أو بالزكاة أو بالصيام أو حج البيت أو بعقوق الوالدين أو أحدهما أو بقطيعة الرحم أو بحلق اللحى أو بإسبال الثياب أو بالكذب والغيبة والنميمة أو السباب واللعن أو بغير هذا من أنواع المعاصي القولية والفعلية، عملا بقول الله سبحانه {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) ويدخل في الإثم جميع المعاصي.
أما العدوان فهو التعدي لحدود الله والتعدي على الناس أو التعدي على ما فرض الله بالزيادة أوالنقص، والبدعة من العدوان لإنها زيادة على ما شرع الله، فيسمى المبتدع متعديا والظالم للناس متعديا والتارك لما أنزل الله آثما متعديا لأمر الله، فاقتراف المعاصي إثم، والتعدي على ما فرض الله والزيادة على ما فرض الله والظلم لعباد الله عدوان منهي عنه وداخل في الإثم، كما قال تعالى {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) ثم ختم الله الآية بأمره سبحانه وتعالى بالتقوى والتحذير من شدة العقاب، فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3) والمعنى: احذروا
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة المائدة الآية 2(27/199)
مغبة التعاون على الإثم والعدوان وترك التعاون على البر والتقوى ومن العاقبة في ذلك شدة العقاب لمن خالف أمره وارتكب نهيه وتعدى حدوده.
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين للتعاون على البر والتقوى والصدق في ذلك، وأن نبدأ بأنفسنا؛ لأن الداعي إلى الله قدوة وطالب العلم قدوة، فعليه أن يحاسب نفسه في كل شيء ويجاهدها في عمل كل خير وترك كل شر حتى يكون ذلك أجدى لدعوته وأنفع لنصحه وأكمل في تلقي الناس لنصيحته والانتفاع بدعوته وإرشاده وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.
والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان.(27/200)
نصيحة موجهة إلى الملك فيصل بن عبد العزيز
للدعوة إلى الله
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة جلالة الملك المعظم فيصل بن عبد العزيز وفقه الله لكل خير وبارك في حياته آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: -.
بعده: حفظكم الله لا يخفي على جلالتكم مركزكم العظيم الذي هو محط آمال المسلمين بعد الله عز وجل، وذلك بسبب ولايتكم لقبلة المسلمين ومهاجر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم. فمن هذه البقاع المباركة شع نور الرسالة، فأضاء الكون، ومزق أستار الظلام، ومن هذه البقاع المقدسة حمل الرعيل الأول مشعل الهداية إلى العالم، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله فدان لهم سكان الأرض وساد الإسلام.
أقول: إنه بحكم ولايتكم لهذه البقاع المقدسة وميراثكم(27/201)
لتراث الأسلاف الكرام فإنه يتحتم عليكم ولا شك حمل راية الدعوة إلى هذا الدين القويم وراية الجهاد في سبيل الله حيث أمكن، وقد فعلتم ذلك مشكورين، فالحمد لله على توفيقكم لذلك.
قال الله تعالى وهو أصدق القائلين تحذيرا للأمة من كتمان الحق وتشجيعا على الجهاد والدعوة: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (1) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (2) وقال جل وتقدس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (3) وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الحج الأكبر: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب (5) » وقال عليه الصلاة والسلام: «بلغوا
__________
(1) سورة آل عمران الآية 187
(2) سورة العنكبوت الآية 69
(3) سورة الأحزاب الآية 21
(4) سورة فصلت الآية 33
(5) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب ليبلغ الشاهد منكم الغائب برقم 105، ومسلم في كتاب الحج، باب مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها برقم 1354.(27/202)
عني ولو آية (1) » . وقد هيأ الله في هذا العصر من أسباب الاتصال بجميع العالم ما هو معلوم، الأمر الذي يجعل الدعوة إلى الله متيسرة، وجلالتكم في هذا العصر هو المسئول الأول عن إبلاغ أمر الله إلى عباده، ولا شك أنها مسئولية خطيرة تحتاج منكم إلى جهود عظيمة وصبر ومصابرة.
وبمناسبة قرب زمن الاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين لقيام هيئة الأمم في شهر يونيو القادم، ودعوة ملوك ورؤساء الدول الأعضاء في المنظمة إلى إلقاء كلمات في الجلسة التذكارية لها، لذلك فإني أهيب بهمة جلالتكم أن تشمروا عن ساعد الجد، وتنتهزوا هذه الفرصة الثمينة بالدعوة إلى الإسلام، وتحكيم شريعته في هذا الاجتماع الذي سوف يضم أكثر رؤساء دول العالم الإسلامي وغيرهم، وأن تبينوا لهم محاسن الإسلام، وأنه دين الحق، وأنه الدين الكامل الصالح لكل عصر وأوان، والمشتمل على مصالح الدنيا والآخرة، وأنه دين السعادة والفلاح، وأنه السبيل الوحيد لإنقاذ البشرية الحائرة التائهة في خضم أمواج الظلم والطغيان ودياجر الجهل والضلال إلى شاطئ
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، كتاب ما ذكر عن بني إسرائيل برقم 3461.(27/203)
السلامة والأمان، وهو السبيل الوحيد لحل مشاكلها وإفهام الجميع بأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة للناس جميعا، وأن من أجابه دخل الجنة ومن أبى دخل النار. وفي ذلك إقامة الحجة عليهم وبراءة للذمة من تبعة السكوت عن البلاغ.
وإني لأرجو لجلالتكم بذلك الرفعة والعزة والسؤدد في الدنيا، والفوز ورفع الدرجات في الجنة.
ولمحبة الخير لكم وللمسلمين وغيرهم والمناصحة في الحق والتعاون على البر والتقوى والرغبة في انتشار الدعوة الإسلامية وإبلاغها لعموم الناس - رأيت أن أذكركم بهذا الأمر العظيم وجلالتكم من أعلم الناس بالواقع وما أصاب العالم اليوم من فساد وانحلال وحيرة وقلق وإلحاد وانحراف.
فأرجو أن يكون هذا الأمر موضع الاهتمام والتنفيذ وأسأل الله أن يصلحكم ويصلح بكم ويهديكم ويهدي بكم، وأن يعلي ذكركم في الدنيا والآخرة، وأن ينفع بكم العباد، وينقذهم بدعوتكم من الكفر والضلال إلى الهدى والاستقامة على الحق إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(27/204)
11 - وصية لبعض الأمراء بمناسبة تعيينه أميرا
على بعض المناطق بالمملكة (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة صاحب السمو الملكي الأمير المكرم وفقه الله للخير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بعده:
حفظكم الله، علمت بإسناد جلالة الملك حفظه الله إلى سموكم الإمارة بمنطقة (.........) وبهذه المناسبة فإني أهنئ سموكم بهذه الثقة الملكية؟ وأسأل الله سبحانه أن يجعلكم عند حسن ظن جلالته وأن يزيدكم من التوفيق، وأن يمنحكم إصابة الحق في القول والعمل، ولا يخفى على سموكم أن الولاية شأنها عظيم وخطرها كبير كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها (2) » .
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته في 27\5\1406 هـ برقم 548\خ. ونشرت في المجموع ج6 ص229.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة برقم 1825.(27/205)
وعليه فإني أوصي سموكم ونفسي بتقوى الله والمحافظة على دينه، وأن تكونوا قدوة في كل خير، وأن تهتموا بشئون المسلمين أعظم اهتمام، وأن تعطوا الأمور الدينية أكبر قسط من العمل والعناية، وأن تساندوا هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتشجعوهم؛ لأن صلاح العباد والبلاد بالله سبحانه ثم بقيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يخفى أن قوة الهيئة ونشاطها بالله سبحانه ثم بتعضيد ولاة الأمور ووقوفهم في صفهم، مع حثهم على التثبت في الأمور والرفق في كل شيء.
ومن الأمور المهمة المبادرة بتنفيذ الأحكام الشرعية بكل حزم وقوة، والتأكيد على الجهات المختصة بذلك حتى يصل الحق إلى مستحقه بدون تعب ولامشقة.
ومن المهمات أيضا المحافظة على الصلاة في الجماعة والتأكيد على الموظفين والخدام بذلك حتى يكون الجميع قدوة في الخير.
ومن الأمور المهمة أيضا حفظ الوقت والحرص على الإشراف بأنفسكم على حاجات المسلمين التي ترفع إليكم لإيلائها ما تستحق من العناية.
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقكم لكل(27/206)
خير، وأن يعينكم على أداء ما يجب عليكم، وأن يمنحكم البطانة الصالحة وأن ينصر بكم الحق وأهله، ويخذل بكم الباطل وأهله، وأن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(27/207)
دعوة إلى القيام بالمحاضرات
في الجامعات
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم معالي وزير التعليم العالي الشيخ: حسن بن عبد الله آل الشيخ.
حفظه الله تعالى.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد (1) :
لا يخفي على معاليكم أن التعليم الجامعي مناهج مختلفة من دينية ودنيوية، والأساتذة القائمون على التعليم كثير، منهم جاء من بلدان لا تخفى عليكم حالها، وقد نشأ من ذلك تأثير
__________
(1) نشرت في ج6 من هذا المجموع ص244.(27/207)
بعض الأفكار على بعض تأثيرا ليس بمحمود، والطلبة هم الذين ترد عليهم المؤثرات فيتأثرون بها وليس لدى كثير منهم من البصيرة ما يجلو الشبه، وقد قمت بزيارة بعض الجامعات لإلقاء بعض المحاضرات بناء على الدعوة التي وجهت إلي، فأدركت أن الطلبة في أمس الحاجة إلى العناية بهم وأنتم المسئولون عنهم أمام الله سبحانه.
وبناء على ذلك فإنني أرى أن تعتني بهذه الناحية عناية خاصة، وذلك بتعميم المحاضرات في جميع الجامعات، ويتولى إلقاءها من يصلح لذلك ويختار لكل جامعة من أهل البلد التي هي فيه، وإذا دعت الحاجة إلى أشخاص من النوادر يقومون بزيارة الجامعات التي ليست في بلدهم فينبغي أن تيسر لهم سبل ذلك، ويمكن معاليكم التنسيق بينكم وبين الجهات الدينية للقيام بهذه المهمة، والتأكيد على مديري الجامعات باختيار من يقوم بذلك من الأساتذة وغيرهم، وأسأل الله أن يبارك في جهودكم وأن ينفع بكم عباده وأن يوفقنا جميعا لكل ما فيه رضاه وصلاح أمر عباده.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(27/208)
13 - نصيحة لحضرات المشايخ مقادمة بيت القرزات (1) .
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرات المشايخ المكرمين ع. س والشيخ س. س، والمنصب الشيخ س. ب، والشيخ ع. م. د، وفقهم الله لما فيه رضاه وأصلح لي ولهم أمر الدنيا والآخرة آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
بلغني أن بعض الإخوة في الله قد سجن بطرفكم بأسباب قيامه بالدعوة الإسلامية والتحذير من عبادة الأولياء والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك، والدعوة إلى هدم القباب والأبنية التي على الأضرحة؛ لكونها من أسباب الفتنة بالمقبورين والغلو فيهم، وقد كدرني ومن بلغه ذلك من المسلمين، وما ذاك إلا لأن الله سبحانه أنزل القرآن الكريم وبعث الرسول العظيم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده وتحذيرهم من عبادة المخلوقين، من الأنبياء والملائكة
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته عندما كان نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(27/209)
والأولياء وغيرهم، وقد صدع الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك وأنذر الناس من الشرك وأمر
بإخلاص العبادة لله وحده، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) وقال تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (3) وقال عز وجل {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (4) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (5) وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (6) {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (7) وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (8) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (9)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة الجن الآية 18
(4) سورة فاطر الآية 13
(5) سورة فاطر الآية 14
(6) سورة الأحقاف الآية 5
(7) سورة الأحقاف الآية 6
(8) سورة الأنعام الآية 162
(9) سورة الأنعام الآية 163(27/210)
والنسك: هو الذبح، ومعنى قوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (1) أي من هذه الأمة؛ لأن إسلام كل نبي يكون قبل أمته، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا (2) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار (3) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (4) » وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص
__________
(1) سورة الأنعام الآية 163
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب اسم الفرس والحمار برقم2856، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة برقم 30
(3) أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله '' ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا '' برقم 4497
(4) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم برقم 1390، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور برقم 529.(27/211)
القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه (1) » فهذه الآيات والأحاديث - أيها المشايخ - تدل على وجوب إخلاص العبادة لله وحده، وأنه سبحانه هو المستحق لجميع العبادات من الدعاء والاستعانة والذبح والنذر والصلاة والصوم وغير ذلك من العبادات، وأن صرف ذلك أو شيء منه لغير الله شرك بالله وعبادة لغيره، وتدل الأحاديث المذكورة أنه لا يجوز اتخاذ المساجد على القبور ولا البناء عليها ولا تجصيصها، وما ذاك إلا لأن هذه الأعمال وسيلة إلى الغلو في الأموات وعبادتهم من دون الله، كما وقع ذلك من بعض جهال الناس إذا علمتم ذلك فالواجب عليكم مساعدة الدعاة إلى الله والقيام معهم وحمايتهم ممن يريد التعدي عليهم؛ لأن ذلك من نصر دين الله، والجهاد في سبيله، والله سبحانه وتعالى يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (2) وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4)
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .
(2) سورة محمد الآية 7
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41(27/212)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » ، وأعظم المنكرات هو الشرك بالله سبحانه ووسائله وذرائعه، ثم البدع والمعاصي، فالواجب عليكم أن تنكروا ما أنكره الله ونهى عنه، وأن تأمروا بما أمر الله به ورسوله، وذلك هو طريق السعادة والنجاة والعزة والكرامة في الدنيا والآخرة، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أنصار الحق ودعاة الهدى، ومن الهداة المهتدين إنه سميع قريب.
والذي أرجوه منكم هو البدار بالشفاعة لدى المسئولين في إطلاق سراح المسجونين من الدعاة، إن كان ما بلغني عن سجنهم صحيحا، وبذل الوسع في مساعدة الإخوان القائمين بالدعوة إلى الإسلام الصحيح السليم من الشوائب، والتحذير من الشرك والخرافات والبدع التي جاء الإسلام بالنهي عنها ومحاربتها، وإذا كان قد أشكل عليكم شيء من كلام بعضهم فأفيدونا عن ذلك حتى نوضح لكم إن شاء الله الإشكال، بالأدلة من القرآن الكريم وأحاديث الرسول الأمين عليه من ربه أفضل
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 49.(27/213)
الصلاة والتسليم، مع بيان من أخطأ منهم، لأن المقصود هو إظهار الحق الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم والدعوة إليه وبيان الباطل والتحذير منه، عملا بقول الله سبحانه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) وقوله سبحانه {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2)
والله المسئول أن يصلح قلوبنا جميعا وأن يعمرها بخشيته ومحبته ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبة عباده المؤمنين، المحبة البريئة من الشرك والخرافات، وأن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، إنه على كل شيء قدير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله إمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.
نائب رئيس الجمعية الإسلامية بالمدينة المنورة
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة يوسف الآية 108(27/214)
رسالة إلى بعض أمراء الخليج
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأمير المكرم.) وفقه الله ونصر به الحق آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فقد كتب إلي بعض الناصحين عن قبر يوجد في بلدكم، وذكر أنه يعبد من دون الله، ونرفق لكم نسخة من رسالته ومعها صورتان للقبر المذكور، فأرجو من سموكم التكرم بالأمر على من يلزم بهدم هذ القبر، ومنع الناس من الغلو فيه، والذبح لصاحبه؛ لأن الغلو في القبور من أعمال الجاهلية الأولى، والتقرب إلى أهلها بالذبح أو بالنذور، أو بالاستغاثة وطلب المدد- كله شرك بالله عز وجل، وكله من أعمال الجاهلية الأولى، فالواجب على حكام المسلمين منع ذلك والقضاء عليه.
وينبغي أن ينقل رفات القبر إلى المقبرة العامة، على أن يحفر له عدة قبور ويوضع الرفات في أحدها ثم يسوى الجميع على صفة القبور حتى يخفى على الناس وحتى لا يعرف خشية(27/215)
الغلو فيه مرة ثانية، وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعل هذا العمل في قبر دانيال الذي كانت الفرس تغلو فيه، فأمر أن يحفر له ثلاثة عشر قبرا نهارا ثم يدفن في أحدها ليلا ثم تسوى القبور حتى يخفى أمره على الناس. جعلكم الله مباركين أينما كنتم ونصر بكم دينه ووفقكم لما يحبه ويرضاه وحمى بكم حمى الشريعة المطهرة من كل ما يخالفها إنه جواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(27/216)
نصيحة لقادة الدول العربية
حضرات أصحاب الجلالة والفخامة من قادة الدول العربية، وفقهم الله لما فيه رضاه وصلاح أمر عباده آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أما بعد: فبمناسبة هذا الاجتماع العظيم الذي تعلق عليه(27/216)
الشعوب العربية والأمة الإسلامية الآمال الكبيرة لإزالة آثار العدوان اليهودي، والقضاء على عصابات الصهاينة، واسترجاع الأرض السليبة من أيديهم، رأيت أنه من الحق علي نصحا لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكم أيها القادة، وإسهاما في الإصلاح العام، ومعذرة إلى الله عز وجل أن أبعث إلى حضراتكم من الجامعة الإسلامية في بلد المصطفى صلى الله عليه وسلم الوصايا التالية: -.
أولا: تقوى الله عز وجل في جميع الأمور والتواصي بالاستقامة على دينه، وتحكيم شريعته، والتحاكم إليها، ومحاربة ما خالفها من المبادئ والأعمال؛ لأنكم قادة العرب والمسلمين وبصلاحكم واجتماع كلمتكم على الهدى يصلح الله شعوبكم وسائر المسلمين إن شاء الله، وتعلمون جميعا أنه لا عزة لكم ولا منعة ولا هيبة ولا انتصارا محققا ومضمونا على الأعداء إلا بالتمسك بالإسلام وتحكيمه، والتحاكم إليه، كما جرى على ذلك سلفكم الصالح، فأيدهم الله، ونصرهم كما وعدهم سبحانه في قوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) وفي الإسلام حل لجميع المشاكل وإصلاح لجميع الشئون، وتحقيق العدالة بين الجميع بأكمل معانيها إذا صلح القصد وبذلت الجهود
__________
(1) سورة محمد الآية 7(27/217)
ووسدت الأمور إلى أهلها.
ثانيا: التسامح وصفاء القلوب وتوحيد الصف واتفاق الكلمة على هدف واحد وهو اتباع الشريعة وترك ما خالفها والعمل على إزالة أثر العدوان اليهودي، والقضاء على ما يسمى بدولة إسرائيل نهائيا، وتكاتف جميع الجهود والقوى لهذا الغرض النبيل، مع الاستعانة بالله والاستنصار به في ذلك؛ عملا بقول الله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (2) وما جاء في هذا المعنى من الآيات والأحاديث.
ثالثا: تكوين جيش مشترك قوي موحد مجهز بأكمل الأسلحة الممكنة تحت قيادة موحدة أمينة مرضية من الجميع، تستند إلى مجلس شورى مكون من وزراء الدفاع وأركان الجيش في جميع الدول العربية، ومن أحب أن ينضم إليها من الدول الإسلامية ليسير المجلس في جميع شئونه على قواعد ثابتة وأسس مدروسة من الجميع؛ رجاء بأن يحقق الغرض المطلوب، ولا يخفي على حضراتكم ما في هذا المجلس من الخير العظيم والحيطة والسير على هدي الشريعة وتعاليمها الحكيمة، والعمل
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60
(2) سورة النساء الآية 71(27/218)
بقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (1) وقوله سبحانه في وصف المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (2)
رابعا: الحياد التام وعدم الانحياز إلى كتلة شرقية أو غربية وبذل الجهود على أن تكونوا كتلة مستقلة تستفيد من خبرات غيرها وسلاحه، من غير انحياز أو تدخل من الغير في شئونها الداخلية أو الخارجية، ولا يخفى أن هذا الحياد أقرب إلى السلامة في الدين والدنيا، وأكمل في العزة والكرامة والهيبة، وأسلم من تدخل الأعداء في شئونكم، والاطلاع على أسراركم، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه قال لرجل أراد أن يغزو معه يوم بدر: هل أسلمت؟ قال: لا، قال: ارجع؛ فلن نستعين بمشرك (3) » مع أنه صلى الله عليه وسلم استأجر دليلا مشركا في طريق الهجرة واستعار من بعض المشركين دروعا يوم حنين، فدل ذلك على أن الاستعانة بسلاح الأعداء والاستفادة من خبرتهم لا مانع منهما وليستا بداخلتين في
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2) سورة الشورى الآية 38
(3) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر برقم 1817، ونشر في المجموع ج6 ص302.(27/219)
الاستعانة التي نفاها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق إذا لم يكن لهم دخل في شئوننا ولا مشاركة في الجيش.
هذا ما بدا لي عرضه على حضراتكم على سبيل الإشارة والإيجاز، والله المسئول أن يصلح قلوبكم وأعمالكم، ويسدد خطاكم، ويجمع كلمتكم على ما فيه سعادتكم وسعادة المسلمين جميعا، وانتصاركم على عدوكم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/220)
نصيحة بالدعوة إلى نشر الإسلام وفضائله في أمريكا (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم الأستاذ: ح. ع. ب وفقه الله لما يرضيه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بعده:
كتابكم الكريم المؤرخ بدون، وصل، وصلكم الله
__________
(1) رسالة صدرت من مكتب سماحته إلى الأستاذ \ ح. ع. ب، ونشرت في المجموع ج6 ص235.(27/220)
بهداه، وسرنا منه علم صحتكم واستمراركم في الطلب والتحصيل لخدمة أمتكم ووطنكم، فالحمد لله على ذلك، نسأل الله لكم التوفيق والنجاح.
ولقد سررنا كثيرا بما ذكرتم من قيامكم بالدعوة إلى نشر الإسلام وبيان فضائله والرد على خصومه، وطلبكم إرسال بعض الدعاة من الجامعة الإسلامية لوجود الكثيرين ممن يتقبلون الإسلام عندما يتبين لهم حقيقته ويتضح لهم سمو تشريعاته وعدالة نظمه، فالحمد لله أن وفقكم للقيام بهذه المهمة الشريفة والهدف النبيل، نسأل الله أن يزيدكم من الخير والهدى وأن ينفع بكم ويجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين إنه جواد كريم.
أما ما أشرتم إليه من طلب إرسال بعثة إلى أمريكا للدعوة والتبليغ، فنفيدكم أننا مهتمون بذلك كثيرا ونحن نقدر لكم هذه البادرة الكريمة، وسوف نرسل إن شاء الله من يقوم بذلك عندما يتيسر من يصلح لهذه المهمة ممن يجيد اللغة الإنجليزية؛ لأن اللغة هي التي تحول كثيرا بيننا وبين ما نريد، حقق الله لنا ولكم كل ما نصبو إليه من عزة الإسلام وصلاح أمر المسلمين.
وقد أرسلنا بعثات كثيرة إلى أفريقيا بجميع أقطارها للدعوة والإرشاد، وكتابة تقارير عن حالة المسلمين هناك، ودراسة مشاكلهم والتعرف على الجمعيات الإسلامية وبذل(27/221)
المساعدات التي يمكن تقديمها لهم واختيار الطلبة الذين يحسن ابتعاثهم إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة، وقد نجحت هذه البعثات بحمد الله نجاحا كبيرا وحققت خيرا كثيرا، نشكر الله على ذلك، ونسأله عز وجل أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين للفقه في الدين والثبات عليه وبذل الجهود في الدعوة إليه ونشر محاسنه وتعاليمه وأن يوفق ولاة أمرنا لما فيه صلاح أمر المسلمين وسلامة دينهم وجمع كلمتهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.(27/222)
نصيحة موجهة
إلى الطلبة المسلمين بباكستان
إخواني؛ رئيس وأعضاء جمعية الطلبة المسلمين بباكستان حفظهم الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله(27/222)
عز وجل أن يجعل عملكم من أسباب إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه ونصر شريعته واتباع سنة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، التي بها عز الدنيا وسعادة الآخرة، ولا خلاص للإنسانية المضطربة إلا بسلوك سبيل هذا الرسول العظيم والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن مثل هذا المؤتمر من أمثالكم شباب المسلمين إذا أخلصت فيه النيات لله عز وجل وبذلت فيه الجهود الصادقة يكون له الآثار العظيمة، والنتائج الحسنة، والثمار الطيبة إن شاء الله؛ لأن الطلاب - وهم قادة المستقبل- إذا وجهوا توجيها إسلاميا صحيحا، ونمت فيهم روح الإسلام وشبت معهم الأخلاق التي رسمها رسول الله للمسلمين- فإنهم يكونون من أعظم أسباب سعادة أمتهم والسير بها إلى أحسن المناهج، وتجنيبها ويلات المذاهب الهدامة والمبادئ المدمرة والعقائد المنحرفة التي تفتك بالأمم وتقتل الشعوب.
وإن الله تبارك وتعالى قد من على المسلمين بهذا الدين العظيم المشتمل على أعظم المناهج وأحسن الأنظمة وأعدل القوانين، وقد تكفل الله عز وجل لمن يطبق شريعته أن يهديه الصراط المستقيم، وفي ذلك يقول عز وجل(27/223)
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1) كما بين سبحانه أن الإسلام هو سبب حياة القلوب والأمم، وأنه روح تحيا بها النفوس ونور يمشي في ضوئه المسلمون، حيث يقول عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (2) وكما قال عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3) وقد جرب الناس المذاهب الجديدة المنحرفة فكانت سببا لشقوة الشعوب وتدمير الحياة وإفلاس النفوس وجلب الخراب والدمار على أتباعها والمبتلين بها، بخلاف شريعة الإسلام التي جربت في مئات السنين فكانت بلسما شافيا ودواء ناجعا لكل أمراض الإنسانية، كما كانت -ولا تزال - شريعة الإسلام أعظم رابطة تجمع شمل المسلمين بقطع النظر عن أوطانهم أو ألوانهم أو لغاتهم، فالمسلم أخو المسلم دون فرق بين جيل وجيل أو قبيلة وقبيلة أو لغة ولغة، ولن يستشعر المسلم حلاوة الإسلام إلا إذا كان مع أخيه المسلم
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 69
(2) سورة الأنعام الآية 122
(3) سورة الشورى الآية 52(27/224)
كالبنيان يشد بعضه بعضا، ولذلك كان الإسلام أمتن القواعد لإقامة المجتمع المثالي.
وإنا لنرجو الله تبارك وتعالى أن يوفقكم إلى العمل لرفع راية الإسلام، وإعزاز كلمته وأن يمنحكم الفقه في دينه والمحافظة عليه والصدق في الدعوة إلى التمسك به والحذر مما يخالفه إنه سميع قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(27/225)
نصيحة بالقيام على الدعوة إلى الله والصبر عليها (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم الشيخ: م. أ. م. م وفقه الله وزاده علما وتوفيقا آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ في 19 \ 12 \ 73 م،
__________
(1) صدر الخطاب من مكتب سماحته في 20\1\1394 هـ برقم 1264\1\1، ونشرت في المجموع ج6 ص290.(27/225)
وسرني ما تضمنه من الإفادة عن نشاطكم ضد المبادئ الهدامة وما جرى عليكم بسبب ذلك، وهكذا الرسل وأتباعهم يبتلون ثم تكون لهم العاقبة الحميدة، فاصبروا وصابروا وأبشروا، وقد اطلعت على المحاضر المرفقة بعنوان: " أين نحن من منهج الإسلام " فألفيتها في الجملة محاضرة جيدة كثيرة الفائدة، إلا أن فيها بعض المواضع الغامضة المعنى. مثال قولكم في صفحة "3": ولهذا يعتبرالإسلام كل من يخرج عن هذا الوضع ويشكل طبقة جديدة أو يكون مراكز قوى يعتبره الإسلام كافرا بالإسلام ... إلخ، فنوصيكم بالعناية بالتفصيل والإيضاح دائما في المحاضرات وغيرها.
أما ما ذكرتم من الرغبة في العمل في السعودية فلا يخفى عليكم أن السنة الدراسية مضى منها جزء كبير والغالب أن وزارة المعارف قد أمنت حاجتها من المدرسين. والذي أرى أن تعملوا في الوعظ والإرشاد في الكويت، ولا حرح عليكم في أخذ الراتب على ذلك، كما تأخذونه على التدريس، فكلا الأمرين دعوة إلى الله وتعليم وتوجيه، وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، وليس هناك بأس أن يأخذ المسلم من بيت المال ما يعينه على التدريس، أو الوعظ والإرشاد، أو الإمامة والأذان، أو نحوها من جهات البر، وإنما الخلاف في أخذ(27/226)
الأجرة على التعليم أو الإمامة إذا كان ذلك من غير بيت المال، وقد أخذ أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام في زمنه وزمن خلفائه الراشدين من بيت المال ما يعينهم على طاعة الله والجهاد في سبيله، وهم أورع الناس، وأخشاهم لله، وأعلمهم بشرعه بعد الأنبياء رضي الله عنهم وأرضاهم، فلنا ولكم وللمسلمين فيهم أسوة حسنة. وفق الله الجميع لما يرضيه، ومنحنا وإياكم وسائر إخواننا الفقه في دينه والثبات عليه إنه سميع قريب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(27/227)
نصيحة بالصبر على الاستهزاء والتمسك
بالآداب الإسلامية (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم: ع. ف. م. م وفقه الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: -
فأفيدكم بوصول رسالتكم المؤرخة بدون وصلكم الله بهداه، وما تضمنته من بيان ما لحقكم من الأذى والمعاداة
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم 467 \ 1 في 17 \ 2 \ 1409 هـ، ونشرت في المجموع ج6 ص343.(27/227)
والاستهزاء والسخرية بسبب التزامكم وتمسككم بالآداب الشرعية من إعفاء اللحى وتقصير الثياب، ولبس الفتيات للنقاب وتحجبهن إلى آخر ما ذكرت في رسالتك - كان معلوما.
وأوصيك ومن معك بلزوم الآداب الشرعية من إعفاء اللحية وتوفيرها، وترك الإسبال، وتحجب النساء والصبر على ذلك؛ لأن ذلك من طاعة الله ورسوله، ولايضرنكم انتقاد المنتقدين واستهزاء المستهزئين، ولكم أسوة في الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد صبروا على الأذى وبلغوا رسالات ربهم.
أما ما ذكرتم حول إبراقي للرئيس حسني مبارك بالتهنئة والمبايعة، فلا أذكر أنه صدر مني شيء في ذلك، مع دعائي له بالتوفيق والإعانة على كل خير، وتحكيم الشريعة الإسلامية وحث الشعب المصري على التمسك بالإسلام والاستقامة عليه وإخلاص العبادة لله وحده، وهكذا غيره من حكام المسلمين ندعوا لهم جميعا بالتوفيق والإعانة على كل خير، وأن ينفع الله بهم عباده، ويكفي المسلمين شرهم، وفقكم الله لكل ما فيه رضاه وبارك فيكم، وأعانكم على كل خير، وثبتكم على الحق إنه خير مسئول. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(27/228)
نصيحة موجهة إلى طلبة الجامعة الإسلامية بمناسبة إصدار مجلة صوت الطلبة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى الأبناء الكرام طلبة الجامعة الإسلامية زادهم الله من العلم والإيمان آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أما بعد: فبمناسبة عزمكم على إصدار العدد الأول من مجلة (صوت الطلبة) يسرني أن أكتب إليكم هذه الكلمة لنشرها في المجلة.
فأقول: إن من أهم المهمات الإخلاص في طلب العلم بأن يكون طلبه لله لا لغرض آخر؛ لأن ذلك هو سبيل الانتفاع به، وسبب التوفيق لبلوغ المراتب العالية في الدنيا والآخرة، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة - يعني ريحها- (1) » .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله تعالى برقم 3664 وابن ماجه في كتاب المقدمة، باب الانتفاع بالعلم به برقم 252.(27/229)
أخرجه أبو داود بإسناد صحيح، وأخرح الترمذي عنه أنه قال: «من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار (1) » .
فأوصيكم جميعا وأوصي كل مسلم يطلع على هذه المجلة بالإخلاص لله في جميع الأعمال، عملا بقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (2) وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه (3) » كما أوصيكم جميعا وأوصي كل مسلم بخشية الله سبحانه ومراقبته في جميع الأمور عملا بقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (4) وقوله سبحانه:
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء فيمن يطلب بعلمه الدنيا برقم 2654 وابن ماجه في كتاب المقدمة برقم 260.
(2) سورة الكهف الآية 110
(3) أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2985.
(4) سورة الملك الآية 12(27/230)
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له (2) » وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار به جهلا» .
وقال بعض السلف: "رأس العلم خشية الله"، وقال بعض السلف: " من كان بالله أعرف كان منه أخوف "، فكلما قوي علم العبد بالله كان ذلك سببا لكمال خشيته وتقواه وإخلاصه ووقوفه عند الحدود وحذره من المحارم، ولهذا قال الله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (3) يعني الخشية الكاملة، فالعلماء بالله وبدينه من أخشى الناس لله وأتقاهم له وأقومهم بدينه، وعلى رأسهم الرسل والأنبياء ثم أتباعهم بإحسان، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات السعادة أن يفقه العبد في دين الله، فقال عليه الصلاة والسلام: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (4) » أخرجاه في
__________
(1) سورة الرحمن الآية 46
(2) أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح برقم 5063، ومسلم في كتاب الصيام، باب أن القبلة في الصوم ليست محرمة برقم 1108.
(3) سورة فاطر الآية 28
(4) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا برقم 71، ومسلم في كتاب الزكاة، باب النهي عن المسائل برقم 1037.(27/231)
الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه، وما ذاك إلا لأن الفقه في الدين يحفز العبد إلى القيام بأمر الله وخشيته وأداء فرائضه والحذر من مساخطه ويدعوه إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والنصح لله ولعباده.
فأسأل الله عز وجل أن يمنحنا وإياكم وسائر المسلمين الفقه في دينه والاستقامة عليه وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(27/232)
نصيحة عامة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فهذه نصيحة أقدمها لإخواني في الله للتذكير بحقه والدعوة إلى طاعته عملا بقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (1)
__________
(1) سورة الذاريات الآية 55(27/232)
وقوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (5) » . رواه مسلم.
وأعظم ما أوصيكم به ونفسي تقوى الله سبحانه في جميع الأحوال، وهي وصية الله ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (6) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في خطب كثيرة: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة (7) » وحقيقة التقوى فعل ما أوجب الله من الطاعة
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب أن الدين النصيحة برقم 55.
(6) سورة النساء الآية 131
(7) أخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع برقم 2676.(27/233)
واجتناب ما حرم الله من المعصية، وقد أمر الله بالتقوى ووعد أهلها بتفريج الكروب وتيسير الأمور وغفران السيئات وإعظام الأجر والرزق، من حيث لا يحتسبون، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (2) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (3) وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (4) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (5) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (6) وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (7) والآيات في الأمر بالتقوى والحث عليها وبيان ما أعد
__________
(1) سورة الحج الآية 1
(2) سورة الأحزاب الآية 70
(3) سورة الأحزاب الآية 71
(4) سورة الطلاق الآية 2
(5) سورة الطلاق الآية 3
(6) سورة الطلاق الآية 5
(7) سورة التغابن الآية 16(27/234)
لأهلها من الخير الكثير كثيرة معلومة.
فالواجب علينا وعليكم أيها الإخوة في الله تقوى الله سبحانه وتعالى في السر والعلانية والشدة والرخاء، وذلك بفعل ما أوجب الله عليكم من الصلاة والزكاة وغير ذلك من الطاعات، وترك ما حرم الله عليكم من جميع الذنوب والمنكرات، فمن فعل ما أوجب الله عليه، واجتنب ما نهاه الله عنه؛ رغبة في ثواب الله وحذرا من عقابه، فهو من المتقين الموعودين بالنجاة والسعادة في الدنيا والآخرة. وأعظم ما يجب على العبد إخلاص العبادة لله وحده وترك الشرك كله، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (2) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (3) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} (4) وهذا معنى لا إله إلا الله؛ لأن معناها بإجماع أهل العلم لا معبود حق إلا الله، كما قال سبحانه في سورة الحج: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (5) فمن صلى لغير الله أو صام لغير الله أو سجد لغير الله أو دعا غير الله كالأموات والأشجار والأحجار ونحو ذلك، فقد أشرك بالله وأبطل قول لا إله إلا الله، كذلك من ذبح لغير الله
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة الزمر الآية 2
(3) سورة الزمر الآية 3
(4) سورة البينة الآية 5
(5) سورة الحج الآية 62(27/235)
كالذين يذبحون للأولياء والجن والزيران تقربا إليهم أو خوفا من شرهم، فكل هذا من الشرك الذي حرمه الله وتوعد أهله بالنار، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ} (2) والنسك هو الذبح، قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (3) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (4) وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (5) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار (6) » وقال النبي صلى الله عليه وسلم «من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار (7) » وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة الكوثر الآية 2
(4) سورة النساء الآية 48
(5) سورة المائدة الآية 72
(6) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة برقم 93.
(7) أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا) برقم 4497.(27/236)
«لعن الله من ذبح لغير الله (1) » ومن الشرك الأصغر الرياء والحلف بغير الله كالحلف بالكعبة، والحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، والحلف بالأمانة وغير ذلك من المخلوقات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا يا رسول الله ما هو؟ قال: الرياء (2) » وقال النبي صلى الله عليه وسلم «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (3) » متفق عليه وقال عليه الصلاة والسلام «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (4) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من حلف بشيء دون الله فقد أشرك (5) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من حلف
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله برقم 1978.
(2) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار، باب حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه برقم 27742.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب كيف يستحلف برقم 2679، ومسلم في كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى برقم 1646.
(4) أخرجه الترمذي في كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله برقم 1535.
(5) أخرجه أبو داود في كتاب الأيمان والنذور، باب كراهية الحلف بالأمانة برقم 3252، والإمام أحمد في باقي مسند الأنصار، باب حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه برقم 22471.(27/237)
بالأمانة فليس منا (1) » .
والأحاديث في النهي عن الحلف بغير الله والترهيب في ذلك كثيرة فالواجب على جميع المسلمين الحذر والتحذير من ذلك وتخصيص الله سبحانه بالحلف مع تحري الصدق في ذلك؛ لأن الحلف تعظيم للمحلوف به، والله سبحانه هو المستحق لكل تعظيم وإجلال. ومن أنواع الشرك الأصغر: قول: (ما شاء الله وشئت يا فلان) ، (وهذا من الله ومنك) ، (لولا الله وأنت) ، (ولولا الله وفلان) ، وهذا كله من الشرك الأصغر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان (2) » وقال ابن عباس في قول الرجل لصاحبه: (ما شاء الله وشئت) ، (ولولا الله وفلان) : هذا كله بالله شرك «وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ ما شاء الله وحده (3) » .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة، باب أول مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه برقم 331.
(2) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار، باب حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم برقم 22836.
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسند بني هاشم حديث بداية عبد الله بن العباس برقم 1965.(27/238)
فالواجب على كل مسلم أن يتفقه في دينه، وأن يحذر الشرك كله قليله وكثيره وصغيره وكبيره، وأن يتفقه في الدين، ويسأل عما أشكل عليه؛ لقول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (3) » . ومن المنكرات الشركية أيضا: السحر والكهانة والتطير وتعليق التمائم، سواء كانت من القرآن أو غيره، والرقى التي فيها شرك، والتي لا يعرف معناها. وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قلنا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (4) » وروى النسائي عن
__________
(1) سورة النحل الآية 43
(2) سورة البقرة الآية 282
(3) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين برقم 71.
(4) أخرجه البخاري في كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى) برقم 2767.(27/239)
أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه (1) » وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (2) » وروى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل صلاته أربعين ليلة (3) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (4) » ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (5) » رواه مسلم. والرقى التي لا يعرف معناها يجب
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب تحريم الدم، باب الحكم في السحرة برقم 4079.
(2) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين برقم 9252، والطبراني في المعجم الكبير ج1 ص162 برقم 355.
(3) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان برقم 2230.
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في تعليق التمائم برقم 3883، وابن ماجه في كتاب الطب، باب تعليق التمائم برقم 3530.
(5) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب لا بأس بالرقي ما لم يكن فيه شرك برقم 2200.(27/240)
تركها والنهي عنها مخافة أن يكون فيها شرك، وروى الإمام أحمد رحمه الله عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له (1) » وفي رواية له: «ومن تعلق تميمة فقد أشرك (2) » وقال ابن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطيرة شرك الطيرة شرك (3) » وفي المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك، قالوا فما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك (4) » والأحاديث في التحذير من الكهانة والسحر والطيرة والترهيب من سؤال الكهان والسحرة وتصديقهم كثيرة، فالواجب على المسلم الحذر من هذه المنكرات وإنكارها على من تعاطاها؛ حذرا من عقاب الله وطلبا لثوابه
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند الشاميين، حديث عقبة بن عامر الجهني برقم 16951.
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في الطيرة برقم 3910، والإمام أحمد في المكثرين من الصحابة مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه برقم 4183.
(4) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه برقم 7005.(27/241)
وامتثالا لأمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن أعظم المنكرات التي يجب تركها والتحذير منها: ترك الصلاة والتهاون بها وعدم أدائها في الجماعة، وقد قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (1) وقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (2) وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (3) » وقال عليه السلام: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (4) » وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان
__________
(1) سورة البقرة الآية 238
(2) سورة البقرة الآية 43
(3) أخرجه الإمام مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 82.
(4) أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في باقي ترك الصلاة برقم 2621، والإمام أحمد في باقي مسند الأنصار، حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه برقم 22428.(27/242)
وحج البيت (1) » . ومن أهم واجبات الصلاة وإظهار شعائر الإسلام: أداء الصلاة في المساجد في الجماعات كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يفعلون ذلك، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أنطلق برجال معهم حزم من الحطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم (2) » وقال عليه السلام: «من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر (3) » وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافط على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيه صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب بني الإسلام على خمس برقم 8، ومسلم في كتاب الإيمان باب أركان الإسلام ودعائمه العظام برقم 16.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة برقم 644 ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة بيان التشديد في التخلف برقم 651.
(3) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن يسمع النداء فلا يجيب برقم 217.(27/243)
لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة خطاها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط بها عنه سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق أو مريض، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) (1) رواه مسلم. وقد أخبر الله سبحانه في كتابه العظيم أن التكاسل عن الصلوات من صفات أهل النفاق قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (2) وقال تعالى في شأن المنافقين: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} (3) وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صلاة الجماعة من سنن الهدي برقم 654.
(2) سورة النساء الآية 142
(3) سورة التوبة الآية 54(27/244)
وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا (1) » . فالواجب علينا وعليكم أيها المسلمون المحافظة على الصلوات الخمس في المساجد، والتناصح في ذلك، والإنكار على من تخلف عنها وهجره وترك مجالسته؛ حتى يتوب اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتباعدا عن مشابهة المنافقين الذين توعدهم الله بالدرك الأسفل من النار.
نسأل الله لنا ولكم السلامة والعافية والتوفيق لما يرضيه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يمن علينا بخشيته ومراقبته، وأن ينصر دينه ويخذل أعداءه، وأن يوفق ولاة أمرنا وسائر أمراء المسلمين لما يرضيه، ويصلح بطانتهم، وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن آمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (651) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (797) ، مسند أحمد بن حنبل (2/531) ، سنن الدارمي الصلاة (1273) .(27/245)
مؤتمر القمة الإسلامي وعوامل النصر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد (1) :
فإن من تأمل القرآن الكريم الذي أنزله الله تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين؛ يجد فيه بيانا شافيا لعوامل النصر وأسباب التمكين في الأرض والقضاء على العدو مهما كانت قوته، ويتضح له أن تلك الأسباب والعوامل ترجع كلها إلى عاملين أساسيين.
وهما الإيمان الصادق بالله ورسوله، والجهاد الصادق في سبيله، ومعلوم أن الإيمان الشرعي الذي علق الله به النصر وحسن العاقبة يتضمن الإخلاص لله في العمل والقيام بأوامره وترك نواهيه، كما يتضمن وجوب تحكيم الشريعة في كل أمور المجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما يتضمن أيضا وجوب إعداد ما يستطاع من القوة للدفاع عن الدين والحوزة؛ ولجهاد من خرج عن الحق حتى
__________
(1) نشر في مجلة التوحيد المصرية من ص11 - 15، ونشر في ج3 من هذا المجموع ص341.(27/246)
يرجع إليه.
أما العامل الثاني وهو الجهاد الصادق فهو أيضا من موجبات الإيمان، ولكن الله سبحانه نبه عليه وخصه بالذكر في مواضع كثيرة من كتابه، كذلك رسوله صلى الله عليه وسلم أمر به الأمة ورغبها فيه لعظم شأنه ومسيس الحاجة إليه؛ لأن أكثر الخلق لا يردعه عن باطله مجرد الوعد والوعيد، بل لا بد في حقه من وازع سلطاني يلزمه بالحق ويردعه عن الباطل، ومتى توافر هذان العاملان الأساسيان وهما الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله لأي أمة أو دولة؛ كان النصر حليفها وكتب الله لها التمكين في الأرض، والاستخلاف فيها وعد الله الذي لا يخلف، وسنته التي لا تبدل، وقد وقع لصدر هذه الأمة من العز والتمكين والنصر على الأعداء ما يدل على صحة ما دل عليه القرآن الكريم وجاءت به سنة الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام، وكل من له أدنى إلمام بالتاريخ الإسلامي يعرف صحة ما ذكرناه وأنه أمر واقع لا يمكن تجاهله وليس له سبب سوى ما ذكرنا آنفا من صدق الرعيل الأول في إيمانهم بالله ورسوله والجهاد في سبيله قولا وعملا وعقيدة.
وإليك أيها الأخ الكريم بعض الآيات الدالة على ما ذكرنا لتكون على بينة وبصيرة ولتقوم بما تستطيعه من الدعوة إلى سبيل ربك وتنبيه إخوانك المسلمين على أسباب النصر وعوامل الخذلان «لأن(27/247)
يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (1) » كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (2) وقد أجمع أهل التفسير على أن نصر الله سبحانه هو نصر دينه بالعمل به والدعوة إليه والجهاد لمن خالفه ويدل على هذا المعنى الآية الأخرى من سورة الحج وهي قوله سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} (4) وقال تعالى {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (5) ولا ريب أن المؤمن هو القائم بأمر الله المصدق بأخباره المنتهي عن نواهيه المحكم لشريعته وقال عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (6)
وقال عز وجل في بيان صفات المؤمنين والمتقين
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2942) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(2) سورة محمد الآية 7
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة الروم الآية 47
(6) سورة الأنفال الآية 29(27/248)
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (1)
تأمل يا أخي هذه الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة ثم حاسب نفسك بتطبيقها حتى تكون من المؤمنين الصادقين والمتقين الفائزين، ولا ريب أن الواجب على كل من ينتسب إلى الإسلام من ملك أو زعيم أو أمير أو غيرهم أن يحاسب نفسه وأن يجاهدها على التخلق بهذه الأخلاق الكريمة، والعمل بهذه الأعمال الصالحة، وأن يلزم من تحته من الشعوب بهذه الأخلاق والأعمال التي أوجبها الله على المسلمين، وأن يصدق في ذلك ويستعين بالله عليه وأن يولي الأخيار الذين يعينونه على تنفيذ أمر الله ورسوله حسب الإمكان وأن يبعد ضدهم حسب الإمكان وأن يتعاون مع غيره من الملوك والزعماء والأعيان في هذا الأمر الجليل الذي به عزتهم ونصرهم وتمكينهم في الأرض كما قال عز وجل:
__________
(1) سورة البقرة الآية 177(27/249)
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) وقال سبحانه في سورة الأنفال آمرا لعباده بإعداد القوة: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (2) وأمرهم بالحذر من الأعداء ومكايدهم فقال تعالى في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} (3) وقال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (4)
__________
(1) سورة النور الآية 55
(2) سورة الأنفال الآية 60
(3) سورة النساء الآية 71
(4) سورة النساء الآية 102(27/250)
فانظر يا أخي هذا التعليم العظيم والتوجيه البليغ من فاطر الأرض والسماوات وعالم السرائر والخفيات الذي بيده تصريف قلوب الجميع وبيده أزمه الأمور وتصريفها يتضح لك من ذلك عناية الإسلام بالأسباب وحثه عليها، وتحذيره من إهمالها والغفلة عنها؛ ويتبين لك من ذلك أنه لا يجوز للمسلم أن يعرض عن الأسباب أو يتهاون بشأنها كما أنه لا يجوز له الاعتماد عليها بل يجب أن يكون اعتماده على الله وحده مؤمنا بأنه سبحانه هو الذي بيده النصر وهذا هو حقيقة التوكل الشرعي وهو الأخذ بالأسباب والعناية بها مع الاعتماد على الله والتوكل عليه وقد نبه الله سبحانه على هذا المعنى في عدة آيات، منها قوله سبحانه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (2) فذكر التقوى أولا وهي أعظم الأسباب لأن حقيقتها طاعة الله ورسوله
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 3(27/251)
في كل شيء ومن ذلك الأخذ بالأسباب الحسية والمعنوية والسياسية والعسكرية ثم ذكر التوكل فقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (1) - أي كافيه - وقال عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (2) {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3)
أما الجهاد الصادق فذكره الله سبحانه في عدة آيات، وذكر ما يترتب عليه من النصر في الدنيا والسعادة في الآخرة وبين صفات المجاهدين الصادقين ليتميزوا من غيرهم فقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (5) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (6) {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (7)
__________
(1) سورة الطلاق الآية 3
(2) سورة الأنفال الآية 9
(3) سورة الأنفال الآية 10
(4) سورة التوبة الآية 41
(5) سورة الأنفال الآية 45
(6) سورة الأنفال الآية 46
(7) سورة الأنفال الآية 47(27/252)
فتأمل أيها المؤمن هذه الصفات العظيمة للمجاهد الصادق حتى يتضح لك حال المسلمين اليوم وحال المجاهدين السابقين وحتى تعرف سر نجاح أولئك وخذلان من بعدهم، وأنه لا سبيل إلى إدراك النصر في الدنيا والسعادة في الآخرة إلا بالتخلق بالأخلاق التي أمر الله بها ودعا إليها، وعلق بها النصر وقد أوضحها الله سبحانه في كتابه المبين في هذه الآيات التي ذكرناها وغيرها وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (4)
وقد جمع الله سبحانه في هذه الآيات أسباب النصر وردها سبحانه إلى عاملين أساسيين وهما الإيمان بالله ورسوله والجهاد في
__________
(1) سورة الصف الآية 10
(2) سورة الصف الآية 11
(3) سورة الصف الآية 12
(4) سورة الصف الآية 13(27/253)
سبيله ورتب على ذلك مغفرة الذنوب والفوز بالجنة في الآخرة والنصر في الدنيا والفتح القريب، وأخبر سبحانه أن المسلمين يحبون النصر والفتح؛ ولهذا قال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} (1)
فإذا كان ملوكنا وزعماؤنا في مؤتمرهم هذا يرغبون رغبة صادقة في النصر والفتح القريب والسعادة في الدنيا والآخرة، وقد أوضح الله لهم السبيل وأبان لهم العوامل والأسباب المفضية إلى ذلك؛ فما عليهم إلا أن يتوبوا إلى الله توبة صادقة مما سلف من تقصيرهم، وعدم قيامهم بما يجب عليهم من حق الله وحق عباده، وأن يتعاهدوا صادقين على الإيمان بالله ورسوله وتحكيم شريعته والاعتصام بحبله وجهادهم الأعداء صفا واحدا بكل ما أعطاهم الله من قوة وأن ينبذوا المبادئ المخالفة لشريعة الله وحقيقة دينه، وأن يعتمدوا عليه سبحانه لا على غيره من المعسكر الشرقي أو الغربي، وأن يأخذوا بالأسباب ويعدوا ما استطاعوا من القوة بكل وسيلة أباحها الشرع وأن يكونوا مستقلين ومنحازين عن سائر الكتل الكافرة من شرقية وغربية متميزين بإيمانهم بالله ورسوله
__________
(1) سورة الصف الآية 13(27/254)
واعتصامهم بدينه وتمسكهم بشريعته، وأما السلاح وأصناف العدة فلا بأس بتأمينها من كل طريق وبكل وسيلة لا تخالف الشرع المطهر.
والله المسئول بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا المؤتمر مباركا وأن ينفع به عباده وأن يجمع به شمل المسلمين ويصلح به قادتهم ويوفق المجتمعين فيه لما فيه رضاه وعز دينه وذل أعدائه ورد الحق المسلوب إلى مستحقه ونبذ ما خالف الإسلام من مبادئ وأخلاق إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وأتباعه بإحسان.(27/255)
الأقليات الإسلامية. . ظروفها وآمالها.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الله جلت قدرته قد بعث الأنبياء والمرسلين للدعوة إلى توحيده، وإخلاص العبادة له سبحانه، وإيضاح شرعه الذي شرع لعباده، وخلق الثقلين لذلك، كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وقال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2)
وأخبر سبحانه وبحمده أنه لا يعذب قوما إلا بعد إرسال البشير والنذير، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3) وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (4)
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة النحل الآية 36
(3) سورة المائدة الآية 19
(4) سورة الإسراء الآية 15(27/256)
ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي بعثه الله على فترة من الرسل، جاء بعد أن ملئت الأرض جورا وظلما، وبعد أن تغلبت معصية الله في أرضه على طاعته، فأرسله الله للعالمين الإنس والجن، وللعجم والعرب، بشيرا ونذيرا ومبلغا لشرع الله، فوضح الحق، ودعا إليه، وأرسل الرسل وبعث الكتب للرؤساء والعظماء، بالدعوة لما جاء به، لتقوم الحجة على من عاند وخالف، قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1)
وقد جعل الله شريعته خاتمة الشرائع، ورسالته خاتمة الرسالات؛ لأن فيها الكمال والشمول لما يصلح الناس في معاشهم ومعادهم، ولم يترك - صلى الله عليه وسلم - خيرا إلا دعا
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158(27/257)
الناس إليه، أو شرا إلا حذرهم منه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك (1) » . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم (2) » . خرجه مسلم في صحيحه. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا أبدا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي» .
ففي كتاب الله الأمر بالدعوة إلى دين الله، دين الحق الذي لا يقبل سبحانه من البشر سواه قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) الآية، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (4) وقال سبحانه:
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند الشاميين، حديث العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم برقم 16692.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء برقم 1844.
(3) سورة النحل الآية 125
(4) سورة آل عمران الآية 19(27/258)
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) وفي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحث على الدعوة، والتوضيح لما يجب أن يؤديه المسلم نحو دين الله، وذلك بتوضيحه لسائر البشر، فهو أمانة ملقاة على عواتق أهل العلم ولا تبرأ ذممهم بذلك، نحو إخوانهم المسلمين وغيرهم بالتوضيح والنصح، قال - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (2) » - وشبك بين أصابعه - رواه البخاري ومسلم، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (3) » متفق عليه.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (4) » خرجه مسلم في صحيحه، وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي - رضي الله عنه - لما بعثه إلى اليهود في خيبر ليدعوهم إلى الإسلام ويبين لهم حق الله
__________
(1) سورة آل عمران الآية 85
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضا برقم 6027، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم برقم 2585.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم برقم 6011، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم برقم 2586.
(4) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره برقم 1893.(27/259)
عليهم: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (1) » .
فالمسلمون في أي مكان وزمان واجب عليهم التناصح فيما بينهم، والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه، ودعوة غيرهم إلى الإسلام، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) وقال تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (5) وقال - عليه الصلاة والسلام -: «الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (6) » متفق عليه.
فالواجب على المسلم الامتثال لأوامره وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والنصح لله ولعباده؛ لأن في ذلك السعادة كلها في الدنيا والآخرة، والعزة للمسلمين لا تكون إلا بذلك، حيث يعلي سبحانه كلمتهم وينصرهم على أعدائهم مهما كثروا وتعاونوا، كما قال سبحانه:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس برقم 2942، ومسلم في كتاب فضل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه برقم 2406.
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) سورة المائدة الآية 2
(6) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب أن الدين النصيحة برقم 55.(27/260)
{وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (1) وقال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (2) ولقد سمعنا وقرأنا الأخبار عن كثير من إخواننا المسلمين في المجتمعات التي أكثر أهلها من غير المسلمين، وما يحصل عليهم من التسلط والتضييق في إقامة شعائر دينهم لإبعادهم عنه، إما بالإكراه أو بطرق أخرى، فنسأل الله لهم ولجميع المسلمين الثبات على الإسلام، والعافية من مكائد الأعداء.
ولا شك أنهم على ثغرة مهمة من ثغور الإسلام، ويحتاجون والحالة هذه إلى كل مساعدة وعون سواء من الناحية السياسية، وهذا خاص بالحكومات الإسلامية من العرب وغيرهم التي لديها غيرة على الإسلام، ولها علاقات مع تلك الدول، بإرسال المندوبين وبعث الرسائل والتأكيد على ممثلياتها، وما إلى ذلك من الوسائل والأساليب التي تعين إخوانهم في تلك الأقليات، وترفع معنوياتهم، وتشعر من يتسلط عليهم بأن لهم أخوة في العقيدة يهتمون بأمرهم ويتابعون أخبارهم ويغارون لهم.
وسوف يرتفع الضيم والظلم عن المسلمين - إن شاء الله - عندما تشعر تلك الدول وغيرها أن وراء هذه القلة المسلمة دولا تتألم
__________
(1) سورة الصافات الآية 173
(2) سورة المنافقون الآية 8(27/261)
لآلامهم، وتهتم بشئونهم، فتنصاع لمطالبهم وترفع يدها عن ظلمهم، ولا سيما أن غالب تلك الدول بحاجة إلى البلاد الإسلامية في الشئون الاقتصادية وغيرها.
والقلة المسلمة في كل مكان لا شك أنهم في أمس الحاجة إلى المساعدة المادية والمعنوية لإقامة المساجد وبناء المدارس، ونحو ذلك مما يعينهم في عملهم الإسلامي، وواجب على كل مسلم أن يعينهم بقدر طاقته، مع إرسال الدعاة لهم، لتعليمهم العقيدة الصحيحة، واللغة العربية؛ لأن الكثير منهم في جهل كبير بأمور دينهم.
وبهذه المناسبة نحب أن نشير إلى أن للرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بحمد الله جهودا في مختلف البلاد الإسلامية والبلاد التي فيها أقليات، وتشاركها في ذلك رابطة العالم الإسلامي، وبعض الدول والمؤسسات الإسلامية، أسأل الله أن ينفع بهذه الجهود وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يوفق القائمين على ذلك لما يحب ويرضى.
فقد قامت الرئاسة بمواصلة نشر رسالة الإسلام في ربوع أفريقيا وأوروبا، وأمريكا وآسيا وأستراليا، لإيصال كلمة الحق(27/262)
إلى الناس بما توزعه من المصاحف والكتب بواسطة الدعاة والمرشدين وما يقومون به من محاضرات ودروس ولقاءات واتصالات بشتى الطبقات، وبأنواع الثقافات، ومن خلال المساجد والمدارس والجمعيات والمؤسسات الإسلامية التي تدعمها، وتساهم في تأسيسها وبنائها، بواسطة دعاتها المنتشرين في سائر أرجاء الأرض.
فالرئاسة توجه نشاطاتها فيما يقرب من خمسين بلدا في إفريقيا وحدها، ولها أكثر من ألف داعية هناك، يبلغون كلمة الإسلام، ويدعون إلى دين الله في المساجد والمجتمعات والمناسبات المتعددة، ويقومون بالتدريس والوعظ وإرشاد الناس بالحسنى إلى صراط الله المستقيم، وإلى العقيدة الصحيحة التي بلغها نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لأمته، وسار على نهجها الصفوة الأولى من هذه الأمة.
وقد نفع الله بجهود هؤلاء الدعاة وأخبار أعمالهم ظاهرة بحمد الله، حيث أسلم على أيديهم الجم الغفير، ممن أراد الله هدايتهم. أما في أمريكا وأوروبا وأستراليا، فقد قامت الرئاسة ضمن جهود أخرى بإرسال العديد من الوفود، وذلك لمعايشة هذه الأقليات المسلمة، وتقصي الحقائق عن أوضاع المسلمين،(27/263)
وتقويم أعمالهم، ومعرفة ما يستجد بشأنهم وإيجاد الحلول لما يعترضهم من مشكلات، وبيان ما ينقصهم في عملهم الإسلامي.
وقد تمخض عن ذلك إرسال الكثير من الدعاة والمدرسين إلى البلدان المحتاجة التي يوجد فيها أقليات مسلمة، ودعم الجمعيات والمراكز الإسلامية في بناء منشآتها ماديا ومعنويا مع تزويدهم بأمهات الكتب والمراجع العلمية، والنصح والإرشاد لهم، لعل الله ينفع بذلك.
أما في آسيا فتقوم الرئاسة بتوفير عدد لا بأس به من الدعاة في البلدان التي يوجد بها أقليات إسلامية لنشر الدعوة الإسلامية بينهم المبنية على أساس من العقيدة الصحيحة حسبما أخذها السلف الصالح عن رسول - صلى الله عليه وسلم -، وفهمها أصحابه - رضوان الله عليهم -.
كما وضعت مكاتب ومشرفين لمتابعة أعمال الدعاة، وتوزيعهم حسب حاجة تلك البلدان، وبحث ما فيه مصلحة لدعم الجمعيات الإسلامية المعروفة بسلامة الاتجاه بعد التأكد من حاجتهم بالكتب الإسلامية والكتابة إلى المؤسسات التعليمية لتزويدهم بالمقررات المدرسية، كما تقوم بالمساهمة في إكمال مشروعاتهم التي تعود على المسلمين بالنفع في دينهم ودنياهم(27/264)
كالمساهمة في بناء المساجد وترميمها وتزويدها بالمصاحف، وتوثيق المؤسسات الإسلامية للاطمئنان على سلامة القائمين على العمل وصدقهم، وذلك بإعطائهم توصيات خاصة لمحبي الخير لمساعدتهم في عملهم الخيري، وإرسال الوفود من الرئاسة لتفقد أحوال الأقليات ومعرفة احتياجاتهم الضرورية.
وكل ما ذكرت من عمل الرئاسة ودعمها للجمعيات الإسلامية والمراكز الإسلامية، وإرسال الدعاة وغير ذلك من أعمال إسلامية، كله إنما يتم بفضل الله سبحانه ثم بفضل حكومتنا الرشيدة، وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد حفظه الله من كل سوء ونصر به الحق، وفسح في أجله على خير عمل.
وبهذه المناسبة التي تعقدها ندوة الشباب العالمية لبحث أوضاع الأقليات الإسلامية في العالم، أوصي إخواني الدعاة جميعا بتقوى الله سبحانه وتعالى، والعمل بإخلاص في تبليغ هذا الدين مستحضرين ما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، في فضل الدعوة وآداب الدعاة، حيث قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1)
__________
(1) سورة فصلت الآية 33(27/265)
وقال عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) وقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2)
وما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة التي منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (3) » وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما بعثه إلى خيبر: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (4) » .
ووصيتي لإخواني المسلمين في الأقليات الإسلامية وفي كل مكان، أن يتقوا الله وأن يتفقهوا في دينهم، ويسألوا أهل العلم عما أشكل، وأن يحرصوا على تعلم اللغة العربية ليستعينوا بها على فهم كتاب الله عز وجل وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأول ذلك الاهتمام بكتاب الله فهما وعملا، كما جاء في الحديث الصحيح «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (5) » ثم قراءة كتب الحديث الموثوقة المعتبرة. وغيرها من كتب
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة النحل الآية 125
(3) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2942) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(5) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، برقم 5027.(27/266)
الفقه والعقيدة المعتمدة عند أهل السنة والجماعة. وأن يتلقوا كل ذلك على أيدي علماء معروفين بالصلاح والتقوى وحسن العقيدة، والعلم الصحيح.
وعلى الإخوة العلماء في المجتمعات ذات الأقلية المسلمة أن ينشطوا في مجال الدعوة إلى الله بين إخوانهم وغيرهم، ولهم الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى.
وهذا العمل من أجل الأعمال وأعظمها كما تقدم في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) ثم بعد ذلك يجب عليهم تبليغ هذا الدين إلى من حولهم من الأمم الأخرى؛ لأنه دين الإسلام للناس كافة قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2)
وهذه المجتمعات بأشد الحاجة إلى هذا الدين، والداعي إلى الله يحصل له الأجر العظيم إذا كان سببا في هداية هؤلاء وإرشادهم لما خفي عليهم من أمور دين الإسلام كما تقدم في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (3) » .
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2942) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .(27/267)
فبهذه الدعوة يدخل في دين الله - دين الإسلام إن شاء الله - أفواج ويقل عدد الكفار فتصبح الغلبة - إن شاء الله تعالى - للمسلمين، وإن لم يتمكن المسلم في تلك البلاد من الدعوة فعليه أن يلتزم بدينه وأن يتخلق بالأخلاق والآداب الإسلامية؛ لأنها دعوة بالفعل، ولأنها محببة لذوي العقول الصحيحة فيتأثر الناس غالبا بهذه الصفات الحميدة، ولقد دخل الإسلام إلى بعض جنوب شرق آسيا بأخلاق التجار من الأمانة والصدق في المعاملة.
ومتى عجز المسلم عن إظهار دينه في بلد إقامته، بحيث لا يأمن على دينه وعرضه وماله، فإنه يجب عليه الهجرة إلى بلاد آمنة يستطيع فيها أن يؤدي شعائر دينه بأمن وراحة بال إذا استطاع ذلك، عملا بالآيات والأحاديث الواردة في ذلك.
ولا يفوتني أن أشكر للقائمين على هذه الندوة جهودهم الطيبة في خدمة الإسلام والمسلمين.
نسأل الله لنا ولهم ولجميع المشاركين في هذا المؤتمر التوفيق والسداد وصلاح النية والعمل إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.(27/268)
الحركات الإسلامية ودور الشباب فيها
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد (1) :
فإن الله سبحانه وتعالى، قد جعل شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي خاتمة الشرائع الإسلامية، ورضي الإسلام دينا لخير أمة أخرجت للناس، كما بعث الرسل بدين الإسلام وجعله المرضي له، دون غيره من الأديان، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (2) وقال سبحانه وبحمده: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3) وقال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (4)
__________
(1) نشر في مجلة البحوث الإسلامية العدد 7 ص 7 - 14. وفي ج 2 من هذا المجموع ص360 - 369.
(2) سورة آل عمران الآية 19
(3) سورة المائدة الآية 3
(4) سورة آل عمران الآية 85(27/269)
فالكمال الذي من الله به في الشريعة الإسلامية التي بعث الله بها محمدا - صلى الله عليه وسلم - موجود في أوامرها ونواهيها وسائر أحكامها، من تحقيق لكل ما تحتاجه النفوس وتتطلبه المجتمعات مهما جد في حياتها من مؤثرات أو ظهر من اختراعات.
وذلك أن بعض ديانات الأرض اليوم المخالفة للإسلام لا يجد المتمعن في معتقداتها ما يتلاءم فكرا وعملا مع متطلبات ومظاهر حياة هذا العصر، ولا ما يريح النفوس من المؤثرات المحيطة، فنشأ لديهم رغبة بفصل الدين عن الدولة في مثل قولهم: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
لكن الموضوع في الإسلام يختلف؛ لأن النفوس عندما تشعر بالأزمات تنتابها، وبالمشكلات تحل قريبا منها، تجد في دين الإسلام وتشريعاته الراحة والمخرج. وكلما بعدت عن دين الإسلام وضعف وازع الإيمان فيها كثرت الهموم في النفوس وتعددت المشكلات في المجتمع. وهذا ما يسمونه في العصر الحاضر: القلق النفسي.
ولا شيء يطمئن القلوب، ويريح النفوس إلا الرجوع إلى الله وامتثال شرعه والتحلي بالصفات التي دعا إليها دين الإسلام.(27/270)
فالقرآن الكريم هو كتاب الله المبين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولا يتطرق إليه الشك؛ لأنه منزل من حكيم حميد لا تخفى عليه خافية وهو العالم بمصالح العباد في العاجل والآجل، وكتابه الكريم هو المصدر الأول لعقيدة الإسلام وأحكامه، وهو الذي يعطي المؤمنين علاجا لقلوبهم، وإراحة لضمائرهم، بذكر الله، وتعويد اللسان على هذا العمل، {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (1)
وفي عصرنا الحاضر، مع تداخل الشعوب، واحتكاك الأمم، وكثرة المؤثرات والمخترعات وتباين الثقافات واختلاطها بتطور وسائل الإعلام، وسرعة توصيلها للمعلومات من مكان لآخر، وتقارب البلاد من أطراف الأرض بعضها من بعض، بحيث أصبحت هموم بعضهم تؤرق البعض الآخر، نراهم يجربون حلولا مختلفة، من شعارات ومبادئ لتريح نفوسهم، وتخفف من آلامهم وتحل بعضا من مشكلاتهم.
لكنها لم تجد شيئا ولم تخفف عما داخل نفوسهم، وخلخل مجتمعاتهم؛ لأنها لم تكن من عند الله الحليم العليم، ولا صادرة عن شرعه الذي شرع لعباده، وصدق الله إذ يقول موضحا مكانة القرآن الذي حفظه عن العبث والتغيير، ونزهه عن
__________
(1) سورة الرعد الآية 28(27/271)
الخلافات والمتناقضات: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (1) وقال سبحانه: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (2) وقال عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (3)
ونتيجة لتلك القلاقل التي نشأت في المجتمعات في كل مكان، ونشأ عنها تصرفات عجيبة من الشباب وغيرهم في الغرب والشرق، بعضها يضحك الثكلى، وشر البلية ما يضحك، اهتم الباحثون من رجال تلك الديار، لمعرفة الأسباب والمؤثرات، ومحاولة فرض الحلول المعينة على إزالة تلك الهواجس والآلام فتهاووا في طرق متشعبة، وظلوا في حيرتهم يعمهون، وارتدت دراساتهم وحلولهم عليهم خاوية الوفاض، مزجاة البضاعة. ووجدوا أن الصامدين براحة نفس، وهدوء بال أمام هذه العواصف هم المسلمون الملتزمون بدينهم، المحافظون على شعائر ربهم، فحاولوا طمس هذه الحقيقة التي لا تتفق مع منهجهم ونظرتهم نحو عقيدة الإسلام، منذ أزمان بعيدة. وصاروا يوهمون أبناء
__________
(1) سورة النساء الآية 82
(2) سورة الفرقان الآية 33
(3) سورة النحل الآية 89(27/272)
المسلمين، بأن في دينهم عيوبا، وعجزا عن مواكبة الحياة الحاضرة، وفي الحقيقة ما هذا الذي يتحدثون عنه إلا عيوب في معتقداتهم وأفكارهم، ألصقوها بالإسلام، بعد أن عجزوا عن إيجاد حلول لها.
أما أبناء المسلمين ممن أنار الله بصائرهم، فإنهم قد ارتاحت نفوسهم بالعودة لتعاليم الإسلام، وأخذ أوامره علاجا لكل جديد وفد على مجتمعاتهم، آخذين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدوة في المنهج، ومعلما يسترشد بقوله وفعله في كل موقف، فهو يفزع إلى الصلاة كلما حزبه أمر، ويقول لبلال - رضي الله عنه -: «أرحنا يا بلال بالصلاة (1) » ويقول: «وجعلت قرة عيني في الصلاة (2) » وهذا تحقيق لقول الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (3) الآية.
وما هذه الحركات الإسلامية التي تنبع من الشباب في كل بلد إسلامي إلا عودة جديدة لدين الإسلام الذي تريح أوامره
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار، أحاديث رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم برقم 22578.
(2) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين باقي المسند السابق برقم 13623.
(3) سورة البقرة الآية 45(27/273)
وشرائعه النفوس، وتتجاوب مع متطلبات المجتمعات في كل عصر ومكان.
والشباب في أي أمة من الأمم، هم العمود الفقري الذي يشكل عنصر الحركة والحيوية إذ لديهم الطاقة المنتجة، والعطاء المتجدد، ولم تنهض أمة من الأمم غالبا إلا على أكتاف شبابها الواعي وحماسته المتجددة.
إلا أن اندفاع الشباب لا بد أن تسايره حكمة من الشيوخ، ونظرة من تجاربهم وأفكارهم ولا يستغني أحد الطرفين عن الآخر. وإن أمة الإسلام، وهي أمة الرسالة الباقية، وذات الصدارة بين الأمم عندما أكرمها الله بهذا الدين، وببعثة سيد المرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم -، كان للشباب فيها مكان بارز في ركب الدعوة المباركة، كما كان للشيوخ مكان الصدارة في التوجيه والمؤازرة. وانطلق الجميع بقيادة محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام -، يؤسسون دولة الإسلام الأولى والتي امتدت إلى آفاق بعيدة، ورفرفت راية الإسلام عالية فوق غالب المعمورة، في عصور الإسلام المختلفة التي كان الشباب في الطليعة يذودون عن حياض الإسلام، ويدافعون عن ديار المسلمين، باليد واللسان، علما وعملا. ففي الوقت الذي كانوا يتقدمون فيه صفوف الجهاد لإعلاء كلمة الله كانوا أيضا(27/274)
يتزاحمون بالمناكب في حلقات العلماء وجلسات الشيوخ، يلتقطون الحكمة من أفواههم، ويستنيرون بما عندهم من علوم، ويتلقون منهم النصح والإرشاد، ويستفيدون من ثمرة جهودهم وتجربتهم لمناهج الحياة المقرونة بالتطبيق العملي للإسلام وشرائعه.
وكان من الشباب القادة لألوية الجهاد، والمندفعون لتبليغ دين الله، والذين سارت الجيوش الإسلامية تحت ألويتهم، وحقق الله النصر المؤزر على أيديهم. وتاريخنا الإسلامي حافل بالشباب المجاهد العامل والشيوخ المجربين المجاهدين - رحمهم الله -.
ولقد استمر الشباب المسلم في عطاء الخير المتجدد في الحروب الصليبية في الشام والأندلس وغيرها من المواقف التي يتصادم فيها الحق بالباطل حتى اليوم، فغاظت تلك الحماسة أعداء الإسلام، حيث سعوا إلى وضع العراقيل في طريقهم، أو تغيير اتجاههم، إما بفصلهم عن دينهم أو إيجاد هوة سحيقة بينهم وبين أولي العلم، والرأي الصائب في أمتهم، أو بإلصاق الألقاب المنفرة منهم، أو وصفهم بصفات ونعوت غير صحيحة، وتشويه سمعة من أنار الله بصائرهم في مجتمعاتهم، أو بتأليب بعض الحكومات عليهم.(27/275)
كل هذا قد يؤدي بالتالي إلى ظهور حركات تتسم بطابع الوقوف من المجتمع والقيادات، موقفا قاسيا ومضادا، قد يصل إلى نوع من المواجهة في بعض الأحيان، أو العمل السري الذي قد يخالطه ما يشينه، أو يغير من مجراه الطبيعي. وإلى جانب هذا يرى في العالم بأسره حركات إسلامية، قد ظهرت على السطح، وبعضها في أمريكا وأوروبا، تتفهم الإسلام، وتدعو إليه، وترى فيه العلاج لما في العالم من قلق ومشكلات أهمها جنوح الشباب، والمؤثرات فيهم.
هذه الحركات كان للشباب فيها دور كبير، وأفعال مؤثرة، تدعو للتبصير والمؤازرة، إلا أن بعضها وخاصة في بعض الدول الإسلامية قد تعرض للكبت والمضايقة والاضطهاد والملاحقة. وبعضها استمر في أداء الدور الذي تنادي به تعاليم الإسلام في سبيل الدعوة والاهتمام بتبصير المسلمين عما جد في حياتهم، ولا سير وفق منهج الإسلام.
وقد كان لهذا النوع، وما زال أثر طيب بحمد الله في إصلاح أوساط الشباب، وإقامة كثير من المجتمعات على جادة الحق والهدى، في داخل العالم الإسلامي وخارجه عن طريق الكتاب الإسلامي والمنبر، والمحاضرات، والمخيمات والمعسكرات الإسلامية التي يلتقي المسلمون فيها من عدة(27/276)
أقطار، فيتذكرون علوم دينهم، ومشكلات مجتمعهم، ويتفهمون الواقع من حولهم ويعملون بقول الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (1)
ثم يحرصون على تنظيم أوقات الفراغ في العمل المثمر وقد استغل الغربيون والشرقيون هذا الفراغ في أعمال مختلفة، فلم تحقق النتيجة المرغوبة لامتصاص طاقة الشباب، وتوجيههم.
إن دور الشباب المسلم الذي يسير وفق تعاليم الإسلام، دور عظيم في إصلاح النفوس وتوجيه المجتمع والمحافظة على سلامته وأمنه، لا ينكره إلا أعداء الإسلام، الذين يدركون مكانة الإسلام، وسموه في استجلاب من يرغب، منصفا في طريق العدالة، والأخلاق الكريمة والاستقامة والتوازن في البيئة، والأمن والاستقرار في المجتمع.
وإن من أهم ما يجب ملاحظته، ونحن نتحدث عن دور الشباب في الحركات الإسلامية قديما وحديثا ما يلي:
1 - العناية بالشباب منذ نعومة أظفارهم، وذلك بتوجيههم الوجهة الإسلامية، والاهتمام بمناهجهم التعليمية، وإبعاد المؤثرات
__________
(1) سورة التوبة الآية 122(27/277)
الضارة بأخلاقهم، والعمل على ربطهم بدينهم وبكتاب ربهم، وسنة نبيهم، وأن يعنى العلماء ورجال الفكر الإسلامي باحتضانهم وتقبل آرائهم واستفساراتهم، وإرشادهم إلى طريق الحق والصواب، بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن لاستعدادهم لتقبل التوجيه، من منطلق الرأي الصائب، الذي يحدده الإسلام، ويحث عليه.
2 - الحرص على إيجاد القدوة الحسنة في المدرسة والبيت، والنادي والشارع وفي أسلوب التعامل، وعدم وجود المظاهر المنافية للإسلام، والتي قد تحدث لديهم شيئا من الشك والريبة أو التردد في القبول، أو اعتزال المجتمع، والشكوك فيه، بدعوى أنه مجتمع غير مطبق للإسلام يقول أبناؤه بخلاف ما يعملون.
وبهذا كله يحصل الانفصال، وتحدث التصرفات المتسرعة غير المنضبطة، والتي تكون نتائجها غير سليمة على الفرد والمجتمع، وعلى العمل الإسلامي. ولا تعود بالفائدة المرجوة على الشباب أنفسهم.
3 - عقد لقاءات مستمرة مع الشباب، يلتقي فيها ولاة الأمر والعلماء والمسئولون في البلاد الإسلامية بالشباب، تطرح(27/278)
فيها الآراء والأفكار، وتدرس المشكلات دراسة متأنية وتعالج فيها القضايا والمسائل التي تحتاج إلى جواب فاصل فيما عرض، حتى لا تتسرب الظنون الخاطئة وتتباعد الأفكار، وينحرف العمل الإسلامي الذي يتحمس له هؤلاء الشباب، لغير الدرب الحقيقي، والمنطلق الذي رسمته تعاليمه. وتتم هذه اللقاءات في جو من الانفتاح لإبداء الرأي المتسم بالأخوة والمحبة والثقة المتبادلة بعيدا عن التعصب للرأي، أو التسفيه للآراء، أو تجهيل الآخرين.
إن الشباب بتوجيههم ورعايتهم، مثل النبتة إذا أحسن الزارع رعايتها نمت وأثمرت، وإذا أهملت تعثر نموها وفقد الثمر منها مستقبلا. والشباب فيه طاقة حيوية، يحسن الاستفادة منها وتنميتها، وأسلم منهج في الحياة يربط الشباب بدينه وعلمائه وأمته وبلاده، هو منهج الإسلام. فكلما ابتعد الشباب عن منهج دينهم الواضح، وسلكوا طريق الغلو أو الجفاء، أو التشدد والانعزال فإن النتائج ستكون وخيمة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإن مسئولية ولاة الأمور: من قادة وعلماء ومفكرين، مسئولية عظيمة، في الأخذ بأيديهم ورعايتهم وتوجيههم نحو(27/279)
منهج الإسلام، وتوضيحه لهم، ليأخذوه، منهجا وسلوكا، وليسيروا وفق تعاليم شريعته، قدوة وتطبيقا.
وهذا من أوجب الأمور وأكمل العلاج، وهو من باب النصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم الذي به يكتمل الإيمان، كما أخبر الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -.
كما أن ترك الشباب عرضة للأفكار الهدامة، والتصورات الخاطئة وعدم الأخذ بيده، وتفهم آرائه وأفكاره، والإجابة عن كل تساؤلاته، وإيضاح الرأي الصحيح أمامه قد يفضي إلى ما لا تحمد عقباه. فالواجب الأخذ بيده ليتجنب كل ما يضر ويسلك ما ينفع، كما فعل سلفنا الصالح - رضوان الله عليهم - وفي عصور التاريخ المختلفة حيث لم يحدث ردود فعل ذات خطر على الفرد والجماعة.
فليتعاون ولاة الأمور كبارا وصغارا، علماء ومتعلمين، مفكرين ومسئولين، مع الشباب في البيوت والمدارس، وفي المجتمعات والجامعات، كل هؤلاء يتعاونون على إرشاد الشباب وتوجيهه، وتهيئة الأجواء السليمة له ليبدع فيها، في ظل العقيدة الإسلامية السمحة منهج الإسلام الحكيم.
والله نسأل أن يوفق أمة الإسلام شيبا وشبابا، قادة وشعوبا، إلى العمل بما يرضي الله توجيها وتبصيرا وعملا واقتداء، وأن يصلح(27/280)
القلوب والأعمال، وأن يهدي الجميع صراطه المستقيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(27/281)
25 - رسالة المسجد
س: رسالة المسجد ورسالة المنبر في الإسلام رسالة يكتب عنها كثير من الناس: البعض منهم يقول: لقد انحرف الناس بالمنبر عن رسالته، وآخرون يقولون: لقد حرمنا من أعز بقاع الأرض، وأطهرها بيوت الله فلا نستطيع الجلوس فيها ولا المذاكرة ولا الدراسة، وآخرون أيضا يقولون: لقد استخدمت المنابر لغير الدعوة إلى الله، فهي تدعو إلى يوم كذا، وحزب كذا وهلم جرا (1) .
ج: لا ريب أن المسجد والمنبر هما آلتان قديمتان في توجيه المسلمين خاصة والناس بصفة عامة إلى الخير وتعليم الناس ما ينفعهم، وتبليغ الناس رسالة ربهم سبحانه وتعالى، وقد بعث الله الرسل عليهم الصلاة والسلام يبلغون الناس رسالات الله،
__________
(1) من ضمن أسئلة طرحت على سماحته بعد إحدى المحاضرات ونشرت في هذا المجموع ج5 ص80 - 85.(27/281)
ويعلمونهم شريعة الله هكذا بعث الله الرسل من آدم عليه الصلاة والسلام ثم نوح ومن بعده من الرسل، كلهم بعثوا ليبلغوا رسالات الله من طريق المساجد والمنابر، سواء كانت المنابر في المسجد أو في غير المسجد، وسواء كان المنبر مبنيا، أو غير مبني.
فقد يكون المنبر ناقة، أو فرسا أو غير ذلك من الدواب التي تركب، وقد يكون المنبر محلا مرتفعا تبلغ منه رسالات الله.
فالمقصود أن الله جل وعلا شرع لعباده أن يبلغوا رسالات ربهم، وأن يعلموا الناس ما بعث الله به رسله من كل طريق، ولكن المنبر والمسجد هما أهم طريق في تبليغ الرسالة، ونشر الدعوة، تلك الرسالة العظيمة التي يجب على جميع العلماء ومعلمي الناس الخير أن يعنوا بها، وأن يعيدوها إلى حالتها الأولى، وأن يفقهوا الناس أمور دينهم من طريق المسجد؛ لأنه مجمع المسلمين في الجمع وغيرها.
كما إن عليهم بأن يبلغوا الناس ما يجب عليهم في أمور دينهم ودنياهم في الطرق الأخرى كطريق الإذاعة والتلفاز والصحافة، وطريق الخطابة في المجتمعات، وفي الحفلات المناسبة، ومن طريق التأليف، ومن كل طريق يمكن منه تبليغ شرع الله سبحانه ورسالته. .(27/282)
هكذا يجب على أتباع الرسل، وخلفائهم من أهل العلم والإيمان أن يبلغوا رسالات الله، وأن يعلموا الناس شريعة الله، حتى يتفقه الكبير والصغير، والرجل والمرأة والموافق والمخالف؛ وحتى تقوم الحجة وتنقطع المعذرة.
ولا يجوز لولاة الأمور ولا غيرهم أن يحولوا بين الناس وبين هذه المنابر، إلا من علم أنه يدعو إلى باطل، أو أنه ليس أهلا للدعوة، فإنه يمنع أينما كان.
أما من كان يدعو إلى الحق والهدى، وهو أهل لذلك. . فالواجب أن يشجع وأن يعان على مهمته. وأن تسهل له الوسائل التي يبلغ بها أمر الله وشرعه سبحانه وتعالى، كما قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وقال عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(27/283)
وعامتهم (1) » رواه مسلم. . والأدلة في هذا المعنى من الكتاب والسنة كثيرة.
وعلى جميع أهل العلم من حملة الكتاب والسنة في كل مكان أن يقوموا بواجب الدعوة والتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حسب الاستطاعة، لقول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2)
وعليهم أن يبلغوا رسالة الله أينما كانوا في المسجد وفي البيت وفي الطريق وفي السيارة وفي الطائرة وفي القطار وفي كل مكان، ليس للتبليغ محل مخصوص بل التبليغ مطلوب في كل مكان حسب الاستطاعة، لقول الله عز وجل: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (3)
وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (4) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية (5) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «نضر الله امرءا سمع
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب أن الدين النصيحة برقم 55.
(2) سورة التغابن الآية 16
(3) سورة النحل الآية 35
(4) سورة المائدة الآية 67
(5) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل برقم 3461.(27/284)
مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع (1) » . وكان إذا خطب عليه الصلاة والسلام يقول: «فليبلغ الشاهد الغائب (2) » ولما خطب الناس في عرفات في حجة الوداع في أعظم جمع، قال لهم في آخر خطبته وهو على راحلته: «فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع، وقال: وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكبها إلى الناس ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد (3) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
ولما بعث عليا إلى خيبر لدعوة اليهود وقتالهم إن لم يقبلوا الدعوة قال له: «ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع برقم 2658، والإمام أحمد في أول مسند المدنيين رضي الله عنه عنهم حديث جبير بن مطعم برقم 16312.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى برقم 1739، ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال برقم 1679.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم برقم 1281.(27/285)
يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (1) » متفق على صحته من حديث سهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (2) » . . والآيات والأحاديث في الدعوة إلى الله سبحانه وإرشاد الناس إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر كثيرة جدا.
فعلى جميع أهل العلم والإيمان من ولاة الأمر وغيرهم في جميع الدول الإسلامية وغيرها أن يبلغوا رسالة الله، وأن يعلموا الناس دينهم، وأن يتحروا الحكمة والرفق في ذلك، والأساليب المناسبة التي ترغب الناس في قبول الحق ولا تنفرهم منه، كما قال الله سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) الآية من سورة النحل، وقال سبحانه وبحمده: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (4) الآية من سورة العنكبوت، وقال عز وجل:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس برقم 2942، ومسلم في كتاب فضل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه برقم 2406.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله برقم 1893.
(3) سورة النحل الآية 125
(4) سورة العنكبوت الآية 46(27/286)
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) وقال سبحانه وتعالى مخاطبا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2)
وقال عز وجل لما بعث موسى وهارون إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (3) وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (4) » . . وقال عليه الصلاة والسلام: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (5) » . . والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على جميع المسلمين أن يتفقهوا في دينهم، وأن يسألوا أهل العلم عما أشكل عليهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (6) » متفق على صحته.
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) سورة طه الآية 44
(4) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، برقم 2594.
(5) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2592) ، سنن أبو داود الأدب (4809) ، سنن ابن ماجه الأدب (3687) ، مسند أحمد بن حنبل (4/366) .
(6) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين برقم 71.(27/287)
وعلى أهل العلم أن يفقهوا الناس ويعلموهم ويبلغوهم ما أعطاهم الله من العلم، وأن يسابقوا إلى هذا الخير، وأن يسارعوا إليه، وأن يتحملوا هذا الواجب بأمانة وإخلاص وصبر، حتى يبلغوا دين الله لعباد الله، وحتى يعلموا الناس ما أوجب الله عليهم وما حرم عليهم من طريق المساجد وحلقات العلم في المساجد وغيرها، وخطب الجمع والأعياد وغير ذلك من المناسبات؛ لأنه ليس كل أحد يستطيع أن يتعلم في المدارس والمعاهد والجامعات، وليس كل أحد يجد مدرسة تعلمه دين الله وشرعه المطهر، وتعلمه القرآن الكريم كما أنزل والسنة المطهرة كما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فوجب على أهل العلم والإيمان أن يبلغوا الناس من منابر الإذاعة، ومنابر التلفاز ومنابر الصحافة، ومنابر الجمعة، ومنابر العيد، وفي كل مكان، وبالدروس والحلقات العلمية في المساجد وفي غير المساجد.
فكل طالب علم من الله عليه بالفقه في الدين، وكل عالم فتح الله بصيرته عليه أن يستغل ما أعطاه الله من العلم، وأن يستغل كل فرصة تمكنه من الدعوة، حتى يبلغ أمر الله وحتى يعلم الناس شريعة الله، وحتى يأمرهم بالمعروف ويناهم عن المنكر،(27/288)
ويشرح لهم ما قد يخفى عليهم مما أوجبه الله عليهم أو حرمه عليهم.
هذا هو الواجب على جميع أهل العلم، فهم خلفاء الرسل، وهم ورثة الأنبياء، فعليهم أن يبلغوا رسالات الله، وعليهم أن يعلموا عباد الله شريعة الله، وعليهم أن ينصحوا لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأن يصبروا على ذلك، وعلى جميع ولاة الأمور أن يعينوهم ويشجعوهم ويقوموا بكل ما يسهل عليهم أداء هذا الواجب؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته (2) » متفق على صحته من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ويقول صلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (3) » خرجه
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغضب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه برقم 2442، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم برقم 2580.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر برقم 2699.(27/289)
الإمام مسلم في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. .
وأسأل الله عز وجل لنا ولجميع إخواننا المسلمين وللعلماء بوجه أخص ولطلاب العلم عامة - التوفيق والهداية والإعانة على أداء الحق، إنه جواد كريم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(27/290)
نصيحة لحكام المسلمين وعلمائهم
س: ما هي النصيحة الغالية لحكام وعلماء المسلمين وأنتم تمارسون الدعوة الإسلامية في أشرف أرض وفي أوسع نطاق؟ (1)
ج: نصيحتي لحكام المسلمين أن يتمسكوا بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يحكموها في الشعوب التي يتولون مسئوليتها تنفيذا لقوله تعالى:
__________
(1) إجابة على سؤال طرح على سماحته وأعيدت قرآته عليه بتاريخ 10 \ 9 \ 1411 هـ ونشرت في المجموع ج6 ص80.(27/290)
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (1) {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) وقوله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) والآيات القرآنية في ذلك كثيرة.
وبذلك تتحقق سعادة الشعوب الإسلامية وتستقر الأوضاع المتقلبة في العالم الإسلامي ويجد الحاكم والمحكوم بغيته من السعادة والطمأنينة والأمن ويفوز الجميع بالسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة.
أما نصيحتي لعلماء المسلمين فهي أن يبينوا للناس الحق بأقوالهم وأعمالهم، وأن يدعوا الناس إلى الله بإخلاص وشجاعة وأن لا يخافوا في ذلك لومة لائم؛ لأن عليهم مسئولية عظيمة، ولأنهم يعلمون ما لا يعلمه غيرهم.
أسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويجمع قلوب المسلمين قادة وشعوبا على ما يرضيه، وأن يعيذهم جميعا من شرور
__________
(1) سورة المائدة الآية 49
(2) سورة المائدة الآية 50
(3) سورة النساء الآية 65(27/291)
وسيئات أعمالهم وأن يهديهم صراطه المستقيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(27/292)
وصية لطلاب الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فالذي أوصي به أبنائي طلاب الجامعة الإسلامية هو تقوى الله سبحانه وتعالى في جميع الأحوال، والحرص على طلب العلم والعناية بالمقررات الدراسية والمذاكرة فيما بينهم فيما قد يخفى من مسائلها، والإصغاء للمدرسين والسؤال عن كل ما يشكل في الدرس بالأسلوب الحسن.
ومن أهم أسباب التحصيل: إصلاح النية وحفظ الوقت والعمل بما علم، وقد جاء في بعض الآثار: (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم) وشاهد هذا في كتاب الله سبحانه قوله(27/292)
تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (1) وقوله سبحانه: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} (2) ومن أهم الأسباب أيضا الاستقامة على تقوى الله والحذر من المعاصي، قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (4)
والمخرج من الجهل من أهم المخارج المطلوبة كما أن العلم من أفضل الرزق الذي ينتج عن التقوى، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} (5) الآية، وأحسن ما قيل في تفسيرالفرقان أنه ما يحصل للعبد من نور العلم الذي يفرق به بين الحق والباطل.
