انتظام الحق بدل.- أعلام النبوة , تأليف علي بن محمد الماوردي , ص: 33.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: - أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الشهير بابن تيمية , ولد عام واحد وستين وتوفي عام ثمان وعشرين وسبع مائة من الهجرة , وهو من كبار علماء الإسلام له مصنفات كثيرة نفيسة. _ والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده , فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة , فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة , فالإنسان مضطر إلى الشرع لأنه بين حركتين حركة يجلب بها ما ينفعه وما يضره , فهو نور الله في أرضه , وعدله بين عباده , وحصنه الذي من دخله كان آمناً.
وليس المراد بالشرع التمييز بين النافع والضار بالحس , فإن ذلك يحصل للحيوانات فإن الحمار والجمل يفرق ويميز بين الشعير والتراب , بل التمييز بين الأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده , والأفعال التي تنفعه في معاشه ومعاده كنفع الإيمان , والتوحيد , والعدل , والبر , والإحسان , والأمانة , والعفة , والشجاعة , والعلم , والصبر , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وصلة الأرحام , وبر الوالدين , والإحسان إلى الجيران , وأداء الحقوق , وإخلاص العمل لله , والتوكل عليه , والاستعانة به , والرضا بمواقع أقداره , والتسليم لحكمه , وتصديقه وتصديق رسله في كل ما أخبروا به وغير ذلك مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته , وفي ضد ذلك شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته.
ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل المنافع والمضار في المعاش , فمن أعظم نعم الله على عباده , وأشرف مننه عليهم , أن أرسل إليهم رسله , وأنزل عليهم كتبه , وبين لهم الصراط المستقيم , ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام وأشر حالاً منها , فمن قَبِلَ رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية , ومن ردها وخرج عنها فهو من شر البرية , وأسوأ حالاً من الكلب والخنزير وأحقر من كل حقير , ولا بقاء لأهل الأرض إلا بآثار الرسالة الموجودة فيهم , فإذا درست آثار الرسل من الأرض , وانمحت معالم هداهم؛ أخرب الله العالم العلوي والسفلي وأقام القيامة.
وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر والرياح والمطر , ولا كحاجة الإنسان إلى حياته , ولا كحاجة العين لضوئها , والجسم إلى الطعام والشراب بل أعظم من ذلك وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال , فالرسل عليهم الصلاة والسلام وسائط بين الله تعالى وبين خلقه في أمره ونهيه , وهم السفراء بينه وبين عباده , وكان خاتمهم وسيدهم وأكرمهم على ربه محمداً صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين فبعثه الله رحمة للعالمين , وحجة للسالكين , وحجة على الخلائق أجمعين , وافترض على العباد طاعته ومحبته وتوقيره وتعزيره والقيام بأداء حقوقه , وأخذ العهود والمواثيق بالإيمان به واتّبَاعهِ على جميع الأنبياء والمرسلين , وأمرهم أن يأخذوها على من اتبعهم من المؤمنين , أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً , وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً , فختم به الرسالة , وهدى به من الضلالة , وعلّم به من الجهالة , وفتح برسالته أعيناً عمياً , وآذاناً صماً , وقلوباً غلفاً , فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها , وتآلفت به القلوب بعد شتاتها , فأقام به الملة العوجاء وأوضح به المحجة البيضاء وشرح له صدره ووضع عنه وزره , ورفع له ذكره وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره , أرسله صلى الله عليه وسلم حين فترة من الرسل ودروس من الكتب , حين حُرِف الكلم , وبدلت الشرائع , واستند كل قوم إلى ظلم آرائهم وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم , فهدى الله به الخلائق , وأوضح به الطرائق وأخرج الناس به من الظلمات إلى النور , وميز به أهل الفلاح وأهل الفجور , فمن اهتدى بهديه اهتدى , ومن مال عن سبيله فقد ضل واعتدى , فصلى الله عليه وسلم وعلى سائر الرسل والأنبياء. – قاعدة في وجوب الاعتصام بالرسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - , جـ 19 , ص: 99 – 102 , من مجموع الفتاوى , وتنظر لوامع الأنوار البهية وجـ 2 ص: 216 , 236.
ونستطيع أن نلخص احتياج الإنسان إلى الرسالة فيما يلي:
1- أنه إنسان مخلوق مربوب , ولا بد أن يتعرف على خالقه , ويعرف ماذا يريد منه , ولماذا خلقه , ولا يستقل الإنسان بمعرفة ذلك , ولا سبيل إليه إلا من خلال معرفة الأنبياء والمرسلين , ومعرفة ما جاءوا به من الهدى والنور.
2- أن الإنسان مكون من جسد وروح وغذاء الجسد ما تيسر من مأكل ومشرب , وغذاء الروح قرره لها الذي خلقها , وهو الدين الصحيح والعمل الصالح , والأنبياء والمرسلون جاءوا بالدين الصحيح وأرشدوا إلى العمل الصالح.
3- أن الإنسان متدين بفطرته , ولا بد له من دين يدين به , وهذا الدين لا بد أن يكون صحيحاً , ولا سبيل إلى الدين الصحيح إلا من خلال الإيمان بالأنبياء والمرسلين والإيمان بما جاءوا به.
4- أنه محتاج إلى الطريق الذي يوصله إلى رضى الله في الدنيا وإلى جنته ونعيمه في الدار الآخرة وهذه طرق لا يرشد إليها , ويدل عليها إلا الأنبياء والمرسلون.
5- أن الإنسان ضعيف بنفسه ومتربص به أعداء كثر , من شيطان يريد إغواءه , ورفقة سوء تزين له القبيح , ونفس أمارة بالسوء , ولذا فهو محتاج إلى ما يحفظ به نفسه من كيد أعدائه، والأنبياء والمرسلون أرشدوا إلى ذلك وبينوه غاية البيان.
6- أن الإنسان مدني بطبعه واجتماعهم بالخلق ومعاشرته لهم لا بد لها من شرع ليقوم الناس بالقسط والعدل – وإلا كانت حياتهم أشبه بحياة الغابة ـ وهذا الشرع لا بد أن يحفظ لكل ذي حق حقه دون تفريط ولا إفراط , ولا يأتي بالشرع الكامل إلا الأنبياء والمرسلون.
7- أنه محتاج إلى ما يحقق به الطمأنينة والأمن النفسي , ويرشده إلى أسباب السعادة الحقيقية وهذا هو ما يرشد إليه الأنبياء والمرسلون.
[الْمَصْدَرُ]
من كتاب الإسلام أصوله ومبادؤه تأليف د. محمد بن عبد الله بن صالح السحيم.(1/206)
حياة الأنبياء
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الرسل أحياء أم أموات؟
عندما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم، صلى جميع الرسل خلفه في المسجد الأقصى ثم ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كل سماء وتقابل مع بعض الرسل المعروفين والذين بالتأكيد صلوا خلفه.
كيف كان الرسل في المسجد الأقصى ثم في السماوات بعد ذلك؟ أم أن الرسل لا زالوا أحياء ولكن بطريقة مختلفة عنا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أموات بالنسبة لأهل الدنيا قال الله تعالى مخاطباً خاتمهم وأفضلهم: (إنك ميت وإنهم ميتون) الزمر / 30، أما عند الله فهم أحياء لأنه إذا كان الشهيد حياً عند الله فالأنبياء أرفع رتبة من الشهداء بلا شك. انظر فتح الباري 6 / 444
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون) رواه البزار وصححه الألباني في صحيح الجامع (2790) وهذه الصلاة مما يتمتعون بها كما يتنعم أهل الجنة بالتسبيح.
وهم في قبورهم صلوات الله وسلامه عليهم إلا عيسى عليه السلام، فإن الله رفعه إلى السماء؛ كما قال تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً - بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) النساء / 157-158) .
وأما صلاة الأنبياء خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، فهم صلوا وراءه بأرواحهم، وأبدانهم في قبورهم، وكذلك
{رؤيته الأنبياءَ ليلة المعراج في السماء لما رأى آدم في السماء الدنيا، ورأى يحيى وعيسى في السماء الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة، أو بالعكس، فإنه رأى أرواحهم مصورة في صور أبدانهم.
وقد قال بعض الناس: لعله رأى نفس الأجساد المدفونة في القبور ; وهذا ليس بشيء.
لكن " عيسى " صعد إلى السماء بروحه وجسده وكذلك قد قيل في " إدريس ".
وأما " إبراهيم " " وموسى " وغيرهما فهم مدفونون في الأرض.
والمسيح - صلى الله عليه وسلم وعلى سائر النبيين - لا بد أن ينزل إلى الأرض على المنارة البيضاء شرقي دمشق فيقتل الدجال ويكسر الصليب ويقتل الخنزير كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة ; ولهذا كان في السماء الثانية مع أنه أفضل من يوسف وإدريس وهارون ; لأنه يريد النزول إلى الأرض قبل يوم القيامة بخلاف غيره. وآدم كان في سماء الدنيا لأن نسم بنيه تعرض عليه: أرواح السعداء - والأشقياء لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط - فلا بد إذا عرضوا عليه أن يكون قريبا منهم ... وكونهم صلوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم ثم لقي بعضهم بعدما عُرج به إلى السماء لا منافاة بينهما، فإن أمر الأرواح من جنس أمر الملائكة، في اللحظة الواحدة تصعد وتهبط، وليست في ذلك كالبدن} ".
مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (4/328- 329) بتصرف يسير.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/207)
هل النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل ورد دليل أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
وردت في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه أدلة كثيرة جدا، ولم يرد – فيما نعلم - دليل صريح فيه النص صراحةً على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، والذي ورد النص عليه: أنه صلى الله عليه وسلم أفضل البشر وسيد ولد آدم.
روى مسلم (4223) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ) .
وقد فهم العلماء من هذا النص وغيره من النصوص الواردة في فضائل نبينا صلى الله عليه وسلم أنه أفضل الخلق.
قال النووي رحمه الله في "شرح صحيح مسلم":
وهذا الحديث دليل لتفضيله صلى الله عليه وسلم على الخلق كلهم، لأن مذهب أهل السنة أن الآدميين أفضل من الملائكة، وهو صلى الله عليه وسلم أفضل الآدميين وغيرهم" انتهى.
وقد تتابع العلماء على وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أفضل الخلق، ونكتفي بالإشارة إلى بعض مواضع كلامهم خشية الإطالة:
الإمام الشافعي في "الأم" (4/167) .
الإمام عبد الرازق الصنعاني في مصنفه (2/419) .
شيخ الإسلام ابن تيمة في "مجموع الفتاوى" (1/313) و (5/127، 468) .
ابن القيم في تهذيب السنن حديث رقم (1787) من عون المعبود.
ابن حجر في "فتح الباري" شرح حديث رقم (6229) .
المرداوي في " الإنصاف" (11/422) .
الألوسي في"روح المعاني" (4/284) .
الطاهر بن عاشور في تفسيره (2/420) .
السعدي في تفسيره (51، 185، 699) .
محمد الأمين الشنقيطي في "أضواء البيان" (9/215) .
الشيخ عبد العزيز بن باز في "مجموع الفتاوى" (2/76، 383) .
علماء اللجنة الدائمة للإفتاء، وقد سئلوا: هل نقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم خير البشر أو خير الخلق؟ وهل هناك دليل على أنه خير الخلق، كما يقول كثير من الناس؟
فأجابوا:
"جاء في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة بيان عظم قدر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ورفعة مكانته عند ربه تعالى من خلال الفضائل الجليلة والخصائص الكريمة التي خصه الله بها، مما يدل على أنه أفضل الخلق وأكرمهم على الله وأعظمهم جاها عنده سبحانه، قال الله سبحانه: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) النساء/113، وأجناس الفضل التي فضله الله بها يصعب استقصاؤها؛ فمن ذلك: أن الله عز وجل اتخذه خليلا، وجعله خاتم رسله، وأنزل عليه أفضل كتبه، وجعل رسالته عامة للثقلين إلى يوم القيامة، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأجرى على يديه من الآيات ما فاق به جميع الأنبياء قبله، وهو سيد ولد آدم، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع، وبيده لواء الحمد يوم القيامة، وأول من يجوز الصراط، وأول من يقرع باب الجنة، وأول من يدخلها. . . إلى غير ذلك من الخصائص والكرامات الواردة في الكتاب والسنة، مما جعل العلماء يتفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أعظم الخلق جاها عند الله تعالى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وقد اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاها عند الله، لا جاه لمخلوق أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته".
فمما ذُكر وغيره يتبين أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء، بل وأفضل الخلق، وأعظمهم منزلة عند الله تعالى، ولكن مع هذه الفضائل والخصائص العظيمة فإنه صلى الله عليه وسلم لا يرقى عن درجة البشرية، فلا يجوز دعاؤه والاستغاثة به من دون الله عز وجل، كما قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) الكهف/110، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى. "فتاوى اللجنة الدائمة" (26/35) .
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ صالح الفوزان، الشيخ بكر أبو زيد.
وقد توقف في ذلك الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، نظراً لأنه لم يرد بذلك نص صريح فقال:
"المشهور عند كثير من العلماء إطلاق أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، كما قال الناظم:
وأفضل الخلق على الإطلاق ... نبينا فمل عن الشقاق
لكن الأحوط والأسلم أن نقول: محمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وأفضل البشر، وأفضل الأنبياء، أو ما أشبه ذلك اتباعا لما جاء به النص، ولم أعلم إلى ساعتي هذه أنه جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق مطلقاً في كل شيء. . . فالأسلم أن الإنسان في هذه الأمور يتحرى ما جاء به النص. مثلاً لو قال قائل: هل فضل الله بني آدم عموماً على جميع المخلوقات؟ قلنا: لا؛ لأن الله تعالى قال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي لْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) الإسراء/70، لم يقل: على كل من خلقنا، فمثل هذه الإطلاقات ينبغي على الإنسان أن يتقيد فيها بما جاء به النص فقط ولا يتعدى. والحمد لله، نحن نعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأشرف الرسل وأفضلهم وأكرمهم عند الله عز وجل، وأدلة ذلك من القرآن والسنة الصحيحة معروفة مشهورة، وأما ما لم يرد به دليل صحيح فإن الاحتياط أن نتورع عنه، لكنه مشهور عند كثير من العلماء، تجدهم يقولون: إن محمداً أشرف الخلق" انتهى "لقاءات الباب المفتوح" (53/11) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/208)
هل صح في عدد الأنبياء والرسل شيء؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يوجد حديث صحيح يوضح عدد الأنبياء والرسل؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
أرسل الله تعالى رسلاً إلى كل أمةٍ من الأمم، وقد ذكر الله تعالى أنهم متتابعون، الرسول يتبعه الرسول، قال عز وجل: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) المؤمنون/44، وقال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) فاطر/24.
وقد سمَّى الله تعالى مِن أولئك الرسل مَن سمَّى، وأخبر بقصص بعضهم، دون الكثير منهم، قال تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) النساء/163-164.
قال ابن كثير – رحمه الله -:
وهذه تسمية الأنبياء الذين نُصَّ على أسمائهم في القرآن، وهم: آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهارون، ويونس، وداود، وسليمان، وإلياس، والْيَسَع، وزكريا، ويحيى، وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين، وسيدهم محمد صلى الله وعليه وسلم.
وقوله: (وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) أي: خلقاً آخرين لم يذكروا في القرآن.
" تفسير ابن كثير " (2 / 469) .
ثانياً:
قد اختلف أهل العلم في عدد الأنبياء والمرسلين، وذلك بحسب ما ثبت عندهم من الأحاديث الوارد فيها ذِكر عددهم، فمن حسَّنها أو صححها فقد قال بمقتضاها، ومن ضعَّفها فقد قال بأن العدد لا يُعرف إلا بالوحي فيُتوقف في إثبات العدد.
الأحاديث الواردة في ذِكر العدد:
1. عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًاً) ، قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم؟ قال: (ثلاثمائة وثلاثة عشر جَمّ غَفِير) ، قلت: يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال: (آدم) ... .
رواه ابن حبان (361) .
والحديث ضعيف جدّاً، فيه إبراهيم بن هشام الغسَّاني، قال الذهبي عنه: متروك، بل قال أبو حاتم: كذّاب، ومن هنا فقد حكم ابن الجوزي على الحديث بأنه موضوع مكذوب.
قال ابن كثير – رحمه الله -:
قد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم ابن حبان البستي في كتابه: " الأنواع والتقاسيم "، وقد وَسَمَه بالصحة، وخالفه أبو الفرج بن الجوزي، فذكر هذا الحديث في كتابه " الموضوعات "، واتهم به إبراهيم بن هشام هذا، ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث.
" تفسير ابن كثير " (2 / 470) .
وقال شعيب الأرناؤط: إسناده ضعيف جدّاً – وذكر كلام العلماء في إبراهيم بن هشام -.
" تحقيق صحيح ابن حبان " (2 / 79) .
2. وروي الحديث بذلك العدد – مائة وأربعة وعشرون ألفاً – من وجه آخر:
عن أبي أُمَامة قال: قلت: يا نبي الله، كم الأنبياء؟ قال: (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمّاً غَفِيراً) .
رواه ابن حاتم في " تفسيره " (963) .
قال ابن كثير – رحمه الله -:
مُعَان بن رفاعة السَّلامي: ضعيف، وعلي بن يزيد: ضعيف، والقاسم أبو عبد الرحمن: ضعيفٌ أيضاً.
" تفسير ابن كثير " (2 / 470) .
3. وروي حديث أبي ذر رضي الله عنه من وجه آخر، وليس فيه ذكر عدد الأنبياء، وإنما ذُكر عدد المرسلين:
قال: قلت: يا رسول الله كم المرسلون؟ قال: (ثلاث مئة وبضعة عشر جمّاً غفيراً) .
رواه أحمد (35 / 431) .
وفي رواية أخرى (35 / 438) : (ثلاثمئة وخمسة عشر جمّاً غفيراً) .
قال شعيب الأرناؤط:
إسناده ضعيف جدّاً؛ لجهالة عبيد بن الخشخاش؛ ولضعف أبي عمر الدمشقي، وقال الدارقطني: المسعودي عن أبي عمر الدمشقي: متروك.
المسعودي: هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة.
" تحقيق مسند أحمد " (35 / 432) .
4. عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعث الله ثمانية آلاف نبي، أربعة آلاف إلى بني إسرائيل، وأربعة آلاف إلى سائر الناس) .
رواه أبو يعلى في " مسنده " (7 / 160) .
والحديث: ضعيف جدّاً.
قال الهيثمي – رحمه الله -:
رواه أبو يعلي وفيه: موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف جدّاً.
" مجمع الزوائد " (8 / 210) .
وقال ابن كثير – رحمه الله -:
وهذا أيضاً إسناد ضعيف؛ فيه الربذي: ضعيف، وشيخه الرَّقَاشي: أضعف منه أيضاً.
" تفسير ابن كثير " (2 / 470) .
5. عَنْ أَبِى الْوَدَّاكِ، قَالَ: قَالَ لِى أَبُو سَعِيدٍ: هَلْ يُقِرُّ الْخَوَارِجُ بِالدَّجَّالِ؟ فَقُلْتُ: لاَ. فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنِّى خَاتَمُ أَلْفِ نَبِيٍ، أَوْ أَكْثَرُ، مَا بُعِثَ نَبِىٌّ يُتَّبَعُ، إِلاَّ قَدْ حَذَّرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ ... ) .
رواه أحمد (18 / 275) .
والحديث ضعيف؛ لضعف مجالد بن سعيد.
قال الهيثمي – رحمه الله -:
رواه أحمد، وفيه مجالد بن سعيد، وثقه النسائي في رواية، وقال في أخرى: ليس بالقوى، وضعفه جماعة.
" مجمع الزوائد " (7 / 346) .
وضعَّفه الأرناؤط في " تحقيق المسند " (18 / 276) .
6. وروي هذا الحديث من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه:
رواه البزار في " مسنده " (3380) " كشف الأستار ".
وفيه مجالد بن سعيد، وسبق أنه ضعيف.
قال الهيثمي – رحمه الله -:
رواه البزار، وفيه مجالد بن سعيد، وقد ضعفه الجمهور، فيه ثوثيق.
" مجمع الزوائد " (7 / 347) .
وبما سبق من الأحاديث – ويوجد غيرها تركناها خشية التطويل وكلها ضعيفة – يتبين أنه قد اختلفت الروايات بذكر عدد الأنبياء والمرسلين، فقال كل قوم بمقتضى ما صحَّ عنده، والأشهر فيما سبق هو حديث أبي ذر رضي الله عنه، وأن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، والرسل منهم: ثلاثمائة وخمسة عشر، حتى قال بعض العلماء: إن عدد الأنبياء كعدد أصحاب النبي صلى اللهُ عليْه وسلَّم، وعدد الرسل كعدد أصحاب بدر.
لكن بالنظر في أسانيد تلك الروايات: لا يتبين لنا صحة تلك الأحاديث لا بمفردها، ولا بمجموع طرقها.
ثالثاً:
وهذه أقوال بعض الأئمة الذين يقولون بعدم صحة تلك الأحاديث وما تحويها من عدد:
1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
وهذا الذي ذكره أحمد، وذكره محمد بن نصر، وغيرهما، يبين أنهم لم يعلموا عدد الكتب والرسل، وأن حديث أبي ذر في ذلك لم يثبت عندهم.
" مجموع الفتاوى " (7 / 409) .
ففي هذا النقل عن الإمامين أحمد بن حنبل، ومحمد بن نصر المروزي: بيان تضعيف الأحاديث الواردة في ذكر العدد، والظاهر أن شيخ الإسلام رحمه الله يؤيدهم في ذلك، وقد أشار إلى حديث أبي ذر بصيغة التضعيف فقال: " وقد روي في حديث أبي ذر أن عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر "، ولم يستدل به، بل استدل بالآيات الدالة على كثرتهم.
2. وقال ابن عطية – رحمه الله – في تفسير آية النساء -:
وقوله تعالى: (ورسلاً لم نقصصهم عليك) النساء/164: يقتضي كثرة الأنبياء، دون تحديد بعدد، وقد قال تعالى (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) فاطر/24، وقال تعالى: (وقروناً بين ذلك كثيراً) الفرقان/38، وما يُذكر من عدد الأنبياء فغير صحيح، الله أعلم بعدتهم، صلى الله عليهم. انتهى
3. وسئل علماء اللجنة الدائمة:
كم عدد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؟ .