أما أثر المعاصي في الحرمان من العلم النافع فمعلوم بالنص والواقع كما قال الله سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (6) ولا ريب أن حرمان العلم
__________
(1) سورة محمد الآية 17
(2) سورة مريم الآية 76
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 3
(5) سورة الأنفال الآية 29
(6) سورة الشورى الآية 30(27/293)
النافع من أعظم المصائب، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه (1) » ولما جلس الشافعي بين يدي مالك رحمة الله عليهما قال مالك للشافعي: (إني أرى الله قد ألقى عليك من نوره فلا تطفئه بالمعاصي) أو كما قال رحمه الله.
وقال الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصي
وأسأل الله أن يمنحكم التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح، وأن ينفع بكم عباده إنه خير مسئول.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب العقوبات برقم 4022.(27/294)
لقاء مع مجلة تكبير الباكستانية (1)
هذا جواب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، على الأسئلة المقدمة من رئيس تحرير مجلة (تكبير) الباكستانية.
السؤال الأول: ما هي المقترحات لديكم لإنقاذ الأمة الإسلامية من الخلافات والعنصرية والتمذهب. وكيف يمكن أن توحد الأمة من جديد؟ .
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم. والحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله محمد وآله وأصحابه وبعد: فاقتراحي في هذا الموضوع المهم هو دعوة الأمم جميعا إلى توحيد الله والإخلاص له والتمسك بشريعته والحذر مما خالفها. وهذا هو الذي يجمع الأمة على الحق ويزيل الخلاف والتعصب للمذاهب. والمقصود دعوة المسلمين أن يستقيموا على دين الله، وأن يحافظوا على شريعته، وأن يتعاونوا على البر والتقوى، وبهذا تتحد
__________
(1) نشر في مجلة البحوث الإسلامية، العدد الثامن عشر لعام 1407 هـ، ونشر في مجموع فتاوى سماحته ج2 ص448.(27/295)
صفوفهم وتتوحد كلمتهم ويكونون جسدا واحدا وبناء واحدا ومعسكرا واحدا ضد أعدائهم. أما إذا تعصب كل واحد لمذهبه أو لشيخه أو لما يرى مما يخالف فيه سلف الأمة فإن هذا هو الذي يؤدي إلى الفرقة.
فالواجب على علماء الإسلام وعلى دعاة المسلمين وعلى ولاة الأمر أن يتكاتفوا جميعا لدعوة الناس جميعا إلى الحق والتمسك به والاستقامة عليه، وأن يكون هدف الجميع طاعة الله ورسوله والالتفاف حول كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والحذر مما يخالف ذلك. فهذا هو الطريق الأوحد لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفهم ونصرهم على عدوهم، والله ولي التوفيق.
السؤال الثاني: ما هي الإجراءات التي يجب أن تتخذ بخصوص غير المسلمين الموجودين في المجتمعات الإسلامية للمحافظة على الكيان الإسلامي والحضارة الإسلامية والأخلاق الإسلامية؟
الجواب: الطريق لهذا والسبيل إليه هو دعوة غير المسلمين إلى الخير والهدى، وأن يفسر لهم ما جاء به الرسول - صلى الله(27/296)
عليه وسلم - من الهدى ودين الحق بالأسلوب الذي يفهمونه وبيان محاسن الإسلام، لهم لعلهم يدخلون في دين الله، ولعلهم يخرجون من ظلمات الشرك والجهل والظلم إلى نور التوحيد والإيمان وعدالة الإسلام، فمن قبل الحق واستقام على دين الله فالحمد لله وإلا أمكن إبعاده إلى بلاد الكفرة إذا كان ليس من أهل الوطن.
وإن كان منهم أمكن أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل إن كان ليس من أهل الكتاب ولا من المجوس، وإن كان من المجوس أو من أهل الكتاب تؤخذ منهم الجزية ويبقى في صغار وذل حتى يدخل في دين الله ويسلم الناس من شره ويعرفونه.
هذا أسلم طريق للخلاص من شر الكفار المخالطين، مع العناية بدعوتهم إلى الله وتبصيرهم بدينه بالأساليب الحسنة وإيضاح محاسن الإسلام لهم، وإنصافهم وإعطائهم حقوقهم التي لهم على المسلمين لعلهم يقبلون الحق ويخرجون مما هم فيه من الباطل إلى دين الحق والهدى والسعادة.
هذا مع قدرة المسلمين، فإن عجز المسلمون عن هذا فعليهم أن يتقوا الله وأن يستقيموا ويتحرزوا من شر أعدائهم، وأن يجتهدوا في دعوتهم إلى الله وفي البعد عن الاختلاط بهم ومصادقتهم والأنس بهم والتشبه بأحوالهم، حتى يسلموا من(27/297)
مكائدهم وحتى لا يخدعوهم بما هم عليه من الباطل، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق. وهذا كله في غير الجزيرة العربية، أما في الجزيرة العربية فالواجب أن يمنعوا من دخولها، وأن لا يبقوا فيها؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بقائهم فيها وأمر أن لا يبقى فيها إلا الإسلام، وأن لا يجتمع فيها دينان وأمر بإخراج اليهود والنصارى وغيرهم من الجزيرة فلا يدخلوها إلا لحاجة عارضة ثم يخرجون، كما أذن عمر للتجار أن يدخلوا في مدد محددة ثم يرجعوا إلى بلادهم، وكما أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود على العمل في خيبر لما احتيح إليهم ثم أجلاهم عمر.
فالحاصل أن الجزيرة العربية لا يجوز أن يقر فيها دينان؛ لأنها معقل الإسلام ومنبع الإسلام فلا يجوز أن يقر فيها المشركون إلا بصفة مؤقتة لحاجة يراها ولي الأمر، كما فعل عمر في التجار، وكما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أهل خيبر حتى استغنى عنهم المسلمون فأجلاهم عمر - رضي الله عنه -.
ويجب على الرعية في الجزيرة العربية أن يساعدوا ولي الأمر، وأن يجتهدوا مع ولي الأمر في عدم جلب المشركين وعدم التعاقد معهم وعدم استعمالهم في أي عمل، وأن يستغنى عنهم(27/298)
بالعمال المسلمين فإن في ذلك كفاية وأن يختار من المسلمين من هم أولى في أخلاقهم ودينهم؛ لأن بعض المسلمين قد يكون مسلما بالاسم لا بالحقيقة، فينبغي للذي يستورد العمال أن ينظر وأن يتأمل العمال الطيبين من المسلمين دون غيرهم، والله المستعان.
السؤال الثالث: إن المسلمين القادمين إلى الحرمين الشريفين يشعرون بقلق واضطراب عندما يرون أن تدفق غير المسلمين إلى هذه البلاد في ازدياد مستمر، فهل أنتم نبهتم الحكومة على هذه الأخطار؟
الجواب: نعم قد شعر المسلمون بخطر من هؤلاء المشركين، وقد نبه ولي الأمر على أنه يجب تطهير الجزيرة من الكفرة والعناية بعدم دخولهم فيها وعدم إقامتهم فيها، وقد وافق ولي الأمر على التقليل منهم ووعد وفقه الله بالعناية التامة بهذا الشأن، وأن لا يستقدم إلا من تدعو الضرورة أو الحاجة الشديدة إليهم. فأسأل الله له التوفيق والإعانة على كل خير.
السؤال الرابع: ما هي المسئوليات التي تجب علينا نحو الجهاد الإسلامي في أفغانستان، وما هي الجهود التي قمتم بها في هذا الصدد حتى الآن؟ .(27/299)
الجواب: لا ريب أن الجهاد في أفغانستان جهاد إسلامي يجب أن يشجع ويدعم من المسلمين جميعا؛ لأنهم مسلمون يقاتلون عدوا شرسا خبيثا من أكفر الكفرة وأرذلهم، ومن أقواهم فيما يتعلق بالقدرة الحسية فليس هناك تكافؤ بين القوتين، ولكن نصر الله وتأييده لإخواننا المجاهدين،.
فالواجب على أهل الإسلام جميعا أن يساعدوهم وأن يعينوهم بالمال والنفس والرأي والشفاعة وكل ما يعد دعما لهم وإعانة، هذا هو الواجب على المسلمين جميعا، وقد قامت الدولة وفقها الله بتشجيع الشعب السعودي على مساعدتهم، وقد حصل من ذلك مساعدات كثيرة للمجاهدين عن طريق الشعب وغيره، ولا نزال مستمرين في هذا الأمر مع إخواننا في هذه المملكة والدولة وفقها الله تشجع الشعب على ذلك وتعين على إيصال هذه المساعدات إلى المجاهدين والمهاجرين؛ لأنهم بحاجة شديدة إلى ذلك. وهذا حق على الجميع.
نسأل الله أن يعيننا على الاستمرار وأن ينصر إخواننا وأن يعينهم على ما فيه نجاتهم وسعادتهم ونصرهم على عدوهم، وأن يذل أعداء الإسلام أينما كانوا، وأن يكبتهم وأن يعين عليهم، وأن يضاعف أجر كل من ساعدهم، إنه خير مسئول.(27/300)
السؤال الخامس: ما هي الطرق الناجحة لديكم للقيام بالدعوة إلى الله في هذا العصر؟ .
الجواب: أنجح الطرق في هذا العصر وأنفعها استعمال وسائل الإعلام؛ لأنها ناجحة وهي سلاح ذو حدين. فإذا استعملت هذه الوسائل في الدعوة إلى الله وإرشاد الناس إلى ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من طريق الإذاعة والصحافة والتلفاز فهذا شيء كبير ينفع الله به الأمة أينما كانت، وينفع الله به غير المسلمين أيضا حتى يفهموا الإسلام وحتى يعقلوه ويعرفوا محاسنه ويعرفوا أنه طريق النجاح في الدنيا والآخرة.
والواجب على الدعاة وعلى حكام المسلمين أن يساهموا في هذا بكل ما يستطيعون، من طريق الإذاعة، ومن طريق الصحافة، ومن طريق التلفاز ومن طريق الخطابة في المحافل، ومن طريق الخطابة في الجمعة وغير الجمعة، وغير ذلك من الطرق التي يمكن إيصال الحق بها إلى الناس وبجميع اللغات المستعملة حتى تصل الدعوة والنصيحة إلى جميع العالم بلغاتهم.
هذا هو الواجب على جميع القادرين من العلماء وحكام المسلمين والدعاة إلى الله عز وجل، حتى يصل البلاغ إلى كافة العالم في جميع أنحاء المعمورة باللغات التي يستعملها الناس. وهذا هو البلاغ الذي أمر الله به، قال الله(27/301)
سبحانه وتعالى لنبيه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (1) فالرسول - صلى الله عليه وسلم - عليه البلاغ وهكذا الرسل جميعا عليهم البلاغ - صلوات الله وسلامه عليهم -، وعلى أتباع الرسل أن يبلغوا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بلغوا عني ولو آية (2) » وكان إذا خطب الناس يقول: «فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع (3) » .
فعلى جميع الأمة حكاما وعلماء وتجارا وغيرهم أن يبلغوا عن الله وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - هذا الدين، وأن يشرحوه للناس بشتى اللغات الحية المستعملة بأساليب واضحة، وأن يشرحوا محاسن الإسلام وحكمه وفوائده وحقيقته حتى يعرفه أعداؤه وحتى يعرفه الجاهلون فيه، وحتى يعرفه الراغبون فيه، والله ولي التوفيق.
وختاما لهذا اللقاء فإني أنصح إخواني المسلمين في باكستان وفي بنجلاديش وفي كل مكان، أن يتقوا الله ويعملوا بشرعه وأن يعملوا بما أوجب الله عليهم، وأن يدعوا ما حرم الله
__________
(1) سورة المائدة الآية 67
(2) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل برقم 3461.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى برقم 67، ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال برقم 1679.(27/302)
عليهم أينما كانوا، وأن يحذروا الشرك بالله قليله وكثيره دقيقه وجليله وأن يخلصوا لله العبادة في جميع الأحوال، وأن يحذروا ما وقع فيه كثير من الناس من التعلق بالأموات والاستغاثة بهم، سواء كانوا من الأنبياء أو الأولياء أو غيرهم، كما أحذرهم من التعلق بالأشجار أو الأحجار أو الأصنام أو غيرها من الجمادات؛ لأن العبادة حق الله وحده ليس له فيها شريك، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) الآية. وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) ويقول سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (3)
فالواجب على جميع الثقلين أن يخصوا الله بالعبادة دون كل ما سواه، وأن يؤدوا حقه الذي فرض عليهم من الصلاة وغيرها، وأن يحذروا ما حرم الله عليهم، وأن يتواصوا بالحق والصبر عليه، وأن يتعاونوا على البر والتقوى أينما كانوا، وأن يتفقهوا في دين الله، وأن يجتهدوا في تلاوة القرآن الكريم والتدبر لمعانيه والتعقل والعمل بما فيه؛ لأنه كتاب الله فيه الهدى
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة الجن الآية 18(27/303)
والنور. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: «إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به: كتاب الله (1) » والله يقول: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (2) ويقول سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (3)
فالواجب على المسلمين جميعا أن يتعقلوه ويتدبروه ويعملوا به. وهكذا سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - يجب العناية بها وحفظ ما تيسر منها والعمل بها وتفسير ما أشكل من القرآن بالسنة الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنها الوحي الثاني والأصل الثاني من أصول الشريعة التي يجب أن يرجع إليها في كل ما أشكل من كتاب الله وفي كل ما أشكل من الأحكام.
هذه وصيتي لجميع المسلمين، وأن لا تشغلهم الدنيا وشهواتها عن آخرتهم، بل يجب عليهم أن يستعينوا بالدنيا على الآخرة، وأن يجعلوا الدنيا مطية للآخرة حتى ينجحوا ويربحوا ويفلحوا، والله ولي التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم برقم 1218.
(2) سورة الإسراء الآية 9
(3) سورة فصلت الآية 44(27/304)
حوار فيما يتعلق بالأمة الإسلامية
بعد حرب الخليج (1)
(في ظل الأحداث الجسام التي تمر بها أمتنا الإسلامية في الوقت الراهن، والتي تكاد تعصف بمقدراتها ومصالح شعوبها وتهدد دينها وعقيدتها في الصميم، وفي ظل التجارب المريرة التي خاضتها الأمة خلال القرن الحالي والتي أدت إلى تصدع البنيان وانهيار العديد من أركانه، ورغم ذلك فقد كان الأمل يحدونا مع تصاعد الصحوة الإسلامية في كافة أرجاء العالم الإسلامي، أن نفيق من سباتنا العميق، وأن ننفض عن كواهلنا غبار الزمن بكل ما يحمله من مخلفات تذكي عوامل الفرقة والشقاق، حتى جاء طاغية العراق ليقتل هذا الأمل في النفوس بعدوانه الغاشم على دولة الكويت ومحاولاته المستمرة لتوسيع وتذكية عوامل الشقة والخلاف بين أبناء الأمة ليعيدها بذلك سنوات عديدة للوراء. في ظل ذلك كله، وفي ظل التحديات العديدة التي تواجهها
__________
(1) نشر في جريدة عكاظ بعددها 909 الصادر في 3\9\1411 هـ ونشر في المجموع ج6 ص161.(27/305)
الأمة يكتسب الحديث مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإشاد أهمية بالغة لأنه يأتي معبرا عن رؤية واحد من أبرز علماء الأمة خلال القرن الحالي لواقعها، راصدا إياه ومحددا لأسباب وعوامل الضعف والانهيار الذي تعانيه، وواصفا العلاج الناجع للخلاص من تلك الأثقال والهموم التي تكبل مسيرة الأمة وتعيق انطلاقها وتقدمها، ولتسليط الضوء على كل هذه النقاط وغيرها مما يهم الأمة الإسلامية ويشغل أذهان المسلمين في الوقت الراهن، كان لعكاظ هذا الحوار الشامل مع سماحته:)
س1: من خلال اهتمام سماحتكم بالعمل الإسلامي والدعوة إلى الله. ما هي رؤيتكم لواقع الأمة الإسلامية؟ وما هو السبيل لانتشالها مما هي فيه من تشتت وانقسام؟
ج: لا ريب أنه لا سبيل إلى صلاح الأمة ونجاتها وجمع كلمتها إلا باتحادها على كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، والتعاون في ذلك، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) وقال سبحانه:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103(27/306)
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1)
وفي أحداث الخليج عظة وذكرى لكل مسلم، فالواجب على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يتواصوا بالحق والصبر عليه، وأن يعتصموا بكتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام في جميع الأمور، فهذا هو طريق النجاة وطريق السعادة وطريق العزة والكرامة والنصر على الأعداء. ففى هذا الطريق وهذا السبيل كل خير في الدنيا والآخرة.
نسأل الله أن يوفق المسلمين لما فيه رضاه وأن يجمع كلمتهم على الهدى.
س2: البعض يلقي اللوم على المنظمات الإسلامية والعربية بعدم قيامها بما هو مطلوب منها، فكيف يمكن لها أن تقوم بدورها في خدمة الإسلام والمسلمين؟
لا ريب أن المنظمات الإسلامية مسئولة عن واجبها نحو الدعوة إلى الله سبحانه ونحو جمع كلمة المسلمين.
فالواجب على كل منظمة أن تبذل وسعها بالدعوة إلى الله وتوجيه الناس إلى
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(27/307)
الخير، وإرسال الدعاة إلى المناطق التي تستطيع إرسالهم إليها للدعوة إلى الله حسب طاقتها، فكل منظمة عليها واجبها بقدر طاقتها؛ لأن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) ، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) فعليها أن تدعو إلى الله عن طريق الكتاب والسنة؟ كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (3) ويقول سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (4) فعلى كل طالب علم وكل عالم أن يدعو إلى الله حسب طاقته على الطريقة التي رسمها الله لعباده بقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (5)
والحكمة معناها: العلم بما قال الله وقال رسوله، والموعظة الحسنة المقصود بها الترغيب والترهيب والتوجيه إلى الخير وذكر ما
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) سورة يوسف الآية 108
(4) سورة فصلت الآية 33
(5) سورة النحل الآية 125(27/308)
للمتقي من الخير والعاقبة الحميدة، وما للكافر والعاصي من العاقبة الوخيمة، أما الجدال فهو الجدال بالأدلة الشرعية بالأسلوب الحسن دون عنف ولا شدة، بل بالأدلة الشرعية والبيان الواضح اللين حتى تزول الشبهة إن كان عند المجادلة شبهة، وإذا قامت المنظمة بهذا الواجب فهي على خير عظيم، ومن هداه الله على يد منظمة أو على يد أي إنسان كان له مثل أجره؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (1) » . .
س3: ما هي الدروس المستفادة من حرب الخليج لصالح الأمة الإسلامية؟
ج: حرب الخليج فيها عظات وذكرى لمن تعقلها: فإنها قسمت العرب وغير العرب ما بين ناصر للحق وداع للحق، وما بين ناصر للظلم وداع لمناصرة الظلم، وقد أبان الله جل وعلا الطريق السوي لعباده، وأن الطريق السوي هو سلوك الصراط المستقيم الذي بعث الله به نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - حيث قال جل وعلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} (2)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله برقم 1893.
(2) سورة الأنعام الآية 153(27/309)
وهي الطرق المخالفة للشرع {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1) أي تحيد بكم عن سبيله إلى سبيل أخرى، وهي سبيل الشيطان.
وقد ظهر من هذه الحوادث ما يبين للعاقل وجوب نصر المظلوم وردع الظالم والاستقامة على الحق، وهذا هو الواجب على كل مسلم وعلى كل عاقل، حتى ولو كان غير مسلم، فعلى كل عاقل وعلى كل ذي إنصاف أن ينصر الحق وأن يرد الظلم وأن ينصر المظلوم، هذا هو الواجب على كل إنسان، سواء كان مسلما أو غير مسلم، ولكن الواجب على المسلم أكبر وأعظم.
لأن الله أوجب عليه ذلك بأن ينصر المظلوم وأن يردع الظالم حسب طاقته، وأن يكون في صف الحق لا في صف الباطل، هذا هو الواجب على بني الإسلام وعلى كل ذي عقل سليم، وفي هذا الصدد يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قيل: يا رسول الله نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه (2) » فالظالم منعه
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) أخرجه البخاري في كتاب الإكراه، باب يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه برقم 6952.(27/310)
من الظلم وتوبيخه على الظلم، هذا نصره، والمظلوم يعان على رد الظالم وعلى تسليم حقه ورده إليه، وإذا كان الظالم كافرا كان ردعه أوجب كأمثال صدام وأشباهه. .
س4: لا شك أن حرب الخليج أحدثت تصدعا في صفوف المسلمين كيف ترون سماحتكم الحل المناسب للتوفيق بينهم؟
ج: التصدع له دواء، فكل داء له دواء، ودواء التصدع هو الرجوع إلى الله والتوبة إليه والالتزام بالحق من جميع الدول ومن جميع المسئولين، فعلى كل واحد أن يتوب إلى الله من خطئه ومن غلطه، ويرجع إلى الصواب ويطلب من أخيه المسامحة عما جرى منه على أخيه من الخطأ، والله جل وعلا يتوب على التائبين، يقول سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (2) والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (3) » .
فعلى الدول الإسلامية والعربية
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة التحريم الآية 8
(3) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر التوبة برقم 4250.(27/311)
جميعا التعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه، والرجوع عن الباطل والتوبة إلى الله منه واستسماح أخيه الذي ظلمه وتعدى عليه يستسمحه فيقول: يا أخي سامحني، جرى مني كذا وأخطأت في كذا، وأنا أطلب المسامحة والعذر.
والتواصي بالحق مطلوب، والتسامح مطلوب، فالتواصي بالحق يتطلب أن يوصي كل واحد أخاه بالحق، والتسامح يعني أن يطلب كل واحد من أخيه أن يسمح عما جرى من التقصير بحقه، وإذا تسامحوا وتصالحوا وتبرأ الظالم من خطئه وزلته وتاب إلى الله من ذلك حصل المطلوب وزال المحظور.
س5: لا شك أن أعداء الأمة الإسلامية يتحينون الفرصة المناسبة للقضاء عليها فما هي السبل لمنع وقوع ذلك؟
ج: الواجب على الدول الإسلامية أن تستعد لأعداء الله وتحذر مكائدهم، وأن تستقيم على دين الله، وأن تلزم الحق وأن تعد العدة دائما، لا تغفل ولا تأمن مكر العدو، يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (1) ويقول جل وعلا:
__________
(1) سورة النساء الآية 71(27/312)
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} (1)
فالواجب على كل دولة إسلامية عربية أو غير عربية أن تعد العدة وأن تستقيم على دين الله وعلى شريعته، وأعظم العدة الاستقامة على الحق والثبات عليه وطاعة الله ورسوله في كل شيء وتحكيم شريعته، هذه هي العدة، ثم العدة الحسية من الجيش الطيب والسلاح المناسب في الوقت الحاضر حسب طاقتهم، فالله أمرهم بما يستطيعون، حيث يقول تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (2) فكل دولة تجتهد في اقتناء السلاح المناسب في الوقت الحاضر، والحرص على صنعته إذا أمكن أو شرائه، والحرص على إيجاد الجندي الطيب المسلم في وقت الرخاء، حتى إذا جاءت الشدائد تكون عندها القوة الكافية، وهذا واجب الجميع، وأعظم شيء وأهمه إصلاح النفوس بتقوى الله، والاستقامة على دينه، وترك معصيته سبحانه وتعالى، والإخلاص لله بالعبادة، والنهي عن الشرك بالله، ومن ذلك التعلق بالأموات والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك، فهذا من الشرك بالله، فالتعلق بالأموات وسؤالهم النصر
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60
(2) سورة الأنفال الآية 60(27/313)
على الأعداء أو شفاء المرضى يعتبر من الشرك الأكبر.
فالواجب على كل دولة أن تعتني بهذا الأمر، وأن توجه رعيتها إلى توحيد الله والإخلاص له وترك الشرك به جل وعلا، وأن يستقيم الجميع على دين الله، وأن يحذروا معصيته سبحانه وتعالى، وأن يرجعوا إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في كل شيء، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) أوجب سبحانه على المؤمنين عند التنارع رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله أي إلى الكتاب العزيز وهو القرآن وإلى سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فما دل عليه الكتاب والسنة الصحيحة وجب الأخذ به.
وقال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) وأوجب عليهم طاعة ولي الأمر يعني في المعروف لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الطاعة في المعروف (3) » فيجب على الدول فيما - صلى الله عليه وسلم - إذا تنازعت أن ترد
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية برقم 7145، ومسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية برقم 1840.(27/314)
نزاعها إلى الله ورسوله وحكم الشرع، وعليها في نفسها أن تستقيم على دين الله وأن توجه جيشها وشعبها إلى الاستقامة على دين الله، وهذا هو طريق النصر وطريق السعادة وطريق العزة والكرامة وطريق الحماية من الأعداء أينما كانوا، وكيفما كانوا.
نسأل الله لجميع المسلمين التوفيق والهداية، ونسأل الله لولاة الأمور أن يصلحهم، وأن يعينهم على كل خير، وأن يمنحهم الفقه في الدين والثبات عليه.
س6: هناك من يسعى لاستغلال الدين لتحقيق مآربه الخاصة خلال أحداث الخليج. فما هي كلمة سماحتكم في ذلك؟
ج: الواجب على كل مسلم أن يتقي الله وأن يخلص لله، وأن لا يعمل عمل المنافق، فيستغل الدين لأهوائه، فالمنافق هكذا عمله، يرجع إلى الدين عند حاجته إليه نفاقا، فهذا منكر لا يجوز، والمنافقون شر من الكفار، ولذا قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (1) فالواجب الالتزام بالدين من أجل الدين ومن أجل طاعة الله ورسوله لا من أجل أغراض
__________
(1) سورة النساء الآية 145(27/315)
دنيوية، فالمنافق من شأنه الالتزام بالدين وإظهاره لمصلحته الدنيوية وحاجته، وإذا خلا رجع إلى الكفر بالله والضلال وإلى مناصرة الكفار، وإذا انتهت حاجته رفض الدين، فهذا ليس من الدين في شيء؛ لأنه منافق، والمنافق شر من الكافر والعياذ بالله، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (1)
ومن صفاتهم ما ذكر الله في كتابه العظيم في قوله سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (2) {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (3) فالمذبذب هو الحائر، مرة مع المسلمين ومرة مع الكفار، فهذا المذبذب يكون مع الكفار إذا نصروا ورأى عندهم الفائدة، وتارة مع المسلمين إذا نصروا وصار عندهم الفائدة.
إذا هو مذبذب، ليس عنده ثبات وليس عنده بصيرة، بل هو مع من نصر ومع من رأى فيه المصلحة، فإن رأى المصلحة مع الكفار صار معهم، وإن رأى المصلحة مع المسلمين صار مع المسلمين، ليس عنده هدف صالح وليس عنده عقيدة ثابتة، هذه حال المنافقين نسأل الله العافية. .
__________
(1) سورة النساء الآية 145
(2) سورة النساء الآية 142
(3) سورة النساء الآية 143(27/316)
س7: هل من كلمة توجيهية لأبناء الشعب الكويتي بعد تحرير بلادهم من يد طاغية العراق؟
ج: وصيتي للشعب الكويتي ولكل مسلم تقوى الله سبحانه وتعالى، هذه وصيتي للكويتي وللسعودي ولكل مسلم في الخليج والمسلمين جميعا، فأوصي الجميع بتقوى الله جل وعلا، وأن يستقيموا على دينه، وأن يشكروا الله على نعمة النصر ونعمة العافية ونعمة ردع الظالم.
والشكر لله يكون بالطاعة لله ولرسوله والاستقامة على دين الله والمحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها وفي أداء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن لم يحج مرة واحدة في العمر، وكذلك طاعة الله ورسوله في كل شيء من بر الوالدين وصلة الرحم والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير هذا من وجوه الخير، مع ترك المعاصي كلها، هذا كله من شكر الله، فوصيتي للجميع أن يشكروا الله بفعل ما أمر وترك ما نهى عنه والصبر عليه، كما قال سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3)
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3(27/317)
ويقول سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وهذا واجب الجميع أن يتعاونوا على البر والتقوى والتناصح في الله وترك معصيته وألا يتعاونوا على الإثم والعدوان من الشرك وشرب الخمر والزنا والمقامرة وغير ذلك مما نهى الله عنه ورسوله، وعليهم بأن يتواصوا بالحق والصبر عليه، وأن يتناهوا عن الإثم والعدوان بأن ينهى كل واحد أخاه عن المنكر ويأمره بالخير، هذا كله من شكر الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) هذه أوصاف المؤمنين وهذه أخلاقهم، وعدهم الله عليها الرحمة بالنصر في الدنيا والسعادة والنجاة في الآخرة.
نسأل الله للجميع التوفيق والاستقامة والهداية.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة التوبة الآية 71(27/318)
س8: ختاما ما هي كلمتكم لأسر الشهداء؟
ج: أسأل الله أن يجبر مصيبتهم، وأن يحسن عزاءهم، وأن يعوضهم خيرا مما فاتهم في الدنيا والآخرة، وأن يغفر للشهداء، وأن يتجاوز عن سيئاتهم ويدخلهم الجنة وينجيهم من النار، والشهداء يرجى لهم الخير العظيم، فنوصي أسرهم بالدعاء لهم والرحمة وعلو المنزلة في الجنة، ونوصي أسرهم أيضا بالصبر والاحتساب؛ لأن الشهادة في سبيل الله نعمة عظيمة، فعلى الأسر أن يصبروا ويحتسبوا والله يعوضهم خيرا ويجبر مصيبتهم سبحانه وتعالى متى صبروا واحتسبوا.
رزق الله الجميع التوفيق لما يرضيه.(27/319)
30 - الواجب على أهل العلم والإيمان أن ينشروا أسماء الله وصفاته
س1: هناك طائفة من المنتسبين للدعوة الإسلامية يرون عدم التحدث عن توحيد الأسماء والصفات بحجة أنه يسبب فرقة بين المسلمين ويشغلهم عن واجبهم وهو الجهاد الإسلامي، ما مدى صحة تلك النظرة؟(27/319)
ج: هذه النظرة خاطئة، فقد أوضح الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أسماءه وصفاته ونوه بذلك ليعلمها المؤمنون ويسموه بها ويصفوه بها ويثنوا عليه بها سبحانه وتعالى. قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبه وفي أحاديثه مع أصحابه بذكره لأسماء الله وصفاته وثنائه على الله بها وحثه على ذلك عليه الصلاة والسلام.
فالواجب على أهل العلم والإيمان أن ينشروا أسماءه وصفاته وأن يذكروها في خطبهم ومؤلفاتهم ووعظهم وتذكيرهم؛ لأن الله سبحانه بها يعرف وبها يعبد، فلا تجوز الغفلة عنها ولا الإعراض عن ذكرها بحجة أن بعض العامة قد يلتبس عليه الأمر أو لأن بعض أهل البدع قد يشوش على العامة في ذلك، بل يجب كشف هذه الشبهة وإبطالها وبيان أن الواجب إثبات أسماء الله وصفاته على الوجه اللائق بالله جل وعلا من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل حتى يعلم الجاهل الحكم في ذلك وحتى يقف المبتدع عند حده وتقام عليه الحجة.
وقد بين أهل السنة والجماعة في كتبهم أن الواجب على المسلمين ولا سيما أهل العلم إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت، وعدم تأويلها وعدم تكييف صفات الله عز وجل بل(27/320)
يجب أن تمر كما جاءت مع الإيمان بأنها حق وأنها صفات لله وأسماء له سبحانه وأن معانيها حق موصوف بها ربنا عز وجل على الوجه اللائق به كالرحمن والرحيم والعزيز والحكيم والقدير والسميع والبصير إلى غير ذلك.
فيجب أن تمر كما جاءت مع الإيمان بها واعتقاد أنه سبحانه لا مثيل له ولا شبيه له ولا كفو له سبحانه وتعالى ولكن لا نكيفها؛ لأنه لا يعلم كيفية صفاته إلا هو، فكما أنه سبحانه له ذات لا تشبه الذوات ولا يجوز تكييفها فكذلك له صفات لا تشبه الصفات ولا يجوز تكييفها. فالقول في الصفات كالقول في الذات يحتذى حذوه ويقاس عليه، هكذا قال أهل السنة جميعا من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم رضي الله عنهم جميعا، قال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (5) وقال عز وجل: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (6) وقال
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2
(3) سورة الإخلاص الآية 3
(4) سورة الإخلاص الآية 4
(5) سورة الشورى الآية 11
(6) سورة النحل الآية 74(27/321)
سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) الآية، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
س2: ما هو تقويمكم لمدى انتشار مذهب أهل السنة والجماعة في صفوف المسلمين في جميع أنحاء العالم؟ .
ج: الذي بلغني من طرق كثيرة أن الحركة الإسلامية بحمد الله قوية وواسعة في جميع أنحاء المعمورة، وأن الداخلين في الإسلام في أول هذا القرن وفي آخر القرن الرابع عشر الماضي كثيرون وذلك يبشر بخير والحمد لله.
وقد علمت من طرق كثيرة أن نشاط الدعاة إلى الله عز وجل قد أثمر ثمارا كثيرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا وأوربا وأستراليا، وهذا يبشر بخير والحمد لله، ويوجب مضاعفة الجهود من جميع الدعاة كما يوجب حسن الظن بالله وسؤاله سبحانه العون والتوفيق حتى تكون الفائدة أكثر والعاقبة أحسن.
س3: هل يشرع للمجاهد تأخير البيان عن وقت الحاجة عندما يرى بعض المجاهدين يخالفون بعض أنواع التوحيد؟ .
ج: القاعدة الكلية: أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180(27/322)
الحاجة، فإذا وجد من يجهل الحق وجب أن يعلم ممن يعلم الحق ولا يجوز تأخيره من أجل مراعاة خاطر فلان.
فإذا سمع المؤمن من يشرك بالله أو رأى بدعة تخالف شرع الله أو معصية ظاهرة وجب الإنكار على أهل البدع والمعاصي بالأسلوب الحسن ووجب بيان الحق المتعلق بتوحيد الله أو بإنكار البدعة أو بإنكار المعصية بالأسلوب الذي يرجو فيه النفع مع مراعاة الرفق والحكمة في ذلك كله.
أما السنن فأمرها أوسع، ولو ترك التنبيه على بعضها إذا كان في ذلك مصلحة شرعية فلا بأس، كالجهر بالتأمين ورفع اليدين في الصلاة وما أشبه ذلك من السنن إذا كان تأخير الكلام عنها إلى وقت آخر أو إلى اجتماع آخر يراه أصلح فالأمر أوسع في ذلك؛ لأنها سنن وليست من الفرائض.
س4: كثير من الخلاف الذي ينشأ بين العاملين في حقل الدعوة إلى الله والذي يسبب الفشل وذهاب الريح - كثير منه ناشئ بسبب الجهل بأدب الخلاف. فهل لكم من كلمة توجيهية في هذا الموضوع؟ .
ج: نعم، الذي أوصي به جميع إخواني من أهل العلم(27/323)
والدعوة إلى الله عز وجل هو تحري الأسلوب الحسن والرفق في الدعوة وفي مسائل الخلاف عند المناظرة والمذاكرة في ذلك وأن لا تحمله الغيرة والحدة على أن يقول ما لا ينبغي أن يقول مما يسبب الفرقة والاختلاف والتباغض والتباعد، بل على الداعي إلى الله والمعلم والمرشد أن يتحرى الأساليب النافعة والرفق في كلمته حتى تقبل كلمته وحتى لا تتباعد القلوب عنه، كما قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (1)
وقال سبحانه لموسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (2) والله يقول سبحانه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) ويقول سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (4) الآية.
ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2) سورة طه الآية 44
(3) سورة النحل الآية 125
(4) سورة العنكبوت الآية 46(27/324)
شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (1) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (2) » .
فعلى الداعي إلى الله والمعلم أن يتحرى الأساليب المفيدة النافعة وأن يحذر الشدة والعنف؛ لأن ذلك قد يفضي إلى رد الحق وإلى شدة الخلاف والفرقة بين الإخوان، والمقصود هو بيان الحق والحرص على قبوله والاستفادة من الدعوة، وليس المقصود إظهار علمك أو إظهار أنك تدعو إلى الله أو أنك تغار لدين الله، فالله يعلم السر وأخفى، وإنما المقصود أن تبلغ دعوة الله وأن ينتفع الناس بكلمتك. فعليك بأسباب قبولها وعليك الحذر من أسباب ردها وعدم قبولها.
س5: من خلال معرفة سماحتكم بتاريخ الرافضة، ما هو موقفكم من مبدأ التقريب بين أهل السنة وبينهم؟ .
ج: التقريب بين الرافضة وبين أهل السنة غير ممكن؛ لأن العقيدة مختلفة، فعقيدة أهل السنة والجماعة توحيد الله وإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى، وأنه لا يدعى معه أحد لا ملك مقرب
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، برقم 2594.
(2) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب فضل الرفق برقم 2592، وأبو داود في كتاب الأدب، باب الرفق برقم 4809.(27/325)
ولا نبي مرسل، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم الغيب، ومن عقيدة أهل السنة محبة الصحابة رضي الله عنهم جميعا والترضي عنهم والإيمان بأنهم أفضل خلق الله بعد الأنبياء وأن أفضلهم أبو بكر الصديق، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، رضي الله عن الجميع، والرافضة خلاف ذلك فلا يمكن الجمع بينهما، كما أنه لا يمكن الجمع بين اليهود والنصارى والوثنيين وأهل السنة، فكذلك لا يمكن التقريب بين الرافضة وبين أهل السنة لاختلاف العقيدة التي أوضحناها.
س6: وهل يمكن التعامل معهم لضرب العدو الخارجي كالشيوعية وغيرها؟ .
ج: لا أرى ذلك ممكنا، بل يجب على أهل السنة أن يتحدوا وأن يكونوا أمة واحدة وجسدا واحدا وأن يدعوا الرافضة أن يلتزموا بما دل عليه كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم من الحق، فإذا التزموا بذلك صاروا إخواننا وعلينا أن نتعاون معهم، أما ما داموا مصرين على ما هم عليه من بغض الصحابة وسب الصحابة إلا نفرا قليلا وسب الصديق وعمر وعبادة أهل البيت كعلي - رضي الله عنه - وفاطمة والحسن والحسين، واعتقادهم في الأئمة الاثنى عشرة أنهم معصومون وأنهم(27/326)
يعلمون الغيب؛ كل هذا من أبطل الباطل وكل هذا يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة.
س7: ما هو موقف المسلم من الخلافات المذهبية المنتشرة بين الأحزاب والجماعات؟ .
ج: الواجب عليه أن يلزم الحق الذي يدل عليه كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يوالي على ذلك ويعادي على ذلك، وكل حزب أو مذهب يخالف الحق يجب عليه البراءة منه وعدم الموافقة عليه.
فدين الله واحد، وهو الصراط المستقيم وهو عبادة الله وحده واتباع رسوله محمد عليه الصلاة والسلام.
فالواجب على كل مسلم أن يلزم هذا الحق وأن يستقيم عليه؛ وهو طاعة الله واتباع شريعته التي جاء بها نبيه محمد عليه الصلاة والسلام مع الإخلاص لله في ذلك وعدم صرف شيء من العبادة لغيره سبحانه وتعالى، فكل مذهب يخالف ذلك وكل حزب لا يدين بهذه العقيدة يجب أن يبتعد عنه وأن يتبرأ منه وأن يدعو أهله إلى الحق بالأدلة الشرعية مع الرفق وتحري الأسلوب المفيد ويبصرهم بالحق.(27/327)
22 س8: ما حكم من يعيش في الدول الشيوعية؟ .
ج: هذا فيه تفصيل؛ فإن كانت إقامتهم بين الشيوعيين لعجزهم عن الهجرة فهم معذورون؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (2) {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (3)
وعليهم أن يبادروا بالهجرة من حين يقدرون عليها إلى بلاد يظهرون فيها دينهم ويأمنون فيها على أنفسهم. أما إذا قدر أحد على الهجرة وتساهل فهو آثم، وهو على خطر عظيم؛ لأن الهجرة واجبة بإجماع المسلمين مع الاستطاعة، كما نص على ذلك غير واحد من أهل العلم، منهم الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسير الآيات المذكورة، فقد أوضح رحمه الله أن الهجرة واجبة مع القدرة من كل بلد يظهر فيها الكفر، ولا يستطيع المسلم إظهار دينه فيها.
__________
(1) سورة النساء الآية 97
(2) سورة النساء الآية 98
(3) سورة النساء الآية 99(27/328)
س9: يلحظ فضيلتكم وكل أحد، انتشار الصحوة الإسلامية لدى المسلمين وفي صفوف الشباب خاصة. فما رأي فضيلتكم في ترشيد هذه الصحوة، وما هي المحاذير التي تخافونها على هذه الصحوة؟
ج: تقدم في جواب بعض الأسئلة أن الحركة الإسلامية التي نشطت في أول هذا القرن وفي آخر القرن السابق أنها تبشر بخير وأنها بحمد الله حركة منتشرة في أرجاء المعمورة وأنها - في مزيد وتقدم.
وأن الواجب على المسلمين دعمها ومساندتها والتعاون مع القائمين بها ولا شك أن القائمين بها يجب أن يدعموا ويساعدوا وأن يحذروا من الزيادة والنقص، فإن كل دعوة إسلامية وكل عمل إسلامي، للشيطان فيه نزغتان؛ إما إلى جفا وإما إلى غلو.
فعلى أهل العلم والبصيرة أن يدعموا هذه الدعوة وأن يوجهوا القائمين بها إلى الاعتدال والحذر من الزيادة حتى لا يقعوا في البدعة والغلو، والحذر من النقص، وحتى لا يقعوا في الجفا والتأخر عن حق الله، وأن تكون دعوتهم وحركتهم إسلامية مستقيمة على دين الله، ملتزمة بالصراط المستقيم الذي هو(27/329)
الإخلاص لله والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم من غير غلو ولا جفا، وبذلك تستقيم هذه الحركة وتؤدي ثمارها على خير وجه. وعلى قادتها بوجه أخص أن يهتموا بهذا الأمر وأن يعتنوا به غاية العناية حتى لا تزل الأقدام إلى جفا أو غلو. والله ولي التوفيق.
س10: تسمعون عن جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة، فما هي انطباعاتكم نحوها؟ .
ج10: الذي بلغنا عنها هو الخير والاستقامة وأن دعوتها بحمد الله مؤثرة ونافعة ومفيدة، وأنها تسير على منهح السلف الصالح فنسأل الله لها وللقائمين عليها المزيد من الخير.
س11: أثبتت مجلة " المجاهد " بعدم إخراجها للصور الفوتوغرافية وغيرها من الأنواع المحرمة - أنه يمكن الإخراج المتميز بدون اللجوء إلى هذه الأمور المحرمة هل لكل من كلمة تحثون فيها المجلات الإسلامية كي تحذو حذوها في هذا الأمر؟ .
ج: لا ريب أن إخراج المجلات والصحف اليومية(27/330)
وغيرها بدون تصوير هو الواجب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن المصورين وأخبر أنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة، وهذا يعم التصوير الشمسي والتصوير الذي له ظل، ومن فرق فليس عنده دليل على التفرقة. وإذا كان التصوير للنساء صار الأمر أشد حرمة وأسوأ عاقبة وأكثر فسادا، فالواجب منع الجميع، والذي يجب على محرري الصحف والمجلات هو تقوى الله سبحانه وتعالى، والتقيد بشرعه والحذر مما يخالف أمره والحرص على الوقوف عند حدوده.
س12: ختاما هل من كلمة توجهونها لأسرة مجلة " المجاهد "؟
ج: نعم، نوصي القائمين عليها بالاستمرار في إصدارها والعناية بنشر المقالات المفيدة للمسلمين عموما وللمجاهدين خصوصا، وبيان الحق في مسائل الخلاف التي تنتشر بين المجاهدين بأدلته الشرعية حتى يزول الخلاف ويلتزم الجميع بالحق، وذلك بمراسلة علماء السنة في ذلك ونشر أجوبتهم. وأن يلتزموا بعدم نشر الصور عملا بالأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك، كما قد سارت مشكورة على ذلك في أعدادها السابقة.(27/331)
وأسأل الله لجميع القائمين عليها وعلى رأسهم أخونا المجاهد صاحب الفضيلة الشيخ جميل الرحمن كل توفيق وتسديد إنه سميع قريب وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(27/332)
كيف نحارب الغزو الثقافي الغربي والشرقي
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.
وبعد (1) : فمما لا شك فيه أن أخطر ما تواجهه المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر هو ما يسمى بالغزو الثقافي بأسلحته المتنوعة من كتب وإذاعات وصحف ومجلات وغير ذلك من الأسلحة الأخرى، ذلك أن الاستعمار في العصر الحديث قد غير من أساليبه القديمة لما أدركه من فشلها وعدم فعاليتها، ومحاربة الشعوب واستماتتها في الدفاع عن دينها وأوطانها ومقدراتها وتراثها حيث إن الأخذ بالقوة، وعن طريق العنف
__________
(1) نشرت في مجلة البحوث الإسلامية العدد السابع عشر عام 1406 \ 1407 هـ ص7، وفي المجموع ج1 ص385 - 390.(27/332)
والإرهاب مما تأباه الطباع، وتنفر منه النفوس لا سيما في الأوقات الحاضرة بعد أن انتشر الوعي بين الناس، واتصل الناس بعضهم ببعض وأصبح هناك منظمات وهيئات كثيرة تدافع عن حقوق الشعوب، وترفض الاستعمار عن طريق القوة، وتطالب بحق تقرير المصير لكل شعب، وأن لأهل كل قطر حقهم الطبيعي في سيادتهم على أرضهم واستثمار مواردهم وتسيير دفة الحكم في أوطانهم حسب ميولهم ورغباتهم في الحياة، وحسب ما تدين به تلك الشعوب من معتقدات ومذاهب وأساليب مختلفة للحكم مما اضطر معه إلى الخروج عن هذه الأقطار بعد قتال عنيف، وصدامات مسلحة وحروب كثيرة دامية.
ولكنه قبل أن يخرج من هذه الأقطار فكر في عدة وسائل، واتخذ كثيرا من المخططات بعد دراسة واعية وتفكير طويل وتصور كامل لأبعاد هذه المخططات، ومدى فعاليتها وتأثيرها، والطرق التي ينبغي أن تتخذ للوصول إلى الغاية التي يريد، وأهدافه تتلخص في إيجاد مناهج دراسية على صلة ضعيفة بالدين، مبالغة في الدهاء والمكر والتلبيس، ركز فيها على خدمة أهدافه ونشر ثقافته وترسيخ الإعجاب بما حققه في مجال الصناعات المختلفة، والمكاسب المادية في نفوس أغلب الناس حتى إذا ما تشربت بها(27/333)
قلوبهم، وأعجبوا بمظاهر بريقها ولمعانها، وعظيم ما حققته وأنجزته من المكاسب الدنيوية والاختراعات العجيبة، لا سيما في صفوف الطلاب والمتعلمين الذين لا يزالون في سن المراهقة والشباب - اختارت جماعة منهم ممن انطلى عليهم سحر هذه الحضارة؛ لإكمال تعليمهم في الخارج في الجامعات الأوربية والأمريكية وغيرها حيث يواجهون هناك بسلسلة من الشبهات والشهوات على أيدي المستشرقين والملحدين بشكل منظم، وخطط مدروسة، وأساليب ملتوية، في غاية المكر والدهاء، وحيث يواجهون الحياة الغربية بما فيها من تفسخ وتبذل وخلاعة وتفكك ومجون وإباحية.
وهذه الأسلحة وما يصاحبها من إغراء وتشجيع، وعدم وازع من دين أو سلطة، قل من ينجو من شباكها ويسلم من شرورها، وهؤلاء بعد إكمال دراستهم وعودتهم إلى بلادهم وتسلمهم المناصب الكبيرة في الدولة أخطر من يطمئن إليهم المستعمر بعد رحيله، ويضع الأمانة الخسيسة في أيديهم لينفذوها بكل دقة، بل بوسائل وأساليب أشد عنفا وقسوة من تلك التي سلكها المستعمر، كما وقع ذلك فعلا في كثير من البلاد التي ابتليت بالاستعمار أو كانت على صلة وثيقة به. أما(27/334)
الطريق إلى السلامة من هذا الخطر والبعد عن مساوئه وأضراره فيتلخص في إنشاء الجامعات والكليات والمعاهد المختلفة بكافة اختصاصاتها للحد من الابتعاث إلى الخارج، وتدريس العلوم بكافة أنواعها مع العناية بالمواد الدينية والثقافة الإسلامية في جميع الجامعات والكليات والمعاهد؛ حرصا على سلامة عقيدة الطلبة، وصيانة أخلاقهم، وخوفا على مستقبلهم، وحتى يساهموا في بناء مجتمعهم على نور من تعاليم الشريعة الإسلامية، وحسب حاجات ومتطلبات هذه الأمة المسلمة، والواجب التضييق من نطاق الابتعاث إلى الخارج وحصره في علوم معينة لا تتوافر في الداخل.
فنسأل الله التوفيق لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد، وحماية المسلمين من كل ما يضرهم في عقائدهم وأخلاقهم إنه جواد كريم.
وهذا المقام مع ما ذكرنا آنفا يحتاج إلى مزيد من العناية في إصلاح المناهج وصبغها بالصبغة الإسلامية على وجه أكمل، والاستكثار من المؤسسات العلمية التي يستغني بها أبناء البلاد عن السفر إلى الخارج واختيار المدرسين والمدرسات والمديرين والمديرات، وأن يكون الجميع من المعروفين(27/335)
بالأخلاق الفاضلة والعقيدة الطيبة والسيرة الحسنة، والغيرة الإسلامية والقوة والأمانة؛ لأن من كان بهذه الصفات أمن شره ورجي خيره وبذل وسعه في كل ما من شأنه إيصال المعلومات إلى الطلبة والطالبات سليمة نقية.
أما إذا اقتضت الضرورة ابتعاث بعض الطلاب إلى الخارج لعدم وجود بعض المعاهد الفنية المتخصصة لا سيما في مجال التصنيع وأشباهه فأرى أن يكون لذلك لجنة علمية أمينة لاختيار الشباب الصالح في دينه وأخلاقه المتشبع بالثقافة والروح الإسلامية، واختيار مشرف على هذه البعثة معروف بعلمه وصلاحه ونشاطه في الدعوة ليرافق البعثة المذكورة، ويقوم بالدعوة إلى الله هناك، وفي الوقت نفسه يشرف على البعثة، ويتفقد أحوالها وتصرفات أفرادها، ويقوم بإرشادهم وتوجيههم، وإجابتهم عما قد يعرض لهم من شبه وتشكيك وغير ذلك.
وينبغي أن يعقد لهم دورة قبل ابتعاثهم ولو قصيرة يدرسون فيها جميع المشاكل والشبهات التي قد تواجههم في البلاد التي يبتعثون إليها، ويبين لهم موقف الشريعة الإسلامية منها، والحكمة فيها حسب ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام أهل العلم مثل أحكام الرق، وتعدد(27/336)
الزوجات بصفة عامة، وتعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، وحكم الطلاق، وحكمة الجهاد ابتداء ودفاعا وغير ذلك من الأمور التي يوردها أعداء الله على شباب المسلمين حتى يكونوا على استعداد تام للرد على ما يعرض لهم من الشبه.
أما عن مجابهة الغزو المتمثل في الإذاعات والكتب والصحف والمجلات والأقلام التي ابتليت بها المجتمعات الإسلامية في هذا العصر، وأخذت تشغل أكثر أوقات المرء المسلم والمرأة المسلمة رغم ما تشتمل عليه في أكثر الأحيان من السم الزعاف، والدعاية المضللة فهي من أهم المهمات لحماية الإسلام والثقافة الإسلامية من مكائده وشره مع التأكيد على دعاة الإسلام وحماته للتفرغ لكتابة البحوث والنشرات والمقالات النافعة، والدعوة إلى الإسلام، والرد على أصناف الغزو الثقافي، وكشف عواره، وتبيين زيفه حيث إن الأعداء قد جندوا كافة إمكاناتهم وقدراتهم، وأوجدوا المنظمات المختلفة والوسائل المتنوعة للدس على المسلمين والتلبيس عليهم، فلا بد من تفنيد هذه الشبهات وكشفها، وعرض الإسلام عقيدة وتشريعا وأحكاما وأخلاقا عرضا شيقا صافيا جذابا بالأساليب الطيبة العصرية المناسبة، وعن طريق الحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي(27/337)
هي أحسن من طريق جميع وسائل الإعلام حسب الطاقة والإمكان؛ لأن دين الإسلام هو الدين الكامل الجامع لكل خير، الكفيل بسعادة البشر، وتحقيق الرقي الصالح، والتقدم السليم والأمن والطمأنينة والحياة الكريمة، والفوز في الدنيا والآخرة.
وما أصيب المسلمون إلا بسبب عدم تمسكهم بدينهم كما يجب، وعدم فهم الأكثرين لحقيقته، وما ذلك إلا لإعراضهم عنه وعدم تفقههم فيه، وتقصير الكثير من العلماء في شرح مزاياه، وإبراز محاسنه وحكمه وأسراره والصدق والصبر في الدعوة إليه، وتحمل الأذى في ذلك بالأساليب والطرق المتبعة في هذا العصر، ومن أجل ذلك حصل ما حصل اليوم من الفرقة والاختلاف، وجهل الأكثر بأحكام الإسلام، والتباس الأمور عليهم.
ومعلوم أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها والذي صلح به أولها هو اتباع كتاب الله الكريم وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم كما قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (1) وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 3
(2) سورة الأنعام الآية 153(27/338)
وقال سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) وقد وعدهم الله سبحانه وتعالى على ذلك النصر المبين والعاقبة الحميدة، كما قال سبحانه وهو أصدق القائلين: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) وقال سبحانه: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (3) وقال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (5) والآيات في هذا المعنى كثيرة، ولما حقق سلفنا الصالح هذه الآيات الكريمات قولا وعملا وعقيدة نصرهم الله على أعدائهم،
__________
(1) سورة الأنعام الآية 155
(2) سورة الروم الآية 47
(3) سورة آل عمران الآية 120
(4) سورة النور الآية 55
(5) سورة محمد الآية 7(27/339)
ومكن لهم في الأرض، ونشر بهم العدل ورحم بهم العباد، وجعلهم قادة الأمة وأئمة الهدى، ولما غير من بعدهم غير عليهم كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1)
فنسأل الله سبحانه أن يرد المسلمين حكومات وشعوبا إلى دينهم ردا حميدا، وأن يمنحهم الفقه فيه والعمل به والحكم به، وأن يجمع كلمتهم على الحق، ويوفقهم للتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا وسيدنا محمد وآله وصحبه وأتباعه بإحسان.
__________
(1) سورة الرعد الآية 11(27/340)
العلم الذي يحتاجه الداعي إلى الله تعالى:
س: ما هو العلم الذي يحتاجه الداعي إلى الله، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؟ (1)
ج: لا بد في حق الداعي إلى الله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من العلم لقوله سبحانه:
__________
(1) من برنامج نور على الدرب الشريط رقم 30 ونشر في هذا المجموع ج4 ص232.(27/340)
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) والعلم هو ما قاله الله في كتابه الكريم، أو قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، وذلك بأن يعتني كل منهما بالقرآن الكريم والسنة المطهرة؛ ليعرف ما أمر الله به وما نهى الله عنه، ويعرف طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله وإنكاره المنكر، وطريقة أصحابه رضي الله عنهم، ويتبصر في هذا بمراجعة كتب الحديث، مع العناية بالقرآن الكريم، ومراجعة أقوال العلماء في هذا الباب، فقد توسعوا في الكلام على هذا وبينوا ما يجب.
والذي ينتصب لهذا الأمر يجب عليه أن يعنى بهذا الأمر حتى يكون على بصيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليضع الأمور في مواضعها؛ فيضع الدعوة إلى الخير في موضعها، والأمر بالمعروف في موضعه، على بصيرة وعلم حتى لا يقع منه إنكار المنكر، بما هو أنكر منه، وحتى لا يقع منه الأمر بالمعروف على وجه يوجب حدوث منكر أخطر من ترك ذلك المعروف الذي يدعو إليه.
والمقصود أنه لا بد أن يكون لديه علم حتى يضع الأمور في مواضعها.
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(27/341)
السبيل الأمثل في الدعوة إلى الله:
س 4: رسالتان عن السبيل الأمثل للدعوة لله عز وجل، وعن السبيل الأمثل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. الرسالتان يذكر أصحابهما: أنهم يلاحظون أخطاء كثيرة من المسلمين ويتألمون لما يرون ويتمنون أن لو كان في أيديهم شيء لتغيير المنكر ويرجون التوجيه؟ (1)
ج 4: الله عز وجل قد بين طريق الدعوة، وماذا ينبغي للداعي، فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (2)
فالداعي إلى الله يجب أن يكون على علم وبصيرة بما يدعو إليه، وفيما ينهى عنه، حتى لا يقول على الله بغير علم، ويجب الإخلاص لله في ذلك، لا إلى مذهب، ولا إلى رأي فلان أو فلان. ولكنه يدعو إلى الله يريد ثوابه ومغفرته، ويريد صلاح
__________
(1) من برنامج نور على الدرب الشريط رقم 30، ونشر في هذا المجموع ج4 ص228.
(2) سورة يوسف الآية 108(27/342)
الناس، فلا بد أن يكون على إخلاص وعلى علم، وقال عز وجل. {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1)
فهذا بيان كيفية الدعوة، وأنها تكون بالحكمة أي بالعلم (قال الله، وقال الرسول) سمي العلم بالحكمة: لأنه يردع عن الباطل، ويعين على اتباع الحق. ويكون مع العلم موعظة حسنة، وجدال بالتي هي أحسن، عند الحاجة إلى ذلك؛ لأن بعض الناس قد يكفيه بيان الحق بأدلته، لكونه يطلب الحق فمتى ظهر له قبله، فلا يكون في حاجة إلى الموعظة، وبعض الناس يكون عنده بعض التوقف وبعض الجفاء، فيحتاج إلى الموعظة الحسنة. فالداعي إلى الله يعظ ويذكر بالله متى احتاج إلى ذلك مع الجهال والغافلين، ومع المتساهلين حتى يقتنعوا ويلتزموا بالحق، وقد يكون المدعو عنده بعض الشبهات، فيجادل في ذلك، ويريد كشف الشبهة.
فالداعي إلى الله يوضح الحق بأدلته، ويجادله بالتي هي أحسن؛ لإزاحة الشبهة بالأدلة الشرعية، لكن بكلام طيب، وأسلوب حسن، ورفق، لا بعنف وشدة، حتى لا ينفر
__________
(1) سورة النحل الآية 125(27/343)
المدعو من الحق، ويصر على الباطل، قال الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (1) وقال الله لما بعث موسى وهارون إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (2) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (3) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (4) » .
فالداعي إلى الله عز وجل عليه أن يتحرى الحق، ويرفق بالمدعو، ويجتهد في الإخلاص لله، وعلاج الأمور بالطريقة التي رسمها الله وهي الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وأن يكون في هذا كله على علم وبصيرة حتى يقنع الطالب للحق، وحتى يزيح الشبهة لمن عنده شبهة، وحتى يلين القلوب لمن عنده جفاء وإعراض وقسوة،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2) سورة طه الآية 44
(3) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، برقم 2594.
(4) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب فضل الرفق برقم 2592، وأبو داود في كتاب الأدب، باب الرفق برقم 4809.(27/344)
فإن القلوب تلين بالدعوة إلى الله، والموعظة الحسنة، وبيان ما عند الله من الخير لمن قبل الحق، وما عليه من الخطر، إذا رد الدعوة التي جاءت بالحق، إلى غير هذا من وجوه الموعظة.
وأما أصحاب الحسبة وهم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فعليهم أن يلتزموا بالآداب الشرعية، ويخلصوا لله في عملهم، ويتخلقوا بما يتخلق به الدعاة إلى الله من حيث الرفق وعدم العنف، إلا إذا دعت الحاجة إلى غير ذلك من الظلمة والمكابرين والمعاندين فحينئذ تستعمل معهم القوة الرادعة لقول الله سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (2) » خرجه مسلم في صحيحه.
أما غيرهم فيعامل في إنكار المنكر والدعوة إلى المعروف بمثل ما يفعل الداعي: ينكر المنكر بالرفق والحكمة، ويقيم الحجة على ذلك حتى يلتزم صاحب المنكر بالحق، وينتهي
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 46
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 49.(27/345)
عما هو عليه من الباطل، وذلك على حسب الاستطاعة، كما قال الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «من رأى منكم منكرا (2) » الحديث.
ومن الآيات الجامعة في ذلك قول الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (4)
وقد توعد الله سبحانه من ترك ذلك، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، حيث قال في كتابه الكريم في سورة المائدة: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (5) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (6)
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .
(3) سورة التوبة الآية 71
(4) سورة آل عمران الآية 110
(5) سورة المائدة الآية 78
(6) سورة المائدة الآية 79(27/346)
فالأمر عظيم والمسئولية كبيرة، فيجب على أهل الإيمان وأهل القدرة من الولاة والعلماء وغيرهم من أعيان المسلمين الذين عندهم قدرة وعلم أن ينكروا المنكر ويأمروا بالمعروف، وليس هذا لطائفة معينة، وإن كانت الطائفة المعينة عليها واجبها الخاص، والعبء الأكبر، لكن لا يلزم من ذلك سقوطه عن غيرها، بل يجب على غيرها مساعدتها، وأن يكونوا معها في إنكار المنكر، والأمر بالمعروف حتى يكثر الخير ويقل الشر، ولا سيما إذا كانت الطائفة المعينة لم تقم بالمطلوب ولم يحصل بها المقصود، بل الأمر أوسع، والشر أكثر، فإن مساعدتها من القادرين واجبة بكل حال.
أما لو قامت بالمطلوب وحصل بها الكفاية فإنه يسقط بها الوجوب عن غيرها في ذلك المكان المعين أو البلد المعين؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، فإذا حصل بالمعينين أو المتطوعين المطلوب من إزالة المنكر والأمر بالمعروف صار في حق الباقين سنة، أما المنكر الذي لا يستطيع أن يزيله غيرك لأنك الموجود في القرية أو القبيلة أو الحي وليس فيها من يأمر بالمعروف فإنه يتعين عليك إنكار المنكر والأمر بالمعروف ما دمت أنت الذي علمته، وأنت الذي تستطيع إنكاره، فإنه يلزمك، ومتى وجد معك غيرك صار فرض(27/347)
كفاية، من قام به منكما حصل به المقصود، فإن تركتماه جميعا أثمتما جميعا.
فالحاصل أنه فرض على الجميع فرض كفاية، فمتى قام به من المجتمع أو القبيلة من يحصل به المقصود سقط عن الباقين، وهكذا الدعوة إلى الله متى تركها الجميع أثموا، ومتى قام بها من يكفى دعوة وتوجيها وإنكارا للمنكر صارت في حق الباقين سنة عظيمة؛ لأنه اشتراك في الخير وتعاون على البر والتقوى.(27/348)
معاملة المسلم لغير المسلم
س: ما هو الواجب على المسلم تجاه غير المسلم، سواء كان ذميا في بلاد المسلمين أو كان في بلاده، أو المسلم يسكن في بلاد ذلك الشخص غير المسلم. والواجب الذي أريد توضيحه هو المعاملات بكل أنواعها، ابتداء من إلقاء السلام وانتهاء بالاحتفال مع غير المسلم في أعياده، وهل يجوز اتخاذ صديق عمل فقط أفيدونا أثابكم الله؟ (1)
ج: إن من المشروع للمسلم بالنسبة إلى غير المسلم أمورا
__________
(1) من برنامج نور على الدرب شريط 110، ونشر في المجموع ج6 ص364.(27/348)
متعددة، منها الدعوة إلى الله عز وجل بأن يدعوه إلى الله ويبين له حقيقة الإسلام، حيث أمكنه ذلك وحيث كانت لديه البصيرة؛ لأن هذا هو أعظم الإحسان، وأهم الإحسان، الذي يهديه المسلم إلى مواطنه وإلى من اجتمع به من اليهود أوالنصارى أو غيرهم من المشركين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه، وقوله عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه لما بعثه إلى خيبر وأمره أن يدعو إلى الإسلام قال «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم (2) » متفق على صحته. وقال عليه الصلاة والسلام: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثال آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (3) » رواه مسلم في صحيحه، فدعوته إلى الله وتبليغه الإسلام ونصيحته في ذلك من أهم المهمات ومن أفضل القربات.
ثانيا: لا يجوز أن يظلمه في نفس ولا في مال ولا في عرض إذا كان ذميا أو مستأمنا أو معاهدا فإنه يؤدي إليه الحق فلا يظلمه في ماله لا بالسرقة ولا بالخيانة ولا بالغش، ولا يظلمه في بدنه لا بضرب ولا بغيره؛ لأن كونه معاهدا أو ذميا في البلد أو
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس برقم 2942، ومسلم في كتاب فضل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه برقم 2406.
(3) أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة برقم 2674.(27/349)
مستأمنا يعصمه.
ثالثا: لا مانع من معاملته في البيع والشراء والتأجير ونحو ذلك، فقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه اشترى من الكفار عباد الأوثان، واشترى من اليهود وهذه معاملة وقد توفي عليه الصلاة والسلام، ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام اشتراه لأهله.
رابعا: في السلام، لا يبدأه بالسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام (1) » خرجه مسلم في صحيحه وقال: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم (2) » فالمسلم لا يبدأ الكافر بالسلام، ولكن يرد عليه بقوله: (وعليكم) لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم (3) » متفق على صحته، هذا من الحقوق المتعلقة بين المسلم والكافر، ومن ذلك أيضا حسن الجوار إذا كان جارا تحسن إليه ولا تؤذيه في جواره،
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالذم برقم 2167.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان، باب كيف يرد على أهل الذمة السلام برقم 6258، ومسلم في كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام برقم 2163.
(3) صحيح البخاري الاستئذان (6258) ، صحيح مسلم السلام (2163) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3301) ، سنن أبو داود الأدب (5207) ، سنن ابن ماجه الأدب (3697) ، مسند أحمد بن حنبل (3/218) .(27/350)
وتتصدق عليه إذا كان فقيرا تهدي إليه وتنصح له فيما ينفعه؛ لأن هذا مما يسبب رغبته في الإسلام ودخوله فيه؛ ولأن الجار له حق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى طننت أنه سيورثه (1) » متفق على صحته وإذا كان الجار كافرا كان له حق الجوار، وإذا كان قريبا وهو كافر صار له حقان: حق الجوار وحق القرابة، ومن المشروع للمسلم أن يتصدق على جاره الكافر وغيره من الكفار غير المحاربين من غير الزكاة. لقول الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2) وللحديث الصحيح «عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن أمها وفدت عليها بالمدينة في صلح الحديبية وهي مشركة تريد المساعدة، فاستأذنت أسماء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك هل تصلها؟ فقال: صليها (3) » اهـ.
أما الزكاة فلا مانع من دفعها للمؤلفة قلوبهم من الكفار لقوله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} (4)
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند باقي مسند المكثرين، باب باقي المسند السابق برقم 9453.
(2) سورة الممتحنة الآية 8
(3) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2620) ، صحيح مسلم الزكاة (1003) ، سنن أبو داود الزكاة (1668) ، مسند أحمد بن حنبل (6/355) .
(4) سورة التوبة الآية 60(27/351)
الآية، أما مشاركة الكفار في احتفالاتهم بأعيادهم فليس للمسلم أن يشاركهم في ذلك.(27/352)
35 - وسائل الإعلام سلاح ذو حدين
السؤال يتعلق بوسائل الإعلام، فقد ظهر في الأزمة حاليا أن لوسائل الإعلام دورا خطيرا؛ إذ يتابع الناس عن طريقها الأحداث ويستقون الأخبار ويكونون الآراء، فهل من كلمة حول ذلك؟ وما دور العلماء وطلبة العلم في التعاون مع وسائل الإعلام؟
ج: لا شك أن وسائل الإعلام لها دور عظيم، ولا شك أنها سلاح ذو حدين، فالواجب على القائمين عليها أن يتقوا الله ويتحروا الحق فيما ينشرون، سواء كان ذلك عن طريق الوسيلة المرئية أو المسموعة أو المقروءة، والواجب أن ينشروا ويذيعوا عن أهل العلم والإيمان والبصيرة ما ينفع الناس ويبصرهم بالحق، أما(27/352)
المقالات الضارة والمقالات الملحدة فالواجب الحذر منها وعدم نشرها، وعليهم أن يؤدوا الأمانة في ذلك فلا ينشروا إلا ما يقود الناس إلى الحق ويبعدهم عن الباطل.
والواجب على المسئولين في وسائل الإعلام ألا يولوا في الإعلام إلا الثقات الذين عندهم علم وبصيرة وأمانة.
إن وسائل الإعلام تحتاج إلى رجال يخافون الله ويتقونه ويعظمونه ويتحرون نفع المسلمين والمجتمع كله فيما ينشرون حتى لا يضل الناس بسببهم، ومعلوم أن من نشر قولا يضر الناس يكون عليه مثل آثام من ضل به، كما أن من نشر ما ينفع الناس يكون له مثل أجور من انتفع بذلك، ونسأل الله تعالى أن يهديهم ويوفقهم ويصلح أحوالهم.(27/353)
س: ماذا بالنسبة لتعاون العلماء وطلبة العلم مع وسائل الإعلام؟
ج: هذا واجب، فيجب على العلماء وطلبة العلم أن يتعاونوا مع هذه الوسائل حتى يرشدوا الناس ويفقهوهم ويعلموهم؛ لأن هذه الوسائل يستفيد منها الملايين من الناس إذا استقامت ووجهت الوجهة الصالحة، لذلك ينبغي على العلماء والأخيار أن يتعاونوا مع وسائل الإعلام فيما ينفع الناس في دينهم ودنياهم.(27/353)
مرئيات حول مستقبل الإسلام
س: سماحة الشيخ: كيف ترون مستقبل الإسلام أمام التيارات والأديولوجيات والمذاهب المختلفة التي تناصبه العداء؟ (1)
جـ: أرى أن الإسلام سوف ينتصر بإذن الله على تلك التيارات والنحل الزائفة التي ابتلي بها العالم في عصرنا الحاضر، وأن كل ما يوجه إلى الإسلام من عداء ماكر للنيل منه وإزاحته عن قيادة العالم سوف يعود في النهاية بإذن الله تعالى على نحور أصحابه، وذلك أن الله جل شأنه قد تكفل بحفظ القرآن الكريم الذي هو الأساس العظيم للإسلام، حيث يقول سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2)
وقد هيأ الله سبحانه وله الحمد والمنة لدينه أنصارا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم
__________
(1) سؤال موجه إلى سماحته وأجاب عليه بتاريخ 3 \ 11 \ 1410 هـ، ونشر في المجموع ج6 ص292.
(2) سورة الحجر الآية 9(27/354)
حتى يأتي أمر الله (1) » وفي رواية أخرى: «لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة (2) » ومما يبشر بما ذكرنا ما انتشر في العالم الإسلامي وغيره من الحركات التي توصي باتباع الكتاب والسنة والسير عليهما. ثم إن تلك المبادئ والمذاهب المختلفة من شيوعية ورأسمالية غربية وغيرها من المذاهب التي يروج لها اليوم أصحابها قد ثبت بالتجربة زيفها وفشلها، وأنها لا تسعد البشرية بل تضرها في دينها وأخلاقها واقتصادها، حيث إنها من صنع البشر الذي طبيعته القصور والجهل والهوى، كما قال تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (3)
وقد بدأت البشرية تتلفت يمنة ويسرة علها تجد منهجا صالحا ينقذها من الهاوية التي تردت فيها جميع شئون حياتها، والإسلام وحده هو القادر على إنقاذ البشرية من تلك المهالك، وستكتشف البشرية بإذن الله تلك الحقيقة إن عاجلا أو آجلا، كما قال الله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} (4)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية. . . برقم 3641، ومسلم في كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة. . . برقم 1037.
(2) صحيح البخاري العلم (71) .
(3) سورة النساء الآية 82
(4) سورة الرعد الآية 17(27/355)
وكلامنا هذا هو في الإسلام النقي من شوائب الشرك والبدع الذي أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح من بعده فأفلحوا ونجحوا وفتحوا البلاد وقادوا العباد إلى سبيل الرشاد وشاطئ السلامة. والله الموفق.(27/356)
37 - الاستمرار في النصيحة والتوجيه من باب التعاون على البر والتقوى
س: فتاة في التاسعة عشرة من عمرها وهي متمسكة بأوامر الله سبحانه وتعالى من صوم وصلاة وحجاب يسترها، تربطها علاقة حب صادق مع إحدى أخواتها لكنها تلحظ عليها بعض الملاحظات كعدم الاهتمام بالحجاب وما أشبه ذلك هل تستمر في صداقتها معها أم تنفصل عنها؟
ج: تستمر بالنصيحة والتوجيه وحثها على الحجاب لعل الله أن يهديها بها، فإن يئست منها ولم تر فائدة في هذه النصيحة فينبغي أن تنفصلي عنها حتى لا تنسب إليها وحتى(27/356)
لا تقر المنكر، لكن مهما استطاعت أن تؤثر عليها بالنصيحة والتوجيه أو توصي من يستطيع أن يؤثر عليها فهذا من باب التعاون على البر والتقوى.(27/357)
38 - حضور حلقات العلم الشرعي من أفضل القربات
س: ما حكم الشرع فيمن يدعونا إلى أن نعتكف في المساجد وندعو الناس إلى الصلاة وحلق الذكر ونتجول في الأسواق وعلى الدواوين وندعوهم، والكثير منا لا يفهم أكثر من فاتحة الكتاب وبعض السور القصيرة
(1) .
ج: الدعوة إلى الاعتكاف في المساجد وترك طلب المعيشة دعوة باطلة ولا تجوز طاعة من يدعو إلى ذلك كما لا يجوز للرجل أن يقوم بدعوة الناس إلى الله إلا وهو يعلم ما يدعو إليه كما قال الله سبحانه {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) أما الجاهل فليس من المكلفين بالدعوة بل هو مكلف
__________
(1) سؤال شخصي مقدم من الأخ س. ع. ع.
(2) سورة يوسف الآية 108(27/357)
بطلب العلم والتفقه في الدين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » ومن أفضل القربات حضور حلقات العلم الشرعي للاستفادة منها، لكن مع القيام بطلب الرزق للاستغناء عما في أيدي الناس.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقه في الدين، برقم 71 ومسلم في كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، برقم 1037.(27/358)
39 - الطريق الأمثل للاستقامة على المنهج القويم
س كيف ترون سماحتكم المدخل لكي يتجنب الشباب الوقوع تحت وطأة مغريات هذا العصر ويتجه الوجهة الصحيحة؟
ج: بسم الله، والحمد لله: إن الطريق الأمثل ليسلك الشباب الطريق الصحيح في التفقه في الدين والدعوة إليه هو أن يستقيم على النهج القويم بالتفقه في الدين ودراسته، وأن يعنى بالقرآن الكريم والسنة المطهرة، وأنصحه بصحبة الأخيار والزملاء الطيبين، وملازمة العلماء المعروفين بالاستقامة حتى يستفيد من علمهم ومن أخلاقهم، كما أنصحه بالمبادرة بالزواج، وأن يحرص على الزوجة الصالحة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، من(27/358)
استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (1) » متفق على صحته من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: '' من استطاع '' برقم 5065، ومسلم في كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه برقم 1400.(27/359)
40 - الطريق إلى جمع كلمة المسلمين على الحق
س1: التفرق والتمزق والاختلاف يسود الأمة الإسلامية. كيف يمكن جمع كلمة المسلمين على الخير ونبذ الاختلاف والتفرق؟ (1)
ج: الطريق إلى جمع كلمة المسلمين على الحق ونبذ الخلاف والتفرق هو التمسك بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام والاستقامة على ذلك والتواصي بذلك والتعاون على البر والتقوى، ورد كل ما يتنازعون فيه إلى كتاب الله سبحانه وسنة
__________
(1) هذا السؤال والذي بعده موجهان لسماحته من جريدة عكاظ بمناسبة دخول شهر رمضان المبارك عام1413.(27/359)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمهما في كل شيء كما قال الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) وقال عز وجل {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) الآية.
وأولو الأمر هم العلماء بدين الله المعروفون بحسن العقيدة والسيرة وأمراء المسلمين، ومتى حصل النزاع في شيء بينهم وجب رده إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم، والرد إلى الله هو الرد إلى القرآن الكريم، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه في حياته وإلى سنته الصحيحة بعد وفاته، وما حكما به أو أحدهما فهو حكم الله عز وجل، فالواجب على جميع المسلمين حكومات وشعوبا، علماء وأمراء أن يتقوا الله عز وجل بامتثال أوامره وترك نواهيه وأن يحكموا كتاب الله -عز وجل- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم عملا بالآيتين السابقتين وعملا بقوله عز وجل {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3)
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) سورة النساء الآية 65(27/360)
وبقوله عز وجل {وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) وعملا بقوله عز وجل {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (4) ونسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح أحوال المسلمين جميعا في كل مكان، وأن يؤلف بين قلوبهم على الحق ويجمعهم على الهدى، وأن يعيذهم جميعا من نزغات الشيطان، ومكائد الأعداء وأن يصلح قادتهم ويولي عليهم خيارهم إنه سميع قرب.
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3
(4) سورة آل عمران الآية 103(27/361)
س 2: ما هو الأسلوب المناسب للنصيحة والدعوة إلى الله سبحانه؟
ج: الأسلوب المناسب في الدعوة إلى الله والنصيحة هو الأسلوب الذي أرشد الله إليه وأمر به عباده في كتابه الكريم في قوله سبحانه {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) الآية.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 53(27/361)
وقوله عز وجل {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (1) وقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وقوله سبحانه {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (3) الآية. وقوله عز وجل يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في سورة آل عمران: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (4) الآية وقوله سبحانه لما بعث موسى وهارون إلى فرعون {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (5) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (6) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به، اللهم ومن ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه (7) » أخرجه مسلم في صحيحه، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الدين
__________
(1) سورة البقرة الآية 83
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة العنكبوت الآية 46
(4) سورة آل عمران الآية 159
(5) سورة طه الآية 44
(6) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، برقم 2594.
(7) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر برقم 1828.(27/362)
النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة فالواجب على العلماء والأمراء والدعاة إلى الله عز وجل أن ينهجوا هذا المنهج الذي أرشد الله إليه وأرشد إليه رسوله صلى الله عليه وسلم. وأن ينصحوا الناس ويعالجوا مشاكلهم بالطريق التي أرشد الله إليها سبحانه وأرشد إليها رسوله صلى الله عليه وسلم ومن ظلم واعتدى ولم ينفع فيه التوجيه والنصيحة وجب على ولاة الأمر أن يعاقبوه بالعقوبات الشرعية. ومن ثبت عليه ما يوجب إقامة الحد أو التعزير وجب تنفيذ حكم الله فيه بواسطة أولي الأمر ومن يستنيبونه في ذلك ردعا له ولأمثاله وحماية للمجتمع الإسلامي من جميع أنواع الفساد. سدد الله الخطا وأصلح القلوب والأعمال ووفق أولي الأمر لكل ما فيه رضاه وصلاح عباده وأصلح أحوال المسلمين جميعا ومنحهم الفقه في الدين وثبتهم على الحق إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم 55.(27/363)
41 - الوصية بالاستمرار في النصيحة
س: أجد صعوبة في الالتزام والاستقامة على الدين من بعض أقاربي وخاصة أخواتي وأمي فبم تنصحونني؟
ج: نوصيك بالاستمرار في نصيحتهن وترغيبهن في طاعة الله ورسوله وتحذيرهن من المعاصي وقراءة الآيات والأحاديث عليهن المتعلقة بأعمالهن مع سؤال الله سبحانه لهن الهداية في أوقات الإجابة وغيرها.
وإذا تيسر أن يساعدك في هذا بعض الأقارب وغيرهم من أهل العلم فهو أنفع وأقرب إلى قبولهن وهدايتهن لقول الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وقوله عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (5) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) سورة التحريم الآية 6(27/364)
النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » أخرجه مسلم في صحيحه، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (2) » أخرجه مسلم في صحيحه أيضا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (3) » متفق على صحته، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، أعانك الله على كل خير وأصلح حال الجميع.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم 55.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 49.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم برقم 6011، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم برقم 2586.(27/365)
كلمة في المؤتمر الأول للدعوة والدعاة المنعقد في المدينة النبوية
[بعد عصر يوم السبت الرابع والعشرين من شهر صفر سنة 1397 هـ افتتح المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة، وقد افتتح المؤتمر سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد نيابة عن صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز نائب جلالة الملك وولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية، وهذا نص كلمة سماحته] .
الحمد لله رب العالمين، الذي خلق الثقلين لعبادته وأمرهم بها في كتابه المبين وعلى لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وأرسل الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - ليدعوا الناس إليها وليبينوها لهم، وختمهم بأفضلهم وإمامهم نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله - صلوات الله وسلامه عليه -، وجعل رسالته عامة لجميع العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله(27/366)
وحده لا شريك له القائل في كتابه الكريم: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) والآمر نبيه أن يدعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، والذي أمره أن يدعو الناس إلى سبيله، وأخبر أن الدعاة إليه على بصيرة هم أتباعه على الحقيقة، فقال عز من قائل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأمينه على وحيه وصفوته من خلقه، أرسله الله رحمة للعالمين، وقدوة للسالكين وحجة على العباد أجمعين، أرسله شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فهدى به من الضلال وبصر به من العمى، وجمع به بعد الفرقة، وأغنى به بعد العيلة، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، وهدى به العباد إلى صراطه المستقيم، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة الكرماء أعضاء هذا المؤتمر، باسم الله العظيم أفتتح هذا المؤتمر العالمي: (مؤتمر توجيه الدعوة وإعداد الدعاة) نيابة عن سمو الأمير الكريم فهد بن عبد العزيز
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة يوسف الآية 108(27/367)
ولي عهد المملكة العربية السعودية ونائب رئيس مجلس الوزراء لمشاغله الكثيرة التي حالت بينه وبين حضور هذا المؤتمر، وأسأل الله عز وجل أن يمنحه التوفيق والإعانة على كل خير، وأن يسدد خطاه، وأن يبارك في أعماله.
أيها الإخوة الأعزاء أعضاء المؤتمر، يسرني أني أحييكم تحية الإسلام، وأن أرحب بكم أجمل الترحيب، فأقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلا وسهلا بكم في بلادكم وبين إخوانكم في مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي رحاب مسجد نبيه - عليه الصلاة والسلام -، وفي مهاجره وفي عاصمة الإسلام الأولى، ومنطلق الدعوة إلى الله على يد رسوله محمد - عليه الصلاة والسلام -، وعلى يد أصحابه الكرام، الغزاة الفاتحين، والأئمة المهتدين، وأتباعهم بإحسان - رضي الله عن الجميع وأرضاهم -، وأسأله سبحانه أن يجعلنا وإياكم من أتباعهم بإحسان وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يولي عليهم خيارهم ويمنحهم الفقه في الدين، وأن يسلك بنا وبهم صراطه المستقيم، إنه سميع قريب.
أيها الإخوة، إن هذا المؤتمر بلا شك مؤتمر عظيم، قد دعت الحاجة بل الضرورة إلى عقده، وإن الجامعة الإسلامية(27/368)
بالمدينة المنورة لمشكورة كثيرا على تبني هذه الدعوة إلى هذا المؤتمر وقيامها بالإعداد له، ودعوتها نخبة ممتازة من أقطار الدنيا من العلماء والدعاة إلى الله عز وجل من أكثر من سبعين دولة، لحضوره، وتبادل الرأي في شئون الدعوة والدعاة، وتذليل الصعوبات والعقبات التي تعترض سبيلها، وللنظر في طرق ووسائل محاربة الدعوات الضالة والمذاهب الهدامة والأفكار المنحرفة، وكل ما يتعلق بشئون الدعوة وأحوال المسلمين.
وإن حكومة هذه البلاد: الحكومة السعودية وفقها الله، تشكر كثيرا على موافقتها على إقامة هذا المؤتمر، وعلى دعمها له بكل ما يحتاج إليه، وعلى رعايتها له، كما هي بحمد الله تدعم كل ما يتعلق بالدعوات والقضايا الإسلامية، وجميع ما يتعلق بالإسلام، فلها بحمد الله جهود مشكورة، وأعمال جليلة في دعم قضايا المسلمين، وإعانة مؤسساتهم ومدارسهم وجمعياتهم، والدعاة إلى الله عز وجل في كل مكان، فجزاها الله عن ذلك خيرا، وبارك في أعمالها وزادها من فضله، ونشر بها الدعوة الإسلامية في كل مكان، وأصلح لها البطانة، وكتب لها التوفيق من عنده، كما نسأله سبحانه أن يوفق قادة المسلمين في كل مكان وأن يهديهم صراطه المستقيم، وأن ينصر بهم الحق، ويخذل بهم الباطل، وأن يوفقهم للاستقامة(27/369)
على دينه، وإخلاص العبادة لله وحده، والقضاء على كل ما يخالف ذلك، كما نسأله عز وجل أن يوفق قادة المسلمين وعلماءهم في كل مكان وجميع الدعاة إلى الحق وجميع المسئولين في كل دولة إسلامية للتعاون الكامل على البر والتقوى، ونصر دين الله وإعلاء كلمته، وعلى بيان حقيقة التوحيد والعبادة التي خلق الله عز وجل من أجلها الخلق وأرسل الرسل، وعلى بيان حقيقة الشرك الذي هو أعظم الذنوب وأكبر الجرائم، وعلى القضاء عليه وبيان حقيقته للناس، وبيان وسائله وذرائعه والقضاء عليها بالوسائل التي شرعها الله عز وجل.
كما أسأله سبحانه أن يوفقهم جميعا لمحاربة البدع التي انتشرت في العالم، حتى التبس على أكثر الخلق دينهم بسبب ظهور البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، وبسبب كثرة المروجين لها والداعين إليها باسم الإسلام، حتى التبس الحق بالباطل على الكثير من الناس، لقلة العلماء المتبصرين الذين يشرحون للناس حقيقة الدين ويوضحون لهم حقيقة ما بعث به الله نبيه محمدا - عليه الصلاة والسلام -، ويبينون لهم معاني كتاب ربهم وسنة نبيهم واضحة جلية كما تلقاها أصحاب رسول الله عن نبيهم.(27/370)
أيها الإخوة الكرام أعضاء المؤتمر:
ليس من الخافي على كل من له أدنى علم أو بصيرة أن العالم الإسلامي اليوم بل العالم كله في أشد الحاجة إلى الدعوة الإسلامية الواضحة الجلية التي تشرح للناس حقيقة الإسلام وتوضح لهم أحكامه ومحاسنه، وتشرح لهم معنى (لا إله إلا الله) ومعنى شهادة (أن محمدا رسول الله) فإن أكثر الخلق لم يفهموا هاتين الشهادتين كما ينبغي، ولذلك دعوا مع الله غيره، وابتعدوا عنه، إن هاتين الشهادتين هما أصل الدين وأساس الملة وقاعدة الإسلام التي عليها مداره.
أما الشهادة الأولى فهي تبين حقيقة التوحيد وحقيقة العبادة التي يجب إخلاصها لله وحده سبحانه وتعالى؛ لأن معناها كما لا يخفى لا معبود بحق إلا الله، فهي تنفي العبادة عن غير الله وتثبت العبادة لله وحده، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، من الصلاة والزكاة والصوم والحج والذبح والنذر والدعاء والاستغاثة والسجود وغير ذلك، فهذه العبادات يجب أن تكون لله وحده، ويجب على العلماء أن يبينوا ذلك للناس، وأن صرفها لنبي أو ولي أو غيرهما من الخلق شرك بالله عز وجل، قال الله جل وعلا:(27/371)
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (1) وقال سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (2) وقال الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (3) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (4) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأما شهادة أن محمدا رسول الله فكثير من الناس لا يفهمها على حقيقتها، وحكموا القوانين الوضعية وأعرضوا عن شريعة الله، ولم يبالوا بها، جهلا بها أو تجاهلا لها. إن شهادة أن محمدا رسول الله تقتضي الإيمان برسول الله - عليه الصلاة والسلام -، وطاعته في أوامره واجتناب نواهيه، وتصديق أخباره وأن لا يعبد الله إلا بالشريعة التي جاء بها عليه الصلاة والسلام، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (5) وقال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (6)
__________
(1) سورة الحج الآية 62
(2) سورة الجن الآية 18
(3) سورة فاطر الآية 13
(4) سورة فاطر الآية 14
(5) سورة آل عمران الآية 31
(6) سورة الحشر الآية 7(27/372)
فالواجب على جميع المسلمين، وعلى جميع الثقلين أن يعبدوا الله وحده، وأن يحكموا نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام كما قال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1)
وقال عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) وقال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (3) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (4) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (5)
أيها الإخوة الكرام أعضاء المؤتمر:
إن الناس اليوم في أشد الحاجة إلى الدعوة، وإلى بيان الداعية الذي ينبغي أن يقوم بهذه الدعوة، وبيان أخلاقه وأعماله وصفاته،
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) سورة المائدة الآية 50
(3) سورة المائدة الآية 44
(4) سورة المائدة الآية 45
(5) سورة المائدة الآية 47(27/373)
ولا ريب أن من الواجب على الداعية أن يستقيم في أقواله وأفعاله، وأن يكون قدوة صالحة للمدعوين في سيرته وأخلاقه وأعماله ومدخله ومخرجه وكل شئونه، إن العالم بحاجة إلى تيسير وسائل الدعوة وإيضاحها وتسهيل العقبات والصعوبات التي تقف في طريق الداعية.
المسلمون اليوم في أشد الحاجة إلى الدعاة الصالحين، إلى العلماء المبرزين، إلى الذين يدعونهم إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم ويوضحون لهم معاني كتاب الله وسنة رسول الله - عليه الصلاة والسلام - ويبينون لهم سيرته - عليه الصلاة والسلام - وسيرة أصحابه - رضي الله عنهم وأرضاهم -.
المسلمون اليوم بل العالم كله في أشد الحاجة إلى بيان دين الله وإظهار محاسنه وبيان حقيقته، والله لو عرفه الناس اليوم ولو عرفه العالم على حقيقته لدخلوا فيه أفواجا اليوم كما دخلوا فيه أفواجا بعدما فتح الله على نبيه مكة - عليه الصلاة والسلام -.
أيها العلماء الكرام، أيها الفضلاء، إن واجبنا عظيم وإن واجب المسئولين في جميع العالم الإسلامي من علماء وأثرياء وأمراء وقادة عظيم جدا والمسئولية عظيمة.
علينا أن نتقي الله في عباد الله، وعلينا أن نتعاون صادقين على البر والتقوى أينما كنا، وأن تكون هناك علاقات قوية، واتصالات دائمة في شأن الدعوة والدعاة، وفي توجيه الناس إلى الخير، وبالتعاون على البر والتقوى، وأرجو أن يكون اجتماعكم هذا تعاونا على الخير،(27/374)
وتبادلا للرأي في كل ما من شأنه انتشار الدعوة الإسلامية، وتذليل العقبات والصعوبات أمام الداعية، وبيان حال الداعية وصفاته وأعماله وأخلاقه، وبيان ما ينبغي أن تواجه به الدعوات المضللة والمبادئ الهدامة والتيارات الجارفة.
أرجو أن يكون في مؤتمركم هذا حل لهذه المشاكل وبيان لكل ما يحتاجه المسلمون في سائر الدنيا. إنكم والله مسئولون وإن الأمر عظيم، وإني لأرجو الله عز وجل لهذا المؤتمر المبارك أن ينجح في أعماله، وأن يوفق في قراراته وتوصياته، وأن يحسن العاقبة في حصول ما نرجوه من هذا المؤتمر وما نعلقه عليه من الآمال، وأرجو أن يكون في جهودكم وأعمالكم وتبادلكم الرأي ما يحل المشكلات وما ينفع الله به عباده المؤمنين في كل مكان، وما يرحم الله به عباده حتى يعرفوا دين الله وحتى يدخلوا في دين الله بأسبابكم، وحتى يكون لكم مثل أجورهم، فقد صح عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (1) » وقال - عليه الصلاة والسلام -: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا (2) » خرجهما مسلم في صحيحه.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله برقم 1893.
(2) أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة برقم 2674.(27/375)
وأسأل الله عز وجل أن يهدينا جميعا صراطه المستقيم، وأن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وأن يكثر في المسلمين دعاة الهدى وأنصار الحق، وأن يهدي حكام المسلمين وقادتهم لما فيه رضاه، وصلاح أمر عباده، إنه سميع قريب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(27/376)
كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(27/377)
صفحة فارغة(27/378)
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. . أما بعد (1) :
فإن من أهم المهمات وأفضل القربات التناصح والتوجيه إلى الخير والتواصي بالحق والصبر عليه، والتحذير مما يخالفه ويغضب الله عز وجل، ويباعد من رحمته، وأسأله عز وجل أن يصلح قلوبنا وأعمالنا وسائر المسلمين، وأن يمنحنا الفقه في دينه، والثبات عليه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح جميع ولاة أمور المسلمين، ويوفقهم لكل خير، ويصلح لهم البطانة، ويعينهم على كل ما فيه صلاح العباد والبلاد، ويمنحهم الفقه في الدين، ويشرح صدورهم لتحكيم شريعته، والاستقامة عليها إنه ولي ذلك، والقادر عليه.
أيها المسلمون: إن موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موضوع عظيم، جدير بالعناية؛ لأن في تحقيقه مصلحة الأمة ونجاتها، وفي إهماله الخطر العظيم والفساد
__________
(1) نشر في المجموع ج5 ص58 - 73، وفي مجلة البحوث الإسلامية، العدد 28 عام 1410 هـ.(27/379)
الكبير، واختفاء الفضائل، وظهور الرذائل، وقد أوضح الله جل وعلا في كتابه العظيم منزلته في الإسلام، وبين سبحانه أن منزلته عظيمة، حتى إنه سبحانه في بعض الآيا ت قدمه على الإيمان، الذي هو أصل الدين وأساس الإسلام، كما في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) ولا نعلم السر في هذا التقديم، إلا عظم شأن هذا الواجب، وما يترتب عليه من المصالح العظيمة العامة، ولا سيما في هذا العصر، فإن حاجة المسلمين وضرورتهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شديدة؛ لظهور المعاصي، وانتشار الشرك والبدع في غالب المعمورة،
وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه وفي عهد السلف الصالح يعظمون هذا الواجب، ويقومون به خير قيام، فالضرورة إليه بعد ذلك أشد وأعظم، لكثرة الجهل وقلة العلم وغفلة الكثير من الناس عن هذا الواجب العظيم.
وفي عصرنا هذا صار الأمر أشد، والخطر أعظم، لانتشار الشرور والفساد، وكثرة دعاة الباطل، وقلة دعاة الخير في غالب البلاد كما تقدم، ومن أجل هذا أمر الله سبحانه وتعالى به، ورغب
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110(27/380)
فيه، وقدمه في آية آل عمران على الإيمان، وهي قوله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (1) الآية، يعني أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فهي خير الأمم وأفضلها عند الله، كما في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل (2) » .
والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر موجود في الأمم السابقة، بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب.
وأصل المعروف توحيد الله، والإخلاص له، وأصل المنكر الشرك بالله، وعبادة غيره.
وجميع الرسل بعثوا يدعون الناس إلى توحيد الله، الذي هو أعظم المعروف، وينهون الناس عن الشرك بالله، الذي هو أعظم المنكر.
ولما فرط بنوا إسرائيل في ذلك وأضاعوه، قال الله جل وعلا في حقهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (3)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) أخرجه الإمام أحمد في أول مسند البصريين، حديث حكيم بن معاوية البهزي عن أبيه معاوية برقم 19509.
(3) سورة المائدة الآية 78(27/381)
ثم فسر هذا العصيان فقال سبحانه {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (1) فجعل هذا من أكبر عصيانهم واعتدائهم، وجعله التفسير لهذه الآية {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (2) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (3) وما ذلك إلا لعظم الخطر في ترك هذا الواجب.
وأثنى الله جل وعلا على أمة منهم في ذلك فقال سبحانه في سورة آل عمران: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (4) {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (5) {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (6) هذه طائفة من أهل الكتاب لم يصبها ما أصاب الذين ضيعوه، فأثنى الله عليهم سبحانه وتعالى
__________
(1) سورة المائدة الآية 79
(2) سورة المائدة الآية 78
(3) سورة المائدة الآية 79
(4) سورة آل عمران الآية 113
(5) سورة آل عمران الآية 114
(6) سورة آل عمران الآية 115(27/382)
في ذلك، وفي آية أخرى من كتاب الله عز وجل في سورة التوبة قدم سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وما ذلك إلا لعظم شأنه.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، ومع ذلك قدمه في هذه الآية على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) فقدم هنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقام الصلاة، مع أن الصلاة عمود الإسلام، وهي أعظم الأركان بعد الشهادتين، فلأي معنى قدم هذا الواجب؟
لا شك أنه قدم لعظم الحاجة إليه وشدة الضرورة إلى القيام به، ولأن بتحقيقه تصلح الأمة، ويكثر فيها الخير وتظهر فيها الفضائل وتختفي منها الرذائل، ويتعاون أفرادها على الخير، ويتناصحون ويجاهدون في سبيل الله، ويأتون كل خير ويذرون كل شر، وبإضاعته والغفلة عنه تكون الكوارث العظيمة، والشرور الكثيرة، وتفترق الأمة، وتقسو القلوب أو تموت،
__________
(1) سورة التوبة الآية 71(27/383)
وتظهر الرذائل وتنتشر، وتختفي الفضائل ويهضم الحق، ويظهر صوت الباطل، وهذا أمر واقع في كل مكان وكل دولة وكل بلد وكل قرية لا يؤمر فيها بالمعروف ولا ينهى فيها عن المنكر، فإنه تنتشر فيها الرذائل وتظهر فيها المنكرات ويسود فيها الفساد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبين سبحانه أن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمقيمين للصلاة والمؤتين للزكاة والمطيعين لله ولرسوله هم أهل الرحمة، فقال سبحانه وتعالى: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (1) فدل ذلك على أن الرحمة، إنما تنال بطاعة الله واتباع شريعته، ومن أخص ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تنال الرحمة بالأماني ولا بالأنساب؛ ككونه من قريش أو من بني هاشم أو من بني فلان، ولا بالوظائف؛ ككونه ملكا، أو رئيس جمهورية، أو وزيرا أو غير ذلك من الوظائف، ولا تنال أيضا بالأموال والتجارات، ولا بوجود كثرة المصانع، ولا بغير هذا من شئون الناس، وإنما تنال الرحمة بطاعة الله ورسوله واتباع شريعته.
ومن أعظم ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله في كل شيء،
__________
(1) سورة التوبة الآية 71(27/384)
فهؤلاء هم أهل الرحمة، وهم الذين في الحقيقة يرجون رحمة الله، وهم الذين في الحقيقة يخافون الله ويعظمونه، فما أظلم من أضاع أمره وارتكب نهيه، وإن زعم أنه يخافه ويرجوه، وإنما الذي يعظم الله حقا، ويخافه ويرجوه حقا، من أقام أمره واتبع شريعته، وجاهد في سبيله، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
قال سبحانه في سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} (1) فجعلهم سبحانه راجين رحمة الله، لما آمنوا وجاهدوا وهاجروا لإيمانهم وهجرتهم وجهادهم، ما قال: إن الذين بنو القصور، أو الذين عظمت تجاراتهم، أو تنوعت أعمالهم، أو الذين ارتفعت أنسابهم هم الذين يرجون رحمة الله، بل قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2)
فرجاءالرحمة وخوف العذاب، يكونان بطاعة الله ورسوله، ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي آية أخرى حصر سبحانه الفلاح في الدعاة إلى الخير، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فقال عز وجل:
__________
(1) سورة البقرة الآية 218
(2) سورة البقرة الآية 218(27/385)
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) فأبان سبحانه أن هؤلاء الذين هذه صفاتهم وهي: الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - هم المفلحون، والمعنى أنهم هم المفلحون على الكمال والتمام، وإن كان غيرهم من المؤمنين مفلحا، إذا تخلى عن بعض هذه الصفات لعذر شرعي، لكن المفلحون على الكمال والتمام هم هؤلاء الذين دعوا إلى الخير، وأمروا بالمعروف وبادروا إليه، ونهوا عن المنكر وابتعدوا عنه.
أما الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لأغراض أخرى: كرياء وسمعة، أو حظ عاجل أو أسباب أخرى، أو يتخلفون عن فعل المعروف، ويرتكبون المنكر، فهؤلاء من أخبث الناس، ومن أسوئهم عاقبة.
وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه - أي أمعاؤه - فيدور في النار كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون مالك
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104(27/386)
يا فلان؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال فيقول لهم: بلى؛ ولكني كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه (1) » .
هذه حال من خالف قوله فعله - نعوذ بالله - تسعر به النار، ويفضح على رءوس الأشهاد، يتفرج عليه أهل النار، ويتعجبون كيف يلقى في النار.
هذا ويدور في النار كما يدور الحمار بالرحى، وتندلق أقتاب بطنه، يسحبها، لماذا؟! . لأنه كان يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه، فعلم بذلك أن المقصود الأمر بالمعروف مع فعله، والنهي عن المنكر مع تركه.
وهذا هو الواجب على كل مسلم، وهذا الواجب العظيم أوضح الله شأنه في كتابه الكريم، ورغب فيه، وحذر من تركه، ولعن من تركه.
فالواجب على أهل الإسلام أن يعظموه، وأن يبادروا إليه، وأن يلتزموا به طاعة لربهم عز وجل، وامتثالا لأمره، وحذرا من عقابه سبحانه وتعالى.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة برقم 3267، ومسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله برقم 2989.(27/387)
وقد جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤيد هذا الأمر، وتبين ذلك أعظم بيان وتشرحه، فيقول المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
فبين صلى الله عليه وسلم مراتب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الثلاث: -
المرتبة الأولى: الإنكار باليد مع القدرة، وذلك بإراقة أواني الخمر، وكسر آلات اللهو، ومنع من أراد الشر بالناس وظلمهم من تنفيذ مراده إن استطاع ذلك كالسلطان ونحوه من أهل القدرة، وكإلزام الناس بالصلاة، وبحكم الله الواجب اتباعه ممن يقدر على ذلك، إلى غير هذا مما أوجب الله.
وهكذا المؤمن مع أهله وولده، يلزمهم بأمر الله ويمنعهم مما حرم الله باليد إذا لم ينفع فيهم الكلام.
وهكذا من له ولاية من أمير أو محتسب، أو شيخ قبيلة أو غيرهم ممن له ولاية من جهة ولي الأمر، أو من جهة جماعته،
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 49.(27/388)
حيث ولوه عليهم، عند فقد الولاية العامة يقوم بهذا الواجب حسب طاقته، فإن عجز انتقل إلى:
المرتبة الثانية: وهي اللسان، يأمرهم باللسان وينهاهم كأن يقول: يا قوم اتقوا الله، يا إخواني اتقوا الله، صلوا وأدوا الزكاة، اتركوا هذا المنكر، افعلوا كذا، دعوا ما حرم الله، بروا والديكم، صلوا أرحامكم، إلى غير هذا، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر باللسان، ويعظهم ويذكرهم، ويتحرى الأشياء التي يفعلونها، حتى ينبههم عليها، ويعاملهم بالأسلوب الحسن، مع الرفق، يقول عليه الصلاة والسلام: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله (1) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (2) » «وجاء جماعة من اليهود، فدخلوا عليه صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا محمد - يعنون الموت - وليس مرادهم السلام. . فسمعتهم عائشة رضي الله عنها، فقالت: (عليكم السام واللعنة) . وفي لفظ آخر: (ولعنكم الله، وغضب عليكم) ، فقال صلى الله عليه وسلم: مهلا يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله برقم 6024.
(2) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، برقم 2594.(27/389)
في الأمر كله، قالت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: ألم تسمعي ما قلت لهم؟ قلت لهم: وعليكم فإنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا (1) » هذا وهم يهود رفق بهم صلى الله عليه وسلم، لعلهم يهتدون، ولعلهم ينقادون للحق، ولعلهم يستجيبون لداعي الإيمان.
فهكذا الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الموفق، يتحرى الرفق والعبارات المناسبة، والألفاظ الطيبة عندما يمر على من قصر في ذلك، في المجلس أو في الطريق أو في أي مكان يدعوهم بالرفق والكلام الطيب، حتى ولو جادلوه في شيء خفي عليهم، أو كابروا فيه يجادلهم بالتي هي أحسن، كما قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وقال سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3)
من هم أهل الكتاب؟ هم اليهود والنصارى، وهم كفار، ومع ذلك يقول الله عنهم: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (4)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ''يستجاب'' برقم 6401.
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة العنكبوت الآية 46
(4) سورة العنكبوت الآية 46(27/390)
والمعنى أن من ظلم منهم وتعدى وأساء الكلام فإنه ينتقل معه إلى علاج آخر غير الجدال بالتي هي أحسن، كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (1) الآية وقال سبحانه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (2) الآية.
لكن ما دام المقام مقام تعليم ودعوة وإيضاح للحق، فإنه يكون بالتي هي أحسن لأن هذا أقرب إلى الخير، قال سفيان الثوري رحمه الله: ينبغي للآمر والناهي أن يكون رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهي عنه، عدلا فيما يأمر به، عدلا فيما ينهي عنه، عالما بما يأمر به، عالما بما ينهي عنه.
وهذا معنى كلام السلف رحمهم الله، تحري الرفق مع العلم والحلم والبصيرة، لا يأمر ولا ينهي إلا عن علم، لا عن جهل. ويكون مع ذلك رفيقا عاملا بما يدعوه إليه تاركا ما ينهي عنه، حتى يقتدى به.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة
__________
(1) سورة الشورى الآية 40
(2) سورة البقرة الآية 194(27/391)
قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (1) » .
وهذا الحديث مثل حديث أبي سعيد السابق المتضمن الإنكار باليد، ثم اللسان ثم القلب.
فالخلوف التي تخلف بعد الأنبياء هذا حكمهم في أممهم، فيؤمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويعلمون أحكام الله، ويجاهدون في ذلك باليد ثم اللسان ثم القلب.
وهكذا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم يجب على علمائهم وأمرائهم وأعيانهم وفقهائهم أن يتعهدوهم بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال، وإقامة الحدود والتعزيرات الشرعية، حتى يستقيم الناس، ويلزموا الحق، ويقيموا عليهم الحدود الشرعية، ويمنعوهم من ارتكاب ما حرم الله حتى لا يتعدى بعضهم على بعض، أو ينتهكوا محارم الله.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 50.(27/392)
وقد ثبت " عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، الخليفة الراشد أنه قال: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " ويروي عن عمر رضي الله عنه أيضا.
وهذا صحيح، كثير من الناس لو جئته بكل آية، لم يمتثل، لكن إذا جاءه وازع السلطان بالضرب والسجن ونحو ذلك أذعن، وترك باطله. . لماذا؟! . لأن قلبه مريض، ولأنه ضعيف الإيمان أو معدوم الإيمان. . فلهذا لا يتأثر بالآيات والأحاديث. . لكن إذا خاف من السلطان ارتدع ووقف عند حده، ووازع السلطان له شأن عظيم، ولهذا شرع الله لعباده القصاص والحدود والتعزيرات لأنها تردع عن الباطل، وأنواع الظلم، ولأن الله يقيم بها الحق، فوجب على ولاة الأمور أن يقيموها، وأن يعينوا من يقيمها، وأن يلاحظوا الناس، ويلزموهم بالحق، ويوقفوهم عند حدهم حتى لا يهلكوا، وينقادوا مع تيار الباطل، ويكونوا عونا للشيطان وجنده علينا.
فإذا عجز المؤمن عن الإنكار باليد واللسان انتهي إلى القلب، يكره المنكر بقلبه، ويبغضه ولا يكون جليسا لأهله.
وروي " عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال له بعض الناس: هلكت إن لم آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. . فقال(27/393)
له رضي الله عنه: (هلكت إن لم يعرف قلبك المعروف وينكر المنكر) .
فلا بد يا أخي أن تعرف المعروف بالتعلم والتفقه في الدين، ولا بد أن تعرف المنكر بذلك، ثم تقوم بالواجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالتبصر والتفقه في الدين من علامات السعادة ودلائل أن الله أراد بالعبد خيرا، كما في الصحيحين عن معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » .
فإذا رأيت الرجل يتبع حلقات العلم، ويسأل عن العلم، ويتفقه ويتبصر فيه، فذلك من علامات أن الله أراد به خيرا فليلزم ذلك، وليجتهد ولا يمل ولا يضعف، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (2) » رواه الإمام مسلم في صحيحه.
فطلب العلم له شأن عظيم، ومن الجهاد في سبيل الله، ومن أسباب النجاة ومن الدلائل على الخير، ويكون بحضور حلقات
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين برقم 71، ومسلم في كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة برقم 1037.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر برقم 2699.(27/394)
العلم، ويكون بمراجعة الكتب المفيدة، إذا كان ممن يفهمها، ويكون بسماع الخطب والمواعظ، ويكون بسؤال أهل العلم. . كل ذلك من الطرق المفيدة، ويكون أيضا بحفظ القرآن الكريم، وهو الأصل في العلم، فالقرآن رأس كل علم، وهو الأساس العظيم، وهو حبل الله المتين، وهو أعظم كتاب وأشرف كتاب، وهو أعظم قائد إلى الخير، وأعظم ناه عن الشر.
فوصيتي لكل مؤمن ولكل مؤمنة العناية بالقرآن والإكثار من تلاوته والحرص على حفظه أو ما تيسر منه، مع التدبر والتعقل، ففيه الهدى والنور كما قال سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) وقال عز من قائل: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) ويقول تبارك وتعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (3)
فعلينا أن نعنى بكتاب الله، تلاوة وحفظا، وتدبرا وتفقها، وعملا وسؤالا عما أشكل، وهكذا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، هي الوحي الثاني، وهي الأصل الثاني، وهي المفسرة
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة الأنعام الآية 155
(3) سورة محمد الآية 24(27/395)
لكتاب الله، والدالة عليه، فعلى طالب العلم، وعلى كل مسلم أن يعنى بذلك حسب طاقته، وحسب علمه بالحفظ والمراجعة، كحفظ الأربعين النووية وتكملتها لابن رجب خمسين حديثا، وهي من أجمع الأحاديث وأنفعها، وهي من جوامع الكلم، فينبغي حفظها للرجل والمرأة، ومثل ذلك عمدة الحديث للحافظ عبد الغني المقدسي، كتاب عظيم جمع أربعمائة حديث وزياده يسيرة من أصح الأحاديث في أبواب العلم. . فإذا تيسر حفظها فذلك من نعم الله العظيمة.
وهكذا بلوغ المرام للحافظ ابن حجر، كتاب عظيم مختصر، ومفيد محرر، فإذا تيسر لطالب العلم حفظه فذلك خير عظيم.
ومما يتعلق بكتب العقيدة: كتابان جليلان للشيخ الإمام محمد عبد الوهاب رحمه الله هما: كتاب التوحيد، وكتاب كشف الشبهات.
ومن كتب العقيدة المهمة كتاب العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية فهو كتاب جليل مختصر عظيم الفائدة في مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة، وكتاب الإيمان لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب كتاب عظيم، جمع فيه جملة من الأحاديث المتعلقة بالإيمان، فينبغي لطالب العلم وطالبة(27/396)
العلم أن يحفظا ما تيسر من هذه الكتب المفيدة وأشباهها، مع العناية بالقرآن الكريم والإكثار من تلاوته وحفظه، أو ما تيسر منه كما تقدم، ومع العناية بالمذاكرة مع الزملاء وسؤال المدرسين والعلماء الذين يعتقد فيهم الخير والعلم عما أشكل عليه، ويسأل ربه التوفيق والإعانة، ولا يضعف ولا يكسل ويحفظ وقته ويجعله أجزاء: جزء من يومه وليلته لتلاوة القرآن الكريم وتدبره، وجزء لطلب العلم والتفقه في الدين وحفظ المتون ومراجعة ما أشكل عليه، وجزء لحاجته مع أهله، وجزء لصلاته وعبادته، وأنواع الذكر والدعاء.
ومما يفيد طالب العلم وطالبة العلم فائدة عظيمة الاستماع لبرنامج نور على الدرب، فهو برنامج مفيد لطالب العلم وعامة المسلمين وغيرهم؛ لأن فيه أسئلة وأجوبة مهمة لجماعة من المشايخ المعروفين بالخير والعلم، فينبغي العناية بهذا البرنامج، واستماع ما فيه من فائدة، وهو يذاع مرتين في كل ليلة، بين المغرب والعشاء من نداء الإسلام، والساعة التاسعة والنصف من إذاعة القرآن الكريم.(27/397)
ومما يتعلق بموضوعنا - موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - ما ورد في الحديث أيضا عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: يقول الله عز وجل: «مروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أستجيب لكم، وقبل أن تسألوني فلا أعطيكم، وقبل أن تستنصروني فلا أنصركم (1) » .
وفي لفظ آخر من حديث حذيفة يقول عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم (2) » . رواه الإمام أحمد.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المهمات العظيمة كما سبق، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود والترمذي يقول عليه الصلاة والسلام: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم وآكلوهم وشاربوهم فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم ببعض ثم لعنهم على لسان أنبيائهم داود وعيسى ابن مريم:
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار باقي المسند السابق برقم 24727.
(2) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم برقم 22790.(27/398)
(2) » ، وفي لفظ آخر: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تفعل من المعاصي ثم يلقاه في الغد فلا يمنعه ما رآه منه أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم (3) » .
فعلينا أن نحذر من أن يصيبنا ما أصاب أولئك، وقد جاء في بعض الأحاديث أن إهمال هذا الواجب وعدم العناية به - أعني واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - من أسباب رد الدعاء وعدم النصر كما تقدم.
ولا شك أن هذه مصيبة عظيمة، من عقوبات ترك هذا الواجب أن يخذل المسلمون وأن يتفرقوا وأن يسلط عليهم أعداؤهم، وأن لا يستجاب دعاؤهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة برقم 3047، وأحمد في مسند المكثرين من الصحابة، باب مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه برقم 3705.
(2) سورة البقرة الآية 61 (1) {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
(3) أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة برقم 3048، وأبو داود في كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي برقم 4336، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برقم 4006.(27/399)
وقد يكون هذا الواجب فرض عين على بعض الناس، إذا رأى المنكر، وليس عنده من يزيله غيره، فإنه يجب عليه أن يزيله مع القدرة، لما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » خرجه مسلم في الصحيح.
أما إن كانوا جماعة فإنه يكون في حقهم فرض كفاية في البلد أو القرية أو القبيلة، فمن أزاله منهم حصل به المقصود وفاز بالأجر. . وإن تركوه جميعا أثموا كسائر فروض الكفايات. وإذا لم يكن في البلد أو القبيلة إلا عالم واحد وجب عليه عينا أن يعلم الناس، ويدعوهم إلى الله، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر حسب طاقته، لما تقدم من الأحاديث، ولقوله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2)
ومن وفقه الله للصبر والاحتساب من العلماء والدعاة، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والإخلاص لله، نجح ووفق وهدى ونفع الله به، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (4) وقال تبارك وتعالى:
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 49.
(2) سورة التغابن الآية 16
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 3(27/400)
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (1) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (2) وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5)
فالرابحون الناجون في الدنيا والآخرة هم أهل الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
ومعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والتواصي بالصبر من جملة التقوى، ولكن الله سبحانه خصها بالذكر لمزيد من الإيضاح والترغيب.
والمقصود أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ودعا إلى الله وصبر على ذلك فهو من أهل هذه الصفات العظيمة، الفائزين بالربح الكامل والسعادة الأبدية، إذا مات على ذلك.
ومما يؤكد الالتزام بهذه الصفات العظيمة قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (6)
__________
(1) سورة الطلاق الآية 4
(2) سورة محمد الآية 7
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3
(6) سورة المائدة الآية 2(27/401)
وأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن يوفقنا وجميع المسلمين للعلم النافع، والعمل الصالح، وأن يمنحنا الفقه في دينه، والثبات عليه، وأن يرزقنا جميعا القيام بهذا الواجب حسب الطاقة والإمكان، وأن يوفق ولاة أمور المسلمين للقيام بهذا الواجب والصبر عليه، وأن يوفق من أسند إليه هذا الواجب أن يقوم به على خير ما يرام وأن يعين الجميع على أداء حقه والنصح له، ولعباده إنه تعالى جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك على عبده نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.(27/402)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
هو سبب صلاح المجتمع وسفينة النجاة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فإن من أهم الواجبات الإسلامية التي يترتب عليها صلاح المجتمع وسلامته ونجاته في الدنيا والآخرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك هو سفينة النجاة كما ثبت في صحيح(27/402)
البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا من نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا" قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا (1) » ، فتأمل أيها المسلم هذا المثل العظيم من سيد ولد آدم ورسول رب العالمين وأعلم الخلق بأحوال المجتمع وأسباب صلاحه وفساده تجده واضح الدلالة على عظم شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه سبيل النجاة وطريق صلاح المجتمع، ويتضح من ذلك أيضا أنه واجب على المسلمين وفرض عليهم القيام به؛ لأنه هو الوسيلة إلى سلامتهم من أسباب الهلاك.
وقد أكثر الله سبحانه في كتابه الكريم من ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خير الأمم؛ بسبب صفاتها الحميدة التي من أهمها قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال عز وجل:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الشركة، باب هل يقرع في القسمة؟ والاستهام فيه برقم 2493.(27/403)
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1)
وتأمل أيها المسلم الذي يهمه دينه وصلاح مجتمعه كيف بدأ الله سبحانه في هذه الآية بذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل الإيمان، مع كون الإيمان شرطا لصحة جميع العبادات يتبين لك عظم شأن هذا الواجب، وأنه سبحانه إنما قدم ذكره لما يترتب عليه من الصلاح العام.
وقال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) فانظر يا أخي كيف بدأ في هذه الآية بذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل الصلاة والزكاة، وما ذاك إلا لما تقدم بيانه من عظم شأنه وعموم منفعته وتأثيره في المجتمع، وتدل الآية أيضا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص أخلاق المؤمنين والمؤمنات وصفاتهم الواجبة التي لا يجوز لهم التخلي عنها أو التساهل بها، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقد ذم الله سبحانه من ترك هذا الواجب من كفار بني إسرائيل ولعنهم على ذلك فقال سبحانه في كتابه
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سورة التوبة الآية 71(27/404)
المبين من سورة المائدة: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2) وفي هذه الآية إرشاد من الله سبحانه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن سبب لعن كفار بني إسرائيل وذمهم هو عصيانهم واعتداؤهم، وأن من ذلك عدم تناهيهم عن المنكر فيما بينهم لتحذر هذه الأمة سبيلهم الوخيم ويبتعدوا عن هذا الخلق الذميم، ويتضح من ذلك أن هذه الأمة متى تخلقت بأخلاق كفار بني إسرائيل المذمومة استحقت ما استحقه أولئك من الذم واللعن؛ لأنه لا صلة بين العباد وبين ربهم إلا صلة العبادة والطاعة، فمن استقام على عبادة الله وحده وامتثال أوامره وترك نواهيه استحق من الله الكرامة فضلا منه وإحسانا وفاز بالثناء الحسن والعاقبة الحميدة، ومن حاد عن سبيل الحق استحق الذم واللعن وباء بالخيبة والخسران.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (3) » رواه مسلم رحمه الله في صحيحه.
__________
(1) سورة المائدة الآية 78
(2) سورة المائدة الآية 79
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 49.(27/405)
وروى مسلم أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (1) » .
فاتق الله أيها المسلم في نفسك وجاهدها لله واستقم على أمره وجاهد من تحت يديك من الأهل والذرية وغيرهم، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر حسب طاقتك في كل مكان وزمان عملا بهذه الأدلة الشرعية التي ذكرتها لك آنفا، وتخلق بأخلاق المؤمنين واحذر من أخلاق الكافرين والمجرمين، واحرص جهدك على نجاتك ونجاة أهلك وإخوانك المسلمين، كما قال عز وجل: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (2) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (3)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 50
(2) سورة طه الآية 132
(3) سورة التحريم الآية 6(27/406)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: «يا أيها الناس إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم وتسألوني فلا أعطيكم وتستنصروني فلا أنصركم (1) » أخرجه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه وهذا لفظ ابن حبان.
والمعروف يا أخي هو: كل ما أمر الله به ورسوله، والمنكر هو: كل ما نهى الله عنه ورسوله فيدخل في المعروف جميع الطاعات القولية والفعلية، ويدخل في المنكر جميع المعاصي القولية والفعلية، ثم اعلم يا أخي أن كل مسلم راع على من تحت يده ومسئول عن رعيته كما ثبت في صحيح البخاري رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والعبد
__________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه برقم 290 وابن ماجه في كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برقم 4004.(27/407)
راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا فكلكم راع ومسئول عن رعيته (1) » .
فاتق الله يا عبد الله وأعد جوابا لهذا السؤال قبل أن ينزل بك من أمر الله ما لا قبل لك به، والله المسئول أن يهدينا جميعا صراطه المستقيم، وأن يوفقنا وسائر المسلمين للقيام بأمره والثبات على دينه والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر والتواصي بالحق والصبر عليه بصدق وإخلاص إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه، ومن اهتدى بهداه.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، برقم 893، ومسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، برقم 1892.(27/408)
45 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أصل عظيم به صلاح الأمة ونجاتها (1) .
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة مخاطبا رجال جلسة الحسبة في محاضرة له بعنوان (أمانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) قال: تعلمون ويعلم كل ذي بصيرة
__________
(1) نشر في جريدة الندوة، العدد 12124 بتاريخ 25\5\1419 هـ.(27/408)
ويعلم كل مؤمن عظم شان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه أصل عظيم يترتب عليه بتوفيق الله صلاح الأمة ونجاتها، حتى عده بعض أهل العلم من أركان الإسلام، وقال: إنه الركن الثامن من أركان الإسلام، وذكر الأركان الخمسة وذكر الركن السادس الجهاد في سبيل الله، ثم ذكر الركن السابع والثامن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركن ... أي ركنان والحقيقة أنهما ركن واحد.
ودعا سماحته: المحتسب إلى النشاط والقوة وحسن الظن بالله وألا تحمله كثرة الشر على اليأس والضعف والتكاسل، ولكن شمروا واصبروا وصابروا وابشروا بالخير وأحسنوا ظنكم بربكم يقول تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند حسن ظن عبدي بي (1) » .
وحث سماحته الآمر والناهي على التفقه في الدين والتعلم والعناية بالقرآن العظيم والتشبث به حتى يكون على بينة وحذر من أضرار الجهل به، قال بعضهم: لا يبلغ الجاهل، فالجاهل قد
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى ويحذركم الله نفسه برقم 7405، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى برقم 2675.(27/409)
يضر نفسه، فالجهل من الداعية بالأمر والنهي يضره، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) أي على علم. وقال: إن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب الفلاح والسعادة والواجب على من نسب لهذا الأمر العظيم أن يتقي الله وأن يؤدي الأمانة من هذا الواجب أينما كانوا في الشدة والرخاء ... وفي العلن والسر وفي جميع الأحوال يرجو ثواب الله ويخشى عقابه، وأن تكون له النية الصالحة في قصد إصلاح المجتمع والقضاء على ظهور المنكر والعناية بإقامة الواجب وأدائه كما شرع الله.
وقال: ليس بخاف على الجميع تغيير الأحوال وكثرة الجهل وقلة العلم وانتشار الشرور في غالب الدنيا، فلا بد من الصبر والتعاون والتشاور فيما استشكل فاتقوا الله ما استطعتم. والواجب الإنكار حسب الاستطاعة فلهذا يقول صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (2) » .
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 49.(27/410)
فهذا الأمر يعلمه الناس جميعا، الرجل في بيته، والسلطان والهيئة والأمير كل في حدود تعليماته، وحسب الاستطاعة ... فمن أنكر بقلبه عند العجز ومن أنكر بلسانه ويده حسب الاستطاعة ذلك من تمام الإيمان قال تعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (1) بينهم المودة والرحمة والمحبة، لا غش بينهم ولا خداع ثم قال: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) وهذا واجب الإيمان، واتقوا الله ما استطعتم.... عليكم أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وأن تتبعوا أهل الفساد فيما ظهر من فسادهم حتى يتم القضاء عليه حسب المستطاع ... وحسب التعليمات المتبعة ... فاتقوا الله ما استطعتم ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. عليكم بالجد والنشاط وبذل الوسع ومراقبة أهل الشر حتى يقضي الله على شرهم بالحكمة والرفق في موضعهما ... وبالقوة والعقوبة في موضعهما، كل له موضع قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يعطي بالرفق ما لا يعطي بالعنف (3) » وقال صلى الله عليه وسلم: «إن
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق برقم 2593.(27/411)
الرفق ما كان في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه (1) » .
ويقول: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (2) » فلا بد من الصبر والرفق ما دام مجزئا ونافعا، وأوصى سماحته رجال الحسبة بالحرص على أن يكونوا من هؤلاء المتواصين بالحق والصبر، ومضى سماحته مؤكدا أن الله وعد القائمين بذلك بالرحمة على هذه الخصال التي أولها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (3) وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (4)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، برقم 2594.
(2) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب فضل الرفق برقم 2592، وأبو داود في كتاب الأدب، باب الرفق برقم 4809.
(3) سورة آل عمران الآية 110
(4) سورة آل عمران الآية 104(27/412)
أوصيكم ونفسي بتقوى الله وخشيته في جميع الأحوال
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ع. ع. ع. وفقه الله.
سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته، كتابكم الكريم وصل وصلكم الله بهداه ونظمني وإياكم في سلك من خافه واتقاه آمين، وما تضمنه من الإفادة عن تعيينكم في رئاسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالظهران كان معلوما وقد كنت عازما على مكاتبتكم من حين بلغني ذلك ولكن كثرة الشواغل أوجبت التأخير حتى جاء كتابكم أحسن الله للجميع العاقبة. والذي أوصيكم به ونفسي تقوى الله وخشيته في جميع الأحوال وتقديم حقه على ما سواه والصدق في معاملته والنصح له ولعباده حسب الطاقة وأوصيكم برعاية القاعدة الشرعية القدرية عند(27/413)
تعارض المصالح والمفاسد وعدم إمكان تحصيل جميع المصالح ودرء جميع المفاسد وهي تحصيل أعلى المصلحتين أو المصالح ولو بتفويت الدنيا منهما أو منها ودرء وتعطيل كبرى المفسدتين أو المفاسد ولو بارتكاب الدنيا منهما أو منها، وأنتم في محل يحتاج إلى عناية وسياسة شرعية وقوة في أمر الله ولين عند الحاجة، فاتقوا الله واصبروا وصابروا وشجعوا أنفسكم وإخوانكم الأعضاء والهيئات الأخرى التي في الدمام والخبر والثقبة وغيرها بالثقة بالله والاعتماد عليه والاستنصار به، وتذكر حال النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح وما حصل عليهم من الأذى في الدعوة وصيرهم على ذلك حتى بلغهم الله المنى وأبطل بهم كيد الأعداء ونصر بهم حزب الإيمان وخذل بهم حزب الشيطان وذلك من تأويل قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) وقوله سبحانه: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (2) وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (3) وأوصيكم أيضا أن تكونوا والأعضاء أسرع
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة محمد الآية 7
(3) سورة العنكبوت الآية 69(27/414)
الناس إلى كل خير ومن أبعدهم عن كل شر؛ لأن هذا هو الذي ينبغي لكل مسلم عموما وهو في حق الداعي إلى الله والآمر بالمعروف آكد، وهو من الدعوة إلى الله بالفعل مع القول، ونفع ذلك عظيم لا يخفى، وقد تكون الدعوة بالفعل في بعض الأزمان والأماكن أنفع من الدعوة بالقول ولئلا يصير للسفهاء عليكم حجة، ويكفي في هذا المعنى قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (1) وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2) {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) والله المسئول أن يجعلنا وإياكم من الفقهاء في دينه والدعاة إليه على بصيرة، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا وأن يعيذنا وإياكم وجميع إخواننا المسلمين من مضلات الفتن ونزغات الشيطان إنه سميع قريب.
__________
(1) سورة البقرة الآية 44
(2) سورة الصف الآية 2
(3) سورة الصف الآية 3(27/415)
الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، أما بعد:
فقد اطلعت على ما نشرته صحيفة البلاد في عددها الصادر بعدد 1909 وتاريخ 12 \ 2 \ 1385 هـ بقلم بعض الكتاب، تحت عنوان (احذروا الغلو) .
تهمة لا مبرر لها
فألفيت الكاتب عفا الله عنه قد أساء الظن بالإخوان المتطوعين القائمين بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ووصفهم بأنهم مخدوعون ومتشددون ومحاربون للجديد. إلى غير ذلك مما وقع في كلامه من الأخطاء.
وقد رأيت أن أنبه في هذه الكلمة على ما وقع في مقاله من الأخطاء ذات الأهمية نصحا له ولسائر الأمة ودفاعا عن الإخوان فيما نعلم براءتهم منه، وتحريضا له ولغيره من الكتاب على(27/416)
التثبت في القول. ولزوم الاعتدال في الحكم والحذر من سوء الظن الذي لا ينبني على أساس مستقيم.
وإلى القارئ تفصيل القول فيما وقع في مقال الكاتب المشار إليه من الأخطاء التي تستحق التنبيه عليها، والإنكار على قائلها فنقول والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به:(27/417)
أما ما ذكره الكاتب عن مضار الغلو والتشديد فصحيح.
ولا شك أن الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت بالتحذير من الغلو في الدين، وأمرت بالدعوة إلى سبيل الحق بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ولكنها مع ذلك لم تهمل جانب الغلظة والشدة في محلها حيث لا ينفع اللين والجدال بالتي هي أحسن، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (2) وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (3) الآية.
__________
(1) سورة التوبة الآية 73
(2) سورة التوبة الآية 123
(3) سورة العنكبوت الآية 46(27/417)
فشرع الله سبحانه لعباده المؤمنين الغلظة على الكفار والمنافقين حين لم تؤثر فيهم الدعوة بالحكمة واللين.
والآيات وإن كانت في معاملة الكفار والمنافقين دالات على أن الشريعة إنما جاءت باللين في محله حين يرجى نفعه. أما إذا لم ينفع واستمر صاحب الظلم أو الكفر أو الفسق في عمله ولم يبال بالواعظ والناصح، فإن الواجب الأخذ على يديه ومعاملته بالشدة وإجراء ما يستحقه من إقامة حد أو تعزير أو تهديد أو توبيخ حتى يقف عند حده وينزجر عن باطله.
ولا ينبغي للكاتب وغيره أن ينسى ما ورد في هذا من النصوص والوقائع من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا.
وما أحسن ما قاله الشاعر في هذا المعنى:
دعا المصطفى دهرا بمكة لم يجب ... وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف صلت بكفه ... له أسلموا واستسلموا وأنابوا(27/418)
والخلاصة: أن الشريعة الكاملة جاءت باللين في محله، والشدة في محلها، فلا يجوز للمسلم أن يتجاهل ذلك، ولا يجوز أيضا أن يوضع اللين في محل الشدة، ولا الشدة في محل(27/418)
اللين، ولا ينبغي أيضا أن ينسب إلى الشريعة أنها جاءت باللين فقط، ولا أنها جاءت بالشدة فقط، بل هي شريعة حكيمة كاملة صالحة لكل زمان ومكان ولإصلاح جميع الأمة. ولذلك جاءت بالأمرين معا. واتسمت بالعدل والحكمة والسماحة فهي شريعة سمحة في أحكامها وعدم تكليفها ما لا يطاق، ولأنها تبدأ في دعوتها باللين والحكمة والرفق، فإذا لم يؤثر ذلك وتجاوز الإنسان حده وطغى وبغى أخذته بالقوة والشدة وعاملته بما يردعه ويعرفه سوء عمله.
ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفائه الراشدين وصحابته المرضيين وأئمة الهدى بعدهم عرف صحة ما ذكرناه
النصوص الآمرة باللين في مجاله
ومما ورد في اللين قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (1) الآية.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159(27/419)
وقوله تعالى في قصة موسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (1)
وقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) الآية.
النصوص الدالة على الشدة في مجالها
ومما ورد في الشدة الآيات المتقدم ذكرها.
ومن الأحاديث ما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلى قوله تعالى:
قال: والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه (5) » .
__________
(1) سورة طه الآية 44
(2) سورة النحل الآية 125
(3) أخرجه الترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برقم 2169.
(4) سورة المائدة الآية 78 (3) {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
(5) سورة المائدة الآية 79 (4) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}(27/420)
وفي لفظ آخر: «على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو لتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم (1) » .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم (2) » .
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقتها عليهم (3) » . وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله من نبي في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويهتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (4) » .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي برقم 4336.
(2) صحيح البخاري الأذان (644) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (651) ، سنن الترمذي الصلاة (217) ، سنن النسائي الإمامة (848) ، سنن أبو داود الصلاة (548) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (791) ، مسند أحمد بن حنبل (2/537) ، موطأ مالك النداء للصلاة (292) ، سنن الدارمي الصلاة (1274) .
(3) صحيح البخاري الأذان (644) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (651) ، سنن الترمذي الصلاة (217) ، سنن النسائي الإمامة (848) ، سنن أبو داود الصلاة (548) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (791) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) ، موطأ مالك النداء للصلاة (292) ، سنن الدارمي الصلاة (1212) .
(4) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 50.(27/421)
وقصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر معلومة لدى أهل العلم، وقد هجرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم خمسين ليلة حتى تابوا فتاب الله عليهم وأنزل في ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} (1) إلى قوله: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} (2) الآية.
فمما تقدم من الآيات والأحاديث يعلم الكاتب وغيره من القراء أن الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت باللين في محله والغلظة والشدة في مجالهما، وأن المشروع للداعية إلى الله أن يتصف باللين والرفق والحلم والصبر لأن ذلك أكمل في نفع دعوته والتأثر بها كما أمره الله بذلك وأرشد إليه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون على علم وبصيرة فيما يدعو إليه وفيما ينهى عنه لقول الله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (3)
ولا ينبغي للداعية أن يلجأ إلى الشدة والغلظة إلا عند الحاجة والضرورة وعدم حصول المقصود بالطريقة الأولى، وبذلك يكون الداعي إلى الله سبحانه قد أعطى المقامين حقهما وترسم هدي الشريعة في الجانبين، والله الموفق.
__________
(1) سورة التوبة الآية 117
(2) سورة التوبة الآية 118
(3) سورة يوسف الآية 108(27/422)
ونحن في هذا لا نقصد موافقة الكاتب على ما نسبه للإخوان من التشديد، فالذي عرفناه عنهم خلاف ذلك فهم - بحمد الله - على بينة وبصيرة ويعاملون الناس بالتي هي أحسن ويوجهونهم إلى الخير تحت إرشادات علماء البلاد والمسئولين فيها.
ولو فرضنا أنه وقع من بعضهم خطأ أو تشديد في غير محله فليسوا معصومين، والواجب تنبيههم وإرشادهم إلى ما قد يقع منهم من الخطأ حتى يحذروه مستقبلا.
وكان الواجب على الكاتب حين بلغه عنهم ما يعتقده خلاف الشرع أن يتصل بأعيانهم مشافهة أو كتابة ويناصحهم فيما أخذ عليهم أو يتصل بسماحة المفتي أو رئيس الهيئات ويبدي ما لديه حول الإخوان من النقد حتى يوجههم المشائخ إلى الطريق السوي.
أما أن يكتب في صحيفة سيارة ما يتضمن التشنيع عليهم والحط من شأنهم ووصفهم بما هم براء منه فهذا لا يجوز من مؤمن يخاف الله ويتقيه، لما فيه من كسر شوكة الحق والتثبيط عن الدعوة إليه والتلبيس على القراء ومساعدة السفهاء والفساق على باطلهم وعلى النيل من دعاة الحق، والله المسئول أن(27/423)
يسامحنا وإياه وأن يوفق الجميع للتوبة النصوح والاستقامة على الحق ومناصرة الداعين إليه إنه خير مسئول.
مغالطات الكاتب
وأما قوله: (وأنا لا أنكر على كل مؤمن أن يرشد إلى الخير ويوجه إلى الرشد ويستنكر الشر ويلفت النظر إليه بأخلاق القرآن والسنة وهي اللطف واللين والروية، أما إذا اتسمت أقواله أو أفعاله بالقسوة والشدة فإن ذلك ليس من حقه لأنه غير مأذون ولا مكلف من جهة أسند إليها هذا الأمر، وغاية ما في الأمر أن يستنكر ما يراه منكرا بقلبه وهو أضعف الإيمان لغير المسئول، قد يكون هذا الأمر مستساغا ومقبولا في جماعة أو أمة ليس فيها أجهزة حكومية خصصت لهذا الواجب، ولكنه غير لازم ولا مقبول إلى جانب السلطات الحكومية المكلفة) .
كشف المغالطات
فهذا الكلام فيه حق وباطل وإيهام.
وإليك أيها القارئ بيان ذلك بالتفصيل:
أما قوله: إنه لا ينكر على كل مؤمن أن يرشد إلى الخير ويوجه إلى الرشد. . إلخ. . فهذا حق، والواجب على كل من لديه بصيرة أن يقوم بذلك وهو سبيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل أتباعه على بصيرة.(27/424)
كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1)
فهذه الآية الكريمة ترشد إلى أن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم على الكمال هم أهل البصيرة والدعوة إلى الحق وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2)
وهذه الآية العظيمة وإن كان الخطاب فيها موجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمراد بها جميع الأمة، وقد أوضح الله فيها سبيل الدعوة ومراتبها، فالواجب على الدعاة أن يسيروا في دعوتهم إلى الله سبحانه على ضوئها، وعلى الطريقة التي رسمها الله فيها سواء كان المدعو كافرا أو مسلما إلا من ظلم وعاند فقد تقدم في الأدلة السابقة ما يدل على شرعية الغلظة عليه ومعاملته بما يستحق في حدود الشريعة الكاملة.
وأما قول الكاتب: (أما إذا اتسمت أقواله وأفعاله بالقسوة والشدة فإن ذلك ليس من حقه لأنه غير مأذون ولا مكلف من جهة أسند إليها هذا الأمر وغاية ما في الأمر أن يستنكر ما يراه منكرا بقلبه وهو أضعف الإيمان لغير المسئول) .
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة النحل الآية 125(27/425)
فهذا فيه إجمال وخطأ ظاهر يتضح مما تقدم؛ وذلك لأن المطلوب من جميع الدعاة سواء كانوا مسئولين من جهة الحكومة أو متطوعين أن يكونوا في دعوتهم على المنهج الشرعي، وأن لا تتسم أقوالهم وأفعالهم بالقسوة والشدة إلا عند الضرورة إليها كما سبق.
وكلام الكاتب يوهم خلاف ذلك.
إرشاد الكاتب إلى ما رسمته الشريعة في الدعوة
وقوله: (وغاية الأمر) . إلخ هذا خطأ واضح.
والصواب أن مراتب الإنكار الثلاث مشروعة للمسئول وغيره، وإنما يختلفان في القدرة، فالمسئول من جهة الحكومة أقدر من غيره، والإنكار بالقلب هو أضعف الإيمان في حق العاجز عن الإنكار باليد واللسان سواء كان مسئولا أو متطوعا وهو صريح الحديث الشريف ومقتضى القواعد الشرعية.
وأما قول الكاتب: (قد يكون هذا الأمر مستساغا ومقبولا في جماعة أو أمة ليس فيها أجهزة حكومية خصصت لهذا الواجب ولكنه غير لازم ولا مقبول إلى جانب السلطات الحكومية المكلفة) ففيه نظر ظاهر أيضا، وهذا الأسلوب الذي أطلقه الكاتب ليس أسلوبا علميا ولا منسجما مع الأدلة الشرعية لأن الدعوة إلى الله سبحانه وتعليم الناس ما يجهلونه من شرع الله(27/426)
لا ينبغي أن يعبر عنه بمثل هذا الأسلوب بل ينبغي أن يعبر عنه بأسلوب الحث والترغيب ولا سيما في الأمم والجماعات المحتاجة إلى ذلك، فإن دعوتهم وإرشادهم إلى ما يجب عليهم من شرع الله من الأمور المتعينة على ولاة الأمر، وعلى أهل العلم حسب القدرة فكيف يعبر عن مثل هذا الأمر العظيم بقول الكاتب: (قد يكون هذا الأمر مستساغا ومقبولا) ؟ إلخ.
تفنيد رأي الكاتب وتفصيل القول في أحكام
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأما قوله: ولكنه غير لازم ولا مقبول إلى جانب السلطات الحكومية المكلفة، فهذا خطأ ظاهر أيضا لأن الأجهزة والسلطات الحكومية إن كانت قد قامت بواجب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمشاركة غيرها لها في ذلك من المتطوعين حسنة جدا ومطلوبة شرعا لأنه من باب التعاون على البر والتقوى، ومن باب المشاركة في جهاد شرعي وتوجيه صالح.
وقصارى ما هنالك أن الأجهزة والسلطات الحكومية قد أدت فرض الكفاية وصار القيام من غيرهم بمشاركتهم من باب السنن والتطوع وذلك من أفضل العبادات وأحبها إلى الله سبحانه.
وأما إن كانت الأجهزة والسلطات الحكومية لم تقم بالواجب على الوجه الأكمل، فإن مشاركة غيرهم لهم في ذلك متعينة لأن فرض الكفاية لم يسقط بهم.(27/427)
وقد تقرر في الأدلة الشرعية أن الدعوة إلى الله سبحانه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية إذا قام بها من يكفي سقط الفرض عن الباقين وصارت المشاركة فيها في حق الباقين سنة، وإن لم يقم بها من يكفي إثم الجميع.
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأفراد
وقد يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين وذلك في حق من يرى المنكر وليس هناك من ينكره وهو قادر على إنكاره فإنه يتعين عليه إنكاره لقيام الأدلة الكثيرة على ذلك، ومن أصرحها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » أخرجه مسلم في صحيحه.
والإنكار بالقلب فرض على كل واحد لأنه مستطاع للجميع وهو بغض المنكر وكراهيته ومفارقة أهله عند العجز عن إنكاره باليد واللسان لقول الله سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (2)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 49.
(2) سورة الأنعام الآية 68(27/428)
وقال تعالى في سورة النساء: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (1) الآية.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (2) ومعنى لا يشهدون الزور لا يحضرونه.
تفسير الزور - وحكم الداعي إليه
والزور يشمل كل منكر، ويدخل في ذلك الشرك والكفر وأعياد المشركين والاجتماع على شرب الخمور والتدخين والأغاني وآلات الطرب وأفلام السينما وأشباه ذلك من المنكرات، ذكر معنى ذلك الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية.
وذكر البغوي - رحمه الله - عند تفسيرها قريبا من ذلك.
وقال: أصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق، وهذا هو الواقع من أهل الباطل فإنهم يحسنون المنكرات بوصفها بغير حقيقتها حتى يرغب فيها الناس وحتى لا ينفروا منها فيكون على فاعل ذلك إثم ما عمل وإثم الدعوة إليه، وأعظم من ذلك الدعوة إليها بالقول.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص
__________
(1) سورة النساء الآية 140
(2) سورة الفرقان الآية 72(27/429)
ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (1) » والأدلة في هذا المعنى كثيرة.
اختلاق الكاتب على العلماء
وقول الكاتب: وقد سرني أن علماءنا الأفاضل قد استنكروا هذا التجاوز منهم ونهوهم عنه. إلخ. فيه نظر وقد سبق لك أن الإخوان كانوا في دعوتهم وإنكارهم للمنكر يتحرون الطريقة الشرعية ويعاملون الناس بالرفق والحكمة، ولا نعلم أنهم تعاطوا من الشدة والقسوة ما يوجب إنكار العلماء عليهم، فلا أدري عن أي مصدر وصل هذا الخبر إلى الكاتب.
ومعلوم أن على الناقل أن يتثبت في النقل وأن ينظر فيما ينقل وينشر بين الناس، وإذا صح لديه الخبر نظر، هل إعلانه أصلح أم تركه أحسن في العاقبة.
ولا شك أن هذا الخبر لو صح فليس من المصلحة نشره بين الناس وإعلانه في الصحف لما في ذلك من التنقص للدعاة إلى الحق وتثبيط عزائمهم وتشجيع أهل الفسق ضدهم في وقت يتكاتف فيه دعاة الباطل والمذاهب الهدامة على نشر باطلهم وإعلان مذاهبهم، فالله المستعان.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة برقم 2674.(27/430)
وأما ما ذكره الكاتب عن الفتنة التي وقعت في صدر الإسلام وتمخض عنها قتل عثمان رضي الله عنه، وما جرى من الخلاف بعد ذلك بين أهل الشام والعراق إلخ.
فتلك أمور قد عني بها التاريخ وعرفها علماء الإسلام وغيرهم، ولا شك أن لأعداء الإسلام والجهال به فيها دورا فعالا وقول أهل السنة والجماعة في هذه الفتنة معلوم، وهو الكف عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم والترضي عنهم جميعا، واعتقاد أنهم مجتهدون فيما فعلوا طالبون للحق والمصيب منهم له أجران، والمخطئ له أجر واحد، كما صح بذلك الحديث الشريف.
وإنما يهمنا هنا أمران.
أحدهما تخوف الكاتب من أن يكون هؤلاء الإخوان قاموا بما قاموا به عن تأثير جماعة سرية إجرامية تخريبية.
والجواب عن هذا أن يقال من عرف الإخوان وسير حالتهم يعلم يقينا أنهم بعيدون كل البعد عن هذه التهمة الشنيعة وعن هذا الظن السيئ، والواجب على المسلم حمل أحوال إخوانه على أحسن المحامل وعلاج ما قد يقع من الخطأ بالطرق الشرعية التي تبني ولا تهدم، وتشجع الحق ولا تخذله، وتنصر(27/431)
الحق وتدمغ الباطل، لا أن يظن بهم السوء ويشجع على إماتة دعوتهم وتشويه سمعتهم وتشجيع أهل الباطل ضدهم وتحريض ولاة الأمر على إيقاف حركتهم عملا بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث (2) » .
خطأ كبير بسبب التقليد الأعمى
والأمر الثاني وصفه كعب الأحبار تقليدا لبعض المتأخرين بأنه يهودي أظهر الإسلام من أجل الكيد للإسلام وإفساد أهله.
والجواب أن هذا خلاف المعروف عن علماء الإسلام ونقلة الأخبار، فقد روى عنه علماء الحديث وأثنى عليه معاوية رضي الله عنه وكثير من السلف الصالح.
وروى عنه مسلم في صحيحه. وذكره البخاري في كتابه الجامع الصحيح ولم يزنه بريبة، وذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة والتهذيب وابن الأثير في أسد الغابة ولم يتهموه بهذه التهمة.
__________
(1) سورة الحجرات الآية 12
(2) أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع برقم 5144، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس برقم 2563.(27/432)
وقال الحافظ ابن حجر في التقريب ما نصه: كعب بن ماتع الحميري أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار ثقة من الثانية مخضرم كان من أهل اليمن فسكن الشام، مات في خلافة عثمان رضي الله عنه. . فكيف يجوز لمن يخاف الله ويتقيه أن يرمي شخصا أظهر الإسلام والدعوة إليه وشارك الصحابة في أعمالهم بأنه يهودي بدون حجة ولا برهان يسوغ ذلك؟
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم التحذير من رمي المسلم لأخيه بالصفات الذميمة، وأن من رمى أخاه بما هو بريء منه كان الرامي أولى بذلك الوصف الذي رمى به أخاه.
وكونه يروي بعض الأخبار الإسرائيلية الغريبة لا يوجب رميه باليهودية، والكيد للإسلام لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج (1) » .
وقد قام علماء الإسلام بنقد أخبار بني إسرائيل وتزييف ما خالف الحق منها وإبطاله، فكعب في ذلك يشبه عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن سلام، ووهبا، وغيرهم ممن نقل أخبار بني إسرائيل.
فكما أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لا يجوز أن يتهم باليهودية لكونه نقل كثيرا من أخبار بني إسرائيل
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل برقم 3461.(27/433)
من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك من كتبهم، فهكذا كعب لا يجوز أن يرمى باليهودية والكيد للإسلام من أجل ذلك.
ولا يجوز أن يجعل في صف عبد الله بن سبأ وأشباهه من المعروفين بالكفر والإلحاد والكيد للإسلام.
وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا رجلا بالكفر أو قال يا عدو الله وليس كذلك إلا عليه (2) » فهذا الحديث وما جاء في معناه يوجب على المسلم التثبت في الحكم على الناس والحذر من رمي أخيه بصفة ذميمة وهو بريء منها بمجرد الظن أو تقليد من لا يعتمد عليه، والله المستعان.
فرية عظيمة واستهزاء بالدعاة واستنكار لفعل الواجب
ثم قال الكاتب: أقول إن من جهل شيئا عاداه كما في المثل، وقد كنا قبل وعينا الجديد وقبل معرفتنا بحقيقة المستحدثات العلمية الجديدة نكره استعمالها ونستعيبه. ثم ذكر استعمال السيارات والطائرات والصواريخ، إلى أن قال: ما دمنا قد عرفنا هذا كله ولمسناه وتأكدنا فوائده وعدم معارضته للدين،
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه برقم 61.
(2) أي رجع إليه ما نسب إليه. اهـ لسان العرب. (1)(27/434)
فلماذا يحاربه هؤلاء الطيبون المخدوعون، ولماذا يسافرون من بلد إلى آخر لاستنكاره ومحاولة عدم استعماله؟ . . إلخ.
لا ريب أن من قرأ هذا الكلام وضم بعضه إلى بعض يفهم منه أن الإخوان الذين انتصب الكاتب لنقدهم ينكرون هذه المستحدثات الجديدة من السيارات والطائرات، واللاسلكي وأشباه ذلك، ومعلوم قطعا أن الإخوان الذين أشرنا إليهم لا ينكرون شيئا من ذلك ولا يعيبونه بل هم أنفسهم يستعملون ذلك فينتقلون في السيارات، ويركبون الطائرات ويستعملون اللاسلكي، فما الذي دعا الكاتب إلى الوقوع في هذه الفرية الكبيرة والزلة الشنيعة؟
أترك الجواب للقراء وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا من الهوى وخطوات الشيطان.
وأما سفرهم إلى البلدان للدعوة والتوجيه فهو أمر يستحقون عليه الثناء والشكر وليس محلا للاستنكار والاستغراب. نعم هو حقيق بالاستغراب بالنسبة إلى تخلف أكثر الناس عن هذه المهمة الشريفة التي هي طريقة الرسل وأتباعهم، وليس هو محلا للاستغراب الذي ينتج عنه الاستنكار والتشنيع والظن السيئ.
وأما قوله " المخدوعون " فهي عبارة لا تليق من الكاتب وليس الإخوان محلا لها وقائلها أولى بها؛ لأن الإخوان - بحمد الله - على بينة من أمرهم؛ وليسوا مخدوعين ولا متأثرين بحركة(27/435)
هدامة ولا عاملين لغرض دنيء؛ بل غايتهم شريفة وعملهم مشكور، ودافعهم هو الحق والغيرة له، والخوف على المسلمين من عواقب ظهور المنكرات وعدم تغييرها، وإنما المخدوع حقا من ظن بهم خلاف ذلك.
وأما قوله - الطيبون - وقوله فيما تقدم عن المغرضين والطامعين وأعداء الإسلام أنهم استغلوا طيبة الصحابة، أرجو أن لا يكون قصد بهذا الوصف التنقص لمن وصفهم - بالطيب - لأن سياق الكلام ووصف الصحابة والإخوان بالطيب في جانب كونهم مخدوعين يشير إلى أن المراد بوصف الطيب الغفلة والغباوة وعدم التنبه لعواقب الأمور، هذا هو المعروف من بعض كتاب العصر؛ أرجو أن لا يكون الكاتب قصد هذا المقصد؛ وإن كان كلامه يقتضيه أو يحوم حوله، ونسأل الله أن يعفو عنا وعنه وأن يمن علينا جميعا بالتوبة النصوح من أخطائنا وسيئات أعمالنا إنه خير مسئول.
تناقض مكشوف
وأما قول الكاتب بعدما تقدم " ليس لي بالطبع الإفتاء ولا أحمل مؤهلاته فهذا من اختصاص علمائنا الأفاضل الذين استنكروا عمل هؤلاء المخدوعين الطيبين ".
فيقال له أولا ما دمت تعرف أنك غير أهل للفتوى فما بالك أفتيت أولا وآخرا، ولو تأملت كلمتك لعلمت أنك أفتيت فيها عدة فتاوى على غير هدى.(27/436)
ومن أعظم الجرائم الفتوى بغير علم، فكم ضل بها من ضل، وهلك بها من هلك، ولا سيما إذا كانت الفتوى معلنة على رءوس الأشهاد وممن قد يغتر به بعض الناس فإن الخطر بذلك عظيم والعواقب وخيمة وعلى المفتي بغير علم مثل آثام من تبعه، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أفتى بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه (1) » .
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (2) » . (3)
وقد أعظم الله سبحانه وتعالى شأن الفتوى بغير علم وحذر عباده منها وبين أنها من أمر الشيطان قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (4)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (5) {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (6)
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين باقي مسند أبي هريرة برقم 8067، وابن ماجه في كتاب المقدمة، باب اجتناب الرأي والقياس برقم 53.
(2) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة برقم 2674.
(4) سورة الأعراف الآية 33
(5) سورة البقرة الآية 168
(6) سورة البقرة الآية 169(27/437)
ثم يقال للكاتب ثانيا من هو الذي استنكر من العلماء الأفاضل على الإخوان عملهم؟
وقد سبق في صدر هذه الكلمة أنا لا نعلم أحدا من العلماء المعروفين بالغيرة والتحقيق استنكر عملهم، بل المعروف من العلماء الأفاضل تأييدهم ومساعدتهم وشكرهم على أعمالهم الطيبة والدعاء لهم بالتوفيق والسداد، وكيف يستنكر العلماء الأفاضل الدعوة إلى الله وإرشاد العباد إلى طاعته وتحريضهم على الصلاة في الجماعة والإنكار على من تخلف عن ذلك، فلا يستنكر هذه الأعمال الجليلة مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر ويعرف شيئا مما ورد في الدعوة إلى الله سبحانه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضلا عن العالم الفاضل، فعياذا بالله من القول عليه وعلى عباده بغير علم وعياذا بالله من خطل اللسان وسيئات العمل.
فما أعظم ما جناه الكاتب على نفسه وعلى غيره ممن قد يغتر بقوله وما أعظمها من جريمة.(27/438)
ثم قال الكاتب بعد ذلك: ولكني أقول إذا كان الدين يحرم التماثيل المجسمة وما في حكمها سدا للذريعة وخوفا من العودة إلى عبادتها كما كان في الجاهلية الأولى وكما هو الحال اليوم في الأمم الوثنية.
وإذا كان من واجبنا كأمة مسلمة محافظة أن نحارب الصور الماجنة الخليعة خوفا على أخلاقنا وتقاليدنا، فما هي حجة بعضنا في إنكار الصورة الظلية العاكسة التي لا فرق بينها مطلقا وبين ما تعكسه المرآة التي يستعملها شبابنا وشيوخنا ونساؤنا وبناتنا، وما الفرق بين هذه الصورة الظلية العاكسة كالمرآة التي تشتمل عليها الجريدة والمجلة والمعرض والبيت والسينما وبين أختها المعروضة لاسلكيا في التلفزيون، وكما قلت في كلمة سابقة أن التلفزيون لا يسجل إلا ما يعرض على شاشته من خير وشر، ونحن في هذه البلاد المقدسة قادرون على اختيار الخير والنافع وعرضه على شاشة التلفزيون كعلم وكدرس وكتاريخ وكتسلية بريئة نحول فيها بين المجتمع وبين الفراغ والنميمة وسفاسف الأقوال والأفعال. انتهى المقصود.
والجواب عن هذا أن يقال لقد أحسن الكاتب في اعترافه بأن الدين الإسلامي يحرم التماثيل المجسمة وما في حكمها سدا للذريعة وخوفا من العودة إلى عبادتها كما كان في(27/439)
الجاهلية الأولى، وكما هو الحال اليوم في الأمم الوثنية، فقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدل على ما ذكره الكاتب من تحريم التماثيل والزجر عنها، ولعن المصورين والتصريح بأنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة وأنهم يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم.
وقد ثبت في القرآن الكريم وفي الأحاديث والآثار أن أسباب ضلال قوم نوح هي التماثيل كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (1) {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} (2) {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} (3)
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن بعض أزواجه ذكرت له كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله (4) » . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سورة نوح الآية 23
(2) سورة نوح الآية 24
(3) سورة نوح الآية 25
(4) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب بناء المسجد على القبر برقم 1341، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور برقم 528.(27/440)
فتبين مما تقدم أن التساهل ببيعها في الأسواق ونصبها في المكاتب والدوائر ونحوها من أعظم أسباب الشرك؛ ومن أعمال الجاهلية ومن أخلاق شرار الخلق عند الله.
فالواجب على المسئولين جميعا في جميع الدول الإسلامية القضاء على هذه التماثيل والزجر عنها ومنع توريدها وإتلاف ما يوجد منها في كل مكان طاعة لله ورسوله وحذرا من عواقبها الوخيمة.
ولقد أحسن الكاتب أيضا في قوله: (وإذا كان من واجبنا كأمة مسلمة محافظة أن نحارب الصور الماجنة الخليعة خوفا على أخلاقنا وتقاليدنا) .
نعم والله قد أحسن الكاتب في هذا، فالواجب علينا وعلى المسئولين في جميع الحكومات الإسلامية محاربة هذه الصور الخليعة التي غزت البلاد الإسلامية من كل مكان وانتشرت بين شبابنا وفتياتنا في كل بقعة إلا ما شاء الله؛ فالواجب على أولي الأمر أن يحاربوها ويحاربوا الصحف والكتب التي تحملها إلى الناس، كما يجب أن تحارب جميع الصحف والكتب التي تحمل أنواع الإلحاد والتخريب والدعوة إلى التفسخ من الأخلاق الفاضلة والسجايا الكريمة، ويجب على أولي الأمر أيضا تكليف الحكام الإداريين وموظفي الأمن بالتعاون مع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على القضاء على هذه المعاول الهدامة(27/441)
والوسائل الفتاكة بديننا وأخلاقنا، وفقهم الله لنصر دينه وحماية شريعته ومساعدة من قام بذلك إنه على كل شيء قدير.
فتوى في الصور بدون علم
وأما قول الكاتب بعد ذلك (فما هي حجة بعضنا في إنكار الصورة الظلية العاكسة التي لا فرق بينها مطلقا وبين ما تعكسه المرآة. .) إلخ. .
والجواب أن يقال هذه فتوى من الكاتب بالتسوية بين الصورة الشمسية وبين الصورة في المرآة، ومعلوم أن الفتوى تفتقر إلى علم بالأدلة الشرعية؛ وقد سبق اعتراف الكاتب بأنه ليست فيه صفة الفتوى ولا يحمل مؤهلاتها فما باله هداه الله أفتى هنا وجزم بالحكم بغير علم.
ويقال له أيضا لقد أخطأت في التسوية والقياس من وجهين أحدهما أن الصورة الشمسية لا تشبه الصورة في المرآة لأن الصورة الشمسية لا تزول عن محلها والفتنة بها قائمة.
وأما الصورة في المرآة فهي غير ثابتة تزول بزوال المقابل لها وهذا فرق واضح لا يمتري فيه عاقل.
والثاني أن النص عن المعصوم صلى الله عليه وسلم جاء بتحريم الصور مطلقا ونص على تحريم ما هو من جنس الصورة الشمسية كالصورة في الثياب والحيطان.(27/442)
فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث أنه لما رأى عند عائشة سترا فيه تماثيل غضب وهتكه وقال: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون (1) » .
وقال في حديث آخر: «إن أصحاب هذه الصور (2) » ، يشير إلى الصور التي في الثياب، «يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم (3) » .
وثبت عنه عليه الصلاة والسلام «أنه محى الصور التي في جدران الكعبة يوم الفتح» وهي في حكم الصور الشمسية، فلو سلمنا مشابهة الصورة الشمسية للصورة في المرآة لم يجز القياس لما قد تقرر في الشرع المطهر أنه لا قياس مع النص، وإنما محل القياس إذا فقد النص كما هو معلوم عند أهل الأصول وعند جميع أهل العلم.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب عذاب المصورين يوم القيامة برقم 5950، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان برقم 2109.
(2) صحيح البخاري البيوع (2105) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) ، مسند أحمد بن حنبل (6/246) ، موطأ مالك الجامع (1803) .
(3) صحيح البخاري النكاح (5181) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) ، مسند أحمد بن حنبل (6/246) ، موطأ مالك الجامع (1803) .(27/443)
وأما ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة إلا رقما في ثوب (1) » فهذا الحديث لا شك في صحته وقد تعلق به بعض من أجاز الصور الشمسية.
والجواب عنه من وجوه.
منها أن الأحاديث الواردة في تحريم التصوير ولعن المصورين والتصريح بأنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة مطلقة عامة ليس فيها تقييد ولا استثناء فوجب الأخذ بها والتمسك بعمومها وإطلاقها.
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور المشبهة للشمسية وهي الصور الموجودة في الستور والحيطان غضب وتلون وجهه وأمر بهتك الستور التي فيها الصور ومحو الصور التي في الجدران، وباشر محوها بنفسه لما رآها في جدران الكعبة كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
ومنها أن الاستثناء المذكور إنما ورد في سياق الأحاديث الدالة على امتناع الملائكة من دخول البيت الذي فيه تصاوير
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة برقم 3226، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان برقم 2106.(27/444)
ولم يرد في سياق الأحاديث المانعة من التصوير، وفرق عظيم بين الأمرين.
ومنها أن قوله: «إلا رقما في ثوب (1) » يجب أن يحمل على النقوش التي ليست بصور أو على الصور التي قطع رأسها أو طمس أو التي في الثياب التي تمتهن باتخاذها وسائد وبسطا ونحو ذلك، لا فيما ينصب ويرفع كالستور على الأبواب والجدران والملابس، فإن الأحاديث الصحيحة صريحة في تحريم ذلك، وأنه يمنع من دخول الملائكة كما ورد ذلك في حديث عائشة وأبي هريرة وغيرهما.
وبما ذكرناه يتضح الجمع بين الأحاديث وأن الاستثناء إنما ورد في سياق الأحاديث الدالة على امتناع دخول الملائكة البيت الذي فيه الصور، وأن المراد بها الصور الممتهنة في الوسائد والبسط ونحوها، أو مقطوعة الرأس، والله ولي التوفيق.
جمع العلماء بين الأحاديث في الصور بما يزيل الإشكال
وقد جمع الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في الفتح والنووي في شرح مسلم بين الأحاديث بما ذكرته آنفا، وأنا أنقل لك أيها القارئ كلامهما وبعض كلام غيرهما في هذه المسألة ليتضح لك الصواب، ويزول عنك الإشكال، والله الهادي إلى إصابة الحق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5958) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2106) ، سنن الترمذي الأدب (2804) ، سنن النسائي الزينة (5349) ، سنن ابن ماجه اللباس (3649) ، مسند أحمد بن حنبل (4/30) ، موطأ مالك الجامع (1802) .(27/445)
قال الحافظ في الفتح قال الخطابي: والصورة التي لا تدخل الملائكة البيت الذي هي فيه ما يحرم اقتناؤها وهو ما يكون من الصور التي فيها الروح مما لم يقطع رأسه أو لم يمتهن. اهـ.
وقال الخطابي - رحمه الله - أيضا: إنما عظمت عقوبة المصور لأن الصور كانت تعبد من دون الله، ولأن النظر إليها يفتن وبعض النفوس إليها تميل. اهـ.
وقال النووي - رحمه الله - في شرح مسلم: (باب تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه، وأن الملائكة عليهم السلام لا يدخلون بيتا فيه صورة أو كلب) .
قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره فصنعته حرام بكل حال؛ لأن فيه مضاهات لخلق الله سواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها.
وأما تصوير صورة الشجرة ورحال الإبل وغير ذلك مما ليس صورة حيوان فليس بحرام.
هذا حكم نفس التصوير.(27/446)
وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان. فإن كان معلقا على حائط أو ثوبا ملبوسا أو عمامة ونحو ذلك مما لا يعد ممتهنا فهو حرام.
وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام. إلى أن قال: لا فرق في هذا كله بين ما له ظل وما لا ظل له. هذا تلخيص مذهبنا في المسألة.
وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم.
وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل، وهذا مذهب باطل فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصورة فيه لا يشك أحد أنه مذموم وليس لصورته ظل مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة. اهـ.
قال الحافظ بعد ذكره لملخص كلام النووي هذا قلت: ويؤيد التعميم فيما له ظل وما لا ظل له ما أخرجه أحمد من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره ولا صورة إلا لطخها (1) » أي طمسها، الحديث.
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/87) .(27/447)
وفيه «من عاد إلى صنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (1) » اهـ.
قلت: وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم محى الصور التي في جدران الكعبة وهي لا ظل لها.
وخرج مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته (2) » .
وهذا يعم الصور التي لها ظل والتي لا ظل لها.
والأمر في ذلك واضح لا غبار عليه، والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به ونسأله تعالى لنا ولجميع المسلمين التوفيق لما يرضيه والسلامة من أسباب غضبه إنه سميع الدعاء.
وأما التلفزيون فهو آلة خطيرة وأضرارها عظيمة كالسينما أو أشد، وقد علمنا عنه من الرسائل المؤلفة في شأنه ومن كلام العارفين به في البلاد العربية وغيرها ما يدل على خطورته،
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة، باب مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه برقم 659.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب الأمر بتسوية القبر برقم 969.(27/448)
وكثرة أضراره بالعقيدة والأخلاق وأحوال المجتمع، وما ذلك إلا لما يبث فيه من تمثيل الأخلاق السافلة، والمرائي الفاتنة والصور الخليعة، وشبه العاريات والخطب الهدامة، والمقالات الكفرية، والترغيب في مشابهة الكفار في أخلاقهم وأزيائهم وتعظيم كبرائهم وزعمائهم والزهد في أخلاق المسلمين وأزيائهم، والاحتقار لعلماء المسلمين وأبطال الإسلام وتمثيلهم بالصور المنفرة منهم والمقتضية لاحتقارهم والإعراض عن سيرتهم، وبيان طرق المكر والاحتيال والسلب والنهب والسرقة وحياكة المؤامرات والعدوان على الناس.
ولا شك أن ما كان بهذه المثابة وترتبت عليه هذه المفاسد يجب منعه والحذر منه وسد الأبواب المفضية إليه، فإذا أنكره الإخوان المتطوعون وحذروا منه فلا لوم عليهم في ذلك لأن ذلك من النصح لله ولعباده.
ومن ظن أن هذه الآلة تسلم من هذه الشرور ولا يبث فيها إلا الصالح العام إذا روقبت فقد أبعد النجعة وغلط غلطا كبيرا؛ لأن الرقيب يغفل، ولأن الغالب على الناس اليوم هو التقليد للخارج والتأسي بما يفعل فيه، ولأنه قل أن توجد رقابة تؤدي ما أسند إليها، ولا سيما في هذا العصر الذي مال فيه أكثر الناس إلى(27/449)
اللهو والباطل، وإلى ما يصد عن الهدى، والواقع شاهد بذلك كما في الإذاعة والتلفزيون في بعض الجهات فكلاهما لم يراقب الرقابة الكافية المانعة من أضرارهما، ونسأل الله أن يوفق حكومتنا لما فيه صلاح الأمة ونجاتها وسعادتها في الدنيا والآخرة وأن يصلح لها البطانة وأن يعينها على إحكام الرقابة على هذه الوسائل حتى لا يبث منها إلا ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم. . إنه جواد كريم.
وهذا آخر ما أردنا التنبيه عليه من أخطاء الكاتب نصحا لله ولعباده، ونسأل الله سبحانه أن يوفقنا والكاتب وسائر المسلمين للتفقه في الدين ولكل ما فيه صلاح أمر ديننا ودنيانا إنه على كل شيء قدير وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.(27/450)
48 - الإسلام قول وعلم وعقيدة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا وإمامنا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد نشرت صحيفة الندوة في عددها 1590 الصادر(27/450)
17 \ 12 \ 83 تحت عنوان (هذه الصفحات الإسلامية) بقلم المحرر ما نصه: تحرص كل الصحف هنا تقريبا وفي أكثر البلاد الإسلامية على أن تخصص بعض صفحاتها أو بعض أعمدتها للحديث عن الإسلام بين الحين والحين فلماذا؟ أليس الناس مسلمين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولو باللسان؟ أليسوا يحملون أسماء إسلامية وتقول شهادات ميلادهم أو حفائظ نفوسهم إنهم مسلمون بل وتقول دساتير دولهم كلها تقريبا أن دينهم هو الإسلام، فلماذا إذا يكثر الحديث عن الإسلام وإلى أي شيء تهدف هذه الصحف أو هذه الصفحات أهي دعوة للصلاة؟ ما شاء الله المساجد مملوءة بالمصلين الذين يتقنون تسوية الصفوف والرد على الإمام استوينا.
أم هي دعوة للحج؟ مثلا إن أكثر المسلمين يتسابقون إلى الحج والله أعلم بالنيات. أم هي إلى الزكاة؟ وكثيرون منهم يؤدون الزكاة طائعين أو مكرهين، إن الإسلام الذي يكثر الناس الحديث عنه يتضمن كل هذه الأركان، لكنه يتضمنها كقواعد يقوم عليها نظام كامل للحياة. الحياة كلها بكل ما فيها من نشاط وبكل ما فيها من قيم، وتصورات توضح أن الإسلام في صميمه نظام حياة، نظام يقوم على تصور خاص للحياة بكل ما فيها من قيم، وعلى(27/451)
أساس هذا التصور الصحيح، يقوم نظام الحكم ونظام الاقتصاد ونظام التربية ونظام الأخلاق، كما تقوم العلاقات الدولية بين الدول المسلمة وسائر الناس، وعلى هذا التصور وحده يجب أن تسير الدعوة إلى الإسلام وعلى هذا التصور سنحاول أن تكون هذه الصفحة إنشاء الله، وإننا ندعو القراء أن يكتبوا إلينا حين يكتبون على هذا الاعتبار وبهذه النظرة. هذا كله أيها القارئ كلام المحرر في صحيفة الندوة.
وأقول وبالله التوفيق: إنه لأمر غريب، وعجب لا ينقضي، أن ينبري كاتب ممن يشار إليه في أم القرى مهبط الوحي ومطلع شمس الرسالة فيسمح لقلمه أن يكتب في صحيفة سيارة مقالا مضمونه: دعوة المسلمين إلى أن يعرضوا عن دينهم فلا ينشروا محاسنه ولا يدعو إليه ولا يحذروا من مخالفته وأن يتساءل تساؤل المستغرب المستنكر (أليس الناس مسلمين) إلخ.
ويدعو الناس أن يكتفوا من دينهم بمجرد اللفظ فقط، بل إلى أدنى من ذلك وهو الاكتفاء بمجرد الأسماء الإسلامية كمحمد وعبد الله وعبد الرحمن ونحو ذلك وشهادة الميلاد وحفيظة النفوس، أو ما هو أدنى من ذلك وهو الانتساب إلى دولة تزعم أن دستورها الإسلام. سبحان الله! كيف بلغ الجهل بهذا الرجل أو(27/452)
التجاهل للإسلام بهذا الحد، حتى كتب هذه المقالة مع أنه يعلم نشاط المبشرين في دعوتهم إلى أديانهم الباطلة ونشاط الدعاة إلى المذاهب الهدامة كالبعثية والاشتراكية والشيوعية وتكريس جهودهم في تحبيذها وإبراز ما يزعمون أنه من محاسنها وإنفاق الأموال الطائلة في هذا السبيل الذي يقود أهله إلى النار.
أيها المحرر، أين ذهب عقلك حتى قلت هذه المقالة الشنعاء عن دين الإسلام الذي هو خير الأديان، وأحبها إلى الله وهو دين ودولة وعبادة وجهاد وسيف ومصحف وثقافة وحكم، وهو المشتمل على صلاح أمر الدنيا والآخرة وعلى سعادة الفرد والجماعة في هذه الحياة العاجلة وفي الآخرة. أليس دين هذه بعض محاسنه ومزاياه، حقيقا بأن يدعى إليه وتنشر محاسنه على صفحات الصحف السيارة وفي المجلات والنشرات وعلى المنابر وفي سائر الحفلات والاجتماعات. أليس خليقا بأن تكرس الجهود والأموال للدعوة إليه والترغيب في اعتناقه وتحكيمه والاستقامة عليه وتزييف ما خالفه من الأديان والمذاهب، أليس القرآن الكريم الذي هو أعظم كتاب وأشرف دستور قد أمر بالدعوة إلى الإسلام ونشر محاسنه وحصر الفلاح في الدعاة إليه وحكم بأن أهله هم خير أمة أخرجت للناس لإيمانهم به ودعوتهم إليه، وإن كنت قد(27/453)
نسيت ذلك فاسمع قوله عز وجل {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) الآية. أوضح سبحانه في هذه الكريمة أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم على الحقيقة والكمال هم الدعاة إلى سبيله على بصيرة، وسبيله هو الإسلام الذي أنكرت على أهله الدعوة إليه. وقال تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) أمر الله سبحانه في هذه الآية نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى الإسلام وأن يجادل عليه بالتي هي أحسن وأنت تعلم وهكذا غيرك من القراء أن كل دين وكل مذهب يهمل ولا يدعى إليه ولا تنشر محاسنه بل يغفل عنه وينسى، مصيره إلى الذهاب والزوال وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على رغبة أهله عنه وقلة اكتراثهم به، فكيف سمحت لقلمك؟ بل كيف سمحت لك مروءتك وعروبتك؟ إن لم يكن هناك غيرة على الإسلام أن تقول هذا المقال الذي مقتضاه وخلاصته الدعوة إلى نبذ الإسلام والإعراض عنه وألا يذكر في الصحف السيارة بين الناس، وأي قيمة لدين هذا شأنه، سبحان الله ما أعظم شأنه والله أكبر وأجل وأعظم
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة النحل الآية 125(27/454)
من أن تكون قيمة دينه ما ذكرته أيها المحرر. وقال الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) وقال جل ذكره {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) وقال تعالى {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) تأمل أيها المحرر وتأملوا أيها القراء هذه الآيات كيف حكم الرب جل وعلا للدعاة إلى الله بالفلاح وأنهم خير الأمم وأنهم لا أحد أحسن قولا منهم. وصاحب المقال يحذر من طريقهم وينتقد سبيلهم ويتعجب منهم تعجب المستنكر المستغرب، ثم نتأمل جميعا هل رضي الله سبحانه من أهل الإسلام بمجرد اللفظ أو التسمي بالأسماء الإسلامية أو الانتساب عليهما الفلاح والخير والسعادة في الدنيا والآخرة، إن الأمر في غاية الوضوح بل هو أوضح من الشمس في الظهيرة، ولكن الأمر كما قال الله عز وجل {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (4)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سورة آل عمران الآية 104
(3) سورة فصلت الآية 33
(4) سورة الحج الآية 46(27/455)
ولولا ما يخشى من اغترار بعض الجهال بهذا المقال وصاحبه لما كان حقيقا بالرد عليه لظهور بطلانه لكل من يطلع عليه من عامة المسلمين فضلا عن مثقفيهم، ونسأل الله أن يهدي كاتبه وأن يردنا وإياه إلى التوبة الصادقة. وأما قوله في آخر المقال بعدما ذكر الصلاة والزكاة والحج نصه) إن الإسلام يتضمن هذه الأركان لكنه يتضمنها كقواعد يقوم عليها نظام كامل للحياة الحياة كلها بكل ما فيها من نشاط وبكل ما فيها من قيم وتصورات، إن الإسلام في صميمه نظام حياة نظام يقوم على تصور خاص للحياة بكل ما فيها من قيم وعلى أساس هذا التصور الصحيح يقوم نظام الحكم ونظام الاقتصاد ونظام التربية ونظام الأخلاق) إلخ.
فالجواب: أن يقال لهذا الكاتب: إذا كان الإسلام دينا يتضمن هذه الأسس ويصلح أن ينظم الحياة في جميع شئونها، فكيف تنكر على أهله الدعوة إليه ونشر محاسنه؟ وتقول: إن الناس مسلمون ولو باللفظ، إذا كان يكفي من الإسلام مجرد اللفظ لم تتحقق هذه المقاصد وهذه الأسس والتي أشرت إليها أخيرا، إنه لأمر عجيب وتناقض غريب أو تلبيس وخداع، ولماذا لم(27/456)
تذكر أنه دين يترتب عليه صلاح أمر الدنيا والآخرة ويسعد أهله في الدنيا والآخرة، وإنما قصرته على هذه الحياة فقط. أتظن أن هذا الدين إنما جاء لإصلاح الدنيا فقط وليس له تعلق بالآخرة أم ماذا؟ إن المقام واضح لا يحتاج إلى تفصيل وكل من له أدنى علم بالإسلام يعلم أنه نظام صالح شامل لكل ما فيه سعادة البشرية في هذه الدنيا وفي الآخرة، وإنما يجيء الخلل لبعض أهله؛ بسبب جهلهم به أو عدم تطبيقهم لأحكامه والواقع قديما وحديثا مشاهد بذلك كل من تأمل أحوال المسلمين في صدر الإسلام وفي ما بعد ذلك، فاتق الله أيها الكاتب وحاسب نفسك وتب إلى ربك وارجع عن أخطائك، فالرجوع إلى الحق فضيلة. بل واجب لا بد منه وهو خير لك في الدنيا والآخرة من التمادي في الباطل. وأسأل الله لي ولك ولسائر المسلمين التوفيق لما يرضيه والهداية إلى سبيله إنه خير مسئول وهو المستعان ولا حول ولا قوة إلا به وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم.(27/457)
49 - الإنكار على من خالف الشرع والتحذير من الاقتداء به
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: (1)
فقد اطلعت على ما نشر في جريدة السياسة بعددها 668 في 19 \ 8 \ 1404 هـ لكاتبه ح. س، وقد نسب إلي هداه الله كلاما عن حلق اللحية تجرأ فيه بشيء لم أقله، ومما ذكر أني قلت: أي فتوى تصدر باسمي يجب أن تكون ممهورة بخاتمي ومصدقة من وزارة الأوقاف الإسلامية. وهذا الكلام ظاهر البطلان لأني لم أشترط يوما ما تصديق وزارة الأوقاف الإسلامية على ما يصدر مني من الفتاوى. ثم استرسل في الكلام عن حلق اللحية وغيرها وزعم أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى (2) » يقتضي بهذا العصر أن نحلق اللحى؛ لأن المجوس واليهود والسيخ وغيرهم يطلقون اللحى، وقال: (وعليه يجب مخالفة
__________
(1) نشر في مجلة البحوث الإسلامية العدد 15 ص12- 15. وفي ج2 من هذا المجموع ص347 - 351.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة برقم 259.(27/458)
هذه الفئات نحلق لحانا) .
وقد قام رجال الأزهر بتطبيق هذا الحديث وهو مخالفة المشركين وغيرهم وحلقوا لحاهم) إلى آخر ما قال. ولا شك أن هذا جرأة من الكاتب وسوء أدب منه مع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبيانه - صلى الله عليه وسلم - واضح وأمره واجب الامتثال والتنفيذ ويخشى على مخالفه من العاقبة السيئة، كما قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) وأمره - صلى الله عليه وسلم - بإعفاء اللحية واضح، وتنفيذه واجب إلى قيام الساعة سواء وفر الكفار لحاهم أم حلقوها، وموافقتهم لنا في شيء من شرعنا كإعفاء اللحية لا يقتضي أن نخالف شرعنا، كما أن دخولهم في الإسلام أمر واجب عليهم ومحبوب لنا ونحن مأمورون بدعوتهم إلى ذلك ولا يقتضي ذلك خروجنا من الإسلام إذا دخلوا فيه حتى نخالفهم، بل علينا أن ندعوهم إلى دين الله وألا نتشبه بهم فيما خالفوا فيه شرع الله، وهذا أمر معلوم عند جميع أهل العلم.
وهذه الجرأة من الكاتب في حمل الحديث الشريف على وجوب حلقها؛ لأن بعض المشركين تركوا حلقها جرأة شنيعة
__________
(1) سورة النور الآية 63(27/459)
في نشر الباطل والدعوة إليه، ثم هي مخالفة للواقع فليس كل الكفار قد وفروا لحاهم بل فيهم من يعفيها وفيهم من يحلقها. ولو فرضنا أنهم كلهم أعفوها لم يجز لنا أن نخالف أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فنحلقها لمخالفتهم، وهذا لا يقوله من له أدنى علم وبصيرة بشرع الله عز وجل، ويلزم عليه لوازم باطلة ومنكرات كثيرة.
وأما ما ذكره عن شيوخ الأزهر من كونهم حلقوا لحاهم لما رأوا بعض الكفار قد أعفاها فهذا لو سلمنا صحته لا حجة فيه، فإن مخالفة بعض المسلمين لما شرعه الله لا يحتج بها على ترك الشرع المطهر، بل الواجب الإنكار على من خالف الشرع والتحذير من الاقتداء به، لا أن يحتج بعمله على مخالفة الشرع. وكثير من العلماء قد خالفوا الشرع المطهر في مسائل كثيرة إما لجهل بالدليل، وإما لأسباب أخرى، ولا يجوز أن يكونوا حجة في جواز مخالفة ما علم من الشرع لكونهم لم يأخذوا به، بل غاية ما هناك أن يعتذر عنهم بأن الشرع لم يبلغهم أو بلغهم من وجه لم يثبت لديهم أو لأعذار أخرى، كما بسط ذلك الإمام العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الجليل: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) وقد أجاد فيه وأفاد وأوضح أعذار أهل العلم فيما خالفوا من الشرع فليراجع(27/460)
فإنه مفيد جدا لطالب الحق.
وإني أنصح الكاتب (حمد) بأن يتقي الله ويحذر لمز الملتحين وسوء الظن بهم، كما أنصحه بأن يحسن الظن بجميع إخوانه المسلمين الذين يحرصون على تطبيق الشريعة ويتتبعون سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويتأسون به في أقواله وأعماله، وأن يحملهم على أحسن المحامل عملا بقول الله عز وجل في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) ومعنى قوله: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} (2) أي: لا يلمز بعضكم بعضا، واللمز: العيب، ثم قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (3) الآية، فأمر سبحانه باجتناب كثير من الظن وأخبر أن بعضه إثم وهو الظن الذي لا دليل عليه ولا أمارة شرعية ترشد إليه.
ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب
__________
(1) سورة الحجرات الآية 11
(2) سورة الحجرات الآية 11
(3) سورة الحجرات الآية 12(27/461)
الحديث (1) » وهذا كله لا يمنع من نصيحة من أخطأ من أهل العلم أو الدعاة إلى الله في شيء، من عمله أو دعوته أو سيرته، بل يجب أن يوجه إلى الخير ويرشد إلى الحق بأسلوب حسن، لا باللمز وسوء الظن والأسلوب العنيف، فإن ذلك ينفر من الحق أكثر مما يدعو إليه، ولهذا قال عز وجل لرسوليه موسى وهارون لما بعثهما إلى أكفر الخلق في زمانه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (2) وأخبر الله عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما جبله عليه من الرفق والحكمة واللين واللطف في الدعوة فقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (3) الآية، وأمره سبحانه أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، فقال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (4) وهذا الأمر ليس خاصا به - صلى الله عليه وسلم - بل
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه برقم 5144، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن برقم 2563.
(2) سورة طه الآية 44
(3) سورة آل عمران الآية 159
(4) سورة النحل الآية 125(27/462)
هو موجه إليه وإلى جميع علماء الأمة وإلى كل داع يدعو إلى حق؛ لأن أوامر الله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لا تخصه بل تعم الأمة جميعا، إلا ما قام الدليل على أنه خاص به، ولقول الله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (1) الآية، ولقوله عز وجل: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) وقوله سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (4) » .
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه (5) » وقال أيضا - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21
(2) سورة الأعراف الآية 157
(3) سورة التوبة الآية 100
(4) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب فضل الرفق برقم 2592، وأبو داود في كتاب الأدب، باب الرفق برقم 4809.
(5) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، برقم 2594.(27/463)
على العنف (1) » في أحاديث كثيرة تدل على أن الواجب على الدعاة إلى الله سبحانه والناصحين لعباده أن يتخيروا الأساليب المفيدة والعبارات التي ليس فيها عنف ولا تنفير من الحق، والتي يرجى من ورائها انصياع من خالف الحق إلى قبوله والرضى به وإيثاره والرجوع عما هو عليه من الباطل، وأن لا يسلك في دعوته المسالك التي تنفر من الحق ويدعو إلى رده وعدم قبوله.
وأسأل الله أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه، والثبات عليه، والدعوة إليه على بصيرة، وأن يعيذنا وسائر المسلمين من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ومن القول عليه سبحانه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بغير علم إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق برقم 2593.(27/464)
التحذير من مكائد الأعداء (1)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين أما بعد:
فقد اطلعت على الخطاب المفتوح الموجه من بعض المسلمات في سويسرا إلى شيخ الأزهر ووزير الإعلام في مصر، المنشور في مجلة الدعوة المصرية في عددها السابع والأربعين الصادر في شهر جمادى الأولى عام 1400 هـ وقد جاء في هذا الخطاب أن العالم الغربي قد بدأ يتحدث عن الإسلام ويهتم به، وأن بعض جهات الإعلام استغلت هذا الوضع وأخذت تشوه الإسلام وتعرف به على غير حقيقته، ويضربن مثلا على ذلك بما قام به التلفزيون السويسري حينما عرض فيلما عن الإسلام والمسلمين في مصر يشتمل على مشاهد ليست من الإسلام، إذ عرض ما يجري عند الأضرحة وفي حفلات المزار ومولد البدوي وغيرها من الأمور المبتدعة، وقد ذكرت الأخوات في خطابهن ما نصه:
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة بعددها 817 في ذي الحجة 1401 هـ، ونشر في المجموع ج6 ص360.(27/465)
(وأكثر ما آلم المسلمين من كل الجنسيات هو عرض لفتاة تدعى نهال رزق قيل إنها مسلمة، وكانت هي محور الحلقة على أساس أنها مثل للمرأة المتحضرة؛ لأنه لا يمكن تطبيق قوانين جاءت منذ 14 قرنا كما، قال مقدم البرنامج، ونذكر لكم لقطتين فقط من جملة الفيلم عنها والحديث معها، اللقطة الأولى لهذه الفتاة في حمام سباحة نادي الجزيرة - وطبعا كانت بالمايوه أمام الرجال وبعدها لقاء معها في منزلها، ولقطة لها وهي تصلي وتلبس الطرحة وقالت: إنها تصلي وتصوم وسيأتي اليوم الذي تحج فيه للبيت الحرام، وكانت آخر لقطاتهم معها في كازينو وهي تراقص صديقها وقالت: إنه مسموح لها بالرقص مع صديقها والسهر معه حتى الواحدة صباحا، كما ذكر الأخوات أن التلفزيون السويسري أعد هذا الفيلم عندما قام فريق من المشرفين عليه بزيارة معلنة للقاهرة، سجل خلالها تلك المشاهد وأجرى أثناء لقاءات مع شيخ الأزهر ومفتي الجمهورية والشيخ السطوحي، ليوهم أن هؤلاء موافقون على ما يعرض في الفيلم، وتساءلن بقولهن من المسئول عن هذه المهزلة، ومن الذي قدم هذه الفتاة لتكون مثالا للفتاة المسلمة في مصر، أو لم يجد المسئولون في مصر مثالا يليق بعرض الإسلام والمرأة المسلمة(27/466)
للأوربيين سوى هذه الفتاة وهذه الصور. انتهى كلامهن.