فأجابوا:
لا يعلم عددهم إلا الله؛ لقوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) غافر/78، والمعروف منهم من ذكروا في القرآن أو صحت بخبره السنَّة.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (3 / 256) .
4. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله -:
وجاء في حديث أبي ذر عند أبي حاتم بن حبان وغيره أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرسل وعن الأنبياء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفا والرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر، وفي رواية أبي أمامة: ثلاثمائة وخمسة عشر، ولكنهما حديثان ضعيفان عند أهل العلم، ولهما شواهد ولكنها ضعيفة أيضا، كما ذكرنا آنفا، وفي بعضها أنه قال عليه الصلاة والسلام ألف نبي فأكثر، وفي بعضها أن الأنبياء ثلاثة آلاف وجميع الأحاديث في هذا الباب ضعيفة، بل عد ابن الجوزي حديث أبي ذر من الموضوعات. والمقصود أنه ليس في عدد الأنبياء والرسل خبر يعتمد عليه، فلا يعلم عددهم إلا الله سبحانه وتعالى، لكنهم جم غفير، قص الله علينا أخبار بعضهم ولم يقص علينا أخبار البعض الآخر، لحكمته البالغة جل وعلا.
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " (2 / 66، 67) .
5.وسئل الشيخ عبد الله بن جبرين – حفظه الله -:
كم عدد الأنبياء والمرسلين؟ وهل عدم الإيمان ببعضهم (لجهلنا بهم) يعتبر كفراً؟ وكم عدد الكتب السماوية المنزلة؟ وهل هناك تفاوت في عدد الكتب بين نبي وآخر؟ ولماذ؟.
فأجاب:
ورد في عدة أحاديث أن عدد الأنبياء: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، وأن عدد الرسل منهم: ثلاثمائة وثلاثة عشر، كما ورد أيضاً أن عددهم ثمانية آلاف نبي، والأحاديث في ذلك مذكورة في كتاب ابن كثير " تفسير القرآن العظيم "، في آخر سورة النساء على قوله تعالى: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ) ، ولكن الأحاديث في الباب لا تخلو من ضعف على كثرتها والأوْلى في ذلك التوقف، والواجب على المسلم الإيمان بمن سمَّى الله ورسوله منهم بالتفصيل، والإيمان بالبقية إجمالاً؛ فقد ذم الله اليهود على التفريق بينهم بقوله تعالى: (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) فنحن نؤمن بكل نبي وكل رسول أرسله الله في زمن من الأزمان، ولكن شريعته لأهل زمانه وكتابه لأمته وقومه.
فأما عدد الكتب: فورد في الحديث الطويل عن أبي ذر أن عدد الكتب مائة كتاب وأربعة كتب، كما ذكره ابن كثير في التفسير عند الآية المذكورة، ولكن الله أعلم بصحة ذلك، وقد ذكر الله التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى، فنؤمن بذلك ونؤمن بأن لله كتباً كثيرة لا نحيط بها علماً، ويكفي أن نصدق بها إجمالاً.
" فتاوى إسلامية " (1 / 41) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/209)
كيف نزيد محبة النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبنا؟
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف يستطيع المسلم أن ينمّي داخله محبة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أي شيء آخر في الدنيا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تكون قوتها تبعاً لإيمان المسلم فإن زاد إيمانه زادت محبته له، فحبه صلى الله عليه وسلم طاعة وقربة، وقد جعل الشرع محبة النبي صلى الله عليه وسلم من الواجبات.
عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ". رواه البخاري (15) ومسلم (44) .
ويمكن أن تتأتى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بمعرفة ما يلي:
أولاً: أنه مرسل من ربه اختاره واصطفاه على العالمين ليبلغ دين الله للناس وأن الله اختاره لحبه له ورضاه عنه، ولولا أن الله رضي عنه لما اختاره ولا اصطفاه، وعلينا أن نحب من أحب الله وأن نرضى بمن رضي الله عنه، وأن نعلم أنه خليل الله والخلة مرتبةٌ عُليا وهي أعلى درجات المحبة.
عن جندب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ". رواه مسلم (532) .
ثانياًُ: أن نعلم منزلته التي اجتباه الله بها، وأنه أفضل البشر صلى الله عليه وسلم.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع ". رواه مسلم (2278) .
ثالثاً: أن نعلم أنه لقي المحن والمشقة من أجل أن يصلنا الدين وقد كان ذلك ـ والحمد لله ـ ويجب أن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوذي وضرب وشتم وسُبّ وتبرأ منه أقرب الناس إليه ورموه بالجنون والكذب والسحر وأنه قاتل الناس ليحمي الدين من أجل أن يصل إلينا فقاتلوه وأخرجوه من أهله وماله ودياره وحشدوا له الجيوش.
رابعاً: الاقتداء والتأسي بأصحابه في شدة محبتهم له، فقد كانوا يحبونه أكثر من المال والولد بل وأكثر من أنفسهم وإليك بعض النماذج:
عن أنس قال: " لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل ". رواه مسلم (2325) .
وعن أنس رضي الله عنه قال: " لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مُجَوّب به عليه بحَجَفَة له وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد القِد يكسر يومئذ قوسين أو ثلاثا وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل فيقول انشرها لأبي طلحة فأشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم فيقول أبو طلحة يا نبي الله بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك. . .
رواه البخاري (3600) ومسلم (1811) .
(الحجفة) هي الدرع، ويقال لها: جوبة، والمعنى أن أبا طلحة معه درع يحمي بها النبي صلى الله عليه وسلم.
(شديد القد) القد هو وتر القوس، والمعنى أنه شديد الرمي
خامساً: أن تُتبع سنته من قول أو عمل وأن تكون سنته منهجاً لك تتبعه في حياتك كلها وأن تقدم قوله على كل قول وتقدم أمره على كل أمر ثم تتبع عقيدة أصحابه الكرام ثم عقيدة من تبعهم من التابعين ثم عقيدة من تبع نهجهم إلى يومنا هذا من أهل السنة والجماعة غير متبع بدعة ولاسيما الروافض فإن قلوبهم غليظة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنهم يقدمون أئمتهم عليه ويحبونهم أكثر مما يحبونه.
نسأل الله أن يرزقنا محبة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يجعله أحب إلينا من أولادنا وآبائنا وأهلينا ونفوسنا.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/210)
مراتب الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي رتبة أنبياء الله الكرام: (شعيب ويوسف وأيوب ويونس وموسى وإلياس واليسع وذو الكفل وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام..) في القرآن الكريم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد للَّه
أخبرنا الحق تبارك وتعالى أنه فضل بعض النبيين على بعض، قال جل وعلا:
(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً) الإسراء/55
وقد أجمعت الأمة على أن الرسل أفضل من الأنبياء، والرسل بعد ذلك متفاضلون فيما بينهم كما قال تعالى:
(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) البقرة/253
انظر في الفرق بين الرسول والنبي جواب السؤال رقم (5455) ، (11725)
ثم أفضل الرسل والأنبياء خمسة:
محمد صلى الله عليه وسلم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم الصلاة والسلام جميعا.
وهؤلاء هم أولو العزم من الرسل، قال تعالى:
(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ) الأحقاف/35
وجاءت تسميتهم في موضعين من القرآن الكريم.
قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً) الأحزاب/7
وقال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) الشورى/13
وقد خص الله تعالى مَن فَضَّلَه منهم ببعض الأعطيات التي أوجبت تفضيلهم.
يقول القرطبي في تفسيره (3/249) :
" والقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما مُنح من الفضائل، وأُعطي من الوسائل " انتهى.
فَفَضَّلَ نوحا بأنه أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماه عبدا شكورا.
وفَضَّلَ إبراهيم باتخاذه خليلا: (واتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) النساء/125، وجعله إماما للناس (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) البقرة/124
وفَضَّل موسى بكلامه سبحانه له: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ) الأعراف/144، واصطنعه لنفسه سبحانه كما قال: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) طه/41، وصنعه على عينه: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) طه/39
وفضَّل عيسى بأنه رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، يكلم الناس في المهد.
ويتفاضل الأنبياء من جهة أخرى:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (35/34) :
" والتحقيق أن من النبوة ما يكون مُلكا: فإن النبي له ثلاثة أحوال:
إما أن يُكَذَّب ولا يُتبع ولا يطاع: فهو نبي لم يؤت ملكا.
وإما أن يطاع فنفس كونه مطاعا هو مُلك، لكن إن كان لا يأمر إلا بما أُمِر به، فهو عبد رسول ليس له ملك.
وإن كان يأمر بما يريده مباحا له، ذلك بمنزلة الملك كما قيل لسليمان: (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) فهذا نبي ملك.
فالملك هنا قسيم العبد الرسول، كما قيل للنبى صلى الله عليه وسلم: (اختر إما عبدا رسولا وإما نبيا ملكا) وحال نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان عبدا رسولا مؤيدا مطاعا متبوعا، فأعطي فائدة كونه مطاعا متبوعا ليكون له مثل أجر من اتبعه، ولينتفع به الخلق، ويُرحموا به، ويرحم بهم، ولم يختر أن يكون ملكا لئلا ينقص - لما فى ذلك من الاستمتاع بالرياسة والمال - عن نصيبه فى الآخرة، فإن العبد الرسول أفضل عند الله من النبي الملك، ولهذا كان أمر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم أفضل من داود وسليمان ويوسف " انتهى.
هكذا يمكن أن نصف مراتب الأنبياء عند الله سبحانه وتعالى، فأكرمهم عنده مرتبة أولو العزم من الرسل، وأكرم أولي العزم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
عن أَبُي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ) رواه مسلم (4223) .
وأما ما سوى ذلك من الترتيب والتفضيل على ذكر الأسماء فلا دليل عليه في كتاب الله وسنة رسوله، ولا حاجة بالمسلم إلى تكلف طلبه والبحث عنه، ولأجل ذلك لم يذكره أحد من أهل العلم في مصنفاتهم في العقيدة وأصول السنة.
ولمزيد فائدة انظر جواب السؤال رقم (7459) ، (10669)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/211)
الرد على من زعم أن الإسراء والمعراج خرافة
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد تجرأ أحد المتعالمين منا في ليبيا على حادثة الإسراء والمعراج، فقال في مقالة نشرتها إحدى الصحف: إن حادثة المعراج هي محض خرافات، ولا يمكن أن تحدث لبشر، واستدل بذلك بالآية الكريمة في سورة الإسراء التي يقول الله عزل وجل فيها: (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) الإسراء/93؛ فقال إن القرآن ينفي إمكانية رقي الرسول صلى الله عليه سلم للسماء، وقال: إن ذلك يخالف القران بنص الآية، وأن المعراج مجرد رؤية مناميه واستدل بالآية: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) الإسراء/60. وفي النهاية أقول لفضيلتكم: إن هذا الموضوع أدخل علي شبهة، ولكني مؤمن بأنها معجزة؛ أرجو الإجابة والتوضيح، بحيث ينتفي التعارض بين الآية التي تنفي رقي البشر، وبين معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ علما بأنني مؤمن بأنه لا تعارض في القرءان. أفيدونا جزاكم الله خيرا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
لا ريب أن الإسراء والمعراج من آيات الله العظيمة الدالة على صدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى عظم منزلته عند الله عز وجل، كما أنها من الدلائل على قدرة الله الباهرة، وعلى علوه سبحانه وتعالى على جميع خلقه، قال الله سبحانه وتعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الإسراء/1.
وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عرج به إلى السماوات، وفتحت له أبوابها حتى جاوز السماء السابعة، فكلمه ربه سبحانه بما أراد، وفرض عليه الصلوات الخمس، وكان الله سبحانه فرضها أولا خمسين صلاة، فلم يزل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يراجعه ويسأله التخفيف، حتى جعلها خمسا، فهي خمس في الفرض، وخمسون في الأجر , لأن الحسنة بعشر أمثالها، فلله الحمد والشكر على جميع نعمه.
وقد اختلف الناس في الإسراء والمعراج، فمنهم من قال: إنه كان مناما، والصحيح أنه أسري وعرج به يقظة؛ لأدلة كثيرة يأتي ذكرها.
قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة: " والمعراج حق، وقد أسري بالنبي وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء وأوحى إليه ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى؛ فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى " انتهى.
وقال ابن أبي العز الحنفي في "شرح الطحاوية" رحمه الله: " اختلف الناس في الإسراء:
فقيل: كان الإسراء بروحه ولم يُفْقد جسدُه، نقله ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهما، ونقل عن الحسن البصري نحوه. لكن ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال كان الإسراء مناما وبين أن يقال كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، فعائشة ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا كان مناما، وإنما قالا: أسري بروحه ولم يفقد جسده، وفرق ما بين الأمرين أن ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج إلى السماء وذهب به إلى مكة، وروحه لم تصعد ولم تذهب؛ وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، فما أرادا أن الإسراء كان مناما، وإنما أرادا أن الروح ذاتها أسري بها؛ ففارقت الجسد ثم عادت إليه، ويجعلان هذا من خصائصه فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت.
وقيل: كان الإسراء مرتين: مرة يقظة، ومرة مناما ... ، وكذلك منهم من قال: بل كان مرتين: مرة قبل الوحي ومرة بعده، ومنهم من قال: بل ثلاث مرات: مرة قبل الوحي ومرتين بعده؛ وكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة للتوفيق، وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث، وإلا فالذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة قبل الهجرة بسنة، وقيل بسنة وشهرين، ذكره ابن عبد البر ...
وكان من حديث الإسراء أنه أسري بجسده في اليقظة على الصحيح، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، راكبا على البراق صحبة جبرائيل عليه السلام، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماما، وربط البراق بحلقه باب المسجد، وقد قيل: إنه نزل بيت لحم وصلى فيه، ولا يصح عنه ذلك ألبتة.
ثم عرج به من بيت المقدس تلك الليلة إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبرائيل ففتح لهما، فرأى هناك آدم أبا البشر، فسلم عليه فرحب به ورد عليه السلام وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثانية ... "
إلى أن قال رحمه الله: " ومما يدل على أن الإسراء بجسده في اليقظة قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) الإسراء /1؛ والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح، كما أن الإنسان اسم لمجموع الجسد والروح؛ هذا هو المعروف عند الإطلاق، وهو الصحيح؛ فيكون الإسراء بهذا المجموع، ولا يمتنع ذلك عقلا، ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة؛ وذلك يؤدي إلى إنكار النبوة وهو كفر " انتهى من "شرح الطحاوية" (1/245) .
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (3/33) : " ثم اختلف الناس: هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام وروحه، أو بروحه فقط؟ على قولين، فالأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا مناماً، ولا ينكرون أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قبل ذلك مناماً، ثم رآه بعد يقظة، لأنه كان عليه السلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، والدليل على هذا قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) الاسراء/ 1، فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، فلو كان مناماً لم يكن فيه كبير شيء، ولم يكن مستعظماً، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذبيه، ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم، وأيضاً فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد، وقال تعالى: (أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) وقال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) الاسراء /60، قال ابن عباس: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، والشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم، رواه البخاري [2888] ، وقال تعالى:
(مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) النجم/17، والبصر من آلات الذات لا الروح.
وأيضاً فإنه حمل على البراق، وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان، وإنما يكون هذا للبدن، لا للروح لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب عليه، والله أعلم " انتهى.
وقال الشيخ حافظ الحكمي في "معارج القبول" (3/1067) : " ولو كان الإسراء والمعراج بروحه في المنام لم تكن معجزة، ولا كان لتكذيب قريش بها وقولهم: كنا نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس، شهرا ذهابا وشهرا إيابا، ومحمد يزعم أنه أسرى به اللية وأصبح فينا إلى آخر تكذيبهم واستهزاءهم به صلى الله عليه وسلم لو كان ذلك رؤيا مناما لم يستبعدوه ولم يكن لردهم عليه معنى؛ لأن الإنسان قد يرى في منامه ما هو أبعد من بيت المقدس ولا يكذبه أحد استبعاد لرؤياه، وإنما قص عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرى حقيقة يقظة لا مناما فكذبوه واستهزؤوا به استبعاد لذالك واستعظاما له مع نوع مكابرة لقلة علمهم بقدرة الله عز وجل وأن الله يفعل ما يريد ولهذا لما قالوا للصديق وأخبروه الخبر قال: إن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا وتصدقه بذلك؟ قال: نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك في خبر السماء يأتيه بكرة وعشيا أو كما قال " انتهى.
وقال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه (التنوير في مولد السراج المنير) : " وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وأبي ذر ومالك بن صعصعة وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس، وشداد بن أوس وأبي بن كعب وعبد الرحمن بن قرط وأبي حبة وأبي ليلى الأنصاريين، وعبد الله بن عمرو وجابر وحذيفة وبريدة، وأبي أيوب وأبي أمامة وسمرة بن جندب وأبي الحمراء، وصهيب الرومي وأم هانىء، وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين، منهم من ساقه بطوله، ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد، وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة، فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة والملحدون يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون " انتهى نقلا عن "تفسير ابن كثير" (3/36) .
ثانيا:
لا ينقضي العجب من هذا المسلك الذي سلكه الكاتب المذكور في الاستدلال، فإنه اقتصر على ذكر مطلب واحد من مطالب الكفار، فأوهم أن الجواب القرآني: (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) منصب على هذا المطلب، وهو الرقي في السماء، وأن هذا يدل على عدم إمكانه. والحق أن هذا الجواب وارد على مجموع ما طلبه المشركون تعنتا وتفننا في الجحود والإنكار، وإليك هذه المطالب كما بينها القرآن: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) الاسراء/90- 93 فتأمل في هذه المطالب التي لا يحسن في جوابها إلا الجواب القرآني: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) .
فهل بإمكان من هو بشر أن يفجر الأرض، والأنهار، ويسقط السماء، ويأتي بالله! وبالملائكة! ويرقى في السماء فيأتي منها بكتاب موجه إلى كل كافر! كما جاء في التفسير عن مجاهد وغيره، وهو موافق لقوله تعالى: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) المدثر /52. لا شك أن ذلك ليس من خصائص البشر، ولا هو في إمكانهم، فهذا الاستبعاد منصب على مجموع هذه المطالب، لا على آحاد كل منها، وإلا ففيها مطالب مما هو ممكن عادة، فقد ثبت أن الماء نبع من بين أصبعيه الشريفتين صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري (3576) ، وغيره، فكيف بتفجير نبع من الأرض، ولا استحالة ـ أيضا ـ في أن يكون له جنة من نخيل..، على نحو ما طلبوا، إلا أن هؤلاء لم يكن له غرض في حصول هذه الأشياء حقيقة، إنما هي من باب المبالغة في العناد، والتعنت مع الرسول، من أجل التمادي في طغيانهم.
قال الطاهر ابن عاشور رحمه الله: " ولما كان اقتراحهم اقتراح مُلاجّة [المبالغة في الخصومة] وعناد، أمره الله بأن يجيبهم بما يدل على التعجب من كلامهم بكلمة (سبحان ربي) التي تستعمل في التعجب.. ثم بالاستفهام الإنكاري، وصيغة الحصر المقتضية قصر نفسه على البشرية والرسالة قصرا إضافيا، أي لست ربا متصرفا أخلق ما يطلب مني، فكيف آتي بالله والملائكة، وكيف أخلق في الأرض ما لم يخلق فيها ". انتهى.
"التحرير والتنوير" (15/210-211) .
ثالثا:
احرص على قلبك يا عبد الله، وكن على دينك أحرص منك على الدرهم والدينار؛ فلا تدع لشياطين الإنس والجن سبيلا أن يسترقوا اليقين من قلبك، أو يزعزعوا الإيمان فيه؛ وما دمت لم تحصل من العلم الشرعي، ما يحصنك ضد شبهات المشككين، ففر من هؤلاء، ومجالسهم، ومنتدياتهم، ولا تسمع لزخارف قولهم، فإنك لا تدري إذا نزلت الشبهة في قلبك متى تخرج منه، وإذا عرضت الفتنة، هل أنت ناج منها أم من المفتونين.
نسأل الله تعالى لنا ولجميع عباده الموحدين الهداية والتوفيق والسداد.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/212)
الأدلة على تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء
[السُّؤَالُ]
ـ[هل توجد آية في القرآن الكريم تفضل الرسول على باقي الأنبياء؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
ننبه الأخ السائل وعموم من يقرأ كلامنا هذا أنه لا يٌشترط أن يرد كل حكم في القرآن الكريم؛ فالشرع المطهَّر أدلته الكتاب والسنَّة، وليس الكتاب وحده، فقد ترد أحكام الله تعالى في السنَّة النبوية ولا ترد في القرآن، وقد ترد في القرآن دون السنة، وقد تأتي الأحكام في القرآن الكريم مطلقة عامة مجملة، وتأتي السنة بالتقييد والتخصيص والتبيين.
وليس في كتاب الله تعالى آية واحدة تدعو للأخذ بما فيه دون ما يأتي في السنَّة، فعلى من يزعم أنه يأخذ بالقرآن وحده دون السنة أن يستدل على قوله بآية ليصلح منهجه وفهمه، وأنَّى له ذلك، بل في كتاب الله تعالى الأمر بأخذ ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والانتهاء عما نهى عنه، فقال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) الحشر / 7، وقال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) المائدة/92، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) الأنفال/20.
والسنَّة هي " الحكمة " الواردة في كتاب الله تعالى في آيات كثيرة، منها قوله تعالى (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) البقرة/151، وقوله تعالى: (وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) البقرة/231.
والقرآن والسنة يصدران من مشكاة واحدة، وكلاهما وحي الله تعالى، قال الله سبحانه وتعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) النجم/3-5.
ثانياً:
تفضيل الأنبياء عليهم السلام بعضهم على بعض: أمر منصوص عليه، ذكره الله تعالى في كتابه، والنبي صلى الله عليه وسلم في سنَّته.
قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) البقرة/253.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: وقوله تعالى: (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)
أشار في مواضع أخر إلى أن منهم محمداً صلى الله عليه وسلم كقوله: (عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً) الإسراء/79، وقوله: (وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ) سبأ/28، الآية، وقوله (إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) الأعراف/158، وقوله (تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) الفرقان/1.
وأشار في مواضع أخر إلى أن منهم إبراهيم كقوله: (واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) النساء/125، وقوله: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) البقرة/124، إلى غير ذلك من الآيات.
وأشار في موضع آخر إلى أن منهم داود وهو قوله: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً) الإسراء/55.
وأشار في موضع آخر إلى أن منهم إدريس وهو قوله: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً) مريم/57.
وأشار هنا إلى أن منهم عيسى بقوله: (وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات) البقرة/87] الآية.
" أضواء البيان " (1 / 184، 185) .
وأما ما ورد في السنة من النهي عن تفضيل الأنبياء بعضهم على بعض، أو من النهي عن تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم – مثل حديث الصحيحين " لا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ "، وحديث الصحيحين " لاَ تُخَيِّرُوني عَلَى مُوسَى " -: فقد جاء في كلام أهل العلم ما يحل هذا الإشكال، وقد اختلف العلماء في ذلك على وجوه.
َقَالَ الْخَطَّابِيُّ: (مَعْنَى هَذَا تَرْك التَّخْيِير بَيْنهمْ عَلَى وَجْه الإِزْرَاء بِبَعْضِهِمْ فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى فَسَاد الاعْتِقَاد فِيهِمْ وَالإِخْلال بِالْوَاجِبِ مِنْ حُقُوقهمْ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يُعْتَقَد التَّسْوِيَة بَيْنهمْ فِي دَرَجَاتهمْ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: (تِلْكَ الرُّسُل فَضَّلْنَا بَعْضهمْ عَلَى بَعْض) الآيَة اِنْتَهَى
وقال في "عون المعبود": (يَعْنِي: لا تُفَضِّلُوا بَعْضهمْ عَلَى بَعْض مِنْ عِنْد أَنْفُسكُمْ..)
وذكر القرطبي أقوالا أخرى في معنى ذلك، ثم قال:
(وأحسن من ذل قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل، وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها، ولذلك منهم رسل، وأولو عزم، ومنهم من اتُخذ خليلاً، ومنهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً) الإسراء/55
ثم قال: (وهذا قول حسن؛ فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ)
تفسير القرطبي (3/249)
ثالثاً:
لا خلاف بين العلماء في تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر إخوانه الأنبياء عليهم السلام، وقد جاء ذلك موضَّحاً في الأدلة الشرعية من الكتاب والسنَّة، ومن ذلك:
1- له صلى الله عليه وسلم المقام المحمود يوم القيامة
قال الله تعالى: (وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) الإسراء/79.
وهو الشفاعة يوم القيامة للفصل بين الخلائق، وذلك بعد أن تطول مدة الحشر، ويصيب الناس ما يصيبهم، فيذهب الناس للأنبياء، وكلٌّ يعتذر عن الشفاعة لهم، حتى تصل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيذهب إلى ربه فيخر ساجداً، ويطلب الشفاعة للناس فيعطاها، وسمي بـ " المقام المحمود " لأنّ جميع الخلائق يحمدون محمَّداً صلى الله عليه وسلم على ذلك المقام؛ لأنّ شفاعته كانت سبباً في رفع معاناتهم من طول المحشر.
عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: (إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثًا، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا يَقُولُونَ: يَا فُلانُ اشْفَعْ، يَا فُلانُ اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ) رواه البخاري (4441) .
2 - جوامع الكلم، والنصر بالرعب، وحل الغنائم، وجعل الأرض مسجداً وطهوراً، وختم النبيين به، والشفاعة.
قال الله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) الأحزاب/40.
وقال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) الفرقان/1.
عَنْ جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ) رواه البخاري (427) ومسلم (421) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ) . رواه مسلم (523) .
3- أنه صلى الله عليه وسلم أول من يجوز الصراط من الرسل.
روى البخاري (773) من حديث أبي هريرة الطويل، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:
( ... فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِن الرُّسل بِأُمَّتِهِ) .
4- أنه أول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفَّع
عَن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ) . رواه مسلم (2278) .
5- غفر الله تعالى له صلى الله عليه وسلم ذنبه كلَّه ما تقدَّم منه وما تأخر
قال الله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) الفتح/1،2.
6- النداء بالنبوة والرسالة
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) الأحزاب/45.
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) المائدة/67.
وأما إخوانه الأنبياء عليهم السلام فنودوا بأسمائهم المجردة.
7- أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهدي الأنبياء عليهم السلام.
قال الله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) الأنعام/90.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله -:
أي: امش أيها الرسول الكريم خلف هؤلاء الأنبياء الأخيار، واتبع ملتهم، وقد امتثل صلى الله عليه وسلم، فاهتدى بهدي الرسل قبله، وجمع كل كمال فيهم، فاجتمعت لديه فضائل وخصائص، فاق بها جميع العالمين، وكان سيد المرسلين، وإمام المتقين، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
وبهذا الملحظ استدل بهذه من استدل من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل كلهم. " تفسير السعدي " (ص 263) .
وانظر أجوبة الأسئلة (2036) و (7459) و (10669) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/213)
المسيح ويحيى عليهما السلام ابنا خالة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل كانت السيدة مريم عليها السلام وحيدة لأهلها، وإذا كان ذلك صحيحا فكيف يكون السيد المسيح عليه السلام وسيدنا يحيى عليه السلام ابنا خالة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الذي يذكره أهل التاريخ والسير أن عمران والد مريم تزوج من امرأة اسمها (حَنَّة) ، وأن زكريا عليه السلام تزوج من امرأة اسمها (إِيشَاع) ، فأنجب عمران وحنة مريم عليها السلام، وأنجب زكريا وإيشاع يحيى عليه السلام.
ثم اختلفوا: من تكون (إِيشَاع) أم يحيى عليه السلام؟ على قولين:
الأول: أنها أخت مريم عليها السلام، وهو قول الجمهور كما يقول ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/438) .
وعليه فيكون عيسى ويحيى عليهما السلام ابنا خالة على الحقيقة، لأنهما أبناء أختين (مريم وإِيشَاع) .
واستدلوا بظاهر حديث المعراج عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به فكان مما قال: (ثُمَّ صَعدَ حَتَّى إِذَا أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاستَفتَحَ، قِيلَ مَن هَذَا؟ قَالَ: جِبرِيلُ. قِيلَ: وَمَن مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَد أُرسِلَ إِلَيهِ؟ قَالَ: نَعَم. قِيلَ: مَرحَبًا بِهِ، فَنِعمَ المَجِيءُ جَاءَ. فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصتُ إِذَا يَحيَى وَعِيسَى - وَهُمَا ابنَا الخَالَةِ -، قَالَ: هَذَا يَحيَى وَعِيسَى، فَسَلِّمَ عَلَيهِمَا، فَسَلَّمتُ، فَرَدَّا، ثُمَّ قَالا: مَرحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ) رواه البخاري (3207) وهذا لفظه ومسلم (164)
الثاني: أن (إِيشَاع) هي أخت أم مريم (حَنَّة) ، فتكون إِيشَاع خالة مريم عليها السلام، وهو الذي ذكره ابن إسحاق وابن جرير "جامع البيان" (3/234) ، واقتصر عليه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (6/68)
فعلى هذا القول: كيف يكون عيسى ويحيى عليهما السلام ابنا خالة؟
قالوا: لأن خالة الأم بمنزلة الخالة الحقيقية، فأم يحيى هي خالة مريم، فهي خالة ابنها عيسى عليهم السلام جميعا، كما أن مريم تكون ابنة خالة يحيى، فيكون ابنها عيسى ابن خالته أيضا.
يقول الإمام أبو السعود في تفسيره (2/27) :
" وأما قوله عليه الصلاة والسلام في شأن يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام هما (ابنا خالة) قيل: تأويله أن الأخت كثيرا ما تطلق على بنت الأخت، وبهذا الاعتبار جعلهما عليهما الصلاة والسلام ابني خالة " انتهى.
ودليلهم على ذلك أن المشهور أن امرأة عمران (حَنَّة) لم تكن تحمل ولا تلد، فلما حملت بمريم بإذن الله نذرتها لله ولخدمة بيت المقدس، وهذا ما يؤيده السياق القرآني.
يقول الله تعالى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً، فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) آل عمران/35
قال ابن كثير رحمه الله في "تفسير القرآن العظيم" (1/478) :
" قال محمد بن إسحاق: وكانت [يعني: امرأة عمران] امرأةً لا تحمل، فرأت يوما طائرا يزُق فَرخَهُ، فاشتهت الولد، فدعت الله تعالى أن يهبها ولدا، فاستجاب الله دعاءها، فواقعها زوجها فحملت منه، فلما تحققت الحمل نذرت أن يكون محررا - أي: خالصا - مفرغا للعبادة ولخدمة بيت المقدس، فقالت: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً، فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم) أي: السميع لدعائي العليم بنيتي " انتهى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/214)
هل كان النبي صلى الله عليه وسلم نوراً أم بشراً؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل كان النبي صلى الله عليه وسلم نوراً، أم بشراً، وهل صحيح أنه لم يكن له ظل حتى وإن كان في الضوء؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم أجمعين، وهو بشر من بني آدم، وُلِد من أبوين، يأكل الطعام ويتزوج النساء، يجوع ويمرض، ويفرح ويحزن، ومن أظهر مظاهر بشريته أن الله سبحانه توفاه كما يتوفى الأنفس، ولكن الذي يميز النبي صلى الله عليه وسلم هو النبوة والرسالة والوحي.
قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) الكهف/110.
وحال النبي صلى الله عليه وسلم في بشريته هو حال جميع الأنبياء والمرسلين.
قال الله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ) الأنبياء/8.
وقد أنكر الله على الذين تعجبوا من بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ) الفرقان/7.
فلا يجوز تجاوز ما يقرره القرآن الكريم من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وبشريته، ومن ذلك: أنه لا يجوز وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه نور أو لا ظل له، أو أنه خلق من نور، بل هذا من الغلو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (لاْ تُطْرُونِيْ كَمَا أُطرِيَ عِيْسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَقُولُوْا عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ) رواه البخاري (6830) .
وقد ثبت أن الملائكة هي التي خلقت من نور، وليس أحد من بني آدم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خُلِقَت المَلائِكَةُ مِن نُورٍ، وَخُلِقَ إِبلِيسُ مِن نَارِ السَّمومِ، وَخُلِقَ آدَمُ عَلَيهِ السَّلامُ مِمَّا وُصِفَ لَكُم) رواه مسلم (2996) .
قال الشيخ الألباني رحمه الله في "السلسلة الصحيحة" (458) :
" وفيه إشارة إلى بطلان الحديث المشهور على ألسنة الناس: (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر) ! ونحوه من الأحاديث التي تقول بأنه صلى الله عليه وسلم خلق من نور، فإن هذا الحديث دليل واضح على أن الملائكة فقط هم الذين خلقوا من نور، دون آدم وبنيه، فتنبّه ولا تكن من الغافلين " انتهى.
وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء السؤال التالي:
هنا في الباكستان علماء فرقة (البريلوية) يعتقدون أنه لا ظل للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا دلالة على عدم بشرية النبي صلى الله عليه وسلم. هل هذا الحديث صحيح. ليس الظل للنبي صلى الله عليه وسلم؟
فأجابت: " هذا القول باطل، مناف لنصوص القرآن والسنة الصريحة الدالة على أنه صلوات الله وسلامه عليه بشر لا يختلف في تكوينه البشري عن الناس، وأن له ظلا كما لأي إنسان، وما أكرمه الله به من الرسالة لا يخرجه عن وصفه البشري الذي خلقه الله عليه من أم وأب، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوْحَى إِلَيَّ) الآية، وقال تعالى: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاْ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) الآية.
أما ما يروى من أن النبي صلى الله عليه وسلم خلق من نور الله، فهو حديث موضوع " انتهى.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (1/464) .
وانظر سؤال رقم (4509) (6084) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/215)
الفرق بين النبي والرسول
[السُّؤَالُ]
ـ[ما الفرق بين النبي والرسول؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
في المسألة عدة أقوال منها قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما يلي: (فالنبي هو الذي ينبئه الله، وهو ينبئ بما أنبأ الله به، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول، وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله، ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول..) أ. هـ النبوات ص (255) ولغيره تفريقات أخرى هذا أهمها، والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/216)
حكم قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما درجة الحديث التالي:
أن نافعا روى أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه لم يكن يقرأ الفاتحة على الميت." موطأ الإمام مالك ".]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الأثر في أعلى درجات الصحة، فقد رواه الإمام مالك في "الموطأ" (535) عن نافع عن ابن عمر، وهي ما يسمى عند بعض العلماء " السلسلة الذهبية " وهي أصح – أو من أصح – الأسانيد.
ولفظه: عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يقرأ في الصلاة على الجنازة.
ومعنى " لا يقرأ " أي: لا يقرأ فاتحة الكتاب ولا غيرها، وهي من مسائل الخلاف المعروفة عند أهل العلم، وقد ذهب بعضهم إلى أنها ركن في صلاة الجنازة، وذهب آخرون إلى عدم ركنيتها ولا استحبابها، وتوسط آخرون فقالوا باستحبابها وعدم وجوبها، وهو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه قال:
" وتنازع العلماء في القراءة على الجنازة على ثلاثه أقوال: قيل: لا تستحب بحال , كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك، وقيل: بل يجب فيها القراءة بالفاتحة، كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد، وقيل: بل قراءة الفاتحة فيها سنة , وإن لم يقرأ بل دعا بلا قراءة جاز , وهذا هو الصواب " انتهى.
" الفتاوى الكبرى " (2 / 121) .
والذي يظهر – والعلم عند الله تعالى - أن قراءة الفاتحة ركن في صلاة الجنازة، وهي داخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) رواه البخاري (714) ومسلم (595) ، ولعله من أجل قول ابن عمر كان ابن عباس يجهر بها – أحياناً – مع أن السنة الإسرار بها، وقد سئل عن ذلك فقال: (ليعلموا أنها سنة) رواه البخاري (1249) .
وليس المقصود بقوله " سنة " هو المستحب؛ وإنما المراد سنة النبي صلى الله عليه وسلم، يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" والفاتحة في صلاة الجنازة ركن؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، وصلاة الجنازة صلاة؛ لقوله تعالى: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً) فسماها الله صلاة؛ ولأن ابن عباس رضي الله عنهما قرأ الفاتحة على جنازة، وقال: (لتعلموا أنها سنة) .
" الشرح الممتع " (5 / 401) .
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
ما حكم قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة؟
فأجاب:
" واجبة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) متفق على صحته.
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " (13 / 143) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/217)
هل سطع نور عند ولادة النبي صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هناك أي حقيقة على أنه قبل ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم ظهر ضوء في السماء؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كان من المبشرات بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه عندما حملت به أمه رأت في منامها أنه خرج منها نور بلغ الشام.
فعن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك. قال: (دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام) . رواه ابن إسحاق بسنده (1/166 سيرة ابن هشام) ومن طريقه أخرجه الطبري في تفسيره (1/566) ، والحاكم في مستدركه (2/600) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وانظر السلسلة الصحيحة (1545) .
وروى الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ورأت أمي في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام) حسنه الألباني في صحيح الجامع (224) .
وروى أحمد (16700) عن العرباض بن سارية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله قال: (. . . وذكر الحديث وفيه: إِنَّ أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْهُ نُورًا أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ) .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وإسناده حسن اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح:
فَلَمَّا وَلَدَتْ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَ لَهُ الْبَيْت وَالدَّار. وَشَاهِده حَدِيث الْعِرْبَاض بْن سَارِيَة قَالَ: سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: (إِنِّي عَبْد اللَّه وَخَاتَم النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَم لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَته , وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: إِنِّي دَعْوَة أَبِي إِبْرَاهِيم , وَبِشَارَة عِيسَى بِي , وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ , وَكَذَلِكَ أُمَّهَات النَّبِيِّينَ يَرَيْنَ , وَإِنَّ أُمّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَتْ حِين وَضَعَتْهُ نُورًا أَضَاءَتْ لَهُ قُصُور الشَّام) أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّانَ وَالْحَاكِم وَفِي حَدِيث أَبِي أُمَامَةُ عِنْد أَحْمَد نَحْوه اهـ
ومما يجب أن يعلم أن دلائل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليست محصورة في هذه الآية، فسواء ثبتت أم لم تثبت فإن نبوته صلى الله عليه وسلم ثابتة بالدلائل القطعية التي لا يستطيع منصف أن ينكرها. وإنما أنكرها من أنكرها إما جهلاً أو مكابرة.
نسأل الله تعالى أن يظهر دينه ويعلي كلمته.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/218)
شبهة حول ما أخبر به القرآن في شأن عيسى عليه السلام!!
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف تطلبون من غير المسلمين أن يصدقوا ما في كتابكم بشأن عيسى، ورفض صلبه، وبنوته لله، مع أن الكتاب المقدس قد أخبر بذلك؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لعله من القول المعاد هنا أن ننبه على أن الأناجيل، أو الكتاب المقدس الذي نتكلم عنه، والذي يوجد في أيدي الناس اليوم، هو شيء آخر غير الذي نزل من عند الله على عبده ورسوله عيسى بن مريم، عليه السلام؛ فذاك الذي نزل من عند الله لا يصح لأحد إيمانه إذا كفر به، أو بشيء منه، وقد سبق التنبيه على ذلك في السؤال رقم [47516] .
غير أنه، ولحكمة بالغة، لم يزل تحريف الأيدي، وليّ الألسن يعبث بذلك الكتاب، ولم تزل تعدو عليه صروف الدهر، وحوادث الأيام من قديم، حتى ضاع أصله الإلهي، وانقطع من أيدي الناس، ولم يعد بين أيديهم إلا خليط مختلف من ظلمات الشرك والتثليث، مع بصيص من نور التوحيد، وأخلاط من الكذب والتحريف المتتابع، زمانا بعد زمان، مع أثارة من الصدق وعلم النبيين.
ولقد صار من المتعذر، بل من المستحيل، مع بعد العهد، وتتابع العبث، أن يقطع أحد بصدق شيء من ذلك الكتاب أو كذبه، إلا إذا عرض على الحق المهيمن على ما قبله، والمصدق لما بين يديه، الذي لم يشب نوره الإلهي بظلمة من الجهل أو الهوى، ولا صدقه الخالص بكذبة، أو حتى غلطه، وليس ذلك إلا القرآن الكريم الذي تكفل الله بحفظه، كما قال الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر/9.
ومع أن واحدا من كبار الدارسين عند القوم، والمدافعين عن الكتاب المقدس، وهو نورتن، حاول أن يدافع عن الكتاب المقدس أمام طعن إكهارن الجرمني، فقد اضطر إلى أن يعترف بأن تمييز الصدق من الكذب في هذا الزمان عسير!!
ومن هنا نصل إلى موضوع السؤال، لنقول: إن من لم يؤمن بالقرآن، لن يصح له كتاب يؤمن به، ومن طعن في صدق النبي، صلى الله عليه وسلم، وصحة دين الإسلام، لم يمكنه أن يقيم دليلا على صحة دينه الذي يتمسك به.
ووجه ذلك أن من طعن في صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فيما أخبر به من نبوته، والوحي المنزل عليه من السماء، مع أن ظهرت على يديه المعجزات الدالة على صدقه في ما قال، وبقي حياته يتحدى أعداءه بالكتاب الذي ينسبه إلى وحي ربه أن يأتوا بمثله، أو بشيء منه، بل أن تحدى الإنس والجن جميعا أن يجتمعوا ويتظاهروا، ويتساعدوا، من أجل أن يأتوا بمثل هذا القرآن: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا ً) الإسراء/88
ولم يحدث أنهم فعلوا وأتوا بمثله، على ما مر من التاريخ بعده، وعلى كثرة ما عارضه من الأعداء، وودوا لو أثبتوا كذبه، وهيهات!!
ثم بقي ذلك النبي بعد ذلك منصورا على أعدائه، لم يبطلوا له حجة، ولا وقفوا له على كذبة في خبر، ولو كان من حديث الناس الذي يألفونه، فضلا عن أن يكذب على ربه الذي أرسله.
وليت شعري، إذا طعنوا في ذلك كله، فأنى لهم أن يقيموا دليلا على صحة "الإلهام" الذي اعتمدوا عليه في تصديق كتبهم، مع أنهم لا يدعون أن هذه الأناجيل أنزلت على عيسى، أو أنه كتبها، أو أملاها، أو حتى كتبت في حياته!!
هذا مع أنه لا يوجد دليل محقق على شخصية الأربعة الذين كتبوا هذه الأناجيل، ومن يكونون، وكيف كانت سيرتهم وحياتهم، وهل كان ما كتبوه كان من من الوحي الإلهي، أو الإلهام، على حد تعبيرهم، أو كان من بنات أفكارهم، ووحي شياطينهم. يقول هورن، أحد كبار مفسري الكتاب المقدس: (إذا قيل إن الكتب المقدسة أوحيت من جانب الله، فلا يراد أن كل لفظ، والعبارة كلها من إلهام الله، بل يُعلم من اختلاف محاورة المصنفين، واختلاف بيانهم أنهم كانوا مُجَازين (؟!) [يعني: كانوا مسموحا لهم] أن يكتبوا على حسب طبائعهم وعاداتهم وفهومهم، ولا يُتخيل أنهم كانوا ملهمين في كل أمر يبينونه، أو في كل حكم كانوا يحكمونه) .
وقد أشارت دائرة المعارف البريطانية إلى خلاف علماء النصارى وباحثيهم في شأن هذا الإلهام: هل كل قول مندرج في الكتب المقدسة إلهامي أو لا؟ ثم علقت في موضع منها (19/20) على ذلك: (إن الذين قالوا إن كل قول مندرج فيها إلهامي، لا يقدرون أن يثبتوا دعواهم بسهولة) .
ونقول: ولا بصعوبة!!