وإنني أشكر للأخوات المسلمات في سويسرا غيرتهن ونصحهن، وأسأل الله أن يثبتهن على ذلك وأحب أن يعلمن هن وغيرهن أن ما فعله التلفزيون السويسري وغيره إنما هو جزء من الحرب الدائرة المستمرة بين المسلمين والكافرين، وقد أخبر الله عن ذلك في كتابه الكريم حيث قال: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (1) وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (2) وعندما يعمل التلفزيون السويسري النصراني هذا العمل إنما يريد به الصد عن دين الله، ومنع الناس من الدخول فيه أو الاستماع إلى من يدعوهم إليه، ولكنهم بإذن الله خائبون خاسرون، قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (3) وليس العجب من جرأة أعداء الإسلام على النيل منه وتزوير الحقائق وتضليل الناس، فتلك طبيعة الأعداء في حربهم للمسلمين ومحاولتهم لمنع دخول الناس في الإسلام،
__________
(1) سورة البقرة الآية 217
(2) سورة البقرة الآية 120
(3) سورة الصف الآية 8(27/467)
ولكن العجب من المسلمين وولاتهم الذين يستقبلونهم في بلدانهم ويهيئون لهم من الوسائل ما يعينهم على تحقيق مآربهم وتنفيذ مخططاتهم، ولعل ما حصل من بعض المسئولين في القاهرة كشيخ الأزهر والمفتي وغيرهما إنما ظنا منهم أن أولئك سيعرفون بالإسلام حقيقة، وسيقتصرون على نشر اللقاءات التي تمت معهم دون غيرها، ومع ذلك فإنني أنصح ولاة أمور المسلمين عامة وأهل الحل والعقد فيهم خاصة من الرؤساء والأمراء والعلماء وغيرهم أن يكونوا على حذر في معاملتهم مع أعداء الإسلام الذين يتسللون إلى صفوف المسلمين باسم الصحافة أو الاستشراق أو غيرهما، وأن يكونوا متيقظين لكل مؤامراتهم ومكائدهم، وأن لا يسهلوا لهم القيام بمهماتهم في بلاد المسلمين أو يتعاونوا معهم لإنجاحها، فكثيرا ما يرى النصارى وغيرهم يحملون آلات التصوير ويقصدون المناظر القديمة والمشوهة في بلاد المسلمين فيصورونها ويعلقون عليها مايشاءون وينشرونها في بلدانهم زاعمين أن هذا حال المسلمين وأن الإسلام يجعل أهله على تلك الصورة.
ولهذا ينبغي أن لا تستجاب طلباتس أولئك إلا بعد دراستها دراسة وافية، ومعرفة أبعادها ونتائجها والتأكد من(27/468)
خلوها مما يلحق الضرر بالإسلام والمسلمين. وأسأل الله سبحانه أن يوفق المسلمين ورؤساءهم وأهل الحل والعقد فيهم؛ ليكونوا دعاة إلى الله وحماة لدينه على بصيرة، وأن يعلي كلمته وأن يخذل أعداءه ويبطل كيدهم، إنه سميع مجيب. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(27/469)
تكذيب ونقد لبعض ما نشرته مجلة المصور (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد، فقد نشرت مجلة المصور في عددها رقم 2166 الصادر في 24 \ الجمعة 1385 الموافق 15 أبريل 1966 م في الصفحة 15 من العدد المذكور ما نصه:
يقول نبأ من السعودية أن نائب رئيس الجامعة الإسلامية هناك نشر مقالا منذ شهرين في جميع الصحف أهدر فيه دم كل من يقول إن الأرض كروية وإن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس، وإذا كان يبدو غريبا أن يذاع هذا الرأي في
__________
(1) نشر في ج3 من مجموع الفتاوى لسماحته ص156.(27/469)
1966 م وفي عصر الفضاء، فصاحب هذا الرأي له فضيلة واضحة وهي أنه منطقي مع ما تردده المملكة العربية السعودية هذه الأيام من أفكار وآراء، فحكام المملكة العربية السعودية لا يتحدثون الآن إلا عن الأفكار والنظريات المستوردة ولا يدعون إلى الحلف الإسلامي إلا بدعوى درء خطر الأفكار المستوردة عن المسلمين، وهم يقصدون الاشتراكية بالطبع ولكنهم لا يناقشون الاشتراكية ولا فكرة العدالة الاجتماعية، وإنما يكتفون برفضها بناء على أنها مستوردة، إلخ. . انتهى المقصود.
وجوابي عن ذلك أن أقول: (سبحانك هذا بهتان عظيم) لقد نشر المقال الذي أشار إليه الكاتب في جميع الصحف المحلية في رمضان 1385 واطلع عليه القراء في الداخل والخارج وليس فيه ذكر كروية الأرض بنفي ولا إثبات فضلا عن إهدار دم من قال بها، وقد وقع فيما نقلته في المقال من كلام العلامة ابن القيم - رحمه الله - ما يدل على إثبات كروية الأرض فكيف جاز لأحمد بهاء الدين أو من نقل إليه هذا النبأ أن يقدم على هذا البهتان الصريح وينسبه إلى مقال قد نشر في العالم وقرأه الناس، سبحان الله ما أعظم جرأة هذا المفتري، ولكن ليس بغريب أن يصدر مثل هذا الافتراء عن أنصار الإلحاد والمذاهب الهدامة فقد قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (1)
__________
(1) سورة النحل الآية 105(27/470)
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان (1) » وإنما أهدرت في المقال دم من قال إن الشمس ثابتة لا جارية بعد استتابته، وما ذلك إلا لأن إنكار جري الشمس تكذيب لله سبحانه وتكذيب لكتابه العظيم وتكذيب لرسوله الكريم، وقد علم بالضرورة من دين الإسلام وبالأدلة القطعية وبإجماع أهل العلم أن من كذب الله أو رسوله أو كتابه فهو كافر حلال الدم والمال ويستتاب فإن تاب وإلا قتل، وليس في هذا بحمد الله نزاع بين أهل العلم.
وأما قول الكاتب: إذا كان يبدو غريبا أن يذاع هذا الرأي في سنة 1966 م وفي عصر الفضاء. إلخ. . فالجواب عنه أن يقال لا ريب أن إظهار الحق ونشره في هذا العصر ودعوة الناس إليه يعتبر من الأمور الغريبة وذلك لاستحكام غربة الإسلام وقلة دعاة الحق وكثرة دعاة الباطل، وهذا مصداق ما أخبر به نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال في الحديث الصحيح: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق برقم 33، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق برقم 59.(27/471)
غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء (1) » وفي رواية «قيل يا رسول الله: من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس (2) » وفي لفظ آخر قال: «هم الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي (3) » فيتضح من هذا الحديث الشريف لذوي الألباب أن الدعوة إلى الحق وإنكار ما أحدثه الناس من الباطل عند غربة الإسلام يعتبر من الإصلاح الذي حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى على أهله، ويتضح للقراء أيضا من هذا الحديث العظيم أنه ينبغي لأهل الحق عند غربة الإسلام أن يزدادوا نشاطا في بيان أحكام الإسلام والدعوة إليه ونشر الفضائل ومحاربة الرذائل، وأن يستقيموا في أنفسهم على ذلك حتى يكونوا من الصالحين عند فساد الناس ومن المصلحين لما أفسد الناس، والله الموفق سبحانه.
وأما ما أشار إليه الكاتب في آخر كلامه من انتقاد من يحارب الأفكار والنظريات
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا برقم 145.
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/74) .
(3) أخرجه الإمام أحمد في أول مسند المدنيين حديث عبد الرحمن بن سنة رضي الله تعالى برقم 16249.(27/472)
المستوردة وحمله على حكام المملكة العربية السعودية وتهمته إياهم بمحاربة الأفكار والنظريات المستوردة كالاشتراكية، وأنهم لا يدعون إلى الحلف الإسلامي إلا بدعوى درء خطر الأفكار عن المسلمين إلخ. . فجوابه أن يقال: إن الأفكار والنظريات المستوردة فيها الحق والباطل فلا يجوز للمسلمين أن يقبلوها مطلقا ولا أن يردوها مطلقا بل الواجب هو التفصيل في ذلك، فما كان منها حقا أو نافعا للمسلمين مع عدم مخالفته لشرع الله سبحانه فلا مانع من قبوله والانتفاع به لأن الإسلام هو دين الله الكامل الذي دعا إلى كل خير وإلى كل إصلاح ونهى عن كل ما يضر المسلمين ويفسد مجتمعهم، وأمر أهله أن يحرصوا على ما ينفعهم ويستعينوا بالله على ذلك وأن يعدوا كلما استطاعوا من قوة لعدوهم، وأن يأخذوا حذرهم منه وأن يتكاتفوا ويتعاونوا على البر والتقوى وأن يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا، وحذرهم سبحانه من اتباع أهواء أعدائهم وأخبر عز وجل أن أعداءهم لن يغنوا عنهم من الله شيئا. فالأفكار النافعة والنظريات الصحيحة قد جاء بها الإسلام ودعا إليها فليست مستوردة عليهم بل هو السابق إليها وإن خفيت على بعض أتباعه وظنوا أنها مستوردة من أعدائه، وإنما قصارى ما يأتي به الأعداء من الأفكار الصحيحة والنظريات الموافقة للشرع أن يذيعوها بين الناس ويلبسوها لباسا يوهم أنها من عندهم وأنهم مبتكروها والدعاة إليها وليس الأمر(27/473)
كذلك، وإنما الفضل في ذلك للإسلام عليهم حيث نبههم عليها وأرشدهم إلى أصولها وثمراتها، فنسبوا ذلك إلى أنفسهم وجحدوا نسبة الحق إلى أهله إما جهلا وإما حسدا، والحكومة العربية السعودية حين تحارب الاشتراكية وغيرها من المذاهب الهدامة لم تحاربها لكونها مستوردة وإنما حاربتها لأنها نظام إلحادي مخالف للشريعة ينكر الأديان والشرائع ويحارب الله سبحانه وينكر وجوده ويحل ما حرم ويحرم ما أحل، وإن استخفى معتنقوه في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمنة بشيء من هذا ولم يظهروه لأسباب قد تدعوهم إلى ذلك فالأمر واضح وكتبهم تنادي بذلك وتدعو إليه وإمامهم (ماركس) اليهودي الملحد قد صرح بذلك ودعا إليه ولكن الواقع هو كما قال الله عز وجل: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (1) والحكومة السعودية قد استوردت أشياء كثيرة نافعة ولم تحاربها لما ظهر لها نفعها، وأما قول الكاتب أن حكام السعودية حين دعوا إلى الحلف الإسلامي إنما دعوا إليه بدعوى درء خطر الأفكار المستوردة، فالجواب عنه أن يقال: إنهم لم يدعوا إلى حلف إسلامي، وإنما دعوا إلى التضامن الإسلامي
__________
(1) سورة الحج الآية 46(27/474)
والتقارب والتكاتف الذي أمر الله به ورسوله، فالله سبحانه قد أمر المسلمين أن يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا وأن يتعاونوا على البر والتقوى وأن يكون بعضهم لبعض كالبنيان المرصوص ضد أعدائهم ومناوئيهم وفي كل ما يتعلق بمصالحهم وأن يحاربوا الأفكار والمذاهب التي تخالف دينهم. وليس هذا حلفا بل هو أعلى من الحلف فهو واجب مقدس وفرض محتم على ملوك المسلمين وزعمائهم وعلمائهم بل وعلى كافتهم وأن يستقيموا على دين الله ويحافظوا عليه ويدعوا إليه، وأن يقفوا صفا واحدا متراصا ضد أعدائهم وضد ما يحاك لهم من المكائد ويبيت لهم من الأخطار عملا بقول الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) وقوله سبحانه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (2) وقوله جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (3) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سورة الأنبياء الآية 92
(3) سورة آل عمران الآية 103(27/475)
الله أمركم (1) » أخرجه الإمام مالك في الموطأ والإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه بدون قوله «وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم (2) » .
وقوله عليه الصلاة والسلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه (3) » متفق عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (4) » ، متفق عليه، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وجلالة الملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية - وفقه الله - حين قام بالدعوة إلى التضامن الإسلامي وجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفهم وأن يقفوا كتلة واحدة أمام الأخطار المحيطة بهم، قد أدى بذلك واجبا عظيما وعملا جليلا يشكر عليه، ويجب على سائر ملوك المسلمين وزعمائهم وعلمائهم وأعيانهم أن يساعدوه في ذلك وأن يضموا أصواتهم لصوته وجهودهم لجهوده، وأن يكونوا جميعا متكاتفين متساعدين على إعلاء كلمة الله ونصر دينه وتحكيم شريعته وتطهير عقيدة شعوبهم من المذاهب الهدامة والأفكار المنحرفة والعقائد الزائفة، وأن يجمعوا
__________
(1) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، كتاب الجامع، باب ما جاء في إضاعة المال برقم 1863، والإمام أحمد في مسند المكثرين باقي المسند السابق برقم 8581.
(2) صحيح مسلم الأقضية (1715) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) ، موطأ مالك الجامع (1863) .
(3) صحيح البخاري المظالم والغصب (2446) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) .
(4) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم برقم 6011، ومسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم برقم 2586.(27/476)
جهودهم لإعداد ما استطاعوا من قوة لصد الأخطار المحدقة بهم، وأن يكونوا معسكرا متكاملا له عدته وله كيانه وله وزنه في المحيط الدولي والسياسي والاقتصادي والصناعي وسائر مقومات المجتمع ووسائل نهضته وصموده أمام كل خطر كما أمرهم بذلك دينهم وأرشدهم إليه كتاب ربهم حيث يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (1) ويقول سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (2) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي (3) » ويقول عليه الصلاة والسلام: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن (4) » . . . الحديث، أخرجه مسلم في صحيحه.
وأسأل الله عز وجل أن يوفق قادة المسلمين من الملوك والرؤساء والزعماء والعلماء وغيرهم لما فيه صلاح الأمة ونجاتها وسعادتها في الدنيا والآخرة وأن يجمع كلمتهم على الهدى
__________
(1) سورة النساء الآية 71
(2) سورة الأنفال الآية 60
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث برقم 1917.
(4) أخرجه مسلم في كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة برقم 2664.(27/477)
وأن يمنحهم الفقه في دينه والبصيرة بحقه، وأن يعيذ الجميع من شرور النفس وسيئات العمل وكيد الأعداء، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.(27/478)
رد على مقال صحفي
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه. أما بعد: (1)
فقد اطلعت على كلمة نشرتها مجلة (اقرأ) في عددها (604) الصادر في 22 \ 5 \ 1407 هـ عن محاورة بين أرسطو وأرسطوقان. جاء فيها ما نصه (الطبيعة تخطئ والإنسان يصحح) وهذا الإطلاق منكر عظيم وكفر صريح. ومعلوم أن الفلاسفة لا يؤمنون بإله خالق مدبر له الكمال المطلق يفعل لحكمة ويترك لحكمة وهو منزه عن الخطأ في أفعاله وأقواله عز وجل. ومن أجل عدم إيمانهم بالخالق العظيم الكامل في
__________
(1) نشر في ج3 من هذا المجموع ص170.(27/478)
أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى ينسبون الحوادث إلى الطبيعة، وهذا من جهلهم وبعدهم عما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام. فالواجب عدم الاغترار بأقوالهم فيما يتعلق بالإلهيات والشرائع لجهلهم بها وعدم إيمانهم، ولا شك أن ما يقع في العالم من أمراض وحوادث وتشويه خلقة أو غير ذلك كلها تقع بمشيئة الله سبحانه وله فيها الحكمة البالغة والحجة الدامغة وإن جهلها الخلق، كما قال عز وجل: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (1) وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (2) وقال عز وجل {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (3) وما ذاك إلا لكمال حكمته وعلمه تبارك اسمه وتقدس عن قول الظالمين والكافرين والجاهلين وتعالى علوا كبيرا. ولواجب النصح لله ولعباده جرى التنبيه، والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 83
(2) سورة النساء الآية 11
(3) سورة الأنبياء الآية 23(27/479)
خطر إنكار السنة قولا وفعلا
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة سعادة أمين عام المجلس الإسلامي الأوربي سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد (1) :
فحيث يوجد في مدينة (توسان) التابعة لولاية (أريزونا) مسجد يشرف عليه شخص يدعى (رشاد خليفة) مصري الأصل، أمريكي الجنسية، يقوم فيه بالدعوة الإسلامية على أساس بعيد عن الإسلام؛ لإنكاره السنة، واستنقاصه من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بما ثبت لدينا من التقارير بحقه من عدة جهات والتي ملخصها ما يلي:
1 - أن المذكور يقيم في مدينة (توسان) بولاية (أريزونا) إحدى الولايات المتحدة الأمريكية، ويحمل الدكتوراه في الهندسة الزراعية، مما لا يؤهله للقيام بالدعوة إلى الله على وجه صحيح، بل إن دعوته للإسلام يظهر منها المخادعة، والتغرير بالمسلمين الجدد، والسذج من العامة باسم الإسلام، في الوقت الذي هو يحارب الإسلام بإنكار السنة،
__________
(1) نشر في مجلة البحوث الإسلامية العدد 9 سنة 1404.(27/480)
وتعاونه مع المنكرين لها قولا وفعلا أمثال (محمد علي اللاهوري) وغيره وقد قامت حوله ضجة علمية حول اكتشافه سر إعجاز القرآن حسب زعمه.
2 - وفي زيارته لليبيا عام 1399 هـ سجل في إذاعتها أحاديث، ووجد من يستمع إليه حول رأيه في السنة المطهرة، بل إنه حينما سئل من قبل أحد أساتذة الجامعة، قبل صعوده للطائرة عن رأيه في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب باختصار نظرا لضيق الوقت قائلا: (الحديث من صنع إبليس) . ومن مواقفه التي توضح رفضه للسنة، وتأويل القرآن الكريم حسب ما يراه:
أ- قوله أنه لا يجوز رجم الزاني أو الزانية، سواء كانا محصنين أو غير محصنين، لأن ذلك لم يرد في القرآن.
ب- تبجحه بصورة مستمرة بما يرويه (لا تكتبوا عني سوى القرآن) ، ليثبت أنه لا يجوز كتابة الأحاديث.
جـ- استدلاله على ما ذهب إليه من لا حاجة للسنة، ولا لتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن(27/481)
بقوله تعالى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (1) وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (2)
د- ادعاؤه أن الأخذ بالسنة وكتابتها، وجمع الأحاديث في القرنين الثاني والثالث كان سببا في سقوط الدولة الإسلامية.
هـ- عدم التصديق بالمعراج، وأن رسول صلى الله عليه وسلم لم يأت بجديد في الصلاة، لأن العرب قد توارثوها بهذه الكيفية المعهودة عن جدهم إبراهيم.
وله تأويلات في كيفية كتابة الحروف المقطعة الواردة في أول السور، ويقول هذه ليست هي الكتابة الصحيحة لها، وفي قوله تعالى (الم) يجب أن تكتب هكذا (الف لام ميم) ، وقوله تعالى (ن) يجب أن تكتب هكذا (نون) وغير ذلك من الشطحات التي يفرق بها كلمة المسلمين، مع ما فيها من محادة لله ورسوله
__________
(1) سورة الأنعام الآية 38
(2) سورة مريم الآية 64(27/482)
لذا فقد رأينا من واجبنا توضيح أمره وكشف حقيقته، لوقف التعامل معه، والتنبه لمغالطاته، وبراءة للذمة، ونصحا لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، راجيا تعميم كتابنا هذا على منسوبيكم والجهات ذات العلاقة، أعانكم الله على كل خير، وجعلنا وإياكم من أنصار السنة والكتاب، ومن دعاة الخير على بصيرة، إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(27/483)
استعمال الأطباق الفضائية منكر كبير (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يطلع عليه من المسلمين. وفقني الله وإياهم لما فيه رضاه وأعاذني وإياهم من أسباب غضبه وعقابه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
فقد شاع في هذه الأيام بين الناس ما يسمى: (بالدش) أو
__________
(1) سبق نشره في المجموع ج7 ص399.(27/483)
بأسماء أخرى، وأنه ينقل جميع ما يبث في العالم من أنواع الفتن والفساد والعقائد الباطلة والدعوة إلى أنواع الكفر والإلحاد، مع ما يبثه من الصور النسائية ومجالس الخمر والفساد وسائر أنواع الشر الموجودة في الخارج بواسطة التلفاز. وثبت لدي أنه قد استعمله الكثير من الناس، وأن آلاته تباع وتصنع في البلاد فلهذا وجب علي التنبيه على خطورته ووجوب محاربته والحذر منه وتحريم استعماله في البيوت وغيرها، وتحريم بيعه وشرائه وصنعته أيضا لما في ذلك من الضرر العظيم والفساد الكبير والتعاون على الإثم والعدوان، ونشر الكفر والفساد بين المسلمين والدعوة إلى ذلك بالقول والعمل.
فالواجب على كل مسلم ومسلمة الحذر من ذلك والتواصي بتركه والتناصح في ذلك عملا بقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) ويقول سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) وقوله عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5)
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3(27/484)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » ، وقوله: «الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (2) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (3) » ، وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (4) » .
والآيات والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب التناصح والتواصي بالحق والتعاون على الخير كثيرة جدا، فالواجب على جميع المسلمين حكومات وشعوبا العمل بها والتناصح فيما بينهم والتواصي بالحق والصبر عليه، والحذر من
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 49.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب أن الدين النصيحة برقم 55.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب برقم 45.
(4) صحيح البخاري الزكاة (1401) ، صحيح مسلم الإيمان (56) ، سنن الترمذي البر والصلة (1925) ، سنن النسائي البيعة (4175) ، مسند أحمد بن حنبل (4/364) ، سنن الدارمي البيوع (2540) .(27/485)
جميع أنواع الفساد والتحذير من ذلك رغبة فيما عند الله وامتثالا لأوامره وحذرا من سخطه وعقابه.
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين لما يرضيه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يوفق ولاة أمرنا لمنع هذا البلاء والقضاء عليه وحماية المسلمين من شره، وأن يعينهم على كل ما فيه صلاح العباد والبلاد ويصلح لهم البطانة وينصر بهم الحق، وأن يوفق جميع ولاة أمور المسلمين في كل مكان لما فيه رضاه، وأن ينصر بهم الحق ويوفقهم لتحكيم شريعته والالتزام بها والحذر مما يخالفها، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا ويمنحهم الفقه في الدين والثبات عليه والحذر مما يخالفه، إنه ولي ذلك والقادر عليه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد(27/486)
إنكار النظام الاشتراكي في العراق (1)
فخامة رئيس الجمهورية أخذ الله بيده إلى الحق: إن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تستنكر ما أصدرته الحكومة العراقية من القرارات الاشتراكية، وتضم صوتها إلى صوت علماء العراق
__________
(1) سبق نشره في المجموع ج7 ص398.(27/486)
وغيرهم من العلماء في إنكار النظام الاشتراكي، وتؤكد بأنه نظام كفري يصادم نظام الإسلام ويناقضه، وتنصح حكومة العراق بالرجوع إلى نظام الإسلام وتطبيقه في البلاد، لكونه أعدل نظام وأصلح تشريع عرفته البشرية، وهو كفيل بتحقيق العدالة الاجتماعية السليمة وحل للمشاكل الاقتصادية وغيرها، وإيصال حق الفقير إليه على خير وجه إذا أخلص المسلمون في تطبيقه.
والإسلام يحرم على المسلم دم أخيه وماله وعرضه ويعطيه حرية التصرف الكامل في ماله في ظل الحكم الشرعي، وتصرح تعاليمه بأن ما يزعمه بعض الناس من أن النظام الاشتراكي مستمد من روح الإسلام زعم باطل لا يستند لأي أساس من الصحة.
هذا وأسأل الله أن يهدي الجميع صراطه المستقيم.(27/487)
كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
والحكمة المقصودة فيه
سؤال:
ما هي الكيفية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وما هي الحكمة المقصودة في هذا المقام؟ (1)
__________
(1) سبق نشره في المجموع ج7 ص331.(27/487)
جواب:
هذا سؤال عظيم وجدير بالعناية؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الواجبات في الإسلام، ومن فرائضه العظام. ولأن القيام بذلك في أهل العلم والإيمان والبصيرة من أعظم الأسباب لصلاح المجتمعات الإسلامية ونجاتها من عقاب الله سبحانه وتعالى في العاجل والآجل، واستقامتها على الصراط المستقيم، ولهذا يقول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) فجعلهم خير أمة أخرجت للناس بسبب هذه الأعمال الطيبة. وقال عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) فوصفهم بالفلاح المطلق لهذا الأمر العظيم وهو دعوتهم إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فجعلهم سبحانه مفلحين بعملهم الطيب، والفلاح هو الحصول على كل خير وهو من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سورة آل عمران الآية 104
(3) سورة التوبة الآية 71(27/488)
فوعدهم الرحمة على أعمالهم الطيبة التي منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يدل على أنه واجب على جميع المؤمنين والمؤمنات كل بحسب طاقته وليس خاصا بأحد عن أحد، وهو من صفاتهم العظيمة وأخلاقهم الكريمة، لكن يجب أن يكون ذلك بالحكمة والعلم لا بالجهل ولا بالعنف والشدة، فينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف عن علم وبصيرة فالمعروف هو ما أمر الله به ورسوله، والمنكر هو ما نهى عنه الله ورسوله.
فالواجب على الآمر والناهي أن يكون على بصيرة وعلى علم سواء كان رجلا أو امرأة وإلا فليمسك عن ذلك، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) فقوله تعالى على بصيرة أي على علم، ويقول جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) والحكمة هي العلم والدعوة إلى الله من جنس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنها بيان للحق وإظهار
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة النحل الآية 125(27/489)
له للناس، والآمر بالمعروف والناهي قد يكون عنده من السلطة ما يردع بها صاحب المنكر ويلزم بها من ترك المعروف الواجب، والدعوة إلى الله أوسع من ذلك وهي البيان للناس وإرشادهم إلى الحق.
والخلاصة أن الواجب على الداعي إلى الله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون على علم وبينة حتى لا يأمر بما يخالف الشرع، وحتى لا ينهى عن ما هو موافق للشرع. والواجب أيضا أن يكون ذلك بالرفق وعدم العنف وعدم الكلمات البذيئة، بل يكون بكلام طيب وأسلوب حسن ورفق، كما قال الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (1) وقال سبحانه وتعالى لموسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2) سورة طه الآية 44(27/490)
إنكار المنكر حسب الطاقة
إنني فتاة أسكن في السكن الداخلي مع الطالبات، وقد هداني الله إلى الحق وأصبحت متمسكة به ولله الحمد، لكنني متضايقة جدا مما أرى حولي من بعض المعاصي والمنكرات، خصوصا من بعض زميلاتي الطالبات كسماع الأغاني، والغيبة والنميمة، وقد نصحتهن كثيرا ولكن بعضهن يهزأ بي ويسخر مني ويقلن إنني معقدة.
سماحة الشيخ: أرجو إفادتي. . ماذا أعمل جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: الواجب عليك إنكار المنكر حسب الطاقة بالكلام الطيب والرفق وحسن الأسلوب، مع ذكر الآيات والأحاديث الواردة في ذلك حسب علمك، ولا تشاركيهن في الأغاني ولا في الغيبة ولا في غيرها من الأقوال والأفعال المحرمة، واعتزليهن حسب الإمكان حتى يخضن في حديث آخر لقول الله سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (2) الآية.
__________
(1) سبق نشره في المجموع ج7 ص 323، وفي مجلة البحوث الإسلامية العدد (30) .
(2) سورة الأنعام الآية 68(27/491)
ومتى أنكرت بلسانك حسب الطاقة واعتزلت عملهن لم يضرك فعلهن ولا عيبهن لك، كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1) فأبان سبحانه أن المؤمن لا يضره من ضل إذا لزم الحق واستقام على الهدى، وذلك بإنكار المنكر، والثبات على الحق، وحسن الدعوة إليه، وسيجعل الله لك فرجا ومخرجا وسينفعهن الله بإرشادك إذا صبرت واحتسبت إن شاء الله، وأبشري بالخير العظيم والعاقبة الحميدة ما دمت ثابتة على الحق منكرة لما خالفه كما قال الله سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (2) وقال عز وجل: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (3) وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (4)
وفقك الله لما يرضيه، ومنحك الصبر والثبات، ووفق
__________
(1) سورة المائدة الآية 105
(2) سورة الأعراف الآية 128
(3) سورة هود الآية 49
(4) سورة العنكبوت الآية 69(27/492)
أخواتك وأهلك وزميلاتك لما يحبه ويرضاه إنه سميع قريب وهو الهادي إلى سواء السبيل.(27/493)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم فرائض الإسلام
س1: سمعت أن بعض العلماء عد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركنا من أركان الإسلام، فهل هذا صحيح؟ .
جـ1: نعم قال بذلك بعض أهل العلم، لكن لم يرد نص واضح في ذلك، وإنما هو من أعظم فرائض الإسلام.
وأركان الإسلام التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة، قال عليه الصلاة والسلام: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت (1) » متفق عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب بني الإسلام على خمس برقم 8، ومسلم في كتاب الإيمان باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام برقم 16.(27/493)
هكذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام ودعائمه، فلا تجوز الزيادة عليها إلا بدليل صحيح. لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامة من الدعائم، وفرض من الفروض، لكنه لا يقال: إنه ركن سادس، لعدم الدليل على ذلك.
كما أن الجهاد في سبيل الله دعامة من الدعائم. . وهكذا ترك المحارم التي حرمها الله على عباده دعامة من الدعائم لا بد منها، ولا يقال: إنهما ركنان من أركان الإسلام لعدم الدليل على ذلك.
مع العلم بأنه يجب علينا أن نستقيم على كل ما أوجب الله، وأن ندع كل ما حرم الله.(27/494)
س2: ما كيفية النهي عن المنكر بالقلب؟
جـ2: هو أن يكره المنكر، ولا يجلس مع أهله؛ لأن جلوسه معهم بغير إنكار يشبه فعل بني إسرائيل، الذي لعنهم الله عليه، في قوله سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2)
__________
(1) سورة المائدة الآية 78
(2) سورة المائدة الآية 79(27/494)
س3: نلاحظ كثيرا من الشباب المتحمس لإنكار المنكر، ولكنهم لا يحسنون الإنكار. . فما هي نصيحتكم وتوجيهاتكم لهؤلاء. . وما هي الطريقة المثلى في إنكار المنكر؟ .
جـ3: نصيحتي لهم أن يتثبتوا في الأمر، وأن يتعلموا أولا حتى يتيقنوا أن هذا الأمر معروف أو منكر، بالدليل الشرعي، حتى يكون إنكارهم على بصيرة لقول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1)
مع نصيحتي لهم بأن يكون الإنكار بالرفق والكلام الطيب والأسلوب الحسن، حتى يقبل منهم، وحتى يصلحوا أكثر مما يفسدون، لقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وقول الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (3) وقول النبي صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة آل عمران الآية 159(27/495)
«من يحرم الرفق يحرم الخير كله (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (2) » . . والأحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة.
ومما ينبغي للداعي إلى الله، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون من أسبق الناس إلى ما يأمر به، ومن أبعد الناس عما ينهي عنه، حتى لا يتشبه بالذين ذمهم الله بقوله سبحانه: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (3) وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (4)
وحتى يتأسى به في ذلك، وينتفع الناس بقوله وعمله. . والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب فضل الرفق برقم 2592، وأبو داود في كتاب الأدب، باب الرفق برقم 4809.
(2) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، برقم 2594.
(3) سورة البقرة الآية 44
(4) سورة الصف الآية 2(27/496)
س4: تعلمون أن الغالب فيما يبث من أجهزة الإعلام كالتلفاز ونحوه، يغلب عليه الفسق والمجون والشر(27/496)
المحض. . إلا في النادر فهل تنطبق القاعدة الشرعية هنا في أن دفع الشرور مقدم على جلب المصالح أثابكم الله؟
جـ4: هذه القاعدة قاعدة عظيمة مستمرة دائما، وهي أن دفع الشرور مقدم على تحصيل المصالح؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. . وهذه الوسائل يجب فيها النصيحة لولاة الأمور من العلماء والأعيان، وعلى العامة أن يتناصحوا بينهم، ويحذروا ما قد يقع لهم من ذلك في هذه البلاد وفي غيرها.
فيجب أن يحذروا المنكر فلا يفعلوه، ولا يستمعوه. . ويفرحوا بالحق ويستمعوه وهكذا في الصحف يأخذوا حسنها ويتركوا قبيحها، فالمؤمن ينتقي ولا يكون حاطب ليل يأخذ الحية والعود. .
وهكذا وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، يأخذ ما فيها من الخير، ويدع ما فيها من الشر، وأهل العلم مع ولاة الأمور لا يزالون بحمد الله على النصيحة والتوجيه، نسأل الله أن ينفع بالأسباب، وأن يوفق ولاة الأمور لكل ما فيه صلاح البلاد والعباد إنه خير مسئول.(27/497)
س5: تعلمون ما تقوم به التسجيلات الإسلامية في هذا الوقت من دور هام في توجيه الناس وقد قام أهل الشر بتشويه(27/497)
سمعتهم، وأنهم ماديون. . وغير ذلك. . أرجو من فضيلتكم توضيح الأمر للناس، حتى لا تلتبس الحقيقة على من ليس له بصيرة؟
جـ5: لا شك أن الحرص على تسجيل المقالات النافعة، والمواعظ والأحاديث المفيدة، كل ذلك مفيد للأمة، ومن فعل ذلك لنفع الأمة فهو مأجور، وعليه في ذلك الصبر والاحتساب. ولو قيل فيه ما قيل تأسيا بالرسل عليهم الصلاة والسلام، وبالأخيار قبله. . ولا حرج في بيع الأشرطة المشتملة على ذلك مع تحري الأسعار الخفيفة التي لا تثقل على الناس، يستعين بها على مهمته، وينفع الناس بعمله لما في ذلك من نشر العلم، وتعميم الفائدة.
وأنا أنصح باقتناء الأشرطة الطيبة، وأنصح بشرائها والاستفادة منها، إذا كانت صالحة؛ لأنه ليس كل شريط صالح، وليس كل من تكلم يكون كلامه مفيدا وجديرا بأن يسجل.
فالواجب على طالب العلم أن يختار من الأشرطة ما كان صادرا من أهل العلم المعروفين بالعلم والتحقيق، ليستفيد من ذلك، ويسمعه أهله وإخوانه وزملاءه، وعليه أن يحذر من تسجيل ما يضره ولا ينفعه.(27/498)
إنكار المنكر بالأسلوب الحسن والكلام الطيب:
س 6: إذا رأت المؤمنة أحدا من أقاربها يرتكب بعض المنكرات كيف يكون موقفها؟ (1) .
ج 6: عليها أن تنكر المنكر بالأسلوب الحسن، والكلام الطيب والرفق والعطف على صاحب المنكر؛ لأنه قد يكون جاهلا، وقد يكون شرس الأخلاق، فعند الإنكار عليه بشدة يزداد شره فعليها أن تنكر المنكر بالأسلوب الحسن والكلام الطيب، والدليل الواضح مما قاله الله وقاله رسوله مع الدعاء له بالتوفيق حتى لا تحصل النفرة، هكذا يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، عنده من العلم والبصيرة والرفق والتحمل ما يجعل من ينكر عليه يتقبل فلا ينفر ولا يعاند، فيجتهد الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في استعمال الألفاظ التي يرجى بسببها قبول الحق.
__________
(1) من برنامج نور على الضرب الشريط رقم 30 ونشر في هذا المجموع ج4 ص233.(27/499)
إذا أهمل الجميع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أثموا
س1:
إن كثيرا من طلاب العلم الذين يحضرون الدروس والمحاضرات ويزاحمون العلماء في المحاضرات لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر نأمل من سماحتكم توجيه كلمة بهذه المناسبة؟
الجواب: الواجب على الجميع التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر حسب الطاقة، وإذا قام بذلك من يكفي سقط عن الباقين، ولكن إذا أهمل الجميع أثموا.
فعلى كل إنسان أن يبذل وسعه، وإذا كان في مكان ليس فيه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لزمه أن يقوم بذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » ، رواه الإمام مسلم في الصحيح.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 49.(27/500)
فالواجب على المسلمين التعاون في هذا الأمر والتواصي به أينما كانوا، في المسجد وفي الطريق وفي البيت مع أهله وفي غير ذلك، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (1) الآية.
فالواجب في مثل هذا التعاون على الخير والصبر في ذلك.
س2:
ذكرت يا فضيلة الشيخ في كلامك بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون بالرفق واللين ولكن هناك البعض من الناس لا ينفع معهم اللين والرفق؟
الجواب:
إذا كنت ذا سلطة فاعمل بسلطتك حسب ما تقتضيه القواعد الشرعية، أما الذي ليس له سلطة فيعمل بالرفق واللين وبذلك يؤدي ما عليه لقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (2) الآية، وقوله سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (3) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا
__________
(1) سورة التحريم الآية 6
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة آل عمران الآية 159(27/501)
زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (1) » .
أما إذا كان الآمر والناهي صاحب سلطة كأمير أو رئيس الهيئة أو عضو الهيئة فعليهم أن ينفذوا سلطتهم في المعاند لقول الله سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (2) فالظالم يعامل بشدة، والمعاند يعامل بالشدة أيضا حسب الطاقة مع مراعاة القواعد الشرعية من الأمير أو غيره من أصحاب السلطة ولمن له الأمر. فالرجل مع أهل بيته يعمل حسب طاقته، وهكذا المدرس مع تلاميذه، وشيخ القبيلة مع جماعته - أما غيرهم ممن ليس له سلطة فعليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالحكمة والأسلوب الحسن والتوجيه إلى الخير والدعاء بالهداية، فإن لم يحصل المقصود رفع الأمر إلى ذوي السلطة..
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، برقم 2594.
(2) سورة العنكبوت الآية 46(27/502)
61 - القائم بالمعروف والناهي عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم
س: لي أخت في العقد الخامس من عمرها ولها ابن من شدة حبها له تتغاضى كثيرا عن مخالفته لأمر دينه ولأمور تتعلق بالأخلاق، وتقول إن هذا شأن كثير من الوالدات وبعض الآباء. أرجو التوجيه في هذا لو تكرمتم وجزاكم الله خيرا (1) .
ج: الواجب على المسلم أن يتقي الله في نفسه وفي أهل بيته وفي جيرانه وفي كل شئونه ومع كل المسلمين؛ وذلك بدعوتهم إلى الله وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وألا تأخذه في الله لومة لائم، هذا هو الواجب على كل مسلم، فلا يدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجل قرابة قريب أو محبة شخص، بل من حبه لقريبه ومن صلته الصلة الحقيقية التي يؤجر عليها أن يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر كما قال عز وجل: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (2) فالواجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يتقي الله وأن يؤدي الحق الذي عليه مع القريب والبعيد
__________
(1) من برنامج نور على الدرب رقم شريط 32.
(2) سورة الأنعام الآية 152(27/503)
يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (1) الآية، ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (2) فالواجب على المؤمن والمؤمنة أن ينصح كل منهما قريبه وغيره، وأن ينكر المنكر، وأن يأمر بالمعروف مع الأقرباء وغيرهم، فإن من أهم المهمات أن ينصح قريبه وأن يوجهه إلى الخير وهذا أعظم من صلته بالمال ويؤجر على صلة الرحم، فكونه يصله بتوجيهه للخير أو تعليمه الخير وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أهم من صلته بالمال، لأن توجيهه إلى الخير ينفعه في الدنيا والآخرة، فليس لأختك ولا لغيرها أن تدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحبها لولدها، أو لأخيها، أو لأختها أو غيرهم، بل يجب عليها أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بالطرق التي تراها مفيدة مجدية، وبالأساليب الحسنة حتى تنجح إن شاء الله في عملها وتبرأ ذمتها.
__________
(1) سورة النساء الآية 135
(2) سورة التحريم الآية 6(27/504)
62 - نصيحة لمن تعرض لسوء الكلام والتحريض على المعاصي (1) .
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى الأخ المكرم: م. ع. أ. خ وفقه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصلني كتابك المتضمن الإفادة عما تلاقيه من سوء الكلام من بعض الناس لحسن هيئتك وجمال وجهك، وأنك تتوب من المعاصي ثم تعود إليها بتحريض من بعض أصدقاء السوء، وقد طلبت مني النصيحة والموعظة بما يصلح حالك ويمنعك من الرجوع إلى المعاصي والمحرمات، وعليه أقول: إن الواجب عليك الثبات على الحق والمبادرة بالزواج حيث أمكن، والإنكار بالكلام على من يخاطبك بما أشرت إليه في رسالتك، واذكر قول الله تعالى {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2) وقوله تعالى عن وصية لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (3)
__________
(1) نصيحة صدرت من سماحته برقم 1769\1 في14 \ 7 \ 1411 هـ.
(2) سورة الأنفال الآية 46
(3) سورة لقمان الآية 17(27/505)
وإن عليك الحذر من جميع المحارم والاستعانة بالله على ذلك وسؤاله التوفيق والهداية في ذلك والاستقامة على التوبة ولا تيأس. ونوصيك بصحبة الأخيار والحذر من صحبة الأشرار، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل (1) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا منتنة (2) » متفق عليه.
وأسأل الله سبحانه للجميع التوفيق للعلم النافع والعمل به والثبات على الحق، إنه سميع قريب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين برقم 8212.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، باب المسك برقم 5534، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين برقم 2628.(27/506)
الدعوة إلى الله تعالى تكون بالجهر وتكون بالسر
س1: التعاون بالجهر أفضل أم بالسر؟
جـ: التعاون يكون بالسر ويكون بالجهر، والأصل أنه بالجهر، حتى يعلم السامع ما يقال ويستفيد، فالتعاون والإرشاد نصيحة جهرية للمجتمع هذا هو الأصل إلا إذا اقتضت المصلحة الشرعية عدم الجهر خوفا من الشر من بعض الناس؛ لأنه لو نصح أو وجه جهرا قد لا يقبل وقد يتكبر، فالنصيحة سرا مطلوبة حينئذ. والناصح والموجه والمرشد يتحرى ما هو الأصلح، فإذا كانت النصيحة والدعوة والإعانة على الخير جهرا تنفع الحاضرين وتعم بها المصلحة - فعل ذلك، وإذا كانت المصلحة تقتضي أن يكون التناصح في حالة السر - فعل ذلك؛ لأن المقصود حصول الخير والنفع للمنصوح وللمجتمع، فالوسيلة المؤدية إلى ذلك هي المطلوبة سواء كانت سرية أو جهرية، والناصح والداعي إلى الله كالطبيب يتحرى الوقت المناسب والكمية والكيفية المناسبة. فهكذا يكون(27/507)
الداعي إلى الله والناصح لعباده يتحرى ما هو الأنسب وما هو الأصلح وما هو الأقرب للنفع.(27/508)
س2: كيف يكون التعاون على البر والتقوى في البيت إذا كان الأب والأخ الأكبر لا يصلون في المسجد؟
جـ: هذا من أهم التناصح ومن أوجب التعاون، إذا كان الوالد أو الأخ أو غيرهما من أهل البيت يتعاطى شيئا من المنكر فإنه يجب التناصح والتعاون والتواصي بالحق على قدر المستطاع بالأسلوب الحسن وتحري الوقت المناسب حتى يزول المنكر، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (2) » فالوالد له شأن، والوالدة لها شأن، والأخ سواء كان كبيرا أو صغيرا له شأن، وكل يعامل بالأسلوب الحسن واللين والرفق بقدر المستطاع حتى يحصل المقصود ويزول المحذور.
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم 7288.(27/508)
وعلى الناصح والداعي إلى الله أن يتحرى الأوقات المناسبة والأسلوب المناسب لا سيما مع الوالدين؛ لأنهما ليسا مثل بقية الأقارب، فلهما شأن عظيم وبرهما متعين حسب الطاقة قال الله جل وعلا: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (1) {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (2) الآية، هذا وهما كافران، فكيف بالوالدين المسلمين، فإذا كان الوالدان الكافران يصحبهما الولد بالمعروف ويحسن إليهما؛ لعله يهديهما بأسبابه. فالمسلمان أولى وأحق بذلك. فإذا كان الوالد يتكاسل عن الصلاة في المسجد، أو يتعاطى شيئا من المعاصي الأخرى كالتدخين أو حلق اللحية أو الإسبال أو غير ذلك من المعاصي التي يقع فيها فإن الواجب على الولد أن ينصح بالحسنى، ويستعين على ذلك بمن يرى من خيار أهل البيت، وهكذا مع الوالدة والأخ الكبير وغيرهما من أهل البيت حتى يحصل المطلوب.
__________
(1) سورة لقمان الآية 14
(2) سورة لقمان الآية 15(27/509)
64 - عليكن بالأمر بالمعروف ولو غضب من تأمرونه (1)
س: الأخوات اللاتي رمزن لأسمائهن بـ أأ أ - ع - م م م من المجمعة في المملكة العربية السعودية يقلن في سؤالهن: إذا حاولنا منع النميمة والغيبة بين الناس، فإن من نأمره بالمعروف وننهاه عن المنكر يقوم بسبنا، ويغضب علينا، فهل علينا إثم بسبب غضبه، حتى لو كان أحد الوالدين؟ وهل نمنعهم أم ندع ما لا يعنينا في هذا الأمر الهام، أفيدونا أفادكم الله؟
جـ: من أهم الفرائض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2)
فأوضح سبحانه في هذه الآية أن من صفات المؤمنين والمؤمنات الواجبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (3) الآية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من
__________
(1) نشر في المجلة العربية، ونشر في المجموع ج6 ص267.
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة آل عمران الآية 110(27/510)
رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (1) » رواه مسلم في صحيحه، والآيات والأحاديث في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذم من ترك ذلك كثيرة، فالواجب عليكن وعلى كل مؤمن ومؤمنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو غضب من أنكرتم عليه ولو سبكن، فلا بد من الصبر تأسيا بالرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم بإحسان، كما قال الله عز وجل يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (2) الآية، وقال عز وجل: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (3) وقال سبحانه عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (4) ولاشك أن صلاح المجتمع واستقامته إنما يكون بالله سبحانه ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن فساده وتمزقه وتعرضه للعقوبة العامة من أعظم أسبابه ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما ثبت عن
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 49.
(2) سورة الأحقاف الآية 35
(3) سورة الأنفال الآية 46
(4) سورة لقمان الآية 17(27/511)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (1) » وقد حذر الله سبحانه عباده من سيرة الكفار من بني إسرائيل في قوله عز وجل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (2) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (3) فنسأل الله أن يوفق جميع المسلمين حكاما ومحكومين للقيام بهذا الواجب على خير وجه، وأن يصلح أحوالهم، وأن يعيذ الجميع من أسباب غضبه وانتقامه إنه سميع مجيب.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برقم 4005، والإمام أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه برقم 1.
(2) سورة المائدة الآية 78
(3) سورة المائدة الآية 79(27/512)
س: ما حكم من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(27/512)
وهو يستطيع ذلك؟ (1)
جـ: حكمه أنه عاص لله ولرسوله ضعيف الإيمان وعليه خطر عظيم من أمراض القلوب وعقوبتها العاجلة والآجلة كما قال الله سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (2) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (3) وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (4) » وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (5) » رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة نسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا للقيام بهذا الواجب العظيم على الوجه الذي يرضيه.
__________
(1) السؤال من الأخ ع. ر، ونشر في المجموع ج6 ص401.
(2) سورة المائدة الآية 78
(3) سورة المائدة الآية 79
(4) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 49.
(5) أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برقم 4005، والإمام أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه برقم 1.(27/513)
وجوب نصح المؤمنة لأختها:
س 7: إذا كان المنكر الذي تراه الأخت المؤمنة: الاختلاط وعدم الحجاب، فكيف تنصحهم؟ (1) .
ج 7: تنصحهم، تقول لأختها في الله: الواجب عليك عدم الاختلاط، وعدم السفور والاهتمام بأمر التحجب عن الرجال الذين ليسوا محارم لك، قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (2) وقال تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (3) الآية.
فتأتي بالآيات والأحاديث التي في المقام، وفيها إيضاح المطلوب والتحذير مما يخالف الشرع المطهر، وتوضح لأخواتها في الله أن الواجب علينا جميعا أن نحذر مما حرم الله، ونتعاون على البر والتقوى، ونتواصى بالحق والصبر عليه.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب الشريط رقم 30، ونشر في مجموع الفتاوى لسماحته ج4 ص234.
(2) سورة الأحزاب الآية 53
(3) سورة النور الآية 31(27/514)
67 - الواجب على رجال الهيئة أن يوضحوا الحق للجاهل ويرشدوه
الحمد لله والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، أما بعد: (1) الواجب على رجال الهيئة وعلى الدعاة إلى الله سبحانه من أهل العلم أينما كانوا أن يوضحوا الحق للجاهل وأن يرشدوه إلى ما غلط فيه وجهل سواء كان في العقيدة أوفي أحكام عباداته من صلاة أو حج أو غيرهما.
فالواجب على رجل الهيئة والداعي إلى الله والمدرس في المسجد الحرام وغيره أن يوضح للحجاج ما قد يجهلون، ويرشدهم إلى الحق ولكن بالأسلوب الحسن والرفق، والحكمة وعم الشدة أو العنف؛ لأن هذا أدعى لقبول الحق وأقرب إلى فهمه، هو أقرب إلى السنة، قال الله جل وعلا: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2)
__________
(1) نشر في جريدة الحسبة التابعة لرئاسة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(2) سورة آل عمران الآية 159(27/515)
وقال لموسى وهارون عليهما السلام لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (2) » .
وإني أوصي رجال الهيئة بالرفق والصبر والتحمل، والعلاج بالأسلوب الحسن، وهكذا الدعاة إلى الله المرشدون إليه، وهكذا العلماء في كل مكان، عليهم جميعا أن يتحروا الرفق والصبر، والتوجه بالأسلوب الحسن الواضح، وباللغات التي يفهمها المخاطب، حتى يستفيد بقلب مقبل وصدر منشرح.
أما العنف والشدة فهذا ينفر من الحق، ويسبب الصدود عنه والمخاصمة، إلا من ظلم وتعدى على رجل الهيئة أو الداعية فهذا يرفع أمره إلى ولاة الأمور بالطريقة المتبعة حسب التعليمات الموجودة.
والواجب علينا جميعا الصبر والتحمل والعلاج بالحكمة والتي هي أحسن مهما أمكن كما قال الله سبحانه وتعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3)
__________
(1) سورة طه الآية 44
(2) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار حديث عائشة رضي الله عنها برقم 24417.
(3) سورة النحل الآية 125(27/516)
ولأن هذا كما قد جاءت به السنة وجاء به القرآن دلت عليه التجارب مع الناس. دلت على أن الحكمة والأسلوب الحسن أنفع وأقرب إلى قبول الحق، وأن الشدة والغلظة والأساليب العنيفة تنفر من الحق وتباعد عن المطلوب.
نسأل الله للجميع التوفيق، وصلى الله وسلم على محمد.(27/517)
68 - من أظهر المعاصي وجب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر
س: هل يجوز الكلام مع من مارس الزنا ولم يتب بعد؟ (1) .
ج: من أظهر المعاصي كالزنا والخمر والربا والتدخين والإسبال وحلق اللحى وغير ذلك من المعاصي فإن الواجب نصيحته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن؛ لقول الله عز وجل {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2)
__________
(1) من الأسئلة المقدمة لسماحته من مجلة الدعوة.
(2) سورة التوبة الآية 71(27/517)
وقوله سبحانه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) وروى الإمام أحمد وغيره بإسناد صحيح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه خطب الناس، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية، وتضعونها في غير موضعها، وهي قول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (2) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقابه (3) » .
ويستفاد من هذا الحديث الشريف، ومن هذه الخطبة من أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أن من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر، مع القدرة لا يكون مهتديا الهداية الكاملة، بل هو
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سورة المائدة الآية 105
(3) أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برقم 4005، والإمام أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه برقم 1.(27/518)
ناقص الهداية، وقد ذم الله الكفار من بني إسرائيل ولعنهم؛ لما عصوا واعتدوا على حرمات الله ولم يتناهوا عن المنكر، في قوله سبحانه {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2)
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (3) » رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وروى مسلم أيضا في صحيحه عن أبي مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما بعث الله من نبي في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن
__________
(1) سورة المائدة الآية 78
(2) سورة المائدة الآية 79
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 49.(27/519)
ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (1) » .
والأحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدا، فالواجب على المسلمين من العلماء والأمراء وغيرهم، التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه، عملا بالآيات والأحاديث الواردة في ذلك، وعملا بقول الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) وقوله عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5)
والإنكار باليد يكون من ولاة الأمور ومن الهيئات المعينة لذلك من جهة ولي الأمر، ومن الرجل مع أهل بيته من أولاد وغيرهم، ومن جميع من له ولاية على من يتعاطى المنكر، وعلى غيرهم الإنكار باللسان والقلب حسب الطاقة، لما تقدم من
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 50.
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3(27/520)
حديث أبي سعيد رضي الله عنه، ولقول الله عز وجل {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1)
وأسأل الله أن يوفق جميع المسلمين من الحكام والمحكومين لكل ما فيه رضاه وأن يصلح قلوبهم وأعمالهم، وأن يمنحهم الفقه في الدين وأن ينصر بهم الحق وأهله، ويخذل بهم الباطل وأهله، إنه على كل شيء قدير، وهو سبحانه ولي التوفيق ولا حول ولا قوة إلا به.
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(27/521)
69 - صلة الأرحام. . العصاة (1) .
س: رجل له أرحام يتخلفون عن أداء الصلاة جماعة في المسجد ويقعون في كثير من المعاصي والمنكرات فكيف يمكن لهذا الرجل أن يصل أرحامه وهم مقيمون على تلك المحرمات وكيف يمكن كذلك أن يبر والديه إن كانوا على هذه الحال؟
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1645 بتاريخ 17 صفر 1419هـ.(27/521)
ج: الواجب عليه أن يصلهم بالمال إن كانوا فقراء ويحسن إليهم، وعليه أن ينصحهم ويوجههم إلى الخير ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر سواء كان ذلك مع الوالدين أو الإخوة أو الأخوال أو الأعمام أو غيرهم، فالواجب عليه دعوتهم إلى الله ونصيحتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر باللطف والرفق والأسلوب الحسن لعل الله يهديهم بأسبابه، وإذا كانوا فقراء ساعدهم بالمال وإذا كان عنده زكاة أعطاهم من الزكاة إذا كانوا ليسوا بآباء ولا أولاد، إنما هم أخوة أو أعمام أو نحو ذلك، والمقصود أنه يتألفهم بالمال والكلام الطيب، وإذا كانوا والديه أو أولاده فعليه أن ينصحهم بالكلام الطيب والأسلوب الحسن ويجتهد في دعوتهم إلى الله ونصيحتهم، والرفق بهم وبيان سوء ما فعلوا ويستعين في ذلك بأقاربه الآخرين كإخوته أو أعمامه حتى يساعدوه في هذا الأمر، لعل الله يهدي هؤلاء بأسبابهما، لأنه إذا كان وحده قد لا يستجيبون له فإذا كان معه بعض أقاربه فلعلهم يستجيبون ولعل الدعوة تنفع، فإذا صمموا على المنكر ولم يستجيبوا فله هجرهم، لكن عليه أن يعمل الأصلح مهما أمكن إلا الوالدين فليس له هجرهم ولكن عليه أن يجتهد في برهما وصحبتهما بالمعروف لعل الله يهديهما بأسبابه لقول الله عز وجل في سورة لقمان:(27/522)
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (1) {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (2) فأمر سبحانه في هذه الآية الكريمة بصحبة الوالدين بالمعروف وإن كانا كافرين فدل ذلك على عظم حقهما وعلى وجوب برهما والاجتهاد في صلاحهما، وإن كانا كافرين، وأما الأولاد فعليه تأديبهم إن استطاع إذا لم تنفع فيهم النصيحة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع (3) » .
والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة لقمان الآية 14
(2) سورة لقمان الآية 15
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة برقم495.(27/523)
70 - الدين النصيحة
س: سائل يطلب شرح حديث: «الدين النصيحة (1) » (2) .
ج: هذا حديث عظيم رواه مسلم في الصحيح من حديث
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(2) أجاب عنه سماحته في تاريخ 18 \ 12 \ 1412 هـ.(27/523)
تميم الداري وله شواهد عند غير مسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » .
فهذا الحديث العظيم يدل على أن الدين هو النصيحة وذلك يدل على عظم شأنها لأنه جعلها الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة (2) » .
وهذا الحديث يدل على أن النصيحة هي الدين وهي الإخلاص في الشيء والصدق فيه حتى يؤدى كما أوجب الله فالدين هو النصيحة في جميع ما أوجب الله وفي ترك ما حرم الله وهذا عام يعم حق الله وحق الرسول وحق القرآن وحق الأئمة وحق العامة.
والنصيحة كما تقدم هي الإخلاص في الشيء والعناية به والحرص على أن يؤدى كاملا تاما لا غش فيه ولا خيانة ولا تقصير، يقال في لغة العرب: ذهب ناصح، أي ليس فيه غش.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين، ومسلم في كتابا الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة برقم 55.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب العلل، باب حدثنا عبد الله بن أبي زياد وغير واحد قالوا حدثنا، والنسائي في كتاب مناسك الحج، باب فرض الوقوف بعرفة برقم 3016.(27/524)
ويقولون أيضا: عمل ناصح، يعني ليس فيه غش.
وهكذا يجب أن يكون المؤمن في أعماله ناصحا لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
فالنصيحة لله توحيده سبحانه وتعالى والإخلاص له وصرف العبادة له جل وعلا من صلاة وصوم وحج وجهاد وغير ذلك يعني أن يعمل في غاية من الإخلاص لله، لا يعبد معه سواه بل يعبده وحده ينصح في هذه العبادة ويكملها مع الإيمان به وبكل ما أمر به وهكذا ينصح في أداء ما فرض الله عليه وترك ما حرم الله عليه يؤدي ذلك كاملا لعلمه بحق الله وأن الله أوجبه عليه فهو يخلص في ذلك يعتني به.
وهكذا في حق القرآن يتدبره ويتعقله ويعمل بما فيه من أوامر وينتهي عن النواهي وهو كتاب الله العظيم وحبله المتين، فالواجب العناية به والنصح في ذلك قولا وعملا وذلك بحفظ الأوامر وترك النواهي والوقوف عند الحدود التي بينها الله في القرآن الكريم حتى لا تخل بشيء من أوامر الله في القرآن وحتى لا ترتكب شيئا من محارم الله مع الإيمان بأنه كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود هذا قول أهل السنة والجماعة قاطبة، كما قال عز وجل: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (1) {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (2)
__________
(1) سورة الشعراء الآية 193
(2) سورة الشعراء الآية 194(27/525)
وقال سبحانه: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (1) وقال عز وجل {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (2) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه كلام الله سبحانه وأنه منزل من عنده، فالمؤمن يؤمن بهذا كله وهكذا المؤمنة ويعتقد كل منهما أنه كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود خلافا للجهمية ومن سار في ركابهم المبتدعة.
وهكذا النصح للرسول صلى الله عليه وسلم يكون بطاعة أوامره واجتناب نواهيه والإيمان بأنه رسول الله حقا وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين مع الدفاع عن سنته والذب عنهما كل هذا من النصح للرسول صلى الله عليه وسلم وهكذا العناية بأحاديثه صلى الله عليه وسلم وبيان صحيحها من سقيمها والذب عنها والامتثال لها والوقوف عند الحدود التي حددها الله ورسوله كما قال تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (3) الآية.
هذه النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم، وما زاد على ذلك من الواجبات وترك المحرمات كان كمالا للنصيحة وتماما لها.
__________
(1) سورة الزمر الآية 1
(2) سورة القدر الآية 1
(3) سورة البقرة الآية 229(27/526)
فالحاصل أنه بعنايته بما أمر الله به ورسوله وما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله من الحقوق يكون قد نصح لله ولكتابه ولرسوله بأداء فرائض الله وترك محارم الله والوقوف عند حدود الله والإكثار من الثناء عليه وذكره سبحانه وتعالى وخشيته جل وعلا كل هذا من النصيحة لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
أما النصيحة لأئمة المسلمين فبالدعاء لهم والسمع والطاعة لهم في المعروف والتعاون معهم على الخير وترك الشر وعدم الخروج عليهم، وعدم منازعتهم إلا أن يوجد منهم كفر بواح عليه برهان من الله سبحانه وتعالى، كما جاء ذلك في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في مبايعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم.
ومن النصيحة لهم توجيههم إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالأسلوب الحسن والرفق وسائر الطرق المعتبرة؛ عملا بهذا الحديث الصحيح وبقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4)
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(27/527)
وأما النصيحة لعامة المسلمين فإنها تكون بتعليمهم وتفقيههم في الدين ودعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وإقامة الحدود عليهم والتعزيرات الشرعية كل هذا من النصيحة لهم، والله ولي التوفيق.(27/528)
71 - إنكار البدع والمعاصي بالأدلة الشرعية
س: عندما ننكر الأخطاء والبدع التي يقع فيها من له تأثير على الناس وتنتشر بدعته خصوصا العقدية ويغالي فيه، عندما ننكر بدعه يتصدى لنا البعض بدعوى أن الحق يتطلب ذكر الحسنات والعيوب، وأن جهاده في الدعوة وقدمه يحول دون نقده علنا، نرجو بيان المنهج الحق، هل يلزم ذكر الحسنات وهل السابقة في الدعوة تعفي من ذكر أخطائه المشتهرة والمترددة بين الناس؟ (1) .
ج: الواجب على أهل العلم إنكار البدع والمعاصي الظاهرة، بالأدلة الشرعية وبالترغيب والترهيب والأسلوب الحسن ولا يلزم عند ذلك ذكر حسنات المبتدع، ولكن متى ذكرها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لمن وقعت البدعة أو المنكر
__________
(1) سؤال شخصي أجاب عنه سماحته في تاريخ 18 \ 3 \ 1417 هـ.(27/528)
منه، تذكيرا له بأعماله الطيبة، وترغيبا له في التوبة فذلك حسن، ومن أسباب قبول الدعوة والرجوع إلى التوبة، وفق الله الجميع.(27/529)
72 - الدخول في الأسواق التي فيها منكرات
س: هل يجوز للمسلم أن يدخل سوقا تجاريا وهو يعلم أن في السوق نساء كاسيات عاريات وأن فيه اختلاطا لا يرضاه الله عز وجل؟ (1) .
ج: مثل هذا السوق لا ينبغي دخوله إلا لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أو لحاجة شديدة مع غض البصر والحذر من أسباب الفتنة حرصا على السلامة لعرضه ودينه وابتعادا عن وسائل الشر، لكن يجب على أهل الحسبة وعلى كل قادر أن يدخل مثل هذه الأسواق لإنكار ما فيها من المنكر عملا بقول الله سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) الآية، وقوله سبحانه وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3)
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1643، بتاريخ 3 صفر 1419هـ.
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة آل عمران الآية 104(27/529)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (1) » رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه بإسناد صحيح. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (2) » رواه الإمام مسلم في صحيحه والأحاديث في هذا المعنى كثيرة والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برقم 4005، والإمام أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه برقم 1.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 49.(27/530)
73 - من المحرمات تبرج النساء في الأسواق وإظهار الزينة
س: كنت في السوق لأشتري بعض حاجياتي وإذا بامرأة في كامل الزينة بالعباءة ورأيت رجلا يوبخها ويحذرها، هل يجوز له ذلك أو أن ما له شغل بها؟
ج: الواجب على جميع المؤمنين والمؤمنات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الناس إلى ما أوجب عليهم، وتحذيرهم مما حرم الله عليهم، ومن المحرمات تبرج النساء في الأسواق وإظهار المحاسن والزينة، قال الله تعالى في سورة الأحزاب، يخاطب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (1) قال علماء التفسير رحمهم الله تعالى: التبرج إظهار المحاسن والمفاتن، وقال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) سورة التوبة الآية 71(27/531)
يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (1) » أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري الأنصاري رضي الله عنه. والإنكار باليد يكون من ولاة الأمور ومن يوظفونه في ذلك. ومن صاحب البيت مع أهل بيته والسيد مع مماليكه، والوالد مع أولاده ونحوهم، والإنكار باللسان يكون من المؤمنين والمؤمنات حسب القدرة، مع مراعاة الأسلوب الحسن وعدم الغلظة لقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وقوله عز وجل لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (3) وقوله سبحانه يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (4) الآية. والله ولي التوفيق.
انتهى الجزء السابع والعشرون ويليه بمشيئة الله تعالى الجزء الثامن والعشرون ويحتوي على كتاب ملحقات العقيدة.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 49.
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة طه الآية 44
(4) سورة آل عمران الآية 159(27/532)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد وفق الله سبحانه وتعالى وسدد في إخراج كتاب سماحة شيخنا، العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، وقد وصل المجموع عند الطبع إلى الجزء الثامن والعشرين في كتاب ملحقات العقيدة، ويليه بمشيئة الله الجزء التاسع والعشرون ثم الثلاثون، في ملحقات كتابي الطهارة والصلاة، وذلك أنه تم جمع وعرض عدد من المقالات والفتاوى لسماحته، إبان حياته رحمه الله، ولم يتم وضعها في أماكنها بعد أن طبعت الأجزاء السابقة، وقد رأى سماحته رحمه الله، أن تجمع وتطبع في نهاية الكتاب باسم ملحقات، وإنفاذا لتوجيهاته رحمه الله أجلت تلك المقالات والفتاوى، لتكون في آخر المجموع، وسوف يتبع هذا المجموع فهارس عامة، جاء هذا التنويه ليدرك القارئ السبب.
أسأل الله تعالى أن يغفر لشيخنا مغفرة واسعة، ويسكنه فسيح جناته آمين، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(28/3)
صفحة فارغة(28/4)
كتاب ملحقات العقيدة(28/5)
صفحة فارغة(28/6)
1 -
عقيدة أهل السنة والجماعة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله، وخليله، وأمينه على وحيه، نبينا، وإمامنا، وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه، إلى يوم الدين. أما بعد: (1)
فإن الله جل وعلا خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بها سبحانه وتعالى، فقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (2) سبحانه وتعالى، فخلقهم للعبادة وتكفل بأرزاقهم، كما قال في الآية الأخرى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (3) وأرسل الرسل جميعا لهذا الأمر
__________
(1) محاضرة ألقاها سماحته في جامع الإمام تركي بن عبد الله بالرياض بتاريخ 7\6\1415هـ.
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة هود الآية 6(28/7)
العظيم؛ ليدعوا الناس إلى عبادة الله، ويأمروهم بها، ويوضحوها لهم، فقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) هكذا جميع الرسل، بعثوا لهذا الأمر العظيم؛ ليأمروا الناس، أن يعبدوا الله وحده دون كل ما سواه، ويقول سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) .
وهذه العبادة التي خلقوا لها، وأرسلت الرسل بها، أمرهم بها سبحانه في مواضع من كتابه العظيم، كما في قوله تعالى في سورة البقرة: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) ، وقال في سورة النساء: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (4) ، وقال في سورة بني إسرائيل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (5) ، وقال في سورة البينة:
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25
(3) سورة البقرة الآية 21
(4) سورة النساء الآية 36
(5) سورة الإسراء الآية 23(28/8)
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} (1) ، وقال سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (2) .
فهذه العبادة التي خلقوا لها، قد أمروا بها، وبينت لهم في كتاب الله، وفي سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وبعث الله بها الرسل جميعا. . . وخاتمهم، وأفضلهم، وإمامهم، نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، بعث بذلك، بعثه الله يدعو الناس إلى عبادة الله وتوحيده والإخلاص له، ومكث في مكة بضع عشرة سنة، ثلاث عشرة سنة، يدعو الناس إلى توحيد الله وطاعة الله، يأمرهم أن يعبدوا الله وحده، وأن يخلعوا عبادة ما سواه، من الأصنام والأوثان والملائكة والأنبياء وغير ذلك، يقول: «يا قوم قولوا لا إله إلا الله تفلحوا (3) » ، فأجابه الأقل، وأنكر دعوته الأكثرون، ولم يزل صابرا داعيا إلى الله عز وجل، حتى أمره الله بالهجرة إلى
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سورة الزمر الآية 2
(3) أخرجه الإمام أحمد، في مسند المكيين، حديث ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه برقم 15593 بلفظ: '' يا أيها الناس. . . ''، وابن حبان 14\6562(28/9)
المدينة بعد ما اشتد أذى المشركين له وللذين انقادوا لما جاء به عليه الصلاة والسلام، فهاجر إلى المدينة ومكث بها عشر سنين يدعو إلى الله، ويعلم الناس شريعة الله، وأنزل الله عليه القرآن العظيم، بعضه في مكة وبعضه في المدينة وبينه للناس وأرشد الناس إلى ما دل عليه القرآن، وبين لهم ما أوحى الله إليه في ذلك، فإن الله أعطاه وحيين: القرآن، والوحي الثاني: السنة.
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (1) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (2) - يعني محمدا عليه الصلاة والسلام- {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (3) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (4) فالله أوحى إليه القرآن وأوحى إليه السنة، وهى أحاديثه عليه الصلاة والسلام وما بينه للأمة من شرع الله، فتلقى الصحابة رضي الله عنهم عنه هذا الدين العظيم، دين الإسلام، ونقلوه إلينا غضا طريا، وهكذا نقله التابعون عن الصحابة وهكذا أتباع التابعين، ولم يزل أهل العلم ينقلون هذا العلم، من جيل إلى جيل ومن قرن إلى قرن، ويكتبون فيه الكتب الكثيرة، ويوضحون للناس دعوة نبيهم عليه الصلاة والسلام،
__________
(1) سورة النجم الآية 1
(2) سورة النجم الآية 2
(3) سورة النجم الآية 3
(4) سورة النجم الآية 4(28/10)
وما بينه الكتاب العظيم القرآن من دين الله، فعقيدة المسلمين التي هي عقيدة أهل السنة والجماعة، هي ما بين الله لعباده في كتابه العظيم، وبينه رسوله عليه الصلاة والسلام، وتلقاه الصحابة عن نبيهم رضي الله عنهم، وبلغوه للناس، هو دين الله وهو توحيد الله وطاعته، واتباع رسوله وترك ما نهى عنه والإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله، هذا هو دين الله وهذا هو العقيدة التي درج عليها سلف الأمة، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة، الإيمان بالله ورسوله والإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله، والعمل بذلك قولا وعملا وعقيدة، عن محبة وانقياد وإخلاص وموالاة ومعاداة، فالإيمان بالله ورسوله: هو الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله، من الطاعات القولية والفعلية.
على المؤمن أن يتلقى ذلك عن كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، كما تلقاه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعده من السلف الصالح وقد بينه صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، شرح للناس دين الإسلام والإيمان والإحسان، وأوضح للناس أوامر الله ونواهيه قولا وعملا.(28/11)
فعقيدة أهل السنة والجماعة هي العمل بكل ما أخبر الله به ورسوله، وبكل ما أمر الله به ورسوله، عن إيمان صادق وإخلاص لله، ومحبة ورغبة ورهبة، فهم يؤدون أوامر الله، وينتهون عن نواهي الله، ويقفون عند حدود الله عن إيمان بالله ورسوله، وعن إخلاص وصدق، وعن رغبة ورهبة لا رياء ولا سمعة، ولا نفاقا ولكن عن إيمان وعن صدق.
وهذه العبادة التي خلقوا لها سماها الله إسلاما، وسماها إيمانا وسماها تقوى، وسماها هدى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) ، {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (2) ، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (3) ، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} (4) ، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (5) ، {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} (6) .
فهي إيمان وإسلام وهدى، وتقوى وبر وصلاح وإصلاح،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19
(2) سورة النجم الآية 23
(3) سورة الحجر الآية 45
(4) سورة النساء الآية 1
(5) سورة النساء الآية 136
(6) سورة البقرة الآية 136(28/12)
هذه العقيدة التي درج عليها أهل السنة والجماعة، وهي دين الله، الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبعث به جميع المرسلين، قول وعمل وعقيدة، قول باللسان وعمل بالجوارح، وعقيدة بالقلب عن محبة وعن إخلاص، وعن صدق وعن رغبة ورهبة، وجميع ما جاءت به الكتب والرسل يندرج تحت الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، كما قال جل وعلا: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (1) ، وقال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} (2) الآية، وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (3) الآية، وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (4) الآية.
__________
(1) سورة البقرة الآية 177
(2) سورة البقرة الآية 136
(3) سورة البقرة الآية 285
(4) سورة النساء الآية 136(28/13)
فدين الإسلام وعقيدة أهل السنة والجماعة، هي الإيمان بالله قولا وعملا وعقيدة، ويدخل في الإيمان ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم لجبرائيل لما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، بين له أركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة، والإحسان قال: «الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك (1) » ، هذا هو دين الله، عند التفصيل إسلام وإيمان وإحسان، فالإسلام ما أمر الله به ورسوله من الأعمال الظاهرة، تسمى إسلاما يعني خضوعا لله، الإسلام الانقياد والذل لله، سمى الله دينه إسلاما؛ لأن المسلم ينقاد لله ويذل له، ويؤدي حقه عن خضوع وذل وانكسار، وهذا هو العبادة، سمي عبادة لهذا، سمي الدين كله عبادة؛ لأنه يؤدى بالذل
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان برقم 8.(28/14)
والانكسار والخضوع لله سبحانه وتعالى، فالعبادة التي خلقنا لها هي: الإسلام وهي دين الله وهي الإيمان والهدى، فقوله صلى الله عليه وسلم: «الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله (1) » . . . " الخ، داخل في قوله أن تؤمن بالله.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4777) ، صحيح مسلم الإيمان (10) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4991) .(28/15)
فالعقيدة التي تلقاها أهل السنة والجماعة، عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقاها أصحاب النبي عن رسول الله، هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
هذه الستة الأصول هي أصول الدين كله، يدخل في الإيمان بالله: الإيمان بكل ما أمر الله به، وشرع من الإسلام من توحيد الله والإخلاص له والشهادة بأنه لا إله إلا الله، أي لا معبود حق إلا الله، والشهادة بأن محمدا عبد الله ورسوله، عليه الصلاة والسلام، ويدخل في ذلك الصلاة والزكاة والصيام والحج، كله داخل في الإيمان بالله، والإيمان بجميع المرسلين، كما نص عليه جل وعلا في كتابه العظيم، ونص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فالإيمان بالله يشمل ذلك كله، الإيمان بالله يشمل جميع ما أمر الله به ورسوله، من صلاة وزكاة وصوم وحج وجهاد،(28/15)
وأمر بالمعروف ونهي عن منكر إلى غير ذلك، من كل ما أمر به الله ورسوله، كله داخل في الإيمان بالله،(28/16)
والإيمان بالملائكة معناه الإيمان بكل الملائكة الذين خلقهم الله، يؤمن العبد بأن لله ملائكة خلقهم في طاعته وعبادته، وتنفيذ أوامره سبحانه وتعالى، نؤمن بهم جميعا، وأنهم خلقوا من النور، خلقهم الله من النور وأنهم في طاعته واتباع أمره وتنفيذ أوامره سبحانه وتعالى، لا يحصي عددهم إلا الله جل وعلا، نؤمن بهم إجمالا وتفصيلا، نؤمن بالملائكة إجمالا وأن لله ملائكة في طاعته واتباع أوامره وتنفيذها، ومنهم من فصله الله لنا وبين لنا أسماءهم كجبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، ومالك خازن النار، هؤلاء بينهم سبحانه وتعالى، وهكذا ملك الموت ومن سماه الله من غيرهم، نؤمن بهم على سبيل التفصيل، وهكذا الكتب نؤمن بها، كل ذلك داخل في الإيمان بالله، داخل في الإسلام، الكتب التي أنزلها الله على الرسل، فإن الله جل وعلا أرسل الرسل، وأنزل عليهم الكتب، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} (1) ،
__________
(1) سورة الحديد الآية 25(28/16)
فالله أرسلهم وأرسل معهم الكتب لبيان الحق للناس، فنؤمن بكتب الله جميعا على الإجمال والتفصيل، نؤمن بجميع الكتب المنزلة على الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومنها التوراة والإنجيل والزبور والقرآن الذي هو أعظمها المنزل على محمد عليه الصلاة والسلام، صحف موسى وصحف إبراهيم، نؤمن بكل الكتب التي أنزلها الله على رسله، وأفضلها وخاتمها القرآن الكريم، وهكذا نؤمن بجميع الرسل من أولهم إلى آخرهم، نؤمن بهم جميعا وأنهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة عليهم الصلاة والسلام، ومنهم آدم عليه الصلاة والسلام الرسول النبي المكلم، فهو رسول الله إلى ذريته يدعوهم إلى توحيد الله، ويأمرهم بأمر الله، وينهاهم عن نهي الله، ثم بعث الله نوحا عليه الصلاة والسلام، بعد ما وقع الشرك في بني آدم، أرسل الله نوحا، فنوح هو أول الرسل إلى أهل الأرض، بعد ما وقع الشرك فيهم، بعث الله نوحا عليه الصلاة والسلام، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة وصبر على قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وهو فيهم يدعوهم إلى الله، فلما استكبروا واستمروا في العناد أهلكهم الله بالغرق، وأنجاه هو وأصحاب السفينة عليه الصلاة والسلام، وهكذا من بعده من الرسل كهود وصالح وشعيب ولوط وموسى،(28/17)
وهارون وغيرهم، كلهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة إلى أن ختمهم الله بأفضلهم محمد عليه الصلاة والسلام، نؤمن بذلك، من عقيدة أهل السنة والجماعة، من الإيمان بالله ورسوله أن نؤمن بهؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنهم أدوا الرسالة، بلغوها وأدوا أمانة الله وصبروا، منهم من قتل ومنهم من سلم، وهم متفاوتون، منهم من تبعه جمع غفير ومنهم من لم يتبعه إلا قليل، حتى قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس، «منهم من لم يتبعه إلا الرهط، الثلاثة والأربعة والخمسة، ومنهم من لم يتبعه إلا الرجل والرجلان، ومن الرسل من لم يتبعه أحد (1) » ، بل خالفه القوم كلهم والعياذ بالله، وهكذا نؤمن باليوم الآخر، وهو الأصل الخامس، من أصول الإيمان نؤمن باليوم الآخر، فأهل السنة والجماعة يؤمنون باليوم الآخر وهو يوم القيامة، سمي الآخر لأنه دبر الدنيا، الدنيا ثم يوم القيامة، حين تقوم الساعة تذهب الدنيا، والدنيا هي اليوم الأول وتقوم الساعة وهي اليوم الآخر، ويجازى الناس بأعمالهم في هذا اليوم الآخر، وفيه تنصب الموازين ويحاسب الناس ويوفون أعمالهم ويعطى هذا كتابه بيمينه وهذا كتابه بشماله، فمن أعطي كتابه بيمينه فهو الرابح السعيد وله الجنة والكرامة، ومن أعطي
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (220) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2446) .(28/18)
كتابه بشماله فهو الهالك وله النار يوم القيامة، ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله عن الآخرة، عن يوم القيامة والجنة والنار، والجزاء والحساب وغير ذلك، كله داخل في الإيمان باليوم الآخر.(28/19)
والأصل السادس الإيمان بالقدر: أن الله علم الأشياء قبل أن تكون، علمها سبحانه وقدرها، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فعلم أعمال العباد وما يقع في هذه الدار، وما يقع في الآخرة، كل ذلك علمه سبحانه وأحصاه وكتبه، فالمسلمون تلقوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم الإيمان بيوم الآخرة كما دل عليه القرآن: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} (1) ، وقال سبحانه: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (2) ، فالمسلمون يتلقون إيمانهم عن رسولهم صلى الله عليه وسلم، وعن كتاب ربهم بهذه الأصول الستة، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، فتؤمن بأن الله علم الأشياء كلها،
__________
(1) سورة البقرة الآية 136
(2) سورة البقرة الآية 177(28/19)
وأنه أحصاها وكتبها وأنه سبحانه هو القادر على كل شيء، العالم بأحوال عباده وأن العباد لن يخرجوا عن قدر الله، وما سبق في علمه سبحانه وتعالى، ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بذلك، قالوا: «يا رسول الله إذا كان الله قد قدر كل شيء، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة، فييسروا لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسروا لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ قوله تعالى: (2) » .
__________
(1) سورة الليل، الآيات 5- 10.
(2) سورة الليل الآية 5 (1) {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}(28/20)
ومن الإيمان بالله أيضا: الإيمان بأسمائه وصفاته، كما أنه داخل في ذلك الإيمان بشرائعه، من صلاة وزكاة وصوم، وحج وجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك، كله داخل في الإيمان بالله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في(28/20)
الحديث الصحيح، لما قال رجل: «يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك؟ قال: " قل آمنت بالله ثم استقم (1) » ، كل شيء داخل في الإيمان بالله، كل ما أمر الله به ورسوله داخل في الإيمان، وهكذا قال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (2) .
فمن آمن بالله ربا وإلها معبودا بالحق، واستقام على دينه، فهذا هو دين الله، وهذا هو الإسلام، وهذا هو الإيمان، وهذا هو الهدى، وهذا هو العبادة التي خلقنا لها، الإيمان بالله ثم الاستقامة؛ الإيمان بالله ربا وإلها معبودا بالحق والإيمان، بكل ما شرع من الأوامر والنواهي، والعمل بذلك. هذا كله العبادة، وهذا هو الدين، وهذا هو الإيمان بالله، وهذا هو الإسلام وهذا هو الهدى، وهذا هو التقوى. ومن الإيمان بالله: الإيمان بأسمائه وصفاته، كله داخل في الإيمان بالله، الإيمان بأنه سبحانه حكيم عليم،
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام برقم 38.
(2) سورة فصلت الآية 30(28/21)
رحمن رحيم، على كل شيء قدير وبكل شيء عليم، وأنه سبحانه بيده تصريف الأمور وهو القادر على كل شيء وإليه مصير العباد، فالإيمان بكل أسمائه وصفاته كل ذلك داخل في الإيمان بالله، فعلى المكلف أن يؤمن بالله ربا وإلها معبودا بالحق، وعليه أن ينقاد لشريعته فعلا للمأمور وتركا للمحظور، هكذا الإسلام وهكذا الإيمان. إيمان بالله يتضمن أداء فرائضه، وترك محارمه والوقوف عند حدوده، والإيمان بأسمائه وصفاته، والإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله مما كان وما يكون.(28/22)
وصفاته وأسماؤه توقيفية، تؤخذ من كتابه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فالمؤمن يؤمن بذلك، يؤمن بكل ما دل عليه كتاب الله من أسمائه وصفاته، وبكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة من أسماء الله وصفاته، كله داخل في الإيمان بالله، مع الإيمان بأنه سبحانه ليس كمثله شيء، له الكمال المطلق في علمه وتوحيده وفي قدرته وفي حكمته، في كل أسمائه وصفاته، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1)
__________
(1) سورة الشورى الآية 11(28/22)
وقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) ، ويقول سبحانه: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (5) .
فله الكمال المطلق في علمه وقدرته وحياته، وفي كل شيء سبحانه وتعالى، لا شريك له ولا شبيه له ولا كفو له. وأسماؤه وصفاته جاءت مفصلة ومجملة، فصلها في الإثبات: إن الله عزيز حكيم غفور رحيم، سميع بصير عليم حكيم، على كل شيء قدير، مفصلة في إثباتها، ومجملة في نفيها، جمع سبحانه بين النفي والإثبات، نفي مجمل وإثبات مفصل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (6) ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (7) ، {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} (8) . كل هذا نفي مجمل، وفيه نفي مفصل، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (9) ، ولكنه قليل، الغالب على النفي: الإجمال، نفي النقائص والعيوب، والمشابهة لخلقه.
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2
(3) سورة الإخلاص الآية 3
(4) سورة الإخلاص الآية 4
(5) سورة النحل الآية 74
(6) سورة الشورى الآية 11
(7) سورة الإخلاص الآية 4
(8) سورة النحل الآية 74
(9) سورة الإخلاص الآية 3(28/23)
وفصل صفاته الثابتة في كتابه العظيم {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (1) ، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (2) ، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (3) {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (4) {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (5) .
إلى غير هذا مما بين سبحانه من أسمائه وصفاته جل وعلا، فعلى العبد أن يؤمن بذلك، وبكل ما أخبر الله به ورسوله من أسماء الله وصفاته، على الوجه الذي يليق به سبحانه، لا يشابه خلقه في شيء من صفاته، نؤمن بذلك على الوجه الذي يليق به سبحانه، ليس له مثيل ولا نظير ولا كفو ولا ند، جل وعلا، فعلمه كامل ليس كعلمنا، قدرته كاملة ليست كقدرتنا، بصره كامل ليس
__________
(1) سورة الحج الآية 75
(2) سورة التوبة الآية 28
(3) سورة الحشر الآية 22
(4) سورة الحشر الآية 23
(5) سورة الحشر الآية 24(28/24)
كبصرنا، وهكذا بقية صفاته سبحانه وتعالى، وهكذا يسمع ويبصر ليس كسمعنا وبصرنا، بل هو أكمل وأعظم، وهكذا موصوف بأن له يدا، بل يداه مبسوطتان، سميع بصير، وله قدم كما في الحديث الصحيح: «لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول هل من مزيد حتى يضع الجبار فيها رجله - وفي رواية قدمه، وينزوي بعضها إلى بعض، ثم تقول قط قط أي حسبي حسبي (1) » لا مثيل له في سمعه ولا في بصره ولا في يده، ولا في وجهه ولا في قدمه ولا في غير ذلك، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (2) ، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (3) .
وهذه الصفات التي وصف بها نفسه، نصفه بها، ونقول كما قال: له وجه وله يدان، وله سمع وله بصر وله قدم، وله أصابع كلها تليق به، لا يشابه خلقه في شيء من صفاته
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بعزة الله وصفاته برقم 6661، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون. . . برقم 2846.
(2) سورة الرحمن الآية 27
(3) سورة القصص الآية 88(28/25)
جل وعلا، جاء في الحديث الصحيح: «إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء (1) » .
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب القدر، باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن برقم 2140.(28/26)
وعرفت أيها المسلم: أن الإيمان بالكتب، يشمل الإيمان بجميع الكتب المفصلة والمجملة، نؤمن بكتب الله المنزلة على رسله وأنبيائه، وما سمى الله نسميه من التوراة والإنجيل، والزبور وصحف إبراهيم وصحف موسى، وما سمى الله نسميه وأعظمها القرآن وهو خاتمها.(28/26)
وهكذا الملائكة نؤمن بهم إجمالا وتفصيلا، من سماه الله سميناه: كجبرائيل وميكائيل، ومن لم يسمه الله نقول: لله ملائكة، لا يحصيهم إلا الله جل وعلا. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأنهم: «في البيت المعمور الذي فوق السماء السابعة، على وزان الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه مرة أخرى (1) » ، كل يوم سبعون ألف ملك للتعبد، ثم لا يعودون إليه، فمن يحصيهم إلا الله جل وعلا. وله ملائكة يتعاقبون فينا،
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (162) ، مسند أحمد (3/149) .(28/26)
يشهدون معنا الصلوات، فإذا صلى الناس الفجر عرج الذين باتوا فينا، وبعد العصر يعرج الذين فينا من النهار، وينزل أهل الليل يجتمع في صلاة الصبح ملائكة يتعاقبون فينا، يشهدون على أعمال العباد وما شاهدوه منها، يسألهم ربهم وهو أعلم، إذا عرجوا إليه: كيف تركتم عبادي، فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون، ومعك أنت يا عبد الله كل واحد منا معه ملكان يكتبان أعماله، هذا يكتب حسناته وهذا يكتب سيئاته. {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (1) ، {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (2) . فجدير بك يا عبد الله أن تحرص على إملاء الخير على هؤلاء الملائكة، أمل الخير، أمل عليهم ما ينفعك ويرضي الله عنك، من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، والدعوة إلى الله وتعليم الخير والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إلى غير هذا من وجوه الخير وهكذا العمل، فهم يكتبون كل شيء،
__________
(1) سورة ق الآية 18
(2) سورة الانفطار الآية 10(28/27)
وعلينا أن نؤمن باليوم الآخر، علينا(28/27)
جميعا على جميع المكلفين من الجن والإنس، الإيمان باليوم الآخر، يدخل فيه كل ما أخبر الله به عن يوم القيامة، كله داخل في الإيمان باليوم الآخر، الجنة والنار والحساب والجزاء، توزيع الكتب على الناس، والمرور على الصراط يوم القيامة، مرور المؤمن على الصراط إلى الجنة، إلى غير هذا من كل ما فرضه الله ورسوله في اليوم الآخر، علينا أن نؤمن بذلك وأن الله يبعث عباده بعد مماتهم في آخر الزمان عند قيام الساعة، يرسل الله ريحا طيبة تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، فلا يبقى إلا الأشرار في خفة الطير وأحلام السباع، يأتيهم الشيطان ويزين لهم الشرك بالله وعبادة غير الله، فيعبدون غير الله وتمتلئ الأرض من شركهم وكفرهم، وضلالهم، وعليهم تقوم الساعة، نسأل الله العافية، فالله جل وعلا يحكم بين عباده يوم القيامة ويجازيهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، كما قال جل وعلا: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (1) ، وقال جل وعلا:
__________
(1) سورة النجم الآية 31(28/28)
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (1) {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (2) وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (3) ، ويقول سبحك: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (4) .
فجميع أعمال العباد يوفون إياها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. تنصب الموازين يوم القيامة، وتوزن فيها أعمال العباد فهذا يثقل ميزانه، وهذا يخفض ميزانه، {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} (5) {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} (6) {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} (7) {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} (8) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} (9) {نَارٌ حَامِيَةٌ} (10) من ثقلت موازينه أعطي كتابه بيمينه، ومن خفت موازينه أعطي كتابه بشماله، والعصاة أمرهم إلى الله، الذين ماتوا على المعاصي والسيئات، أمرهم إلى الله، من شاء سبحانه عفا عنه وأدخله الجنة وصار من
__________
(1) سورة الزلزلة الآية 7
(2) سورة الزلزلة الآية 8
(3) سورة النساء الآية 40
(4) سورة الأنبياء الآية 47
(5) سورة القارعة الآية 6
(6) سورة القارعة الآية 7
(7) سورة القارعة الآية 8
(8) سورة القارعة الآية 9
(9) سورة القارعة الآية 10
(10) سورة القارعة الآية 11(28/29)
أهل اليمين، من أهل النجاة والسعادة، ومن شاء سبحانه أدخله النار بذنوبه ومعاصيه، ثم بعد التطهير والتمحيص يخرجه الله من النار، ويلتحق بإخوانه في الجنة. وأهل الجنة فيها منعمون أبد الآباد، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون، بل في نعيم دائم وخير دائم، وهذا الطعام والشراب جشأ ورشح، لا بول ولا غائط ولا مخاط ولا بصاق، وأهل النار في عذاب وبلاء، أبد الآباد، نسأل الله العافية. {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (1) ، {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (2) ، {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} (3) . هذه نهاية الناس، هذه النهاية. فجدير بالعاقل أن تكون هذه النهاية على باله وألا يغفلها، فلا بد منها، ومن مات فقد قامت قيامته، فليحذر العبد أن يغفل، وأن يجازف في الأمور، فيندم غاية الندامة، ليعد لهذا اليوم عدته، وليحرص قبل أن يهجم عليه الأجل، على العدة الصالحة، على
__________
(1) سورة المائدة الآية 37
(2) سورة البقرة الآية 167
(3) سورة محمد الآية 15(28/30)
الزاد الصالح؛ من طاعة الله ورسوله والقيام بحقه والاستقامة على دينه، وذلك بفعل أوامر الله وترك نواهيه.
هذه العدة الصالحة، أن تستقيم على دين الله وأن توحد ربك، وتخصه بالعبادة، وأن تؤدي فرائضه من صلاة وغيرها، وأن تنتهي عن نواهيه، وأن تقف عند حدوده ترجو ثوابه وتخشى عقابه، هذه العدة الصحيحة، هذه العدة التي أنت مأمور بها ومخلوق لها، أن تعبد ربك وحده، تشهد أنه لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله، وأن محمدا عبد الله ورسوله، وتؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، وتؤدي فرائض الله التي فرضها عليك بإخلاص له سبحانه، ورغبة فيما عنده ومحبة، وتنتهي عن نواهي الله، عن إيمان وصدق وإخلاص، وتقف عند حدود الله مؤمنا بالله ورسله، مؤمنا بأن الله قدر الأقدار، وشاء ما شاء سبحانه وتعالى، فعليك أن تؤمن بالقدر خيره وشره، أن تعلم أن الله علم الأشياء وكتبها، وأنه الخالق لكل شيء، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لهم لم يكن سبحانه وتعالى.(28/31)
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان أيضا بأن الله يرى يوم القيامة، إذا جاء لفصل العباد يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون. {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (1) . والمؤمنون يرونه ويكشف لهم عن ساق، وينظرون إليه ويكلمهم، يحييهم سبحانه وتعالى، ثم في الجنة يرونه سبحانه، يراه المؤمن في الجنة، كما يشاء سبحانه وتعالى، وما أعطوا في الجنة شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه، كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (2) ، الحسنى: الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله، والمسلمون إذا انتهوا من الموقف يمرون على الصراط، منصوب بين الجنة والنار، يمر عليه المؤمنون، ويمنع منه الكافرون، فاحرص على العدة التي تيسر في مرورك، من الإيمان بالله والتقوى.
وعلى الصراط كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، منهم من يخطف وينجو، ومنهم من يخطف ويسقط بسبب معاصيه، والكفار لا يمرون عليه بل يساقون إلى النار، ويحشرون إليها كما
__________
(1) سورة المطففين الآية 15
(2) سورة يونس الآية 26(28/32)
ضيعوا أمر الله، وأشركوا به وكفروا به، يحشرون إليها، ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بأن المؤمن مخلد في الجنة أبد الآباد، ونعيمهم فيها متفاوت، قصورهم ونعيمهم وزوجاتهم مختلفون في ذلك، منهم من يعطى زوجات كثيرات، ومنهم من هو أقل من ذلك. ولكل واحد زوجتان من الحور العين، غير زوجاته من الدنيا وغير ما يعطى من الزوجات الأخريات من الحور العين، كل واحد لا ينقص عن زوجتين من الحور العين، مع ما له من زوجات الدنيا، فالنساء في الجنة أكثر وفي النار أكثر، في الجنة أكثر ومعهم الحور العين، وفي النار أكثر لما يحصل منهن من الإضاعة لأمر الله، والمعاصي الكثيرة التي من أسبابها صرن أكثر أهل النار، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «رأيتكن أكثر أهل النار، قالت له امرأة: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير - يعني تكثرن السب والشتم، وتكفرن الأزواج والإحسان - لو أحسن الزوج إلى إحداكن الدهر، ثم رأت منه شيئا، قالت: ما رأيت منك خيرا قط (1) » الأغلب إنكار الجميل
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب كفران العشير وكفر دون كفر، برقم 29.(28/33)
عند أقل شيء من الزوج، فلهذا كن أكثر أهل النار، بسبب المعاصي والشرور وكفران العشير، وعدم الإيمان بالله ورسوله. وهن أكثر أهل الجنة لما معهن من الحور العين، فالمؤمنات في الجنة مع أزواجهم المؤمنين، ولأزواجهم مزيد من الحور العين، لكل واحد زوجتان من الحور العين، وقد يزاد بعضهم زوجات كثيرات على حسب أعمالهم الصالحة، لكن أقلهم من له زوجتان من الحور العين غير نصيبه من زوجات الدنيا.(28/34)
ومن أخبار اليوم الآخر: أن أهل الجنة يتزاورون فيها، وهم في نعيم دائم، لا يتغوطون ولا يبولون ولا يتفلون، قلوبهم على قلب رجل واحد، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، يسبحون الله بكرة وعشية يتنعمون بالتسبيح والتهليل، والتحميد والتكبير وذكر الله عز وجل، وهم مع تزاورهم واختلاف منازلهم في الجنة، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، كل واحد يرى أنه في نعمة ليس فيها غيره من النعيم العظيم، ليس يعتليه حزن ولا مضايقة، بل في نعيم دائم وسرور دائم، مع لقائه لإخوانه في الأوقات التي يشاؤها الله، ولهم مواعيد مع ربهم يزورونه، ويسلمون عليه وينظرون إلى(28/34)
وجهه الكريم، على حسب مراتبهم، كل هذا من الإيمان باليوم الآخر، ولهم يوم المزيد يوم يجمع الله فيه أهل الجنة، ويزورونه وينظرون إليه، ويسلم عليهم يحادثهم سبحانه وتعالى.(28/35)
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بأن جميع الخلائق يوفون أجورهم في ذلك اليوم، ما أحد يضيع حقه، كل يعطى حقه، من مسلم وكافر وعاص ولو مثقال الذرة، ما يضيع ولو مثاقيل الذر. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (1) {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (2) ، فالواجب على كل مكلف من الرجال والنساء، أن يعد العدة لهذا اليوم، وأن يكون على باله، على الرجل أن يعد العدة وأن يتقي الله، وأن يستقيم على دين الله، وأن يحافظ على ما أوجب الله عليه من صلاة وغيرها، وعلى المرأة كذلك أن تؤدي حق الله، وأن تستقيم على دين الله، وأن تتفقه في دين الله، وأن تؤدي حق زوجها في المعروف، وأن تحذر كفر العشير، وإيذاء الزوج بغير حق، وعلى الزوج أن يتقى الله في أهله،
__________
(1) سورة الزلزلة الآية 7
(2) سورة الزلزلة الآية 8(28/35)
وألا يظلمهم، قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1) ، فعلى الزوج أن يتقي الله، وأن يعاشر بالمعروف وعلى الزوجة أن تتقي الله، وأن تسمع وتطيع زوجها في المعروف، وعليهما أن يتعاونا على البر والتقوى، على طاعة الله ورسوله، حتى تكون زوجته في الجنة، وحتى يكون زوجها في الجنة.
__________
(1) سورة النساء الآية 19(28/36)
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالحوض المورود للنبي صلى الله عليه وسلم حوض يوم القيامة، يرده الناس، حوض عظيم، طوله شهر وعرضه شهر، وآنيته عدد نجوم السماء، آنيته كثيرة يرده المؤمنون أتباع النبي صلى الله عليه وسلم يردونه ويشربون منه يوم القيامة، ويذاد عنه الكافرون الذين لم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم أو ارتدوا بعد وفاته، يذادون عنه ويحرمون منه، كما يحرمون من دخول الجنة، ويرده المؤمنون ويشربون منه، من هذا الحوض المورود، كل هذا من أخبار يوم القيامة، وهو يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة، يوم طويل(28/36)
عظيم، لكن لا ينتصف إلا وقد صار أهل الجنة إلى منازلهم، قال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} (1) عند نصف النهار قد وصلوا إلى منازلهم، وتبوءوا منازلهم، وتنعموا فيها. وما ذك إلا لكثرة الخلق، وطول الحساب، والله جل وعلا هو الحكيم العليم، الذي يجازيهم بأعمالهم: خيرها وشرها، هو الحكم العدل {لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (2) ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (3) ، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (4) .
فأنت يا عبد الله حاسب نفسك، وهكذا أنت يا أمة الله حاسبي نفسك، كل يحاسب نفسه، ينظر ماذا قدم وماذا فعل، هل أدى حق الله، هل استقام على دين الله، هل أدى واجب الله، هل
__________
(1) سورة الفرقان الآية 24
(2) سورة غافر الآية 17
(3) سورة النساء الآية 40
(4) سورة الأنبياء الآية 47(28/37)
ترك محارم الله، هل وقف عند حدود الله، هل أدى ما عليه لإخوانه، وهكذا الزوج يحاسب نفسه، هل أدى حق زوجته، هل أنصفها، هل أدى حق والديه، هل أدى حق أولاده وقراباته. وهكذا الزوجة، المرأة تحاسب نفسها، تنظر هل أدت حق زوجها، هل أدت حق والدها وأقاربها، كل ذلك مطلوب، كما أن على كل منهما أن يؤدي حق الله، وهكذا حق المخلوق أيضا. حق الله أعظم وأكبر، ولكن أوجب عليك حقوقا لغيرك، أوجب عليك حقا لوالديك، ولزوجتك ولأولادك ولإخوانك المسلمين، عليك أن تؤديه، وهكذا المرأة عليها أن تؤدي حق الله الذي عليها لربها، ولزوجها ولقراباتها وللمسلمين. ومن الحق على الجميع الدعوة إلى الله، وتعليم الناس للخير، والنصح لله ولعباده، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا من حق الله على الجميع، التواصي بالحق والتناصح. {وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) .
من الحق على الجميع التعاون على البر والتقوى،
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3(28/38)
يقول سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) ، فالواجب على كل إنسان، أن يحاسب نفسه، هل أدى الحق الذي عليه لله ولعباده، ولا شك أنه متى حاسب نفسه وناقشها، وجد التقصير، فعليه أن يكمل، عليه أن يستقيم، وعليه أن يجاهد نفسه لله، حتى يؤدي الحقوق التي لله ولعباده.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(28/39)
وأهل السنة والجماعة يؤمنون أيضا بكلام الله، وأنه يكلم أهل الجنة، ويكلم عباده يوم القيامة، ويسمعون كلامه سبحانه وتعالى، ويسلم على أهل الجنة ويقول: «هل رضيتم؟ فيقولون يا ربنا ما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، ألم تثقل موازيننا، ألم تدخلنا الجنة، ألم تنجنا من النار، قال: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا (1) » هذا من فضله وجوده جل وعلا.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار برقم 6549، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة فلا يسخط، برقم 2829.(28/39)
وجميع ما يقوله أهل السنة والجماعة، كله موزون بالكتاب والسنة والإجماع، فدين الله مبني على هذه الأصول الثلاثة، على كتاب الله القرآن، وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى إجماع سلف الأمة.
وأهل السنة وأهل الجماعة هم المستقيمون على دين الله ورسوله، هم التابعون للحق، هم المنقادون لشرع الله، فهم يؤمنون بأن القرآن الكريم كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ويؤمنون بما جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن أمة محمد تفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، والفرقة الناجية هم المؤمنون به، وهم أهل السنة والجماعة، وهم المستقيمون على دينه وعلى اتباع شريعته، هم أهل السنة والجماعة، هم الفرقة الناجية، واثنتان وسبعون متوعدون بالنار إما لكفرهم، وإما لبدعهم ومخالفاتهم، أما أهل السنة والجماعة، فهم الذين استقاموا على دين الله، قولا وعملا وعقيدة، واتبعوا شرع الله ونصحوا لله ولعباده، وتباعدوا عن مساخطه، فهؤلاء هم أهل(28/40)
السنة والجماعة، هم أهل الحق، هم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وأتباعهم بإحسان، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، كما نسأله سبحانه أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم، كما نسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا لكل خير، وأن يعينهم على كل خير، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يجعلهم من الهداة المهتدين، وأن يعيذهم من دعاة الباطل ونزغات الشيطان، ومن كل ما يخالف أمره سبحانه، وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن ينصر بهم الحق، ويخذل بهم الباطل، إنه جل وعلا الجواد الكريم وصلى الله عليه وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(28/41)
الأسئلة
س 1: يسأل السائل عن مقال نشر في إحدى الصحف فيقول: يقول الكاتب: فإنه من العبث الادعاء أن ستة مليارات من الناس، المنتشرين على سطح البسيطة سيكون مصيرهم النار، هكذا بموجب فتوى لا تستند إلى الحق والعدل، ويقول: إن أتباع جميع الديانات السماوية، باستثناء المحرفين لكتاب الله، سيذهبون إلى الجنة فيما إذا عملوا صالحا، تحقيقا لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) ، إلى آخر ما قال، فما توجيهكم؟
ج: لا شك أن من آمن بالله واليوم الآخر من جميع الأمم واتبع الرسل لا شك أنه إلى الجنة. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) ،
__________
(1) سورة المائدة الآية 69
(2) سورة المائدة الآية 69(28/42)
فمن آمن بالله ورسله، من هذه الأمة ومن بني إسرائيل من اليهود والنصارى ومن غيرهم، من الأمم كلهم إلى الجنة، كل من تابع الرسل من أولهم إلى آخرهم، فهو إلى الجنة، ومن عصاهم وخالفهم فهو إلى النار، ولا شك أن أكثر الخلق إلى النار، والأقل منهم إلى الجنة، كما قال جل وعلا: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (1) ، وقال جل وعلا: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (2) ، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (3) .
لكن في آخر الزمان إذا رفع الله القرآن في آخر الزمان وأرسل الريح التي تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، لا يبقى إلا الأشرار، فعليهم تقوم الساعة، وهم من أهل النار، لأنهم بقوا على الشرك بالله وعبادة غيره، فعليهم تقوم الساعة، نسأل الله العافية، «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: لا إله إلا الله (4) » . نسأل الله السلامة، وأما القول بأن جميع أهل الأرض في النار، فهذا باطل،
__________
(1) سورة يوسف الآية 103
(2) سورة الأنعام الآية 116
(3) سورة سبأ الآية 20
(4) صحيح مسلم الإيمان (148) ، سنن الترمذي الفتن (2207) ، مسند أحمد (3/268) .(28/43)
كلام باطل، بل من آمن بالله واليوم الآخر، فهو من أهل الجنة، وإنما يكون من أهل النار، من كفر بالله وخالف أمره. لكن في آخر الزمان بعد رفع الكتاب العزيز وبعد موت المؤمنين والمؤمنات، يبقى الأشرار، عليهم تقوم الساعة، نسأل الله العافية، وهم من أهل النار.(28/44)
س 2: وعبارة أخرى أوردها يقول: إن الإسلام والإيمان ليسا محصورين برسالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فقط، بل إن الإسلام والإيمان يخصان كل إنسان يعبد الله، بأي صورة كانت قبل وبعد البعثة المحمدية المباركة؟
ج: أما قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم فكل من آمن بالرسل الماضين، فهو من أهل الجنة، من آمن بموسى، بعيسى، بهود، بصالح، بجميع الرسل، فهو من أهل الجنة، إذا مات على ذلك، أما بعد محمد صلى الله عليه وسلم، فليس من أهل الجنة إلا من تابع محمدا صلى الله عليه وسلم. جميع أهل الأرض بعد بعث محمد صلى الله عليه وسلم، ليس لهم نجاة إلا باتباع محمد عليه(28/44)
الصلاة والسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى؟ قيل: يا رسول الله من يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني دخل النار (1) » ، فأتباع محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين يدخلون الجنة دون غيرهم، ويقول صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار (2) » فلا يكون من أهل الجنة بعد بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلا من تابعه، هذا هو الذي من أهل الجنة. أما من بلغه خبره وكفر به، ولم يؤمن به، فهو من أهل النار.
أما من لم يبلغه خبر النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الفترات، الذين لم يسمعوا بالرسول ولا بالقرآن، فهؤلاء يقال لهم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم 7280.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم برقم 153.(28/45)
أهل الفترة، هؤلاء أمرهم إلى الله يوم القيامة، يمتحنهم جل وعلا، ومن نجح في الامتحان دخل الجنة ومن لم ينجح دخل النار. نسأل الله السلامة. وأما من بلغته رسالته صلى الله عليه وسلم، وبلغه القرآن ولم يؤمن به، فهو من أهل النار. نسأل الله العافية.(28/46)
س 3: ما حكم من لم يكفر اليهود والنصارى؟
ج: هو مثلهم، من لم يكفر الكفار فهو مثلهم، الإيمان بالله هو تكفير من كفر به، ولهذا جاء في الحديث الصحيح، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله (1) » ، ويقول جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2) .
فلا بد من الإيمان بالله، وتوحيده والإخلاص له، والإيمان بإيمان المؤمنين، ولا بد من تكفير الكافرين، الذين بلغتهم الشريعة
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، برقم 23.
(2) سورة البقرة الآية 256(28/46)
ولم يؤمنوا، كاليهود والنصارى والمجوس والشيوعين وغيرهم، ممن يوجد اليوم وقبل اليوم، ممن بلغتهم رسالة الله ولم يؤمنوا، فهم من أهل النار كفار، نسأل الله العافية.(28/47)
س 4: سائل يقول: هناك من يحذر من كتب الإمام النووي وابن حجر رحمهما الله تعالى، ويقول: إنهما ليسا من أهل السنة والجماعة، فما الصحيح في ذلك؟
ج: لهم أشياء غلطوا فيها في الصفات، ابن حجر والنووي وجماعة آخرون، لهم أشياء غلطوا فيها، ليسوا فيها من أهل السنة، وهم من أهل السنة فيما سلموا فيه ولم يحرفوه هم وأمثالهم ممن غلط.(28/47)
س 5: سائل يقول: كيف يكون التعامل مع الباطنيين وأهل البدع الذين خالطونا في البلاد، إذا كانوا طلابا أو مدرسين، وإذا كانوا أطباء أو مرضى، وإذا كانوا زملاء في العمل؟
ج: من أعلن بدعته وجب هجره، من أعلن بدعته من الغلو في أهل البيت، في علي وفاطمة وأهل البيت، والغلو في(28/47)
الصحابة هذا يهجر؛ لأن عبادة أهل البيت، وغلو في الصحابة بعبادتهم من دون الله، كفر وردة عن الإسلام، فمن أظهر بدعته يهجر ولا يوالى، ولا يسلم عليه ولا يستحق أن يكون معلما ولا غيره، فلا يؤمن جانبه، ومن لم يظهر بدعته ولم يبين شيئا، وأظهر الإسلام مع المسلمين، يعامل معاملة المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: لما سئل «أي الإسلام أفضل؟ قال: " أن تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف (1) » من أظهر الإسلام فهو أخونا نسلم عليه، ونرد عليه السلام، فمن أظهر الشرك والبدعة، فليس أخانا إن كان مشركا؛ لأنه كفر، وإن كانت بدعة استحق الهجر عليها حتى يدعها، حتى ينقاد إلى الحق.
وهكذا من أظهر المعاصي، كالزنى وشرب الخمر يستحق أن يهجر، وإن كان مسلما يستحق أن يهجر حتى يتوب إلى الله من شرب الخمر، ومن إظهار ما أظهر من المنكرات.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب إطعام الطعام من الإسلام، برقم 12.(28/48)
فإذا كان دخل البلاد بأمان أو عهد، لا بأس أن يعطى العلاج وينصح ويعلم، يدعى إلى الله جل وعلا، أما إن كان حربيا فلا، لا يعطى العلاج، بل يقتل الحربي وهو فيمن يقاتل، والمبتدعة كذلك ما داموا بأمان عندنا، لو عولجوا في المستشفيات وأعطوا الدواء ما داموا تحت الأمان فلا بأس، حتى يقام عليهم حق الله.(28/49)
س 6: سائل يقول: هل كل من يقع في الشرك الأكبر يكون مشركا، وتطبق عليه أحكام المشركين؟
ج 6: نعم، من كفر بالله صار كافرا، ومن أشرك بالله صار مشركا، كما أن من آمن بالله ورسوله صار موحدا مؤمنا، أما من لم تبلغه الدعوة، فهذا لا يقال له مؤمن ولا كافر، ولا يعامل معاملة المسلمين، بل أمرهم إلى الله يوم القيامة، وهم أهل الجهل الذين ما بلغتهم الدعوة، هؤلاء يمتحنون يوم القيامة، يبعث الله إليهم عنقا من النار، ويقال ادخلوا، فمن أجاب صار عليه بردا وسلاما، ومن لم يجب يدخل النار، نسأل الله العافية. المقصود أن من بلغته الدعوة، ولم يؤمن ولم يسلم فهو كافر عدو لله.(28/49)
س 7: سائل يقول: بعض الناس يدعون العلم بما تحت الأرض وما فوقها، ويحددون أماكن الآبار، وخاصة في الأماكن الصحراوية والجبلية، فهل يصدقون، وهل هذا من الكهانة؟
ج: دعوى معرفة المياه لا يكون من الكهانة، يدرك بأمارات، المياه في الأراضي تدرك بعلامات وأمارات يعرفها المختصون، قد يخطئون وقد يصيبون، لكن إذا كان علمهم جيدا، فالغالب يصيبون، لها أمارات كما ذكر ابن القيم رحمه الله وغيره، لها أمارات يعرف بها مواضع المياه.(28/50)
س 8: بعض الناس ينكرون الانتساب إلى أهل السنة والجماعة، ويقولون: كل يدعي ذلك، ولكن الأولى أن ينتسب إلى السلف؟
ج: السلف هم أهل السنة والجماعة. الانتساب إليهم لا بأس، بل حق وأنه من المؤمنين، ومن أتباع أهل السنة والجماعة، من أتباع الصحابة، ومن المؤمنين بالله واليوم الآخر، ينتسب إلى أهل الحق لا ينتسب إلى أهل الباطل، يجاهد نفسه على الصدق، وألا تكون دعوى، يجاهد نفسه حتى يصدق.(28/50)
س 9: ما صحة حديث «إن الله خلق آدم على صورته (1) » " أو " على صورة الرحمن "؟
ج: حديث صحيح، خلق آدم على صورته، يعنى سميعا بصيرا يتكلم، له عين وله يد وله قدم، وليس معناه المشابهة، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (2) سبحانه، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (3) . لكن معناه خلقه الله على صورته سميعا وبصيرا، له وجه، له يد، له قدم، يعلم ويسمع ويبصر، هكذا قال أهل السنة كأحمد وإسحاق وغيرهم رحمة الله عليهم.
__________
(1) مسند أحمد (2/244) .
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) سورة الإخلاص الآية 4(28/51)
س 10: هناك من يتلفظ بألفاظ فيها الاستعانة بالجن، والدعاء أو الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، عندما ينبه يقول اعتاد عليها لساني، فما الحكم في ذلك؟
ج: يجب أن يعود لسانه الكلام الطيب، ويحذر الكلام المنكر، وليس هذا بعذر، يجب أن يحفظ لسانه عما حرم الله،(28/51)
والاستغاثة بالجن ودعاء الجن من الشرك بالله جل وعلا، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (1) . كان كثير من العرب في جاهليتها تعبد الجن، وتستعيذ بهم وتخافهم، فالواجب على المؤمن أن يحذر ذلك وأن يثق بالله، ويعتمد على الله ويستعيذ بكلمات الله التامات، ليلا ونهارا من شر ما خلق، ويقيه الله شرهم يقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، في ليله ونهاره في أي منزل وفي أي مكان، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، يكررها ثلاثا أو أكثر دائما: صباحا ومساء، وينجيه الله من شرهم، وهكذا إذا قال: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم ثلاث مرات، صباحا ومساء، هذا من أسباب العافية من كل شيء، وهكذا قراءة قل هو الله أحد والمعوذتين صباحا ومساء: ثلاث مرات، بعد الفجر وبعد المغرب من أسباب السلامة من كل شر، المقصود أن الواجب عليه أن يحفظ لسانه عما حرم الله من فعل الكلام الرديء، لا من دعائه
__________
(1) سورة الجن الآية 6(28/52)
للجن ولا من الحلف بغير الله، ولا بغير هذا من سائر الكلام المنكر، وليس له عذر بقوله اعتاد لسانه بل يحذر، ويحفظ لسانه عما حرم الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت (1) » . والله يقول في كتابه العظيم: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (2) . فهو مسئول عن كلامه، فعليه أن يحفظ لسانه، عن كل ما حرم الله، من الغيبة والنميمة والسب، دعاء الجن، التوسل بالمخلوقات إلى الله، كأن يتوسل بالنبي أو بجاه النبي، أو بحق النبي كل هذا لا يجوز؛ التوسل يكون بدعاء الله وتوحيده، التوسل بالإيمان به سبحانه، واتباع الشريعة التوسل بأعمالك الصالحة، كل هذا طيب. اللهم إني أسأل بإيماني بك،. بمحبتي لك، باتباعي نبيك صلى الله عليه وسلم ببري والدي، بصلتي للرحم، بأدائي للأمانة، يتوسل بأعماله مثل أصحاب الغار، توسلوا إلى الله بأعمالهم الصالحة، فأنجاهم الله وفرج كربتهم، أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، برقم 6018.
(2) سورة ق الآية 18(28/53)
ثلاثة من الذين قبلنا، آواهم المبيت والمطر إلى غار، فدخلوا فيه من أجل المطر والليل، ليبيتوا فيه، فأنزل الله صخرة تدحرجت من أعلى الجبل، حتى سدت عليهم الغار، ولم يستطيعوا لها دفعا، فقالوا فيما بينهم: لن يخلصكم من هذه الصخرة، إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، فأنجاهم الله منها، قال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، الغبوق يعني الحليب في أول الليل، من عادة البادية شرب الغبوق في الليل، إذا حلبوا الإبل، فكان يأتي بالحليب ليسقي والديه، قبل أهله، فنأى به طلب الشجر ذات ليلة، فتأخر فجاءهما ووجدهما نائمين، فكره أن يوقظهما، وبقي واقفا بالقدح ينتظر إيقاظهما، والصبية عنده يتضاغون يريدون الحليب، من شدة حبه لوالديه وبره لهما، بقى واقفا حتى طلع الفجر، فاستيقظا، فسقاهما، ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة بعض الشيء، لكن لا يستطيعون الخروج، ثم قال الثاني: اللهم إنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي، فراودتها عن نفسها - يعني بالزنى -(28/54)
فأبت علي، فألمت بها سنة شديدة - يعني حاجة - فجاءت إلي تطلب الرفد وسد الحاجة، فقال لا، حتى تمكنيني من نفسك - يعني حتى تسمح له بالزنى - فعند الضرورة سمحت، فلما جلس بين رجليها، قالت: يا عبد الله اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، وقد أعطاها مائة دينار أو عشرين دينارا، مائة جنيه أو عشرين جنيها، فلما قالت له: اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، خاف من الله وقام وتركها، وترك الذهب لها، ثم قال في هذه الحادثة: اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، يعني ترك الزنى وترك الذهب خوفا منه، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة قليلا أيضا، لكن لا يستطيعون الخروج، ثم قام الثالث، فقال: اللهم إنه كان لي أجراء - عمال عنده - فأعطيتهم حقوقهم إلا واحدا، بقي له الحق عندي، فنميته وثمرته في إبل وبقر وغنم وعبيد، انتظر مجيئه ليأخذ حقه، صار يتصرف فيه يتجر فيه، اشترى منه إبلا ونعما، في جعله والباقي آصع من شعير، أو من ذرة أو من أرز، فنمى هذا المال، نماه، تاجر فيه، واشترى منه الإبل والبقر والغنم والرقيق، فجاءه بعد مدة، قال: يا عبد الله أعطني(28/55)
حقي الذي خليت عندك. قال: يا فلان كل ما ترى من حقك، كله لك، هذه الإبل والبقر والغنم والعبيد، كلها من حقك، ثمرته لك، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، قال: إني لا أستهزئ بك هو من حقك خذه، فاستاقه كله، استاق الإبل والبقر والغنم والعبيد، ثم قال الرجل: اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، وخرجوا، بأسباب أعمالهم الصالحة التي توسلوا بها إلى الله عز وجل، فنفعتهم عند الشدة، وأنجاهم الله بها عند الشدة، فتوسل إلى الله بإيمانك وتقواك، وبر والديك وأدائك الحقوق، وسيلة صالحة، وهكذا التوسل بتوحيد الله والإخلاص له، والإيمان به كله وسيلة صالحة، توسل إلى الله بأنك تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأنك تؤمن بالله ورسوله، وأنك تؤمن باليوم الآخر، كله وسيلة شرعية، اللهم إني أسألك بأسمائك وصفاتك، وسيلة شرعية، أما التوسل بمخلوقات فلا، جاه النبي، أو بحق النبي أو بجاه فلان، أو شرف فلان، وسيلة باطلة ما تنفع، ليست وسيلة شرعية.(28/56)
س 11: أخ يسأل عن بعض الجماعات الإسلامية، مثل جماعة التبليغ وجماعة الإخوان المسلمين، ويقول: هل هؤلاء من أهل السنة والجماعة؟
ج: كلهم عندهم نقص، جماعة التبليغ وجماعة الإخوان المسلمين، يجب أن يحاسبوا أنفسهم وأن يستقيموا على الحق، وأن ينفذوا ما دل عليه الكتاب والسنة، في توحيد الله والإخلاص له، والإيمان به واتباع شريعته، وعلى الإخوان المسلمين وفقهم الله أن يحاسبوا أنفسهم وأن يحكموا شرع الله فيما بينهم، وأن يستقيموا على دين الله: قولا وعملا وعقيدة، وأن يحذروا مخالفة أمره أينما كانوا، وعلى جماعة التبليغ أيضا أن يحذروا ما كان يفعله أسلافهم من تعظيم القبور، والبناء عليها أو جعلها في المساجد أو دعائها والاستغاثة بها، كل هذا من المنكرات، والاستغاثة بها من الشرك الأكبر، فعليهم أن يحذروا ذلك، لهم نشاط في الدعوة إلى الله، وكثير منهم ينفع الله به الناس، لكن عند أسلافهم عقيدة غير صالحة، فيجب على الخلف أن يتطهروا منها، وأن يحذروا العقيدة الرديئة وأن يستقيموا على توحيد الله حتى ينفع الله بهم وبجهادهم.(28/57)
س 12: روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إنا كنا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم نقول في التشهد: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وبعد وفاته كنا نقول السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، فهل هذا صحيح، وهل نقوله في التشهد؟
ج: المشروع أن يقولوا بما علم النبي الصحابة، علمهم أن يقولوا: " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " فنقول كما علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم، علم الصحابة ولم يقل لهم إذا مت غيروا، علمهم وهم يسافرون، يذهبون في البلاد البعيدة، يقولون: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، يعني يدعون له، السلام عليك هو دعاء له، بالسلامة والرحمة والبركة، وأيها النبي معناها استحضار، أيها النبي ما هو بمعنى أن يدعوه، يدعون له، السلام عليك يعني لك السلامة، لك العافية والرحمة والبركة من ربك، هو دعاء له صلى الله عليه وسلم، ليس يدعى هو، ولكنك تطلب الله له السلامة والرحمة، والبركة، ومن قال: السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، فلا بأس، لكن الأفضل أن(28/58)
يقول: كما علم النبي الصحابة: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، هذا هو الذي علمه النبي أمته، ومات على ذلك عليه الصلاة والسلام.(28/59)
س 13: هل الدين خاص بشعائر معينة، أم هو شامل لكل أمور الحياة؟ وما الحكم فيمن يقول: إن الدين خاص بالمسجد، أو لا يتدخل في المعاملات والسياسة وما شابه ذلك؟
ج: الدين عام، يعم المسجد ويعم البيت ويعم الدكان، ويعم السفر ويعم الحضر ويعم السيارة ويعم البعير، يعم كل شيء: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (1) . يعني في الإسلام كله، فالعبد عليه أن يتقي الله في كل شيء، وأن يسلم وجهه إلى الله في كل شيء، ليس في المسجد فقط، بل في المسجد والبيت، مع أهله ومع ضيوفه ومع جيرانه، وفي الأسواق مع إخوانه، في محل البيع والشراء، عليه أن يبيع كما شرع الله، ويحذر الربا ويحذر الكذب ويحذر الخيانة ويحذر الغش، وهكذا في جميع أحواله، الدين عام في كل شيء، الدين معك في كل شيء، في
__________
(1) سورة البقرة الآية 208(28/59)
بيتك، في دكانك، في سفرك، في إقامتك، في الشدة في الرخاء، عليك أن تلتزم بالدين، ما هو فقط في المسجد، هذا يقوله الضالون، يقوله العلمانيون دعاة الضلالة، دعاة الإلحاد، الدين معك في كل شيء، عليك أن تلتزم بدين الله في كل شيء، وأن تستقيم بدين الله في كل شيء، فالمسلم يلتزم بدين الله ويستقيم على أمر الله، في جميع الأمور، لا يختص بالبيت ولا بالمسجد، ولا بالسفر ولا بالحضر، بل في جميع الأشياء، عليك أن تطيع الله، وتؤدي فرائضه، وتنتهي عن محارمه، وتقف عند حدوده أينما كنت، في بيتك أو في الجو، أو في البحر أو في السوق، أو في أي مكان.(28/60)
س 14: ما هي صفات السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب؟
ج: بينهم النبي صلى الله عليه وسلم، بأنهم المستقيمون على دين الله، السبعون ألفا، ومع كل ألف سبعون ألفا. مقدم هذه الأمة المؤمنة، مقدموهم يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر. وهم الذين جاهدوا أنفسهم لله، واستقاموا على دين الله، أينما كانوا في أداء الفرائض، وترك المحارم، والمسابقة إلى الخيرات.(28/60)
ومن صفاتهم: لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون:
لا يسترقون يعني ما يطلبون من يرقيهم، ولا يكتوون، وليس معناه تحريم هذا، لا بأس بالاسترقاء ولا بأس بالكي عند الحاجة إليهما، ولكن من صفاتهم ترك ذلك والاستغناء بالأسباب الأخرى، لا يطلبون من يرقيهم، ما يقول يا فلان ارقني، ولكن إذا دعت الحاجة لا بأس، لا يخرجه ذلك إذا دعت الحاجة عن السبعين، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تسترقي في بعض مرضها، وأمر أم أيتام جعفر بن أبي طالب أن تسترقي لهم، كما في الحديث الصحيح.
وهكذا الكي، كوى بعض أصحابه عليه الصلاة والسلام، وقال: «الشفاء في ثلاث، كية نار، أو شرطة محجم أو شربة عسل، وما أحب أن أكتوي، وقال: وأنا أنهى أمتي عن الكي (1) » ، فالكي آخر الطب، إذا تيسر الطب الآخر فهو أولى، وإذا دعت الحاجة إليه فلا بأس.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطب، باب الكي، برقم 3491.(28/61)
س 15: لقد درجت وشاعت بعض العادات عند القبائل، بإحضار من يسمون شعراء المحاورة، مثل أن يأتوا بشاعرين كل واحد منهما من قبيلة، مقابل إعطائهم مبلغا من المال في حفلات العرس ونحوها، ويقوم الشاعران بإحياء الليل كما يقولون، حيث يكون هناك صفان متقابلان من الرجال، كل شاعر له صف يرددون ترديدا جماعيا ما يقوله الشاعران، بأصوات عالية مع التصفيق والرقص والتمايل، ويفتخر كل شاعر بحسبه ونسبه، ويطعن بالمقابل في الشاعر الآخر، فما الحكم في هذا كله؟
ج: أما الغناء في العرس من النساء بالدفوف، فهذا من إعلان النكاح، وهو مشروع، ضرب الدف في النكاح للنساء خاصة، ليس فيه اختلاط، بل الأغاني العادية ليس فيها منكر، هذا مشروع للنساء وهو من إعلان النكاح، وكان يفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ويحضره أزواجه وغيرهم، أما الرجال، فلا بأس أن يتعاطوا الشعر العربي، ويجتمعوا عليه ويسمعوه الذي ليس فيه محذور، ليس فيه غيبة ولا سب ولا شتم، ولا يسبب(28/62)
الشحناء والعداوة، بدون طبل وبدون منكر آخر، من عيب الناس عيب قبيلة فلان، وعيب قبيلة فلان مما يسبب الشحناء هذا لا يجوز. أما إذا حضروا شعرا طيبا، كشعر حسان والأشعار الطيبة والقصائد الطيبة، التي فيها الخير والدعوة إلى الخير، أو قام شاعر يدعوهم إلى الخير، إلى الجود والكرم والأعمال الطيبة، وقام شاعر آخر كذلك، يدعو إلى الخير، ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال لا بأس، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن من الشعر حكمة (1) » وقال لحسان: «اهج الكفار، فوالذي نفسي بيده إنه لأشد عليهم من وقع النبل (2) » ، وقال: «اللهم أيده بروح القدس (3) » كان حسان يهجوهم، وكانت أشعاره عظيمة طيبة، وهكذا عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وهكذا من بعدهم من الشعراء الطيبين، ومن الشعر نونية ابن القيم، التي هي من أعظم الشعر ومن أنفعه، قصيدة طيبة عظيمة نافعة، نونية
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره، برقم 6145.
(2) أخرجه البيهقي في سننه ج 10 ص 228.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب الشعر في المسجد، برقم 453.(28/63)
القحطاني قصيدة طيبة نافعة في العقيدة، وهكذا الأشعار الطيبة التي فيها الدعوة إلى الخير، وإلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، هذا طيب، في العرس وغير العرس، أما أن يقوم شاعران أو أكثر يتفاخران، يذم بعضهم بعضا، أو يسب بعضهم بعضا، هذا منكر، أو يسب هذا قبيلة هذا، وقبيلة هذا، هذا منكر، لكن إذا كان الشعر فيما ينفع الناس، في الدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، بر الوالدين، صلة الرحم، طاعة الله ورسوله، طاعة ولاة الأمور في المعروف، الحذر من معاصي الله، هذا كله طيب، له أثر في النفوس، ولا بأس أن تعطى المغنية في العرس أجرة على عملها، أو الشاعر الذي عنده أشعار طيبة، يدعى ليقول الشعر الطيب الذي ينفع الناس، يعطى جائزة، لا بأس. أما الذي يدعو إلى غيبة فلان، وغيبة فلان وذم فلان ومدح فلان، لإثارة الشحناء والعداوة والبغضاء بين الناس فهذا منكر لا يجوز.(28/64)
س 16: هل من النياحة اجتماع أهل الميت في بيت، واستقبالهم للناس ثلاثة أيام تسهيلا على الأقرباء؟
ج: النياحة لا تجوز، لكن إذا جلس في البيت ليعزيه الناس،(28/64)
لا بأس، جلس في بيته في الأوقات المناسبة حتى يزوره أقاربه وغيرهم من المعزين، لا بأس بذلك، لكن لا يحتفلون بالطعام، أهل الميت يذبحون للناس، أو يصنعون طعاما للميت، لا، هذا بدعة لا أصل له، لكن إذا جلس صاحب البيت، في الأوقات المناسبة من المغرب والعشاء، أو الضحى أو غيره ليزوره إخوانه، ويعزوه حتى لا يشق عليهم، أو عزوه في الطريق، أو في المقبرة أو في المسجد كفى ذلك.(28/65)
س 17: ما حكم نشر العزاء في الصحف ورد العزاء أيضا في الصحف، وكتابة الآيات الكريمة التي فيها تزكية للميت؟
ج: في الصحف فيما بلغني أنه يكلف كثيرا، يخشى من التكلف، نفقات طائلة بلا حاجة، وأنه لو كتب أحسن الله عزاء آل فلان في ميتهم، غفر الله له، ما يضر، لكن بلغني أنه يكون فيه كلفة، وتركه أولى إذا كان فيه كلفة، يكتب لهم كتابة، رسالة إليهم، برقية، ويكفي، إذا كان في الجريدة مشقة من نفقات، وليس من النعي الذي نهى عنه رسول الله، النعي الذي نهى عنه، كان أهل الجاهلية إذا مات ميت، أركبوا إنسانا يطوف بين القبائل، ينعى إليهم الميت، وهذا من عمل الجاهلية، أما إذا كتب(28/65)
كتابة يعزي، أو كتب في الجريدة أحسن الله عزاء آل فلان، لا بأس، لكن إذا كان يكلف وفيه مؤنة، ينبغي تركه؛ لأن الرسول نهى عن إضاعة المال، وهذا من إضاعة المال، يكفي الكتابة، الخط إليهم، أو برقية، أو مكالمة تلفونية تكفي.(28/66)
س 18: ما هي عقيدة أهل السنة والجماعة في عذاب القبر، وهل هو على الروح فقط، أو على الروح والجسد؟
ج: من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، الميت إما أن ينعم وإما أن يعذب، أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك، وقد أخبر النبي بهذا عليه الصلاة والسلام عن ذلك: فالقبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، فعلى المسلم أن يؤمن بهذا. وقد أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على شخصين يعذبان، أحدهما كان يمشي بالنميمة، والآخر كان لا يتنزه من بوله.
أهل السنة والجماعة يؤمنون بعذاب القبر ونعيمه، أنه حق على الروح والجسد جميعا، ولكن نصيب الروح أكثر، كما قال الله جل وعلا في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} (1)
__________
(1) سورة غافر الآية 46(28/66)
فهكذا الميت الصالح ينعم في قبره، وغير الصالح يعذب في قبره، ويوم القيامة العذاب أشد، والنعيم أعظم، بعد البعث والنشور.(28/67)
س 19: هل يكفي المعتقد الصحيح عن العمل، والاستقامة على شرع الله؟
ج: لا يكفي الإيمان المعتقد عن العمل، لا بد من العمل:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (1) ، لا بد من العمل، يؤمن بالله ورسوله وتوحيد الله ويعمل، يؤدي فرائض الله وينتهي عن محارم الله، لا بد من هذا وهذا، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} (2) . لا بد من الإيمان والعمل.
__________
(1) سورة البقرة الآية 277
(2) سورة لقمان الآية 8(28/67)
س 20: إنني رجل أقوم بالدعوة والإرشاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنكار المنكرات على الناس، ولكن هناك من يتصدى لي، ويقول: إنك تتدخل فيما(28/67)
لا يعنيك، وإنك تثير فتنة، فما الحكم في ذلك؟
ج: إذا كان عندك علم، وتدعو إلى الله على بصيرة، فلا تلتفت إلى من ثبطك، تدعو إلى الله، تعلم الناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، مع الحلم والصبر والاحتساب، وطيب الكلام، كما قال الله جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) ، وقال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) ، وقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) ، وقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (4) .
فاستمر على ذلك ما دمت عندك علم، واستقم على ذلك، ولا تلتفت إلى من ثبطك، لكن عليك بالحكمة، عليك بما قال الله
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة آل عمران الآية 110
(3) سورة فصلت الآية 33
(4) سورة النحل الآية 125(28/68)
ورسوله وحسن مواضعها، الحلم والصبر وعدم العجلة في الأمور، وعليك بالرفق وطيب الكلام.(28/69)
س 21: يقول بعض المفسرين في تفسير قول الله عز وجل: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} (1) (2) أي ذكر حيث تنفع التذكرة، هل هذا العصر هو عصر الشح المطاع، والهوى المتبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه؟
ج 21: هذا ليس بشرط، وإنما هو وصف أغلبي، يعني تعظم الفرضية، والوجوب عند انتفاع الناس بالذكرى، وإلا هو مأمور بالتذكير، عسى أن ينتفع، ولهذا في الآيات الأخرى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} (3) ، و {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (4) .
الإنسان يذكر والنفع بيد الله، لكن إذا نفعت الذكرى يكون الوجوب أشد، تكون الفائدة أعظم، من يرى منه الانتفاع،
__________
(1) سورة الأعلى الآية 9
(2) سورة الأعلى، الآية 9.
(3) سورة الغاشية الآية 21
(4) سورة الذاريات الآية 55(28/69)
والاستفادة يكون الواجب عليهم يتضاعف، ويقوى ويكبر.
أما قولك: هل هذا العصر هو عصر الشح المطاع، والهوى المتبع وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فلا في هذا، لكن ليس معناه أن هذا هو العصر الذي يترك الإنسان، لا يؤمر ولا ينهى، لأن فيه شحا مطاعا وفيه هوى متبع وفيه إعجاب، لكن ليس العصر الذي يقف فيه الإنسان عن الدعوة، وعليه بنفسه، لا، الحمد لله: الدعوة مسموعة ومفيدة ونافعة، وهناك من يستجيب لها، فعليه أن يدعو إلى الله ويحذر شحا مطاعا وهوى متبعا ويحذر دنياه المؤثرة، ولكن لا يقف عن الدعوة، إلا إذا جاء وقت يمنع فيه من الدعوة، ويعاقب عليها ولا يسمح له أن يدعو أحدا من إخوانه، ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حينئذ عليه بنفسه، وليس هذا وقتهم، الحمد لله بل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعاة إلى الله ولله الحمد مسموح لهم، يدعون إلى الله، كون بعض الناس قد يخطئ، قد يوقف لأجل خطأ منه في بعض المسائل، ما يمنع من الدعوة، فالإنسان يلزم الطريق ويستقيم على الطريق السوي ولا يمنع. وإذا منع أحد أو أوقف أحد لأجل أنه حاد عن السبيل(28/70)
في بعض المسائل، أو أخطأ في بعض المسائل، حتى يتأدب وحتى يلتزم، هذا من حق ولاة الأمور، أن ينظروا في هذه الأمور، وأن يوقفوا من لا يلتزم بالطريقة التي يجب اتباعها، وعليهم أن يحاسبوا من حاد عن الطريق حتى يستقيم، هذا من باب التعاون على البر والتقوى، وعلى الدولة أن تتقي الله في ذلك، وأن تتحرى الحق في ذلك، وعليها أن تأخذ رأي أهل العلم، وتستشير أهل العلم، عليها أن تقوم بما يلزم، ولا يترك الحبل على الغارب، كل من جاء يتكلم، لا، قد يتكلم أناس يدعون إلى النار، وقد يتكلم أناس ينشرون الشر والفتن، يفرقون بين الناس بغير حق، فعلى الدولة أن تراعي الأمور بالطريقة الإسلامية، بالطريقة المحمدية، بمشاورة أهل العلم، حتى يكون العلاج في محله، والدواء في محله، وإذا وقع خطأ أو غلط، فلا يستنكر، من يسلم من الغلط، لكن الداعية قد يغلط، والآمر والناهي قد يغلط، والدولة قد تغلط، والقاضي قد يغلط، والأمير قد يغلط، كل بني آدم خطاء، لكن المؤمن يتحرى، الدولة تتحرى الحق، والأمير يتحرى، والقاضي يتحرى، والداعي إلى الله يتحرى، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يتحرى، وليس(28/71)
معصوما، فإذا غلط، ينبه على خطئه، ويوجه إلى الخير، فإذا عاند فإلى الدولة أن تعمل معه من العلاج أو التأديب، أو السجن ما يمنع العناد إذا عاند الحق وعاند الاستجابة، ومن أجاب وقبل الحق فالحمد لله.(28/72)
س 22: من الصحف الآن من تنشر صور المغنين، والمطربين والممثلات وغير ذلك، وفسادهم بين؟
ج: هؤلاء يجب منعهم، يجب على الدولة أن تمنعهم، يجب على الدولة أن تمنع نشر الصور، من صور المغنين، ومنع نشر الدعوة إلى الباطل، على الدولة وعلى أهل الحسبة، أن يقوموا في هذا، وعلى أهل الدعوة أن يتعاونوا على البر والتقوى، وعلى وزارة الإعلام أن تجتنب ذلك، وأن تحرص على نشر الحق، سواء كان من طريق الإعلام، المرئي أو المسموع أو المقروء، يجب على القائمين على وزارة الإعلام، أن يتقوا الله وأن يعملوا ما يرضي الله، ويحذروا ما حرم الله، وعلى الدولة أن تقوم بذلك، وعلى المسلمين والعلماء والأخيار أن يساعدوا في ذلك، وأن يتعاونوا في ذلك، وأن يرفعوا للدولة ما قد يقع من الخطأ.(28/72)
س 23: ما هي كتب العقيدة الصحيحة التي تنصحون طلبة العلم باقتنائها وقراءتها، وكيف توجهون الداعية الذي يدعو الناس، من أهل البادية من العامة، الذين يحتاجون إلى تعلم أصول العقيدة؟
ج: أعظم كتب العقيدة وأنقعها: كتاب الله القرآن، فيه الهدى والنور، فنوصي الجميع رجالا ونساء كبارا وصغارا، أن يعتنوا بالقرآن وأن يجتهدوا في حفظه، والإكثار من تلاوته، فهو كتاب العقيدة، وهو كتاب الهدى وهو الشافي المفيد النافع، كما قال جل وعلا: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) ، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (2) .
وهو الصراط المستقيم، فنوصي جميع المسلمين في كل مكان، جميع الرجال والنساء العرب والعجم، نوصي الجميع بأن يلزموا هذا القرآن، وأن يعظموه ويعملوا به، ويكثروا من تلاوته، أينما كانوا، من المصحف وعن ظهر قلب، وأن ينفذوا أوامره
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة فصلت الآية 44(28/73)
وينتهوا عن نواهيه، هو كتاب العقيدة، هو كتاب العمل، هو كتاب الهدى، هو كتاب السعادة، فيه كل خير، وفيه الدعوة إلى كل خير، وفيه الدعوة إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، وفيه القصص عن الماضين: عن الخير والشر، أخبر عن الماضين من أهل الخير، وعن الماضين من أهل الشر، فعلى المؤمن والمؤمنة، أن يأخذوا منه ما دل عليه من الخير، وأن يحذروا ما حذر منه من الشر، ثم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: كتب الحديث كالصحيحين والسنن، ومسانيده المعتمدة، فأهل العلم يخرجون الأحاديث، يعلمون الناس وينشرونها بين الناس، وكل كتب العقيدة المعروفة لأئمة أهل السنة والجماعة، الكتب الطيبة المعروفة يستعان بها، وينتفع بها، في تعليم الناس الخير، كتب السلف الصالح المعروفة، ومثل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله وغيرهم من أهل العلم المعروفين، بحسن العقيدة، ومثل كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وأئمة الدعوة الإسلامية في نجد، لما يسر الله هذه الدعوة في القرن الثاني عشر،(28/74)
وكتبوا وجمعوا فيها ما ينفع الله به الناس في مثل كتاب التوحيد، والثلاثة الأصول، وكشف الشبهات، وآداب المشي إلى الصلاة، ورسائل المشايخ في الدرر السنية، تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد للشيخ سليمان، هذه الكتب العظمة، والعقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، والتدمرية، ومنهاج السنة والحموية، والعقيدة الطحاوية وشرحها لابن أبي العز، ولمعة الاعتقاد لصاحب المغني إلى غيرها من الكتب الطيبة، كتب السلف الصالح التي تعين على الخير، وتنشر الحق وتعلم الناس الخير.(28/75)
2 - تعريف بدين الإسلام
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وصفوته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين (1) .
أما بعد: فإن الله عز وجل بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق وهو الإسلام الذي بعث الله به الرسل جميعا حيث قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (2) ، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) .
فالإسلام هو: دين الله الذي بعث به جميع المرسلين من أولهم نوح إلى آخرهم وخاتمهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام،
__________
(1) كلمة توجيهية لسماحته صدرت برقم 2350\خ في تاريخ 19\12\1419هـ.
(2) سورة آل عمران الآية 19
(3) سورة آل عمران الآية 85(28/76)
وهو الذي كان عليه أبونا آدم، فإن الله بعثه لنفسه وذريته نبيا على شريعة علمه إياها وشرعها له فاستقام عليها وذريته حتى بعث الله نوحا عليه الصلاة والسلام.
فالإسلام هو استسلام لله وانقياد بطاعة أوامره وترك نواهيه هذا هو الإسلام.
وأصل دين الإسلام وأساسه هو توحيد الله عز وجل، وإخلاص العبادة له وحده سبحانه وتعالى، هذا هو أصل دين الإسلام: أن تكون العبادة لله وحده من دعاء وخوف ورجاء وصلاة وصوم وذبح ونذر وغير ذلك يكون لله وحده، وبهذا بعث الله الرسل جميعا، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) .
ومعنى {اُعْبُدُوا اللَّهَ} (2) يعني وحدوا الله (خصوه بالعبادة) ، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) يعني اتركوا عبادة ما سوى الله، والطاغوت كل ما عبد من دون الله من شجر أو حجر أو صنم أو كوكب أو غير ذلك، كله طاغوت.
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة النحل الآية 36
(3) سورة النحل الآية 36(28/77)
لكن إذا كان المعبود لا يرضى بذلك كالأنبياء والملائكة والصالحين، فالطاغوت هو الشيطان الذي دعا إلى عبادتهم وزينها للناس وهم براء من ذلك.
فأصل دين الإسلام هو هذا: إخلاص العبادة لله وحده دون كل ما سواه والكفر بعبادة غيره، يعني إنكار عبادة غيره واعتقاد بطلانها وأنها شرك بالله عز وجل.
هكذا بعث الله جميع الرسل، من أولهم نوح إلى آخرهم وخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام، وهكذا علم الله آدم وشرع له، فعبد الله وحده، وهكذا ذريته على دينه عليه الصلاة والسلام، حتى وقع الشرك في بني آدم في عهد نوح عليه الصلاة والسلام.
وكل رسول بلغ أمته أنه مبعوث لهم ليأمرهم بتوحيد الله والإخلاص له. فنوح عليه السلام قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (1) .
وهكذا هود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وغيرهم، كلهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (2) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 59
(2) سورة الأعراف الآية 65(28/78)
وهكذا موسى عليه الصلاة والسلام قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (1) ، {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} (2) ، وهكذا عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام قال لقومه ذلك قال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} (3) .
وهكذا محمد صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله قال لقومه: " {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (4) "، وكان يعلمهم ويقول لهم: «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا (5) » .
فهذه دعوة الرسل جميعا، إنهم دعوا الأمم إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وتوجههم إليه سبحانه بجميع حاجاتهم، في توكلهم في خوفهم في رجائهم في طلب الجنة، وطلب النجاة من النار، وطلب الرزق، وطلب العافية، وهكذا يخافونه ويرجونه ويصلون له ويصومون ويذبحون وينذرون؛ يرجون ثوابه ويخشون عقابه.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 59
(2) سورة طه الآية 98
(3) سورة المائدة الآية 117
(4) سورة الأعراف الآية 59
(5) أخرجه الإمام أحمد، في مسند المكيين، حديث ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه برقم 15593 بلفظ: '' يا أيها الناس. . . ''، وابن حبان 14\6562(28/79)
ومكث محمد صلى الله عليه وسلم في قومه في مكة عشر سنين، يدعوهم إلى توحيد الله قبل كل شيء، وينهاهم عن الشرك وهو التعلق بغير الله من الأشجار والأحجار والأصنام ونحو ذلك، ويقول لهم: «يا قوم قولوا لا إله إلا الله تفلحوا (1) » .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد، في مسند المكيين، حديث ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه برقم 15593 بلفظ: '' يا أيها الناس. . . ''، وابن حبان 14\6562(28/80)
ومما ينبغي التنبيه عليه أن ما يتعلق بالأسباب الحسية ليس داخلا في الشرك ولا في منافاة التوحيد وهي ما يتعلق بالأسباب الحسية مع الناس الحاضرين الموجودين ليس من الشرك في شيء، فإذا قال الإنسان لأخيه أو لشخص آخر من الناس: افعل كذا، ساعدني في كذا، اعمل لي كذا، كأصلح سيارتي، اعمل في مزرعتي، أحضر لي كذا وكذا، احمل هذا الشيء الثقيل، وهو يقدر على ذلك ويعلم أنه يقدر على ذلك، هذه أمور حسية ليس فيها شرك وليس فيها محظور، وإنما المراد بدعوة الله وحده وخوفه ورجائه ونحو ذلك فيما لا تعلق له بالأسباب الحسية مع الحاضر القادر الموجود، فإذا كان شخص حاضر موجود فكلمه أخوه أو صاحبه أو من يحتاج إليه من الناس يقول له: افعل كذا وافعل كذا بأجر أو بغير أجر فليس هذا من الشرك، وليس هذا منافيا للتوحيد(28/80)
بل هذه أمور حسية جائزة، فعلها الرسل وفعلها المسلمون فليست من الشرك، فإذا قال: يا فلان افعل كذا، ادع الله لي، استغفر لي، ساعدني في كذا، أعني على كذا، مما هو يقدر عليه أو يسمعه، أو بمكاتبة أو بالهاتف عن طريق الهاتف أو التلكس، في أمور يقدر عليها، ليس هذا من الشرك.
إنما الشرك أن يدعو ميتا أو جمادا أو حيا يعتقد أنه يتصرف في الكون أو أن له قدرة وخاصية يتصرف في الكون دون الله، هذا هو الشرك الذي جاءت الرسل بالنهي عنه والتحذير منه، أما الأمور الحسية المعلومة التي يفعلها الإنسان مع الشخص الآخر الحاضر الحي الذي يقدر عليها بالمشافهة أو من طريق الكتابة أو التلكس أو الهاتف فهذه أمور جائزة حسية لا محظور فيها وليست من الشرك في شيء، كما قال الله تعالى في سورة القصص: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (1) .
فينبغي التنبه لهذا؛ لأن بعض الجهلة يشتبه عليه هذا الأمر.
ومما ينبغي أن يعلم أنه داخل في أصل الإسلام: الإيمان
__________
(1) سورة القصص الآية 15(28/81)
بمحمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله بعثه الله إلى الناس عامة، وهكذا جميع المرسلين الماضين لا بد في صحة الإسلام واعتبار أن المنتسب إليه مسلم لا بد أن يقر ويؤمن بالرسل الماضين. ففي عهد نوح لا بد أن يؤمن بنوح، وفي عهد هود لا بد أن يؤمن بهود مع التوحيد لله والإخلاص لله وعبادته وحده.
وفي عهد صالح كذلك، وفي عهد شعيب كذلك، وفي عهد إبراهيم كذلك، وفي عهد لوط كذلك، وفي عهد يوسف وإسحاق ويعقوب كذلك، وهكذا في عهد موسى وهارون اللذين أنزل الله عليهما التوراة، لا بد من الإيمان بهما مع توحيد الله والإخلاص له واعتقاد أن موسى وهارون أنبياء من أنبياء الله ورسل الله، فلو وحد الله وعبده وحده وأدى أمره ولكن لم يؤمن بالأنبياء ما صح إسلامه.
ثم بعد بعث عيسى كذلك، لما بعث الله عيسى ابن مريم فلا بد من الإيمان به، فاليهود الذين لم يؤمنوا بعيسى صاروا كفارا؛ لأنهم ما آمنوا بعيسى ولو وحدوا الله ولو عبدوه ولو صاموا وصلوا ما يكونون مسلمين، حتى يؤمنوا بالرسول الذي(28/82)
أدركوه وعلموا أنه جاء من عند الله، لا بد من الإيمان به كعيسى عليه الصلاة والسلام.
ثم بعد عيسى لما جاء محمد صلى الله عليه وسلم وجب الإيمان بمحمد، ومن لم يؤمن به فهو كافر ولو آمن بجميع الرسل الماضين، لا بد من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما بعثه الله به إلى الناس عامة من الجن والإنس، لا بد من توحيد الله وإخلاص العبادة لله - لا بد - من الإيمان بجميع المرسلين، ومن جملتهم خاتمهم وأفضلهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام - لا بد - من الإيمان به واعتقاد أنه رسول الله حقا إلى الجن والإنس (إلى جميع الثقلين) وأنه خاتم الأنبياء ليس بعده نبي، فلا يثبت الإسلام إلا بهذا في حق من كان بعد محمد صلى الله عليه وسلم (من كان في عصره أو بعده) فلا يكون مسلما إلا بإيمانه بجميع الأنبياء من عهد آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لا بد من الإيمان بهم واعتقاد أنهم صادقون، وأنهم أنبياء الله وأوحى الله إليهم وبلغوا ما أوحي إليهم، بلغوه وأدوا الأمانة ونصحوا الأمة ولم يقصروا، لا بد من الإيمان بهذا وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، لا بد(28/83)
من الإيمان بأنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وأدى ما عليه، عليه الصلاة والسلام، حتى توفاه الله. وأنه خاتم الأنبياء ليس بعده بي، وأنه مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس، فعلى جميع الثقلين من المكلفين أن يؤمنوا به وأن يتبعوا شريعته عليه الصلاة والسلام. فلا يكونون مسلمين ولا يكون هناك إسلام إلا بهذا.
يقول الله سبحانه: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (1) .
بين سبحانه أن الواجب على المكلفين من هذه الأمة أن يقولوا هذا، يعني أن يؤمنوا بجميع المرسلين وما جاءوا به، وقال سبحانه وتعالى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} (2) {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3)
__________
(1) سورة البقرة الآية 136
(2) سورة الأعراف الآية 156
(3) سورة الأعراف الآية 157(28/84)
ثم قال: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (1) وفي آية أخرى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (2)
فدل ذلك على أن الرسل يجب الإيمان بهم جميعا، وأن الله أرسلهم مبشرين ومنذرين، كما قال سبحانه: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (3) وهم رسل إلى الخلق. كل رسول إلى قومه لينذرهم ويبشرهم، يبشرهم بالجنة إذا أطاعوا واستقاموا وينذرهم بالنار إذا لم يستجيبوا، وهكذا محمد صلى الله عليه وسلم، أرسله الله بشيرا
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة سبأ الآية 28
(3) سورة النساء الآية 165(28/85)
ونذيرا يبشر الأمة إذا استجابوا لدعوته بالجنة والسعادة والعز والتمكين، وينذرهم النار والخيبة والخسران والذل والهوان إذا خالفوا أمره ولم يستقيموا على ما جاء به عليه الصلاة والسلام.
فعلم بهذا أن الواجب تصديق جميع المرسلين والإيمان بهم، وأن على من أدرك محمدا صلى الله عليه وسلم، أن يؤمن به وأن يصدقه وأن ينقاد لشرعه، وبهذا يكون قد دخل في الإسلام؛ لأن الإسلام انقياد لأمر الله وتصديق له ولهذا قيل له إسلام: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) يعني انقيادا، يقال: أسلم فلان لفلان انقاد له وذل له وأطاع أمره.
فالمسلمون هم المنقادون لأمر الله المطيعون لأمر الله الذي جاء به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ودل عليه كتابه القرآن، فلا يكون إسلام إلا بهذا. لا يكونون مسلمين ولا يكون لهم إسلام إلا بهذا، يعني إلا بتصديقهم بالرسل الماضين وإيمانهم بما جاءوا به وتصديقهم محمدا صلى الله عليه وسلم وإيمانهم به وانقيادهم لما جاء به من الشرع المطهر عن محبة وعن إخلاص وعن
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19(28/86)
صدق وعن رغبة ورهبة لا عن كذب ولا عن رياء ولا عن نفاق.
وكل رسول من رسل الله عليهم الصلاة والسلام، كل رسول بلغ أمته كل خير يعلمه لهم ونصحهم في ذلك وأرشدهم، كما أنه بلغهم كل شر يعلمه لهم. هكذا كل رسول؛ لأن الرسل أنصح الناس وأكثرهم وأكملهم إيمانا، فكل رسول بلغ أمته ودعاها إلى كل خير يعلمه لها في دينها ودنياها ونهاها عن كل شر يعلمه لها في دينها ودنياها. كما ثبت عن رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام أنه قال: «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم (1) » . خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
هكذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بلغ هذه الأمة كل ما يعلمه لهم من خير، وأنذرهم كل ما يعلمه لهم من شر، فدعاهم إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وأنذرهم سيئ الأخلاق وسيئ الأعمال، كالرسل قبله عليهم الصلاة والسلام، يقول عليه
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول برقم 1844.(28/87)
الصلاة والسلام: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق (1) » ، وفي اللفظ الآخر: «لأتمم مكارم الأخلاق» فبعثه الله ليدعو الناس إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال وينذرهم سيئ الأخلاق وسيئ الأعمال.
وكانت الرسل عليهم الصلاة والسلام إذا بينوا للناس صفة ربهم وخالقهم وتوحيده والإخلاص له والإيمان بالمرسلين بلغوهم أيضا ما أعد الله لهم في الجنة، وما أعد لمن عصاه في النار. هذا كله من تمام العقيدة التي هي عقيدة الإسلام، فالرسل يبينون مع بيانهم حق الله وتوحيده وبيانهم صفاته سبحانه وأسمائه مع ذلك يبينون ما يلزم في العقيدة من الإيمان بملائكة الله التي خلقها لعبادته، وهم من النور خلقهم من النور كلهم عبيد مكرمون كما قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (2) ، فالله خلقهم ليعبدوه ويطيعوه وخلقهم من النور وجعلهم سبحانه وتعالى ينفذون أوامره في عباده، فالرسل بلغوا عنهم حتى يؤمن بهم العباد وأنهم ملائكة كرام، خلقهم الله لطاعته وتنفيذ أوامره من النور، وخلق بنو آدم
__________
(1) أخرجه أحمد في باقي مسند المكثرين، باقي مسند أبي هريرة برقم 8729.
(2) سورة الأنبياء الآية 26(28/88)
من الطين، وخلقت الجن من النار وهم أصناف ثلاثة: الملائكة من النور، والجن من النار، وبنو آدم من التراب.
فالرسل بينوا هذا وجاءت بذلك الكتب السماوية: كالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن، وبينت الرسل أيضا ما يتعلق بالكتب المنزلة من التوراة والإنجيل وغيرها.
وبينوا أيضا مع ما يتبع ذلك من أمر الآخرة والبعث والنشور والحساب والجزاء والوقوف بين يدي الله يوم القيامة، وأن الناس يخرجون من قبورهم ويجازون بأعمالهم، فمن أطاع واتبع ما جاءت به الرسل فله الجنة يوم القيامة، وهي دار كريمة، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، دار أعدها الله لأهل طاعته، فيها كل خير، وكل نعيم، وفيها حياة دائمة، لا كدر فيها، ولا مرض، ولا موت، ولا حزن، بل نعيم دائم، ولا بول وغائط بل نعيم دائم، وحياة دائمة لمن اتقى الله وأطاع الرسل. وهناك دار أخرى هي دار النار (دار الهوان، دار العذاب) أعدها الله لمن خالف الرسل ولم ينقد لما جاءوا به ولم يتبع الرسل، هؤلاء لهم الدار الأخرى وهي: دار الهوان، دار العذاب، دار النكال، أهلها في(28/89)
عذاب دائم {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (1) ، أما أهل الجنة فهم في نعيم دائم وخير دائم وصحة دائمة كما قال عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (2) {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} (3) {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (4) {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (5) .
وفي النار قال: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (6) {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} (7) {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} (8) {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} (9) ، أي مقيمون في دار الهون (دار النار) وقال في الآية الأخرى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (10) ، وقال عنهم أيضا
__________
(1) سورة فاطر الآية 36
(2) سورة الحجر الآية 45
(3) سورة الحجر الآية 46
(4) سورة الحجر الآية 47
(5) سورة الحجر الآية 48
(6) سورة الزخرف الآية 74
(7) سورة الزخرف الآية 75
(8) سورة الزخرف الآية 76
(9) سورة الزخرف الآية 77
(10) سورة فاطر الآية 36(28/90)
سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} (1) .
فالله سبحانه بين على أيدي الرسل مصير المتقين المتبعين للرسل وهو الجنة والكرامة في دار أعدها الله لهم فيها كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين من الأنهار والحور العين واللحوم والمشارب الطيبة والملابس الطيبة إلى غير ذلك من أنواع النعيم.
وأعد دارا أخرى بينها الرسل وبينها الله في كتبه، هي دار الهوان، هي دار الشقاء والعذاب. هذه الدار أعدت لمن خالف الرسل ولم يتبع ما جاءوا به، فلا يتم الإسلام إلا بهذا الإيمان، ولا يتم الإسلام ولا يكون العبد مسلما سواء كان رجلا أو امرأة إلا بهذا الإيمان. الإيمان بالبعث والنشور والحساب والجزاء والجنة والنار، وأن الجنة أعدها الله لمن اتبع الرسل، والنار أعدها الله لمن خالفهم.
__________
(1) سورة طه الآية 74(28/91)
ومن تمام هذه الأصول التي يجب الإيمان بها، وجاءت بها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، من تمام هذه الأصول: الإيمان(28/91)
بالقدر، وأن الله علم الأشياء قبل وجودها، وكتبها عنده سبحانه وتعالى، وأحصاها، وأنه خالق الأشياء وموجدها، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، هذا قدر يشمل أمورا أربعة.
الإيمان بأن الله علم كل شيء قبل وجود الأشياء وكتبها عنده سبحانه وتعالى، وهو الخالق لما أوجد منها بمشيئته سبحانه وتعالى وقدرته، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهذه أمور أربعة كلها تابعة للقدر:
(1) الإيمان بأن الله سبحانه علم كل شيء، وهو العالم بجميع ما كان وما يكون {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) .
{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (2) .
(2) كتابته لهذه الأشياء، فقد كتب كل شيء سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} (3) .
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 62
(2) سورة الطلاق الآية 12
(3) سورة الحج الآية 70(28/92)
وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (1) .
(3) أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} (2) .
(4) أنه خالق الأشياء وموجدها، سبحانه وتعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (3)
هذا كله داخل في الإيمان بالقدر، وهو أصل ثابت من أصول الإيمان التي تقدم شرحها، وقد أخبر النبي عن هذا لما سأله جبرائيل عن الإيمان قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر (4) » ، اليوم الآخر تقدم أنه أخبر فيه عن الوقوف بين يدي الله والحساب والجزاء والجنة والنار، كل هذا داخل في اليوم الآخر «وبالقدر خيره وشره (5) » يعني: أن الله علم
__________
(1) سورة الحديد الآية 22
(2) سورة الأنعام الآية 112
(3) سورة الزمر الآية 62
(4) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان برقم 8.
(5) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبي داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد (1/28) .(28/93)
الأشياء وكتبها وأحصاها فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهو سبحانه وتعالى خالق كل شيء ورب كل شيء.
هذه الأصول الستة لا بد في حق المسلم أن يؤمن بها ويقتنع بها، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير وبكل شيء عليم سبحانه وتعالى.
ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالقدر، وأن الله كتب كل شيء. سألوه قالوا: «يا رسول الله إذا كان الله كتب كل شيء ففيم العمل؟ قال عليه الصلاة والسلام: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فميسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ عليه الصلاة والسلام قوله تعالى في سورة والليل إذا يغشى: (2) »
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب (فسنيسره للعسرى) ، برقم 4949، ومسلم في كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه برقم 2647.
(2) سورة الليل الآية 5 (1) {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}(28/94)
هكذا بين لهم صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أن الله قدر الأشياء وكتبها، وأنه سبحانه الموفق والهادي لمن يشاء. فعلى العبد أن يعمل ويجتهد ويسأل الله التوفيق، ويأخذ بالخير، لأن الله تعالى أعطاه عقلا يميز به بين الخير والشر، والهدى والضلال، وميزه عن البهائم بهذا العقل العظيم، فعليه أن يختار وله مشيئة وله إرادة، فعليه أن يختار الخير ويسأل ربه الهداية إليه ويأخذ به، وعليه أن يبتعد عن الشر ويسأل ربه العافية منه ويحذره ويحذر غيره.
هكذا أمر الله تعالى العباد على أيدي الرسل عليهم الصلاة والسلام أن يأخذوا بالخير ويلتزموه ويسألوا الله الهداية له والتوفيق لأخذه والتمسك به، وعليهم أن يحذروا الشر ويبتعدوا عنه ويسألوا الله العافية منه، هكذا علمهم صلى الله عليه وسلم.
ونكتفي في هذه الحلقة بهذا التعريف العام عن الإسلام، وفي الحلقة الأخرى - إن شاء الله - يكون فيه البحث عن شرائع الإسلام التي جاءت بها الرسل وعلموها الناس بعدما أخبروهم بالعقيدة التي يلزمهم أن يعتقدوها في الله عز وجل، وفيما أخبرت(28/95)
به الرسل عليهم الصلاة والسلام على وجه عام. أما التفصيل في الشرائع من الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وغيرها من الشرائع، وما شرعه الله من ترك المحارم، هذا له حلقة أخرى - إن شاء الله تعالى - نبين فيها جنس الشرائع، وأن الرسل بدأت بالعقائد التي تتعلق بالقلوب وبالإيمان، ثم بينوا شرائع الإسلام التي جاءت بها الرسل، وبينوها لهم عن أمر الله سبحانه وتعالى، ليعملوا بها ويأخذوا بها، وهي ما بين أفعال وأقوال يأخذ بها المكلف، وبين أعمال وأقوال يتركها.
فالشرائع: أفعال وتروك، أشياء تفعل، وأشياء تترك. وجاء محمد صلى الله عليه وسلم بأكملها وأتمها، وبعثه بما يتمم مكارم الأخلاق، ويأتي البحث فيها - إن شاء الله - في الحلقة الآتية.
وأسأل الله سبحانه أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يهدينا صراطه المستقيم إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.(28/96)
الأسئلة
س 1: شخص نصراني يسأل يقول: كيف أتأكد أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء، وأن ما جاء به هو دين الحق وأنه من عند الله؟
ج: يحصل التأكد من ذلك بأمور كثيرة، منها خبره صلى الله عليه وسلم الذي أخبر به عنه أنه خاتم الأنبياء، وأعظم من ذلك وقبل ذلك خبر الله في كتابه العظيم. فإن من آمن بأنه رسول الله، وأن الكتاب حق، أيقن بأنه خاتم الأنبياء، لأن القرآن قال إنه خاتم الأنبياء ولأنه قال: «أنا خاتم الأنبياء (1) » .
قال الله جل وعلا: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (2) .
وتواترت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا خاتم الأنبياء لا نبي بعدي (3) » فمن آمن بأنه رسول الله للمعجزات
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم برقم 3535، ومسلم في كتاب الفضائل، باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين برقم 2286.
(2) سورة الأحزاب الآية 40
(3) سنن الترمذي الفتن (2219) ، سنن أبي داود الفتن والملاحم (4252) ، مسند أحمد (5/278) .(28/97)
التي عرضها، والقرآن أعظم معجزة، القرآن نفسه أعظم معجزة دالة على صدقه؛ لأن مثله لا يقوله بشر، ولا يأتي به أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا يأتي به كاتب أيضا، ولا قارئ، لما فيه من الأحكام العظيمة والأخبار المغيبة ولما فيه من كمال البلاغة، وكمال البلاغة هو الإحكام والإتقان، وما فيه من أخبار عن يوم القيامة والآخرة، ولا يقدم عليها إلا من هو صادق معلم من جهة الله عز وجل.
ثم ما جرى على يديه من المعجزات العظيمة من انشقاق القمر، هذا من أعظم الآيات التي خصه الله بها، وهكذا ما جرى على يديه من نبوع الماء من بين أصابعه وشاهده المئات من الناس والجمع الغفير من الناس مرات، والبركة في الطعام الذي دعا فيه فصار - وهو قليل جدا - يكفي المئات من الناس والجمع الغفير من الناس، وهو شيء يسير لا يكفي إلا الاثنين والثلاثة ونحو ذلك، ومع أشياء أخرى من المعجزات التي جرت على يديه عليه الصلاة والسلام، فمن آمن بنبوته صدق بأنه خاتم الأنبياء وصدق بأن القرآن كلام الله؛ لأنه معجزة الأمة.(28/98)
س 2: تقولون: إن المسلم يؤمن برسل الله جميعا ولا يفرق بينهم، ولكن في الشهادة التي يدخل بها الإنسان إلى الإسلام يقول المسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. أليس في ذلك رفض للأنبياء الآخرين؟
ج: هذا يقوله أول ما يسلم الإنسان، لأن هذا هو الرسول الأخير، أمر بأن يصدقه قبل أن يتكلم في الباقين، لأنه هو الرسول المبعوث إليه في زمانه، فعليه أن يسلم بهذه الشهادة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم بعد ذلك يعلم ما يتعلق بالرسل جميعا حتى يؤمن بهم، كما يعلم بالملائكة والكتب والجنة والنار بعد ذلك. فالشهادة بأن محمدا رسول الله لا بد منها مع شهادة أن لا إله إلا الله حتى يحكم بإسلامه، ثم بعد ذلك يعلم بقية أمور الدين، وهكذا في عهد عيسى يعلم بعيسى وما جاء به، ثم بعد ذلك يعلم بالأنبياء الماضين حتى يؤمن بهم، وهكذا في عهد موسى، وهكذا في عهد من قبله، يعلم برسوله المرسل إليه في زمانه ويؤمن به مع التوحيد ثم يؤمن بالبقية أي ببقية الرسل، وبقية ما يؤمر به من الإيمان من الجنة والنار والملائكة والكتب،(28/99)
هذا بعد إيمانه برسوله الذي في وقته، (الذي بعث إليه) . ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الرسول الأخير (هو الخاتم) فوجب على الأمة التي في زمانه وبعد زمانه أن يؤمنوا به أولا مع التوحيد، ثم بعد إيمانهم به يصدقون بالرسل الذين قبله؛ لأنه هو الذي أخبر بهم، فلا يمكن تصديق الماضين إلا بتصديق الحاضر الذي بلغ بهم، وهو الذي بلغ عنهم وأخبر عن الرسل الماضين فإذا صدقه المصدق حينئذ يصدق بالماضين.(28/100)
س 3: يقول القرآن: إن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام هل بإمكانكم توضيح ذلك لنا في ضوء معرفتنا بأنه يكفي أن يقول الله {كُنْ فَيَكُونُ} (1) ؟
ج: خلق الله سبحانه السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، كما أخبر وهو الصادق جل وعلا أنه خلقها في ستة أيام، وهو قادر على أن يخلقها في لمحة بصر. كما قال عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2) ، ولكن
__________
(1) سورة البقرة الآية 117
(2) سورة يس الآية 82(28/100)
ذكر العلماء رحمهم الله أنه خلقها في ستة أيام ليعلم عباده عدم العجلة وأن يتدبروا الأمور ويتعقلوها، فربهم الذي يعلم كل شيء وهو القادر على كل شيء لم يعجل في خلق السماوات ولا في خلق الأرض بل جعلها في ستة أيام، ولم يعجل في خلق آدم ولم يعجل في خلق الأشياء الأخرى، بل نظمها ودبرها أحسن تنظيم وأحسن تدبير، ليعلم عباده التريث في الأمور وعدم العجلة في الأمور، وأن يعملوا أمورهم منظمة موضحة تامة على بصيرة وعلى علم من دون عجلة وإخلال بما ينبغي فيها، وهو سبحانه مع كونه قادرا على كل شيء وعالما بكل شيء مع ذلك لم يعجل بل خلقها في ستة أيام وهو قادر على خلقها في لمحة أو دقيقة {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1) سبحانه وتعالى، فجعلها منظمة مدبرة في أيام معدودات، ليعلم عباده كيف يعملون، وكيف ينظمون أمورهم، وكيف يتريثون في الأمور، ولا يعجلون حتى تنتظم مصالحهم، وحتى تستقيم أمورهم على طريقة واضحة وطريقة يطمئنون إليها، فيها مصالحهم، وفيها ما ينفعهم ويدفع الضرر عنهم.
__________
(1) سورة يس الآية 82(28/101)
وقد أشار الله سبحانه إلى هذا المعنى في آيات. قال عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (1) ، فأخبر أنه خلقها هكذا؛ ليبلونا وليختبرنا أينا أحسن عملا، وأتقن عملا، وأكمل عملا. فالعجل الذي لا يتدبر الأمور قد يخل بالعمل، فالله خلقها في ستة أيام ليبتلي العباد، بإتقان أعمالهم، وإحسان أعمالهم، وعدم العجلة فيها، حتى لا تختل شؤونهم ومصالحهم {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (2) ، قال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (3) ، وجعل ما على الأرض من جبال وأشجار ونبات وحيوانات ومعادن وغير ذلك؟ ليبلو العباد (ليختبرهم) أيهم أحسن عملا في استخراج ما في هذه الأرض والاستفادة من
__________
(1) سورة هود الآية 7
(2) سورة هود الآية 7
(3) سورة الكهف الآية 7(28/102)
ذلك والانتفاع بذلك، وقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (1) .
ففي هذه الآيات وما جاء في معناها الدلالة على أنه سبحانه خلق هذه الأشياء بهذا التنظيم وبهذه المدة المعينة ليبلو عباده ويختبرهم أيهم أحسن عملا، ما قال أكثر عملا قال أحسن، فالاعتبار بالإتقان والإكمال والإحسان لا بالكثرة.
__________
(1) سورة الملك الآية 2(28/103)
س 4: هل يمنع الإسلام عمل المرأة أو تجارتها؟
ج: لا يمنع الإسلام عمل المرأة ولا تجارتها فالله جل وعلا شرع للعباد العمل وأمرهم به فقال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (1) ، وقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (2) وهذا يعم الجميع الرجال والنساء، وشرع التجارة للجميع، فالإنسان مأمور بأن يتجر ويتسبب ويعمل سواء كان رجلا أو امرأة، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3)
__________
(1) سورة التوبة الآية 105
(2) سورة الملك الآية 2
(3) سورة النساء الآية 29(28/103)
هذا يعم الرجال والنساء جميعا. وقال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} (1) ، وهذا للرجال والنساء. فأمر بالكتابة عند الدين وأمر بالإشهاد ثم بين أن هذا كله فيما يتعلق بالمداينات، فالكتابة في الدين والإشهاد عام ثم قال: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} (2) ، أما الإشهاد فيشهد ولهذا قال بعدها: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (3) .
فهذا كله يعم الرجال والنساء، فالكتابة للرجال والنساء في الدين، والتجارة للرجال والنساء، والإشهاد للرجال والنساء،
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة البقرة الآية 282
(3) سورة البقرة الآية 282(28/104)
فيشهدون على بيعهم ويشهدون في تجاراتهم وكتاباتهم، ولكن التجارة الحاضرة لا حرج في عدم كتابتها؛ لأنها تنقضي ولا يبقى لها علق وهذا يعم الرجال والنساء جميعا. وهكذا ما جاء في النصوص يعم الرجال والنساء كحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال عليه الصلاة والسلام: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما (1) » وقال الله سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) يعني للجميع.
لكن يجب أن يلاحظ في العمل وفي التجارة: أن تكون الخلطة بينهم خلطة بريئة بعيدة عن كل ما يسبب المشاكل واقتراف المنكرات، فيكون عمل المرأة على وجه لا يكون فيه اختلاط بالرجال ولا تسبب للفتنة، ويكون كذلك تجارتها هكذا على وجه لا يكون فيه فتنة مع العناية بالحجاب والستر والبعد عن
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا برقم 2079، ومسلم في كتاب البيوع، باب الصدق في البيع برقم 1532.
(2) سورة البقرة الآية 275(28/105)
أسباب الفتنة. هذا يلاحظ في البيع والشراء وفي الأعمال كلها؛ لأن الله قال جل وعلا: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (1) ، وقال سبحانه:، {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (2) ، وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (3) ، فبيعهن وشراؤهن على حدة بينهن لا بأس به، والرجال على حدة، وهكذا أعمالهن، هذه تعمل طبيبة للنساء، ممرضة للنساء تعلم النساء لا بأس، وهذا طبيب للرجال وهذا يعلم الرجال لا بأس. أما أن تكون طبيبة للرجال والرجل طبيبا للنساء أو تكون ممرضة للرجال والرجل يكون ممرضا للنساء فهذا مما يأباه الشرع لما فيه من الفتنة والفساد.
فلا بد مع السماح بالعمل لها وللرجل والتجارة لها وللرجل أن يكون ذلك على وجه ليس فيه خطر على دينها وعرضها،
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) سورة الأحزاب الآية 53
(3) سورة الأحزاب الآية 59(28/106)
وليس خطرا على الرجل، بل تكون أعمالها على وجه ليس فيه ما يسبب التعرض لدينها وعرضها، ولا يسبب أيضا فساد الرجال، وفتنة الرجال، وهكذا عمل الرجال فيما بينهم، ولا يكون بينهم من النساء ما يسبب الفتنة والفساد. بل هؤلاء لهم أعمال وهؤلاء لهم أعمال على طريقة سليمة ليس فيها ما يضر هذا الصنف ولا هذا الصنف، ولا يضر المجتمع نفسه.
يستثنى من ذلك ما تدعو الضرورة إليه، فإذا دعت الضرورة إلى أن يتولى الرجل عملا مع المرأة كتطبيبها عند عدم وجود امرأة تطبها، أو عمل المرأة في حق الرجل عند عدم وجود من يطبه وهي تعرف داءه ومرضه فتطبه مع الحشمة والبعد عن أسباب الفتنة ومع البعد عن الخلوة وما أشبه ذلك.
فإذا كان هناك عمل من المرأة مع الرجل أو من الرجل مع المرأة في حاجة في ذلك وضرورة إلى ذلك، مع مراعاة البعد عن أسباب الفتنة من الخلوة والتكشف ونحو ذلك مما قد يسبب الفتن، هذا يكون من باب الاستثناء، فلا بأس أن تعمل المرأة فيما يحتاجه الرجل ويعمل الرجل فيما تحتاجه المرأة على وجه لا يكون فيه(28/107)
خطر على أحد الصنفين كأن تطبه عند عدم وجود طبيب يطبه وهي تعرف مرضه على وجه لا يكون فيه فتنة ولا خلوة وهكذا يطبها إذا احتيج إلى ذلك؛ لعدم تيسر المرأة التي تطبها وتقوم بحاجتها على وجه لا يكون فيه فتنة ولا يكون فيه خلوة، هكذا وما أشبهه من الأعمال مثل أن تكون في السوق تبيع حاجة مع سترها على الرجال، أو تصلي مع الناس في المسجد مع الحشمة والستر تكون خلف الرجال وتصلي معهم وما أشبه ذلك من الأمور التي لا يكون فيها فتنة ولا يكون فيها خطر على الصنفين.
ومن هذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم ربما خطب النساء واجتمع له النساء وذكرهن فهذا مما يفعله الرجل مع النساء، «كان صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد إذا فرغ من الخطبة وذكر الرجال أتى النساء وذكرهن ووجههن إلى الخير (1) » ، وهكذا في بعض الأوقات يجتمعن ويذكرهن عليه الصلاة والسلام ويعلمهن ويجيب على أسئلتهن، فهذا من هذا الباب، وهكذا بعده صلى الله عليه وسلم، يذكرهن الرجل ويعظهن ويعلمهن مع اجتماعهم على طريقة حميدة مع التستر والتحفظ
__________
(1) صحيح مسلم صلاة العيدين (885) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1586) ، مسند أحمد (1/368) ، سنن الدارمي الصلاة (1610) .(28/108)
والبعد عن أسباب الفتنة، فإذا دعت الحاجة إلى ذلك قام الرجل بالمهمة (مهمة الوعظ والتذكير والتعليم) مع الحجاب والتستر ونحو ذلك مما يبعد الصنفين عن الفتنة.(28/109)
س 5: هل يجب أن تتبع الزوجة دين زوجها في الإسلام؟
ج: هذا فيه تفصيل: إن كان الزوج مسلما وهي كتابية محصنة (يهودية أو نصرانية) فلا بأس باختلاف الدين، لا بأس أن يتزوج الرجل المسلم الكتابية وهي المحصنة من اليهود والنصارى؛ لأن الله أذن في هذا سبحانه وتعالى في قوله جل وعلا: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (1) . فإذا خطب المسلم كتابية محصنة (يعني معروفة بالإحصان غير مسافحة غير بغي معروفة بأنها حافظة فرجها ليست من البغايا وهن الزواني فإذا خطبها وتزوجها وهي كتابية يهودية أو نصرانية محصنة فلا بأس بذلك.
__________
(1) سورة المائدة الآية 5(28/109)
أما كونها كافرة من غير اليهود والنصارى فلا، إنما أباح الله سبحانه الكتابية فقط للرجل المسلم، وقال في الآية الأخرى جل وعلا: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (1) ، وقال: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (2) هذا في سورة البقرة، وقال في سورة الممتحنة: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (3) . فالأصل أنه لا يحل لمسلم أن ينكح الكافرة ولا يحل لمسلم أن ينكح الكافر، هذا هو الأصل لا ينكح هذا هذا ولا هذا هذا بل لا بد أن يتفقا في الدين مسلم مع مسلمة أو كافر مع كافرة. لكن في حال واحدة يستثنى اختلاف الدين وهي: إذا كان الرجل مسلما (الزوج مسلما) والمرأة كتابية فقط، والمرأة كتابية (يهودية أو نصرانية) محصنة، شرط الإحصان (أنها سليمة عفيفة) ، فلا بأس أن ينكحها المسلم خاصة كما سن الله ذلك في سورة المائدة، وما عدا الكتابية فليس للمسلم نكاحها (بوذية أو وثنية أو شيوعية أو غير ذلك) وليس للمسلمة أن تنكح كافرا أبدا، المسلمة ليس لها أن تنكح كافرا أبدا، وإنما الاستثناء للمرأة مع المسلم، فالمسلم هو
__________
(1) سورة البقرة الآية 221
(2) سورة البقرة الآية 221
(3) سورة الممتحنة الآية 10(28/110)
الذي يستثنى في حقه نكاح اليهودية أو النصرانية يعني كتابية خاصة دون بقية الكفار، أما الأنثى فليس لها أن تنكح كافرا أبدا، إذا كانت مسلمة ليس لها أن تنكح إلا مسلما؛ لقوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (1) ولقوله عز وجل: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} (2) يعني لا تزوجوهم حتى يؤمنوا.
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 10
(2) سورة البقرة الآية 221(28/111)
س 6: هل زيارة القبور وأضرحة الأولياء جائزة في الإسلام؟
ج: الزيارة فيها تفصيل: إن زار القبور، قبور الأولياء وقبور المسلمين عموما، للاعتبار والذكرى في الموت والآخرة، والدعاء لهم، والترحم عليهم. فهذه مشروعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (1) » وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية (2) » .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه برقم 976، والنسائي في كتاب الجنائز، باب زيارة قبر المشرك برقم 2034.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم 975.(28/111)
هذه الزيارة الشرعية وهي تخص الرجال دون النساء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور فدل ذلك على أن هذه الزيارة تخص الرجال، كانت الزيارة ممنوعة أولا، في أول الإسلام ممنوعة؟ لأنهم اعتادوا التعلق بالأموات فكان من حكمة الله أن نهاهم عن الزيارة أولا جميعا رجالا ونساء، ثم رخص لهم في الزيارة رجالا ونساء، ثم استقر المنع للنساء وبقي الإذن للرجال؛ لأن النساء لا يصبرن، قد يحدث لهن فتنة عند زيارة القبور بتذكر أقاربهن وأصحابهن، وأزواجهن ونحو ذلك، فكان من حكمة الله أن منعهن من زيارة القبور لئلا يفتن أو يفتن غيرهن.
وأقر هذا للرجال خاصة، فهي يقصد منها الذكرى والترحم على الموتى والاستغفار لهم وتذكر الآخرة، حتى لو كانوا كفارا (الميتين) إذا زار القبور للذكرى فقط لا يدعو لهم ولا يسلم عليهم؛ لأنهم كفار، إنما يزور للذكرى كما زار النبي أمه، وكانت ماتت في الجاهلية، واستأذن ربه أن يستغفر لها فلم يؤذن له، فزارها فقط مجرد اعتبار.(28/112)
فالقبور التي للمسلمين تزار للدعاء لهم وتذكر الآخرة والموت والاستغفار للموتى فقط، وإن كان الموتى كفارا فالزيارة تكون للذكرى والاعتبار فقط.
أما النوع الثاني من الزيارة فهي غير جائزة، وهي أن يزورهم لدعائهم والاستغاثة بهم والنذر لهم وطلبهم المدد والعون والغوث، أو التمسح بقبورهم وأحجارهم، أو الطواف بها فهذا كله لا يجوز، وهذه الزيارة لا تجوز، التي يفعلها بعض الجهلة، يزورون القبور ليسألوهم ويستغيثوا بهم، كما يقع هذا في بعض الأحيان من بعض الجهلة مع البدوي أو مع الحسين أو مع الشيخ عبد القادر في العراق أو غير ذلك، هذا لا يجوز.
فالزيارة هي نوعان: شرعية، وممنوعة بدعية. فالشرعية أن يزوروا للترحم عليهم وذكر الآخرة وذكر الموت فقط، فهذه شرعية مطلوبة مأمور بها.
الزيارة الثانية بدعية منكرة وهي: أن يزور القبور لدعاء الموتى والاستغاثة بالموتى أو الدعاء بهم والتوسل بهم، أو التمسح(28/113)
بقبورهم، أو الطواف بها، أو الصلاة عندها، فهذا ممنوع. وهو مختلف (وأنواع) بعضه شرك وبعضه بدعة. فالصلاة عندها والجلوس عندها للدعاء هذا بدعة، أما الطواف بهم ليشفعوا له أو لينفعوه، أو دعاؤهم أو الاستغاثة بهم أو النذر لهم أو طلب المدد فهذا من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ونهى عنه عباده.
وفق الله الجميع لما يرضيه وأصلح نية الجميع وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(28/114)
3 - محاضرة في العقيدة
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد (1) :
فقد قال الله عز وجل في كتابه الكريم وهو أصدق القائلين:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (3) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (4) ، أوضح سبحانه في هذه الآية الكريمة، أنه خلق الثقلين، الجن والإنس ليعبدوه، وهذه العبادة هي: توحيده وطاعته واتباع شريعته، وهي الإسلام والإيمان والهدى، وهي: البر والتقوى، وقد أمرهم الله بهذه العبادة، فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (5) .
__________
(1) محاضرة لسماحته ألقاها عبر الهاتف إلى أحد المراكز الإسلامية في لندن بتاريخ 20\8\1418 هـ.
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة الذاريات الآية 57
(4) سورة الذاريات الآية 58
(5) سورة البقرة الآية 21(28/115)
وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (1) ، وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) . ومعنى قضى أمر ووصى، وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (3) . وقد أرسل الله الرسل بذلك، أرسل سبحانه الرسل بهذه العبادة، فقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (4) .
فالواجب على جميع الثقلين: الجن والإنس، والعرب والعجم، والذكور والإناث، والأغنياء والفقراء والملوك وغيرهم، الواجب على جميع الثقلين أن يعبدوه وحده، وذلك بتوحيده والإخلاص له وتخصيصه بالعبادة، دون كل ما سواه، من صلاة ودعاء وخوف ورجاء، وتوكل ورغبة ورهبة، وصوم وحج وغير هذا، هو المعبود وحده سبحانه، بالحق لا معبود بالحق سواه، كما
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة النحل الآية 36(28/116)
قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (1)
ومن العبادات: الصلاة والصوم والزكاة، والصدقات والحج والعمرة والجهاد، وغير ذلك، فالواجب على جميع الثقلين، أن يعبدوه وحده، وأن يخصوه بالعبادة، يرجون رحمته ويخشون عقابه، سبحانه وتعالى، وعليهم التواصي بذلك والتناصح بذلك، كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) وقال سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5) . أقسم سبحانه وهو الصادق، وإن لم يقسم أن الإنسان في خسران، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، هؤلاء هم الرابحون، والله سبحانه يقسم من خلقه بما يشاء، لا أحد يتحجر عليه جل وعلا، كما أقسم
__________
(1) سورة الحج الآية 62
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3(28/117)
بالذاريات، والنجم، والطور، والليل إذا يغشى، وغير ذلك، أما العبد فليس له أن يحلف إلا بالله، العبد إنسان ليس له أن يحلف إلا بربه، كما قال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، في الحديث الصحيح: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (1) » وقال عليه الصلاة والسلام: «من حلف بشيء غير الله فقد أشرك (2) » .
فلا يجوز الحلف بغير الله، لا بالأنبياء ولا بغيرهم، ولكن يحلف بالله وحده، فلا يجوز أن يقول بالنبي، ولا بالأمانة ولا بشرف فلان، ولا حياة فلان، هذا لا يجوز.