وإزاء عشرات المواضع المتضاربة فيما بين هذه الأناجيل، بعضها وبعض، وعشرات الأغلاط التاريخية، والنبوءات الكاذبة التي لم تتحقق، قرر فريدريك جرانت أن (العهد الجديد كتاب غير متجانس، ذلك أنه شتات مجمع، فهو لا يمثل وجهة نظر واحدة تسوده من أوله إلى آخره، لكنه في الواقع يمثل وجهات نظر مختلفة) .
وأما دائرة المعارف الأمريكية فتذكر (أن هناك مشكلة هامة وصعبة تنجم عن التناقض الذي يظهر في نواح كثيرة بين الإنجيل الرابع، والثلاثة المتشابهة؛ إن الاختلاف بينهم عظيم، لدرجة أنه لو قبلت الأناجيل المتشابهة، باعتبارها صحيحة وموثوقا فيها، فإن ما يترتب على ذلك هو عدم صحة إنجيل يوحنا) .
هذا مع اعتبار أن إنجيل يوحنا هو أشد هذه الأناجيل تقريرا لعقيدتهم في التثليث، بل إنهم ليعترفون أنه ألف من أجل تقرير هذه العقيدة التي أخلت بها الأناجيل الأخرى، وقطع اختلاف الناس في شأنها!!
إن الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تتمسك بشدة بعقيدة الإلهام، كأصل للكتاب المقدس، وأكدت على ذلك في مجمع الفاتيكان عام (1869-1870) ، عادت أمام هذه الحقائق لتعترف، بعد نحو قرن، في المجمع المسكوني الثاني للفاتيكان (1962-1965) بأن هذه الكتب تحتوي على شوائب، وشيء من البطلان، على ما نقله الباحث الفرنسي الكاثوليكي [الذي أسلم فيما بعد] د موريس بوكاي.
ثم إن من كذب بشيء من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وأحواله وسيرته الدالة على صدقه، كيف له أن يثبت معجزات هؤلاء الرسل المزعومين الذي كتبوا الأناجيل، أو يدلل على صدقهم في دعوى الإلهام؟!
إن دعوى الإلهام صادقة في زعمهم بدليل شهادة الكتاب المقدس، وما فيه من ذكر معجزاتهم، والكتاب المقدس وما فيه صادق لأنه إلهام!!
وهكذا ينتهي استدلالهم إلى الدور الباطل، كما نقله ريس في دائرة معارفه عن بعض المحققين: فالكتاب المقدس صحيح لأنه إلهام، وإلهامهم صادق لأن الكتاب المقدس شهد به!!
ومن كذب بالقرآن المنقول بالتواتر، الفاشي في مشارق أرض الإسلام ومغاربها، جيلا بعد جيل، حفظا وكتابة، لا تختلف نسخه، ولا تضطرب ولا تتعارض، أنى له أن يثبت صحة الأناجيل التي يعتمد عليها، والتي لم توجد مجرد إشارة لها، فضلا عن أن توجد أعيانها، قبل مضي نحو قرنين من وفاة المسيح، على ما نقله نورتن عن إكهارن الجرمني، ثم ما وقع في مطلع القرن الرابع بالنصارى من البلاء، والهدم لكنائسهم، وتحريق كتبهم، ما يفقد الثقة بكتبهم التي وجدت بعد ذلك: فمتى وجدت، وعند من كانت في فترة الاضطهاد والاستخفاء، وكيف وصلت إلينا، وكيف، وكيف ... ، أسئلة كثيرة تدور حول هذه المعضلة، فيما عبرت عنه دائرة المعارف البريطانية بقولها:
(ليس لدينا أية معرفة مؤكدة بالنسبة للكيفية التي تشكلت بموجبها قانونية الأناجيل الأربعة، ولا بالمكان الذي تقرر فيه ذلك) .
وأما الجهل بالمترجم الذي نقلها عن اللغة الأصلية التي كتبت بها، وما مدى الثقة بعلمه ودينه وكفايته لهذه المهمة، وكيف لنا أن نتأكد من أنه نقلها على وجهها، فذلك لون آخر!!
[يمكن مراجعة تفصيل ما أجملناه في هذا الجواب في: إظهار الحق، للشيخ رحمة الله الهندي، ومناظرة بين الإسلام والنصرانية، للشيخ محمد جميل غازي وآخرين]
والله يهدينا وإياكم إلى صراطه المستقيم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/219)
هل الخضر نبي؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الخضر ملَك أم رسول أم نبي أم ولي؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الظاهر من إطلاق القرآن أنه نبي.
قال الشيخ الشنقيطي – رحمة الله تعالى عليه – في تفسير قوله تعالى: {فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا وعلمناه من لدنا علماً} الكهف/65:
ولكنه يفهم من بعض الآيات أن هذه الرحمة المذكورة هنا رحمة نبوة، وأن هذا العلم اللدني علم وحي … ومعلوم أن الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها، والاستدلال بالأعم على الأخص في أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص كما هو معروف، ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني الذين امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله تعالى: {وما فعلته عن أمري} الكهف / 82، أي: وإنما فعلته عن أمر الله جل وعلا، وأمر الله إنما يتحقق بطريق الوحي، إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جل وعلا، ولا سيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر، وتعييب سفن الناس بخرقها؛ لأن العدوان على أنفس الناس وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى، وقد حصر تعالى طرق الإنذار في الوحي في قوله تعالى: (قل إنما أنذركم بالوحي) الأنبياء/45، و " إنما " صيغة حصر.
" أضواء البيان " (4 / 172، 173) .
وقال:
". . . وبهذا كله تعلم: أن قتل الخضر للغلام، وخرقه للسفينة وقوله: (وما فعلته عن أمري) ، دليل ظاهر على نبوته، وعزا الفخر الرازي في تفسيره القول بنبوته للأكثرين، ومما يستأنس به للقول بنبوته تواضع موسى عليه الصلاة والسلام له في قوله: (هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا) الكهف/66، وقوله: (ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا) الكهف/69، مع قول الخضر له: (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) الكهف/68. "
أضواء البيان (3/326) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/220)
إبراهيم عليه السلام
[السُّؤَالُ]
ـ[هل لك أن تعطيني بعض المعلومات عن النبي إبراهيم عليه السلام؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أرسل الله نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام وجعل في ذريته النبوة والكتاب: (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً) مريم/41.
وقد ربى الله إبراهيم وأكرمه بفضائل وصفات حميدة: (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين، شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم، وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين) النحل/120- 121- 122.
وإبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء فلم يبعث نبياً من بعده إلا من نسله وقد كان له ولدان اصطفاهما الله بالنبوة وهما إسماعيل جد العرب ومن نسله بعث الله النبي محمد صلى الله عليه وسلم أما الآخر فهو إسحاق وقد رزقه الله نبياً اسمه يعقوب ويلقب بإسرائيل وإليه ينسب بنو إسرائيل مع أنبيائهم.
وقد أشار القرآن إلى أبوة إبراهيم للأنبياء بقوله عن إبراهيم: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين، وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضلنا على العالمين) الأنعام/84 - 86.
وقد دعا إبراهيم عليه السلام قومه في العراق إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأوثان التي لا تنفع ولا تضر قال تعالى: (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً، إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون) العنكبوت/16-17.
وقد أراد إبراهيم عليه السلام أن يحرر قومه من عبادة الأصنام. ويخلصهم من الخرافات والأساطير فسأل قومه عن هذه الأصنام كما قال تعالى: (واتل عليهم نبأ إبراهيم، إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون، قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين، قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون، قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) الشعراء/67 - 74.
ثم بين لهم أن لا ينقادوا لغيرهم بلا عقل كالبهائم وقرر لهم الحقيقة العظمى وهي عبادة الله وحده الذي بيده ملكوت كل شيء: (قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين، الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) الشعراء/75 - 82.
وقد كان أبو إبراهيم من عبدة الأصنام وكان ينحتها ويبيعها فعز على إبراهيم كفر أبيه فخصه بالنصيحة وقال له: (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً) مريم/42 - 43.
ولكن أباه لم يستجب له بل هدده بالرجم والهجر فقال: (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً) مريم/46.
فما كان من إبراهيم إلا أن تركه وقال له: (سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً) مريم/47.
وظل إبراهيم يستغفر لأبيه ويرجو ربه هدايته فلما تبن له أنه عدو لله تبرأ منه وترك الاستغفار له قال تعالى: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلاّ عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) التوبة/114.
ولما أصر قوم إبراهيم على عبادة الأصنام أراد إبراهيم أن يبين لهم بالبرهان العملي أن تلك الأصنام لا تضر ولا تنفع بعد أن لم يؤثر في قومه الوعظ والإرشاد: (فنظر نظرة في النجوم، فقال إني سقيم، فتولوا عنه مدبرين، فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون، ما لكم لا تنطقون، فراغ عليهم ضرباً باليمين) الصافات/88-93.
وقد كسر إبراهيم الأصنام إلا الكبير فتركه لعلهم يسألونه عمن فعل ذلك: (فجعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون) الأنبياء/58.
فلما رجعوا من عيدهم الذي خرجوا له رأوا الأصنام مكسرة واتهموا إبراهيم فقال لهم: (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) الأنبياء/63.
ولما كانوا يعلمون أن تلك الأصنام لا تنطق لأنها جمادات حينئذ قالوا لإبراهيم: (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) الأنبياء/65.
فلما اعترفوا بعجز تلك الأصنام قال لهم إبراهيم: (أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم، أفٍ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) الأنبياء/67.
ولما انقطعت حجتهم لجأوا إلى استعمال القوة فقالوا: (حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين) الأنبياء/68.
فجمعوا حطباً كثيراً وأضرموه ناراً لها شرر ولهب عظيم ثم ألقوا إبراهيم عليه السلام في تلك لنار فقال حسبي الله ونعم الوكيل فأنجاه الله منها وجعلها عليه برداً وسلاماً , وأبطل كيد أعدائه: (قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين) الأنبياء/69-70.
ولما نجا إبراهيم من النار أمره الله بالخروج والهجرة من أرض العراق إلى الأرض المقدسة في الشام فتزوج ابنة عمه - سارة - وخرج بها مهاجراًً مع ابن أخيه لوط إلى بلاد الشام كما قال سبحانه: (ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) الأنبياء/71.
ثم نزلت بأرض الشام ضائقة شديدة فنزح إبراهيم إلى مصر ومعه زوجته ثم عاد منها إلى فلسطين ومعه زوجته - سارة - وجارية لها تدعى - هاجر - ورغب إبراهيم في الذرية وزوجته كانت عقيماً وقد تقدمت بها السن ولما رأت رغبة زوجها في الولد أهدت إليه جاريتها -هاجر - فتزوجها ورزق منها ابنه إسماعيل: (رب هب لي من الصالحين، فبشرناه بغلام حليم) الصافات/100-101.
وبعد أن ولدت هاجر إسماعيل ثارت الحسرة والغيرة في نفس سارة فطلبت من إبراهيم إقصاءهما عنها فأوحى الله إلى إبراهيم أن يأخذ هاجر وإسماعيل الرضيع ويذهب بهما إلى مكة فسار بهما وأنزل هاجر وطفلها إسماعيل في مكان قفر موحش ليس فيه ماء ثم تركهما وقفل راجعاً إلى فلسطين فقالت له هاجر لمن تتركنا بهذا الوادي القفر الموحش؟ ولكن إبراهيم مضى وتركها فقالت حينئذ آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فقالت: إذن لا يضيعنا الله.
واستسلم إبراهيم لأمر ربه وصبر على فراق زوجته وولده ثم التفت إليهم في مكانهم عند البيت الحرام ودعا بهذه الدعوات: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) إبراهيم/37.
مكثت هاجر في مكة تأكل من الزاد وتشرب من الماء اللذين تركهما إبراهيم لها ولابنها فلما نفد ذلك عطشت وعطش ابنها فطلبت الماء وصعدت جبل الصفا فلم ترى شيئاً ثم صعدت جبل المروة فلم ترى شيئاً فعلت ذلك سبع مرات ثم التفتت إلى إسماعيل فإذا الماء ينبع من تحت قدميه ففرحت وشربت وسقت ابنها ثم جاءت قبيلة - جرهم - إلى هاجر واستأذنوها في السكن عند الماء فأذنت لهم فسكنوا بجوارها ولما كبر إسماعيل تزوج منهم وتعلم العربية منهم.
وفي تلك الفترة كان إبراهيم يزور ابنه من وقت إلى لآخر وفي إحدى الزيارات رأى إبراهيم في المنام أنّ الله يأمره بذبح ابنه إسماعيل ورؤيا الأنبياء حق فعزم إبراهيم على تنفيذ أمر الله مع أنه في سن الشيخوخة وإسماعيل ابنه الوحيد قال تعالى: (فبشرناه بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين، فلما أسلما وتله للجبين، وناديناه أن يا إبرهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم) الصافات/101-107.
ثم بشره الله بولد آخر وهو إسحاق ثم رجع إبراهيم إلى فلسطين: (وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين) الصافات/112.
وولد له إسحاق من زوجته سارة: (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) هود/71.
ثم أقام إبراهيم في فلسطين مدة ثم جاء إلى مكة مرة أخرى لأمر عظيم فقد أمره الله أن يبني في مكة أول بيت يقام لعبادة الله فقام إبراهيم بالبناء وابنه إسماعيل يناوله الحجارة فلما ارتفع البنيان قام إبراهيم على حجر وهو مقام إبراهيم الموجود حول الكعبة قال تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) البقرة/127.
وقد أمر الله إبراهيم وإسماعيل أن يطهرا البيت من الأصنام والنجاسات ليكون طاهراً للطائفين والقائمين والركع السجود ولما بنى إبراهيم البيت أمره الله أن يدعوا الناس للحج بقوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) الحج/27.
ثم دعا إبراهيم عليه السلام بهذه الدعوات العظيمة لمكة ومن فيها: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وأرزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) البقرة/126.
ثم دعا له ولذريته بقوله: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) البقرة/127-128.
ثم دعا لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم يدعوهم إلى عبادة الله وحده فقال: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) البقرة/129.
وقد استجاب الله دعاء نبيه إبراهيم فجعل مكة بلداً آمناً ورزق أهلها من الثمرات وبعث فيهم رسولاً منهم هو خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم فلله الحمد والشكر
وقد كانت النبوة والرسالة بعد إبراهيم في بني إسرائيل زمناً طويلاً حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم من نسل إسمايل رسولاً إلى الناس جميعاً وأمره بقوله: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) الأعراف/158.
وقد أمر الله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملة إبراهيم فقال سبحانه: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) النحل/123.
وكانت وصية إبراهيم إلى أبنائه هي التمسك بدين الإسلام والعمل به حتى الممات قال تعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون) البقرة/132.
اللهم صل على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
ومن الأنبياء في زمان إبراهيم عليه السلام لوط , وإسماعيل , وإسحق , ويعقوب ثم يوسف , ثم شعيب ثم أيوب ثم ذو الكفل ثم أرسل الله موسى وهارون عليهما وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة والسلام.
[الْمَصْدَرُ]
من كتاب أصول الدين الإسلامي للشيخ محمد بن ابراهيم التويجري.(1/221)
حوار مع نصراني حول صلب المسيح
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا يصعب على المسلمين أن يؤمنوا بأن المسيح قد صلب لمحو ذنوبنا، ويرفضون فكرة الصلب من أصلها؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أما رفض المسلمين لهذه الفكرة فليس فيه عجب ولا غرابة، إذ كان القرآن الذي يؤمنون به، ويصدقون بخبره قد نفى ذلك الأمر نفيا قاطعا، كما قال الله تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً) النساء/157
لكن الشأن إنما هو في النصارى الذين صارت عقيدة الصلب والفداء عندهم من الأهمية بمكانٍ، بحيث صار الصليب شعارا لدينهم!!
والعجيب أنهم يختلفون في شكل هذا الصليب اختلافا يُلمح إلى تخبطهم في أصل هذه الفرية!!
إن كل ما يتعلق بقصة الصلب هو محل اختلاف بين أناجيلهم ومؤرخيهم:
فقد اختلفوا في وقت العشاء الأخير بزعمهم، الذي كان مقدمة من مقدمات الصلب، واختلفوا في التلميذ الخائن الذي دل على السيد المسيح:
هل كان قبل العشاء الأخير بيوم على الأقل، كما يروي لوقا، أو أثناءه، بعد أن أعطاه المسيح اللقمة، كما يروي يوحنا؟!
وهل المسيح هو الذي حمل صليبه كما يروي يوحنا، على ما كان معتادا فيمن يصلب، على حد قول نيتنهام، أو هو سمعان القيرواني، كما يروي الثلاثة الآخرون؟!
وإذا كانوا قد ذكروا أن اثنين من اللصوص صلبا كما صلب المسيح، أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، فما كان موقف هذين المصلوبين من المسيح المصلوب، بزعمهم:
هل عيره اللصان بصلبه، وأن ربه أسلمه إلى أعدائه، أو عيره أحدهما فقط، والثاني انتهر هذا المُعَيِّر؟!
ثم في أي ساعة كان هذا الصلب: الثالثة كما يروي مرقس، أو السادسة كما يروي يوحنا؟!
وماذا حدث بعد الصلب الذي زعموه:
إن مرقس يروي أن حجاب الهيكل قد انشق من فوق إلى أسفل، ويزيد متى أن الأرض تزلزلت، والصخور تشققت، وقام كثير من القديسين من قبورهم، ودخلوا المدينة المقدسة، وظهروا لكثيرين، بينما لوقا يروي أن الشمس أظلمت، وانشق حجاب الهيكل من وسطه، فلما رأى قائد المائة ما كان، مجد الله قائلا: بالحقيقة كان هذا الإنسان بارا.
وأما يوحنا فلا يعلم عن ذلك شيئا!!
وليس هذا فقط هو كل ما تحويه قصة الصلب، كما توردها الأناجيل، من عناصر الضعف، ودلائل البطلان، وإنما يمكن للناظر في تفاصيل الروايات التي توردها الأناجيل لهذه القصة أن يلمس بأدنى نظر ما بينها من اختلاف شديد في تفاصيل تلك القصة، وما دار حولها، بحيث يتعذر الإيمان بذلك كله، أو التصديق بأي ذلك كان!!
وكم هي شاقة تلك المحاولة اليائسة لسد تلك الثغرات، وستر عورات الكتب المحرفة، وصدق الله العظيم إذ يقول في كتابه المحفوظ: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اختِْلافاً كَثِيراً) النساء/82 إنها محاولة قروي ساذج لإقناع العلماء أن قنابل الذَّرَّة مصنوعة من كيزان الذٌّرَة، على حد تعبير بعض الدعاة!!
وبعيدا عن سقوط الثقة بأخبار الأناجيل المحرفة، والتي اعترف أهلها أنفسهم بأنها لم تنزل على المسيح هكذا، بل ولا كتبت في حياته، فإن شهود الإثبات جميعاً لم يحضروا الواقعة التي يشهدون فيها، كما قال مرقس: {فتركه الجميع وهربوا} (مرقس 14/50)
وإزاء ذلك الموقف الذي لم يشهده أحد ممن حكاه، فلتذهب الظنون كل مذهب، والخيال مثل الشِّعر: أعذبه أكذبه!!
ولنكمل صورة الحديث عن أسطورة صلب المسيح عليه السلام، بما ذكرته الأناجيل من تنبؤات المسيح بنجاته من القتل:
ذات مرة أرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة الحرس ليمسكوا به، فقال لهم:
{سأبقى معكم وقتا قليلا، ثم أمضي إلى الذي أرسلني، ستطلبوني فلا تجدوني، وحيث أكون أنا لا تقدرون أن تجيئوا} [يوحنا: 7/32-34}
وفي موقف آخر يقول:
{أنا ذاهب، وستطلبوني، وفي خطيئتكم تموتون، وحيث أنا ذاهب لا تقدرون أنتم أن تجيئوا.
فقال اليهود: لعله سيقتل نفسه، لأنه قال: حيث أنا ذاهب لا تقدرون أن تجيئوا.
وقال لهم: أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق، أنتم من هذا العالم، وما أنا من هذا العالم.....
متى رفعتم ابن الإنسان، عرفتم أني أنا هو، وأني لا أعمل شيئا من عندي، ولا أقول إلا ما علمني الآب، والآب الذي أرسلني هو معي، وما تركني وحدي، لأني في كل حين أعمل ما يرضيه} . [يوحنا: 8/21-29]
ثم يعود ليقول لهم آخر الأمر:
{لن تروني إلا يوم تهتفون: تبارك الآتي باسم الرب. وخرج يسوع من الهيكل ... } [متى: 32/39، 24/1] وأيضا: [لوقا 13/35] .
لقد كان المسيح، كما تصوره هذه النصوص وغيرها أيضا، على ثقة من أن الله ـ تعالى ـ لن يسلمه إلى أعدائه، ولن يتخلى عنه:
{تجيء ساعة، بل جاءت الآن، تتفرقون فيها، كل واحد في سبيله، وتتركوني وحدي؛ ولكن لا أكون وحدي، لأن الآب معي ... ستعانون الشدة في هذا العالم، فتشجعوا؛ أنا غلبت العالم!!} [يوحنا: 16/32-33] .
ولأجل هذا كان المارة، بل كل من حضر التمثيلية المزعومة لصلبه (!!) يسخرون من المسيح، حاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم، كما يقول كاتب هذا الإنجيل:
{وكان المارة يهزون رؤوسهم ويشتمونه، ويقولون: ... إن كنت ابن الله، فخلص نفسك، وانزل عن الصليب. وكان رؤساء الكهنة، ومعلمو الشريعة والشيوخ يستهزئون به، فيقولون: خلَّصَ غيره، ولا يقدر أن يخلص نفسه؟! هو ملك إسرائيل، فلينزل الآن عن الصليب لنؤمن به؛ توكَلَ على الله وقال: أنا ابن الله، فلينقذه الله إن كان راضيا عنه. وعيره اللصان المصلوبان معه أيضا، فقالا مثل هذا الكلام.}
لكن يبدو أن يقين عسى بمعية الله له قد بدأ يتزعزع، على ما تصوره أناجيلهم المحرفة، حاشاه عليه السلام من ذلك:
{جاء معهم يسوع إلى موضع اسمه جَتْسِماني، فقال لهم: اجلسوا ههنا حتى أذهب وأصلّي هناك، ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي، وبدأ يشعر بالحزن والكآبة، فقال لهم: نفسي حزينة حتى الموت، امكثوا ههنا واسهروا معي. وابتعد عنهم قليلاً وارتمى على وجهه، وصلّى فقال: إن أمكن يا أبي فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا، بل كما أنت تريد. ثم جاء إلى التلاميذ فوجدهم نياماً.. وابتعد ثانية، وصلّى فقال: يا أبي إذا كان لا يمكن أن تعبر عني هذه الكأس، إلا إن أشربها، فلتكن مشيئتك، ثم جاء فوجدهم أيضاً نياماً ... وعاد إلى الصلاة مرة ثالثة، فردد الكلام نفسه. ثم رجع إلى التلاميذ، وقال لهم: أنيام بعدُ ومستريحون؟! جاءت الساعة التي فيها يُسْلَم ابن الإنسان إلى أيدي الخاطئين} [متى 26/36 -40] .