أما ربنا سبحانه فله أن يقسم بما يشاء سبحانه وتعالى، وهذه السورة العظيمة القصيرة تدل على أن الناس في خسران، الرجال والنساء، العرب والعجم، والجن والإنس كلهم في خسران إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، هؤلاء هم الرابحون الذين آمنوا بالله ورسوله، آمنوا بأن الله
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب كيف يستحلف برقم 2679.
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة، أول مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه برقم 331.(28/118)
ربهم ومعبودهم الحق، وآمنوا بكل ما أمر الله به في كتابه، وبكل ما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، في الأحاديث الصحيحة، ثم عملوا، ووحدوا الله، وخصوه بالعبادة، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وآمنوا بكل ما خبر الله به ورسوله، عملوا بذلك فأدوا فرائض الله، وتركوا محارم الله، ووقفوا عند حدود الله، وتواصوا بالصبر وتواصوا بالحق، فيما بينهم وتناصحوا وتواصوا بأداء ما فرض الله، وترك ما حرم الله، وتواصوا بالصبر أيضا، هؤلاء هم الرابحون هم السعداء، الذين جمعوا هذه الصفات الأربع، وهي الإيمان بالله ورسوله، عما كان وما يكون، ثم عملوا فأدوا فرائض الله، وتركوا محارم الله، ووقفوا عند حدود الله، ثم تواصوا بالحق، تناصحوا فيما بينهم وتواصوا، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وأمر رابع وهو الصبر، هؤلاء هم الرابحون هم السعداء، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم وسائر المسلمين منهم، ونسأل الله أن يمنحنا وإياكم الفقه في دينه، والثبات عليه، ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم من عباده الصالحين، ومن حزبه المفلحين، إنه سبحانه وتعالى جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(28/119)
الأسئلة
س أ: الناس في هذه البلاد ملزمون بحكم القانون بتأمين سياراتهم، فإذا وقع لأحدهم حادث فهل يجوز له أن يصلح سيارته بهذا التأمين؟
ج: إذا كانوا ملزمين يأخذ مقابل ما دفع، لا زيادة، ولا يأخذ الزيادة التي هي قمار، فإذا دفع لهم عشرة آلاف يأخذ عشرة، دفع أربعة يأخذ أربعة، ثلاثة يأخذ ثلاثة، ألفن يأخذ ألفين، والزائد لا يأخذه، وإن أخذها يتصدق بها، يدفعها في وجوه البر للفقراء والمساكن.(28/120)
س 2: إذا حصل له حادث، هو لا يأخذ شيئا مثلا هو يعطي الطرف الآخر، فهل يجوز للشركة التي لها التأمين التي أمن معها، أن تعطي الطرف الآخر من غير أن يأخذ هو شيئا؟
ج: هذا محل نظر؛ لأن هذه المعاملة قمارية، معاملة ميسر، لكن الزيادة ليست له، إذا دفعوا عنه زيادة، على ما دفع، ما هي له، لكنه مجبر ليس باختياره، إن تيسر له التخلص من هذا، وإلا ما عليه شيء إن شاء الله.(28/120)
س 3: يوجد نساء في هذا البلد، يتزوجن بمسلمين وهؤلاء النساء أصلهن نصارى، وبعد ذلك أصبحن ملحدات، لا يؤمن بالله، ولا بالأديان فهل يجوز الزواج بهن؟
ج: إذا انتقلن من النصرانية إلى الإلحاد والشيوعية، فلا، لا بد أن يبقين على دين النصرانية، أما إذا انتقلن إلى الشيوعية ونحوها، لم يجز التزوج بهن؛ لأنهن خرجن من كونهن من أهل الكتاب.(28/121)
س 4: يرتبط بعض المسلمين بعلاقات محرمة مع نساء أجنبيات، ويحصل لبعضهن حمل وتلد، فهل ينسب هذا المولود له، خاصة إذا تزوجها بعد ذلك، وهل له حقوق عليها، إذا لم يتزوجها أو لم تقبل هي بالزواج منه، إذا أسلم هو والتزم بدينه؟
ج: عليه التوبة إلى الله والولد يتبع أمه، ولا يلحقه؛ لأنه ولد زنا، فالولد يلحق بأمه عند أهل العلم، ولا يلحق والده، هذا الذي عليه جمهور أهل العلم، وهو الحق كما في الحديث: «الولد للفراش وللعاهر الحجر (1) » (2) .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2218) ، صحيح مسلم الرضاع (1457) ، سنن النسائي الطلاق (3487) ، سنن أبي داود الطلاق (2273) ، سنن ابن ماجه النكاح (2004) ، مسند أحمد (6/247) ، موطأ مالك الأقضية (1449) ، سنن الدارمي النكاح (2237) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب تفسير المشبهات برقم 2553.(28/121)
س 5: تتزوج بعض المسلمات من نصراني أو غيره، فما حكم هذا الزواج؟ وهل تكفر بذلك، وما مصير الذرية وهل ينسبون إلى آبائهم؟
ج: النكاح باطل، وهذا ولد شبهة إذا كان ما عندهم بصيرة، يكون من باب الشبهة، أما إذا كان عندهم علم فيكون زنا، ما يلحق به، أما إذا كان يظن أنه نكاح شرعي، يلحق به؛ لأجل الشبهة يلحق به ولده.(28/122)
س 6: يرتبط بعض المسلمين بعلاقات الزنا مع نساء الكفار ثم يتزوجون بهن، فهل تعتبر في هذه الحالة محصنة، خاصة أنها لم تتب من الزنا؟ لأن الأمر سيان سواء تزوجها أم سافحها تظل معه؟
ج: إذا كانت من أهل الكتاب، ولد الزنا ما يلحقه، والزواج بها لا يجوز، إلا إذا ثبت أنها تابت، لأنها زال عنها الإحصان، فإذا تابت جاز النكاح الجديد، أما هذا الزنا فلا يلحق به، نسأل الله العافية.(28/122)
س 7: التأمين إلزامي في هذه البلاد، وقد يحتاج إلى مبالغ كثيرة، وبعض المسلمين هداهم الله يستخدم الكذب والغش، مع شركات التأمين حتى يقلل الدفعة التي يدفعها، وهذا الكذب يصعب اكتشافه من قبل شركات التأمين، فما حكم هذا العمل؟
ج: التأمين لا يجوز، التأمين من القمار والميسر، فإذا ألزم به قهرا عليه، فلا حرج عليه، لكن لا يأخذ إلا مقابل ما دفع، إذا استطاع عند الضرورة؛ لأن الله سبحانه يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) . وإذا كانت المعاملة بالكذب فلا تجوز، لا تجوز معاملة الكذب والخداع، المسلم يجب أن يحذر الكذب والخداع، فإذا عاملهم معاملة سليمة، واضطر إلى التأمين فلا حرج عليه للضرورة، أما من طريق الكذب والحيل، فما يجوز، هذا تلاعب، المسلم يجب أن يحذر الكذب والخداع، أما إذا اضطر إلى ذلك، مثل ما في الآية الكريمة: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (2) ، في التأمين وغير التأمين.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119
(2) سورة الأنعام الآية 119(28/123)
س 8: يقوم بعض المسلمين بعمل حركات معينة بالهاتف، تمكنه من الاتصال مجانا، فهل تعتبر هذه سرقة؟
ج: ما يجوز هذا العمل، وهذه خيانة وتلاعب، لا يجوز بل يجب الحذر من هذا؛ لأنه أخذ المال بالباطل، نسأل الله العافية.(28/124)
س9: هل يجوز للأم أن تعق عن ولدها من الزنا، وهل له حق النفقة؟
ج: نعم لها أن تعق، يستحب لها أن تعق عن ولدها، وعليها أن تنفق عليه، إذا قدرت، فإذا ما قدرت يسلم للحاضنات في الدولة، وإذا قدرت تربيه وتحسن إليه، وتعق عنه، ويلزمها أن تربيه وأن تتوب إلى الله مما فعلت وهو منسوب إليها، والذي زنا بها عليه التوبة، وليس عليه شيء من النفقة، وليس هو ولدا له، ولد زنا، عليه التوبة إلى الله والولد لها هي ينسب إليها، وعليها نفقته.(28/124)
س 10: رجل اشترى مكانا بالربا، لتحويله مسجدا، فهل تجوز الصلاة فيه، وكذلك بعضها يكون فيها أموال حرام، مثل قيمة الخمر هل تصح الصلاة في هذا المسجد؟
ج: الصلاة فيه صحيحة، ولكن لا يجوز استعمال مثل هذه(28/124)
الأموال في المساجد، يجب أن ينتخب لها أموال طيبة، إذا تيسر لها أموال طيبة وجب ذلك، وإلا فالصلاة صحيحة، ولكن لا يجوز أن تعمر بأموال من الربا ولا من الزنا.(28/125)
س 11: نحن في بلاد الغرب يهطل علينا الكثير من الأمطار، فهل يشرع لنا الدعاء المأثور، اللهم صيبا هنيئا، أو «اللهم صيبا نافعا (1) » ، اللهم اجعله على الآكام والظراب وبطون الأودية، هل يشرع هذا الدعاء ولو كانت أمطارا كثيرة؟
ج: نعم يسأل هذا السؤال، «اللهم صيبا نافعا (2) » فإذا حصل فيه مضرة، يقال «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب (3) » ، الحديث. وما دام ما فيه مضرة فالحمد الله، يقول: «اللهم صيبا نافعا، مطرنا بفضل الله ورحمته، اللهم اجعله مباركا (4) » ، فإذا شق عليهم يقولون: «اللهم حوالينا ولا علينا (5) » الحديث.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1032) ، سنن النسائي الاستسقاء (1523) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3890) ، مسند أحمد (6/223) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1032) ، سنن النسائي الاستسقاء (1523) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3890) ، مسند أحمد (6/223) .
(3) صحيح البخاري الجمعة (1013) ، صحيح مسلم صلاة الاستسقاء (897) ، سنن النسائي الاستسقاء (1528) ، سنن أبي داود الصلاة (1174) ، مسند أحمد (3/271) .
(4) صحيح البخاري الجمعة (1032) ، سنن النسائي الاستسقاء (1523) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3890) .
(5) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة برقم 933.(28/125)
س 12: حول عقد النكاح وفسخ عقد النكاح، في الدنمارك، مع العلم أن بعض المسلمين المقيمين في الدول(28/125)
الاسكندنافية، عامة والدنمارك خاصة، يقومون بفسخ عقد النكاح عند إدارة الزواج، وهم يدعون وجود خلاف بينهم، ولكن في الحقيقة لا يوجد أي خلاف بينهم ماديا أو معنويا، ولكن هدفهم هو الحصول على زيادة في المساعدات الاجتماعية، مع أنهم ليسوا بحاجة، فهل عملهم هذا يبيح لهم هذا الأمر، وهل هذا الأمر يبقي العلاقة بين الزوجين أم أنه يصبح طلاقا؟
ج: لا يجوز هذا العمل، هذا ظلم وكذب، لا يكذبون حتى يأخذوا مالا بغير حق، ليس لهم هذا الأمر، هذا منكر، وإذا زعم أنه طلقها يؤخذ بإقراره، يحسب عليه الطلاق تصير طلقة أو طلقتين، على حسب ما قال، ولكن لا يجوز التحيل على أخذ الأموال، بدعوى الزواج وهو كاذب، نسأل الله العافية.(28/126)
س 13: إني محافظ على الصلوات الخمس، ولكن مع أخذي بكل الأسباب، لقيامي لصلاة الفجر، فإني لا أستطيع القيام لصلاة الفجر في وقتها، وأصليها قضاء بعد طلوع الشمس، فهل عملي هذا كفر؟(28/126)
ج: عليه أن يجتهد حتى يصليها في الوقت، وإذا غلبه النوم ما يضره، أما أنه يتعمد فما يجوز، فإن تعمد تأخير الفجر إلى بعد طلوع الشمس لا يجوز، أما إذا غلبه النوم ولم يستطع فلا شيء عليه، أما كونه يتعمد أن يصلي الفجر بعد طلوع الشمس فهذا لا يجوز، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى كفر من فعله، والأكثرون أنه لا يكفر، لكن أتى معصية كبيرة، وبعض أهل العلم يراه يكفر بذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل المسلم وبين الشرك والكفر، ترك الصلاة (2) » رواه مسلم أيضا، وهو حديث صحيح، وفي اللفظ الآخر: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (3) » . فالواجب عليه الحذر من هذا، ليس له التعمد في تأخيرها إلى طلوع الفجر. نسأل الله العافية.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار، حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه برقم 22428.
(2) أخرجه مسلم في باب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 82.
(3) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد (5/346) .(28/127)
س 14: هذا سائل يقول: في مدينة لندن في بريطانيا، تختلف المراكز الإسلامية في تحديد زمن الإمساك في رمضان، بين أن يجعل ذلك قبل الشروق بساعة ونصف، وآخر بساعتين، وهكذا. أفيدونا بما ينبغي عمله في هذا الاختلاف بين المراكز الإسلامية، علما بأن الغيوم في مدينة لندن وغيرها، في بعض المدن البريطانية تحول دون تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فما العمل في هذا الاختلاف؟
ج: عليهم العمل بغالب الظن، غالب الظن يكفي في طلوع الفجر، في التحديد في كل مكان بحسبه، إذا كانوا ما رأوا الفجر بسبب الغيوم ما فيه صحو، يعملون بغالب الظن، الذي يعرفون أنه طلع فيه الفجر، أما إذا كان صحو ما فيه غيوم، ينظرون الفجر، وإذا كانت الساعة مضبوطة فالحمد لله يعملون بذلك، والبلاد تختلف ولكن ينظر في حالة الصحو، وما كان في حالة الصحو هو الأقرب، يعني في حالة الصحو كم بين طلوع الشمس وطلوع الفجر، حتى يعرف صحة التقدير، فإذا كان ما عنده بصيرة، يعمل بالاحتياط الذي يقول ساعتين، يعمل بالاحتياط من باب(28/128)
الاحتياط، «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (1) » إن كان في الأمر شك في لندن أو غيرها يعمل بالاحتياط «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2) » والحمد لله، وإذا كان هناك معرفة في الفصل بين الشمس وبين طلوع الفجر، في حال الصحو يعمل به، في حال الغيم حسب الساعة.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه برقم 11689.
(2) مسند أحمد (3/153) .(28/129)
س 15: يوجد في ديار الغرب من يقول بجواز تعامل المسلم بالربا، مع الكافر بحجة أنه في دار كفر، وهناك أيضا من يقول بجواز أخذ أموالهم، ولو سرقة أو غدرا، أفيدونا أفادكم الله عن موقف الشرع من هذه الأقوال؟
ج: لا يجوز التعامل بالربا مع الكفرة ولا مع المسلمين، ولا يجوز أخذ أموالهم غدرا، إلا في حال الحرب، إذا كانوا في حال الحرب تؤخذ أموالهم ونساؤهم، عند الحرب والجهاد، أما وهم مستأمنون هم وإياهم، فلا يأخذوا منهم شيئا، ولا يخونونهم إلا في حال الحرب، إذا تميز الكفار عن المسلمين،(28/129)
وقامت بينهم الحرب، لهم مخالفتهم وأخذ أموالهم، ونسائهم وذراريهم، أما مثل حالتهم الآن، فلا يجوز له أن يخونه ولا يأخذ ماله بغير حق.(28/130)
س 16: يقول السائل: هل يجوز للنساء الكافرات دخول المسجد ولا نعلم هل هي حائض أم لا؟ فهل يجوز لها أن تدخل المسجد ولو كانت كافرة؟
ج: إذا كان دخولها لحاجة فلا بأس، تسمع فائدة أو تشرب ماء أو ما أشبه ذلك، إذا كان دخولها ما فيه مضرة على المسجد، إما لسماع فائدة، أو تلتمس أحدا، أو تشرب ماء لا بأس، ولا يستفسر هل هي حائض أم لا.(28/130)
س 17: ما هو الأفضل بالنسبة لدفن الموتى، وهل يجوز نقل جثثهم إلى بلاد المسلمين، خاصة بأنه يوجد مقابر للمسلمين في بلاد الكفار ما هو الأفضل بالنسبة لهم؟
ج: يدفنون مع المسلمين، ولا يحتاج للنقل، إذا مات في بلاد الكفر وفيها مقبرة مسلمة، يدفن في مقابر المسلمين، وإذا نقل فلا حرج، لكن عدم النقل أولى؛ لعدم التكلف، كان المسلمون(28/130)
يموتون في بلدان كثيرة، ويدفنون في مقابر المسلمين في تلك الديار، ما ينقلون إلى المدينة ولا غيرها.(28/131)
س 18: امرأة تعمل ولديها مرتب، فهل تجب عليها الزكاة وهي امرأة، وأن تعطي الزكاة لأمها وأخواتها، وهل من الواجب إذا أخرجت زكاة، أو صدقة من مالها أخبرت بها زوجها، أم يكون بينها وبين الله، ولا يعلم بها ثالث، أفيدونا عن ذلك؟
ج: الزكاة لا يعطيها الإنسان الأم، ولا الأب، ولا الأولاد، أما أخواتها إذا كانوا مستقلين فقراء فلا بأس أن تعطي أخواتها وإخوانها إذا كانوا مستقلين فقراء، أما إذا كانوا عندها في البيت، تنفق عليهم فلا، ولا يلزمها أن تخبر زوجها، وإذا كانت تعلم أن إخباره قد يضرها، لا تخبره، هذا بينها وبين ربها.(28/131)
س 19: هل يعطى من دخل في الإسلام حديثا من أموال الزكاة إذا كان عليه ديون ربوية، قد اجتمعت عليه عندما كان كافرا؟
ج: يعطى من الزكاة؛ لأنه غارم، يعطى من الزكاة ما دام أنه أسلم؛ لأنه فقير غارم، ويعطى من الزكاة؛ لقضاء دينه مطلقا.(28/131)
س 20: سائل يقول: إن القانون في هذه البلاد، يسمح بحرق جثث الموتى، والطبيب المسلم يطلب منه التوقيع على شهادة الحرق، إذا كان مشرفا على موت المريض لديه، بحيث إنه لا يمكن إجراء عملية الحرق إلا بموافقته، والسؤال هل يجوز له ذلك شرعا؟
ج: ليس له ذلك؛ لأن هذا من التعاون على الإثم والعدوان، لا يوقع عليه لأجل إحراقه، هذا غير مشروع، إذا كان الميت مسلما لا يجوز التوقيع على إحراقه، وأما إذا كان كافرا فمحل نظر، والأحوط له ألا يوقع؛ لأنه غير مشروع إحراق الكافر، فالأحوط ألا يوقع، لكن إذا اضطر إلى ذلك، فالأمر سهل بالكافر، أما المسلم لا يوقع.(28/132)
س 21: هناك بعض الإخوان يقولون بوجوب دعوة الكفار، على كل مسلم مستطيع، وأنه يجوز للمسلم أن يقيم بين الكفار ويتشبه بهم في سبيل دعوتهم إلى الإسلام، وأن هذه الدعوة لا تحتاج إلى علم ولا فقه، استنادا على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية (1) » . ما صحة قولهم
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461) ، سنن الترمذي العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (2/159) ، سنن الدارمي المقدمة (542) .(28/132)
هذا، وهل هناك فقه خاص لمثل هذه الدعوة، وهل هذه الدعوة فرض عين أم فرض كفاية؟
ج: لا يجوز الإقامة بين أظهر المشركين، إذا كان لا يستطيع إظهار دينه، لا تجوز الإقامة بينهم، إلا إذا كان يستطيع إظهار دينه، إظهار التوحيد والصلاة وأعمال الخير، ولا يجوز التشبه بالكفار ولو لقصد دعوتهم، لا يجوز التشبه بهم ولكن يدعوهم حسب علمه، يقول لهم: قولوا: لا إله إلا الله، ويعلمهم معنى لا إله إلا الله، على حسب علمه، ويعلمهم فرائض الدين، ولو كان ما عنده علم واسع على قدر علمه، «بلغوا عني ولو آية (1) » ، يعلمهم القرآن، وإذا أسلموا يقول لهم: اشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويتبعونه، يعلمهم مما أعطاه الله حسب التيسير، لكن إذا كان هناك من هو أعلم منه، يستعين به حتى يبلغ أكمل، كلما كان البلاغ أكمل، صار أنفع للمدعو وأعظم للأجر، وإلا فالإنسان يبلغ حسب طاقته.
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461) ، سنن الترمذي العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (2/159) ، سنن الدارمي المقدمة (542) .(28/133)
4 - العبادة هي توحيد الله وطاعته
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد (1) : فقد قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (2) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (3) .
ربنا جل وعلا يأمر عباده المؤمنين في آيات كثيرات بتقوى الله؛ لأن التقوى جماع الدين، وهي العبادة التي خلق الناس لها وأمروا بها في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4) ، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (5) ، وهي العبادة التي بعث بها الرسل
__________
(1) محاضرة عبر الهاتف ألقاها سماحته في إحدى الجمعيات الخيرية بدولة الكويت بتاريخ 20\8\ 1418هـ.
(2) سورة الأحزاب الآية 70
(3) سورة الأحزاب الآية 71
(4) سورة الذاريات الآية 56
(5) سورة البقرة الآية 21(28/134)
عليهم الصلاة والسلام، يقول سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) .
هذه العبادة هي توحيد الله وطاعته، وهي التقوى والإيمان، وهي البر والهدى؛ كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (2) ، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (3) ، وقال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (4) الآية.
فالواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس، والعرب والعجم، والذكور والإناث، الواجب عليهم جميعا أن يتقوا الله، وذلك بتوحيده والإخلاص له، واتباع رسوله عليه الصلاة والسلام، هذه العبادة التي خلقوا لها، وأصلها وأساسها: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، هذا أساس الدين وأصله؛ الشهادتان: شهادة أن لا إله إلا الله، معناها: لا معبود حق إلا الله، يشهد المؤمن والمؤمنة بأنه لا معبود حق إلا الله، ويشهد أن
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة النجم الآية 23
(3) سورة البقرة الآية 189
(4) سورة البقرة الآية 177(28/135)
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي العربي، المكي ثم المدني هو رسول الله، صلى الله عليه وسلم حقا، وأن الواجب اتباعه والإيمان بما جاء به وتصديقه، واتباع شريعته، هذا هو الواجب على الجميع، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) ، وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) .
هذه العبادة التي خلقوا لها، أن يخصوا الله بالعبادة: بدعائهم وخوفهم ورجائهم، وذبحهم واستغاثتهم وصلاتهم وغير هذا، وعليهم مع هذا أن يشهدوا أن محمدا بن عبد الله بن عبد المطلب، هو رسول الله حقا إلى جميع الثقلين، جنهم وإنسهم، عربهم وعجمهم، ذكورهم وإناثهم، على جميع المكلفين أن يشهدوا بذلك، يشهدوا أنه لا إله إلا الله، أي لا معبود حق إلا الله، ويشهدوا أن محمدا بن عبد الله هو رسول الله حقا إلى جميع الثقلين الجن والإنس، وأنه خاتم الأنبياء ليس بعده نبي، كما قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (3)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة الأحزاب الآية 40(28/136)
وقال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (1) ، وبعد ذلك أيضا يلزم الإيمان، وبقية أركان الإسلام: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت (2) » هذه الأركان لا بد منها مع الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، هذه أصول الإيمان الستة، ويتبع ذلك جميع ما أمر الله به ورسوله يتبع الإيمان والإسلام كل ما أمر الله به ورسوله، كما يدخل في ذلك ترك كل ما نهى الله عنه ورسوله، كله داخل في الإسلام والإيمان، فعلى جميع المكلفين أن يؤمنوا بالله ورسوله، وأن يؤمنوا بالأركان الستة للإيمان، وأن يعملوا بالأركان الخمسة للإسلام: الشهادتين، الصلاة، الزكاة، الصيام، والحج، ويؤمنوا بأنها فرض
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء بني الإسلام على خمس برقم 2609.(28/137)
على الجميع، كما أن عليهم أن يؤمنوا بأن الله حرم عليهم الشرك، وحرم عليهم جميع المعاصي التي بينها الله في كتابه، وبينها رسوله عليه الصلاة والسلام، من الزنا والسرقة وشرب المسكر والربا، وغيرها مما حرمه الله، يجب على جميع المكلفين الإيمان بكل ما أوجبه الله، والإيمان بكل ما حرمه الله، وعليهم العمل، وذلك بأداء فرائض الله، وترك محارم الله، والوقوف عند حدود الله، يرجون ثواب الله ويخشون عقابه، ويشرع لهم المسارعة إلى الخيرات، في النوافل؛ لأنها يكمل بها الفرائض.
يشرع لكل مؤمن ومؤمنة المسارعة إلى الخيرات، صلاة النافلة، صدقة النافلة، الإكثار من ذكر الله، حج النافلة، عمرة النافلة، إلى غير ذلك مما شرع الله من النوافل، ومتى سارع المؤمن إلى ذلك وسابق إلى ذلك، صار من المقربين مع الطبقة العليا، فإن طبقات المسلمين ثلاث:
الطبقة الأولى: الظالم لنفسه، صاحب المعاصي.
الطبقة الثانية: المقتصد، الذي أدى الفرائض وترك المحارم.
الطبقة الثالثة: المقربون، وهم السابقون للخيرات، مع أداء(28/138)
الفرائض، يسارعون إلى الطاعات والأعمال الصالحات التي لا تجب عليهم، يرجون ثواب الله ويخشون عقابه.
فالوصية لأبنائي الطلبة، ولجميع المستمعين أن يتقوا الله في كل مكان، وفي كل حال، وفي كل زمان، وأن يستقيموا على دين الله، وأن يحذروا محارم الله، وأن يقفوا عند حدود الله يرجون ثواب الله ويخشون عقابه، عملا بقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (1) {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (2) يعني ما تطلبون. {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (3) ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (4) أولئك {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (5) ، وقال سبحانه لنبيه عليه الصلاة
__________
(1) سورة فصلت الآية 30
(2) سورة فصلت الآية 31
(3) سورة فصلت الآية 32
(4) سورة الأحقاف الآية 13
(5) سورة الأحقاف الآية 14(28/139)
والسلام: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} (1) .
فالواجب على جميع المكلفين الاستقامة، يعني الثبات على الحق، والسير عليه من أداء الفرائض، وترك المحارم حتى الموت، هذا الواجب على الجميع، أن يتقوا الله ويلزموا حقه، يلزموا أداء الفرائض وترك المحارم عن إيمان بالله ورسوله، وعن رغبة فيما عند الله، وعن إخلاص وصدق، يرجون ثواب الله ويخشون عقابه، حتى الموت، ولهذا قال الله سبحانه لنبيه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (2) ، وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (3) .
هذا الواجب على الجميع أن يتقوا الله، وأن يستقيموا على دينه، وأن يتركوا محارمه، وأن يحبوا في الله وأن يبغضوا في الله، ويوالوا في الله ويعادوا في الله، لهذا خلقوا وبهذا أمروا، وذلك هو العبادة التي هم مخلوقون لها، في قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4)
__________
(1) سورة هود الآية 112
(2) سورة الحجر الآية 99
(3) سورة آل عمران الآية 102
(4) سورة الذاريات الآية 56(28/140)
وهي العبادة التي خلقوا لها في قوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (1) .
فالواجب المجاهدة في هذا، سؤال الله التوفيق، كل واحد يسأل ربه التوفيق والإعانة، يقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (2) ، ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (4) ، ويقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (5) ، ويقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (6) ، ويقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (7) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (8) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 21
(2) سورة العنكبوت الآية 69
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 3
(5) سورة الطلاق الآية 4
(6) سورة الطلاق الآية 5
(7) سورة الأحزاب الآية 70
(8) سورة الأحزاب الآية 71(28/141)
فمن اتقى الله، وحفظ لسانه، واستقام أصلح الله له العمل، وغفر له الذنب، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما، هذه هي التقوى، من يطع الله ورسوله، هذه هي التقوى، وهذا دين الله، وهذا هو الإيمان بالله ورسوله، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (1) .
نسأل الله أن يوفق الجميع للعمل النافع، والعمل الصالح، وأن يمنحنا وإياكم جميعا الفقه في دينه، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا.
والوصية مرة أخرى: العمل بما ذكرنا، والدعوة إلى الله أن تعملوا وأن تكونوا دعاة إلى الله، في كل مكان ترجون ثواب الله وتخشون عقاب الله، عملا بقوله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) ، وعملا بقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 71
(2) سورة فصلت الآية 33
(3) سورة النحل الآية 125(28/142)
هكذا أمرنا ربنا جل وعلا، وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) .
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أتباع الرسول على بصيرة، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على رسولنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(28/143)
الأسئلة
س 1: هناك من يقول: إن هذا القول وهو قول السلف: إنا لا نكفر أحدا من أهل الملة بذنب ما لم يستحله، يقول هذا هو قول المرجئة؟
ج: هذا غلط، هذا قول أهل السنة لا يكفر بذنب ما لم يستحله، الزاني لا يكفر، وشارب الخمر لا يكفر، بل عاص، إلا إذا استحل ذلك، هذا قول أهل السنة خلافا للخوارج، الخوارج هم الذين يكفرون بالذنوب، أما أهل السنة فيقولون: عاص يجب(28/143)
عليه الحد، وتجب عليه التوبة لكن لا يكفر، إذا لم يستحل الذنب، زنا ولم يستحل، شرب الخمر ولم يستحل، وأشباه ذلك، أكل الربا ولم يستحل، لا يكون كافرا، يكون عاصيا ناقص الإيمان، ضعيف الإيمان، خلافا للخوارج والمعتزلة، هذا قول أهل السنة والجماعة، أما إذا استحله، قال: الزنا حلال يكفر، أو قال: الخمر حلال يكفر، عند أهل السنة والجماعة جميعا، أو قال: الربا حلال يكفر، أو قال: عقوق الوالدين حلال يكفر، لكن إذا فعله من غير اعتقاد، وهو يعلم أنه حرام، عق والديه يعلم أنه حرام، زنا يعلم أنه حرام، شرب الخمر يعلم أنه حرام، هذا عاص، ناقص الإيمان، ضعيف الإيمان عند أهل السنة ولا يكفر، لكن يستحق أن يقام عليه حد الخمر، حد الزنا، يؤدب عن العقوق، يؤدب عن أكل الربا. لا بأس طيب.(28/144)
س 2: هل العلماء الذين قالوا بعدم كفر من ترك أعمال الجوارح، مع تلفظه بالشهادتين، ووجود أصل الإيمان القلبي هل هم من المرجئة؟
ج: هذا من أهل السنة والجماعة، من قال بعدم كفر من(28/144)
ترك الصيام، أو الزكاة، أو الحج، هذا ليس بكافر، لكنه أتى كبيرة عظيمة، وهو كافر عند بعض العلماء، لكن على الصواب لا يكفر كفرا أكبر، أما تارك الصلاة فالأرجح فيه أنه كفر أكبر، إذا تعمد تركها، وأما ترك الزكاة، والصيام، والحج، فهو كفر دون كفر، معصية وكبيرة من الكبائر، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في من منع الزكاة: «يؤتى به يوم القيامة يعذب بماله» ، كما دل عليه القرآن الكريم: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (1) ، أخبر النبي أنه يعذب بماله، بإبله، وبقره، وغنمه، وذهبه، وفضته، ثم يرى سبيله بعد هذا إلى الجنة أو إلى النار، دل على أنه لم يكفر، كونه يرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار، دل على أنه متوعد، قد يدخل النار، وقد يكتفي بعذاب البرزخ، ولا يدخل النار، بل يكون إلى الجنة بعد العذاب الذي في البرزخ.
__________
(1) سورة التوبة الآية 35(28/145)
س 3: هل يمكن صدور كفر عملي يخرج من الملة، في الأحوال الطبيعية؟
ج: الكفر العملي يخرج من الملة: مثل السجود لغير الله، والذبح لغير الله، هذا كفر عملي يخرج من الملة، الذي يذبح للأصنام أو إلى الكواكب، أو إلى الجن كفر عملي أكبر، وهكذا لو صلى لهم أو سجد لهم، يكفر كفرا عمليا أكبر، وهكذا لو سب الدين أو سب الرسول، أو استهزأ بالله أو بالرسول هذا كفر عملي أكبر، عند جميع أهل السنة والجماعة.(28/146)
س 4: السجود والذبح لغير الله، إذا كان عن جهل، أو كذا هل فيه فرق بين الجهل والتعمد؟
ج: هذه من الأمور التي لا تجهل، من عملها يكفر وعليه التوبة إذا كان صادقا، عليه التوبة فمن تاب تاب الله عليه، المشركون تابوا وتاب الله عليهم يوم الفتح، وهم معروف كفرهم وضلالهم، في مكة فلما فتح الله مكة، ودخلوا في دين الله قبل الله منهم. أما سجود معاذ بن جبل للنبي صلى الله عليه وسلم فهو(28/146)
متأول يحسب أنه جائز، وبين له النبي صلى الله عليه وسلم حرمة ذلك، بعدما استقرت الشريعة، علمه أن السجود لله؛ لقوله سبحانه: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (1) وانتهى الأمر، كان معاذ جاهلا فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن استقرت الشريعة، علمه وعلم الأمة أن السجود لله، كما قال سبحانه: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (2) ، ويقول تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ} (3) ، فالذي بين للمسلمين أن من يسجد لغير الله يكون كافرا، وعليه التوبة.
__________
(1) سورة النجم الآية 62
(2) سورة النجم الآية 62
(3) سورة الأنعام الآية 162(28/147)
س 5: هل تبديل القوانين يعتبر كفرا مخرجا من الملة؟
ج: إذا استباحها، فحكم بقانون غير الشريعة، يكون كافرا كفرا أكبر، أما إذا فعل ذلك لأسباب خاصة كان عاصيا لله من أجل الرشوة، أو من أجل إرضاء فلان، وهو يعلم أنه محرم يكون كفرا دون كفر، أما إذا فعله مستحلا له، يكون كفرا أكبر، كما قال ابن عباس في قول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 44(28/147)
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) ، قال: ليس مثل من كفر بالله، لكنه كفر دون كفر.
إلا إذا استحل الحكم بالقانون أو استحل الحكم بكذا أو كذا غير الشريعة يكون كافرا، أما إذا فعله لرشوة أو لعداوة بينه وبين المحكوم عليه، أو لأجل إرضاء بعض الشعب، أو ما أشبه ذلك، هذا يكون كفرا دون كفر.
__________
(1) سورة المائدة الآية 45
(2) سورة المائدة الآية 47(28/148)
س 6: هل فيه فرق بين التبديل ككل والحكم في قضية واحدة؟
ج: إن كان لم يقصد بذلك الاستحلال، وإنما حكم بذلك لأجل أسباب أخرى يكون كفرا دون كفر، أما إذا قال: يباح لا حرج في الحكم بغير ما أنزل الله، وإن قال الشريعة أفضل، لكن إذا(28/148)
قال: ما فيه حرج مباح يكفر بذلك كفرا أكبر، سواء قال: إن الشريعة أفضل أو مساوية، أو رآه أفضل من الشريعة، كله كفر، نسأل الله العافية يعني في جميع الصور، لكن يجب منع ذلك وهو كفر دون كفر، يجب أن يمنع ولو قال: إني ما استحللته، ولو قال: إن بيني وبين فلان عداوة أو رشوة، يجب أن يمنع، ما يجوز لأحد أن يحكم بغير ما أنزل الله، مطلقا، ولو بينه وبين المحكوم عليه عداوة، أو لأسباب أخرى، يجب على ولي الأمر أن يمنع من ذلك، وأن يحكم بشرع الله.(28/149)
س 7: أعمال الجوارح هل تعتبر كمالا للإيمان أو تعتبر كصحة للإيمان؟
ج: أعمال الجوارح فيها ما هو كمال للإيمان، وفيها ما تركه مناف للإيمان، والصواب أن الصوم يكمل الإيمان، الصدقة من كمال الإيمان، وتركها نقص في الإيمان وضعف في الإيمان، ومعصية، أما الصلاة فالصواب أن تركها كفر أكبر، نسأل الله العافية، وهكذا كون الإنسان يأتي بالأعمال الصالحات، هذا من كمال الإيمان، وكونه يكثر من الصلاة ومن صوم(28/149)
التطوع، ومن الصدقات، هذا من كمال الإيمان، مما يقوى به إيمانه.(28/150)
س 8: ما هي وصيتكم الأخيرة والكلمة الأخيرة في هذا اللقاء؟
ج: وصيتي الأخيرة التفقه في الدين وتدبر القرآن والإكثار من قراءة القرآن وتدبر معانيه والمذاكرة فيما بينهم، فيما دل عليه القرآن والسنة، والقراءة في كتب أهل السنة، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، يقرأ كتبهما ففيها خير عظيم، وكتب السلف، مثل تفسير ابن جرير، كتاب التوحيد لابن خزيمة، شرح السنة للبغوي، ومثل كتاب شرح الطحاوية لابن أبي العز، والحموية، والتدمرية، كلها كتب عظيمة مفيدة.
نسأل الله للجميع التوفيق والهداية وصلاح النية والعمل.(28/150)
5 - الإيمان الحق وصفات المؤمنين
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين (1) . أما بعد: أيها الإخوة الكرام قد سمعتم عنوان المحاضرة، وهو (الإيمان الحق وصفات المؤمنين) فهما ذات شقين: أحدهما تعريف الإيمان الحق. والثاني: تعريف صفات المؤمنين. وسأتكلم إن شاء الله على الشقين جميعا.
أما الشق الأول: فهو الإيمان الحق:
وتعريفه: هو التصديق بكل ما أخبر الله به ورسوله قولا وعملا وعقيدة، هذا هو الإيمان الحق: التصديق بكل ما أخبر الله به ورسوله وبكل ما شرعه الله لعباده من قول وعمل وعقيدة، هذا هو الإيمان الحق.
__________
(1) محاضرة ألقاها سماحته في أحد المساجد. بمدينة الرياض.(28/151)
ودل على ذلك آيات كثيرات من كتاب الله عز وجل منها قوله جل وعلا: {الم} (1) {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (2) {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (3) {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (4) {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (5) ، وقوله جل وعلا: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (6) . فبين جل وعلا في هذه الآية الكريمة صفات المؤمنين، وبين المؤمن حقا وأنه من آمن بالله وملائكته إلى آخره، كما بين في الآيات السابقات في أول البقرة
__________
(1) سورة البقرة الآية 1
(2) سورة البقرة الآية 2
(3) سورة البقرة الآية 3
(4) سورة البقرة الآية 4
(5) سورة البقرة الآية 5
(6) سورة البقرة الآية 177(28/152)
أن المتقين هم أهل الإيمان بالله واليوم الآخر، هم أهل الإيمان بالآخرة والإيمان بما أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام، والإيمان بما أنزل على من قبله مع إقامتهم الصلاة، ومع أدائهم الزكاة ومع إيمانهم بالغيب، والإيمان بالغيب وبما أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل على الأنبياء، مع العمل هذا هو الإيمان الحق، الذي تطابق فيه القلب واللسان، وتنقاد له الجوارح هذا هو الإيمان الحق، ولهذا قال في أهله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) .
فالمعنى أن هؤلاء قد ثبتوا على الهدى واستقروا عليه، ووفقهم الله للفلاح بإيمانهم الصادق، وعملهم الصالح وقولهم بالألسنة ما يطابق القلوب، وما تصدقه الأعمال، وهكذا قوله جل وعلا: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} (2) المعنى ولكن من البر: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} (3) آمن بقلبه وصدق بالعمل
__________
(1) سورة البقرة الآية 5
(2) سورة البقرة الآية 177
(3) سورة البقرة الآية 177(28/153)
{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} (1) إذا عاهدوا صدقوا وهم يؤمنون قولا وعملا وعقيدة {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} (2) هذا من عمل القلب وتصدقه الجوارح، فصبر القلب الصادق تصدقه الجوارح، ويصدقه الكلام: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} (3) البأساء هي الفقر والحاجة، والضراء هي الأمراض والجراح، {وَحِينَ الْبَأْسِ} (4) حين الحرب ولقاء الأعداء، هؤلاء المؤمنون صبر في البأساء والضراء، في الشدة والرخاء وفي حال لقاء الأعداء.
هذا من دلائل صحة الإيمان، وأن إيمانه حق ليس كإيمان المنافقين الذين يقولون بالألسنة ما ليس في القلوب ولهذا قال بعد ذلك في تمام الآية: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (5) هؤلاء الذين قالوا وعملوا وكذبوا بالظنون، هم أهل الصدق وهم أهل التقوى وهم أهل الإيمان، فالإيمان الحق عقيدة يصدقها اللسان، وتصدقها الجوارح وذلك هو الإيمان بالله، وبرسله وبكتبه وبالملائكة وباليوم الآخر، وبالقدر خيره
__________
(1) سورة البقرة الآية 177
(2) سورة البقرة الآية 177
(3) سورة البقرة الآية 177
(4) سورة البقرة الآية 177
(5) سورة البقرة الآية 177(28/154)
وشره، هذه أصوله، وهذه أركانه، وهذه منازله ومبانيه كما جاء في الحديث الشريف، حديث عمر رضي الله عنه، حين سأل جبرائيل نبينا عليه الصلاة والسلام عن الإيمان، فقال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره (1) » ، وهذه الستة هي أصول الإيمان ومبانيه، وعليها مداره ويتبعها التصديق بكل ما أخبر الله به ورسوله من فروع الإيمان بالله، ومن تحقيق الإيمان بالله الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله، من الجنة والنار والحساب والجزاء وأخبار الرسل الماضين وما جرى عليهم وما جرى لأممهم، وما يكون يوم القيامة، إلى غير ذلك كله داخل في الإيمان، وهكذا تفاصيل الإيمان بالرسل والملائكة، واليوم الآخر كله داخل في الإيمان.
وهكذا الإيمان بالقدر يشمل أمورا أربعة: يشمل الإيمان بعلم الله بما يقع في العالم من خير وشر، ومن ظهور ممالك وسقوط أخرى، ومن آجال وأرزاق، ومن أعمال وصحة وأمراض وغير
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان برقم 8.(28/155)
ذلك، فهو يعلم كل شيء سبحانه وتعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (1) {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) .
__________
(1) سورة الطلاق الآية 12
(2) سورة الأنفال الآية 75(28/156)
الأمر الثاني: أنه كتب كل شيء سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (1) ، وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (2) .
والأمر الثالث: أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ويدل على هذا آيات كثيرات كما قال جل وعلا: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (3) {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (4) ، (5) وقال عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (6)
__________
(1) سورة الحج الآية 70
(2) سورة الحديد الآية 22
(3) سورة التكوير الآية 28
(4) سورة التكوير الآية 29
(5) سورة التكوير، الآيتان 28، 29.
(6) سورة الأنعام الآية 112(28/156)
وقال جل وعلا: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (1) ، وقال عز وجل: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} (2) {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} (3) .
والأمر الرابع: خلقه للأشياء وإيجاده لها،. بمحض مشيئته وقدرته الكاملة سبحانه وتعالى، وعلمه التام كما قال عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (4) ، وقال سبحانه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (5) . وهذه الأربعة: هي خلاصة الإيمان بالقدر، ومجموع قدرات الإنسان أن تؤمن بأن الله علم الأشياء كلها، من أعمال وآجال وأرزاق وغير ذلك، وكتب ذلك عنده سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير،
__________
(1) سورة يونس الآية 99
(2) سورة المدثر الآية 55
(3) سورة المدثر الآية 56
(4) سورة الزمر الآية 62
(5) سورة فاطر الآية 3(28/157)
وأنه الخلاق العليم، ليس هناك خالق سواه سبحانه وتعالى.
فالإيمان بهذه الأصول الستة هو: أصل الإيمان بما جاء به الرسل عليهم الصلاة والسلام، من شرائع وأخبار وعلى رأسهم إمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فالإيمان الحق والإيمان الصادق هو الإيمان بهذه الأصول الستة، والإيمان بما يلتحق بها من كل ما أخبر الله به ورسوله، مما كان وما سيكون في آخر الزمان، وفي يوم القيامة وفي الجنة والنار وغير ذلك، ويلتحق بذلك أيضا الإيمان بكل ما شرعه الله ورسوله من أعمال وأقوال وعقائد، كله داخل في الإيمان الصادق الحق.
وهذا يوجب على العبد أن يستقيم على أمر الله، وأن يحاسب نفسه ويجاهدها لله، حتى يؤدي ما أوجب الله على بصيرة، وحتى يدع ما حرم الله على بصيرة، وحتى يصدق بكل ما أخبر الله به ورسوله عن علم وهدى وبصيرة، وهذا الإيمان الحق يزيد وينقص عند أهل السنة والجماعة، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي؛ وقد جاء في السنة الصحيحة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ما يدل على أن كل ما أخبر الله به ورسوله، وكل(28/158)
ما شرعه الله يسمى إيمانا لما تقدم، من هذا قوله عليه الصلاة والسلام في حديث وفد عبد القيس في الصحيحين من حديث ابن عباس قال: «آمركم بالإيمان بالله. أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم (1) » فسمي هذه إيمانا فدل ذلك على أن الإيمان يطلق على العمل، كما يطلق على التصديق بالقول، وكما يطلق على التصديق باللسان، وجاء أيضا عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيحين أنه قال عليه الصلاة والسلام: «الإيمان بضع وستون شعبة (2) » ، وفي لفظ مسلم: «بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (3) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان برقم 53، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم برقم 17.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان برقم 9.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها برقم 35.(28/159)
فسمى جميع أعمال الدين إيمانا ومن جملتها الشهادتان: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، سمي ذلك إيمانا في قوله: «فأفضلها قول لا إله إلا الله (1) » مع الشهادة أن محمدا رسول الله؛ لأن هاتين الشهادتين لا تغني إحداهما عن الأخرى، ولا تنفك إحداهما عن الأخرى بل لا بد منهما جميعا، فلا إسلام ولا إيمان إلا بهما جميعا، وجعل جميع ما شرعه الله إيمانا؟ فدل ذلك على أن الإيمان يطلق على ما يكون في القلب، وعلى ما تقوم به الجوارح، وعلى ما ينطق به اللسان مما شرعه الله ورسوله، وكذلك سمى إماطة الأذى عن الطريق إيمانا وهي من أعمال الجوارح، وسمى الحياء إيمانا وهو من أعمال القلب.
فدل ذلك على أن ما يقوم به الإنسان مما شرعه الله، وأن تصديقه بما أخبر به الله ورسوله، كله يسمى إيمانا، كما أن أعماله الشرعية من صلاة وصوم وحج، وزكاة وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، كله يسمى إيمانا، وهكذا أقواله من قراءة أو من أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر، وأذكار ودعائه الله عز وجل، كل ذلك يسمى إيمانا، فالإيمان الحق هو الذي
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (35) ، سنن الترمذي الإيمان (2614) ، سنن أبي داود السنة (4676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (57) .(28/160)
يتطابق فيه القلب واللسان والجوارح على ما شرعه الله سبحانه وتعالى، وعلى ما أخبر الله به ورسوله، يسمى إيمانا.
ويسمى إيمانا حقا؛ لأنه تطابق فيه القلب واللسان، وصدقت به الجوارح، هذا هو الإيمان الحق الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب وجاء به كتاب الله القرآن الكريم، وجاءت به سنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
وضد ذلك الإيمان الباطل، الإيمان الكاذب، وهو الإيمان باللسان دون القلب، وهو إيمان أهل النفاق، فإنهم يقولون بالألسنة ما ليس في القلوب، وبالأفواه ما ليس في الضمائر.
هؤلاء هم أهل النفاق الذين كذبوا بقلوبهم، وصدقوا بالألسنة مجاملة ومراعاة لحاجاتهم الحاضرة، ومقاصدهم الدنيوية كما قال عز وجل في كتابه الكريم: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} (3)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 165
(2) سورة آل عمران الآية 166
(3) سورة آل عمران الآية 167(28/161)
سبحانه وتعالى، وقال عز وجل: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} (1) .
هذه حال المنافقين يقولون بالأفواه ما ليس في القلوب؛ لأنهم مكذبون بقلوبهم، غير مصدقين بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وغير مؤمنين بكتاب الله عز وجل، فهم كاذبون في دعوى الإيمان، غير صادقين، ولهذا قال الله سبحانه عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (2) {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (3) {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (4) ، وقال عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (5) {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (6)
__________
(1) سورة الفتح الآية 11
(2) سورة البقرة الآية 8
(3) سورة البقرة الآية 9
(4) سورة البقرة الآية 10
(5) سورة النساء الآية 142
(6) سورة النساء الآية 143(28/162)
ليس عندهم إيمان، عندهم التردد، وعندهم الكذب وعندهم الشك والريب، هذه حال المنافقين، وهذا إيمانهم الكاذب الذي بينه الله عنهم جل وعلا، وأنهم يدعونه باللسان ويخالفونه بالأعمال والقلوب، فالمؤمن الصادق هو الذي آمن بالله حقا، وآمن بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، مما دل عليه كتاب الله عز وجل: من أقوال وأعمال وعقائد، وطابق ما في قلبه ما قاله لسانه، وما عملت به جوارحه، هكذا الإيمان الصادق، هكذا الإيمان الحق، الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب وعلق عليه السعادة والكرامة في الدنيا والآخرة قال جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2)
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة التوبة الآية 72(28/163)
هذا هو الإيمان الصادق، وعد الله أهله بالرحمة والجنة والكرامة، وقال عز وجل: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1) . في آيات كثيرات كلها تدل على وجوب الإيمان كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (2) .
__________
(1) سورة التغابن الآية 8
(2) سورة النساء الآية 136(28/164)
فالإيمان الحق يتضمن الإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره كما تقدم، وتقدم أن هذه الستة هي أصول الإيمان وهي أركانه ومبانيه، ويلتحق بها ويتفرع عنها الإيمان بكل ما فرضه الله ورسوله، فإن ذلك داخل في الإيمان بالله، ويدخل في ذلك أيضا كل ما يتعلق بأخبار الآخرة، وأخبار الجنة والنار، وأخبار الحساب والجزاء، كله داخل(28/164)
في الإيمان باليوم الآخر، ويتعلق بذلك أيضا كل ما يتعلق بالقدر، وفيه قدر كل ما هو داخل في القدر، وكل ما يتعلق بالإيمان بما يكون في آخر الزمان، وما مر به الزمان، كله داخل في الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وإذا صدق المرء بلسانه وقلبه، وصدق بجوارحه فهو المؤمن حقا، وهو الإيمان الذي درج عليه صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، وهو يزيد وينقص، يزيد بالأعمال الصالحات، من صلاة وصوم وجهاد، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وصدقات وقراءة قرآن وأذكار، ودعوة إلى الله إلى غير ذلك، وينقص بالمعاصي والمخالفات، ينقص بذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهي مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة، يرفع الناس إليه فيها أبصارهم، حين ينتهبها وهو مؤمن (1) » متفق عليه. وفي رواية لمسلم: «وإن وصلى وصام وزعم أول مسلم (2) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب النهي بغير إذن صاحبه برقم 2475.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق برقم 59.(28/165)
وهذا يدل على أن الإيمان يرتفع بهذه المعاصي الكبيرة، ويبقى أصله فقط، وأن أصله باق مع المسلم، لكن كماله وتمامه يرتفع بهذه الكبائر: كالزنا والسرقة وشرب الخمر، وأكل أموال الناس ونحو ذلك؛ لأن هذا ينافي الإيمان الواجب، ويرتفع الإيمان الواجب الذي يمنعه مما حرم الله، ومن كون إيمانه كاملا، ومن كون إيمانه الواجب حاضرا: لمنعه من هذه المعاصي، ومن هذه الكبائر، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن (1) » .
فدل ذلك على أن الإيمان يضعف وينقص، حتى لا يمنع من الزنا، وحتى لا يمنع من شرب الخمر، وحتى لا يمنع من السرقة، وحتى لا يمنع من أكل أموال الناس، في ضعفه وما خالطه من شهوة جامحة، ورغبة في الدنيا وشهواتها، ومن موافقة النفس وهواها، على الوقوع فيما حرم الله عز وجل، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة، ليس المعنى أنه يكفر كما تقول الخوارج، لا ولكنه يرتفع منه الإيمان الكامل، ويرتفع منه الإيمان الواجب، ويبقى معه أصل الإيمان الذي كان به مسلما، فيرتفع هذا الإيمان الواجب، ويزول هذا الإيمان الواجب بما يفعل من الفواحش والمنكرات،
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب النهي بغير إذن صاحبه برقم 2475.(28/166)
وإذا تاب ورجع تاب الله عليه، ورجع إليه إيمانه الواجب الكامل، ويدل على هذا أنه عليه الصلاة والسلام لم يحكم على الزاني بالردة، ولا على السارق بالردة فيقتل، ولا على شارب الخمر بالردة فيقتل، فقد جاء في هذا حدود: فالزاني يرجم إن كان محصنا، ويجلد إن كان غير محصن مائة جلدة ويغرب عاما، ولو كان الزنا ردة وكفرا لقتل؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من بدل دينه فاقتلوه (1) » ، وهكذا السارق تقطع يده ولا يقتل، فدل ذلك على أن إسلامه باق، وأن أصل إيمانه باق، ولكنه أتى جريمة أوجبت قطع يده، تعزيرا وتنكيلا وردعا عن هذه المنكرات، وهكذا شارب الخمر لم يأمر بقتله، بل أمر أن يجلد، فدل ذلك على أن شرب الخمر لا ينافي الإيمان بالكلية، ولكن ينافي كماله وينافي الإيمان الواجب، ويبقى معه أصل الإيمان، الذي به صح إسلامه، ولهذا لم يؤمر بقتل من شرب الخمر، بل يحد حده الشرعي، وهو الجلد بأربعين جلدة، أو ثمانين جلدة، كما رأى عمر رضي الله عنه وأرضاه، وتبعه أهل العلم في ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم برقم 6922.(28/167)
وهكذا الغاصب للأموال لا يقتل ولكن يعزر، ويؤدب ويردع بما يراه ولي الأمر: من جلد وسجن ونحو ذلك، حتى يرتدع عن أموال الناس، وهكذا المحارب الذي يحارب، ويقطع الطريق، فإنه لا يكون مرتدا إذا لم يستحل ذلك، ولكنه يكون ناقص الإيمان، وضعيف الإيمان، ويستحق أن يعاقب بما شرع الله عقوبته، من قتل وصلب وتقطيع الأيدي والأرجل، والنفي من الأرض.
وبهذا تعلم أن الإيمان الحق، وأن الإيمان الصادق، هو الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله، والإيمان بكل ما شرعه الله ورسوله من قول وعمل وعقيدة، وأنه يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، كما قال أصحاب السنة والجماعة، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان، إذا أطعنا واستقمنا زاد الإيمان، وإذا عصينا وضيعنا نقص الإيمان، كما سمعت في الدلائل، كما قال جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (1) . في آيات كثيرات وقد سمعت الحديث: «لا يزني
__________
(1) سورة الأنفال الآية 2(28/168)
الزاني حين يزني وهو مؤمن (1) » الحديث. فعلم بذلك أن الإيمان يزداد بالطاعات، وينقص بالمعاصي والمخالفات، وهو قول وعمل وعقيدة، هكذا قال أهل السنة والجماعة، وهكذا دل كتاب الله ودلت سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، أنه قول وعمل وعقيدة، وبعبارة أخرى أنه التصديق باللسان، والعمل بالجوارح، والتصديق بالجنان، هكذا الإيمان الصادق: قول وعمل يطابقان ما في قلبك من الإيمان بالله ورسوله، ومن الإيمان بكل ما شرعه الله ورسوله، وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، خلافا للخوارج والمعتزلة فإنهم قالوا: لا يزيد ولا ينقص، فإما أن يوجد مرة، وإما أن يزول كله، وعندهم الزاني والسارق ونحوهما قد خرجا من الإيمان، وصارا إلى الكفر والضلال عند الخوارج، وصارا في منزلة بين منزلتين عند المعتزلة، واتفقوا جميعا على أنه في النار مخلد فيها كسائر الكفار، وهذا قول باطل من قول الخوارج والمعتزلة، أما أهل السنة والجماعة فيقولون: إنه ناقص الإيمان، وإنه ضعيف الإيمان، ولم يخرج من الإيمان بالكلية، بل إيمانه ناقص، وإيمانه ضعيف، وليس من الكفار وليس مخلدا
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2475) ، صحيح مسلم الإيمان (57) ، سنن الترمذي الإيمان (2625) ، سنن النسائي قطع السارق (4870) ، سنن أبي داود السنة (4689) ، سنن ابن ماجه الفتن (3936) ، مسند أحمد (2/376) ، سنن الدارمي الأشربة (2106) .(28/169)
في النار، إذا فعل ذلك عن شهوة، وغلبة في هواه، لا عن تكذيب، ولا عن استحلال، فإنه يكون ضعيف الإيمان، وله حكم أهل الإسلام، وهو مؤمن بالجنة، وإن جرى عليه ما يجري من عقاب يوم القيامة، ومن تعذيب بأسباب أعماله السيئة، فإن مصيره إلى الجنة ولا يخلد في النار، أبدا، وإنما يخلدون في النار الكفار بالله والمنافقين، المنافقون النفاق الأكبر، هؤلاء هم الذين يخلدون في النار، أما العصاة فمن دخلها منهم فهو مؤمن مسلم، موحد لم يستحل المعاصي وإنما فعلها لهوى وشهوة، وطمع ونحو ذلك، فهذا لا يخلد في النار، إذا دخلها فهو مؤمن ناقص الإيمان، مسلم ضعيف الإيمان، إذا دخل النار بمشيئة الله فإنه لا يخلد، وقد يعفى عنه ولا يخلد في النار؛ لأن ما دون الشرك تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) فهو سبحانه وتعالى حكم على أهل الشرك بأنه لا يغفر لهم إذا ماتوا عليه، أما العصاة فإنهم تحت مشيئة الله سبحانه، بإسلامهم وأعمالهم الصالحة، وإن شاء عذبهم على قدر جرائمهم
__________
(1) سورة النساء الآية 48(28/170)
التي ماتوا عليها غير تائبين: من زنا أو سرقة أو غير ذلك، ومآلهم بعد التطهير والتمحيص إلى الجنة، وقد تواترت الأخبار عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، مثقال ذرة من إيمان، مثقال دينار من إيمان، إلى غير ذلك.
هذه النصوص المتواترة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام تدل على أن العاصي لا يخلد في النار، ولكنه يعذب إذا دخلها، يعذب بما شاء على قدر المعاصي التي مات عليها غير تائب، ثم بعد تطهيره وتنقيته من الخبث يخرجه الله من النار إلى نهر الحياة كما جاء في هذه النصوص عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وينبتون في النهر كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم بعد أن يستتم خلقه يدخله الله الجنة برحمته سبحانه وتعالى.
وبهذا علمنا الإيمان الصادق الحق، وعلمنا الإيمان الكاذب، فالإيمان الصادق هو الذي فيه تطابق القلب واللسان، وتصديق الجوارح وأنه يزيد وينقص ويضعف ويقوى، وأن العصاة وإن كانوا دخلوا في الإيمان الصادق، وهم من أهله لكن العاصي(28/171)
ينقص إيمانه، ويضعف إيمانه بقدر معاصيه التي اقترفها، ومن أدى الواجبات وتباعد عن المحرمات؛ كمل إيمانه، ومن توسع في الطاعات والأعمال الصالحات، كان من السابقين المقربين وكانت منزلته أعلى من غيره.
وبهذا يعلم حقيقة الإيمان الصادق، وحقيقة أعمال أهله، وأنهم هم الصفوة، وهم خلاصة هذه الأمة، الذين صدقوا في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، واستقاموا على طريقه: قولا وعملا وعقيدة.
هؤلاء هم أهل الإيمان الحق، وهم أهل الإيمان الصادق، وإن جرى منهم شيء من السيئات والمعاصي، كان بذلك إيمانهم ضعيفا، وكان إيمانهم بذلك ناقصا، فعليهم أن يحققوا إيمانهم بالتوبة الصادقة، وبالرجوع إلى الله والإنابة إليه، وباتباع التوبة بالعمل الصالح، وبهذا يعود إليهم إيمانهم، وكمال إيمانهم بالتوبة الصادقة، والعمل الصالح.(28/172)
أما صفات المؤمنين، فكثيرة قد أشار إليها سبحانه مجملة ومفصلة، في قوله عز وجل:(28/172)
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) هذه من صفات أهل الإيمان التفصيلية.
أما القولية فيما بينهم: فيتحابون في الله، ينصح بعضهم بعضا، ويوالي بعضهم بعضا، لا يخذل بعضهم بعضا، ولا يفسد بعضهم بعضا، ولا يسب بعضهم بعضا، متوائمين فيما بينهم، يتحابون في الله، ويتواصون بالحق والصبر عليه، ويتعاونون على البر والتقوى، أينما كانوا لا غش ولا حقد، ولا حسد بينهم ولا غير ذلك، مما حرم الله، وإذا وجدت من نفسك أيها المسلم شيئا من هذه المعاصي، فاعرف أن هذا نقص في إيمانك، ونقص في دينك، وضعف في إيمانك، وأنك بهذا خرجت عن كمال الإيمان، وعن تمام الإيمان، إلى ما ألت إليه، وإلى ما أنت صرت إليه، من نقص وضعف بسبب المعاصي التي أقدمت عليها.
ومن صفاتهم أنهم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، هذه من صفات أهل
__________
(1) سورة التوبة الآية 71(28/173)
الإيمان، ومن صفاتهم ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا. وشبك بين أصابعه (1) » ، فهم يتعاونون ويدعم بعضهم بعضا، ويعين بعضهم بعضا على الخير، ومن صفاتهم قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (2) » . فمن صفاته أنه كامل النصيحة، كامل المحبة لأخيه، يحب لأخيه كل خير، ويكره له كل شر، ومن صفاتهم ما جاء في الحديث الصحيح: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (3) » . كل هذا من صفات أهل الإيمان، ومن صفاتهم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب نصر المظلوم برقم 2446، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم برقم 2585.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه برقم 13، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن خصال الإيمان أن يحب. . . برقم 45.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الآداب، باب رحمة الناس والبهائم برقم 6011، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم برقم 2586.(28/174)
ما دل عليه قوله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (1) {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (2) {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (3) . هذه من صفاتهم العظيمة، ومن صفاتهم العظيمة أيضا أنهم عند ذكر الله توجل القلوب، وعند تلاوة كتابه يزداد إيمانهم، وعلى ربهم يتوكلون في كل أمورهم، عليه يعتمدون مع الأخذ بالأسباب، ومع الأخذ بالأعمال التي شرعها الله لتمام التوكل، فمن تمام التوكل الأخذ بالأسباب، والأخذ بالأعمال فلا توكل إلا بأسباب، ولا أسباب إلا بتوكل، فالمؤمن يجمع بينهما: يعتمد على الله، بقلبه ويفوض إليه سبحانه وتعالى أموره، مع أخذه بالأسباب، مع تعاطي أسباب الجنة والبعد عن أسباب النار، ومع الأخذ بالأسباب الشرعية في كسب وطلب الحلال، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك، فهم في إيمانهم صادقون صابرون، وعلى ربهم يتوكلون وبالأعمال
__________
(1) سورة الأنفال الآية 2
(2) سورة الأنفال الآية 3
(3) سورة الأنفال الآية 4(28/175)
الصالحة يأخذون، وعليها يعتمدون، وبترك الأعمال السيئة يعتمدون أيضا، ويواظبون ويحافظون، وهكذا يأخذون بكل ما شرع الله، وبكل ما أباح الله من الأسباب فلا يضيعونها، فالتوكل من دون أسباب عجز أيضا، والأسباب من دون توكل عجز أيضا، فالتوكل الصادق الذي شرعه الله لعباده، الذي يجمع بين الأمرين: بين الاعتماد على الله وبين الأخذ بالأسباب، والأعمال التي شرعها الله وأمر بها سبحانه وتعالى.
ومما ورد في صفات المؤمنين قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يبغضه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة (1) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه برقم 2442، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم برقم 2580.(28/176)
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، والآيات كثيرة، ويكفينا ما أشرنا إليه من آيات وأحاديث في بيان صفات المؤمنين وأخلاقهم وأعمالهم الطيبة، وفي بيان الإيمان الحق الذي رضي الله على أهله، ومدحهم ووعدهم الجنة والكرامة، والإيمان الباطل الكاذب الذي ذم الله أهله، وعابهم ووصفهم بالنفاق ووعدهم عليه بالدرك الأسفل من النار.
وبهذا علمنا الإيمان الصادق الإيمان الحق، وأعمال أهله وصفاتهم، وعلمنا الإيمان الباطل الكاذب، وصفات أهله وأنهم أهل النفاق، وأهل الكذب والخيانة والغش والخداع.
نسأل الله العافية من صفاتهم وأخلاقهم، ونسأله سبحانه أن يوفقنا وإياكم لما فيه رضاه، وأن يحقق إيماننا جميعا، وأن يوفقنا للصدق في القول والعمل، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان.(28/177)
6 - بيان أهمية التوحيد
س: نريد من سماحتكم أن توجهوا نداء إلى الناس تبينون فيه أهمية الدعوة إلى الله وتفسر النافي لمعنى (لا إله إلا الله) . (1) .
الجواب: في كتاب الله العظيم الكفاية العظيمة والدعوة إلى هذا الحق العظيم، فقد دعاهم مولاهم سبحانه وتعالى في كتابه العظيم في آيات كثيرة إلى أن يعبدوه وحده، وهكذا رسوله صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى ذلك بمكة والمدينة مدة ثلاث وعشرين سنة، يدعو إلى الله ويبصر الناس بدينهم، كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) وقال سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (3) وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (4) وقال جل وعلا: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (5) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (6)
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) شريط رقم (10) .
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة البقرة الآية 163
(4) سورة الإسراء الآية 23
(5) سورة الزمر الآية 2
(6) سورة الزمر الآية 3(28/178)
وقال سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) وقال عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (2) في آيات كثيرة، قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (3) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (4) » متفق على صحته. وقال عليه الصلاة والسلام: «من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار (5) » . وقال عليه الصلاة والسلام: «من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا
__________
(1) سورة غافر الآية 14
(2) سورة محمد الآية 19
(3) سورة البينة الآية 5
(4) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب إرداف الرجل خلف، برقم 5967، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة برقم 30.
(5) أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا} برقم 4497.(28/179)
دخل النار (1) » . فالواجب على جميع أهل الأرض من المكلفين أن يعبدوا الله وحده، وأن يقولوا: لا إله إلا الله، وأن يشهدوا أن محمدا رسول الله، وأن يخصوا الله بدعائهم وخوفهم ورجائهم واستغاثتهم وصومهم وصلاتهم وسائر عباداتهم، وهكذا طوافهم بالكعبة يطوفون بالكعبة تقربا إلى الله وعبادة له وحده سبحانه وتعالى، وأن يحذروا دعوة غير الله بأصحاب القبور أو بالأصنام أو الأنبياء أو غير ذلك، فالعبادة حق الله وحده، لا يجوز لأحد أن يصرفها لغيره سبحانه وتعالى، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، الصلاة عبادة، والصوم عبادة، والصدقة عبادة، والحج عبادة، وخوف الله عبادة، ورجاؤه عبادة، والنذر عبادة، والذبح عبادة، وهكذا لا يستغيث إلا بالله، ولا يطلب المدد إلا من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه خالقه وربه ومعبوده هو الحق سبحانه وتعالى، وقد بعث الله الرسل كلهم بذلك من أولهم إلى آخرهم من
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، برقم 93.(28/180)
أولهم نوح إلى آخرهم محمد عليهم أفضل الصلاة والسلام، كلهم يدعون الناس إلى توحيد الله كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) .
وكان صلى الله عليه وسلم يقول لأهل مكة: «يا قوم قولوا لا إله إلا الله تفلحوا (3) » هذا هو الواجب على جميع المكلفين من الرجال والنساء، من العجم والعرب، من الجن والإنس، في جميع أرض الله، يجب عليهم أن يعبدوا الله وحده، وأن يقولوا: لا إله إلا الله، وأن يخصوه بالعبادة سبحانه وتعالى، وألا يعبدوا معه سواه لا صنما ولا نبيا ولا ملكا ولا جنيا ولا شجرا ولا غير ذلك، العبادة حق الله وحده: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (4) هذا هو الواجب على جميع المكلفين من جن وإنس، من عرب وعجم
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25
(3) أخرجه الإمام أحمد، في مسند المكيين، حديث ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه برقم 15593 بلفظ: '' يا أيها الناس. . . ''، وابن حبان 14\6562
(4) سورة الإسراء الآية 23(28/181)
من ذكور وإناث من ملوك وعامة، يجب على الجميع أن يعبدوا الله وحده، وأن يخصوه بدعائهم وخوفهم ورجائهم وتوكلهم واستغاثاتهم ونذورهم وذبحهم وصلاتهم وصومهم ونحو ذلك، كما قال عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (1) {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (4) .
لكن خوف الإنسان ما يضره واتخاذ الأسباب غير داخل في العبادة، خوفه من اللص حتى يغلق الباب ويتخذ الحرس لا حرج في ذلك كما قال الله عن موسى لما خاف فرعون قال: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} (5) خائف من شر فرعون، وخوف الأمور الحسية، وخوف الظلمة واتخاذ الأسباب هذا غير داخل في العبادة،
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة الفاتحة الآية 5
(4) سورة البينة الآية 5
(5) سورة القصص الآية 21(28/182)
فإذا خاف من اللصوص وأغلق بابه وجعل حارسا على ماله، أو خاف حين سفره من اللصوص أو قطاع الطريق وحمل السلاح وسلك الطريق الآمنة، كل هذا لا بأس به، وهكذا إذا خاف الجوع أكل وإذا خاف الظمأ شرب، وإذا خاف البرد لبس ما يدفئه وما أشبه ذلك من الأمور الحسية المعروفة لا حرج في ذلك، وهكذا إذا استعان بأخيه في مزرعته، في إصلاح سيارته، في بناء بيته، هذه أمور عادية غير داخلة في العبادة، كما قال تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (1) لموسى، هذه أمور عادية يقدر عليها المخلوق، التصرف مع المخلوق الحي الحاضر في أشياء يقدر عليها من تعاون في بناء، في مزرعة، في جهاد، وغر ذلك هذا غير داخل فيما يتعلق بالعبادة. لكن دعاء الميت، دعاء الشجر، دعاء الصنم، دعاء الجن، دعاء الملائكة، دعاء الأنبياء؛ ليستغيث بهم هذا هو الشرك الأكبر، أو دعاء الحي في أمور لا يقدر عليها، يعتقد فيه أن له تصرفا في الكون، كما يفعل بعض الصوفية مع مشايخهم يدعونهم مع الله
__________
(1) سورة القصص الآية 15(28/183)
ويعتقدون أن لهم تصرفا في الكون، فإن لهم سرا يستطيعون معه أن يعلموا الغيب أو ينفعوا الناس بما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، هذه أمور شركية حتى مع الأحياء، نسأل الله السلامة.(28/184)
7 - التوحيد أصل الدين وأساس الملة
س: سماحة الشيخ: أرجو بيان أهمية التوحيد، وبيان ذلك خصوصا وقد زهد كثير من الشباب فيه وفقكم الله؟ (1)
ج: معرفة التوحيد هي أصل الأصول وأصل الدين كما تقدم، أصل الدين أن تعلم معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، هذا هو أعظم واجب، وهو أول شيء دعت إليه الرسل ودعا إليه نبينا عليه الصلاة والسلام، تفقيه الناس بالشهادتين، وأن يخلعوا الأوثان والأصنام، وأن يعبدوا الله وحده.
هذا أول شيء دعت إليه الرسل، وهذا هو الواجب على كل مسلم مكلف: وأن يوحد الله، وأن يخصه بالعبادة قبل كل
__________
(1) من ضمن الأسئلة المطروحة على سماحته بعد المحاضرة التي ألقاها في جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض.(28/184)
شيء، كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (1) ، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (2) ، وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (3) ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (4) .
فالواجب على كل مكلف: أن يتفقه في الدين، وأن يخص الله بالعبادة، وأن يعرف معنى (لا إله إلا الله) ، ومعنى شهادة (أن محمدا رسول الله) ، وأن معنى الأولى: توحيد الله والإخلاص له، وصرف العبادة له دون كل ما سواه، والإيمان بأن هذا هو الحق، وهو أصل الدين وأساس الملة، كما قال الله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} (5) مع الإيمان برسول الله وأنه رسول حقا، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب،
__________
(1) سورة محمد الآية 19
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة النساء الآية 36
(4) سورة النحل الآية 36
(5) سورة لقمان الآية 30(28/185)
وأن الواجب اتباعه والسير على منهاجه، وأن الأعمال لا تقبل إلا بالأمرين: الإخلاص لله، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.(28/186)
8 - توحيد الربوبية
أنكره شواذ لا عبرة بهم
س: الشيوعيون والملاحدة في عصرنا ينكرون وجود الله، ألا يعتبر هذا إنكارا لتوحيد الربوبية، خلاف ما قاله بعض أهل العلم، بأن أحدا من الكفار لم ينكر توحيد الربوبية؟ (1)
ج: ذكر العلماء أن توحيد الربوبية أمر معترف به عند الأمم، وإنما أنكره شواذ من الناس لا عبرة بهم، منهم المجوس حيث قالوا: إن هناك إلهين: النور والظلمة، وأن النور أعظم من الظلمة، وأنه خلق الخير، وأن الظلمة خالقة الشر، وأما إنكار الآلهة بالكلية فهذا قد قاله مكابرة فرعون، وهكذا الفلاسفة الأقدمون.
والملاحدة معروفون بأنهم يرون الأفلاك آلهة، وأن لها حركتها المعروفة، لكن جمهور المشركين وعامتهم يقرون بالرب،
__________
(1) نشر في (مجلة الدعوة) العدد (1648) بتاريخ 8 ربيع الأول 1419 هـ.(28/186)
وأن هناك ربا خلق ورزق وهو في العلو، وإنما تقربوا إليه بما فعلوا من الشركيات.
وكفار قريش أنكروا المعاد، وهم يقرون بأن الله ربهم وخالقهم، ولكنهم أشركوا في العبادة وأنكروا المعاد، وقالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} (1) ، وأنكروا الجنة والنار، فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إليهم وإلى غيرهم من الجن والإنس بإرشادهم إلى الحق، وإنكار ما هم عليه من الباطل، فاتبعه من أراد الله له السعادة، وكفر به الأكثرون كغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (2) ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (3) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سورة الجاثية الآية 24
(2) سورة يوسف الآية 103
(3) سورة سبأ الآية 20(28/187)
9 - لا تزهدوا في الحق لقلة السالكين ولا تغتروا بالباطل لكثرة الهالكين (1)
إن التقوى كلمة جامعة تجمع الخير كله وحقيقتها أداء ما أوجب الله، واجتناب ما حرمه الله على وجه الإخلاص له والمحبة والرغبة في ثوابه والحذر من عقابه، وقد أمر الله عباده بالتقوى ووعدهم عليها بتيسير الأمور وتفريج الكروب وتسهيل الرزق وغفران السيئات والفوز بالجنات. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (2) ، وقال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (3) .
فيا معشر المسلمين راقبوا الله سبحانه وبادروا إلى التقوى في جميع الحالات، وحاسبوا أنفسكم في جميع أقوالكم وأعمالكم ومعاملاتكم، وتداركوا أنفسكم وتوبوا إلى ربكم، وتفقهوا في دينكم، وبادروا إلى أداء ما أوجب عليكم واجتنبوا ما حرم الله
__________
(1) نشرت في جريدة الندوة، العدد (12033) بتاريخ 8 \ 2 \ 1419 هـ.
(2) سورة الحج الآية 1
(3) سورة القلم الآية 34(28/188)
لتفوزوا بالعز والأمن والهداية والسعادة في الدنيا والآخرة، واحذروا من الانكباب على الدنيا وإيثارها على الآخرة.
قال بعض السلف رحمهم الله: لا تزهد في الحق لقلة السالكين ولا تغتر بالباطل لكثره الهالكين.
وأوصي إخواني المسلمين بخمسة أمور:
الأول: الإخلاص لله وحده في جميع القربات القولية والعملية والحذر من الشرك كله دقيقه وجليله، وهذا أوجب الواجبات وأهم الأمور.
الثاني: التفقه في القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم والتمسك بهما وسؤال أهل العلم عن كل ما أشكل عليكم في أمر دينكم، والحذر من اتباع الهوى، وعليكم بالتمسك بالحق والدعوة إليه والحذر مما خالفه للفوز بخيري الدنيا والآخرة.
الثالث: إقامة الصلوات الخمس والمحافظة عليها في الجماعة، فإنها من أهم الواجبات وأعظمها بعد الشهادتين، وهي عمود الدين والركن الثاني من أركان الإسلام، وهي أول شيء يحاسب عليه العبد من عمله يوم القيامة.(28/189)
الرابع: العناية بالزكاة والحرص على أدائها كما أوجب الله، وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز يعذب به صاحبه يوم القيامة، أما غير المكلف من المسلمين كالصغير والمجنون فالواجب على وليه العناية بإخراج زكاة ماله كلما حال عليه الحول؛ لعموم الأدلة من الكتاب والسنة، والدالة على وجوب الزكاة في مال المسلم مكلفا كان أو غير مكلف.
الخامس: يجب على كل مكلف من المسلمين أن يطيع الله ورسوله في كل ما أمر الله ورسوله، كصيام رمضان وحج البيت مع الاستطاعة وسائر ما أمر الله به ورسوله، وأن يعظم حرمات الله، ويتفكر فيما خلق لأجله وأمر به، ويحاسب نفسه في ذلك دائما، فإن كان قد قام بما أوجب عليه فرح بذلك وحمد الله عليه وسأله الثبات، وأخذ حذره من الكبر والعجب وتزكية النفس، وإن كان قد قصر فيما أوجب الله عليه بادر إلى التوبة الصادقة والندم والاستقامة على أمر الله، والإكثار من الذكر والاستغفار والضراعة إلى الله سبحانه وسؤاله، والتوبة من سالف الذنوب والتوفيق لصالح(28/190)
القول والعمل، ومتى وفق العبد لهذا الأمر العظيم فذلك عنوان سعادته ونجاته في الدنيا والآخرة.
فاتقوا الله عباد الله وعظموا أمره ونهيه وبادروا بالتوبة إليه من جميع ذنوبكم، واعتمدوا عليه وحده وتوكلوا عليه فإنه خالق الخلق ورازقهم، ونواصيهم بيده سبحانه، لا يملك أحدهم لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.
قدموا - رحمكم الله - حق ربكم وحق رسوله على حق غيره، وطاعة غيره كائنا من كان، وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، وأحسنوا الظن بالله وأكثروا من ذكره واستغفاره، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.(28/191)
10 - بيان اشتداد غربة الإسلام في آخر الزمان
س: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل «يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي الرجل مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل (1) » ما المقصود بالكفر في الحديث وكيف يكون بيع الدين؟ (2)
ج: لقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم (3) » بادروا بالأعمال يعني الصالحة «فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مسلما ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا، ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل (4) » المعنى أن الغربة في الإسلام تشتد حتى يصبح المؤمن مسلما، ثم يمسي كافرا، وبالعكس يمسي مؤمنا، ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا، وذلك بأن يتكلم بالكفر، أو يعمل به من أجل الدنيا، فيصبح مؤمنا ويأتيه من يقول له: تسب الله
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (118) ، سنن الترمذي الفتن (2195) ، مسند أحمد (2/304) .
(2) من أسئلة حج عام 1415 هـ، شريط 49\ 9.
(3) صحيح مسلم الإيمان (118) ، سنن الترمذي الفتن (2195) ، مسند أحمد (2/390) .
(4) أخرجه مسلم كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال برقم 118.(28/192)
وتسب الرسول، تدع الصلاة ونعطيك كذا وكذا، تستحل الزنا، تستحل الخمر، ونعطيك كذا وكذا، فيبيع دينه بعرض من الدنيا، ويصبح كافرا، أو يمسي كذلك أو يقولوا: لا تكن مع المؤمنين نعطيك كذا وكذا لتكون مع الكافرين، فيغريه بأن يكون مع الكافرين وفي حزب الكافرين، وفي أنصارهم، حتى يعطيه المال الكثير، فيكون وليا للكافرين، وعدوا للمؤمنين، وأنواع الردة كثيرة جدا، وغالبا ما يكون ذلك بسبب الدنيا، حب الدنيا وإيثارها على الآخرة، لهذا قال: «يبيع دينه بعرض من الدنيا (1) » وفي لفظ آخر: «بادروا بالأعمال الصالحة، هل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا، أو موتا مجهزا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو الدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر (2) » المؤمن يبادر بالأعمال، يحذر قد يبتلى بالموت العاجل، موت الفجأة، قد يبتلى بمرض يفسد عليه قوته، فلا يستطيع العمل، يبتلى بهرم، يبتلى بأشياء أخرى، على الإنسان أن يغتنم حياته وصحته
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (118) ، سنن الترمذي الفتن (2195) ، مسند أحمد (2/390) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في المبادرة بالعمل برقم 2306.(28/193)
وعقله، بالأعمال الصالحات، قبل أن يحال بينه وبين ذلك تارة بأسباب يبتلى بها، من مرض وغيره، وتارة بالطمع في الدنيا، وحب الدنيا، وإيثارها على الآخرة، وتزيينها من أعداء الله، والدعاة إلى الكفر والضلال.(28/194)
11 - كلمة عن الأدب مع الله سبحانه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هداه أما بعد (1) :
فيسرنا أن نستضيف في بداية هذه الحلقة سماحة والدنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية والرئيس العام لرئاسة البحوث العلمية والإفتاء، ليحدثنا عن الأدب مع الله سبحانه وتعالى: مظاهره الحسنة، وما يناقضه من مظاهر سوء الأدب مع الله جل وعلا.
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
__________
(1) لقاء قناة (اقرأ) مع سماحته بتاريخ 26\10\ 1419هـ.(28/194)
فإن الواجب على جميع المكلفين هو التأدب مع الله، وذلك بإخلاص العبادة له، وترك عبادة ما سواه، والإيمان به، وبكل ما أخبر به سبحانه في كتابه العظيم، على لسان رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، عن أسمائه وصفاته وعن الآخرة، والجنة والنار والحساب والجزاء وغير ذلك، يجب على كل مكلف أن يؤمن بالله، وأن يخصه بالعبادة، وألا يشرك به شيئا سبحانه وتعالى، فأعظم الأدب توحيد الله، والإخلاص له، وأعظم سوء الأدب، الشرك بالله وصرف بعض العبادة لغيره سبحانه وتعالى، يقول الله جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) ، ويقول سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) ، ويقول سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (3) ، ويقول: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (4) . فأعظم الأدب وأهمه وأوجبه: إخلاص العبادة لله
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة النحل الآية 36(28/195)
وحده، وترك عبادة ما سواه، وأن يخص بالعبادة، من دعاء وخوف ورجاء وتوكل، ورغبة ورهبة وذبح ونذر، واستغاثة وغير ذلك، كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) .
وبهذا يعلم أن ما يفعله الجهلة من دعاء الأموات والاستغاثة بالأموات، والنذر لهم والذبح لهم، أن هذا هو الشرك الأكبر، هذا هو عبادة غير الله، وهذا داخل في قوله جل وعلا: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) ، وفي قوله سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (4) ، وفي قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5) ، وفي قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (6) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة الأنعام الآية 88
(4) سورة المائدة الآية 72
(5) سورة الزمر الآية 65
(6) سورة النساء الآية 48(28/196)
فالواجب: تخليص العبادة لله وحده، وأن يخص بالعبادة من دعاء وخوف، ورجاء، وتوكل، وذبح، ونذر، وغير هذا كله لله وحده، والله يقول جل وعلا: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) ويقول جل وعلا: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (2) يعني من المشركين، فالواجب على جميع المكلفين أن يخصوا الله بالدعاء، وبسائر أنواع العبادة، ومن الأدب مع الله الإيمان بأسمائه وصفاته، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (3) ، وأن تثبت أسماؤه وصفاته كما جاءت في كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يوصف بها على الوجه اللائق بالله، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف، ولا تمثيل، بل يجب إثباتها لله، كما جاءت في القرآن، والسنة الصحيحة، على الوجه اللائق بالله، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، كالاستواء والنزول، والضحك والرضا، والغضب ونحو ذلك، يجب إثباتها لله، وأنه
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة يونس الآية 106
(3) سورة الأعراف الآية 180(28/197)
سبحانه قد استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، لا يشابه خلقه في استوائهم، كما أنه سبحانه يرضى ويغضب، ويرحم ويعطي ويمنع ويضحك، يرحم عباده جل وعلا، ويتكلم، كل ذلك على الوجه اللائق به، لا يشبه كلام عباده، ولا يشبه صفات عباده، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) ، ويقول سبحانه: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) .
فدعاء غير الله من الأموات، أو الأصنام أو الكواكب أو الجن سوء أدب مع الله، وكفر به سبحانه وتعالى، وهكذا تأويل صفاته، كله من سوء الأدب مع الله، وهكذا سوء الظن به جل وعلا، كله من سوء الأدب مع الله، فالواجب على الجميع حسن الظن بالله، والاستقامة على دينه، وإخلاص العبادة له سبحانه وتعالى، والإيمان بأسمائه وصفاته، وبكل ما خبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا هو الواجب على الجميع، وعلى الجميع اتباع القرآن الكريم، والتمسك به، والحذر مما يخالفه، مع اتباع السنة
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة النحل الآية 74(28/198)
وتعظيمها، هذا هو الواجب على الجميع، اتباع القرآن والسنة وتعظيمهما، والحذر مما يخالفهما.
نسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا للفقه في كتابه، وسنة نبيه، والاستقامة على دينه، والحذر من كل ما يخالف شرعه، إنه سبحانه وتعالى سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان.(28/199)
12 - حكم الاحتجاج على ترك الأسباب بحديث السبعين ألفا
س: هناك من يحتج على ترك الأسباب بحديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فما هو الرد عليهم؟ (1)
ج: هؤلاء السبعون ما تركوا الأسباب، إنما تركوا شيئين وهما: الاسترقاء والكي، والاسترقاء: هو طلب الرقية من الناس.
__________
(1) نشر في مجلة البحوث الإسلامية، العدد 46 لعام 1416 هـ.(28/199)
وهذا الحديث يدل على أن ترك الطلب أفضل وهكذا ترك الكي أفضل، لكن عند الحاجة إليهما لا بأس بالاسترقاء والكي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة أن تسترقي من مرض أصابها، وأمر أم أولاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وهي أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن تسترقي لهم، فدل ذلك على أنه لا حرج في ذلك عند الحاجة إلى الاسترقاء، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: «الشفاء في ثلاث: كية نار، أو شرطة محجم، أو شربة عسل، وما أحب أن أكتوي (1) » وقد كوى عليه الصلاة والسلام بعض أصحابه لما دعت الحاجة إلى الكي؛ لأنه سبب مباح عند الحاجة إليه، والاسترقاء: طلب الرقية، أما إن رقي من دون سؤال فهو من الأسباب المباحة كالأدوية المباحة من إبر وحبوب وشراب وغير ذلك، أما الطيرة المذكورة في حديث السبعين فهي التشاؤم ببعض المرئيات أو المسموعات وهي محرمة، ومن الشرك الأصغر إذا ردت المتشائم عن حاجته؛ لقول الله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الشفاء في ثلاث برقم 5681.
(2) سورة الأنفال الآية 2(28/200)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم أيضا: «الطيرة شرك الطيرة شرك (2) » وقوله صلى الله عليه وسلم لما ذكرت عنده الطيرة: «أحسنها الفأل ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك (3) » وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك " قالوا: فما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: " أن تقول اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك (4) » رواه أحمد، فعلم مما ذكرنا من الأدلة أن التوكل لا يمنع تعاطي الأسباب، فالإنسان يأكل ويشرب، فالأكل سبب للشبع
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب لا عدوى برقم 5772، ومسلم في كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة برقم 2222.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في الطيرة برقم 3910.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب الطيرة، برقم 3919.
(4) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم 7005.(28/201)
ولقوام هذا البدن وسلامته، وهكذا الشرب، ولا يجوز للإنسان أن يقول: أنا لا آكل ولا أشرب، وأتوكل على الله في حياتي، وأبقى صحيحا سليما، فهذا لا يقوله عاقل، وهكذا يلبس الثياب الثقيلة في الشتاء للدفء؛ لأنه يضره البرد، وهكذا يتعاطى الأسباب الأخرى من إغلاق الباب حذرا من السراق، ويحمل السلاح عند الحاجة، وكل هذه أسباب مأمور بها الإنسان، والنبي صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين، في أحد لبس السلاح وفي بدر كذلك، وفي أحد ظاهر بين درعين ولبس اللامة، وعليه المغفر حين دخل مكة، وكل هذه أسباب فعلها صلى الله عليه وسلم، وهكذا أصحابه رضي الله عنهم.(28/202)
13 - مصير من لم تبلغه دعوة دين الإسلام
س: ما مصير من لا يعلم بأن دين الإسلام هو الدين الصحيح، والمقبول عند الله، ويعتقد دينا غير الإسلام؟ (1) .
ج: إذا كان المسئول عنه عاش بين المسلمين، وقد بلغه القرآن والسنة، ومع ذلك يعتقد دينا غير دين الإسلام فحكمه
__________
(1) نشر في (جريدة المسلمون) العدد (711) 28 جمادى الأولى 1419هـ(28/202)
حكم أهل الدين الذي اعتقده وهو الكفر، لأن الله جل وعلا يقول في القرآن الكريم عن نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (1) ، ويقول سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} (2) ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أهل النار (3) » .
أما إن كان المسئول عنه قد عاش بين الكافرين الذين لم يبلغهم القرآن، ولا خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا حكمه حكم أهل الفترة، وهم يمتحنون يوم القيامة، فمن نجح في الامتحان دخل الجنة ومن عصى دخل النار؛ لأن الله سبحانه يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (4) والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 19
(2) سورة إبراهيم الآية 52
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم برقم 153.
(4) سورة الإسراء الآية 15(28/203)
14 - حكم من اكتفى بقول لا إله إلا الله دون العمل بمقتضاها
س: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، هل هذا حديث، وما معناه؟ وهل يكتفي الإنسان بقول: لا إله إلا الله دون العمل بمقتضاها؟ (1) .
ج: جاء في ذلك أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن من قال: لا إله إلا الله صدقا من قلبه دخل الجنة، وفي بعضها خالصا من قلبه، وفي بعضها: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله (2) » وفي بعضها يقول عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة
__________
(1) نشر في (جريدة المسلمون) العدد (711) بتاريخ 28 جمادى الأولى 1419 هـ.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} برقم 25، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله برقم 21.(28/204)
ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله (1) » .
والأحاديث كلها يفسر بعضها بعضا، والمعنى أن من قال: لا إله إلا الله صادقا من قلبه مخلصا لله وحده، وأدى حقها بفعل ما أمر الله، وترك ما حرم الله، ومات على ذلك دخل الجنة، وعصم دمه وماله حال حياته، إلا بحق الإسلام.
فالواجب على جميع المسلمين أن يتقوا الله ويخلصوا له العبادة، وأن يؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله إلى جميع الثقلين، الجن والإنس، وأنه خاتم الأنبياء ليس بعده نبي، وعليهم مع ذلك أن يؤدوا فرائض الله، وأن يدركوا محارم الله، وأن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يتواصوا بالحق والصبر عليه، وأن يتبرءوا من كل ما يخالف ذلك من جميع أديان المشركين. فمن مات على ذلك دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، ومن أتى شيئا
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} برقم 25، ومسلم كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله برقم 22.(28/205)
من المعاصي كالزنا وشرب الخمر وأكل الربا وعقوق الوالدين وغير ذلك من المعاصي، ومات على ذلك ولم يتب فهو تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفر له فضلا منه وإحسانا من أجل توحيده وإيمانه بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وسلامته من الشرك، وإن شاء عذبه على قدر المعاصي التي مات عليها، ثم يخرجه الله من النار، بعد التطهير والتمحيص ويدخله الجنة؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) فأخبر سبحانه أنه لا يغفر الشرك لمن مات عليه، وأما ما دونه فهو معلق بمشيئة الله، فقد يعفو له سبحانه عنه فضلا ورحمة منه بدون شفاعة أحد، وقد يغفر له سبحانه بشفاعة الأنبياء والصالحين والأفراط وغيرهم ممن يأذن الله لهم بالشفاعة من المؤمنين كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (2) ، وقال سبحانه في حق الملائكة: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (3) وقال عز وجل:
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة البقرة الآية 255
(3) سورة الأنبياء الآية 28(28/206)
{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (1) وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يشفع يوم القيامة لكثير من العصاة من أمته الذين دخلوا النار بذنوبهم، عدة شفاعات، فيحد الله له حدا في كل شفاعة، فيخرجهم من النار، وتشفع الملائكة، والأنبياء والصالحون والأفراط، بعد إذنه سبحانه لهم، ويبقى في النار بقية من العصاة لم تشملهم الشفاعة، فيخرجهم الله سبحانه من النار بفضله ورحمته، ولا يبقى في النار إلا الكفار، فإنهم يخلدون فيها أبد الآباد، كما قال الله عز وجل في حقهم: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (2) وقال سبحانه في حقهم: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (3) ، وقال سبحانه في حقهم: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} (4) .
__________
(1) سورة النجم الآية 26
(2) سورة البقرة الآية 167
(3) سورة المائدة الآية 37
(4) سورة الإسراء الآية 97(28/207)
وقال عز وجل في حقهم: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} (1) ، وقال سبحانه وتعالى في حقهم أيضا: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (2) {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} (3) فيرد عليهم سبحانه بقوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} (4) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهذا الذي ذكرناه هو قول أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، نسأل الله أن يجعلنا منهم، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة النبأ الآية 30
(2) سورة فاطر الآية 36
(3) سورة فاطر الآية 37
(4) سورة فاطر الآية 37(28/208)
15 - شهادة أن لا إله إلا الله تقتضي القول والعمل
س: هل " لا إله إلا الله " قول باللسان أو قول يحتاج إلى عمل؟ (1) .
ج: هذه الكلمة هي أعظم الكلام الذي يتكلم به الناس وأفضل الكلام، وهي قول وعمل، ولا يكفي مجرد القول، ولو كفى مجرد القول لكان المنافقون مسلمين؛ لأنهم يقولونها، وهم مع هذا كفار، بل في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم يقولونها باللسان من دون عقيدة ولا إيمان، فلا بد من قولها باللسان مع اعتقاد القلب وإيمان القلب بأنه لا معبود حق إلا الله.
ولا بد أيضا من أداء حقها بأداء الفرائض، وترك المحارم؛ لأن هذا من حق لا إله إلا الله، قال عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله (2) » .
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) الشريط الرابع عشر.
(2) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .(28/209)
وفي لفظ آخر: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل (1) » متفق على صحته.
فالحاصل أنه لا بد من قول مع يقين، ومع علم ومع عمل، لا مجرد القول باللسان، فإن اليهود يقولونها، والمنافقون يقولونها، ولكن لا تنفعهم؛ لما لم يحققوها بالعمل والعقيدة، فلا بد من العقيدة بأنه لا معبود بحق إلا الله، وأن ما عبده الناس من أصنام ومن أشجار أو أحجار أو قبور أو أنبياء أو ملائكة أو غيرهم فإنه باطل، وأن هذا شرك بالله عز وجل، والإيمان حق لله وحده، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها: لا معبود حق إلا الله، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} (2) ، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (3) ، وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (4)
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (21) ، سنن ابن ماجه الفتن (3927) .
(2) سورة لقمان الآية 30
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة الفاتحة الآية 5(28/210)
وقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) ، وقال سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (2) ، وقال عليه الصلاة والسلام: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه (3) » ، وفي لفظ آخر عند مسلم: «من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه (4) » . فدل على أنه لا بد من التوحيد والإخلاص لله.
ولما بعثا النبي صلى الله عليه وسلم معاذا رضي الله عنه إلى اليمن معلما ومرشدا وأميرا وقائدا، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ادعهم إلى أن يوحدوا الله (5) » ، وفي لفظ آخر: «ادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة الزمر الآية 2
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، برقم 23.
(4) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، برقم 23.
(5) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم برقم 7372.(28/211)
تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم. . . (1) » الحديث.
فالخلاصة أنه لا بد من الإيمان بها قولا وعملا مع النطق، فيشهد أن لا إله إلا الله عن علم ويقين وإخلاص وصدق ومحبة لما دلت عليه من التوحيد، وانقياد لحقها وقبول لذلك، وبراءة مما عبد من دون الله تعالى. هكذا يكون الإيمان بهذه الكلمة، يقولها عن يقين وأنه لا معبود بحق إلا الله، وعن علم ليس فيه جهل ولا شك، وعن إخلاص في ذلك لا رياء ولا سمعة، وعن محبة لما دلت عليه من التوحيد والإخلاص، وعن صدق، لا كالمنافقين يقولونها باللسان ويكذبونها في الباطن.
ومع قبول لما دلت عليه من التوحيد وانقياد لذلك، ومحبة لذلك، والتزام به مع البراءة من كل ما يعبد من دون الله، والكفر بكل ما يعبد من دون الله، كما قال سبحانه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة برقم 1395، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام برقم 19.
(2) سورة البقرة الآية 256(28/212)
والكفر بالطاغوت معناه البراءة مما عبد من دون الله، واعتقاد بطلانه، وأن تتبرأ من عبادة غير الله، وتعتقد بطلان ذلك، وأن العبادة بحق هي لله وحده سبحانه وتعالى ليس له شريك في ذلك، لا ملك ولا نبي ولا شجر ولا حجر ولا ميت ولا غير ذلك.(28/213)
16 - إقامة الحجة ببيان الحق بأدلته
س: هل يشترط في إقامة الحجة على قوم أن يكون الداعية عالما مجتهدا أم يكفي أنه يعرف الحق بدليله إذا كانت المسألة من مسائل العقيدة كدعاء غير الله وعبادة القبور ونحوه؟ (1)
ج: يكفي إقامة الحجة ببيان الحق بأدلته لمن ترك الحق ونصيحته وتوجيهه للخير من أهل العلم وإن لم يكونوا مجتهدين،
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1569) بتاريخ 17 رجب 1417 هـ.(28/213)
بل يكفي كونهم يعلمون الأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يدعون إليه وفيما يأمرون به، وعلى المدعو إلى الله أن يقبل الحق، وأن يحذر التكبر والإصرار على الباطل، وإذا كانت عنده شبهة فليسأل عنها أهل العلم بأسلوب حسن وتواضع ونية صالحة، ومتى أصلح العبد النية وبذل وسعه في طلب الحق يسر الله أمره، ومنحه التوفيق كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (2) ، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (3) ، وقال عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (4) والفرقان هو النور والبصيرة والعلم النافع، وفق الله المسلمين لكل خير، وأصلح قادتهم إنه سميع قريب.
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 3
(3) سورة الطلاق الآية 4
(4) سورة الأنفال الآية 29(28/214)
17 - العذر بالجهل والتفصيل في ذلك
س: لقد أجبت يا سماحة الشيخ على أحد الأسئلة المطروحة من أحد السائلين فيما يتعلق بالعذر بالجهل، متى يعذر ومتى لا يعذر، وذكرت بأن الأمر فيه تفصيل، ومما ذكرت بأنه لا يعذر أحد بالجهل في أمور العقيدة، أقول يا سماحة الشيخ إذا مات رجل وهو لا يستغيث بالأموات، ولا يفعل مثل هذه الأمور المنهي عنها إلا أنه فعل ذلك مرة واحدة فيما أعلم، حيث استغاث بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم أن ذلك حرام وشرك، ثم حج بعد ذلك دون أن ينبهه أحد على ذلك، ودون أن يعرف الحكم فيما أظن حتى توفاه الله، وكان هذا الرجل يصلي ويستغفر الله لكنه لا يعرف أن تلك المرة التي فعلها حرام، فيا ترى هل من فعل ذلك ولو مرة واحدة، وإذا مات وهو يجهل مثل ذلك، هل يعتبر مشركا؟ نرجو التوضيح والتوجيه جزاكم الله خيرا (1) .
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) الشريط الثامن.(28/215)
ج: إن كان من ذكرته تاب إلى الله بعد المرة التي ذكرت، ورجع إليه سبحانه واستغفر من ذلك زال حكم ذلك وثبت إسلامه، أما إذا كان استمر على العقيدة التي هي الاستغاثة بغير الله، ولم يتب إلى الله من ذلك فإنه يبقى على شركه، ولو صلى وصام حتى يتوب إلى الله مما هو فيه من الشرك.
وهكذا لو أن إنسانا يسب الله ورسوله، أو يسب دين الله، أو يستهزئ بدين الله، أو بالجنة أو بالنار، فإنه لا ينفعه كونه يصلي ويصوم، إذا وجد منه الناقض من نواقض الإسلام بطلت الأعمال حتى يتوب إلى الله من ذلك هذه قاعدة مهمة، قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (3) وأم النبي صلى الله عليه وسلى ماتت في الجاهلية، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ليستغفر لها فلم يؤذن له.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 88
(2) سورة الزمر الآية 65
(3) سورة الزمر الآية 66(28/216)
وقال صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن أبيه: «إن أبي وأباك في النار (1) » وقد ماتا في الجاهلية.
والمقصود أن من مات على الشرك لا يستغفر له ولا يدعى له، ولا يتصدق عنه إلا إذا علم أنه تاب إلى الله من ذلك، هذه هي القاعدة المعروفة عند أهل العلم، والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن من مات على الكفر فهو في النار برقم 203.(28/217)
18 - حكم العذر بالجهل في العقائد
س: حكم العذر بالجهل في العقائد وغيرها؟ (1)
ج: الجهل يكون فيما يمكن خفاؤه، أما الأمور الظاهرة من الدين فلا يعذر فيها الجاهل؛ كأمور التوحيد وأمور الصلاة، لو قال: ما أعرف الصلاة وهو بين المسلمين، ما أعرف أن الصلاة مشروعة، أو ما أعرف الزكاة، أو ما أعرف الصيام ما يعذر بالجهل، أو قال: ما أعرف أن الزنا محرم ما يطاع، أو قال:
__________
(1) من أسئلة حج عام 1408 هـ، الشريط الثالث.(28/217)
ما أعرف أن اللواط محرم وهو بين المسلمين، ما يطاع، أو قال: ما أعرف أن الخمر محرم ما يطاع.
أما الذي يمكن جهله مثل بعض الصفات، صفات الله التي خفيت عليه أو ما درى أنها من صفات الله فأنكرها، ثم علم وبين له ما يكفر بذلك؛ لأن مثل هذا قد يجهل بعض الصفات أو مثل بعض حقوق النبي صلى الله عليه وسلم جهلها ما درى عن بعض الحقوق التي تخفى على العامي أو ما أشبه ذلك، أو إنسان في أطراف أمريكا أو أطراف أفريقيا في بعض المحلات البعيدة عن الإسلام، مثل هذا كأهل الفترة يبين له ولا يكفر حتى يبين له ويعلم، فإذا ما أصر على ذلك وأصر على الكفر يقتل.
الذي يتولاه مسلم أو الدولة المسلمة تحكم به عليه، والحاصل أنه يعذر بالجهل في المسائل التي قد يخفى مثلها، ويكون حكمه حكم أهل الفترات إذا لقي الله جل وعلا.
والصحيح الذي جاءت به الأحاديث أنه يمتحن يوم القيامة ضمن أهل الفترة، فإن أجاب إلى الحق دخل الجنة، ومن عصى دخل النار، وأما في الدنيا ينظر فيه إذا ظن أنه يجهل، وولي الأمر إذا أراد(28/218)
أن يقيم الحد عليه يقيم التعزير عليه إن كان مثله يجهل هذا الشيء وينبهه، لكن لا يترك الحد عليه وهو بين المسلمين ممن يخفى على المسلمين مثل ما تقدم، يقول: أنا لا أعرف أن الناس يصلون، يقول: ما أدري عن الصلاة ولا أعرف الزكاة ولا أعرف الصيام ولا أعرف الجهاد، هذا لا يطاع؛ لأن هذا من التلاعب بالدين.(28/219)
19 - توضيح الشرك الأكبر
س: نرجو من فضيلة الشيخ توضيح الشرك الأكبر أعاذنا الله وإياكم منه؟ (1)
ج: الشرك الأكبر مثل ما تقدم هو صرف بعض العبادة لغير الله كدعاء الأموات والاستغاثة بالأموات والنذر لهم والدعاء بالأصنام أو بالملائكة أو بالجن هذا الشرك الأكبر يقول: يا صاحب القبر أغثني أو انصرني أو أجرني أو أنا في حسبك
__________
(1) سؤال موجه إلى سماحته بعد الدرس الذي ألقاه في المسجد الحرام بتاريخ 27\12\ 1418هـ.(28/219)
وجوارك، أو يقول للصنم أو للجن أو الملائكة أو الأنبياء يقول لهم بعد موتهم، كل هذا شرك أكبر، نسأل الله العافية والسلامة، وهكذا لو استحل ما حرم الله كأن يقول: الزنا حلال أو الخمر حلال يكون كافرا كفرا أكبر، أو يقول: الربا حلال يكون كافرا كفرا أكبر هكذا لو أسقط ما أوجب الله واستحل إسقاط ما أوجب الله كأن يقول: الصلاة لا تجب أو صوم رمضان لا يجب على المسلمين، أو يقول: الزكاة لا تجب أو الحج لا يجب على المستطيع، يكون كافرا كفرا أكبر، نسأل الله العافية، فمن استحل ما حرم الله أو جحد ما أوجب الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة يكون كافرا ومشركا شركا أكبر وهكذا من صرف العبادة أو بعضها لغير الله من دعاء أو صلاة أو طواف أو استغاثة أو نذر للأصنام أو لأصحاب القبور أو للجن أو للملائكة أو للكواكب كله شرك أكبر نسأل الله العافية.(28/220)
20 - حكم سب الدين
س: المرأة المسلمة إذا سبت زوجها أو دين زوجها هل تصبح طالقا في الشرع كما نسمع من أكثر الناس؟ أفيدونا أفادكم الله (1) .
ج: إذا سبت المرأة زوجها لا تكون طالقا، ولكن عليها التوبة إلى الله واستسماح زوجها، فإذا سمح عنها فلا بأس، وإذا سبها كما سبته قصاصا لا يزيد على ذلك فلا بأس أيضا، وإن سمح عنها فهو أفضل؛ لأن الله يقول: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (2) .
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا (3) » أما سبها لدين زوجها المسلم فهو كفر أكبر، يجب عليها المبادرة بالتوبة من ذلك، نسأل الله السلامة والعافية من ذلك.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1544، بتاريخ 20\1\ 1417 هـ.
(2) سورة البقرة الآية 237
(3) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب العفو والتواضع برقم 2588.(28/221)
21 - حكم قضاء المرتد للعبادات بعد عودته للإسلام
س: إذا ارتد مسلم عن دينه سنوات عديدة ثم رجع إلى الإسلام مرة أخرى فهل عليه قضاء الصوم والصلوات المكتوبة التي تركها خلال الردة؟ (1)
ج: إذا ارتد المسلم عن الإسلام نعوذ بالله من ذلك، ثم من الله عليه بالتوبة فليس عليه قضاء ما ترك من صلاة وصوم زمن الردة؛ لقول الله سبحانه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يهدم ما كان قبله، والتوبة تهدم ما كان قبلها (3) » وهذا هو أصح أقوال
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، العدد الثاني، السنة السابعة عام 1394 هـ.
(2) سورة الأنفال الآية 38
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهم ما قبله برقم 121 بلفظ: '' أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ''.(28/222)
أهل العلم للآية المذكورة والحديث المذكور وما جاء في معنى ذلك؛ ولأن الصحابة رضي الله عنهم لم يأمروا من أسلم من المرتدين في زمن أبى بكر الصديق رضي الله عنه وغيره بقضاء ما تركوا من الصلاة والصوم، وهم أعلم الناس بشريعة الله بعد نبيهم عليه الصلاة والسلام، ولأن في إلزامه بقضاء ما ترك من الصلاة والصوم تنفيرا له من العودة إلى الإسلام، وهكذا الزكاة لا يقضي ما ترك منها؛ لأنها إنما تصح من المسلم، ولا يطالب بها سواه فهي كالصلاة والصوم.(28/223)
22 - حكم تسمية الشرك الأكبر أصغر
س: ما حكم من يسمي الشرك الأكبر أصغر إذا كان لا يصحبه اعتقاد ونية مثل دعاء غير الله؟ (1)
ج: الشرك الأكبر ما يسمى أصغر، والأصغر لا يسمى أكبر، كل له حده، فالشرك الأكبر له شأن والأصغر له شأن، فدعاء الأموات والاستغاثة بالأموات والنذر للأموات أو للكواكب
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407 هـ، الشريط رقم 10.(28/223)
أو للأصنام والذبح لها هذا شرك أكبر لا يسمى أصغر، هذا شرك المشركين أبي جهل وأصحابه هذا الشرك الأكبر نعوذ بالله، فالذي يدعو البدوي أو يدعو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو يدعو الحسين بن علي أو الحسن بن علي أو فاطمة، أو يدعو العيدروس أو يدعو الشيخ عبد القادر الجيلاني أو غيرهم، أو يطوف بقبورهم يرجو شفاعتهم أو ما أشبه ذلك، هذا العمل شرك أكبر، وهذه عبادة الأوثان نعوذ بالله، وهذه عبادة أبي جهل وأشباهه من أهل مكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الشرك الأصغر مثل والنبي، وبالنبي، والكعبة، وما شاء الله وشاء فلان، لولا الله وفلان، هذا هو الشرك الأصغر، وإذا حلف بالنبي أو الأمانة أو بفلان بقصد أن النبي مثل الله يعظم أو أن عليا مثل الله صار هذا شركا أكبر نعوذ بالله.
ومصيبة التعلق بالأموات في غالب البلاد مصيبة كبرى عظيمة يجب التنبه لها من إخواننا الحجاج وغيرهم، ويجب على العلماء التنبه لها أيضا؛ لأنها أعظم المصائب، وأعظم الذنوب، فالشرك من أعظم الجرائم كما قال الله عز وجل:(28/224)
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) ، وقال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) ، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (3) ، فالواجب على أهل العلم وعلى طلبة العلم وعلى كل مسلم أن يهتم بهذا الأمر، ولا سيما إذا كان في بلاد يقع فيها هذا الأمر، كمصر والشام والعراق وأشباههم، يجب أن يهتم بهذا، وأن ينصح إخوانه، ينصح من يفعل هذا ويحذرهم من هذا الشرك الوخيم، ويبن لهم أن هذا يناقض قول لا إله إلا الله ويخالفها والله المستعان.
__________
(1) سورة النساء الآية 116
(2) سورة الأنعام الآية 88
(3) سورة المائدة الآية 72(28/225)
23 - التفصيل في لفظ الكفر
س: الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن السلف الصالح بأن الكفر كفران فما هما؟ (1)
__________
(1) من أسئلة حج عام 1415 هـ، الشريط رقم 49 \ 7.(28/225)
ج: الكفر كفران، كفر دون كفر، وكفر أكبر كترك الصلاة، فإنه كفر أكبر؛ أما النياحة على الميت والطعن في الأنساب فهو كفر أصغر، والحلف بغير الله كفر أصغر، والنياحة على الميت كفر أصغر وعليها كلها أدلتها.(28/226)
24 - مسألة في البراءة من المشركين واعتقاد كفرهم
س: سمعت مؤخرا أن من لم يكفر الكافر أو يشك في كفره فهو كافر، كما أن من يشك في كفر تارك الصلاة أو المستهزئ بحد من حدود الله فهو كافر، فهل هذا صحيح؟ (1) ؟
ج: قد دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على وجوب البراءة من المشركين واعتقاد كفرهم متى علم المؤمن ذلك، واتضح له كفرهم وضلالهم.
كما قال الله عز وجل في كتابه العظيم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} (2) {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} (3) {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (4) .
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) الشريط الخامس عشر.
(2) سورة الزخرف الآية 26
(3) سورة الزخرف الآية 27
(4) سورة الزخرف الآية 28(28/226)
أي لعلهم يرجعون إليها في تكفير المشركين والبراعة منهم، والإيمان بأن الله هو معبودهم الحق سبحانه وتعالى. وقال عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (1) وهذا هو دين إبراهيم وملة إبراهيم والأنبياء جميعا. البراعة من عابد غير الله، واعتقاد كفرهم وضلالهم حتى يؤمنوا بالله وحده سبحانه وتعالى.
فالواجب على المسلم أن يتبرأ من عابد غير الله، وأن يعتقد كفرهم وضلالهم حتى يؤمنوا بالله وحده سبحانه، كما حكى الله عن إبراهيم والأنبياء جميعا، وهكذا فوله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} (2) .
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 4
(2) سورة البقرة الآية 256(28/227)
والكفر بالطاغوت معناه البراءة من عبادة غير الله واعتقاد بطلانها، وأن الواجب على كل مكلف أن يعبد الله وحده، وأن يؤمن به، وأن يعتقد أن الله وحده هو المستحق للعبادة، وأن ما عبده الناس من دون الله من أصنام وأشجار وأحجار أو جن أو ملائكة أو غير ذلك فإنه معبود بالباطل.
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (1) فالمؤمن إذا علم أن فلانا يعبد غير الله وجب عليه البراءة منه واعتقاد بطلان ما هو عليه، وتكفيره بذلك إذا كان ممن بلغته الحجة، أي كان بين المسلمين، أو علم أنه بلغته الحجة، كما قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (2) ،
__________
(1) سورة الحج الآية 62
(2) سورة الأنعام الآية 19(28/228)
وقال تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} (1) .
فالله أوحى القرآن لنبيه عليه السلام وجعله بلاغا للناس، فمن بلغه القرآن أو السنة ولم يرجع عن كفره وضلاله وجب اعتقاد بطلان ما هو عليه وكفره.
ومن هذا الحديث الصحيح وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الآمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بما أرسلت به إلا كان من أهل النار (2) » أخرجه مسلم في صحيحه.
فبين عليه الصلاة والسلام أن كل إنسان متى بلغه ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم ثم مات ولم يؤمن به صار من أهل النار؛ أي صار كافرا من أهل النار؛ لكونه لم يستجب لما بلغه عن رسول الله.
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 52
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم برقم 153.(28/229)
وهذا معنى قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (1) ، وقوله سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} (2) .
وفي صحيح مسلم عن طارق بن أشيم رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله (3) » ، وفي لفظ آخر: «من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه (4) » فجعل تحريم الدم والمال مربوطا بقوله: " لا إله إلا الله "، وتوحيده لله، وكفره بالطاغوت، فلا يحرم ماله ودمه حتى يوحد الله، وحتى يكفر بالطاغوت - أي يكفر بما عبد من دون الله - لأن الطاغوت هو ما عبد من دون الله، ومعنى الآية الكريمة: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} (5) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 19
(2) سورة إبراهيم الآية 52
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، برقم 23.
(4) أخرجه أحمد في مسند القبائل، حديث طارق بن أشيم رضي الله عنه برقم 26671.
(5) سورة البقرة الآية 256(28/230)
والذي يعلم الكافر وما عليه من باطل ثم لا يكفره أو يشك في كفره، معناه أنه مكذب لله ولرسوله، غير مؤمن بما حكم الله عليهم من الكفر كاليهود والنصارى، فهم كفار بنص القرآن، ونص السنة، فالواجب على المكلفين من المسلمين اعتقاد كفرهم وضلالهم، ومن لم يكفرهم أو شك في كفرهم يكون مثلهم؛ لأنه مكذب لله ولرسوله شاك فيما أخبر الله به ورسوله، وهكذا من شك في الآخرة، شك هل هناك جنة أو لا، أو هل هناك نار أو لا، أو هل هناك بعث أو لا، وهل يبعث الله الموتى، فليس عنده إيمان ويقين، فهذا كافر حتى يؤمن بالبعث والنشور، وبالجنة والنار، وأن الله أعد الجنة للمتقين، وأعد النار للكافرين، فلا بد من الإيمان بهذا بإجماع المسلمين.
وهكذا من شك أن الله يستحق العبادة، يكون كافرا بالله عز وجل؛ لأن الله سبحانه يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} (1) ، ويقول سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2)
__________
(1) سورة لقمان الآية 30
(2) سورة الإسراء الآية 23(28/231)
وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) ، وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) . والآيات في هذا كثيرة.
وهكذا من شك في الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: لا أعلم أن محمدا رسول الله أم لا؟ أي عنده شك، فيكون حكمه حكم من أنكر الرسالة أو كذب بها، يكون كافرا حتى يؤمن يقينا أن محمدا رسول الله.
وهكذا المرسلون الذين بينهم الله، كهود ونوح وصالح وموسى وعيسى من شك في رسالتهم أو كذبهم يكون كافرا، وهكذا من استهزئ بالدين أو سب الدين يكون كافرا، كما قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (3) .
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة التوبة الآية 65(28/232)
والذي يسب الدين ويسب الرسول مثل المستهزئ أو أقبح وأكفر.
أما من ترك الصلاة ولم يجحد وجوبها فهذا فيه خلاف بين العلماء:
1 - منهم من كفره، وهو الصواب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر (1) » وقوله: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (2) » .
2 - وقال آخرون من أهل العلم: إنه لا يكفر بذلك؛ لأنه لم يجحد وجوبها، بل يكون عاصيا وكافرا كفرا دون كفر وشركا دون شرك، لكن لا يكون كافرا كفرا أكبر. قاله جمع من أهل
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة برقم 2621، والنسائي في كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة برقم 463، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة برقم 1079، وأحمد في باقي مسند الأنصار، حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه برقم 22428.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 82.(28/233)
العلم. ومن شك في كفر هذا لا يكون كافرا؛ لأنه محل اجتهاد بين أهل العلم، فمن رأى بالأدلة الشرعية أنه كافر وجب عليه تكفيره، ومن شك في ذلك، ولم تظهر له الأدلة، ورأى أنه لا يكفر كفرا أكبر بل كفر أصغر، فهذا معذور في اجتهاده، ولا يكون كافرا بذلك.
أما من جحد وجوبها وقال: الصلاة غير واجبة، فهذا كافر عند الجميع، ومن شك في كفره فهو كافر نعوذ بالله، وهكذا من قال: إن الزكاة لا تجب أي جحد وجوبها أو صيام رمضان جحد وجوبه، فهذا يكفر بذلك؛ لأنه مكذب لله ولرسوله، ومكذب لإجماع المسلمين فيكون كافرا.
ومن شك في كفره فهو كافر بعد ما يبين له الدليل ويوضح له الأمر، يكون كافرا بذلك لكونه كذب الله ورسوله، وكذب إجماع المسلمين.
وهذه أمور عظيمة يجب على طالب العلم التثبت فيها، وعدم العجلة فيها؛ حتى يكون على بينة وعلى بصيرة، وهكذا العامة يجب عليهم في ذلك أن يتثبتوا، وألا يقدموا على شيء حتى(28/234)
يسألوا أهل العلم، وحتى يتبصروا؛ لأن هذه مسائل عظيمة، مسائل تكفير وليست مسائل خفيفة.
فالواجب على طلبة العلم وعلى أهل العلم أن يوضحوا للناس الحكم بالأدلة الشرعية، والواجب على من أشكل عليه شيء ألا يعجل، وأن ينظر في الأدلة، وأن يسأل أهل العلم حتى يكون على بصيرة وعلى بينة في ذلك، والله ولي التوفيق.(28/235)
25 - حكم موالاة الكفار
س: ما هي الموالاة المنهي عنها شرعا؟ (1)
ج: محبة الكفار وإعانتهم على باطلهم، واتخاذهم أصحابا وأخدانا ونحو ذلك من كبائر الذنوب، ومن وسائل الكفر بالله. فإن نصرهم على المسلمين وساعدهم ضد المسلمين، فهذا هو التولي، وهو من أنواع الردة عن الإسلام؛ لقول الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (2)
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من (جريدة المسلمون) .
(2) سورة المائدة الآية 51(28/235)
وقال سبحانه: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (1) الآية. وقال عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) . والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة المجادلة الآية 22
(2) سورة المائدة الآية 57(28/236)
26 - حكم زيارة غير المسلمين لدعوتهم للإسلام
س: لي جيران غير مسلمين، وأحب أن أدعوهم، فما أحسن طريق لذلك؟ جزاكم الله خيرا (1) .
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1445، بتاريخ 21\ 1\ 1417 هـ.(28/236)
ج: عليك أن تدعوهم للإسلام بزيارتهم أو بدعوتهم عندك على طعام، فتدعوهم لنصيحتهم، فهذا ليس من المحبة وضد الإيمان إذا كان المقصود دعوتهم إلى الله، وإرشادهم وتوجيههم، وهكذا الفساق والعصاة من جيرانك أو أقاربك عندما تدعوهم لنصيحتهم وتوجيههم فهذا ليس من الموالاة وإنما المقصود من ذلك الدعوة والتوجيه.(28/237)
27 - حكم قبول هدايا المشركين
س: عندنا مسجد يبنى وبجواره نصارى، والنصارى إذا أرادوا التبرع في بناء المسجد بالمال هل على المسلمين أن يأخذوا المال منهم؟ (1) .
ج: إذا كان فيه شرط يخالف الشرع فلا، أما التبرع المجرد فإنه ليس فيه شيء، والنبي صلى الله عليه وسلم قبل كثيرا من هدايا المشركين.
__________
(1) من ضمن أسئلة موجهة لسماحته من إحدى الجمعيات الإسلامية بلندن، أجاب عنه سماحته بتاريخ 6\2\ 1419هـ.(28/237)
28 - حكم إقامة المسلم في بلاد الكفر
س: ما هي نصيحتكم للإخوة والأخوات المقيمين في إنجلترا ولا يعملون ويتلقون معونة مالية من الحكومة؟ وأحيانا هم يحصلون على عمل ولكن لا يخبرون الحكومة فهل عملهم هذا يعتبر عملا صحيحا؟
ج: الواجب على جميع المسلمين المقيمين في بلاد الكفر، أن يهاجروا إلى البلاد الإسلامية التي تقام فيها شعائر الله إذا استطاعوا ذلك، فإن لم يتيسر ذلك فإلى البلاد التي هي أقل شرا كما هاجر جماعة من الصحابة رضي الله عنهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الحبشة؛ لأن بلاد الحبشة ذاك الوقت أقل شرا مما يقع على المسلمين في مكة من الشر قبل فتح مكة، فإن لم يستطيعوا فعليهم أن يتقوا الله في محلهم، وأن يحذروا ما حرم الله عليهم، وأن يؤدوا ما أوجب الله عليهم، ولا حرج عليهم في قبول المعاونة والمساعدة من الدولة الكافرة، إذا لم يترتب على ذلك ترك واجب أو فعل محظور، وليس لهم أخذ المساعدة إلا على الطريقة الرسمية التي قررتها الدولة، وليس لهم أن يكذبوا للحصول عليها،(28/238)
وعليهم جميعا أن يتقوا الله في كل شيء، وأن يحذروا ما نهى الله عنه، وأن يتفقهوا في القرآن والسنة فيما بينهم، وأن يسألوا أهل العلم عما أشكل عليهم، ولو بالمكاتبة أو من طريق الهاتف، أصلح الله أحوال المسلمين جميعا وحفظ عليهم دينهم ومنحهم الفقه فيه، وكفاهم شر أنفسهم وشر أعدائهم إنه جواد كريم.(28/239)
مسألة في الموالاة
س: أب وأولاده في الجاهلية ثم تعلم أحد أولاده وعرف الحق وأخبرهم وقال هذا حرام وهذا حلال، فكان جواب الأب له: هذا وجدنا عليه آباءنا ونحن مثل قبيلة آل فلان، هل يحق للولد الموحد أن يواد والده وإخوانه الباقين أم لا؟ (1)
ج: إذا عرف الإنسان الإسلام وهداه الله لقبوله فليس له موالاة أهل الشرك ولا مودتهم، ولو كانوا أقرب قريب؛ لقوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (2)
__________
(1) من ضمن أسئلة أجاب عنها سماحته بتاريخ 12\8\ 1418هـ. بمكة المكرمة.
(2) سورة المجادلة الآية 22(28/239)
الآية من سورة المجادلة، ولكن عليه دعوتهم إلى الله وترغيبهم في الخير والصبر على ذلك لعل الله يهديهم على يده فيكون له مثل أجورهم.(28/240)
29 - تكذيب بصدور فتوى لسماحته عن جواز لبس الصليب
الأخ الفاضل الدكتور محمد بن سعد الشويعر السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، الحمد لله عز وجل الذي سخر لهذه الأمة من يرعى أبناءها ويمد يد العون لهم كلما أرادوه، ويعلم الله كم أنا مسرور عندما أجد من يهتم برسائلي في وقت قل فيه أهل الخير إلا من رحم الله.
لقد بعثت لك يا دكتور محمد مجموعة من الرسائل على فترات، وطلبت في هذه الرسائل مجلة البحوث الإسلامية وبعض الكتب، وكانت عندي بعض الأسئلة كذلك فقمتم مشكورين بالإجابة عليها خير إجابة، ولاقى هذا العمل صدى جميلا في نفسي(28/240)
ونفس أصدقائي الذين أخبرتهم بذلك.
واليوم يا دكتور عندي استفسار عن أمر دار حوله جدل طويل وانقسام عظيم، وتناحر بين الأصدقاء والإخوة، وذلك عندما وصلنا شريط فيه مجموعة أسئلة طرحت على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - حفظه الله - ومن ضمن هذه الأسئلة سؤال من أخ مصري سأله فيه عن حكم لبس الصليب؟ فأجابه الشيخ بجواز ذلك مما أثار موجة عارمة بين الجميع، وشخصيا ما كدت أصدق ذلك من هول ما سمعت، وقد نصبت نفسي محامي دفاع عن الشيخ ولكن موقفي كان ضعيفا فالصوت صوت الشيخ - حفظه الله - والقاضي عياض نقل الإجماع في كتاب الشفا على كفر لابس الصليب.
فأرجو يا دكتور أن توضح لنا الأمر فهنالك الكثير من الشباب المسلم ينتظر هذه الإجابة منك كونك من المقربين للشيخ - حفظه الله - أرجو أن تشفي صدورنا ويا حبذا لو أن سماحته شخصيا - يجيبنا على هذا الاستفسار.
ولا أخفيك القول أن صورة الشيخ قد اهتزت عند كثير من الشباب بعد سماع ذلك الشريط، وأن كثيرا من أصحاب النفوس المريضة انتهزوها فرصة للنيل من مكانة الشيخ وتجريحه.(28/241)
فلا تبخل علينا يا دكتور بما سيكون لك في ميزان عملك إن شاء الله، بما سيقطع الطريق على مرضى النفوس، وفقكم ورعاكم الله لما فيه خير هذه الأمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المرسل ج. ع. ع. الأردن - إربد
ولقد عرضت هذه الرسالة على سماحته - رحمه الله - فاسترجع وحوقل، وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم أملى علي هذا الجواب الذي بعث للمرسل.
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ج. ع. ع. وفقه الله لما فيه رضاه وثبته على دينه آمين (1) .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد اطلعت على رسالتكم المؤرخة 14 ربيع الأول عام 1417 هـ الموجهة لفضيلة الدكتور محمد بن سعد الشويعر، حول الشريط المنسوب إلي وفيه فتوى عن جواز لبس الصليب، وأنني أجبت بجواز ذلك.
فأحيطكم علما أن هذا لم يصدر مني وأنه كذب علي
__________
(1) رسالة جوابية لسماحته صدرت من مكتبه في عام 1417 هـ.(28/242)
ولا أصل لذلك، جازى الله من عمله بما يستحق، وليست هذه أول كذبة يفتريها بعض المغرضين علي وعلى غيري من أصحاب الفضيلة المشايخ وغيرهم فقد سبقها كثير، ومن ذلك ما نشر عندكم في الأردن قبل شهر في صحيفة الرأي وغيرها من أني أقول بأن المرأة إذا ذهبت للعمل فهي زانية، فقد ابتسروا من كلمة لي صدرت منذ عشرين عاما ما يوافق أهواءهم، وعنوانها: (حكم مشاركة المرأة للرجل في العمل) وقد نشرت في مركز الدعوة الإسلامية بلاهور الباكستان - الطبعة الأولى في ربيع الثاني عام 1399 هـ الموافق مارس 1979 م، وضمن كتابنا مجموع فتاوى ومقالات متنوعة الجزء الأول من ص (422- 432) وقد طبع هذا الجزء عام 1408 هـ الموافق 1987 م وكان إعادة نشر المقالة هو الرد على أولئك، ونرفق لكم نسخة منها.
ولذا نرجو من فضيلتكم تزويدنا بنسخة من الشريط الذي نوهتم عنه للاطلاع وإجراء ما يلزم، جعلنا الله وإياكم من المتعاونين على الحق الناصرين لدين الله المعينين على قمع البدع والأهواء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية(28/243)
30 - على الصحف والكتاب أن يعتنوا بنشر الكلمة الطيبة والحذر من نشر المقالات الباطلة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد (1) :
فقد اطلعت على ما نشرته صحيفة الجزيرة الصادرة في 11\ 1\ 1419 هـ للأخ الكريم سمو الأمير عبد العزيز بن فهد بن فيصل بن فرحان آل سعود المتضمنة إنكاره ما حصل من كثير من الكتاب في الشاعر نزار وبيانه سوء ما صنعوا، وشرحه بعض حال نزار المذكور. ولقد أحسن وأجاد وأدى الواجب في بيان الحق والتحذير من خلافه.
وإني لأشكره كثيرا على عمله الطيب ورده على دعاة الباطل ومروجيه. ولا شك أن الشاعر المذكور - إذا كانت حاله كما قال سمو الأمير عبد العزيز - جدير بالذم والتحذير من سيرته والفرح بموته؛ لما في أشعاره من الفساد الكبير والكفر الصريح
__________
(1) نشرت في جريدة الجزيرة بتاريخ 11\ 1\ 1419 هـ.(28/244)
وتشجيع دعاة الباطل ومروجي الرذيلة.
ولا شك أن الواجب على صحفنا وكتابنا أن يتقوا الله، وأن ينصروا الحق، وأن يدعوا إليه، وأن يعتنوا بنشر الكلمات الطيبة، وأن يحذروا نشر المقالات الباطلة، والكلمات التي تنصر الباطل وتمدح أهله؛ عملا بقول الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} (1) ، وقوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (2) ، وقوله عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4) ، وقوله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (5) ، وقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (6) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (7) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (8) .
__________
(1) سورة الصف الآية 14
(2) سورة محمد الآية 7
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة المائدة الآية 2
(6) سورة العصر الآية 1
(7) سورة العصر الآية 2
(8) سورة العصر الآية 3(28/245)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله من نبي في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوفا يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (2) » .
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. فالواجب على المسلمين التواصي بها والعمل بها والحذر مما يخالفها، ومعلوم أن الإنكار باليد يكون لولاة الأمر وغيرهم ممن يستطيع ذلك؛ كالرجل مع أولاده وأهل بيته ورئيس الحسبة فيما جعل إليه ونحوهما.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 49.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 49.(28/246)
ونسأل الله أن يوفق جميع المسلمين وجميع ولاة أمرهم، وجميع الكتاب لكل خير، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن ينصر بهم الحق وأهله، وأن يخذل بهم الباطل وأهله إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء(28/247)
31 - وجوب تعاون المسلم مع إخوانه المسلمين على البر والتقوى
س: هل يجوز التعاون مع الجماعات الإسلامية العاملة في الساحة؟ وإلى أي مدى يمكن التعاون، نرجو الإفادة جزاكم الله خيرا؟
ج: يشرع التعاون مع جميع المسلمين على البر والتقوى، بل يجب ذلك مع الاستطاعة؛ لقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) ، وقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) .
ومن التعاون على البر والتقوى ومن التواصي بالحق والصبر عليه، توضيح الأحكام الشرعية والتحذير من البدع، وإيضاح العقيدة الصحيحة التي درج عليها سلف الأمة من أصحاب النبي
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(28/248)
صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان.
ومن التعاون والتواصي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهجر من يستحق الهجر؛ لقول الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) ، وقوله سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2) .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (3) » . وقوله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة المائدة الآية 78
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم برقم 6011، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم برقم 2586.(28/249)
«الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » أخرجه مسلم في صحيحه والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة برقم 55.(28/250)
32 - حكم العمل في طباعة أوراق اليانصيب
س: يقول السائل: أنا أعمل في شركة تعمل في طباعة أوراق اليانصيب، فهل يجوز لي الاستمرار في العمل؟ أفتونا مأجورين.
ج: لا يجوز لك الاستمرار في هذا العمل، بل يجب عليك تركه؛ لقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) ، وقوله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (2) .
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 4(28/250)
33 - حكم من عقد بيعة لغير ولاة الأمور
س: بعض الفرق المعاصرة تعقد البيعة لأمرائها الذين يختارونهم من أنفسهم، ويرون وجوب السمع والطاعة لهم،(28/250)
وعدم نقض بيعتهم، وهم تحت ولاة الأمراء الشرعيين الذين بايعهم عموم المسلمين. هل يجوز ذلك؟ أي بمعنى أن يكون في عنق الفرد أكثر من بيعة وما مدى صحة هذه البيعات؟ (1) .
ج: هذه البيعة باطلة ولا يجوز فعلها؛ لأنها تفضي إلى شق العصا، ووجود الفتن الكثيرة، والخروج على ولاة الأمور بغير وجه شرعي. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (2) » .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية الله، فإن
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من (جريدة المسلمون) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع برقم 2676، وابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين برقم 42، وأحمد في مسند الشاميين، حديث العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم برقم 16694.(28/251)
أمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة (1) » .
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف (2) » .
وقال صلى الله عليه وسلم: «من رأى من أمره شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة (3) » .
والأحاديث في ذلك كثيرة جدا، كلها دالة على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر في المعروف، وعدم جواز الخروج عليهم، إلا أن يأتوا كفرا بواحا عند الخارجين عليهم فيه من الله برهان.
ولا شك أن وجود البيعة لبعض الناس يفضي إلى شق العصا، والخروج على ولي الأمر العام فوجب تركه، وحرم فعله، ثم إنه يجب على من رأى من أميره كفرا بواحا أن يناصحه حتى يدع ذلك، ولا يجوز الخروج عليه، إذا كان الخروج يترتب عليه شرا أكثر؛ لأن المنكر لا يزال
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة؛ باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية الله برقم 1839.
(2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب سرية عبد الله بن حذافة السهمي برقم 4340، ومسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية الله برقم 1840، واللفظ لمسلم.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم برقم 1855.(28/252)
بأنكر منه، كما نص على ذلك أهل العلم رحمهم الله، كشيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم رحمة الله عليهما، والله ولي التوفيق.(28/253)
34 - حقيقة عقيدة الخوارج
س: ما ردكم على من يقول: إن عقيدة الخوارج كانت عقيدة سلفية وإنهم - أي الخوارج - سلفيون؟ (1)
ج: هذا قول باطل، وقد أبطله النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الخوارج: «تمرق مارقة على حين فرقة من أمتي، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وقراءته مع قراءتهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم (2) » وفي لفظ آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الخوارج: إنهم «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان (3) » .
__________
(1) من ضمن الأسئلة الواردة لسماحته من (مجلة الدعوة) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم 3611.
(3) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله تعالى: {وأما عاد فأهلكوا بريح} برقم 3344.(28/253)
وقد علم من عقيدتهم أنهم يكفرون العصاة من المسلمين، ويحكمون بخلودهم في النار؛ ولهذا قاتلوا عليا رضي الله عنه ومن معه من الصحابة وغيرهم، فقاتلهم علي وقتلهم يوم النهروان، رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، والله الموفق.(28/254)
35 - حكم تبديع بعض أئمة أهل السنة
س: ما حكم تبديع جملة من أئمة أهل السنة بحجة أنهم أخطأوا في العقيدة مثل النووي وابن حجر وغيرهما؟ (1)
ج: من أخطأ لا يؤخذ بخطئه، الخطأ مردود مثل ما قال مالك رحمه الله: " ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر " يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وكل عالم يخطئ ويصيب، فيؤخذ صوابه ويترك خطؤه، وإذا كان من أهل العقيدة السلفية ووقع في بعض الأغلاط، فيترك الغلط ولا يخرج بهذا من العقيدة السلفية إذا كان معروفا باتباع السلف، ولكن تقع منه بعض الأغلاط في بعض شروح الحديث أو في بعض الكلمات التي تصدر
__________
(1) سؤال موجه لسماحته بعد الدرس الذي ألقاه في المسجد الحرام بتاريخ 25\ 12\ 1418 هـ.(28/254)
منه فلا يقبل الخطأ ولا يتبع فيه، وهكذا جميع الأئمة إذا أخطأ الشافعي أو أبو حنيفة أو مالك أو أحمد أو الثوري أو الأوزاعي أو غيرهم، يؤخذ الصواب ويترك الخطأ، والخطأ ما خالف الدليل الشرعي، وهو ما قاله الله ورسوله، فلا يؤخذ أحد من الناس إلا بخطأ يخالف الدليل، والواجب اتباع الحق، قال الله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) .
وقد أجمع العلماء على أن كل إنسان يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالواجب اتباع ما جاء به وقبوله، وعدم رد شيء مما جاء به عليه الصلاة والسلام؛ للآية الكريمة المذكورة، وما جاء في معناها؛ ولقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) .
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) سورة النساء الآية 59(28/255)
36 - بيان فرقة الأشاعرة
س: هل الأشاعرة من أهل السنة والجماعة أم لا؟ وهل نحكم عليهم من المذهب أم كفار؟ (1)
ج: الأشاعرة من أهل السنة في غالب الأمور، ولكنهم ليسوا منهم في تأويل الصفات، وليسوا بكفار بل فيهم الأئمة والعلماء والأخيار، ولكنهم غلطوا في تأويل بعض الصفات، فهم خالفوا أهل السنة في مسائل؛ منها تأويل غالب الصفات، وقد أخطأوا في تأويلها، والذي عليه أهل السنة والجماعة إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تشبيه، وتمر كما جاءت مع الإيمان بأنها حق، وأنها صفات ثابتة لله سبحانه على الوجه اللائق به عز وجل، لا يشابه فيها خلقه سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (3) .
__________
(1) من فتاوى الحج، الشريط الرابع.
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) سورة الإخلاص الآية 4(28/256)
37 - التفصيل في فرق الشيعة
س: سماحة الشيخ، نحن بحاجة ماسة لمعرفة أوجه الخلاف مع الشيعة، نرجو توضيح عقائدهم نور الله بصائر الجميع؟
ج: الشيعة فرق كثيرة، وليس من السهل أن يتسع للحديث عنها الوقت القليل، وبالاختصار ففيهم الكافر الذي يعبد عليا ويقول: يا علي، ويعبد فاطمة والحسن وغيرهم، ومنهم من يقول: جبريل - عليه الصلاة والسلام - خان الأمانة، وأن النبوة عند علي وليست عند محمد، وفيهم أناس آخرون، منهم الإمامية - وهم الرافضة الاثنا عشرية - عباد علي ويقولون: إن أئمتهم أفضل من الملائكة والأنبياء، ومنهم أقسام كثيرة، وفيهم الكافر وفيهم غير الكافر، وأسهلهم وأيسرهم من يقول: علي أفضل من الثلاثة، وهذا ليس بكافر لكن مخطئ؛ فإن عليا هو الرابع، والصديق وعمر وعثمان هم أفضل منه، وإذا فضله على أولئك الثلاثة فإنه قد أخطأ وخالف إجماع الصحابة، ولكن لا يكون كافرا، وهم طبقات وأقسام، ومن أراد ذلك فليراجع كلام الأئمة مثل " الخطوط العريضة "(28/257)
لمحيي الدين الخطيب، و " منهاج السنة " لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب أخرى ألفت في ذلك كـ " الشيعة والسنة " لإحسان إلهي ظهير، وغير ذلك كتب كثيرة في مثل هذا الباب نوعت وبينت أغلاطهم وشرهم، نسأل الله العافية، ومن أخبثهم الإمامية الاثنا عشرية والنصيرية ويقال لهم: الرافضة؛ لأنهم رفضوا زيد بن على لما أبى أن يتبرأ من الشيخين أبى بكر وعمر وخالفوه ورفضوه، فما كل من ادعى الإسلام يسلم له بأنه أصبح مسلما، من ادعى الإسلام ينظر في دعواه، فمن عبد الله وحده وصدق رسوله وتابع ما جاء به فإن هذا هو المسلم، وأما إذا ادعى الإسلام وهو يعبد الحسين ويعبد فاطمة ويعبد البدوي ويعبد العيدروس وغيرهم فهو ليس بمسلم، نسأل الله السلامة والعافية، وهكذا من سب الدين أو ترك الصلاة ولو قال: إنه مسلم، ما يكون مسلما، أو استهزأ بالدين أو استهزأ بالصلاة أو بالزكاة أو بالصيام أو بمحمد عليه الصلاة والسلام أو كذبه، أو قال: إنه جاهل أو قال: إنه ما أتم الرسالة ولا بلغ البلاغ المبين، كل هؤلاء كفرة، نسأل الله العافية.(28/258)
38 - مسألة في فرقة الرافضة
س: رجل والداه من الرافضة كيف تكون معاملتهم؟
ج: يدعوهم إلى الله وينصح لهما، ويتبرأ منهما إن علم منهما الباطل، لكن يتقي الله فيهما مثل ما قال الله - جل وعلا -: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (1) ، يعني يحسن فيهما، وينصح لهما، ويدعوهما إلى الله، ويدعو لهما الله أن يهديهما، فلا يعنف عليهما؛ لأنهما والدان وعند الله لهما حق عظيم، وهذا لو كانا كافرين يهوديين أو نصرانيين وأسلم هو فإنه يدعوهما إلى الله، ولا يعنف مثل قوله جل وعلا: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (2) ؛ لأن الوالدين ليس التعامل معهما مثل الناس الآخرين.
__________
(1) سورة لقمان الآية 15
(2) سورة لقمان الآية 15(28/259)
39 - الفرق بين أهل السنة والشيعة
س: ما الفرق بين أهل السنة والجماعة والشيعة؟ (1)
ج: هناك فرق بينهم، فالله ما جعل الناس سواء، لا يستوي الذين يعملون الصالحات والذين يعملون السيئات، وما يستوي الأبرار والفجار.
يجب التفريق بين الكفار والمسلمين وبين الشيعة وغيرهم، الشيعة مبتدعة وهم أقسام كثيرة: فيهم الرافضي، وفيهم النصيري، وفيهم الإسماعيلي، وفيهم أصناف أخرى وهم طبقات وأقسام، منهم عبدة أهل البيت يعبدون أهل البيت يدعونهم من دون الله يستغيثون بهم، كالرافضة والنصيرية وأشباههم، هؤلاء كفار. نسأل الله العافية.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407 هـ، شريط رقم 6.(28/260)
40 - بيان فرقة الإسماعيلية
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم الشيخ / م. س. إ. س. وفقه الله لما فيه رضاه ونصر به دينه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد سرني كثيرا اعتناقك مذهب أهل السنة والجماعة وترك ما عليه المكارمة الإسماعيلية من البدع والأهواء المخالفة للشرع المطهر، فالحمد لله على ذلك، وأسأل الله أن يمنحك الثبات على الحق، وأن يوفقك للفقه في دينه والثبات عليه، وأن يجعلنا وإياكم وسائر إخواننا من الهداة المهتدين، وقد سررت كثيرا بزيارتك لنا في الطائف ليلة الأحد 14 \ 1 \ 1419 هـ، وقد أخبرتك بأن الواجب على كل مسلم هو التمسك بما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - من دين الله وإخلاص العبادة له، والثبات على ذلك والدعوة إليه، وهو الدين الحق الذي درج عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعهم بإحسان، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة إلى يومنا هذا، وخلاصة ذلك(28/261)
هي الإيمان بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وإخلاص العبادة لله وحده دون ما سواه، والحذر من كل ما يخالف شرع الله، كما قال الله - عز وجل - آمرا نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ الناس: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ، وقال عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) ، وقال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) ، وأمر عباده -سبحانه - في سورة الفاتحة أن يسألوه الهداية إلى هذا الصراط المستقيم، وأخبر سبحانه في سورة الشورى أن نبيه - صلى الله عليه وسلم - يهدي إليه هداية البلاغ والبيان، فقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (4) ، وقال عز وجل:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة الأنعام الآية 153
(4) سورة الشورى الآية 52(28/262)
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (2) » . وقال - عليه الصلاة والسلام -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (3) » .
والخلفاء الراشدون هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين.
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وقد أجبنا على أسئلتك التي سألت عنها في رسالة مختصرة قد طبعت منذ سنوات،
__________
(1) سورة التوبة الآية 100
(2) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا شهد برقم 2652، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة - رضي الله عنهم - ثم الذين يلونهم برقم 2533.
(3) أخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين برقم 42.(28/263)
وهي إليك برفق هذه الرسالة لتطلع عليها وتقرأها على من شئت، لعل الله يهدي بها من خالف السنة، ويجعلك من أسباب هدايتهم، وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعلي - رضي الله عنه - لما بعثه إلى اليهود في خيبر: «ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم (1) » متفق على صحته، وأسأل الله - عز وجل - أن يجعلك مباركا وأن يجعلك هاديا مهديا، وأن ينفع بك إخوانك المسلمين، وأن يثبتنا وإياك على الهدى، إنه جواد كريم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي برقم 3701، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - برقم 2406.(28/264)
41 - حكم المعاملة مع الشيعة
س: أنا أعمل مدرسا، ولدينا مدرسون من الشيعة، وأنا أعمل معهم أريد منك النصيحة في المعاملة معهم؟ (1) . ج: تنصحهم وتوجههم إلى الخير، وتعلمهم أن الرفض لا يجوز، وأن الواجب محبة علي والترضي عنه، لكن من دون غلو، لا يقال: إنه يعلم الغيب ولا إنه معصوم، ولا يدعى مع الله ولا يستغاث به، وهكذا الحسن وهكذا الحسين وهكذا جعفر الصادق وغيرهم، تعلمهم أن هذا هو الواجب، تنصحهم فإذا أصروا على البدعة فعليك أن تهجرهم، ولو أنهم معك في العمل تهجرهم ولا ترد عليهم السلام ولا تبدأهم بالسلام.
أما إذا لم يظهروا بدعتهم ووافقوك على الظاهر، فحكمهم حكم المنافقين، تعاملهم معاملة المنافقين لا حرج، مثل ما عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - المنافقين في المدينة، من أظهر الإسلام وكف عن الشر يعامل معاملة المسلمين، وأمره إلى الله في الباطن.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1415 هـ شريط 49 \ 6(28/265)
42 - حكم مجالسة أهل البدع
س: هل يجوز مجالسة أهل البدع في دروسهم ومشاركتهم؟ (1)
ج: لا يجوز مجالستهم ولا اتخاذهم أصحابا، ويجب الإنكار عليهم وتحذيرهم من البدع، نسأل الله العافية.
__________
(1) نشر في مجلة الفرقان، العدد 100 في ربيع الثاني 1419 هـ.(28/266)
43 - حكم توظيف المبتدعة في الوظائف الدينية
س: أناس عندنا في اليمن يبنون مساجد، وفيهم خير، ولكن لا يفقهون السنة، ويوظفون فيها أناسا مبتدعين يعني عقائدهم فاسدة، وأهل السنة يزاحمون فيها ويحتلون المساجد، فما حكم عملهم هذا؟ (1) .
ج: يكون العمل بالحكمة لا يكون بالشدة، أو بمراجعة ولاة الأمور حتى لا يكون شقاق وفتن، وحتى يوظفوا أهل السنة والجماعة ولا يكون وراء ذلك فتنة، وإذا كان قد بناها أهل البدع لا بد أن يكون هناك حيلة حتى لا يقع فتنة؛ لأنهم يقولون: نحن بنيناها لماذا تأخذونها منا تغصبونها، حطوا لكم مساجد أنتم يا أهل السنة، وعليهم أن يعالجوا الأمور بالهدوء حتى يوظف أهل السنة بالإمامة والأذان.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.(28/266)
44 - تنبيه وتحذير على نشرة مكذوبة (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه، أما بعد:
فقد اطلعت على نشرة يوزعها الكثير من الناس عن جهل أو قصد سيئ، قد بدأها صاحبها بقول الله تعالى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (2) ، وذكر بعدها آيات، ثم قال ما نصه: اهتم بإرسال هذه الآيات لتكون مجلبة خير ويمن ومال وفلاح، ثم ذكر بعد ذلك أنه تم توزيعها حول العالم، وأن من اعتنى بها ربح ربحا كثيرا، ومن أغفلها أصيب بأنواع من الحوادث، وذكر أنها تمنع المضرات وتجلب الفلاح والخير بعد أربعة أيام.
ونظرا إلى أن هذه النشرة لا أساس لها من الصحة، بل هي كذب وافتراء وقول بغير علم، واعتقاد أنها تجلب الخيرات وتدفع المضرات، وأن من اعتنى بها ربح، ومن أهملها أصيب بالحوادث - اعتقاد باطل يخل بالعقيدة ويدعو إلى تعلق القلوب بهذه النشرة وانصرافها عن الله عز وجل.
__________
(1) نشرت في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، العدد الرابع، السنة الحادية عشرة عام 1398 هـ.
(2) سورة الزمر الآية 66(28/267)
فلهذا رأيت تحذير المسلمين منها ووصيتهم إتلافها أينما وجدت، وتنبيه إخوانهم على بطلانها، وأن اعتقاد ما فيها يخالف شريعة الله ويقدح في العقيدة؛ لأنه اعتقاد فاسد ليس له أساس من الصحة، بل هو من الكذب على الله ودعوى باطلة، وهي من جنس الوصية المنسوبة إلى خادم حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد سبق أن نبهنا على بطلانها، وأنها كذب لا أساس لها من الصحة ولا لما ادعاه صاحبها، فهاتان النشرتان كلتاهما من أبطل الباطل، فالواجب على كل مسلم أن يحذرهما وأن يحذر منهما غيره عملا بقول الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وقوله سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) الآية.
ولا شك أن هاتين النشرتين من المنكر الذي يجب النهي عنه، ويجب على ولاة الأمور البحث عن مروجهما وعقابه بما يردعه وأمثاله. ونسأل الله أن يوفقنا والمسلمين للفقه في الدين والثبات عليه وإنكار ما خالفه، وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، كما نسأله سبحانه أن يكبت أعداء الإسلام أينما كانوا ويبطل كيدهم، إنه
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة التوبة الآية 71(28/268)
سميع قريب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(28/269)
45 - حكم عقيدة حزب البعث
س: هل نكفر رئيس العراق وحزبه البعثي لاعتقادهم بذلك أم لا؟ (1)
ج: البعثيون كلهم كفار، سواء رئيس العراق أو غيره؛ لأنهم يرفضون الشريعة ويعادونها.
__________
(1) نشر في مجلة الفرقان، العدد 100، في ربيع الثاني 1419 هـ.(28/269)
46 - الحكم على الحجاج بن يوسف
س: هل الحجاج بن يوسف كافر أم ظالم؟ (1)
ج: عاص ظالم وليس بكافر.
__________
(1) نشر في مجلة الفرقان، العدد 100، في ربيع الثاني 1419 هـ.(28/269)
47 - التفصيل في الحاكم إذا حكم بغير ما أنزل الله
س: سماحة الشيخ - لو سمحت - الحكام الذين لا يطبقون شرع الله في بلاد الله، هل هؤلاء كفار على الإطلاق مع أنهم يعلمون بذلك؟ وهل هؤلاء لا يجوز الخروج عليهم؟ وهل(28/269)
موالاتهم للمشركين والكفار في مشارق الأرض ومغاربها يكفرهم بذلك؟ (1)
ج: هذا فيه تفصيل عند أهل العلم، وعليهم أن يناصحوهم ويوجهوهم إلى الخير، ويعلموهم ما ينفعهم، ويدعوهم إلى طاعة الله وطاعة رسوله وإلى تحكيم الشريعة، وعليهم المناصحة؛ لأن الخروج يسبب الفتن والبلاء وسفك الدماء بغير حق، ولكن على العلماء والأخيار أن يناصحوا ولاة الأمور ويوجهوهم إلى الخير، ويدعوهم إلى تحكيم شريعة الله، لعل الله يهديهم بأسباب ذلك، والحاكم بغير ما أنزل الله يختلف، فقد يحكم بغير ما أنزل الله ويعتقد أنه يجوز له ذلك، أو أنه أفضل من حكم الله، أو أنه مساو لحكم الله، هذا كفر، وقد يحكم وهو يعرف أنه عاص ولكنه يحكم لأجل أسباب كثيرة، إما رشوة، وإلا لأن الجند الذي عنده يطيعونه، أو لأسباب أخرى، هذا ما يكفر بذلك مثل ما قال ابن عباس: كفر دون كفر وظلم دون ظلم. أما إذا استحل ذلك ورأى أنه يجوز الحكم بالقوانين وأنها أفضل من حكم الله، أو مثل حكم الله، أو أنها جائزة، يكون عمله هذا ردة عن الإسلام حتى لو كان ليس
__________
(1) من أسئلة حج عام 1408 هـ، الشريط الثالث.(28/270)
بحاكم، حتى لو هو من أحد أفراد الناس.
لو قلت: إنه يجوز الحكم بغير ما أنزل الله فقد كفرت بذلك، ولو أنك ما أنت بحاكم، ولو أنك ما أنت الرئيس.
الخروج على الحكم محل نظر، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان (1) » وهذا لا يكون إلا إذا وجدت أمة قوة تستطيع إزالة الحكم الباطل. أما خروج الأفراد والناس العامة الذين يفسدون ولا يصلحون فلا يجوز خروجهم، هذا يضرون به الناس ولا ينفعونهم.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الفتن، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: '' سترون. . . '' برقم 7056.(28/271)
48 - حكم من استحل الحكم بغير ما أنزل الله
س: هل الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - يرى تكفير الحكام على الإطلاق؟ (1)
ج: يرى تكفير من استحل الحكم بغير ما أنزل الله فإنه يكون بذلك كافرا.
__________
(1) نشر في مجلة الفرقان، العدد 100، في ربيع الثاني 1419 هـ.(28/271)
هذه أقوال أهل العلم جميعا: من استحل الحكم بغير ما أنزل الله كفر، أما من فعله لشبهة أو لأسباب أخرى لا يستحله يكون كفرا دون كفر.(28/272)
49 - الهندوسية والبوذية والسيخ هل هي أديان
س: عرض التلفزيون مساء الجمعة 4 صفر هجري برنامج العالم الفطري، وكانت الحلقة عن الهند.
وفي مستهل مقدمته قال: حقا إن الهند تسمى بلاد الأديان، ففيه نجد الهندوسية، البوذية، السيخ. . إلخ. فأرجو منكم إيضاح الآتي:
- هل الأديان التي ذكرها مقدم البرنامج كما يدعي حقا أديان؟
- وهل هي منزلة ومرسلة من عند الله؟ (1)
ج: كل ما يدين به الناس ويتعبدون به يسمى دينا، وإن كان باطلا كالبوذية والوثنية واليهودية والهندوسية والنصرانية
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند، ج 1 ص 36.(28/272)
وغيرها من الأديان الباطلة. قال الله سبحانه في سورة الكافرون: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (1) ، فسمى ما عليه عباد الأوثان دينا، والدين الحق هو الإسلام وحده، كما قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (2) . وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) . وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (4) .
والإسلام هو عبادة الله وحده دون كل ما سواه، وطاعة أوامره وترك نواهيه، والوقوف عند حدوده، والإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله مما كان وما يكون، وليس شيء من الأديان الباطلة منزلا من عند الله ولا مرضيا له، بل كلها محدثة غير منزلة من عند الله. والإسلام هو دين الرسل جميعا، وإنما اختلفت شرائعه؛ لقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (5) .
__________
(1) سورة الكافرون الآية 6
(2) سورة آل عمران الآية 19
(3) سورة آل عمران الآية 85
(4) سورة المائدة الآية 3
(5) سورة المائدة الآية 48(28/273)
50 - الرد على نظرية أن الإنسان أصله قرد
س: من المعروف أن بعض الناس يظنون بأن أصلهم حيوان لموافقتهم النظرية الغربية، فما رأيكم في ذلك؟ (1)
ج: نظرية دارون تقول: الإنسان أصله قرد، وإن ابن آدم حيوان ينطق وكلنا حيوان، فالله خلق لابن آدم حياة وجعل له عقلا ونطقا، ولكن هذه النظرية الخبيثة باطلة بإجماع أهل العلم، فالقردة أمة من الأمم، والكلاب أمة من الأمم، والخنازير أمة من الأمم، والقطط أمة من الأمم، وهكذا الأسود والنمور والفهود وغيرهما، أما الإنسان فهو حيوان مستقل ناطق عاقل، خلقه الله من ماء مهين، وأبونا آدم - عليه الصلاة والسلام - خلقه الله من طين، فهو حيوان مستقل وأمة من الأمم قائمة وهم بنو آدم، والجن أيضا أمة قائمة خلقوا من مارج من نار، وكل نوع من الحيوان أمة قائمة حتى النمل أمة.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407 هـ، الشريط رقم 1.(28/274)
51 - الرد على بعض شبه المستشرقين
س: يدعي المستشرقون أن الإسلام أبقى على شيء من الوثنية، وذلك مثل تقبيل الحجر الأسود، فكيف ترد عليهم؟ (1)
ج: ليست هذه وثنية؛ هذا أمر وضعه الله لنا لحكمة بالغة، وليس لنا في هذا تشبه بالجاهلية ولا تعبد بالعبادة الجاهلية، والله يوجه أمره لعباده بما يشاء سبحانه وتعالى، فإذا أمرهم بشيء صار شرعا مستقلا ليس له تعلق بالجاهلية، فقد كان من أمور الجاهلية أمور طيبة أقرها الإسلام، وكان من أمور الجاهلية الدية مائة من الإبل وأقرها الإسلام، وكان من أمور الجاهلية القسامة وأقرها الإسلام، وكذلك تقبيل الحجر واستلامه، وهذا فيه تعظيم الله وطلب مرضاته، وليس التبرك بالحجر أو الطلب للحجر، ولكنه طاعة لله في استلام الحجر والركن اليماني، والله امتحن عباده بذلك هل يطيعون أم يعصون، فإذا أمرهم الله بشيء امتثلوا،
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407 هـ، الشريط السابع.(28/275)
واستلام الحجر الأسود والركن اليماني أقر الله ذلك فيهم ابتلاء وامتحانا هل يسمعون ويطيعون؟ هل يمتثلون ما شرع الله لهم أم لا؟ فلهذا لما قبل عمر - رضي الله عنه - الحجر الأسود قال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلك ما قبلتك.
كما كان من أمر الجاهلية إكرام الضيف، وبقي في الإسلام إكرام الضيف، وكل هذا وغيره من مكارم الأخلاق التي يحبها الله وحث عليها رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وجميع الخصال الطيبة من أمر الجاهلية قد بقيت في الإسلام وأقرها الإسلام.(28/276)
باب في الرقى والتمائم
52 - العلاج بالرقية
س: امرأة تعاني من مرض خبيث وتعالجه بعلاج له آثار جانبية كتساقط الشعر، فضلا عن أنه لا يقضي على المرض كليا، وقد نصحها زوجها بالرقية عند بعض المرقين الذي اشترط ترك العلاج الطبي والاستمرار على الرقية، فهل إذا استمرت على الرقية وتركت الأدوية تكون تركت الأخذ بالأسباب؟ على الرغم من أن الرقية قد تم العلاج بها حالات مماثلة وشفيت بإذن الله؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكر في السؤال فالرقية كافية، والحمد لله.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1687، بتاريخ 29 ذي الحجة 1419 هـ.(28/277)
53 - حكم خنق الراقي للمريض المصاب بالمس
س: هل يجوز للذي يعالج المرضى بقراءة القرآن الكريم أن يضرب ويخنق ويتحدث مع الجن؟ (1)
ج: هذا قد وقع شيء منه من بعض العلماء السابقين مثل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقد كان يخاطب الجني ويخنقه ويضربه حتى يخرج، أما المبالغة في هذه الأمور مما نسمعه عن بعض القراء فلا وجه لها.
__________
(1) نشر في جريدة عكاظ، العدد (11714) بتاريخ 26 \ 5 \ 1419 هـ.(28/278)
54 - مسألة في الرقية
س: فضيلة الشيخ - حفظكم الله - كنت مع أحد الأصدقاء، فقال لي: إذا أردت كشف شيء مفقود عن طريق كتاب الله الكريم افعل الآتي:
1 - تأتي بكتاب الله - عز وجل - وتفتح الكتاب على سورة الكهف وبالضبط على الآية(28/278)
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} (1) إلى آخر الآية.
2 - تأتي بمفتاح باب، شرط أن يكون باتجاه القبلة.
3 - تضع المفتاح على السطر الذي فيه الآية في سورة الكهف.
4 - تأتي بقطعة قماش نظيفة وتشهد على الكتاب وتجعله حرا.
5 - تقرأ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، ثلاث مرات، وتقول: اللهم إني أسألك بحق اسمك العظيم، وأسألك بحق كتابك العظيم، وأسألك بحق نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - الكريم، أن تخفي لنا الباطل وتظهر لنا الحق، اللهم إن كان فلان ابن فلان قد أخذ الغرض من بيت فلان أن تجعل هذا الكتاب يبرم. علما - حفظكم الله - بأنه وقع سرقة في أحد البيوت، فعملوا بهذا، فأشر المؤشر على السارق، فأخرجت النقود منه، ويقول: إن هذا العمل ليس خارجا عن آيات الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فنرجو الجواب على هذا العمل بالتفصيل وجزاكم الله خيرا. (2)
__________
(1) سورة الكهف الآية 49
(2) نشر في (مجلة الدعوة) العدد (1660) بتاريخ 4 جمادى الآخرة 1419 هـ.(28/279)
ج: هذا العمل بدعة وباطل، ولا أصل له في الشرع المطهر، فالواجب تركه والتحذير منه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق على صحته، وفي رواية لمسلم - رحمه الله -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » ، والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم 1718.(28/280)
55 - حكم استعمال البخور لطرد الشياطين
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم سمو الأمير ع. م. س. وفقه الله لما فيه رضاه، وزاده من العلم والإيمان.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد (1) :
فقد وصلني كتابكم الكريم المرفق المشتمل على ثلاثة
__________
(1) صدر من مكتب سماحته برقم 237 خ وتاريخ 7 \ 1 \ 1419 هـ.(28/280)
أسئلة وهذا جوابها: الثاني: يقوم بعض الناس باستخدام بخور يباع عند العطارين يسمى " نقض " يدعون أنها تطرد الشياطين؟
ج: لا أعلم لهذا العمل أصلا شرعيا، والواجب تركه؛ لكونه من الخرافات التي لا أصل لها، وإنما تطرد الشياطين بالإكثار من ذكر الله، وقراءة القرآن، والتعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك (1) » ، «وقال له رجل: يا رسول الله، ماذا لقيت البارحة من لدغة عقرب. فقال له - صلى الله عليه وسلم -: " أما إنك لو قلت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك (2) » ، وقال - عليه الصلاة والسلام -: «من قال حين يصبح: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم يضره شيء
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره برقم 2708.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والاستغفار، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره برقم 2709.(28/281)
حتى يمسي، ومن قالها حين يمسي لم يضره شيء حتى يصبح (1) » .
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم وسائر إخواننا للعلم النافع والعمل به، إنه سميع قريب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى برقم 3388، وأبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح برقم 5088، وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى برقم 3869، وأحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند عثمان بن عفان - رضي الله عنه - برقم 529.(28/282)
56 - حكم تعليق التمائم
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ع. ع. غ. وفقه الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد (1) :
فقد وصل إلي كتابكم المؤرخ 7 \ 2 \ 1390 هـ، وصلكم
__________
(1) صدر من مكتب سماحته برقم 986 وتاريخ 7 \ 6 \ 1390 هـ.(28/282)
الله بهداه، وما تضمنه من الإفادة أن امرأة كلفتك أن تسأل عن جواز تعليق التمائم عليها وعلى أطفالها؛ لحفظ الطفل من الشيطان أو القرينة لكون أطفالها يموتون كان معلوما.
والجواب: لا يجوز تعليق التمائم؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له (1) » وفي رواية أخرى: «من تعلق تميمة فقد أشرك (2) » .
والتمائم هي التي يسميها بعض الناس حرزا، ويسميها بعضهم حجابا، ويسميها بعضهم جامعة، وهي محرمة مطلقا سواء كانت من القرآن الكريم أو غيره.
والواجب على المرأة المذكورة التوكل على الله والاعتماد عليه، ومن أخلص التوكل على الله فإن الله حسبه، ومعلوم أن موت أطفالها بقدر الله وليس بسبب شيطان ولا قرينة، والأجل محدد كما قال الله سبحانه: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (3)
__________
(1) أخرجه أحمد في مسند الشاميين، حديث عقبة بن عامر الجهني برقم 16951.
(2) أخرجه أحمد في مسند الشاميين، حديث عقبة بن عامر الجهني برقم 16969.
(3) سورة الأعراف الآية 34(28/283)
فأرجو إشعارها بذلك ووعظها وإرشادها إلى ترك التعلق بالأسباب الواهية المفضية إلى الشرك، وفي الأسباب المشروعة كفاية، وهي ما شرع الله من التعوذات الشرعية، والدعوات الطيبة، والأدوية المباحة، والرقية الشرعية، وما أشبه ذلك من الأسباب المشروعة والمباحة.
وفق الله الجميع للفقه في الدين والثبات عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(28/284)
باب ما جاء في التبرك
57 - مسألة في التبرك
س: هل ثبت في السنة أن البركة الذاتية قد تكون لغير الأنبياء؟ (1)
ج: لا نعلم شيئا في هذا إلا ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أن الله جعل في جسمه وعرقه ومس جسده بركة خاصة به عليه الصلاة والسلام، ولا يقاس عليه غيره من العلماء وغيرهم، وما يفعله بعض الناس من التبرك ببعض الناس فهو غلط لا وجه له، وليس عليه دليل، إنما هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله جعل في عرقه بركة، وفي ريقه وفي وضوئه وفي شعره عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا وزع شعره بين الناس في حجة الوداع، وأمر الصحابة أن يأخذوا من فضل وضوئه ومن عرقه - عليه الصلاة والسلام - لما جعل الله فيه من البركة، ولا يقاس عليه غيره؛ ولهذا لم يتبرك الصحابة بالصديق ولا بعمر ولا بعثمان ولا بعلي وهم
__________
(1) سؤال موجه إلى سماحته بعد الدرس الذي ألقاه في المسجد الحرام بتاريخ 25 \ 12 \ 1418 هـ.(28/285)
أفضل الناس بعد الأنبياء، فدل ذلك على أن هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، أما ما يفعله بعض الناس من التبرك ببعض العلماء أو ببعض العباد أو ببعض جدران الكعبة أو بكسوة الكعبة، فكل هذا لا أصل له، بل يجب منعه.(28/286)
58 - حكم التبرك بقبره عليه الصلاة والسلام
س: هل التبرك بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - جائز؟ (1)
ج: لا يجوز، بل هو بدعة ومن وسائل الشرك، فالتبرك بزيد، أو عمرو، أو بجدران الكعبة، أو بما يشبهه، أو بالأسطوانات، هذه بدعة قد تفضي إلى الشرك إذا ظن أن البركة تحصل منها، أما إذا ظن أنها مشروعة فهذه بدعة، والواجب ترك ذلك، وإنما شرع التبرك به - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وكذلك شرع الله التبرك بماء زمزم الذي جعله الله مباركا.
لكن يجب على المؤمن التمسك بشريعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والحذر مما خالفها، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سؤال موجه لسماحته بعد كلمة ألقاها في المسجد الحرام بتاريخ 25 \ 12 \ 1418 هـ.(28/286)
59 - التبرك بالكعبة
س: هل من خصائص مكة أو الكعبة التبرك بأحجارها أو آثارها؟ (1)
ج: ليس من خصائص مكة أن يتبرك الإنسان بأشجارها وأحجارها، بل من خصائص مكة ألا يعضد ولا يحش حشيشها؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك إلا الإذخر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - استثناه؛ لأنه يكون للبيوت وقيون الحدادين، وكذلك اللحد في القبر فإنه تسد به شقوق اللبنات، وعلى هذا فنقول: إن حجارة الحرم أو مكة ليس فيها شيء يتبرك به بالتمسح به أو بنقله إلى البلاد أو ما أشبه ذلك.
__________
(1) نشر في جريدة المدينة، العدد 13127 بتاريخ 12 \ 12 \ 1419 هـ.(28/287)
باب ما جاء في الذبح لغير الله
60 - حكم الذبح لغير الله
س: ما القول فيمن ذبح في أحد قبب الأولياء، أي: بقعة يوجد بها قبر من مات من المسلمين؟ وهل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد أصحابه بذلك؟ (1)
ج: إن كان الذابح ذبح لصاحب القبر فهذا شرك أكبر، فإن الذبح عبادة، والعبادة حق من حقوق الله الخاصة به، ومن صرف شيئا مما يستحقه الله إلى غيره فهو مشرك كافر، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (3) .
وإذا كان الذبح لله عند هذا القبر فلا يجوز؛ لأنه بدعة ومن وسائل الشرك، والوسائل لها حكم الغايات في المنع. والله الموفق.
__________
(1) صدر من مكتب سماحته برقم (1986) وتاريخ 20 \ 6 \ 1398 هـ.
(2) سورة الأنعام الآية 162
(3) سورة الأنعام الآية 163(28/288)
61 - حكم الصدقة والحج عمن كان يذبح لغير الله
س: سائل يقول: إن والده يذبح لغير الله فيما قيل له عن ذلك، ويريد الآن أن يتصدق عنه ويحج عنه، ويعزو سبب وقوع والده في ذلك إلى عدم وجود علماء ومرشدين وناصحين له، فما الحكم في ذلك كله؟ (1)
ج: إذا كان والده معروفا بالخير والإسلام والصلاح، فلا يجوز له أن يصدق من ينقل عنه غير ذلك ممن لا تعرف عدالته، ويسن له الدعاء له والصدقة عنه حتى يعلم يقينا أنه مات على الشرك، وذلك بأن يثبت لديه بشهادة الثقات العدول اثنين أو أكثر أنهم رأوه يذبح لغير الله من أصحاب القبور أو غيرهم، أو سمعوه يدعو غير الله، فعند ذلك يمسك عن الدعاء له، وأمره إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استأذن ربه أن يستغفر لأمه فلم يأذن الله له، مع أنها ماتت في الجاهلية على دين
__________
(1) نشر في (مجلة الدعوة) العدد (1648) بتاريخ 8 ربيع الأول 1419 هـ.(28/289)
الكفار، ثم استأذن ربه أن يزورها فأذن له، فدل ذلك على أن من مات على الشرك ولو جاهلا لا يدعى له، ولا يستغفر له، ولا يتصدق عنه، ولا يحج عنه، أما من مات في محل لم تبلغه دعوة الله، فهذا أمره إلى الله سبحانه، والصحيح من أقوال أهل العلم أنه يمتحن يوم القيامة، فإن أطاع دخل الجنة، وإن عصى دخل النار؛ لأحاديث صحيحه وردت في ذلك.(28/290)
باب ما جاء في النذر
62 - حكم النذر لغير الله
س: هذا يسأل يقول: إن أباه كان يتعاطى أمور الشرك؛ يسأل الأموات، وينذر لهم، ويستغيث بالأموات، فهل يدعو له؟ (1)
الجواب: من مات على الشرك لا يدعى له، والله يقول - جل وعلا -: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (2) ، فالرجل ينهى عن الاستغفار لوالديه إذا كانا ماتا على الكفر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات أبو طالب على الكفر أراد أن يستغفر له، فنهاه الله عن ذلك. فعليك يا عبد الله ألا تستغفر له، وألا تدعو له ولا عليه، أمره إلى الله ما دام مات على عبادة القبور؛ يسأل الأموات ويستغيث بهم ويطلبهم المدد وينذر لهم، هذا شرك أكبر كالذي يعبد الأصنام، نعوذ بالله من ذلك.
__________
(1) من أسئلة حج 1408 هـ الشريط الثاني.
(2) سورة التوبة الآية 113(28/291)
باب ما جاء في الاستغاثة بغير الله
63 - حكم دعاء الأقطاب والأوتاد والاستغاثة بهم
س: سؤال من الأخ: ع. م. ح من اليمن يقول فيه:
يوجد في بلادنا أناس متمسكون بأوراد ما أنزل الله بها من سلطان، منها ما هو بدعي، ومنها ما هو شركي، وينسبون ذلك إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وغيره، ويقرءون تلك الأوراد في مجالس الذكر أو في المساجد بعد صلاة المغرب زاعمين أنها قربة إلى الله، كقولهم: بحق الله رجال الله أعينونا بعون الله وكونوا عوننا بالله، وكقولهم: يا أقطاب، ويا أوتاد، ويا أسياد أجيبوا يا ذوي الإمداد، فينا واشفعوا لله هذا عبدكم واقف، وعلى بابكم عاكف، ومن تقصيره خائف، أغثنا يا رسول الله وما لي غيركم مذهب، ومنكم يحصل المطلب، وأنتم خير أهل الله، بحمزة سيد الشهداء، ومن منكم لنا مدد، أغثنا يا رسول الله، وكقولهم: اللهم صل على من جعلته سببا لانشقاق أسرارك الجبروتية وانفلاقا لأنوارك الرحمانية، فصار(28/292)
نائبا عن الحضرة الربانية، وخليفة أسرارك الذاتية، نرجو بيان ما هو بدعة وما هو شرك، وهل تصح الصلاة خلف الإمام الذي يدعو بهذا الدعاء؟ (1)
ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد: فاعلم - وفقك الله - أن الله سبحانه إنما خلق الخلق وأرسل الرسل - عليهم الصلاة والسلام - ليعبد وحده لا شريك له دون ما سواه، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) ، والعبادة هي طاعته سبحانه وطاعة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - بفعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى الله عنه ورسوله. عن إيمان بالله ورسوله وإخلاص لله في العمل كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (3) ، أي أمر وأوصى بأن يعبد وحده، وقال تعالى:
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ص 182 عندما كان سماحته رئيسا للجامعة.
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة الإسراء الآية 23(28/293)
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (2) {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (3) {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (4) ، أبان سبحانه بهذه الآيات أنه هو المستحق لأن يعبد وحده ويستعان به وحده، وقال - عز وجل -: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (5) ، وقال سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (6) ، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (7) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وكلها تدل على وجوب إفراد الله بالعبادة، ومعلوم أن الدعاء بأنواعه من العبادة، فلا يجوز لأحد من الناس أن يدعو إلا ربه ولا يستعين ولا يستغيث إلا به؛ عملا بهذه الآيات الكريمات وما جاء في معناها. وهذا فيما عدا الأمور العادية والأسباب الحسية التي يقدر عليها المخلوق الحي الحاضر، فإن تلك ليست من العبادة، بل يجوز بالنص والإجماع أن يستعين الإنسان بالإنسان الحي القادر في الأمور العادية التي يقدر عليها، كأن يستعين
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 2
(2) سورة الفاتحة الآية 3
(3) سورة الفاتحة الآية 4
(4) سورة الفاتحة الآية 5
(5) سورة الزمر الآية 2
(6) سورة غافر الآية 14
(7) سورة الجن الآية 18(28/294)
به أو يستغيث به في دفع شر ولده أو خادمه أو كلبه وما أشبه ذلك، وكأن يستعين الإنسان بالإنسان الحي الحاضر القادر أو الغائب بواسطة الأسباب الحسية كالمكاتبة ونحوها في بناء بيته، أو إصلاح سيارته، أو ما أشبه ذلك، ومن هذا الباب قول الله - عز وجل - في قصة موسى - عليه الصلاة والسلام -: {الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (1) ، ومن ذلك استغاثة الإنسان بأصحابه في الجهاد والحرب ونحو ذلك، فأما الاستغاثة بالأموات والجن والملائكة والأشجار والأحجار فذلك من الشرك الأكبر، وهو من جنس عمل المشركين الأولين مع آلهتهم كالعزى واللات وغيرهما، وهكذا الاستغاثة والاستعانة بمن يعتقد فيهم الولاية من الأحياء فيما لا يقدر عليه إلا الله، كشفاء المرضى وهداية القلوب ودخول الجنة والنجاة من النار وأشباه ذلك، والآيات السابقات وما جاء في معناها من الآيات والأحاديث كلها تدل على وجوب توجيه القلوب إلى الله في جميع الأمور وإخلاص العبادة لله وحده؛ لأن العباد خلقوا لذلك، وبه أمروا كما سبق في الآيات، وكما في
__________
(1) سورة القصص الآية 15(28/295)
قوله سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (1) ، وقوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2) الآية، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاذ - رضي الله عنه -: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (3) » متفق على صحته، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: «من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار (4) » رواه البخاري، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: " إنك تأتي أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله (5) » وفي لفظ: «فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) سورة البينة الآية 5
(3) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب إرداف الرجل خلف، برقم 5967، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة برقم 30.
(4) رواه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا) برقم 4497.
(5) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، برقم 1458، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام برقم 19.(28/296)
إلا الله وأني رسول الله (1) » وفي رواية للبخاري: «فادعهم إلى أن يوحدوا الله (2) » وفي صحيح مسلم عن طارق بن أشيم الأشجعي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل (3) » .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهذا التوحيد هو أصل دين الإسلام، وهو أساس الملة، وهو رأس الأمر، وهو أهم الفرائض، وهو الحكمة من خلق الثقلين والحكمة من إرسال الرسل جميعا عليهم الصلاة والسلام كما تقدمت الآيات الدالة على ذلك، ومنها قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4) ، ومن الأدلة على ذلك أيضا قوله - عز وجل -:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء برقم 1496.
(2) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم 7372.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ولفظه: '' من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله. . . '' الحديث برقم 23.
(4) سورة الذاريات الآية 56(28/297)
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) ، وقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) ، وقال - عز وجل - عن نوح وهود وصالح وشعيب - عليهم الصلاة والسلام - إنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (3) ، وهذه دعوة الرسل جميعا كما دلت على ذلك الآيتان السابقتان.
وقد اعترف أعداء الرسل بأن الرسل أمروهم بإفراد الله بالعبادة وخلع الآلهة المعبودة من دونه، كما قال - عز وجل - في قصة عباداتهم قالوا لهود - عليه الصلاة والسلام -: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} (4) ، وقال - سبحانه وتعالى - عن قريش لما دعاهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى إفراد الله بالعبادة وترك ما يعبدون من دونه من الملائكة والأولياء والأصنام والأشجار وغير ذلك: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (5)
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25
(3) سورة الأعراف الآية 59
(4) سورة الأعراف الآية 70
(5) سورة ص الآية 5(28/298)
وقال عنهم - سبحانه - في سورة الصافات: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (1) {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (2) والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة.
ومما ذكرناه من الآيات والأحاديث يتضح لك - وفقني الله وإياك للفقه في الدين والبصيرة بحق رب العالمين - أن هذه الأدعية وأنواع الاستغاثة التي بينتها في سؤالك كلها من أنواع الشرك الأكبر؛ لأنها عبادة لغير الله وطلب لأمور لا يقدر عليها سواه من الأموات والغائبين، وذلك أقبح من شرك الأولين؛ لأن الأولين إنما يشركون في حال الرخاء، وأما في حال الشدائد فيخلصون لله العبادة؛ لأنهم يعلمون أنه سبحانه هو القادر على تخليصهم من الشدة دون غيره، كما قال - تعالى - في كتابه المبين عن أولئك المشركين: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (3) ، وقال - سبحانه وتعالى -
__________
(1) سورة الصافات الآية 35
(2) سورة الصافات الآية 36
(3) سورة العنكبوت الآية 65(28/299)
يخاطبهم في آية أخرى في سورة سبحان: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} (1) ، فإن قال قائل من هؤلاء المشركين المتأخرين: إننا لا نقصد أن أولئك ينفعون بأنفسهم، ويشفون مرضانا بأنفسهم، أو يعينونا بأنفسهم، أو يضرون عدوا بأنفسهم، وإنما نقصد شفاعتهم إلى الله في ذلك.
فالجواب أن يقال لهم: إن هذا هو مقصد الكفار الأولين ومرادهم، وليس مرادهم أن آلهتهم تخلق أو ترزق أو تنفع أو تضر بنفسها، فإن ذلك يبطله ما ذكره الله عنهم في القرآن، وإنما أرادوا شفاعتهم وجاههم وتقريبهم إلى الله زلفى، كما قال - سبحانه وتعالى - في سورة يونس - عليه الصلاة والسلام -: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (2) ، فرد الله عليهم ذلك بقوله سبحانه: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (3) ،
__________
(1) سورة الإسراء الآية 67
(2) سورة يونس الآية 18
(3) سورة يونس الآية 18(28/300)
فأبان سبحانه أنه لا يعلم في السماوات ولا في الأرض شفيعا عنده على الوجه الذي يقصده المشركون، وما لا يعلم الله وجوده لا وجود له؛ لأنه -سبحانه - لا يخفى عليه شيء. وقال -تعالى - في سورة الزمر: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (1) {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (2) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (3) ، فأبان سبحانه أن العبادة له وحده، وأنه يجب على العباد إخلاصها له جل وعلا؛ لأن أمره للنبي - صلى الله عليه وسلم - بإخلاص العبادة له أمر للجميع.
ومعنى الدين هنا هو العبادة، والعبادة هي طاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما سلف، ويدخل فيها الدعاء والاستغاثة والخوف والرجاء والذبح والنذر، كما يدخل فيها الصلاة والصوم وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله. ثم قال - عز وجل - بعد ذلك: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (4) ، أي يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى
__________
(1) سورة الزمر الآية 1
(2) سورة الزمر الآية 2
(3) سورة الزمر الآية 3
(4) سورة الزمر الآية 3(28/301)
الله زلفى، فرد الله عليهم بقوله -سبحانه -: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (1) ، فأوضح - سبحانه - في هذه الآية الكريمة أن الكفار ما عبدوا الأولياء من دونه إلا ليقربوهم إلى الله زلفى.
وهذا هو مقصد الكفار قديما وحديثا، وقد أبطل الله ذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (2) ، فأوضح - سبحانه - كذبهم في زعمهم أن آلهتهم تقربهم إلى الله زلفى وكفرهم بما صرفوا لها من العبادة، وبذلك يعلم كل من له أدنى تمييز أن الكفار الأولين إنما كان كفرهم باتخاذهم الأنبياء والأولياء والأشجار والأحجار، وغير ذلك من المخلوقات شفعاء بينهم وبين الله، واعتقدوا أنهم يقضون حوائجهم من دون إذنه سبحانه ولا رضاه، كما تشفع الوزراء عند الملوك، فقاسوه - عز وجل - على الملوك والزعماء، وقالوا: كما أنه من له حاجة إلى الملك والزعيم يتشفع إليه بخواصه ووزرائه، فهكذا نحن نتقرب إلى الله بعبادة أنبيائه وأوليائه. وهذا من أبطل
__________
(1) سورة الزمر الآية 3
(2) سورة الزمر الآية 3(28/302)
الباطل؛ لأنه سبحانه لا شبيه له ولا يقاس بخلقه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لأهل التوحيد، وهو - سبحانه وتعالى - على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وهو أرحم الراحمين، لا يخشى أحدا ولا يخافه؛ لأنه -سبحانه - هو القاهر فوق عباده والمتصرف فيهم كيف يشاء، بخلاف الملوك والزعماء، فإنهم ما يقدرون على كل شيء، ولا يعلمون كل شيء؛ فلذلك يحتاجون إلى من يعينهم على ما قد يعجزون عنه من وزرائهم وخواصهم وجنودهم، كما يحتاجون إلى تبليغهم حاجات من لا يعلمون حاجته؛ ولأن الملوك والزعماء قد يظلمون ويغضبون بغير حق، فيحتاجون إلى من يستعطفهم ويسترضيهم من وزرائهم وخواصهم، أما الرب - عز وجل - فهو -سبحانه - غني عن جميع خلقه، وهو أرحم بهم من أمهاتهم، وهو الحاكم العدل، يضع الأشياء في مواضعها على مقتضى حكمته وعلمه وقدرته، فلا يجوز أن يقاس بخلقه بوجه من الوجوه.
ولهذا أوضح -سبحانه - في كتابه أن المشركين قد أقروا بأنه الخالق الرازق المدبر، وأنه هو الذي يجيب المضطر ويكشف السوء(28/303)
ويحيي ويميت، إلى غير ذلك من أفعاله سبحانه، وإنما الخصومة بين المشركين وبين الرسل في إخلاص العبادة لله وحده، كما قال - عز وجل -: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (1) ، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (2) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وسبق ذكر الآيات الدالة على أن النزاع بين الرسل وبين الأمم إنما هو في إخلاص العبادة لله وحده، كقوله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) الآية. وما جاء في معناها من الآيات، وبين سبحانه في مواضع كثيرة من كتابه الكريم شأن الشفاعة، فقال تعالى في سورة البقرة: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (4) ، وقال في سورة النجم:
__________
(1) سورة الزخرف الآية 87
(2) سورة يونس الآية 31
(3) سورة النحل الآية 36
(4) سورة البقرة الآية 255(28/304)
{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (1) ، وقال في سورة الأنبياء في وصف الملائكة: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (2) ، وأخبر - عز وجل - أنه لا يرضى من عباده الكفر، وإنما يرضى منهم الشكر، والشكر هو توحيده والعمل بطاعته، فقال تعالى في سورة الزمر: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} (3) الآية.
روى البخاري في صحيحه عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: «يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: " من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه - أو قال - من نفسه (4) » وفي الصحيح عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله
__________
(1) سورة النجم الآية 26
(2) سورة الأنبياء الآية 28
(3) سورة الزمر الآية 7
(4) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب الحرص على الحديث، برقم 99.(28/305)
من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا (1) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وجميع ما ذكرنا من الآيات والأحاديث كله يدل على أن العبادة حق لله وحده، وأنه لا يجوز صرف شيء منها لغير الله، لا للأنبياء ولا لغيرهم، وأن الشفاعة ملك الله عز وجل، كما قال سبحانه: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} (2) الآية. ولا يستحقها أحد إلا بعد إذنه للشافع ورضاه عن المشفوع فيه، كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (3) وقال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (4) الآية. والظلم عند الإطلاق هو الشرك، كما قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (5) ، وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (6) .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة برقم 4307.
(2) سورة الزمر الآية 44
(3) سورة المدثر الآية 48
(4) سورة غافر الآية 18
(5) سورة البقرة الآية 254
(6) سورة لقمان الآية 13(28/306)
أما ما ذكرته في السؤال من قول بعض الصوفية في المساجد وغيرها: اللهم صل على من جعلته سببا لانشقاق أسرارك الجبروتية وانفلاقا لأنوارك الرحمانية، فصار نائبا عن الحضرة الربانية وخليفة أسرارك الذاتية. . . إلخ، فالجواب:
أن يقال: إن هذا الكلام وأشباهه من جملة التكلف والتنطع الذي حذر منه نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم في الصحيح، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «" هلك المتنطعون " قالها ثلاثا (2) » .
قال الإمام الخطابي - رحمه الله -: المتنطع المتعمق في الشيء المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم.
وقال أبو السعادات بن الأثير: هم المتعمقون المغالون في الكلام المتكلمون بأقصى حلوقهم، مأخوذ من النطع هو الغار الأعلى في الفم، ثم استعمل في كل تعمق قولا وفعلا.