ويصف لوقا المشهد، فيقول: { ... ووقع في ضيق، فأجهد نفسه في الصلاة، وكان عرقه مثل قطرات دم تتساقط على الأرض، وقام عن الصلاة، ورجع إلى التلاميذ فوجدهم نياما من الحزن، فقال لهم ما بالكم نائمين، قوموا وصلوا لئلا تقعوا في التجربة} [لوقا 22/44] .
ولأجل هذا الاستهزاء بدعوى المسيح، في زعمهم، ولأجل ما كان يظنه المسيح من أن الله معه ولن يخذله، كان منطقيا أن ينهي الكاتب الذي افترى هذا المشهد الدرامي، بلقطة بائسة تمثل حسرة المسيح، وخيبة ظنه في معية الله له، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، يقول الكاتب المفتري:
{وعند الظهر خيم على الأرض كلها ظلام حتى الساعة الثالثة , ونحو الساعة الثالثة صرخ يسوع بصوت عظيم: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟!!} [متى: 27/38-47] وأيضا:
[مرقس: 15/29-35] .
وإذ قد عرفنا قيمة تلك القصة في ميزان النقد، فإن ما بني عليها من عقيدة الفداء والتضحية تبع لها.
وانظر أيضا حول عقيدة الفداء عند النصارى: السؤال رقم [6]
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، لا رب سواه.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/222)
هل يمكن للبشر رؤية الملائكة والنبي صلى الله عليه وسلم يقظة عياناً؟
[السُّؤَالُ]
ـ[كنا قد قمنا بمسيرة احتجاجية كبيرة بالعاصمة لمساندة الشعب الفلسطيني والشعب العراقي ضد الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي، بعد انتهاء المسيرة سمعت بعض الإخوان والأخوات يتحدثون أنهم رأوا سيدنا جبريل نازلاً من السماء وكذلك رأوا سيدنا محمد (ص) والكثير من الملائكة يرافقونهم، تأييداً لهذه المسيرة، فهل هذه المشاهدات قد تكون حقيقية ويجب علينا تصديقها وإلا سوف نعاقب بسوء الظن في إخواننا المسلمين؟ بالنسبة لي لم أستطع التصديق علما أن أهل بدر والصحابة الأجلاء العشرة المبشرين بالجنة لم يروا الملائكة الكرام بالعين المجردة ولا رأوا سيدنا جبريل! فهل نستطيع أن نقول إن هذا وهَم المشاهدة؟ أي: تخيل رؤية الشيء حتى يصبح حقيقة يصدقه العقل وتراه العين؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
سبق في جواب السؤال رقم (11469) بيان حكم المظاهرات فلينظر.
ثانياً:
لا ينبغي اختصار الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بحرف الصاد، ولا بكلمة " صلعم "! ومن كتب مثل هذا السؤال الطويل لا يعجزه كتابة الصلاة والسلام عليه كاملة.
وقد سبق بيان حكم كتابة هذين الاختصارين في جواب السؤال رقم (47976) فلينظر.
ثالثاً:
الملائكة خلقت من نور – كما رواه مسلم (2996) - ولا يمكن لأحدٍ أن يدَّعي أنه رآها على صورتها الحقيقية إلا أن يكون نبيّاً يُصدَّق قوله، وأما أن يراهم متشكلين على هيئات أحدٍ من البشر فيمكن هذا لعامة الناس وخاصتهم، وقد جاء في السنَّة النبوية من ذلك كثير، سواء في هذه الأمة أم في الأمم التي قبلها.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو موفور العقل والدين لم يحتمل رؤية جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها، فكيف أطاقه هؤلاء - هذا إن سلَّمنا أنهم رأوه أصلاً -؟!
قال الشيخ عمر الأشقر:
ولما كانت الملائكة أجساماً نورانيَّة لطيفة؛ فإن العباد لا يستطيعون رؤيتهم، خاصة أن الله لم يُعطِ أبصارنا القدرة على هذه الرؤية، ولم يرَ الملائكةَ في صُوَرهم الحقيقية من هذه الأمَّة إلا الرسول صلى الله عليه وسلَّم؛ فإنه رأى جبريل مرتين في صورته التي خلَقه الله عليها، وقد دلَّت النصوص على أن البشر يستطيعون رؤية الملائكة إذا تمثَّلت الملائكة في صورة البشر.
" عالَم الملائكة الأبرار " (ص 11) .
وقال أيضاً – في سياق إثبات بشرية الرسل والرد على من اقترح أن يكونوا من الملائكة -:
الرابع: صعوبة رؤية الملائكة، فالكفار عندما يقترحون رؤية الملائكة، وأن يكون الرسل إليهم ملائكة لا يدركون طبيعة الملائكة، ولا يعلمون مدى المشقة والعناء الذي سيلحق بهم من جراء ذلك.
فالاتصال بالملائكة ورؤيتهم أمر ليس بسهل، فالرسول صلى الله عليه وسلم مع كونه أفضل الخلق، وهو على جانب عظيم من القوة الجسميَّة والنفسيَّة عندما رأى جبريل على صورته أصابه هول عظيم ورجع إلى منزله يرجف فؤاده، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعاني من اتصال الوحي به شدّة، ولذلك قال في الردّ عليهم: (يومَ يروْنَ الملائكةَ لا بُشرى يومئذٍ للمُجرمين) الفرقان/22، ذلك أنَّ الكفار لا يرون الملائكة إلا حين الموت أو حين نزول العذاب، فلو قُدّر أنّهم رأوا الملائكة لكان ذلك اليوم يوم هلاكهم.
فكان إرسال الرسل من البشر ضروريّاً كي يتمكنوا من مخاطبتهم، والفقه عنهم، والفهم منهم، ولو بعث الله رسله إليهم من الملائكة لما أمكنهم ذلك (ومَا مَنَعَ النَّاس أنْ يؤمنوا إذ جاءَهُم الهُدى إلاّ أنْ قالوا أبَعَثَ اللهُ بشراً رسُولاً. قُلْ لو كان في الأرضِ ملائكةٌ يمشون مطمئنينَ لنزّلنا عليهم من السّماء ملكاً رسُولاً) الإسراء/94، 95، أما وأن الذين يسكنون الأرض بشر فرحمة الله وحكمته تقتضي أن يكون رسولهم من جنسهم (لَقَدْ مَنَّ اللهُ على المؤمنينَ إذْ بعثَ فيهم رسُولاً من أنفسِهِم) آل عمران/164.
وإذا كان البشر لا يستطيعون رؤية الملائكة والتلقي عنهم بيسر وسهولة فيقتضي هذا - لو شاء الله أن يرسل مَلكا رسولا إلى البشر - أن يجعله رجلا (ولَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لجعلناهُ رَجُلاً ولَلَبسْنا عليهم ما يلبِسون) الأنعام/9.
والتباس الأمر عليهم بسبب كونه في صورة رجل، فلا يستطيعون أن يتحققوا من كونه ملكاً، وإذا كان الأمر كذلك فلا فائدة من إرسال الرسل من الملائكة على هذا النحو، بل إرسالهم من الملائكة على هذا النحو لا يحقق الغرض المطلوب، لكون الرسول الملك لا يستطيع أن يحس بإحساس البشر وعواطفهم وانفعالاتهم وإن تشكل بأشكالهم.
" الرسل والرسالات " (72، 73) .
رابعاً:
وأما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة فهو من أقوال المخرفين من الصوفية، ولا أصل له في الشرع ولا في واقع الحال، وقد وقعت للصحابة رضي الله عنهم أمورٌ عظيمة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وكانوا في أمس الحاجة لوجوده بينهم، فَلِمَ لمْ يظهر لهم؟ ولم يروه وهو أحب الناس إليهم، وهم أحب الناس إليه؟!
وأما استدلال بعضهم بالحديث الذي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة) على إمكانية رؤية النبي صلى الله عليه وسم يقظة: فليس فيه ما يدل على ما قالوه، بل هذا فيه البشرى لمن رآه في المنام أن يراه في الجنة، وليس المعنى أنه يراه يقظة في الدنيا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع - يعني الرؤية - بعيني الرأس حقيقة.
" فتح الباري " (12 / 384) .
وقال النووي رحمه الله في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فسيراني في اليقظة) : فيه أقوال:
أحدها: أن يراد به أهل عصره، ومعناه: أن من رآه في النوم ولم يكن هاجر يوفقه الله للهجرة ورؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة عياناً.
وثانيها: أنه يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة؛ لأنه يراه في الآخرة جميع أمته.
وثالثها: أنه يراه في الآخرة رؤية خاصة في القرب منه وحصول شفاعته، ونحو ذلك.
" شرح مسلم " (15 / 26) .
ولا يتعارض ما ذكره النووي في القول الأول مع ما أنكره الحافظ ابن حجر؛ لأن النووي ذكر أنه يراد به أهل عصره صلى الله عليه وسلم، وما أنكره الحافظ إنما هو لمن زعم الرؤية حقيقة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو العباس القرطبي – ردّاً على من قال برؤيته صلى الله عليه وسلم يقظة -:
وهذا يدرك فساده بأوائل العقول، ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن يراه رائيان في آن واحد في مكانين، وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده ولا يبقى في قبره منه شيء، فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب؛ لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره.
نقله عنه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (12 / 384) .
وأيضاً لو كان صحيحاً أن أحداً يرى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لكان عداده في الصحابة ولاستمرت الصحبة إلى يوم القيامة.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني أن ابن أبى جمرة نقل عن جماعة من المتصوفة " أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى طريق تفريجها فجاء الأمر كذلك "! ثم تعقب الحافظ ذلك بقوله:
" وهذا مشكل جدّاً، ولو حمل على ظاهره: لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة، ويعكِّر عليه أن جمعاً جمّاً رأوه في المنام ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة، وخبر الصادق لا يتخلف.
" فتح الباري " (12 / 385) .
وفي رد علماء اللجنة الدائمة على عقيدة التيجاني قالوا:
ولم يثبت عن الخلفاء الراشدين ولا سائر الصحابة رضي الله عنهم أن أحداً منهم وهم خير الخلق بعد الأنبياء ادعى أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن التشريع قد أكمل في حياته صلى الله عليه وسلم، وأن الله قد أكمل للأمة دينها وأتم عليها نعمته قبل أن يتوفى رسوله صلى الله عليه وسلم إليه، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) المائدة/3، فلا شك أن ما زعمه أحمد التيجاني لنفسه من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة وأنه أخذ عنه الطريقة التيجانية يقظة مشافهة، وأنه عيَّن له الأوراد التي يذكر الله بها ويصلي على رسوله بها لاشك أن هذا من البهتان والضلال المبين.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (2 / 325، 326) .
وقالوا أيضاً:
فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما بلغ الرسالة وأكمل الله به دينه وأقام به الحجة على خلقه، وصلى عليه أصحابه رضي الله عنهم صلاة الجنازة، ودفنوه حيث مات في حجرة عائشة رضي الله عنها، وقام من بعده الخلفاء الراشدون، وقد جرى في أيامهم أحداث ووقائع فعالجوا ذلك باجتهادهم، ولم يرجعوا في شيء منها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن زعم بعد ذلك أنه رآه في اليقظة حيا وكلمه أو سمع منه شيئا قبل يوم البعث والنشور فزعمه باطل؛ لمخالفته النصوص والمشاهدة وسنة الله في خلقه، وليس في هذا الحديث دلالة على أنه سيرى ذاته في اليقظة في الحياة الدنيا؛ لأنه يحتمل أن المراد بأنه: فسيراني يوم القيامة، ويحتمل أن المراد: فسيرى تأويل رؤياه؛ لأن هذه الرؤيا صادقة بدليل ما جاء في الروايات الأخرى من قوله صلى الله عليه وسلم: " فقد رآني " الحديث، وقد يراه المؤمن في منامه رؤيا صادقة على صفته التي كان صلى الله عليه وسلم عليها أيام حياته الدنيوية.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (1 / 486، 487) .
وخلاصة ما سبق:
أنه لا يجوز لأحدٍ – بعد الأنبياء - أن يدَّعي رؤية الملائكة؛ فهم أجسام نورانية لم يجعل الله تعالى في مقدور البشر رؤيتهم إلا إن تشكلوا.
ولا يجوز لأحدٍ أن يدَّعي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، ولعل هذه الأوهام والخيالات كانت من بعض مَنْ ليس عنده علم شرعي ولا عقل ناضج فراح يتخيل ويتصور وجود ما لا حقيقة له.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/223)
طفل يسأل لماذا يجب علينا أن نحبّ ونحترم رسولنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أقصى درجة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا يجب علينا أن نحب ونطيع ونتبع ونحترم رسولنا محمَّداً صلى الله عليه وسلم إلى أقصى درجة؟ (أو أكثر من أي شخص آخر) .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
مرحباً بك أيها الابن الحبيب، مراسلا لنا في موقعنا، ونسأل الله أن ينبتك أنت وأولاد المسلمين نباتاً حسناً، وأن يوفق والديك لتربيتك تربية إسلامية لتحمل لواء الإيمان، وتكون بطلاً من جند هذا الدين.
وبعد فإني أسألك أيها الحبيب:
إذا كنت تحب اللعب، وأمرك أبوك بترك اللعب في وقت من الأوقات لتذاكر دروسك، فماذا تفعل؟
لو كنت تحب أباك محبة صادقة، سوف تنفذ ما طلبه، حتى وإن كنت تحب اللعب!!
لو كنت تخاف أن يعاقبك أبوك، وتعلم أنه يعاقب من لا يسمع كلامه، فسوف تترك اللعب لتذاكر!!
لو كنت تنتظر هدية أو مكافأة من أبيك على مذاكرتك ونجاحك، فسوف تمنع نفسك من اللعب في بعض الأوقات، وتتحمل تعب المذاكرة، من أجل أن تفوز بالجائزة!!
أيها الابن الكريم:
إن فضل النبي صلى الله عليه وسلم علينا أعظم من فضل الوالد والوالدة، والناس أجمعين، فكل خير عندنا وعند الوالدين من عند الله (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) النحل/53، والجائزة التي أعدها الله لمن يطيعه أعظم جائزة: الجنة (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) المائدة/9، والعقاب الذي أعده لمن يعصيه شر عقاب وأشده (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) النساء/14، وطاعة الله لا تتم إلا بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) النساء/80
وهكذا دخول الجنة لا يتم إلا بطاعة الرسول:
روى الترمذي (2860) عن جابر رضي الله عنه قال: (خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِنْدَ رَأْسِي وَمِيكَائِيلَ عِنْدَ رِجْلَيَّ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اضْرِبْ لَهُ مَثَلا. فَقَالَ: اسْمَعْ سَمِعَتْ أُذُنُكَ، وَاعْقِلْ عَقَلَ قَلْبُكَ، إِنَّمَا مَثَلُكَ وَمَثَلُ أُمَّتِكَ كَمَثَلِ مَلِكٍ اتَّخَذَ دَارًا ثُمَّ بَنَى فِيهَا بَيْتًا ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا مَائِدَةً، ثُمَّ بَعَثَ رَسُولا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ الرَّسُولَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهُ، فَاللَّهُ هُوَ الْمَلِكُ، وَالدَّارُ الإِسْلامُ، وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ رَسُولٌ، فَمَنْ أَجَابَكَ دَخَلَ الإِسْلامَ، وَمَنْ دَخَلَ الإِسْلامَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَكَلَ مَا فِيهَا) انظر السلسلة الصحيحة للألباني (3595)
أعرفت الآن لماذا يجب علينا أن نحب الرسول صلى الله عليه وسلم ونحترمه إلى أقصى درجة؟
لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أرشدنا إلى طريق الجنة، فلا يمكن لنا أن ندخل الجنة إلا باتباعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعمل بسنّته، والجنة هي أعظم شيء يرجوه المسلم ويسعى إليه.
والآن أيها الابن العزيز أذكرك بتطبيق حي لهذه المحبة البالغة، والطاعة الكاملة:
لابد أنك سمعت قصة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم – من والدك، أو في المسجد الذي تصلي فيه، أو من معلمك في المدرسة، وأسألك:
لو لم يكن علي بن أبي طالب رضي الله عنه – يحب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أقصى درجة، ويحترمه ويطيعه أيضاً إلى أقصى درجة، هل كان من الممكن أن يقوم بهذه المهمة الخطرة.
وأخيراً: نشكرك على هذا السؤال المهم، ولأهميته فقد أعدنا الجواب عنه بأسلوب آخر فراجعه إن شئت برقم (14250) واطلب من والدك أن يشرح لك تلك الإجابة.
وفقنا الله جميعا إلى أعلى مراتب الإيمان، وأنزلنا برحمته عالي الجنان.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/224)
أفضلية النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الخلق
[السُّؤَالُ]
ـ[أعتقد موقنا بأن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل الرسل عليهم السلام. فهل ورد في القرآن أو السنة ما يؤيد ذلك؟ لقد ورد في آية قوله تعالى " لا نفرق بين أحد من رسله ... " وشكرا لك.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا: قول الله تعالى: (لا نُفَرِّق بَيْن أحدٍ من رُسُلِه) البقرة/285، قال ابن كثير في تفسيرها:
المؤمنون يصدِّقون بجميع الأنبياء والرسل، والكتب المُنَزَّلة من السماء، على عباد الله المرسلين والأنبياء لا يُفَرِّقون بين أحدٍ منهم، فَيُؤْمِنُون بِبَعْضٍ ويَكْفُرون ببعض، بل الجميع عندهم صادقون بَارُّون راشدون مَهْدِيُّون هادون إلى سبيل الخير، وإنْ كان بعضهم يَنْسَخ شريعة بعض، حتى نُسِخَ الجميع بشرع محمدٍ خَاتَم الأنبياء والمرسَلِين، الذي تَقُومُ الساعة على شريعَتِهِ. تفسير ابن كثير1/736
أما تفاضل الأنبياء بعضهم على بعض فإن الله عز وجل أخبرنا بذلك فقال: (تِلْكَ الرُّسل فضَّلنا بعضهم على بعضٍ منهم من كَلَّم الله ورَفَعَ بعضهم دَرَجَاتٍ) البقرة/253، فأخبرنا الله أن بعضهم فوق بعض درجات ولذلك كان المصطفى من الرسل هم ألو العزم قال تعالى: (وإذ أخذنا من النَّبيينَ ميثاقَهُمْ ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً) الأحزاب/7.
ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم ويَدَلُّ لذلك أنه إمامهم ليلة المعراج، ولا يقدم إلا الأفضل ومما يدل على أنه أفضلهم ما جاء عن أَبُي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ " رواه مسلم (الفضائل/4223)
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم يَوْم الْقِيَامَة , وَأَوَّل مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْر , وَأَوَّل شَافِع وَأَوَّل مُشَفَّع) قَالَ الْهَرَوِيُّ: السَّيِّد هُوَ الَّذِي يَفُوقُ قَوْمه فِي الْخَيْر , وَقَالَ غَيْره: هُوَ الَّذِي يُفْزَعُ إِلَيْهِ فِي النَّوَائِب وَالشَّدَائِد , فَيَقُومُ بِأَمْرِهِمْ , وَيَتَحَمَّلُ عَنْهُمْ مَكَارِههمْ , وَيَدْفَعُهَا عَنْهُمْ. وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَوْم الْقِيَامَة) مَعَ أَنَّهُ سَيِّدهمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة , فَسَبَبُ التَّقْيِيد أَنَّ فِي يَوْم الْقِيَامَة يَظْهَرُ سُؤْدُده لِكُلِّ أَحَدٍ , وَلا يَبْقَى مُنَازِع , وَلا مُعَانِد , وَنَحْوه , بِخِلافِ الدُّنْيَا فَقَدْ نَازَعَهُ ذَلِكَ فِيهَا مُلُوكُ الْكُفَّار وَزُعَمَاء الْمُشْرِكِينَ. قَالَ الْعُلَمَاء: وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم) لَمْ يَقُلْهُ فَخْرًا , بَلْ صَرَّحَ بِنَفْيِ الْفَخْر فِي غَيْر مُسْلِم فِي الْحَدِيث الْمَشْهُور: (أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم وَلا فَخْرَ) وَإِنَّمَا قَالَهُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا اِمْتِثَال قَوْله تَعَالَى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّك فَحَدِّثْ) وَالثَّانِي أَنَّهُ مِنْ الْبَيَان الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغه إِلَى أُمَّته لِيَعْرِفُوهُ , وَيَعْتَقِدُوهُ , وَيَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ , وَيُوَقِّرُوهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا تَقْتَضِي مَرْتَبَتُهُ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّه تَعَالَى. وَهَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِتَفْضِيلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ ; لأَنَّ مَذْهَب أَهْل السُّنَّة أَنَّ الآدَمِيِّينَ أي أهل الطاعة والتقى أفضل مِنْ الْمَلائِكَة , وَهُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَل الآدَمِيِّينَ وَغَيْرهمْ. وَأَمَّا الْحَدِيث الآخَر: " لا تُفَضِّلُوا بَيْن الأَنْبِيَاء " فَجَوَابه مِنْ خَمْسَة أَوْجُه: أَحَدهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ قَبْل أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيِّد وَلَد آدَم , فَلَمَّا عَلِمَ أَخْبَرَ بِهِ. وَالثَّانِي قَالَهُ أَدَبًا وَتَوَاضُعًا. وَالثَّالِث أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ تَفْضِيلٍ يُؤَدِّي إِلَى تَنْقِيص الْمَفْضُول. وَالرَّابِع إِنَّمَا نَهْيٌ عَنْ تَفْضِيلٍ يُؤَدِّي إِلَى الْخُصُومَة وَالْفِتْنَة كَمَا هُوَ الْمَشْهُور فِي سَبَب الْحَدِيث. وَالْخَامِس أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالتَّفْضِيلِ فِي نَفْس النُّبُوَّة , فَلا تَفَاضُلَ فِيهَا , وَإِنَّمَا التَّفَاضُل بِالْخَصَائِصِ وَفَضَائِل أُخْرَى وَلا بُدَّ مِنْ اِعْتِقَادِ التَّفْضِيل , فَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) وَاَللَّه أَعْلَم.أهـ
وخصائص النبي صلى الله عليه وسلم التي تؤكد أفضليته على باقي الرسل كثيرة نذكر بعضا منها مما جاء في الكتاب والسنة:
أن الله عز وجل خصَّ القرآن الكريم المُنَزَّل عليه بالحفظ دون غيره من الكتب، قال تعالى: (إنّا نحن نزَّلنا الذِّكر وإنّا له لحافظون) الحجر/9، أما الكتب الأخرى فقد وَكَلَ الله أمْرَ حفظها إلى أهلها قال تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يَحْكُم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربَّانِيُّون والأحبار بما اسْتُحْفِظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) المائدة/44.
أنه خاتم الأنبياء والمرسلين قال تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) الأحزاب/40.
اختصاصه بأنه أرسل إلى الناس عامة قال تعالى: (تَبَارَكَ الذي نَزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) الفرقان/1.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم في الأخرة:
أنه صاحب المقام المحمود يوم القيامة قال تعالى: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يَبْعَثَكَ ربك مقاماً محموداً) الإسراء/79، قال ابن جرير: قال أكثر أهل التأويل: ذلك المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلم للشفاعة يوم القيامة للناس، لِيُرِيحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم. تفسير ابن كثير5/103
أنه سيد الخلق يوم القيامة، وتقدم ذكر الحديث فيه.
أنه أول من يَجُوزُ الصِّراط بأمته يوم القيامة أخرج البخاري في ذلك حديث أبي هريرة الطويل، وفيه ….." فأكون أول من يَجُوزُ من الرسل بأمته " (الأذان/764) . ومن الأدلة الواضحة على أنه أفضل الأنبياء أنهم كلهم لا يشفعون، ويحيل الواحد منهم الناس على الآخر، حتى يحيلهم عيسى على محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: أنا، ثمَّ يتقدم فيشفع للجميع، فيحمده على ذلك الأولون والآخرون، والأنبياء وسائر الخلق.
وخصائصه عليه الصلاة والسلام التي وردت الآيات والأحاديث الصحيحة أكثر من أن نذكرها في مقام مُوجَز، فقد أُلِّفَتْ فيها الكتب.
انظر كتاب خصائص المصطفى صلى الله عيه وسلم بين الغلو والجفاء للصادق بن محمد 33-79
والخلاصة: أننا نفضل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم عن سائر الأنبياء والناس، للأدلة الواردة في ذلك، مع حفظنا لحقوق جميع الأنبياء والمرسلين والإيمان بهم وتوقيرهم. والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/225)
أوّلُ الأنبياء، وأوّل الرسُلْ
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد معرفة ما إذا كان آدم عليه السلام نبيا. وإذا لم يكن آدم عليه السلام هو نبينا الأول , فمن يكون نبينا الأول إذن؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
آدم عليه السلام هو أول الأنبياء، كما جاء في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم: سُئِلَ عن آدم أنبي هو؟ قال: (نعم نَبِِيٌ مُكَلَّمْ) ، ولكنه ليس برسول لما جاء في حديث الشفاعة أن الناس يذهبون إلى نوح فيقولون: " أنت أول رسول بعثه الله إلى الأرض ".
وهذا نص صريح بأن نوحا أول الرسل، والله أعلم.
مجموع فتاوى ابن عثيمين 1/317
فآدم أبو البشر وهو نبي، فهو أول الأنبياء.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/226)
الإيمان بالكتب والرسل
[السُّؤَالُ]
ـ[من هم الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى؟ وما هي الكتب التي أنزلها معهم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله،
حين أهبط الله آدم إلى الأرض وانتشرت ذريته لم يتركهم هملاً بل أوجد لهم الرزق وأنزل عليه وعلى أبنائه الوحي فمنهم من آمن ومنهم من كفر: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة) النحل/36.
والكتب السماوية التي أنزلها الله أربعة وهي التوراة والإنجيل والزبور والقرآن: (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل) آل عمران/3.
وقال تعالى: (وآتينا داود زبوراً) الإسراء/55.
والأنبياء والرسل كثيرون ولا يعلم عددهم إلا الله منهم من قص الله علينا ومنهم من لم يقصه علينا: (ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك) النساء/164.
يجب الإيمان بجميع الكتب التي أنزلها الله وجميع الأنبياء والرسل الذين أرسلهم الله كما قال سبحانه: (يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً) النساء/136.
الرسول والنبي اسمان لمسمى واحد هو من بعثه الله ليدعو الناس إلى عبادة الله وحده من الأنبياء والرسل الذين اصطفاهم الله وأرسلهم إلى عباده يبلغون دينه: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) النساء/162.
والأنبياء والرسل كثيرون وقد ذكر الله منهم في القرآن خمسة وعشرين فيجب الإيمان بهم جميعاً وهم، آدم، إدريس، نوح، هود، صالح، إبراهيم، لوط، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، يوسف، شعيب، أيوب، ذو الكفل، موسى، هارون، داوود، سليمان، إلياس، اليسع، يونس، زكريا، يحيى، عيسى، محمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
والقرآن الكريم أعظم الكتب السماوية وآخرها وهو ناسخ لما قبله من الكتب ومهيمن عليه فيجب العمل به , وترك ما سواه: (وأنزلنا إليك الكتب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله) المائدة/48.
وقد اصطفى الله من بني آدم رسلاً وأنبياء وبعثهم في كل أمة , وأمرهم بالدعوة إلى عبادة الله وحده وبيان الشرائع التي فيها سعادة الدنيا والآخرة والبشرى بالجنة لمن آمن والإنذار بالنار لمن كفر: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة) النحل/36.
وقد فضل الله بعض الأنبياء والرسل على بعض فأفضلهم أولوا العزم وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وأفضل أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة وهو آخر الأنبياء والرسل وأفضلهم كما قال الله عنه: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون) سبأ/28.
والأنبياء والرسل اصطفاهم الله وجعلهم قدوة لأممهم رباهم وأدبهم وكرمهم بالرسالة وعصمهم من الوقوع في المعاصي وأيدهم بالمعجزات فهم أكمل البشر خَلقاً وخُلقاً وأفضلهم علماً وأصدقهم قولاً وأعطرهم سيرة قال الله عنهم: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) الأنبياء/73.
ولما كان الأنبياء والرسل بهذه المنزلة العالية من الطاعة وحسن الخلق أمرنا الله بالاقتداء بهم فقال: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) الأنعام/90.
وقد اجتمعت في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جميع صفات الأنبياء والرسل وأكرمه الله بالأخلاق العظيمة لذا أمر الله بالاقتداء به في كل أحواله: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) الأحزاب/21.
الإيمان بجميع الأنبياء والرسل من أركان العقيدة الإسلامية التي لا يتم إيمان المسلم إلا بها لأنهم يدعون إلى عقيدة واحدة هي الإيمان بالله قال تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) البقرة/136.
[الْمَصْدَرُ]
من كتاب أصول الدين الإسلامي للشيخ محمد بن إبراهيم التويجري.(1/227)
غلام بريطاني يسأل عن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم للأركان الخمسة
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا اختار محمد (صلى الله عليه وسلم) الأركان الخمسة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لقد لفت هذا السؤال انتباهنا، إذ إنه يدل على اهتمامك بدين الإسلام ونبي الإسلام، فنحيي فيك أيها السائل الصغير هذا الاهتمام، والحرص على السؤال، والسعي في الحصول عليه من مصادره الموثوقة، ولعل هذا السؤال أن يكون فاتحة خيرٍ لك للوصول إلى طريق الحق، والله الهادي إلى سواء السبيل.
وإليك الجواب:
(محمد) صلى الله عليه وسلم هو النبي الذي أرسله الله إلى الناس جميعاً ليخرجهم من ظلمات الشرك والكفر إلى نور الهدى والإسلام، فأمره أن يدعو الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يأمرهم بمكارم الأخلاق، من الكرم والشجاعة وإكرام الضيف، والإحسان إلى الجار وطاعة الوالدين، واحترام الكبير والشفقة على الصغير، وإرشاد الضال ورحمة المساكين وإعانة المحتاجين وإغاثة الملهوفين، والتفريج عن المكروبين، ... إلى غير ذلك من المحاسن والفضائل. وأن ينهاهم عن الشرك والكفر وسفاسف الأخلاق، ورديئها، من الزنا والكذب والخيانة والغش وعقوق الوالدين والظلم، وغير ذلك. راجع سؤال (219) .
وأما أركان الإسلام، فاعلم - هداك الله - بأن الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يُبلغ ما يوحى إليه من الله من غير زيادةٍ ولانقص قال الله تعالى: {إن هو إلا وحيٌ يُوحى} ، فالرسول صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن يكذب على الله سبحانه وتعالى قال عز وجل: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) } سورة الحاقة.
ولو تأملنا في أركان الإسلام الخمسة لوجدناها قد تنوعت فالركن الأول - وهو الشهادتان - جمع بين عمل القلب واللسان، والركن الثاني الصلاة وهو فعل عملٍ بدني وصلة بين العبد والرب في أوقات موزَّعة على الليل والنهار، والركن الثالث الصوم وهو التعبد لله بالإمساك عن الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات من طلوع الشمس إلى غروبها، فيصوم المسلم تعبداً لله ثم إحساساً بحال إخوانه الفقراء، والركن الرابع الزكاة، وهو عمل مالي يبذل المسلم القادر جزءً من ماله لإخوانه من الفقراء والمساكين، والركن الخامس الحج وهو عملٌ جمع بين بذل المال والعمل البدني، وإذا تأملت هذه الأركان الخمسة وجدت فيها حكماً عظيمة، فالإسلام قائمٌ على الاستسلام لله بالتوحيد والخلوص من الشرك وألا يُعبد الله إلا بما شرع، فمن الناس من يسهل عليه أن يعمل عملاً بدنياً لكنه يشق عليه أن يبذل مالاً فكان في الزكاة تمحيص لهؤلاء، واختبار لهم، ومن الناس من يسهل عليه أن يبذل مالاً كثيراً لكنه يصعب عليه أن يقوم ببذل مجهود بدني فكان في الصلاة اختبار لهم، ومن الناس من يسهل عليه فعل الصلاة وإخراج الزكاة، لكنه يشق عليه ترك ما يُحبه من الطعام والشراب ولذة الجماع، فكان في الصوم امتحان لهؤلاء، وأما الحج فقد جمع بين المال، وعمل البدن، ... إلى غير ذلك من الحكم والغايات المحمودة من هذه العبادات العظيمة.
وهذه الأركان إنما هي وحي من عند الله بلَّغَنَا إياها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وتلقاها المسلمون بالقبول والتسليم. فنسأل الله الهداية للجميع.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/228)
لماذا يجب علينا أن نحب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر من أي شخص آخر؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا يجب علينا أن نحب ونطيع ونتبع ونحترم رسولنا محمَّداً صلى الله عليه وسلم إلى أقصى درجة؟ (أو أكثر من أي شخص آخر) .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
1- أوجب الله تعالى علينا طاعة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) المائدة/92.
2- وأخبر الله تعالى أن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم هي طاعة لله تعالى، قال الله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) النساء/80
3- وحذَّر الله عز وجل من التولي عن طاعته، وأن هذا قد يصيب المسلم بالفتنة وهي فتنة الشرك، قال الله عز وجل: (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النور/63 وأخبر الله تعالى أن مقام النبوة الذي أعطاه لنبيه صلى الله عليه وسلم يستوجب من المؤمنين احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، قال الله تعالى: (إناأَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا) الفتح/8-9
4- ولا يتم إيمان المسلم حتى يحبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، بل حتى يكون النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه من والده وولده ونفسه والناس أجمعين. عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) رواه البخاري (15) ومسلم (44) .
وعن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء، إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك) فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن يا عمر) رواه البخاري (6257) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما السبب في وجوب محبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعظيمه أكثر من أي شخص فلأن أعظم الخير في الدنيا والآخرة لا يحصل لنا إلا على يد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإيمان به واتباعه، وذلك أنه لا نجاة لأحد من عذاب الله، ولا وصول له إلى رحمة الله إلا بواسطة الرسول؛ بالإيمان به ومحبته وموالاته واتباعه، وهو الذى ينجيه الله به من عذاب الدنيا والآخرة، وهو الذى يوصله إلى خير الدنيا والآخرة. فأعظم النعم وأنفعها نعمة الإيمان، ولا تحصل إلا به وهو أنصح وأنفع لكل أحد من نفسه وماله؛ فإنه الذى يخرج الله به من الظلمات إلى النور، لا طريق له إلا هو، وأما نفسه وأهله فلا يغنون عنه من الله شيئا..) اهـ مجموع الفتاوى 27/246
وقال بعض أهل العلم: إِذَا تَأَمَّل العبدُ النَّفْع الْحَاصِل لَهُ مِنْ جِهَة الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الله به مِنْ ظُلُمَات الْكُفْر إِلَى نُور الْإِيمَان، عَلِمَ أَنَّهُ سَبَب بَقَاء نَفْسه الْبَقَاء الأَبَدِيّ فِي النَّعِيم السَّرْمَدِيّ , وَعَلِمَ أَنَّ نَفْعه بِذَلِكَ أَعْظَم مِنْ جَمِيع وُجُوه الانْتِفَاعَات , فَاسْتَحَقَّ لِذَلِكَ أَنْ يَكُون حَظّه مِنْ مَحَبَّته أَوْفَر مِنْ غَيْره , وَلَكِنَّ النَّاس يَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ اِسْتِحْضَار ذَلِكَ وَالْغَفْلَة عَنْهُ، وكلّ مَنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَانًا صَحِيحًا لا يَخْلُو عَنْ وِجْدَان شَيْء مِنْ تِلْكَ الْمَحَبَّة الرَّاجِحَة , غَيْر أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ. فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ مِنْ تِلْكَ الْمَرْتَبَة بِالْحَظِّ الأَوْفَى , وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ مِنْهَا بِالْحَظِّ الْأَدْنَى , كَمَنْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا فِي الشَّهَوَات مَحْجُوبًا فِي الْغَفَلات فِي أَكْثَر الأَوْقَات , لَكِنَّ الْكَثِير مِنْهُمْ إِذَا ذُكِرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِشْتَاقَ إِلَى رُؤْيَته , بِحَيْثُ يُؤْثِرهَا عَلَى أَهْله وَوَلَده وَمَاله وَوَالِده، غَيْر أَنَّ ذَلِكَ سَرِيع الزَّوَال بِتَوَالِي الْغَفَلَات , وَاَللَّه الْمُسْتَعَان. انظر فتح الباري 1/59.
وإلى هذا المعنى يشير قول الله عز وجل: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) الأحزاب/6.
قال ابن كثير رحمه الله:
(قد علم شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على أمته، ونصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم، وحكمه فيهم مقدما على اختيارهم) 6/380.
وقال الشيخ ابن سعدي رحمه الله:
(يخبر تعالى المؤمنين خبرا يعرفون به حالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومرتبته؛ فيعاملونه بمقتضى تلك الحالة، فقال: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) : أقرب ما للإنسان، وأولى ما له نفسه، فالرسول أولى به من نفسه، لأنه عليه الصلاة والسلام، بذل لهم من النصح والشفقة والرأفة، ما كان به أرحم الخلق وأرأفهم، فرسول الله أعظم الخلق منة عليهم من كل أحد، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من خير، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر إلا على يديه وبسببه. فلذلك وجب عليه أنه إذا تعارض مراد النفس، أو مراد أحد من الناس مع مراد الرسول أن يقدم مرا الرسول، وأن لا يعارض قول الرسول بقول أحد كائنا من كان، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم، ويقدموا محبته على محبة الخلق كلهم، وألا يقولوا حتى يقول، ولا يقدموا بين يديه) . اهـ
وحاصل ما ذكره أهل العلم في بيان ذلك أن غضب الله والنار هما أعظم مرهوب للعبد؛ ولا نجاة منها إلا على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، ورضى الله والجنة هما أعظم مطلوبه، ولا فوز بهما إلا على يد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وإلى الأمر الأول يشير النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي) مسلم 2285 من حديث جابر، ونحوه في البخاري 3427 من حديث أبي هريرة.
{ (الفَراش) َقَالَ الْخَلِيل: هُوَ الَّذِي يَطِيرُ كَالْبَعُوضِ
وَأَمَّا (الْجَنَادِب) فَجَمْع جُنْدُب , وَالْجَنَادِب هَذَا الصِّرَار الَّذِي يُشْبِهُ الْجَرَاد.
أَمَّا (التَّقَحُّم) فَهُوَ الإِقْدَامُ وَالْوُقُوعُ فِي الأُمُور الشَّاقَّة مِنْ غَيْر تَثَبُّت.
وَ (الْحُجَز) جَمْع حُجْزَة وَهِيَ مَعْقِد الإِزَار وَالسَّرَاوِيل.
وَمَقْصُود الْحَدِيث أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَ تَسَاقُط الْجَاهِلِينَ وَالْمُخَالِفِينَ بِمَعَاصِيهِمْ وَشَهَوَاتهمْ فِي نَار الآخِرَة , وَحِرْصهمْ عَلَى الْوُقُوع فِي ذَلِكَ , مَعَ مَنْعه إِيَّاهُمْ , وَقَبْضه عَلَى مَوَاضِع الْمَنْع مِنْهُمْ , بِتَسَاقُطِ الْفِرَاش فِي نَار الدُّنْيَا , لِهَوَاهُ وَضَعْف تَمْيِيزه , وَكِلاهُمَا حَرِيصٌ عَلَى هَلَاكِ نَفْسه , سَاعٍ فِي ذَلِكَ لِجَهْلِهِ.) } شرح مسلم، للنووي
وأما الثاني فيشير إليه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أَبَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى) البخاري 7280 من حديث أبي هريرة
والله الموفق.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/229)
بطلان حديث (لولاك ما خلقت الأفلاك)
[السُّؤَالُ]
ـ[ما رأيك بهذا الحديث: " إذا لم يكن يوجد محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله سبحانه وتعالى لم يكن ليخلق الكون". بصراحة فأنا أشتبه بصحة هذا الحديث فهل يمكن أن تلقي بعض الضوء.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قد رويت أحاديث باطلة وموضوعة بهذا المعنى، فمن ذلك:
(لو لاك ما خلقت الأفلاك)
ذكره الشوكاني في "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" (ص 326) وقال:
قال الصغاني: موضوع اهـ
قال الألباني في "السلسلة الضعيفة" (282) : موضوع اهـ
ومنها: ما رواه الحاكم عن ابن عباس قال:
أوحى الله إلى عيسى عليه السلام: يا عيسى آمن بمحمد، وأمر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم، ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فسكن.
قال الحاكم: صحيح الإسناد!! وتعقبه الذهبي بقوله:
أظنه موضوعاً على سعيد اهـ.
يعني: سعيد بن أبي عروبة (أحد رواة هذا الحديث) ، وقد روى هذا الحديث عنه عمرو بن أوس الأنصاري وهو المتهم بوضع هذا الحديث، وقد ذكره الذهبي في "الميزان" وقال: أتى بخبر منكر، ثم ساق هذا الحديث، وقال: وأظنه موضوعاً. ووافقه الحافظ ابن حجر كما في "اللسان".
وقال الألباني في "السلسلة الضعيفة" (280) : لا أصل له اهـ.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
هل الحديث الذى يذكره بعض الناس: لولاك ما خلق الله عرشاً ولا كرسياً ولا أرضاً ولا سماء ولا شمسا ولا قمرا ولا غير ذلك صحيح هو أم لا؟
فأجاب:
محمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وأفضل الخلق وأكرمهم عليه، ومن هنا قال من قال: إن الله خلق من أجله العالم. أو أنه لولا هو لما خلق عرشا ولا كرسيا ولا سماء ولا أرضا ولا شمسا ولا قمرا.
لكن ليس هذا حديثا عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا صحيحا ولا ضعيفا، ولم ينقله احد من أهل العلم بالحديث عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل ولا يعرف عن الصحابة بل هو كلام لا يُدْرَى قائله اهـ. مجموع الفتاوى (11/86-96) .
وسئلت اللجنة الدائمة:
هل يقال: إن الله خلق السماوات والأرض لأجل خلق النبي صلى الله عليه وسلم وما معنى لولاك لما خلق الأفلاك هل هذا حديث أصلا؟
فأجابت:
لم تخلق السماوات والأرض من أجله صلى الله عليه وسلم بل خُلقت لما ذكره الله سبحانه في قوله عز وجل: "الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شئ علما" , أما الحديث المذكور فهو مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم لا أساس له من الصحة اهـ. فتاوى اللجنة الدائمة (1/312) .
وسئل الشيخ ابن باز عن هذا الحديث فقال:
الجواب: هذا ينقل من كلام بعض العامة وهم لا يفهمون، يقول بعض الناس إن الدنيا خلقت من أجل محمد ولولا محمد ما خلقت الدنيا ولا خلق الناس وهذا باطل لا أصل له، وهذا كلام فاسد، فالله خلق الدنيا ليعرف ويُعلم سبحانه وتعالى وليُعبد جل وعلا، خلق الدنيا وخلق الخلق ليُعرف بأسمائه وصفاته، وبقدرته وعلمه، وليعبد وحده لا شريك له ويطاع سبحانه وتعالى، لا من أجل محمد، ولا من أجل نوح، ولا موسى، ولا عيسى، ولا غيرهم من الأنبياء، بل خلق الله الخلق ليعبد وحده لا شريك له اهـ فتاوى نور على الدرب (46) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/230)
التفضيل بين الرسل
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف نجمع بين قوله تعالى: (وتلك الرسل فضلنا بعضها على بعض) وقوله: (لا نفرق بين أحد من رسله) ؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضها على بعض) كقوله تعالى: (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) فالأنبياء والرسل لا شك أن بعضهم أفضل من بعض، فالرسل أفضل من الأنبياء، وأولوا العزم من الرسل أفضل ممن سواهم، وأولو العزم من الرسل هم الخمسة الذين ذكرهم الله تعالى في آيتين من القرآن إحداهما في سورة الأحزاب: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم) محمد عليه الصلاة والسلام ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم.
والآية الثانية في سورة الشورى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) فهؤلاء خمسة وهم أفضل ممن سواهم، وأما قوله تعالى عن المؤمنين: (كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله لا نُفرق بين أحد من رسله) فالمعنى لا نفرق بينهم في الإيمان بل نؤمن أنهم كلهم رسل من عند الله حقاً، وأنهم ما كذبوا فهم صادقون مصدقون، وهذا معنى قوله: (لا نفرق بين أحد من رسله) أي في الإيمان فنؤمن أنهم كلهم عليهم الصلاة والسلام رسل من عند الله حقاً.
لكن في الإيمان المتضمن للاتباع هذا يكون لمن بعد الرسول صلى الله عليه وسلم خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم هو المتَّبع لأن شريعته نسخت ما سواها من الشرائع، وبهذا نعلم أن الإيمان يكون للجميع كلهم، نؤمن بهم وأنهم رسل الله حقاً، وأما بعد أن بُعث الرسول عليه الصلاة والسلام فإن جميع الأديان السابقة نُسخت بشريعته صلى الله عليه وسلم، وصار الواجب على جميع الناس أن ينصروا محمداً صلى الله عليه وسلم وحده، ولقد نسخ الله تعالى بحكمته جميع الأديان سوى دين الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا الله هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) فكانت الأديان سوى دين الرسول عليه الصلاة والسلام كلها منسوخة، لكن الإيمان بالرسول وأنهم حق هذا الأمر لابد منه.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ ابن عثيمين في كتاب فتاوى إسلامية 1/81.(1/231)
كيف سحر الرسول صلى الله عليه وسلم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف يسحر الرسول صلى الله عليه وسلم والله يقول له: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ؟ وكيف يسحر وهو يتلقى الوحي عن ربه ويبلغ ذلك للمسلمين، فكيف يبلغ وهو مسحور وقول الكفار والمشركين: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا) ؟ نرجو إيضاحها، وبيان هذه الشبهات.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فقد ثبت في الحديث الصحيح أن هذا السحر وقع في المدينة، عندما استقر الوحي واستقرت الرسالة، وبعد أن قامت دلائل النبوة وصدق الرسالة، ونصر الله نبيه على المشركين وأذلهم، تعرض له شخص من اليهود يدعى: لبيد بن الأعصم، فعمل له سحراً في مشط ومشاطة وجب طلعة ذكر النخل، فصار يخيل إليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه فعل بعض الشيء مع أهله ولم يفعله، لكن لم يَزَل بحمد الله تعالى عقله وشعوره وتمييزه معه فيما يحدث به الناس، واستمر يكلم الناس بالحق الذي أوحاه الله إليه، لكنه أحس بشيء أثَّر عليه بعض الأثر مع نسائه، كما قالت عائشة رضي الله عنها:" إنه كان يخيل إليه أنه فعل بعض الشيء في البيت مع أهله وهو لم يفعله فجاءه الوحي من ربه عز وجل بواسطة جبرائيل عليه السلام فأخبره بما وقع فبعث من استخرج ذلك الشيء من بئر لأحد الأنصار فأتلفه " وزال عنه بحمد الله تعالى ذلك الأثر وأنزل عليه سبحانه سورتي المعوذتين فقرأهما وزال عنه كل بلاء وقال عليه الصلاة والسلام ما تعوذ المتعوذون بمثلهما ولم يترتب على ذلك شيء مما يضر الناس أو يخل بالرسالة أو بالوحي، والله جل وعلا عصمه من الناس مما يمنع وصول الرسالة وتبليغها.
أما ما يصيب الرسل من أنواع البلاء فإنه لم يُعصم منه عليه الصلاة والسلام، بل أصابه شيء من ذلك، فقد جُرح يوم أحد، وكُسرت البيضة على رأسه، ودخلت في وجنتيه بعض حلقات المغفر، وسقط في بعض الحفر التي كانت هناك، وقد ضيقوا عليه في مكة تضييقا شديدا، فقد أصابه شيء مما أصاب من قبله من الرسل، ومما كتبه الله عليه، ورفع الله به درجاته، وأعلى به مقامه، وضاعف به حسناته، ولكن الله عصمه منهم فلم يستطيعوا قتله ولا منعه من تبليغ الرسالة، ولم يحولوا بينه وبين ما يجب عليه من البلاغ فقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة صلى الله عليه وسلم. والحمد لله رب العالمين.
[الْمَصْدَرُ]
انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ ابن باز رحمه الله (8/ 149) .(1/232)
الحكمة من إمامة النبي صلى الله عليه وسلم للأنبياء في حادثة الإسراء
[السُّؤَالُ]
ـ[ما العلة في إمامة النبي محمد للأنبياء في ليلة الإسراء والمعراج، على ماذا يدل هذا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
العلة من تقديم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة بالأنبياء إماماً في المسجد الأقصى الذي هو دار الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام هي الدلالة على أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم والرئيس المقدم كما نص على ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله عند أول تفسيره لسورة الإسراء، وقال أيضاً ـ رحمه الله ـ في معرض حديثه عن إمامة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء: " ثم أُظْهِرَ شرفُه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام له "
ولا شك أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو مقدم الأنبياء وأفضلهم فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ) رواه مسلم (2278)
وقد التمس بعض العلماء حكمة أخرى من تقدمه عليه الصلاة والسلام إماماً للأنبياء فقال:
قوله في الحديث: (فأممتهم) فيه – والله أعلم – إشارة إلى تولي هذه الأمة أمر قيادة البشرية. "
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/233)
قصة الذبيح
[السُّؤَالُ]
ـ[حسب معتقد المسلمين فإن النبي إبراهيم كان يريد أن يذبح ولده إسماعيل، حصل نقاش بيني وبين كافر وذكر بأن هذا لم يُذكر في القرآن.
بعد البحث يبدو لي أن في القرآن غموض حول هوية الابن الذي أراد ذبحه (حسب النسخة المترجمة التي أمتلكها) في سورة رقم 37
أرجو أن توضح موقف المسلمين من إبراهيم والأضحية مع ذكر الأدلة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الله تعالى عن عبده وخليله إبراهيم عليه السلام: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يذكر تعالى عن خليله إبراهيم أنه لما هاجر من بلاد قومه سأل ربه أن يهب له ولدا صالحا فبشره الله تعالى بغلام حليم وهو إسماعيل عليه السلام لأنه أول من وُلد (لإبراهيم الخليل عليه السلام) ، وهذا لا خلاف فيه بين أهل الملل (أنّ إسماعيل كان) أول ولده وبكره.
وقوله: (فلما بلغ معه السعي) أي: شبّ وصار يسعى في مصالحه كأبيه قال مجاهد فلما بلغ معه السعي أي شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل فلما كان هذا رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده هذا، وفي الحديث عن ابن عباس مرفوعا: " رؤيا الأنبياء وحي ".. وهذا اختبار من الله عز وجل لخليله في أن يذبح هذا الولد العزيز الذي جاءه على كِبَر وقد طعن في السن بعد ما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد قفر وواد ليس به حسيس ولا أنيس ولا زرع ولا ضرع فامتثل أمر الله في ذلك وتركهما هناك ثقة بالله وتوكلا عليه فجعل الله لهما فرجا ومخرجا ورزقهما من حيث لا يحتسبان ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده هذا الذي.. هو بكره ووحيده الذي ليس له غيره أجاب ربه وامتثل أمره وسارع إلى طاعته ثم عرض ذلك على ولده ليكون أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قسرا ويذبحه قهرا: (قال يا بنيّ إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى) ، فبادر الغلام الحليم.. (فقال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) وهذا الجواب في غاية السداد والطاعة للوالد ولرب العباد قال الله تعالى: (فلما أسلما وتلّه للجبين) ، قيل أسلما أي استسلما لأمر الله وعزما على ذلك،.. ومعنى تله للجبين أي ألقاه على وجهه قيل أراد أن يذبحه من قفاه لئلا يشاهد (وجهه) في حال ذبحه قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك.. وأسلما أي سمّى إبراهيم وكبر وتشهّد الولد للموت قال السدي وغيره أمَرَّ السكين على حلقه فلم تقطع شيئا ويقال جُعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس والله أعلم فعند ذلك نودي من الله عز وجلّ: (أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) ، أي قد حصل المقصود من اختبارك وطاعتك ومبادرتك إلى أمر ربك وبذْلِك ولدك للقربان كما سمحت ببدنك للنيران وكما مالك مبذول للضيفان ولهذا قال تعالى: (إن هذا لهو البلاء المبين أي الاختبار الظاهر البيّن، وقوله: (وفديناه بذِبْح عظيم) أي وجعلنا فداء ذبح ولده ما يسَّرَه الله تعالى له من العِوَض عنه والمشهور عن الجمهور أنه كبش أبيض أعْيَن أقرن.. قال الثوري عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا.
وروي عن ابن عباس أن رأس الكبش لم يزل معلقا عند ميزاب الكعبة قد يبس وهذا وحده دليل على أن الذبيح إسماعيل لأنه كان هو المقيم بمكة وإسحق لا نعلم أنه قدمها في حال صغره والله أعلم.
انظر البداية والنهاية لابن كثير 1/157-158
فالذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق لما تقدّم وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآيات عدّة وجوه في إثبات أن الذبيح هو إسماعيل وملخصها:
1- أن إسماعيل هو أول ولد بُشِّر به إبراهيم، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، وقد ذكر عند أهل الكتاب أن الله تعالى أمره أن يذبح ابنه الوحيد وفي نسخة بكره.
2- أن أول ولد له من المعزَّة ما ليس لمن بعده من الأولاد فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء والاختبار.
3- أنه ذكر البشارة بغلام حليم وذكر أنه الذبيح ثم قال بعد ذلك: " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين "، والملائكة لما بشروا إبراهيم بإسحاق قالوا: " إنا بشرناك بغلام عليم "
4- أن الله تعالى قال: " فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " أي يولد له في حياتهما ولد يسمى يعقوب فيكون من ذريته عقب ونسل.. فلا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير لأن الله تعالى قد وعدهما بأنه سيُعْقب ويكون له نسل.
5- أن إسماعيل وصف ههنا بالحليم لأنه مناسب لهذا المقام. تفسير ابن كثير 4/15 والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/234)
كيف تمّ خلْق عيسى عليه السلام
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن أن تخبرني كيف تم خلق النبي عيسى بالنسبة للحمل؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
1- أمر الله تعالى جبريل الأمين أن ينفخ في جيب درعها وهو رقبة الثوب ومدخل الرأس منه فنزلت النّفخة بإذن الله فولجت رحمها فصارت روحاً خلقها الله تعالى. وقد بيّن عزّ وجلّ مبدأ خلق عيسى عليه السلام فقال تعالى {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا} ، ثم بيَّن تعالى أن النفخ وصل إلى الفرج، فقال عز وجل {ومريم بنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا} .
ودلَ قوله تعالى {إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيّاً} على أن النافخ هو جبريل، وهو لا يفعل إلا بأمر الله.
2- وقد جاءت أقوال عن بعض المفسرين في مدة الحمل، وأنها لحظات، وهذا غير واضح ولا تدل عليه النصوص، ولو كان كذلك لكان آية في نفسه، يمكن أن يسلموا أنه ليس بالحمل العادي الذي تحمل به النساء، وبعده: لا يتهمونها بالزنى كما قالوا {قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً} ، وفيما يلي كلام لإمامين جليلين من أهل التفسير، أحدهما ممن مضى - وهو ابن كثير رحمه الله -، والآخر من المعاصرين - وهو الشنقيطي رحمه الله - في بيان هذا الأمر.
3- قال الإمام ابن كثير رحمه الله:
اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر،.... وقال ابن جريج أخبرني المغيرة بن عتبة بن عبد الله الثقفي سمع ابن عباس وسئل عن حمل مريم قال لم يكن إلا أن حملت فوضعت!!
وهذا غريب وكأنه مأخوذ من ظاهر قوله تعالى {فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة} ، فالفاء وإن كانت للتعقيب لكن تعقيب كل شيء بحسبه كقوله تعالى {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما} ، فهذه الفاء للتعقيب بحسبها وقد ثبت في الصحيحين - البخاري 3208، مسلم 2643 - " أن بين كل صفتين أربعون يوما "، وقال تعالى {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرّة} .
فالمشهور الظاهر - والله على كل شيء قدير - أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن.
.... ولما استشعرت مريم من قومها إتهامها بالريبة انتبذت منهم {مكانا قصيا} أي قاصيا منهم بعيدا عنهم لئلا تراهم ولا يروها،.... وتوارت من الناس واتخذت {من دونهم حجابا} فلا يراها أحد ولا تراه. " تفسير ابن كثير " (3 / 122) .
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله:
وأقوال العلماء في قدر المدة التي حملت فيها مريم بعيسى قبل الوضع: لم نذكرها؛ لعدم دليل على شيءٍ منها، وأظهرها: أنه حمل كعادة حمل النساء، وإن كان منشؤه خارقاً للعادة. والله تعالى أعلم. " أضواء البيان " (4 / 264) .
5- وقد استدل بعض الجهلة بقوله تعالى {ونفخت فيه من روحي} على أن المسيح جزء من روح الله!!
وقد بين ابن القيم رحمه الله ضلال هذا الاستدلال، فقال:
وأما استدلالهم بإضافتها إليه سبحانه بقوله تعالى {ونفخت فيه من روحي} فينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله سبحانه نوعان:
صفات لا تقوم بأنفسها كالعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر فهذه إضافة صفة إلى الموصوف بها فعلمه وكلامه وإرادته وقدرته وحياته وصفات له غير مخلوقة وكذلك وجهه ويده سبحانه.
والثاني: إضافة أعيان منفصلة عنه كالبيت والناقة والعبد والرسول والروح فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه ومصنوع إلى صانعه لكنها إضافة تقتضي تخصيصا وتشريفا يتميز به المضاف عن غيره كبيت الله وإن كانت البيوت كلها ملكا له وكذلك ناقة الله والنوق كلها ملكه وخلقه لكن هذه إضافة إلى إلهيته تقتضي محبته لها وتكريمه وتشريفه بخلاف الإضافة العامة إلى ربوبيته حيث تقتضي خلقه وإيجاده فالإضافة العامة تقتضي الإيجاد والخاصة تقتضي الاختيار والله يخلق ما يشاء ويختار مما خلقه كما قال تعالى {وربك يخلق ما يشاء ويختار} وإضافة الروح إليه من هذه الإضافة الخاصة لا من العامة ولا من باب إضافة الصفات فتأمل هذا الموضع فإنه يخلّصك من ضلالات كثيرة وقع فيها من شاء الله من الناس. أ. هـ
"الروح" (ص 154، 155) .
فالخلاصة أنّ وصف عيسى عليه السلام بأنّه روح الله هو من باب التشريف والتكريم لعيسى وهذه الإضافة (وهي إضافة كلمة روح إلى لفظ الجلالة) ليست إضافة صفة إلى الموصوف كيد الله ووجه الله وإنما هي إضافة المخلوق إلى خالقه كوصف الكعبة بأنها بيت الله وأيضا ناقة الله وهي المعجزة التي آتاها الله نبيه صالحا عليه السلام
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/235)
هل النبي صلى الله عليه وسلم يُخْطِئ
[السُّؤَالُ]
ـ[سؤالي عن الرسول صلى الله عليه وسلم. بعض المسلمين يقولون إنه بدون خطايا، وآخرون يقولون إنه ليس بدون خطايا. أنا شخصيا لا أعتقد أنه بدون خطايا لأنه بشر. هل يمكنك أن تخبرني بالرأي الصحيح من الكتاب والسنة؟ ولكم جزيل الشكر. والله أكبر]ـ
[الْجَوَابُ]
أولا: استعمال كلمة خطايا في السؤال خطأ كبير، لأن الخطايا جمع خطيئة وهذا مُحال على الرسل والأصح أن تقول أخطاء جمع خطأ لأن الخطأ قد يكون عفوياً وليس كذلك الخطيئة.
ثانياً: أما الخطيئة فاٍن الرسل ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم لم يرتكبوا شيئاً منها بقصد معصية الله تعالى بعد الرسالة وهذا بإجماع المسلمين، فهم معصومون عن كبائر الذنوب دون الصغائر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
إن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر: هو قول أكثر علماء الإسلام، وجميع الطوائف ... وهو أيضاً قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل لم يُنقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول. " مجموع الفتاوى " (4 / 319) .
وهذا سؤال موجه إلى اللجنة الدائمة حول الموضوع:
سؤال: بعض الناس يقولون ومنهم الملحدون: إن الأنبياء والرسل يكون في حقهم الخطأ يعني يخطئون كباقي الناس، قالوا: إن أول خطأ ارتكبه ابن آدم قابيل هو قتل هابيل ... داود عندما جاء إليه الملكان سمع كلام الأول ولم يسمع قضية الثاني.... يونس وقصته لما التقمه الحوت، وقصة الرسول مع زيد بن حارثة قالوا بأنه أخفى في نفسه شيئا يجب عليه أن يقوله ويظهره، قصته مع الصحابة: انتم أدرى بأمور دنياكم، قالوا بأنه اخطأ في هذا الجانب. قصته مع الأعمى وهي {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} فهل الأنبياء والرسل حقا يخطئون وبماذا نرد على هؤلاء الآثمين؟
الجواب:
ج: نعم الأنبياء والرسل يخطئون ولكن الله تعالى لا يقرهم على خطئهم بل يبين لهم خطأهم رحمة بهم وبأممهم ويعفو عن زلتهم ويقبل توبتهم فضلا منه ورحمة والله غفور رحيم كما يظهر ذلك من تتبع الآيات القرآنية التي جاءت فيما ذكر من الموضوعات في هذا السؤال ... وأما أبناء آدم فمع انهما ليسا من الأنبياء.... بين الله سوء صنيعه بأخيه....انتهى
عبد العزيز بن باز - عبد الرزاق عفيفي - عبد الله بن غديان - عبد الله بن قعود. " فتاوى اللجنة الدائمة " برقم 6290 (3 / 194) .
ثالثاً: أما قبل الرسالة فقد جوَّز عليهم العلماء أنه قد يصدر منهم بعض صغائر الذنوب، وحاشاهم من الكبائر والموبقات كالزنا وشرب الخمر وغيرها فهم معصومون من هذا.
= وأما بعد الرسالة، فإن الصحيح أنه قد يصدر منهم بعض الصغائر لكن لا يُقرون عليها.
قال شيخ الإسلام:
وعامة ما يُنقل عن جمهور العلماء أنهم غير معصومين عن الإقرار على الصغائر، ولا يقرون عليها، ولا يقولون إنها لا تقع بحال، وأول من نُقل عنهم من طوائف الأمة القول بالعصمة مطلقاً، وأعظمهم قولاً لذلك: الرافضة، فإنهم يقولون بالعصمة حتى ما يقع على سبيل النسيان والسهو والتأويل. " مجموع الفتاوى " (4 / 320) .
= وهو معصومون في التبليغ عن الله تعالى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
فان الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل فلا يكون خبرهم إلا حقا وهذا معنى النبوة وهو يتضمن أن الله ينبئه بالغيب وأنه ينبئ الناس بالغيب والرسول مأمور بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه. " مجموع الفتاوى " (18 / 7) .
رابعاً: أما الخطأ الذي بغير قصد فهو في سبيلين:
في أمور الدنيا فهذا يقع ووقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فيه مثل سائر البشر كأمور الزراعة، والطب والنجارة وغيرها لأن الله تعالى لم يقل لنا إنه أرسل إلينا تاجراً أو مزارعاً أو نجاراً أو طبيباً، فالخطأ في هذه الأمور جِبلِّيّ لا يقدح برسالته صلى الله عليه وسلم.
عن رافع بن خديج قال: " قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُأبِّرون النخل قال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنفه قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان أحسن فتركوه فنقصت فذكروا ذلك له فقال: إنما أنا بشر مثلكم، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوه، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر. رواه مسلم (2361) .
ومعنى التأبير: التلقيح.
نلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخطأ في هذا الأمر من أمور الدنيا لأنه كسائر البشر ولكنه لا يخطئ في أمر الدين.
وأما الخطأ بأمور الدين من غير قصد:
فالراجح في ذلك من أقوال العلماء: أنه يقع من النبي مثل هذا ولكن على سبيل فعل خلاف الأولى.
فقد تعْرِض له المسألة وليس عنده في ذلك نص شرعي يستند إليه فيجتهد برأيه كما يجتهد العالِم من آحاد المسلمين فإن أصاب نال من الأجر كِفْلين وإن أخطأ نال أجراً واحداً وهذا قوله صلى الله عليه وسلم " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ". رواه البخاري (6919) ومسلم (1716) من حديث أبي هريرة.
وقد حدث هذا منه في قصة أسرى بدر.
عن أنس قال: استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر فقال إن الله عز وجل قد أمكنكم منهم، قال: فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم قال فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس، قال: فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال للناس مثل ذلك، فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله إن ترى أن تعفو عنهم وتقبل منهم الفداء، قال: فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم قال فعفا عنهم وقبل منهم الفداء، قال: وأنزل الله عز وجل (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) [سورة الأنفال /67] . رواه أحمد (13143) .
فنلاحظ أن هذه الحادثة لم يكن عند رسول الله فيها نص صريح فاجتهد واستشار أصحابه، فأخطأ في الترجيح.
ومثل هذا في السنّة قليل فيجب أن نعتقد العصمة للرسل والأنبياء وأن نعلم أنهم لا يعصون الله تعالى، وأن ننتبه غاية الانتباه لقول من يُريد أن يطْعن في تبليغه للوحي من خلال كونه صلى الله عليه وسلم قد يُخْطئ في أمور الدنيا، وشتّان ما بين هذا وهذا، وكذلك أن ننتبه للضالين الذين يقولون إنّ بعض الأحكام الشّرعية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم هي اجتهادات شخصيّة قابلة للصواب والخطأ أين هؤلاء الضلال من قول الله تعالى. (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى) ، نسأل الله أن يجنّبنا الزّيغ وأن يعصمنا من الضلالة، والله تعالى أعلم، والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/236)
هل الأحاديث في أمور الغيب المستقبلي وحي من الله
[السُّؤَالُ]
ـ[أعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتكلم في الدين من تلقاء نفسه، فكيف عرف عن أمارات الساعة وما إلى ذلك فهل أخبره الله بها؟ أرجو التوضيح.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كُلُّ ما أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام من الغيب الماضي، والحاضر، والمستقبل، مثل بدء الخلق، والقيامة، والجنَّة، والنَّار، وأشراط الساعة، والملائكة، والأنبياء كُلُّ ذلك بوحيٍ من الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحيٌ يوحى) ، وقال تعالى: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك) ، وقال تعالى: (قُل لا أقول لكم عِندي خزائُن الله ولا أعلمُ الغيبَ ولا أقول لكم إِنِّي مَلك إِن أتَّبع إِلاَّ ما يُوحى إِليْ) . فلذلك يجب تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام في كُلِّ ما أخبر الله به في أمور الغيب وغيرها لأنه الصادق المصدوق، فمن كذّبه ولو في خبرٍ واحد يعلم أنه ثبت، فإنه بذلك يصير مرتداً عن الإسلام إن كان مسلماً.
[الْمَصْدَرُ]
كتبه: الشيخ عبد الرحمن البراك.(1/237)
هل الأنبياء متساوون
[السُّؤَالُ]
ـ[أساعد في تعليم فتيات عن الإسلام مرة أسبوعياً. وفي الأسبوع الماضي إحدى البنات سألتني السؤال التالي وحقيقة لم أستطع الرد عليه وأخبرتها أنني سأبحث لها عن الجواب أو أسأل لها شخصا ما، كان السؤال هل الأنبياء يعتبرون متساوين؟ لو كان الأمر هكذا، لماذا يوجد نبي في كل مستوى من الجنة والنبي محمد في أعلاها السماء السابعة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إن العباد جميعاً خلق لله تعالى وهم عباده، وهو سبحانه له الحكم وله الأمر من قبل ومن بعد، ولقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يصطفي من الملائكة بعضهم على بعض، وفضَّل بعضهم على بعض كتفضيل جبريل وميكائيل وإسرافيل ومالك ورضوان وغيرهم على من سواهم، كما اقتضت حكمته وعدله أن يصطفي من بني آدم بعضاً منهم، وأنه فضَّل بعضهم على بعض في المنزلة والمكانة والخيرية، كما قال تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير) وقال سبحانه وتعالى (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، منهم من كلَّم اللهُ ورفع بعضهم درجات) وأخبر سبحانه وتعالى أنه قد اصطفى واجتبى من الناس هؤلاء الرسل فقال جل وعلا بعدما ذكر جملة من الأنبياء والمرسلين (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) وقال تعالى (والله فضَّل بعضكم على بعض في الرزق) ، اقتضت حكمته أن يكون آدم عليه السلام هو أبو البشر، واقتضت حكمته ورحمته وعدله أن يختار من ذريته أصفيائه من المرسلين والأنبياء الكرام عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكان ممن اصطفاهم واختارهم وفضلهم على غيرهم من الأنبياء والمرسلين أولوا العزم من الرسل وهم: محمد وإبراهيم ونوح وموسى وعيسى بن مريم عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم، واختار وفضَّل عليهم جميعاً إمامهم وسيدهم وخاتمهم نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فهو بحق سيد ولد آدم ولا فخر، وهو صاحب اللواء والشفاعة، وهو الذي له المقام المحمود في الجنة التي لا تنبغي إلا لشخص واحد فقط وهو نبينا صلى الله عليه وسلم، لهذا فقد أخذ الله تعالى العهد والميثاق على كل الأنبياء والمرسلين أنه لو بُعث محمد صلى الله عليه وسلم في حال حياة أحدهم فالواجب عليه اتباعه صلى الله عليه وسلم وترك ما معه إلى ما مع نبينا صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين، فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) ، وقال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه (والله لو كان أخي موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي) ولما ينزل المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان فإنه ينزل حكماً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ويكون تابعاً له صلى الله عليه وسلم.
وهذا كله بالنسبة لمكانتهم عند الله، وأما بالنسبة لدينهم فدينهم واحد وقد اتفقوا جميعاً في الدعوة إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، وأما شرائعهم فكل شريعة خاصة به له ولقومه فحسب قال تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) أما شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهي أكمل وأفضل وأحسن وأتمُّ وأحب الشرائع إلى الله، وهي ناسخة لكل شريعة قبلها، ولا شكَّ أن الأنبياء يتفاوتون في الدرجة والمنزلة، فهم درجات وطبقات وأفضلهم - كما سبق أولوا العزم الخمسة، وأفضلهم على الإطلاق هو خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأما ما ورد من أحاديث صحيحة مثل (لا تفضلوني على يونس بن متى) وحديث (والذي اصطفى موسى على العالمين) فإنها كلها تدل على شدة تواضعه صلى الله عليه وسلم مع إخوانه الرسل الكرام، وإلا فهو بلا شك أفضلهم على الإطلاق إذ كان إمامهم ليلة الإسراء في بيت المقدس، وهو سيد ولد آدم يوم القيامة، وهو الذي له الشفاعة الكبرى يوم القيامة دون غيره من المرسلين، وهو القائل صلى الله عليه وسلم (إن الله اصطفى من بني آدم قريشاً، واصطفى من قريشٍ كنانة، واصطفى من كنانة بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) فهو المصطفى من الخلق كلهم صلى الله عليه وسلم.
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/238)
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا أمورا من الآخرة
[السُّؤَالُ]
ـ[بما أن يوم القيامة لم يحن بعد ولا يوجد أحد في الجنة ولا في النار فكيف رأى النبي محمد صلى الله عليه وسلم الناس يعاقبون في النار ورأى الأنبياء والأطفال وبعض الناس في الجنة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا كنّا نؤمن بأن الله على كل شيء قدير هان علينا الأمر وآمنا بما أخبَرَنا به عليه الصلاة والسلام، والله خالق الزمان قادر على أن يري رسوله في الدنيا أمورا ستكون يوم القيامة، كما أنه أقدره على رؤية الجنة والنار في عرض الحائط لمّا كان يصلي صلاة الكسوف وكاد يأتي أصحابه بعنقود من عنب من ثمر الجنة مع البعد العظيم في المسافة بين الأرض والجنّة، والذي يقرّب المكان لا يُعجزه أن يفعل في الزمان ما يشاء وأن يُري نبيه في الدنيا مشاهد حيّة مما سيكون يوم القيامة، وربك على كل شيء قدير.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(1/239)
مدة حمل مريم بعيسى عليه السلام
[السُّؤَالُ]
ـ[هل حملت مريم العذراء بعيسى عليه السلام تسعة أشهر? أم عندما جاءها الملاك وأمرها باللجوء إلى جدع النخلة ووضعته عليه السلام عندئذ؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اختلف العلماء في مدة حمل مريم بعيسى عليه السلام.
فذهب الجمهور إلى أنها تسعة أشهر كغيره من البشر.
وقال عكرمة: ثمانية أشهر. قال: ولهذا لا يعيش ولد الثمانية أشهر، حفظاً لخاصة عيسى.
وروي عن ابن عباس أنه قال: لم يكن إلا أن حملت فوضعت.
قال ابن كثير رحمه الله (3/117) عن هذا الأثر المروي عن ابن عباس:
"وهذا غريب، وكأنه مأخوذ من ظاهر قوله تعالى: (فحملته فانتبذت به مكانا قصيا * فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة) فالفاء وإن كانت للتعقيب لكن تعقيب كل شيء بحسبه، كقوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما) فهذه الفاء للتعقيب بحسبها. وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل صفتين أربعين يوما [يعني: تبقى النطفة أربعين يوماً والعلقة أربعين والمضغة أربعين] . وقال تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة) فالمشهور الظاهر - والله على كل شيء قدير- أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن، ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل بها وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس يقال له يوسف النجار، فلما رأى ثقل بطنها وكبره أنكر ذلك من أمرها ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها ثم تأمل ما هي فيه فجعل أمرها يجوس في فكره لا يستطيع صرفه عن نفسه، فحمل نفسه على أن عَرَّض لها في القول، فقال: يا مريم إني سائلك عن أمر فلا تعجلي عليّ. قالت: وما هو؟ قال: هل يكون قط شجر من غير حب؟ وهل يكون زرع من غير بذر؟ وهل يكون ولد من غير أب؟ فقالت: نعم، وفهمت ما أشار إليه، أما قولك: هل يكون شجر من غير حب؟ وزرع من غير بذر؟ فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب ولا بذر. وهل يكون ولد من غير أب؟ فإن الله تعالى قد خلق آدم من غير أب ولا أم. فصدقها وسَلَّم لها حالَها.
ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة انتبذت منهم مكانا قصيا أي قاصيا منهم بعيدا عنهم لئلا تراهم ولا يروها قال محمد بن إسحاق فلما حملت به وملأت قلتها ورجعت استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والترحم وتغير اللون حتى فطر لسانها فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا وشاع الحديث في بني إسرائيل فقالوا إنما صاحبها يوسف ولم يكن معها في الكنيسة غيره وتوارت من الناس واتخذت من دونهم حجابا فلا يراها أحد ولا تراه "
انتهى كلام ابن كثير رحمه الله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(1/240)
هل محمد صلى الله عليه وسلم هو أول الخلق
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز أن يقول المسلم في مدح محمد صلى الله عليه وسلم: يا أول خلق الله؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل خلق الله، وأرفعهم رتبة. ولكنه ليس أول من خلق الله، إنما أول ما خلق الله العرش، وليس آدم ولا محمد صلى الله عليه وسلم، أما ما يروى أن الله خلق محمدا من نور وأنه قرن اسمه مع اسمه، وأن آدم لما خلق ونفخ فيه الروح رأى أن اسمه مكتوب عند العرش فهذا لا يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
فتاوى سماحة الشيخ عبد الله بن حميد ص 16(1/241)
هل الرسول صلى الله عليه وسلم حي وحاضر في الأرض الآن
[السُّؤَالُ]
ـ[المقالة التالية أعلنت أن روح النبي صلى الله عليه وسلم موجودة دائماً في جميع الأوقات والآتي هو معظم المقالة وأدلتها. هل ما يقولونه صحيح؟
إنه اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الرسول صلى الله عليه وسلم
1- حاضر ويرى في جميع الأوقات
2- على علم ومشاهدة بخلق الله
3- قادر على أن يكون موجوداً في أماكن متعددة في نفس الوقت
وهاهي الأدلة:
(ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً) (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً)
لاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كونه يدعى شاهداً على كل الأمم التي خلقها الله على هذه الأرض لذلك فلا بد أن النبي صلى الله عليه وسلم حاضراً قبل ظهوره المبكر ولا يزال حاضراً بعد الميراث الأرضي، وإلا ما كان يمكن أن يقال عنه شاهداً على مجريات الأمور الحقيقية ويوجد آيات كثيرة تقول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم شاهداً.
نقطة فنية: الآيات القرآنية التالية تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن موجودا قبل ظهوره المبكر (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) أي أن النبي صلى الله عليه وسلم موجوداً " أي بجسمه يتكلم ".]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الرسول عليه الصلاة والسلام أكمل الخلق، وأفضلهم، وأحبهم إلى الله، وأكرمهم عنده ولا يعني هذا أن يسلب خصائص البشر، أو أن يصرف شيئا من حقوق الرب له. فالرسول عليه الصلاة والسلام بشر يعتريه ما يعتري البشر من الأمراض والموت الحقيقي قال تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون) ، وقال تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن متّ فهم الخالدون) . فالرسول عليه الصلاة والسلام مات ودفن في قبره، ولذا قال الصدّيق أبو بكر رضي الله عنه: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
وكونه عليه الصلاة والسلام شاهدا ومبشرا ونذيرا، وكونه شهيدا يوم القيامة لا يعني أنه حاضر جميع الأمم، ولا أن حياته عليه الصلاة والسلام مستمرة دائمة إلى يوم القيامة ولا أنه يشاهد وهو في قبره إذ ليس طريق الشهادة مقتصرا على المشاهدة، بل يشهد على الأمم بما أخبره الله به سبحانه وتعالى، وإلا فهو لا يعلم الغيب، قال تعالى: (ولو كنت أعلم الغيب لا ستكثرت من الخير) . ولا يقدر عليه الصلاة والسلام أن يوجد في أماكن متعددة بل هو في مكان واحد وهو قبره عليه الصلاة والسلام وهذا بإجماع المسلمين.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ عبد الكريم الخضير.(1/242)
نبذة عن نبي الله عيسى عليه السلام
[السُّؤَالُ]
ـ[هل من الممكن أن تعطينا نبذة عن عيسى عليه السلام؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
- كانت مريم ابنة عمران امرأة صالحة تقية.. واجتهدت في العبادة حتى لم يكن لها نظير في النسك والعبادة.. فبشرتها الملائكة باصطفاء الله لها.. (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين - يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) آل عمران / 42 - 43.
- ثم بشرت الملائكة مريم بأن الله سيهب لها ولداً يخلقه بكلمة كن فيكون وهذا الولد اسمه المسيح عيسى ابن مريم.. وسيكون وجيهاً في الدنيا والآخرة ورسولاً إلى بني إسرائيل.. ويعلم الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل.. وله من الصفات والمعجزات ما ليس لغيره.. كما قال تعالى: (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين - ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين - قالت رب أنى يكون لي ولدٌ ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) آل عمران /45-47.
- ثم أخبر الله تعالى عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى عليه السلام فقال عن تشريف عيسى , وتأييده بالمعجزات.. (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل - ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين - ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) آل عمران/ 48 - 51.
- والله سبحانه له الكمال المطلق في الخلق.. يخلق ما يشاء كيف يشاء.. فقد خلق آدم من تراب بلا أب ولا أم.. وخلق حواء من ضلع آدم من أب بلا أم.. وجعل نسل بني آدم من أب وأم.. وخلق عيسى من أم بلا أب.. فسبحان الخلاق العليم.
- وقد بين الله في القرآن كيفية ولادة عيسى بياناً شافياً فقال سبحانه (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً - فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً - قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً - قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً - قالت أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً - قال كذلك قال ربك هو عليّ هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً) مريم/16 - 21.
- فلما قال لها جبريل ذلك استسلمت لقضاء الله فنفخ جبريل في جيب درعها.. (فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً - فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيا) مريم /22 - 23.
- ثم ساق الله لمريم الماء والطعام.. وأمرها أن لا تكلم أحداً.. (فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً - وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً - فكلي واشربي وقرِّي عيناً فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً) مريم /24 - 26.
- ثم جاءت مريم إلى قومها تحمل ولدها عيسى.. فلما رأوها أعظموا أمرها جداً واستنكروه.. فلم تجبهم.. وأشارت لهم اسألوا هذا المولود يخبركم.. قال تعالى.. (فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً - يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً - فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً) مريم/27 - 29.
- فأجابهم عيسى على الفور وهو طفل في المهد.. (قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً - وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً - وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً - والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً) مريم/30 -33.
ذلك خبر عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله.. ولكن أهل الكتاب اختلفوا فيه فمنهم من قال هو ابن الله.. ومنهم من قال هو ثالث ثلاثة.. ومنهم من قال هو الله.. ومنهم من قال هو عبد الله ورسوله وهذا الأخير هو القول الحق قال تعالى.. (ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون - ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون - وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم - فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم) مريم/34 -37.
- ولما انحرف بنو إسرائيل عن الصراط المستقيم.. وتجاوزوا حدود الله.. فظلمو ا , وأفسدوا في الأرض وأنكر فريق منهم البعث والحساب والعقاب.. وانغمسوا في الشهوات والملذات غير متوقعين حساباً.. حينئذ بعث الله إليهم عيسى ابن مريم رسولاً وعلمه التوراة والإنجيل كما قال سبحانه عنه (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسواً إلى بني إسرائيل) آل عمران/48.
- وقد أنزل الله على عيسى ابن مريم الإنجيل هدى ونوراً.. ومصدقاً لما في التوراة.. (وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين) المائدة/46.
- وعيسى عليه السلام قد بشر بمجيء رسول من الله يأتي من بعده اسمه أحمد وهو محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى.. (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين) الصف/6.
- قام عيسى عليه السلام بدعوة بني إسرائيل إلى عبادة الله وحده.. والعمل بأحكام التوراة والإنجيل.. وأخذ يجادلهم ويبين فساد مسلكهم.. فلما رأى عنادهم وظهرت بوادر الكفر فيهم.. وقف في قومه قائلاً من أنصاري إلى الله؟ فآمن به الحواريون وعددهم اثنا عشر قال تعالى (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون - ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) آل عمران /52 -53.
- أيد الله عيسى بمعجزات عظيمة تذكر بقدرة الله.. وتربي الروح.. وتبعث الإيمان بالله واليوم الآخر.. فكان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله.. وكان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، ويخبر الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم.. فقام اليهود الذين أرسل الله إليهم عيسى بمعاداته وصرف الناس عنه.. وتكذيبه، وقذف أمه بالفاحشة.
- فلما رأوا أن الضعفاء والفقراء يؤمنون به.. ويلتفون حوله حينئذ دبروا له مكيدة ليقتلوه فحرضوا الرومان عليه.. وأوهموا الحاكم الروماني أن في دعوة عيسى زوالاً لملكه فأصدر أمره بالقبض على عيسى وصلبه.. فألقى الله شبه عيسى على الرجل المنافق الذي وشى به فقبض عليه الجنود يظنونه عيسى فصلبوه.. ونجى الله عيسى من الصلب والقتل كما حكى الله عن اليهود.. (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلاّ اتباع الظن وما قتلوه يقينا - بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً) النساء/157 - 158
- فعيسى عليه السلام لم يمت بل رفعه الله إليه.. وسينزل قبل يوم القيامة ويتبع محمداً صلى الله عليه وسلم.. وسيكذب اليهود الذين زعموا قتل عيسى وصلبه.. والنصارى الذين غلوا فيه وقالوا هو الله.. أو ابن الله.. أو ثالث ثلاثة.قال النبي عليه الصلاة والسلام.. (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما ًمقسطاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد) . متفق عليه أخرجه مسلم برقم 155.
- فإذا نزل عيسى قبل يوم القيامة آمن به أهل الكتاب كما قال تعالى.. (وإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً) النساء/159.
- وعيسى ابن مريم عبد الله ورسوله.. أرسله الله لهداية بني إسرائيل والدعوة إلى عبادة الله وحده كما قال سبحانه لليهود والنصارى.. (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلاّ الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً) النساء/ 171.
- والقول بأن عيسى ابن الله قول عظيم ومنكر كبير.. (وقالوا اتخذ الرحمن ولداً - لقد جئتم شيئاً إداً - تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً - أن دعوا للرحمن ولداً - وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداًً - إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً) مريم/88- 93.
- وعيسى ابن مريم بشر وهو عبد الله ورسوله فمن اعتقد أن المسيح عيسى ابن مريم هو الله فقد كفر.. (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) المائدة/72.
- ومن قال إن المسيح ابن الله أو ثالث ثلاثة فقد كفر.. (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) المائدة /73.
- فالمسيح ابن مريم بشر.. ولد من أم.. يأكل ويشرب.. ويقوم وينام.. ويتألم ويبكي.. والإله منزه عن ذلك.. فكيف يكون إلهاً.. بل هو عبد الله ورسوله (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون) المائدة/75.
- وقد أفسد اليهود والنصارى والصليبيون وأتباعهم دين المسيح وحرفوا فيه وبدلوا وقالوا لعنهم الله إن الله قدم ابنه المسيح للقتل والصلب فداءً للبشرية.. فلا حرج على أحد أن يعمل ما شاء فقد تحمل عنه عيسى كل الذنوب.. ونشروا ذلك بين طوائف النصارى حتى جعلوه جزءاً من عقيدتهم.. وهذا كله من الباطل والكذب على الله والقول عليه بغير علم.. بل كل نفس با كسبت رهينة.. وحياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إن لم يكن لهم منهج يسيرون عليه.. وحدود يقفون عندها.
- فانظر كيف يفترون على الله الكذب , ويقولون على الله غير الحق.. (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) البقرة/79.
- وقد أخذ الله على النصارى الأخذ على عيسى والعمل بما جاء به , فبدلوا وحرفوا فاختلفوا ثم أعرضوا.. فعاقبهم الله بالعداوة والبغضاء في الدنيا.. وبالعذاب في الآخرة كما قال تعالى: (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون) المائدة / 14.
- وسيقف عيسى عليه السلام يوم القيامة أمام رب العالمين فيسأله على رؤوس الأشهاد ماذا قال لبني إسرائيل كما قال سبحانه: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب - ما قلت لهم إلاّ ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد - إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) المائدة / 116 -118.
- وقد جعل الله في أتباع عيسى والمؤمنين رأفة ورحمة.. وهم أقرب مودة لأتباع محمد من غيرهم كما قال تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون) المائدة/82.
- وعيسى ابن مريم هو آخر أنبياء بني إسرائيل.. ثم بعث الله بعده محمداً صلى الله عليه وسلم من نسل إسماعيل إلى الناس كافة، وهو آخر الأنبياء والمرسلين.
[الْمَصْدَرُ]
من كتاب أصول الدين الإسلامي: تأليف فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم التويجري.(1/243)