__________
(1) صحيح مسلم العلم (2670) ، سنن أبي داود السنة (4608) ، مسند أحمد (1/386) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، برقم 2670. (1)(28/307)
وبما ذكره هذان الإمامان وغيرهما من أئمة اللغة، يتضح لك ولكل من له أدنى بصيرة أن هذه الكيفية في الصلاة والسلام على نبينا وسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جملة التكلف والتنطع المنهي عنه، والمشروع للمسلم في هذا الباب أن يتحرى الكيفية الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفة الصلاة والسلام عليه، وفي ذلك غنية عن غيره، ومن ذلك ما روى البخاري ومسلم في الصحيحين واللفظ للبخاري، عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - «أن الصحابة - رضي الله عنهم - قالوا: يا رسول الله، أمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: " قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد (1) » .
وفي الصحيحين عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - «أنهم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله تعالى: واتخذ الله إبراهيم خليلا برقم 3370.(28/308)
قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال: " قولوا: اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد " (1) » . وفي صحيح مسلم عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال: «قال بشير بن سعد: يا رسول الله أمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟ فسكت ثم قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، والسلام كما علمتم (2) » .
فهذه الألفاظ وأشباهها وغيرها مما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هي التي ينبغي للمسلم أن يتعلمها في صلاته وسلامه
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا) برقم 3369، ومسلم في كتاب الصلاة، باد الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم 407.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم 405.(28/309)
على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أعلم الناس بما يليق أن يستعمل في حقه، كما أنه هو أعلم الناس بما ينبغي أن يستعمل في حق ربه من الألفاظ، أما الألفاظ المتكلفة والمحدثة والألفاظ المحملة لمعنى غير صحيح كالألفاظ التي ذكرت في السؤال فإنه لا ينبغي استعمالها؛ لما فيها من التكلف، ولكونها قد تفسر بمعان باطلة، مع كونها مخالفة للألفاظ التي اختارها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرشد إليها أمته، وهو أعلم الخلق وأنصحهم وأبعدهم عن التكلف، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وأرجو أن يكون فيما ذكرناه من الأدلة في بيان حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك والفرق بين ما كان عليه المشركون الأولون والمشركون المتأخرون في هذا الباب، وفي بيان كيفية الصلاة المشروعة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفاية ومقنع لطالب الحق. أما من لا رغبة له في معرفة الحق فهذا تابع لهواه، وقد قال الله - عز وجل -: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1)
__________
(1) سورة القصص الآية 50(28/310)
فبين - سبحانه - في هذه الآية الكريمة أن الناس بالنسبة إلى ما بعث الله به نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - من الهدى ودين الحق قسمان: أحدهما: مستجيب لله ولرسوله، والثاني: تابع لهواه، وأخبر -سبحانه - أنه لا أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، فنسأل الله - عز وجل - العافية من اتباع الهوى، كما نسأله -سبحانه - أن يجعلنا وإياكم وسائر إخواننا من المستجيبين لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - والمعظمين لشرعه، والمحذرين من كل ما يخالف شرعه من البدع والأهواء، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(28/311)
64 - الاستغاثة بغير الله
س: لدينا عادات وتقاليد مخالفة لشريعتنا الإسلامية الغراء، ومن هذه العادات ما يلي:
يجتمع الناس يوم الجمعة قبل صلاة الجمعة يصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - بصوت مرتفع وجماعي، ثم إنهم يستغيثون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبأولياء الله الصالحين بهذه الألفاظ: شيء لله يا رسول الله، شيء لله يا أولياء الله الصالحين، شيء لله يا رجال الله المؤمنين أغيثونا، أعينونا، مدونا بالرعاية، وكأمثال هذه الألفاظ، ويرجو التوجيه جزاكم الله خيرا (1) .
ج: أما الاجتماع على الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بصوت جماعي أو صوت مرتفع فهذا بدعة، والمشروع للمسلمين أن يصلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - من دون رفع الصوت المستغرب المستنكر، ومن دون أن يكون ذلك جماعيا،
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) .(28/312)
كل يصلي بينه وبين نفسه: اللهم صل وسلم على رسول الله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. . . إلى آخره، يصلي بينه وبين نفسه؛ لأن يوم الجمعة يشرع فيه الإكثار من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أمر بهذا - عليه الصلاة والسلام - فقال: «إن خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا علي من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي. قالوا: يا رسول الله كيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء (1) » ا. هـ.
فدل ذلك على مشروعية الإكثار من الصلاة والسلام عليه - عليه الصلاة والسلام - يوم الجمعة، ويشرع لنا أن نكثر من ذلك في المسجد وفي غيره، لكن كل واحد يصلي على النبي بينه وبين نفسه الصلوات المشروعة المعروفة من دون أن يكون ذلك بصوت
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الجمعة، باب إكثار الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم 1374، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة برقم 1047، وابن ماجه في كتاب ما جاء في الجنائز، باب ذكر وفاته ودفنه - صلى الله عليه وسلم - برقم 1636، وأحمد في أول مسند المدنيين رضي الله عنهم، مسند أوس بن أبي أوس الثقفي برقم 15729.(28/313)
مرتفع يشوش على من حوله أو بصوت جماعي يتكلم جماعة جميعا، كل هذا بدعة، ولكن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين نفسه في مسجده وفي طريقه وفي بيته وفي كل مكان، وهكذا في بقية الأيام والأوقات تشرع الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لقول الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) ، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا (2) » .
فالصلاة والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - مشروعة للرجال والنساء جميعا في يوم الجمعة وغيره، لكن بالطريقة التي درج عليها المسلمون من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتباعهم بإحسان، كل واحد يصلي على النبي بينه وبين نفسه من غير حاجة إلى أن يرفع صوته حتى لا يشغل من حوله ومن غير حاجة إلى أن يكون معه جماعة بصوت جماعي.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 56
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم 408.(28/314)
أما الاستغاثة بالأنبياء أو بغيرهم من الأموات والغائبين أو الجن أو الأصنام أو غيرها من الجمادات، فهذا من الشرك الأكبر، وهو من عمل المشركين الأولين والآخرين، فالواجب التوبة إلى الله منه والتواصي بتركه، فلا يجوز أن يقول أحد: يا رجال الغيب شيء لله، أو: يا أولياء الله شيء لله، أو: يا رسول الله شيء لله، أو: أغيثونا، أو: أعينونا، أو: انصرونا، كل هذا منكر وشرك أكبر بالله عز وجل؛ لقول الله سبحانه في كتابه العظيم: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (1) ، سمى - سبحانه - دعاءهم غير الله كفرا، وحكم عليهم بعدم الفلاح، وقال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (2) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} (3) ، فسمى دعاءهم غير الله شركا، فالواجب الحذر من هذا.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 117
(2) سورة فاطر الآية 13
(3) سورة فاطر الآية 14(28/315)
والله سبحانه يقول: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) ، ويقول - جل وعلا -: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (2) .
فالله هو الذي يدعى، سبحانه وتعالى، وهو الذي يكشف الضر، وهو الذي يجلب النفع سبحانه وتعالى، فيقول المؤمن: يا رب اشفني، يا رب أعني، يا رب اهدني سواء السبيل، يا رب أصلح قلبي وعملي، يا رب توفني مسلما، تدعو ربك بذلك؛ لقوله سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (3) ، ولقوله سبحانه: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (4) ، وقوله جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (5) . ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الدعاء هو العبادة (6) » .
فالمشروع للمسلمين رجالا ونساء الإكثار من الدعاء والحرص على دعاء الله جل وعلا، والضراعة إليه في جميع الحاجات
__________
(1) سورة الجن الآية 18
(2) سورة غافر الآية 60
(3) سورة غافر الآية 60
(4) سورة النساء الآية 32
(5) سورة البقرة الآية 186
(6) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب منه برقم 3372.(28/316)
سبحانه وتعالى، أما دعاء الأنبياء أو الأولياء أو غيرهم من الناس عند قبورهم أو في أماكن بعيدة عنهم كل هذا منكر، وهو شرك بالله - عز وجل - وشرك أكبر يجب الحذر منه، كهذا الذي ذكره السائل: يا عباد الله يا أنبياء الله أعينونا أغيثونا، كل هذا لا يجوز، قال الله - جل وعلا -: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (1) ، وقال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) ، ويقول - جل وعلا - في حق نبيه - عليه الصلاة والسلام -: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) ، فالأمر عظيم، ويقول تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) ، فالواجب الحذر، والواجب على كل مسلم وعلى كل من ينتسب للإسلام وعلى كل مكلف أن يعبد الله وحده، وأن يخصه بالعبادة دون من سواه، قال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (5) ، وقال تعالى:
__________
(1) سورة لقمان الآية 13
(2) سورة الأنعام الآية 88
(3) سورة الزمر الآية 65
(4) سورة الأنعام الآية 88
(5) سورة الإسراء الآية 23(28/317)
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) ، فلا تسأل نبيا ولا وليا ولا شجرا ولا حجرا ولا صنما ولا غير ذلك في طلب حاجة من نصر ولا شفاء مريض ولا غير ذلك، بل اسأل الله حاجتك كلها، هذا هو توحيد الله وهو الدين الحق وهذا هو الإسلام، وأن تتوجه إلى الله بسؤالاتك وحاجاتك، وأن تعبده وحده بدعائك وصلاتك وصومك وسائر عباداتك، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود حقا إلا الله، كما قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (2) .
أما المخلوق وإن كان عظيما كالأنبياء، فإنه لا يدعى من دون الله، ولا يستغاث به، ولا ينذر له، ولا يذبح له، فعلى المسلم أن يفهم هذا جيدا، وعلى كل مكلف أن يفهم هذا جيدا، وأن يعلم أن هذا أمره عظيم، وأن أصل دين الإسلام وقاعدته هو إخلاص العبادة لله وحده، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها: لا معبود حقا إلا الله، كما تقدم.
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) سورة الحج الآية 62(28/318)
فالله -سبحانه - هو الذي يدعى وهو الذي يسأل، كما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) ، وقال تعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} (2) ، فالخطأ في هذا أمره عظيم جدا لا يجوز التساهل فيه؛ لأنه شرك الجاهلية وشرك المشركين الأولين، ولأنه ضد الإسلام وضد لا إله إلا الله، فالواجب الحذر من هذه الشركيات، وعليك أيها السائل أن تنذر قومك وأن تبلغهم وأن ترشدهم إلى أن يتفقهوا في الدين ويتعلموا القرآن ويتدبروه، وأن يعتنوا بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويعملوا بها، ويحضروا حلقات العلم عند العلماء المعروفين بالعلم والفضل وحسن العقيدة، وأن يستمعوا إلى إذاعة القرآن الكريم في المملكة العربية السعودية وبرنامج نور على الدرب؛ لما في ذلك من العلم النافع والأجوبة الشرعية عما يسأل عنه المستمعون، نسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة طه الآية 98(28/319)
أما سؤال الحي الحاضر والاستعانة به فيما يقدر عليه مباشرة أو من طريق الكتابة ونحوها كالهاتف، فلا بأس بذلك؛ لقول الله - عز وجل - في قصة موسى - عليه الصلاة والسلام - في سورة القصص: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (1) ، وهذا أمر لا خلاف فيه بين أهل العلم، والحمد لله.
__________
(1) سورة القصص الآية 15(28/320)
65 - حكم قول: مدد يا فلان
س: من يقول: مدد يا فلان ويقول: أنا لا أطلب منه المدد. هل هذا تلفظ يكفر بهذا؟ (1)
ج: نعم هذا عمل قريش، يقولون: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (2) ، هؤلاء ما قالوا: إنهم ينفعونا أو يضرونا، أو: إنهم أربابنا هم الذين ينفعونا أو يضرونا، قالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (3) ، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (4) ، ما قالوا: لينفعونا أو يضرونا.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1408، الشريط الثاني.
(2) سورة يونس الآية 18
(3) سورة يونس الآية 18
(4) سورة الزمر الآية 3(28/320)
س: ما هي النصيحة التي تقدمها لطالب العلم للمعاملة مع هؤلاء الذين قد نصطدم بهم كثيرا؟
ج: تنصحهم بالرفق، وتدعوهم إلى الله بالرفق، وتبين لهم الشرك والتوحيد بالرفق؛ لعل الله يهديهم بأسبابك.
س: وإن لم يتقبلوا النصحية؟
ج: تهجرهم وتتبرأ من أعمالهم، إلا إذا طمعت فيهم فكررت النصح؛ لعل الله يهديهم بأسبابك، وإذا صبرت جزاك الله خيرا.(28/321)
66 - مسألة في الاستغاثة بغير الله
س: الاستغاثة بغير الله في بلد مثل سائر البلاد الإسلامية هل فيه عذر بالجهل؟ (1)
ج: ما نعلم فيه عذرا بالجهل، أصبحت بلادا إسلامية فيها مسلمون وفيها العلماء وفيها كليات الشريعة، لماذا لا يسأل حتى يتبصر في دينه؟ وينبغي في مثل هذا ألا يعذر، ينبغي أن يتكلم عليه
__________
(1) من أسئلة حج عام 1408 هـ، الشريط الثالث.(28/321)
من عنده علم ويزجره، ويستتاب إن كان هناك من يقوم بهذا الأمر، يستتاب فإن تاب وإلا وجب قتله ردة.(28/322)
67 - حكم قول " استعنت ببعض الثقات "
س: يقول شخص: " كلفوني بعمل خيري فاستعنت ببعض الثقات " فهل في قوله: " استعنت ببعض الثقات " محذور شرعي، مع أن نيته أنهم يعينونه ويساعدونه حسب قدرتهم؟ وجزاكم الله خيرا (1) .
ج: لا حرج في هذا اللفظ إذا كان المستعان به حيا حاضرا قادرا، أو بالمكاتبة، أو عن طريق الهاتف، وإنما تمنع الاستعانة بالأموات والغائبين بغير واسطة حسية كالكتابة والهاتف، وهكذا الاستعانة بالجمادات كالأصنام والأشجار والنجوم؛ لأن ذلك من الشرك، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1658، بتاريخ 19 \ 5 \ 1419 هـ.(28/322)
باب ما جاء في التحذير من الغلو في الصالحين
68 - مسألة في التحذير من الغلو
س: ما رأيكم في الغلو في النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول بعضهم: إنه الأول والآخر والظاهر والباطن، فما رأيكم في مثل هذا الاعتقاد فيه - صلى الله عليه وسلم -؟
ج: الأول والآخر والظاهر والباطن هو الله عز وجل، يقول سبحانه في سورة الحديد: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر (2) » رواه الإمام مسلم في صحيحه.
__________
(1) سورة الحديد الآية 3
(2) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم 2713.(28/323)
فمن قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، فهو كافر؛ لكونه وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسماء أربعة مختصة بالله - عز وجل - لا يستحقها غيره. وهذا لا يقوله عاقل يفهم ما يقول، الأول والظاهر هو الله وحده سبحانه، وهو الذي قبل كل شيء وبعد كل شيء سبحانه وتعالى. وهو الظاهر فوق جميع خلقه، والباقي بعدهم، والذي يعلم أحوالهم، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم إلا ما علمه الله، وقد توفي عليه الصلاة والسلام، ووجد بعد أن كان معدوما، وجد في مكة بين أمه آمنة وأبيه عبد الله، وكان عدما قبل ذلك، ثم وجد من ماء مهين، وغيره من البشر كذلك، فالذي يقول: إنه الأول والآخر والظاهر والباطن، فهو ضال ومرتد إن كان مسلما.(28/324)
69 - بيان أنه لا يعلم الغيب إلا الله تعالى
س: يقول السائل: علم الغيب يقتصر على المولى - عز وجل - دون سواه، وهناك آيات قرآنية تؤكد انفراد المولى - عز وجل - دون غيره بذلك، ولكن نجد في كثير من الكتب عند اطلاعنا عليها أنه يكتب في نهاية الحديث أو العبارة أو الصفحة(28/324)
: " والله ورسوله أعلم ". فما معنى ذلك؟ هل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم الغيب في حياته ومماته أيضا؟ (1) نرجو من سماحتكم إجابتنا وإفادتنا والاستدلال إذا أمكن بالقرآن الكريم، وجزاكم الله خيرا.
ج: علم الغيب إلى الله - عز وجل - وليس عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره شيء من علم الغيب، فهو مختص بالله عز وجل، كما قال الله - سبحانه وتعالى -: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (2) ، وقوله - سبحانه وتعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في سورة الأعراف: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3) ، ويقول سبحانه وتعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (4) .
فالغيب عند الله - عز وجل - ومختص به سبحانه وتعالى، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، يعلم
__________
(1) من ضمن أسئلة أجاب عنها سماحته في تاريخ 11 \ 9 \ 1408 هـ.
(2) سورة النمل الآية 65
(3) سورة الأعراف الآية 188
(4) سورة الأنعام الآية 59(28/325)
ما يكون في الآخرة وما في الجنة والنار، ويعلم الناجين من الهالكين، ويعلم أهل الجنة ويعلم أهل النار، ويعلم كل شيء سبحانه وتعالى، والرسل إنما يعلمون ما جاءهم به الوحي، فما أوحى الله به إليهم يعلمونه، كما قال - سبحانه وتعالى -: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (1) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (2) .
فالله يوحي إلى الرسل ما شاء كما أوحى إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - أشياء كثيرة من أمر الآخرة وأمر القيامة وأمر الجنة والنار، وما يكون في آخر الزمان من الدجال ومن المسيح، وأمر الكعبة، ويأجوج ومأجوج، وغير ذلك مما يكون آخر الزمان، كل هذا من علم الغيب، أوحى الله به إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - وعلمنا إياه وصار معلوما للناس، وهكذا ما يعمله الناس من أمور الغيب عند وقوعه في بلادهم أو في غير بلادهم ويكون معلوما لهم بعد وقوعه وكان لا يعلم لهم قبل ذلك، أما ما يقع في كتب بعض أهل العلم من قولهم: " الله ورسوله أعلم " فهذا فيما يتعلق بأمور الشرع وأحكام الشرع ومرادهم في حياته، يعلم هذه الأشياء عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) سورة الجن الآية 26
(2) سورة الجن الآية 27(28/326)
أما بعد وفاته فلا يعلم ما يكون في العالم ولا يدري عما يحدث في العالم؛ لأنه بموته انقطع علمه بأحوالنا عليه الصلاة والسلام، إنما تعرض عليه من أمته الصلاة والسلام عليه؛ حيث قال: «صلوا علي؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم (1) » حديث صحيح.
أما أمور الناس وحوادث الناس وما يقع منهم من أغلاط وظلم أو حسنات، كل هذا لا يعلمه الرسول ولا غيره ممن مضى ممن مات، ولا يعلمه من يأتي، وقد يعلمه من حوله من الناس لمطالعتهم إياه ولمشاهدتهم أعمالهم من جلسائهم وأهل بلادهم.
والمقصود أن علم الغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وما أوحاه الله إلى الرسل هو من علم الغيب الذي أطلعهم عليه سبحانه وتعالى في حياتهم، وهم أطلعوا الناس عليه وعلموه للناس، وقد صح عن رسول الله أنه قال: «يذاد أناس عن حوضي يوم القيامة، فأقول: يا رب أمتي (2) » وفي لفظ يقول: «أصحابي أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب زيارة القبور برقم 2042، وأحمد في باقي مسند المكثرين، باقي المسند السابق برقم 8586.
(2) صحيح البخاري المساقاة (2367) ، صحيح مسلم الطهارة (249) ، سنن ابن ماجه الزهد (4306) ، مسند أحمد (2/467) ، موطأ مالك الطهارة (60) .(28/327)
مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي (1) » .
فبين - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يعلم ما أحدث الناس بعده، وفي لفظ آخر: «يذاد أناس عن حوضي فأقول: يا رب أمتي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال عيسى ابن مريم: " (3) » .
فهو - صلى الله عليه وسلم - يعلم ما أوحاه الله إليه، وما كان عند الله من الغيب لا يعلمه سواه سبحانه وتعالى، وبعد موته لا يعلم حوادث الناس عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء برقم 249.
(2) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله (واذكر في الكتاب مريم) برقم 3447، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، برقم 2860.
(3) سورة المائدة الآية 117 (2) {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(28/328)
باب بيان أن دعاء أصحاب القبور يعد شركا أكبر
70 - دعاء أصحاب القبور شرك أكبر
س: يقولون: إن الذين يذهبون للقبور ويدعون أصحابها فعلهم فعل شرك وهم ليسوا بمشركين، فهل هذا صحيح؟ (1)
ج: ليس بصحيح، أصحاب القبور الذين يذهبون إلى القبور ويدعونها من دون الله ويستغيثون بها من دون الله هذا الشرك الأكبر، هذا عمل كفار قريش وغيرهم عند اللات والعزى وأشباههما، وهذا هو الشرك الأكبر، فالواجب تحذيرهم وإنذارهم وأن يتوبوا إلى الله من ذلك ويجددوا إسلامهم.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1418 هـ، الشريط السادس.(28/329)
باب زيارة القبور
71 - حكم من يطوف حول القبر ويستغيث به
س: وقع خلاف بين شخصين حول تكفير من يطوف حول القبر ويستغيث به، فمنهم من يقول: إن هذا الفعل فعل شرك ولا خلاف، ولكن يعذر صاحب هذا الفعل لجهله بأمور التوحيد، والآخر يقول: يكفر ذلك الشخص الذي يستغيث بغير الله، ولا يعذر بسبب الجهل بأمور التوحيد، ولكن يعذر في الفرعيات والأمور الفقهية، والسؤال هو: أي الرأيين صواب وأيهما خطأ؟ (1)
ج: الصواب قول من قال: إن هذا لا يعذر؛ لأن هذه أمور عظيمة وهي من أصول الدين، وهو أول شيء دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الصلاة والصوم والزكاة وغير ذلك، فأصول الدين لا يعذر فيها بالجهل لمن هو بين المسلمين ويسمع القرآن ويسمع الأحاديث. الاستغاثة بأصحاب القبور والنذر لهم ودعاؤهم وطلبهم
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) شريط رقم (10) .(28/230)
الشفاء والمدد، كل هذا من أعظم الشرك بالله عز وجل.
والله -سبحانه - يقول في كتابه العظيم: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (1) فسماهم كفارا بذلك.
وقال - عز وجل -: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (2) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (3) سبحانه وتعالى سمى دعاءهم إياهم شركا، والله يقول - جل وعلا -: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (4) .
ويقول - سبحانه -: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (5) .
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 117
(2) سورة فاطر الآية 13
(3) سورة فاطر الآية 14
(4) سورة الجن الآية 18
(5) سورة يونس الآية 106(28/331)
فالظالمون هم المشركون، إذا أطلق الظلم فهو الشرك، كما قال - عز وجل -: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (1) .
وهكذا الطواف بالقبور، إذا طاف يتقرب بذلك إلى صاحب القبر، فهو مثل إذا دعا واستغاث به يكون شركا أكبر، أما إذا طاف يحسب أن الطواف بالقبور قربة إلى الله - قصده التقرب إلى الله كما يطوف الناس بالكعبة - ليتقرب إلى الله بذلك وليس يقصد الميت، فهذا من البدع ومن وسائل الشرك المحرمة والخطيرة، ولكن الغالب على من طاف بالقبور أنه يتقرب إلى أهلها بالطواف ويريد الثواب منهم والشفاعة منهم، وهذا شرك أكبر - نسأل الله العافية - كالدعاء.
__________
(1) سورة لقمان الآية 13(28/332)
72 - مسألة في زيارة القبور
س: يا شيخ، عوام الناس من الصوفية يحضرون المولد، وهذه الموالد تقام فيظنون أن هذا هو الإسلام، يعني فهمهم أن هذا هو الإسلام وأن هذا هو الدين وهذه هي العبادة، ويشدون الرحال إلى الأضرحة والأموات؛ ظنا منهم أن هذا هو الدين، فما(28/332)
الحكم بالنسبة لهم؟ (1)
ج: ماذا عندكم في أم النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ عندها علم بالدين؟ هذه أم النبي - صلى الله عليه وسلم - هل استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر لها فأذن له أم لم يؤذن له؟ هل حضرت الإسلام أو حضرت النبوة؟ عاشت على الجاهلية ولم تعذر؛ لأنها عاشت على بقية دين إبراهيم، وهكذا العرب عاشوا على بقية دين إبراهيم فضيعوه، فلم يعذروا وحكم عليهم بالكفر والجهالة والضلالة، ولم يؤذن للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالاستغفار لأمه، وقال - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن أبيه: «إن أبي وأباك في النار (2) » .
وأبوه مات في الجاهلية، كيف بهؤلاء الذين عاشوا في الإسلام وبين المسلمين وقالوا لهم: يا ناس اتقوا الله، يا ناس اعبدوا الله، ثم يضربونه أو يقتلونه ويقولون: أنت وهابي، أنت فيك ما ليس فيك، لا يريدون دعوة الله والإقبال عليه، غرر بهم دعاة الجهالة، غرر بهم
__________
(1) من أسئلة حج عام 1408 هـ، الشريط الثالث.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن من مات على الكفر فهو في النار برقم 203.(28/333)
علماء السوء، لكن الواجب عليهم أن يسألوا ولا يرضوا بعلماء السوء، يسألوا إذا جاءهم داعي الحق، فعندهم القرآن يقول -سبحانه -: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (1) .
لا يجوز لهم التساهل في هذا أبدا، ينبغي لدعاة الحق أن ينصحوا ويبينوا؛ لأن الله سيسألهم عما عملوه في علمهم كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (2) . والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 19
(2) سورة الزخرف الآية 44(28/334)
73 - ما الحكم إذا جهل كون المسجد بني على القبر أم المسجد بني أولا
س: يوجد عندنا مسجد به ضريح، ولا نعلم هل المسجد بني على القبر أم المسجد بني أولا، وقد قمنا - لعدم توفير النفقة لبناء مسجد آخر - ببناء جدار يفصل القبر عن المسجد، علما أن بناء الجدار الفاصل داخل حدود المسجد، فهل(28/334)
هذا العمل جائز؟ أفتونا جزاكم الله خيرا (1)
ج: الواجب نبش القبر وإبعاده إلى المقابر، وإخراج الرفات، ودفن صاحبه في المقبرة العامة، هذا إذا كان الميت دفن في المسجد بعد بناء المسجد، فإنه ينبش القبر ويؤخذ الرفات ويوضع في المقابر العامة، يحفر له ويوضع في المقابر العامة كسائر القبور، ولا يجوز دفن الموتى في المساجد، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » وأخبر - صلى الله عليه وسلم - «أن اليهود والنصارى إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، قال: " أولئك شرار الخلق عند الله " (3) » فالواجب إذا كان
__________
(1) سؤال موجه إلى سماحته بعد الدرس الذي ألقاه في المسجد الحرام بتاريخ 25 \ 12 \ 1418 هـ.
(2) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل برقم 3454، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، برقم 529.
(3) أخرجه البخاري كتاب الجنائز، باب بناء المسجد على القبر، برقم 1341، ومسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، برقم 528.(28/335)
هناك مسجد وضع فيه قبر، فإنه يجب إخراج رفات القبر ووضعها في قبر خاص في المقبرة العامة حتى لا يوجد في المساجد شيء من القبور، أما إذا كان المسجد بني على القبر، والقبر هو القديم، فإنه يهدم المسجد، يهدم ويلتمسون مسجدا آخر، يبني لهم مسجد آخر، أرض الله واسعة؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبني على القبر وأن يجصص وأن يقعد عليه؛ لأن هذه وسيلة إلى الشرك، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها (1) » هكذا قال عليه الصلاة والسلام، فإذا كان المسجد هو الذي بني على القبر، فيهدم المسجد ويبنونه في محل آخر ليس فيه قبور، والقبر إذا كان وحده ينبش ويوضع في محل القبور؛ حتى لا يغالى فيه، ولا يفتتن فيه أحد، نسأل الله العافية، ونسأل الله أن يهدي المسلمين.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، برقم 972.(28/336)
باب ما جاء في الصور
74 - حكم التصوير الفوتوغرافي
س: ما رأيكم فيمن يقول: " إن التصوير الفوتوغرافي للإنسان جائز، أما التصوير الذي يكون برسم اليد فهو الحرام "؟ وما نصيحتكم للأخوات اللاتي يتقدمن للفتوى بغير علم؟ (1)
ج: التصوير لا يجوز، لا باليد ولا بغير اليد، التصوير كله منكر، والرسول - عليه الصلاة والسلام - لعن المصورين وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون (2) » وقال: «كل مصور في النار (3) » والمصور: يعذب بكل صورة صورها لنفسه في نار جهنم.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1418 هـ.
(2) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب عذاب المصورين يوم القيامة، برقم 5950، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان برقم 2109.
(3) أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، برقم 2110.(28/337)
ولما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - صورة في قرام لعائشة، قبضه ومزقه وقال: «إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم (1) » فالواجب على كل مسلم أن يحذر التصوير، وقد ثبت عنه - صلى الله عيه وسلم - أنه لعن آكل الربا، ولعن موكله، ولعن المصور، ولعن الواشمة والمستوشمة، يعني الحذر من هذا، فآكل الربا، والواشمة، وتصوير ذوات الأرواح كتصوير حمام أو دجاج أو بعير أو إنسان أو عصفور أو غيره كل هذا فيه روح لا يجوز تصويره، لا في الأوراق، ولا في الخرق، ولا في الخشب، ولا في غيره، ولا مجسم كذلك لا يجوز.
ويجب الحذر من الفتوى بغير علم على الرجال والنساء جميعا، يجب على كل إنسان أن يتقي الله، وعلى كل امرأة أن تتقي الله، وألا يفتي كل منهما إلا بعلم، فلا يجوز أن يقول على الله بغير علم، الواجب على كل مسلم أن يحذر من ذلك؛ لأن الفتوى بغير علم خطرها عظيم، الواجب على المؤمن أن يحذر ذلك وألا يقول إلا بعلم، وأن يستغفر الله على ما سلف منه.
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5181) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) ، مسند أحمد (6/246) ، موطأ مالك الجامع (1803) .(28/338)
75 - مسألة في التصوير
س: هل يجوز للمدرس أن يصور ذوات الأرواح حين تدريسه معتبرا ذلك من وسائل الإيضاح، مع العلم بما جاءت به الأحاديث الصحيحة من تحريم تصوير ذوات الأرواح؟ (1)
ج: ليس للمدرس ولا غيره تصوير ذوات الأرواح؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعن المصورين، وأخبر أنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة، كما أخبر أنهم يعذبون ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم، والإيضاح ممكن بدون التصوير، ولم يحوج الله -سبحانه - الأمة في التعليم إلى ما حرم عليها، بل في الوسائل المباحة مقنع وكفاية لمن خاف الله وراقبه. وفقنا الله وإياكم وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، وأعاذ الجميع من مضلات الفتن، إنه سميع مجيب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رئيس الجامعة الإسلامية
__________
(1) صدر من مكتب سماحته عندما كان رئيسا للجامعة الإسلامية برقم 841 وتاريخ 25 \ 3 \ 1395 هـ.(28/339)
76 - حكم الاحتفاظ بالصور
س: حكم الصور الباقية من صور استمارة المدرسة ماذا يجب نحوها؟ (1)
ج: الواجب إتلافها إذا لم يكن هناك حاجة إليها، أما حديث " إلا رقما " فهو وارد في الحديث الذي يدل على أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، وهو محمول على الثوب الذي يفترش كالمخدة والبساط، أما الذي يعلق فهو غير داخل في ذلك، بدليل أنه - عليه الصلاة والسلام - أنكر على عائشة تعليق الثوب الذي فيه تصاوير.
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(28/340)
77 - حكم وضع الصورة في البيت
س: نعلم أن حكم وضع الصور في البيت حرام، فهل يجوز وضعها في الحمام سواء كانت مجسمة أو غير ذلك؟ (1)
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من مجلة الدعوة، وقد أجاب عنه سماحته بتاريخ 3 \ 12 \ 1418 هـ.(28/340)
ج: الواجب طمس الصور وإتلافها، ولا يجوز وضعها في البيت ولا في الحمام؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه -: «لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته (1) » .
لكن إذا كانت الصورة يضطر إلى حفظها لأسباب توجب ذلك، فليحفظها في محل مستور كالصندوق ونحوه، وليس له نصبها ولا تعليقها، سواء كان ذلك في الحمام أو غيره. والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب الأمر بتسوية القبر، برقم 969.(28/341)
78 - حكم الاحتفاظ بالمجلات المفيدة التي تحتوي على صور
س: ما حكم إدخال المجلات المفيدة والمناهج المدرسية التي تحتوي على صور ذوات الأرواح في المنزل، وهل يدخل ذلك في حديث: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة (1) » ؟ (2)
ج: الواجب إزالة الرأس وبذلك يزول المحذور، والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم 3227، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، برقم 2106.
(2) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1685، بتاريخ 8 \ 12 \ 1419 هـ.(28/341)
79 - حكم تصوير ما لا روح فيه
س: إذا كان تصوير ما لا روح فيه مباحا شرعا، فهل يجوز الاستمرار على ذلك؟ (1)
ج: نعم يجوز ذلك كما أفتى بذلك ترجمان القرآن وحبر الأمة عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - ودل عليه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي ذكرنا في الجواب المفيد في حكم التصوير، وهو أن جبريل - عليه السلام - أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقطع رأس التمثال حتى يكون كهيئة الشجرة، وذلك يدل على جواز تصوير الشجرة ونحوه، وقد أجمع العلماء على ذلك بحمد الله، لكن إذا تيسر للإنسان عمل آخر من الأعمال الطيبة المباحة فهو أحسن من عمل التصوير لما لا روح فيه؛ لأنه قد يجر إلى تصوير ما له روح، والبعد عن وسائل الشر مطلوب شرعا، رزقنا الله وإياكم العافية من أسباب غضبه.
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(28/342)
80 - حكم الرسم الكاريكاتيري
س: ما حكم الرسم الكاريكاتيري والذي يشاهد في بعض الصحف والمجلات ويتضمن رسم أشخاص؟ (1)
ج: الرسم المذكور لا يجوز، وهو من المنكرات الشائعة التي يجب تركها؛ لعموم الأحاديث الصحيحة الدالة على تحريم تصوير كل ذي روح سواء كان ذلك بالآلة أو باليد أو بغيرهما.
ومن ذلك ما رواه البخاري في الصحيح عن أبي جحيفة - رضي الله عنه - أنه قال: «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب وثمن الدم، ونهى عن الواشمة والموشومة وآكل الربا وموكله، ولعن المصور (2) » ، ومن ذلك أيضا ما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون (3) » وقوله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) نشر في كتاب '' فتاوى إسلامية '' من جمع محمد المسند، ج 4 ص 362.
(2) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب ثمن الكلب، برقم 2238.
(3) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب عذاب المصورين يوم القيامة، برقم 5950، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، برقم 2109.(28/343)
«إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم (1) » . إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الثابتة في هذا الموضوع، ولا يستثنى من ذلك إلا من تدعو الضرورة إلى تصويره؛ لقول الله - عز وجل -: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (2) الآية.
أسأل الله أن يوفق المسلمين للتمسك بشريعة ربهم والاعتصام بسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - والحذر مما يخالف ذلك، إنه خير مسئول.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب من كره القعود على الصور، برقم 5957، ومسلم في كتاب اللباس، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، برقم 2108.
(2) سورة الأنعام الآية 119(28/344)
باب ما جاء في السحر
81 - سحر الصرف وبيان علاجه
س: رعاك الله يا سماحة الوالد وحفظك من كل مكروه، أرجو من الله ثم منك الدعاء لي ولزوجتي؛ حيث إننا ربط بيننا فأصبحت لا أحبها ولا أجامعها، مع أنني أحبها إذا ابتعدت عني، حفظك الله وبارك فيك. (1)
ج: شفاكم الله وعافاكم وشفى كل المسلمين، وعليك تستعمل القراءة: الفاتحة، وآية الكرسي، والإخلاص، والمعوذتين، تنفث على نفسك أو تنفث في الماء، وإذا طرحت فيه سبع ورقات من السدر مدقوقة ثم استحممت بها فإن هذا مجرب لزوال هذا البلاء، وإن قرأت من دون سدر يكفي، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أحس بشيء ينفث في يديه ثلاث مرات عند النوم يقرأ الإخلاص والمعوذتين ثلاث مرات، ويمسح على وجهه وصدره
__________
(1) من أسئلة حج عام 1418 هـ، الشريط السادس.(28/345)
ورأسه، ويزول البأس إن شاء الله، وعليك أن تستعمل هذا، تقرأ في يديك عند النوم، تقرأ آية الكرسي والإخلاص والمعوذتين ثلاث مرات، ثم تمسح على رأسك ووجهك ثلاث مرات، ويزول البلاء إن شاء الله، وإن قرأت هذا في ماء واستحممت به زال البلاء، وإن جعلت فيه سبع ورقات من السدر كما فعل بعض السلف، ثم قرأت فيها أو قرأ فيها غيرك آية الكرسي وسورة الإخلاص والمعوذتين وآيات السحر من سورة الأعراف وسورة يونس وسورة طه، فإنه يزول البأس إن شاء الله، تغتسل به ويزول البأس إن شاء الله.(28/346)
82 - مسألة في السحر
سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، حفظه الله ورعاه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد (1) :
سماحة الشيخ، إنني شاب من خارج المملكة، وفي بلدنا منتشر السحر بكثرة، ويوجد سحرة ومشعوذون يمارسون نوعا من السحر يسمى التأكيد والتعقيد، أي: الربط، وهو أن يتزوج الرجل ولا يستطيع أن يصل إلى زوجته بالجماع، ويقول: إنه عملوا له سحرا فلا يستطيع ممارسة الجماع مع زوجته، فمنهم من يطلقها ويدعي الفشل، والبعض الآخر يذهب لساحر كي يفك عليه ويسموه التفسيخ، أو بمعنى إبطال السحر، ويعطيه أوراقا منها ما يغتسل به، وبعضها يتوضأ منها، وبعضها يحرقها ويتبخر بها، والبعض منها يربطها فوق ذكره، وللعلم أن الأوراق فيها طلاسم لا يعرف ما معناها، والبعض من القرآن، والبعض على شكل نجوم ورموز.
__________
(1) سؤال شخصي، أجاب عنه سماحته بتاريخ 20 \ 12 \ 1419 هـ.(28/347)
وأحيطكم علما أن بعض الشباب يرفض الزواج خوفا من هذا الفعل، والبعض الآخر يذهب إلى السحرة قبل الزواج بغرض أخذ أوراق من السحر كوقاية، وإذا نصحنا مثل هؤلاء الشباب بعدم الذهاب إلى السحرة وأن هذا العمل شرك بالله عز وجل، يعتذر بأنه يجوز علاج السحر بالسحر، دون دليل واضح.
لذا نرجو من فضيلتكم النصح والتوجيه بما يلزم تجاه هذا الفعل، وما طرق الوقاية من هذا السحر من الكتاب والسنة؟ وهل هناك أدلة على علاج السحر بالسحر؟ وجزاكم الله خير الجزاء، وبارك فيكم وفي علمكم.
الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعده: لا يجوز إتيان السحرة ولا سؤالهم، بل يجب الحذر من ذلك والرفع عنهم للمحكمة في بلادكم حتى يعاقبوا بما يستحقون، وفق الله الجميع لمعرفة الحق واتباعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(28/348)
83 - حكم الاستعانة بالقافة لاكتشاف الجرائم والضالة
س: هل يتنافى مع عقيدة التوحيد ذهاب من ضلت له ضالة أو قتل له قتيل إلى ما يسمى بالملوث أو الملحس، الذي يحمي قطعة حديد في النار، فإذا لحسها المتهم بلسانه ولم تحرقه اعتبر بريئا وإن أحرقته اعتبر مجرما، أم أن ذلك يعتبر وسيلة لظهور الجريمة واكتشاف المجرم فتقاس على الكلاب البوليسية وتكون من الوسائل المباحة؟ (1)
ج: لا شك أن هذا العمل باطل ومنكر ولا يجوز فعله، بل هذا وسيله إلى إحراق الألسنة وإيذاء المسلمين، وهذا شيء لا أصل له فيما نعلم في شريعة الله ولا في كلام العلماء، بل هو من الخرافات ومن أعمال المشعوذين الذين يريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل، وهذا العمل لا شك في تحريمه وأنه منكر، وليس من جنس الكلاب البوليسية.
__________
(1) نشر في مجلة التوعية الإسلامية، العدد الرابع بتاريخ 20 \ 11 \ 1400 هـ.(28/349)
وأما صاحب الضالة فيمكن أن يسلك طريقا آخر في تتبع الآثار المعروفة عند العرب، وجاءت بها الشريعة لعله يجد ضالته أو عبده الآبق وما أشبه ذلك.
وأما القتيل الذي جهل قاتله فيمكن أيضا التعرف عليه بطرق أخرى، بسؤال أهل المعرفة بالحادث ومن كان حول مكان الحادث وما أشبه ذلك من الطرق.
أما استعمال هذه الحديدة فهذا شيء باطل لا أساس له، ولا يقاس هذا على الكلاب البوليسية؛ لأن الكلاب البوليسية لها أشياء أخرى من جهة التعرف على المجرمين بالشم والرائحة.(28/350)
باب ما جاء في التطير
84 - شرح حديت: " لا عدوى ولا طيرة. . . "
س: سمعت حديثا عن التشاؤم، يقول فيما معناه: " ولا هام ولا صفر " أرجو منكم ذكر الحديث كاملا مع شرح الكلمات التي لا أفهمها فيه. (1)
ج: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، ولا نوء ولا غول، ويعجبني الفأل (2) » . والمعنى إبطال ما يعتقده أهل الجاهلية من أن الأشياء تعدي بطبعها، فأخبرهم - صلى الله عليه وسلم - أن هذا الشيء باطل، وأن المتصرف في الكون هو الله وحده، «فقال بعض الحاضرين له - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله الإبل تكون في الصحراء كأنها الغزلان، فيدخل فيها البعير الأجرب فيجربها،
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من مجلة الدعوة، وقد أجاب عنه سماحته بتاريخ 24 \ 12 \ 1418 هـ.
(2) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء، برقم 2222.(28/351)
فقال - صلى الله عليه وسلم -: " فمن أعدى الأول " (1) » . والمعنى: أن الذي أنزل الجرب في الأول هو الذي أنزله في الأخرى، ثم بين لهم - صلى الله عليه وسلم - أن المخالطة تكون سببا لنقل المرض من الصحيح إلى المريض، بإذن الله عز وجل؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يورد ممرض على مصح (2) » . والمعنى: النهي عن إيراد الإبل المريضة ونحوها بالجرب ونحوه مع الإبل الصحيحة؛ لأن هذه المخالطة قد تسبب انتقال المرض من المريضة إلى الصحيحة بإذن الله، ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فر من المجذوم فرارك من الأسد (3) » ؛ وذلك لأن المخالطة له قد تسبب انتقال المرض منه إلى غيره، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أن انتقال الجذام من المريض إلى الصحيح إنما يكون بإذن الله، وليس هو شيئا لازما.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب لا صفر - وهو داء يأخذ البطن - برقم 5717، ومسلم في كتاب الطب، باب في الطيرة، برقم 2220.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب لا عدوى، برقم 5775، ومسلم في كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء، برقم 2221.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الجذام، وأحمد في المسند، باقي مسند المكثرين، باقي المسند السابق، برقم 9429.(28/352)
والخلاصة: أن الأحاديث في هذا الباب تدل على أنه لا عدوى على ما يعتقده الجاهليون من كون الأمراض تعدي بطبعها، وإنما الأمر بيد الله سبحانه، إن شاء انتقل الداء من المريض إلى الصحيح وإن شاء سبحانه لم يقع ذلك.
ولكن المسلمين مأمورون بأخذ الأسباب النافعة، وترك ما قد يفضي إلى الشر.
أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا طيرة " فمعناه: إبطال ما يعتقده أهل الجاهلية من التطير بالمرئيات والمسموعات مما يكرهون وتردهم عن حاجتهم، فأبطلها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال في الحديث الآخر: «الطيرة شرك، الطيرة شرك (1) » . وقال - عليه الصلاة والسلام -: «إذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك (2) » .
وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك " قالوا: وما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: " أن يقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك،
__________
(1) سنن الترمذي السير (1614) ، سنن أبي داود الطب (3910) ، سنن ابن ماجه الطب (3538) ، مسند أحمد (1/440) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في الطيرة، برقم 3919.(28/353)
ولا إله غيرك (1) » .
وأما الهامة: فهو طائر يسمى البومة، يزعم أهل الجاهلية أنه إذا نعق على بيت أحدهم فإنه يموت هذا البيت، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا صفر " فهو الشهر المعروف، وكان بعض أهل الجاهلية يتشائمون به، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وأوضح - صلى الله عليه وسلم - أنه كسائر الشهور ليس فيه ما يوجب التشاؤم. وقال بعض أهل العلم: إنها دابة تكون في البطن تسمى: صفر، وكان بعض أهل الجاهلية يعتقدون فيها أنها تعدي، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك.
وأما النوء فهو واحد الأنواء، وهي النجوم، وكان بعض أهل الجاهلية يتشاءمون ببعض النجوم، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك.
وقد أوضح الله -سبحانه - في القرآن العظيم أنه خلق النجوم زينة السماء ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها في البر
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، برقم 7005.(28/354)
والبحر، كما قال الله - سبحانه -: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} (1) ، وقال - سبحانه -: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (2) ، وقال -سبحانه -: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (3) .
وأما الغول: فهو جنس من الجن يتعرضون للناس في الصحراء ويضلونهم عن الطرق ويخوفونهم، وكان بعض أهل الجاهلية يعتقدون فيهم وأنها تتصرف بقدرتها، فأبطل الله ذلك. وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان (4) » والمعنى أن ذكر الله يطردها، وهكذا التعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، يقي من شرها وشر غيرها، مع الأخذ بالأسباب التي جعلها الله أسبابا للوقاية من كل شر.
أما الفأل: فهو أن يسمع الإنسان الكلمة الطيبة فتسره، ولكن لا ترده عن حاجته، وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الفأل بذلك فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ويعجبني الفأل " قالوا:
__________
(1) سورة الملك الآية 5
(2) سورة الأنعام الآية 97
(3) سورة النحل الآية 16
(4) أخرجه الإمام أحمد في باب مسند المكثرين برقم 14559.(28/355)
يا رسول الله وما الفأل؟ قال: " الكلمة الطيبة (1) » ا. هـ.
ومن أمثلة ذلك أن يسمع المريض من يقول: " يا سليم يا معافى "، فيسره ذلك، وهكذا إذا سمع من ينشد ضالة من يقول: يا واجد، أو: يا ناجح، أو: يا موفق، فيسره ذلك ويتفاءل به.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5776) ، صحيح مسلم السلام (2224) ، سنن الترمذي السير (1615) ، سنن أبي داود الطب (3916) ، سنن ابن ماجه الطب (3537) ، مسند أحمد (3/278) .(28/356)
85 - التشاؤم بـ " شهر صفر " من أمور الجاهلية
س: يتردد كثيرا أن شهر صفر شهر شؤم يتشاءم منه بعض العوام في كثير من الأمور، فلا يعقد فيه النكاح على سبيل المثال، وأيضا فإنه في مجلس عقد النكاح يعتقد البعض أنه لا يجوز كسر العود أو عقد الحبال أو تشبيك الأصابع؛ حيث إن هذا يؤدي إلى فشل هذا الزواج وعدم التوفيق بين الزوجين.
وبما أن هذا يمس العقيدة فنرجو النصح وبيان الحكم الشرعي. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه. (1)
ج: التشاؤم بصفر من أمر الجاهلية، ولا يجوز ذلك،
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1641 بتاريخ 18 \ 1 \ 1419 هـ(28/356)
بل هو كسائر الشهور ليس عنده خير ولا شر، وإنما الخير من الله سبحانه، والشر بتقديره، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أبطل ذلك فقال: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر (1) » متفق على صحته.
وهكذا التشاؤم بتشبيك الأصابع أو كسر العود أو نحو ذلك عند عقد الزواج أمر لا أصل له، ولا يجوز اعتقاده، بل هو باطل. وفق الله الجميع.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء، برقم 2222.(28/357)
86 - حكم التشاؤم بالمسكن
فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هناك امرأة من المنطقة الجنوبية لها سبعة أولاد وبنات، وعندما سكنت في منزل جديد لها بالجنوب توفي أحد أولادها وتبعته إحدى البنات، وقد حلمت - رأت في المنام - بعد وفاتهم أنها إذا بقيت في هذا المنزل فسيموت كل أطفالها.(28/357)
أرجو إفادة فضيلتكم علما بأنه لا يزال لديها خمسة بنين وبنات. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1) .
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
إذا كان الواقع هو ما ذكرتم فهي مخيرة، إن شاءت سكنت في هذا البيت وإن شاءت انتقلت عنه إلى بيت آخر؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الشؤم في ثلاثة: في البيت والمرأة والدابة (2) » وفق الله الجميع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سؤال شخصي مقدم لسماحته، وأجاب عنه سماحته بتاريخ 1 \ 7 \ 1419 هـ
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2858) ، صحيح مسلم السلام (2225) ، سنن الترمذي الأدب (2824) ، سنن النسائي الخيل (3569) ، سنن أبي داود الطب (3922) ، سنن ابن ماجه الطب (3540) ، موطأ مالك الجامع (1817) .(28/358)
باب ما جاء في التنجيم
87 - حكم اعتقاد أن النجوم سبب لنزول المطر
س: عند البادية إذا ظهر نجم معين يعرفون اسمه وكان وقته نزول المطر - إن شاء الله تعالى - يجعلونه سببا في نزول المطر. فما توجيهكم حفظكم الله؟ (1)
ج: هذا شيء لا أصل له، بل هو منكر، ولا يجوز اعتقاده؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال عن الله - عز وجل - أنه قال: «من قال حين ينزل المطر: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب (2) » متفق على صحته، من
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من مجلة الدعوة، وقد أجاب عنه سماحته بتاريخ 29 \ 11 \ 1418 هـ.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، برقم 846، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء برقم 71.(28/359)
حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.
وروى مسلم في صحيحه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة (1) » يعني على الميت. وقال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب (2) » . والأحاديث في ذم أمور الجاهلية والتحذير منها كثيرة، والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة، برقم 934.
(2) صحيح مسلم الجنائز (934) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1581) .(28/360)
باب ما جاء في سب الدهر
88 - حكم سب الدهر
س: امرأة حامل وعند ذهابها إلى مزدلفة رأت الدم وبدأت تستفرغ، فقالت: " الله لا يعيد هذا اليوم " فما الحكم في هذا الكلام؟ (1)
ج: عليك التوبة والاستغفار، هذا الكلام منكر لا يجوز وعليك التوبة من ذلك والحمد لله، واسألي الله العافية، إذا رأيت مثل هذا قولي: اللهم إني أسألك العافية، اللهم اشفني، اللهم عافني، أما سب اليوم أو سب الليل أو سب المكان فهو منكر لا في منى ولا في مزدلفة ولا في غيرها.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1418 هـ.(28/361)
صفحة فارغة(28/362)
باب ما جاء في التوسل
89 - التوسل بأسماء الله وصفاته
س: ما هو ضابط التوسل بالله جل وعلا؟ (1)
ج: التوسل بالله وبأسمائه وصفاته مشروع للمسلم، وهو من أسباب إجابة الدعاء؛ لقول الله - عز وجل -: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (2) ، ولما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة من التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته.
ويشرع التوسل أيضا إلى الله - سبحانه - بالإيمان به وبمحبته وبسائر الأعمال الصالحة، ومن ذلك محبة أنبياء الله ورسله والمؤمنين من عباده، ومن ذلك التوسل ببر الوالدين والعفة عن الزنا، وأداء الأمانة؛ للحديث الصحيح الوارد في قصة أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة، وعجزوا عن دفعها، وكانوا
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من (مجلة الدعوة) .
(2) سورة الأعراف الآية 180(28/363)
ثلاثة، فدعوا الله - سبحانه - وتوسلوا إليه بأعمالهم الصالحة، فانزاحت عنهم الصخرة، وحديثهم ثابت في الصحيحين، وكان أحدهم توسل ببره لوالديه، والثاني بعفته عن الزنا بعد القدرة، والثالث بأدائه الأمانة لأصحابها، والله الموفق.(28/364)
90 - مسألة في التوسل
س: ما حكم التوسل بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء؟ (1)
ج: يشرع حمد الله والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء، وذلك من أسباب الإجابة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد ربه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يدعو بما شاء (2) » .
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء في جامع الدعوات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظه: '' إذا صلى أحدكم. . . '' برقم 3477، وهكذا أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء برقم 1481، وأحمد في باقي مسند الأنصار، باب مسند فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه، برقم 23419.(28/364)
باب في حكم الاستهزاء والتنقص من الدين
91 - حكم الاستهزاء والتنقص من الدين
س: هل من يستهزئ بالدين بأن يسخر من اللحية أو من تقصير الثياب هل يعد ذلك من الكفر؟ (1)
ج: هذا يختلف إذا كان قصده الاستهزاء بالدين فهي ردة، كما قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) .
أما إذا كان يستهزئ من الشخص نفسه بأسباب أخرى من جهة اللحية أو من جهة تقصير الثياب، ويعني بذلك أنه متزمت، وأن يستهزئ بأمور أخرى يشدد في هذا أو يتساهل في أمور أخرى يعلم أنه جاء بها الدين، وليس قصده الاستهزاء بالدين، بل يقصد استهزاءه بالشخص بتقصيره لثوبه أو لأسباب أخرى، أما
__________
(1) نشر في مجلة الفرقان، العدد 100، في ربيع الثاني 1419 هـ.
(2) سورة التوبة الآية 65(28/365)
إذا كان قصده الاستهزاء بالدين والتنقص للدين فيكون ردة، نسأل الله العافية.(28/366)
92 - مسألة في الاستهزاء بالدين
س: إن كان يقول: أنا أقول ذلك للناس من باب الضحك والمزاح؟ (1)
ج: هذا لا يجوز، وهذا منكر وصاحبه على خطر، وإن كان قصده الاستهزاء بالدين يكون كفرا.
__________
(1) نشر في مجلة الفرقان، العدد 100، في ربيع الثاني 1419 هـ.(28/366)
باب ما جاء في الحلف بغير الله
93 - هل الحلف بغير الله شرك يخرج صاحبه من الملة
س: نرجو من سماحتكم التفضل بتوضيح أنواع الشرك، وهل الحلف بغير الله شرك يخرج صاحبه من الملة؟ (1)
ج: الشرك نوعان: شرك أكبر وشرك أصغر، فالشرك الأكبر: صرف العبادة لغير الله أو بعضها، كدعاء الأموات والاستغاثة بهم والنذر لهم أو للجن أو للملائكة، هذا يقال له شرك أكبر، كما كانت قريش وغيرها من العرب يفعلون ذلك عند أصنامهم وأوثانهم، ومن ذلك جحد الإنسان أمرا معلوما من الدين بالضرورة وجوبا أو تحريما، فمن جحده كان كافرا ومشركا شركا أكبر، كمن قال: الصلاة لا تجب على المكلفين من المسلمين، أو قال: الزكاة لا تجب على من عنده مال، أو قال:
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) الشريط الأول.(28/367)
صوم رمضان لا يجب على المسلم المكلف، أو أحل ما حرمه الله كما هو معلوم من الدين بالضرورة، كأن يقول: الزنا حلال، أو شرب المسكر حلال، أو عقوق الوالدين حلال، أو السحر حلال، أو ما أشبه ذلك، فهذا يكون كافرا ومشركا شركا أكبر، القاعدة أن من صرف العبادة أو بعضها لغير الله من أصنام أو أوثان أو أموات أو غيرهم من الغائبين فإنه مشرك شركا أكبر، وكذلك الحكم فيمن جحد ما أوجب الله، أو ما حرم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة مما أجمع عليه المسلمون، فهذا يكون كافرا ومشركا شركا أكبر. وكل من أتى ناقضا من نواقض الإسلام يكون مشركا شركا أكبر كما قلنا.
أما الشرك الأصغر فهو أنواع أيضا: مثل الحلف بغير الله، والحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبالأمانة، وبرأس فلان، وما أشبه ذلك، فهذا شرك أصغر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف بشيء دون الله فقد أشرك (1) » وهكذا الرياء، يقرأ للرياء
__________
(1) أخرجه أحمد في مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، برقم 4886.(28/368)
أو يتصدق للرياء، فهذا شرك أصغر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر " فسئل عنه فقال: " الرياء (1) » . وهكذا لو قال: ما شاء الله وشاء فلان - بالواو - أو: لولا الله وفلان، أو: هذا من الله وفلان؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله وحده ثم شاء فلان (2) » . ولما «قال رجل: يا رسول الله ما شاء الله وشئت، قال: " أجعلتني لله ندا؟ ما شاء الله وحده (3) » .
وقد يكون الشرك الأصغر شركا أكبر إذا اعتقد صاحبه أن من حلف بغير الله أو قال: ما شاء الله وشاء فلان، فإن له التصرف في الكون، أو أن له إرادة تخرج عن إرادة الله وعن مشيئته سبحانه، أو أن له قدرة يضر وينفع من دون الله، أو اعتقد أنه
__________
(1) أخرجه أحمد في باقي مسند الأنصار، باب حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه، برقم 23119.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب: لا يقال: خبثت نفسي، برقم 4980، وأحمد في باقي مسند المكثرين، حديث حذيفة بن اليمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم 22754.
(3) أخرجه أحمد في مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، إلا أنه قال '' عدلا '' بدل '' ندا '' برقم 1842.(28/369)
يصلح أن يعبد من دون الله وأن يستغاث به، فإنه يكون بذلك مشركا شركا أكبر بهذا الاعتقاد.
أما إذا كان مجرد حلف بغير الله من دون اعتقاد آخر، لكن ينطق لسانه بالحلف بغير الله؛ تعظيما لهذا الشخص، يرى أنه نبي أو صالح، أو لأنه أبوه أو أمه وتعظيمها لذلك، أو ما أشبه ذلك، فإنه يكون من الشرك الأصغر وليس من الشرك الأكبر.(28/370)
باب ما جاء في القضاء والقدر
94 - حكم الخوض في القضاء والقدر
س: الكثير يخوضون في موضوع القضاء والقدر، هل لكم توجيه؟ (1)
ج: هذا باب خاضه الأولون وغلط فيه من غلط، والواجب الحذر، فعلى كل مؤمن وكل مؤمنة التسليم لله، والإيمان بقدره سبحانه وتعالى، والحرص على الأخذ بالأسباب النافعة الطيبة، والبعد عن الأسباب الضارة كما علم الله عباده، وكما جعل لهم قدرة على ذلك بما أعطاهم من العقول والأدوات التي يستعينون بها على طاعته وترك معصيته سبحانه وتعالى.
وينبغي عدم الخوض في هذا الباب، والإيمان بأن الله قدر الأشياء وعلمها وأحصاها، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه الخلاق العظيم القادر على كل شيء، وأن جميع الموجودات
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط الأول.(28/371)
بخلقه وتقديره سبحانه وتعالى، وأن الله أعطى للعبد عقلا وأسبابا وقدرة على الخير والشر كما يأكل ويشرب ويلبس وينكح ويسافر ويقيم وينام ويقوم إلى غير ذلك يطيع ويعصي.
ويخشى على هؤلاء الخائضين بالقضاء والقدر أن يحتجوا بالقدر أو ينكروه؛ لأن قوما خاضوا فيه فأنكروه كالقدرية النفاة وقالوا: لا قدر، وزعموا أنهم يخلقون أفعالهم، وأن الله -تعالى - ما تفضل عليهم بالطاعة ولا قدر عليهم المعصية، وقوم قالوا: بل تفضل الله بالطاعة ولكن ما قدر المعصية، فوقعوا بالباطل، وقوم خاضوا في القدر وقالوا: بأننا مجبورون أي: أنهم ما عليهم شيء، عصوا أو أطاعوا لا شيء عليهم؛ لأنهم مجبورون ولا قدرة لهم، فضلوا وأضلوا، نسأل الله العافية.
ومجوس الأمة هم القدرية النفاة الذين ضلوا في القدر وقالوا: الأمر أنف، والمجوس قالوا: إن للعباد إلهين؛ النور والظلمة، ويقولون: النور خلق الخير والظلمة خلقت الشر، فشابههم نفاة القدر حيث جعلوا لله شريكا في أفعاله وأنهم يخلقون أفعالهم، نسأل الله العافية.(28/372)
وعلى كل مسلم أن يؤمن بالقدر، وأن يحذر الخوض في ذلك بغير علم كما خاض المبتدعة فضلوا، وإنما الواجب على كل مسلم أن يؤمن بالقدر، وأن يسلم لله بذلك ويعلم بأن الله قدر الأشياء وعلمها وأحصاها، وأن العبد له إرادة وله مشيئة وله اختيار، لكنه لا يخرج بذلك عما قدره الله سبحانه وتعالى.(28/373)
95 - مسألة في القدر
س: كثيرا ما نقرأ في الكتب والمجلات مقالات ترد فيها عبارات مثل " من سخرية القدر " أو " من سذاجة الأقدار " أو " شاءت الأقدار " فهل هذه العبارات صحيحة، وبم تنصحون الذين يستعملونها في كتاباتهم، جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: بسم الله والحمد لله، قول الإنسان: " من سخرية القدر " أو: " من سذاجه القدر " منكر من القول، بل كفر وضلال واستهزاء بقدر الله سبحانه وتعالى، أما قول بعض الناس: " شاءت الأقدار " أو: "
__________
(1) نشر في نشرة رابطة العالم الإسلامي في 13 - 19 رجب عام 1419 هـ.(28/373)
شاء القدر " أو: " شاءت إرادة الله " أو: " عناية الله " فكلام لا يجوز، وفيه سوء تعبير، والصواب أن يقال: " شاء الله سبحانه " أو: " شاء ربنا سبحانه " أو نحو ذلك من العبارات التي فيها إسناد المشيئة لله لا إلى صفاته.(28/374)
96 - حكم لفظ: " لا قدر الله "
س: الأخت م. س. م. من الرس بالمملكة العربية السعودية، تقول في سؤالها: ما حكم الشرع في مثل هذه الألفاظ: لا قدر الله، أو لا سمح الله، أو لا يقدر كذا أو كذا، نرجوا الإفادة جزاكم الله خيرا. (1)
ج: لا أعلم حرجا في ذلك، والله الموفق.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من المجلة العربية، وأجاب عنه سماحته بتاريخ 10 \ 7 \ 1419 هـ.(28/374)
باب ما جاء في احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك
97 - حكم تعبيد الاسم لغير الله
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم مدير الجوازات برابغ وفقه الله لكل خير، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بعده، حضر عندي من سمى نفسه عبد الله بن عبد الجزي، وسألني: هل تجوز التسمية بعبد الجزي؟ لأن جوازات رابغ قد توقفت في تجديد تابعيته حتى تعرف حكم الشرع في اسم أبيه؟
والجواب: قد أجمع العلماء على أنه لا يجوز التعبيد لغير الله سبحانه، فلا يجوز أن يقال: عبد النبي أو عبد الحسين أو عبد(28/375)
الكعبة أو نحو ذلك؛ لأن العبيد كلهم عبيد الله عز وجل، ومعلوم أن الجزي ليس من أسماء الله سبحانه، فلا يجوز التعبيد إليه، والواجب تغيير هذا الاسم باسم معبد لله سبحانه أو باسم آخر غير معبد كأحمد ومحمد وإبراهيم ونحو ذلك، ويجب عند التغيير أن يوضح في التابعية الاسم الأول مع الأسم الجديد؛ حتى لا تضيع الحقوق المتعلقة بالاسم الأول، هذا ما أعلمه من الشرع المطهر، ويذكر عبد الله المذكور أن أباه قد وافق على تغيير اسمه من عبد الجزي إلى عبد الرحمن، فليعتمد ذلك عند موافقة أبيه عليه، ونسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة(28/376)
98 - تغيير الاسم إذا كان غير شرعي
س: إذا تسمى الإنسان باسم واكتشف أنه اسم غير شرعي ما توجيهكم؟ (1)
ج: الواجب التغيير، مثل من سمى نفسه عبد الحسين أو عبد النبي أو عبد الكعبة ثم علم أن التعبيد لا يجوز لغير الله، وليس لأحد أن يعبد لغير الله، بل العبادة لله - عز وجل - مثل: عبد الله، عبد الرحمن، عبد الملك.
وعليه أن يغير الاسم مثل عبد النبي أو عبد الكعبة إلى عبد الله أو عبد الرحمن أو محمد أو أحمد أو صالح، أو نحو ذلك من الأسماء الشرعية هذا هو الواجب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - غير أسماء كثيرة.
أما إذا كان الاسم للأب، فإذا كان الأب حيا فيعلم حتى يغير اسمه، أما إن كان ميتا فلا حاجة إلى التغيير ويبقى كما هو؛ لأن النبي لم يغير اسم عبد المطلب ولا غير أسماء الآخرين المعبدة لغير الله كعبد مناف؛ لأنهم عرفوا بها.
__________
(1) ضمن أسئلة أجاب عنه سماحته بتاريخ 29 \ 11 \ 1418 هـ.(28/377)
باب في أسماء الله وصفاته
99 - استنكار العبد للوساوس في ذات الله - تعالى - هو صريح الإيمان
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ع. ن. ع. زاده الله من العلم والإيمان وجعله مباركا أينما كان، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابك الكريم المؤرخ 27 \ 1 \ 1395 هـ - وصلك الله بحبل الهدى والتوفيق - وما تضمنه من السؤال عما ألقاه إليك بعض الزملاء بقوله: إنه يعترف أن الله -سبحانه - هو خالق السماوات والأرض والعرش والكرسي وكل شيء، ولكنه يسأل قائلا: الله ممن تكون؟ فأجبته بقولك: كلامك الأول صحيح لا تعليق عليه، أما قولك الثاني وهو قولك: " ممن تكون الله " فلا يقوله مسلم، وينبغي أن يسعك ما وسع الصحابة رضي الله عنهم؟ فإنهم لم يسألوا مثل هذا السؤال وهم الفطاحل في العلم، وقلت له أيضا: إن الله -سبحانه - قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1)
__________
(1) سورة الشورى الآية 11(28/378)
وقوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) إلى آخر ما ذكرت رغبتك في الإجابة عن هذه الشبهة كان معلوما.
والجواب: اعلم وفقني الله وإياك وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه أن شياطين والإنس والجن لم يزالوا ولن يزالوا يوردون الكثير من الشبه على أهل الإسلام وغيرهم؛ للتشكيك في الحق، وإخراج المسلم من النور إلى الظلمات، وتثبيت الكافر على عقيدته الباطلة، وما ذاك إلا لما سبق في علم الله وقدره السابق من جعل هذه الدار دار ابتلاء وامتحان وصراع بين الحق والباطل؛ حتى يتبين طالب الهدى من غيره، وحتى يتبين الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق، كما قال الله -سبحانه -: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (2) وقال - سبحانه -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (3)
__________
(1) سورة الحديد الآية 3
(2) سورة العنكبوت الآية 1
(3) سورة محمد الآية 31(28/379)
وقال - تعالى -: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (1) وقال - سبحانه -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (2) {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} (3) فأوضح -سبحانه - في الآيات الأولى والثانية والثالثة أنه يبتلي مدعي الإيمان بشيء من الفتن؛ ليتبين صدقه في إيمانه وعدمه، كما أخبر -سبحانه - أنه فعل ذلك بمن مضى؛ ليعلم - سبحانه - الصادقين من الكاذبين، وهذه الفتنة تشمل فتنة المال والفقر والمرض والصحة والعدو، وما يلقي الشياطين من الإنس والجن من أنواع الشبه، وغير ذلك من أنواع الفتن، فيتبين بعد ذلك الصادق في إيمانه من الكاذب، ويعلم الله ذلك علما ظاهرا موجودا في الخارج بعد علمه السابق؛ لأنه -سبحانه - قد سبق في علمه كل شيء كما قال - عز وجل -: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (4)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 121
(2) سورة الأنعام الآية 112
(3) سورة الأنعام الآية 113
(4) سورة الطلاق الآية 12(28/380)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء (1) » خرجه مسلم في صحيحه.
ولكنه - عز وجل - لا يؤاخذ العباد بمقتضى علمه السابق، وإنما يؤاخذهم ويثيبهم على ما يعلمه منهم بعد عملهم إياه ووجوده منهم في الخارج، وذكر في الآيات الرابعة والخامسة والسادسة أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم من أنواع الشبه وزخرف القول ما يغرونهم به؛ ليجادلوا به أهل الحق، ويشبهوا به على أهل الإيمان، ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ويرضوا به، فيصولوا ويجولوا ويلبسوا الحق بالباطل؛ ليشككوا الناس في الحق، ويصدوهم عن الهدى وما الله بغافل عما يعملون، لكن من رحمته - عز وجل - أن قيض لهؤلاء الشياطين وأوليائهم من يكشف باطلهم ويزيح شبهتهم بالحجج الدامغة والبراهين القاطعة، فيقيموا بذلك الحجة
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام، برقم 2653.(28/381)
ويقطعوا المعذرة، وأنزل كتابه -سبحانه - تبيانا لكل شيء كما قال - عز وجل -: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (1) وقال - سبحانه -: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (2) قال بعض السلف: هذه الآية عامة لكل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة «أن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " يا رسول الله، إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان (3) » . قال بعض أهل العلم في تفسير ذلك: إن الإنسان قد يوقع الشيطان في نفسه من الشكوك والوساوس ما يصعب عليه أن ينطق به؛ لعظم بشاعته ونكارته، حتى أن خروره من السماء أهون عليه من أن ينطق به، فاستنكار العبد لهذه الوساوس واستفظاعه إياها ومحاربته لها هو صريح الإيمان؛
__________
(1) سورة النحل الآية 89
(2) سورة الفرقان الآية 33
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، برقم 132.(28/382)
لأن إيمانه الصادق بالله - عز وجل - وبكمال أسمائه وصفاته، وأنه لا شبيه له ولا ند له، وأنه الخلاق العليم الحكيم الخبير - يقتضي منه إنكار هذه الشكوك والوساوس ومحاربتها واعتقاد بطلانها.
ولا شك أن ما ذكره لك هذا الزميل من جملة الوساوس، وقد أحسنت في جوابه، ووفقت للصواب فيما رددت به عليه، زادك الله علما وتوفيقا، وأنا أذكر لك إن شاء الله في هذا الجواب بعض ما ورد في هذه المسألة من الأحاديث وبعض كلام أهل العلم عليها؛ لعله يتضح لك من ذلك وللزميل المبتلى بالشبهة التي ذكرت ما يكشف الشبهة ويبطلها، ويوضح الحق، ويبين ما يجب على المؤمن أن يقوله ويعتمده عند ورود مثل هذه الشبهة، ثم أختم ذلك بما يفتح الله علي في هذا المقام العظيم، وهو - سبحانه - ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل.
قال الإمام البخاري - رحمه الله - في كتابه الجامع الصحيح ص 336 من المجلد السادس من فتح الباري طبعة المطبعة السلفية في باب صفة إبليس وجنوده: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير: قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(28/383)
«يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته (1) » . ثم رواه في كتاب الاعتصام ص 264 المجلد الثالث عشر من فتح الباري عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خلق كل شيء فمن خلق الله؟ (2) » انتهى.
وأخرج مسلم في صحيحه اللفظ الأول من حديث أبي هريرة ص 154 من الجزء الثاني من المجلد الأول من شرح مسلم للنووي، وأخرجه مسلم أيضا بلفظ آخر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد شيئا فليقل: آمنت بالله ورسله (3) » . ثم ساقه بألفاظ أخر
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3276) ، صحيح مسلم الإيمان (134) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، برقم 7296.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقول من وجدها، برقم 134.(28/384)
ثم رواه من حديث أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل إن أمتك لا يزالون يقولون ما كذا ما كذا حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله (1) » .
خرج مسلم أيضا رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان (2) » . ثم رواه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال: تلك محض الإيمان (3) » .
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم لما ذكر هذه الأحاديث ما نصه: (أما معاني الأحاديث وفقهها: فقوله صلى الله عليه وسلم: ذلك صريح الإيمان ومحض الإيمان معناه
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها برقم 136.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، برقم 132.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، برقم 133.(28/385)
استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلا عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك، واعلم أن الرواية الثانية وإن لم يكن فيها ذكر الاستعظام فهو مراد وهي مختصرة من الرواية الأولى، ولهذا قدم مسلم رحمه الله الرواية الأولى وقيل معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء ولا يقتصر في حقه على الوسوسة بل يتلاعب به كيف أراد، فعلى هذا معنى الحديث سبب الوسوسة محض الإيمان أو الوسوسة علامة محض الإيمان وهذا القول اختيار القاضي عياض، وأما قوله صلى الله عليه وسلم «فمن وجد ذلك فليقل آمنت بالله (1) » ، وفي الرواية الأخرى «فليستعذ بالله ولينته (2) » فمعناه الإعراض عن هذا الخاطر الباطل والالتجاء إلى الله تعالى في إذهابه. قال الإمام المازري رحمه الله ظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها، قال: والذي يقال في هذا المعنى أن الخواطر على قسمين
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (134) ، سنن أبي داود السنة (4721) .
(2) صحيح البخاري بدء الخلق (3276) ، صحيح مسلم الإيمان (134) ، مسند أحمد بن حنبل (2/331) .(28/386)
فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالإعراض عنها وعلى هذا يحمل الحديث وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة فكأنه لما كان أمرا طارئا بغير أصل دفع بغير نظر في دليل إذ لا أصل له ينظر فيه، وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها والله أعلم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «فليستعذ بالله ولينته (1) » فمعناه إذا عرض له هذا الوسواس فليلجأ إلى الله تعالى في دفع شره عنه وليعرض عن الفكر في ذلك وليعلم أن هذا الخاطر من وسوسة الشيطان وهو إنما يسعى بالفساد والإغواء فليعرض عن الإصغاء إلى وسوسته وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها والله أعلم.
وقال الحافظ في الفتح في الكلام على حديث أبي هريرة المذكور في أول هذا الجواب ما نصه: قوله: "من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته" أي عن الاسترسال معه في ذلك، بل يلجأ إلى الله في دفعه، ويعلم أنه يريد إفساد دينه وعقله بهذه الوسوسة، فينبغي أن يجتهد في دفعها بالاشتغال بغيرها، قال الخطابي: وجه هذا الحديث أن الشيطان إذا وسوس بذلك فاستعاذ
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3276) ، صحيح مسلم الإيمان (134) ، مسند أحمد بن حنبل (2/331) .(28/388)
الشخص بالله منه وكف عن مطاولته في ذلك اندفع، قال: وهذا بخلاف ما لو تعرض أحد من البشر بذلك فإنه يمكن قطعه بالحجة والبرهان، قال: والفرق بينهما أن الآدمي يقع منه الكلام بالسؤال والجواب والحال معه محصور، فإذا راعى الطريقة وأصاب الحجة انقطع، وأما الشيطان فليس لوسوسته انتهاء، بل كلما ألزم حجة زاغ إلى غيرها إلى أن يفضي بالمرء إلى الحيرة، نعوذ بالله من ذلك. قال الخطابي: على أن قوله "من خلق ربك" كلام متهافت ينقض آخره أوله لأن الخالق يستحيل أن يكون مخلوقا، ثم لو كان السؤال متجها لاستلزم التسلسل وهو محال، وقد أثبت العقل أن المحدثات مفتقرة إلى محدث. فلو كان هو مفتقرا إلى محدث لكان من المحدثات، انتهى. والذي نحا إليه من التفرقة بين وسوسة الشيطان ومخاطبة البشر فيه نظر؛ لأنه ثبت في مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه في هذا الحديث: «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله (1) » فسوى في الكف عن الخوض في ذلك بين كل سائل عن ذلك من بشر وغيره. وفي رواية لمسلم عن
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (134) ، سنن أبي داود السنة (4721) ، مسند أحمد (2/431) .(28/388)
أبي هريرة قال: سألني عنها اثنان، وكان السؤال عن ذلك لما كان واهيا لم يستحق جوابا، أو الكف عن ذلك نظير الأمر بالكف عن الخوض في الصفات والذات. قال المازري: الخواطر على قسمين: فالتي لا تستقر ولا يجلبها شبهة هي التي تندفع بالإعراض عنها، وعلى هذا ينزل الحديث، وعلى مثلها ينطلق اسم وسوسة، وأما الخواطر المستقرة الناشئة عن الشبهة فهي التي لا تندفع إلا بالنظر والاستدلال، وقال الطيبي: إنما أمر بالاستعاذة والاشتغال بأمر آخر ولم يأمر بالتأمل والاحتجاج؛ لأن العلم باستغناء الله جل وعلا عن الموجد أمر ضروري لا يقبل المناظرة، ولأن الاسترسال في الفكر في ذلك لا يزيد المرء إلا حيرة، ومن هذا حاله فلا علاج له إلا الملجأ إلى الله تعالى والاعتصام به، وفي الحديث إشارة إلى ذم كثرة السؤال عما لا يعني المرء وعما هو مستغن عنه، وفيه علم من أعلام النبوة لإخباره بوقوع ما سيقع فوقع.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (بيان موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) : ولفظ "التسلسل" يراد به التسلسل في المؤثرات - وهو أن يكون للحادث فاعل وللفاعل فاعل - وهذا(28/389)
باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، وهذا هو التسلسل الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يستعاذ بالله منه، وأمر بالانتهاء عنه، وأن يقول القائل «آمنت بالله ورسله (1) » كما في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته (2) » وفي رواية: «لا يزال الناس يتساءلون، حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ قال: فبينا أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب، فقالوا: يا أبا هريرة هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ قال: فأخذ حصى بكفه فرماهم به، ثم قال: قوموا، قوموا، صدق خليلي (3) » وفي الصحيح أيضا عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله: إن أمتك لا يزالون يسألون: ما كذا؟ ما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الحلق، فمن خلق الله؟ (4) » .
__________
(1) مسند أحمد (6/257) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده برقم 3276، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقول من وجدها، برقم 134.
(3) صحيح مسلم الإيمان (135) .
(4) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها برقم 136.(28/390)
انتهى المقصود من كلام الشيخ رحمه الله ولعله يتضح لك أيها السائل ولزميلك الذي أورد عليك الشبهة مما ذكرنا من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم ما يزيل الشبهة ويقضي عليها من أساسها ويبن بطلانها؛ لأن الله سبحانه لا شبيه له ولا كفو له ولا ند له، وهو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو خالق كل شيء وما سواه مخلوق، وقد أخبرنا في كتابه المبين وعلى لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم بما يجب اعتقاده في حقه سبحانه وبما يعرفنا به ويدلنا عليه من أسمائه وصفاته وآياته المتلوة وآياته المشاهدة من سماء وأرض وجبال وبحار وأنهار وغير ذلك من مخلوقاته عز وجل، ومن جملة ذلك نفس الإنسان فإنها من آيات الله الدالة على قدرته وعظمته وكمال علمه وحكمته؛ كما قال عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (1) وقال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 190
(2) سورة الذاريات الآية 20(28/391)
أما كنه ذاته وكيفيتها وكيفية صفاته فذلك من علم الغيب الذي لم يطلعنا عليه، فالواجب علينا فيه الإيمان والتسليم وعدم الخوض في ذلك كما وسع ذلك سلفنا الصالح من الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان فإنهم لم يخوضوا في ذلك ولم يسألوا عنه بل آمنوا بالله سبحانه وبما أخبر به عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ولم يزيدوا على ذلك مع إيمانهم بأنه سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وعلى من وجد شيئا من هذه الوساوس أو ألقي إليه شيء منها أن يستعظمها وينكرها من أعماق قلبه إنكارا شديدا وأن يقول: آمنت بالله ورسله، وأن يستعيذ بالله من نزغات الشيطان، وأن ينتهي عنها ويطرحها؛ كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك في الأحاديث السابقة، وأخبر أن استعظامها وإنكارها هو صريح الإيمان، وعليه ألا يتمادى على السائلين في هذا الباب؛ لأن ذلك قد يفضي إلى شر كثير، وإلى شكوك لا تنتهي، فأحسن علاج للقضاء على ذلك والسلامة منه هو امتثال ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم والتمسك به والتعويل عليه وعدم الخوض في(28/392)
ذلك وهذا هو الموافق لقول الله عز وجل: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) .
فالاستعاذة بالله سبحانه واللجوء إليه وعدم الخوض فيما أحدثه الموسوسون وأرباب الكلام الباطل من الفلاسفة ومن سلك سبيلهم في الخوض في باب أسماء الله وصفاته، وما استأثر الله بعلمه من غير حجة ولا برهان هو سبيل أهل الحق والإيمان، وهو طريق السلامة والنجاة والعافية من مكائد شياطين الإنس والجن. وفقني الله وإياك وسائر المسلمين للسلامة من مكائدهم، ولهذا لما سأل بعض الناس أبا هريرة رضي الله عنه عن هذه الوسوسة حصبهم بالحصباء ولم يجبهم على سؤالهم وقال صدق خليلي.
ومن أهم ما ينبغي للمؤمن في هذا الباب أن يكثر من تلاوة القرآن الكريم وتدبره؛ لأنه فيه من بيان صفات الله وعظمته، وأدلة وجوده وكماله ما يملأ القلوب إيمانا ومحبة وتعظيما واعتقادا جازما بأنه سبحانه هو رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق لكل شيء، والعالم بكل شيء، والقادر على كل شيء، لا إله غيره
__________
(1) سورة الأعراف الآية 200(28/393)
ولا رب سواه، كما ينبغي للمؤمن أيضا أن يكثر من سؤال الله المزيد من العلم النافع والبصر النافذ والثبات على الحق والعافية من الزيغ بعد الهدى، فإنه سبحانه قد وجه عباده إلى سؤاله، ورغبهم في ذلك، ووعدهم الإجابة، كما قال عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (1) . والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياك وزميلك وسائر المسلمين للفقه في الدين والثبات عليه، وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن، ومن مكايد شياطين الإنس والجن ووساوسهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
__________
(1) سورة غافر الآية 60(28/394)
100 - صفة النفس لله تعالى
س: هل صفة (النفس) لله صفة ذات؟ (1)
ج: نعم، قال الله سبحانه عن عيسى عليه السلام إنه قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} (2) "الله نفسه" يعني ذاته.
__________
(1) نشر في مجلة الفرقان، العدد 100، في ربيع الثاني 1419 هـ.
(2) سورة المائدة الآية 116(28/395)
101 - مسألة في صفة الذات لله تعالى
س: هل هي صفة أم هي الذات نفسها؟ (1)
ج: يوصف بأن له ذاتا وله نفس جميعها، كما قال تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} (2) .
__________
(1) نشر في مجلة الفرقان، العدد 100، في ربيع الثاني 1419 هـ.
(2) سورة المائدة الآية 116(28/395)
102 - صفة العينين لله تعالى
س: قال السلف: إن الله تعالى له عينان، ولكن في النص أحيانا يذكر الجمع وأحيانا يذكر المفرد، ولكننا نعرف أن(28/395)
الله تعالى له عينان فأين الدليل؟
ج: الله سبحانه موصوف بأن له عينين، وأنه ليس بأعور خلافا للدجال فإنه أعور العين اليمنى. والمثنى قد يطلق عليه الجمع باللغة العربية، كما قال سبحانه في سورة التحريم: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (1) ، والمراد: قلبكما.
فعبر عن المثنى بالجمع، وهكذا قوله سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (2) والمراد يداهما، وبذلك نزول الإشكال في قول الله سبحانه: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (3) . وفي قوله عز وجل: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (4) ، والله ولي التوفيق.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة التحريم الآية 4
(2) سورة المائدة الآية 38
(3) سورة الطور الآية 48
(4) سورة القمر الآية 14(28/396)
103 - معية الله لعباده تقتضي العلم والإحاطة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ ص. م. خ. وفقه الله للخير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده (1) :
يا محب حضر عندي جماعة من المشايخ وذكروا لي أن كثيرا من العامة وأشباههم في بريدة يشنعون كثيرا على فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين بسبب ما نسب إليه من قوله: إن معية الله مع عباده ذاتية، وهكذا بعض طلبة العلم يشنعون عليه بسبب ذلك، مع العلم بأنه قد رجع عن قوله هذا عندي وعند جماعة غيري، ولكنه لم يكتب كتابة صريحة في ذلك، ويقترح المشايخ المشار إليهم أن يدعوه فضيلتكم ويشير عليه بكتابة كلمة صريحة في الرجوع عن قوله ذاتية، وأنه يقول في ذلك ما يقوله السلف الصالح من أن معية الله لعباده تقتضي العلم والإحاطة فيما يتعلق بالمعية العامة كما تقتضي الحفظ والكلاءة والنصر والتأييد إذا كانت معية خاصة والله
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم 1164\ ح بتاريخ 12\ 10\ 1404 هـ.(28/397)
سبحانه فوق العرش غير مختلط بالخلق وعلمه في كل مكان كما لا يخفى، وأفيد فضيلتكم بأني أؤيد ما ذكره المشايخ وأرى أنه هو الحل الوحيد الذي يسكت الناس ويقضي على الكلام في عرض الشيخ ولا يخفى أن الرجوع إلى الحق فضيلة لا نقص فيه، ولا يخفى أن فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين من خيرة أهل العلم في عصرنا هذا وله جهود مشكورة في نشر العلم والدعوة إلى الحق وتعليم الطلبة وتأليف المؤلفات المفيدة ولكن ليس بمعصوم، وكل عالم يخطئ ويصيب كما قال الإمام مالك بن أنس وغيره من أهل العلم، ونسأل الله أن يقدر على يد فضيلتكم كل خير ويجعلنا وإياكم وسائر إخواننا من مفاتيح الخير ومغاليق الشر وأن يحفظنا وإياكم وسائر إخواننا من كل ما يغضبه إنه سميع قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(28/398)
104 - نزول الله تعالى
إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل
س: كيف نرد على من قال: إنكم تقولون: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا بالثلث الأخير من الليل وإن ذلك يقتضي تركه العرش؛ لأن ثلث الليل الأخير ليس في وقت واحد على أهل الأرض؟ (1)
ج: هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو القائل عليه الصلاة والسلام: «ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى ينفجر الفجر (2) » . متفق على صحته، وقد بين العلماء أنه نزول يليق بالله وليس مثل نزولنا، لا يعلم كيفيته إلا هو سبحانه وتعالى، فهو ينزل كما يشاء ولا يلزم من ذلك خلو العرش فهو نزول يليق
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1655، بتاريخ 28 ربيع الآخر 1419 هـ.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل، برقم 1145، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة، برقم 758.(28/399)
به جل جلاله، والثلث يختلف في أنحاء الدنيا وهذا شيء يختص به تعالى لا يشابه خلقه في شيء من صفاته كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) وقال جل وعلا: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (2) وقال عز وجل في آية الكرسي: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة وهو سبحانه أعلم بكيفية نزوله، فعلينا أن نثبت النزول على الوجه الذي يليق بالله، ومع كونه استوى على العرش، فهو ينزل كما يليق به عز وجل ليس كنزولنا، إذا نزل فلان من السطح خلا منه السطح، وإذا نزل من السيارة خلت منه السيارة، فهذا قياس فاسد له؛ لأنه سبحانه لا يقاس بخلقه، ولا يشبه خلقه في شيء من صفاته.
كما أننا نقول: استوى على العرش على الوجه الذي يليق به سبحانه ولا نعلم كيفية استوائه، فلا نشبهه بالخلق ولا نمثله وإنما نقول: استوى استواء يليق بجلاله وعظمته.
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة طه الآية 110
(3) سورة البقرة الآية 255(28/400)
ولما خاض المتكلمون في هذا المقام بغير حق حصل لهم بذلك حيرة عظيمة، حتى آل بهم الكلام إلى إنكار الله بالكلية، حتى قالوا: لا داخل العالم ولا خارج العالم ولا كذا ولا كذا، حتى وصفوه بصفات معناها العدم وإنكار وجوده سبحانه بالكلية، ولهذا ذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل السنة والجماعة تبعا لهم فأقروا بما جاءت به النصوص من الكتاب والسنة، وقالوا: لا يعلم كيفية صفاته إلا هو سبحانه، ومن هذا ما قاله مالك رحمه الله: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة " يعني: عن الكيفية ومثل ذلك ما يروى عن أم سلمة رضي الله عنها وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك رحمهما الله: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول والإيمان بذلك واجب" ومن التزم بهذا الأمر سلم من شبهات كثيرة، ومن اعتقادات لأهل الباطل كثيرة عديدة وحسبنا أن نثبت ما جاء في النصوص وألا نزيد على ذلك.
وهكذا نقول: يسمع ويتكلم ويبصر ويغضب ويرضى على وجه يليق به سبحانه ولا يعلم كيفية صفاته إلا هو، وهذا هو طريق(28/401)
السلامة وطريق النجاة وطريق العلم وهو مذهب السلف الصالح، وهو المذهب الأسلم والأعلم والأحكم، وبذلك يسلم المؤمن من شبهات المشبهين، وضلالات المضللين، ويعتصم بالسنة والكتاب المبين، ويرد علم الكيفية إلى ربه سبحانه وتعالى، والله سبحانه ولي التوفيق.(28/402)
105 - مسألة في الصفات
س: في حديث السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فهل يوصف الله تعالى بأن له ظلا؟
ج: نعم كما جاء في الحديث، وفي بعض الروايات «في ظل عرشه (1) » لكن في الصحيحين "في ظله"، فهو له ظل يليق به سبحانه لا نعلم كيفيته مثل سائر الصفات، الباب واحد عند أهل السنة والجماعة والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، برقم 660، ومسلم في كتاب الزكاة باب فضل إخفاء الصدقة، برقم 1031.(28/402)
106 - حكم قول يا وجه الله
س: الأخت أ. إ. ب. من بيشة تقول في سؤالها: أسمع بعض الناس إذا سمع كلاما مستغربا أو رأى شيئا غريبا قال: (يا وجه الله) فما حكم هذا القول؟ جزاكم الله خيرا (1) .
ج: لا يجوز لأحد من المسلمين أن يدعو صفات الله، عند جميع أهل العلم، كأن يقول: يا وجه الله، أو يا علم الله، أو يا رحمة الله أو ما أشبه ذلك. وإنما الواجب أن يدعوه سبحانه بأسمائه الحسنى؛ لقول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ} (2) الآية، فيقول: يا الله يا رحمن يا رحيم. ونحو ذلك.
ويستحب التوسل بصفات الله فيقول: اللهم إني أسألك بأنك عظيم، أو بقدرتك العظيمة، أو بحلمك ونحو ذلك. والله ولى التوفيق.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من المجلة العربية، وقد أجاب عنه سماحته بتاريخ 19\ 4\ 1419 هـ.
(2) سورة الأعراف الآية 180(28/403)
107 - مسالة في صفات الله عز وجل
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم
د\ م. أ. ح. سلمه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد (1) :
فأشير إلى كتابكم الذي جاء فيه نرجو من فضيلتكم توضيح معاني هذه الآيات الكريمة التالية: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (2) ، والآية: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (3) ، والآية: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} (4) ، والآية: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (5)
__________
(1) رد على استفتاء شخصي موجه لسماحته.
(2) سورة الأنعام الآية 3
(3) سورة البقرة الآية 255
(4) سورة الزخرف الآية 84
(5) سورة المجادلة الآية 7(28/404)
وحديث الجارية الذي رواه مسلم حينما سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أين الله؟ فقالت: في السماء. وقال لها: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة (1) » .
نرجو توضيح معاني هذه الآيات الكريمة وتوضيح معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم للجارية.
وأفيدك بأن المعنى العام للآيات الكريمات والحديث النبوي الشريف هو الدلالة على عظمة الله سبحانه وتعالى وعلوه على خلقه وألوهيته لجميع الخلائق كلها وإحاطة علمه وشموله لكل شيء كبيرا كان أو صغيرا سرا أو علنا وبيان قدرته على كل شيء ونفي العجز عنه سبحانه وتعالى.
وأما المعنى الخاص لها فقوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (2) ففيها الدلالة على عظمة الكرسي وسعته كما يدل
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، برقم 537.
(2) سورة البقرة الآية 255(28/405)
ذلك على عظمة خالقه سبحانه وكمال قدرته، وقوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (1) أي: لا يثقله ولا يكرثه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما ومن بينهما بل ذلك سهل عليه يسير لديه وهو القائم على كل نفس بما كسبت الرقيب على جميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شيء والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه سبحانه محتاجة وفقيرة إليه هو الغني الحميد الفعال لما يريد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وهو القاهر لكل شيء الحسيب على كل شيء الرقيب العلي العظيم لا إله غيره ولا رب سواه.
وقوله سبحانه: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (2) ففيها الدلالة على أن المدعو الله في السماوات وفي الأرض ويعبده ويوحده ويقر له بالألهية من في السماوات ومن في الأرض ويسمونه الله ويدعونه رغبا ورهبا إلا من كفر من الجن أو الإنس وفيها الدلالة على سعة علم الله سبحانه واطلاعه على عباده وإحاطته. بما يعملونه سواء كان سرا أو جهرا فالسر والجهر عنده سواء سبحانه وتعالى فهو يحصي على العباد جميع أعمالهم خيرها وشرها.
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة الأنعام الآية 3(28/406)
وقوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} (1) فمعناها: أنه سبحانه هو إله من في السماء وإله من في الأرض يعبده أهلهما وكلهم خاضعون له أذلاء بين يديه إلا من غلبت عليه الشقاوة فكفر بالله ولم يؤمن به، وهو الحكيم في شرعه وقدره، العليم بجميع أعمال عباده سبحانه. وقوله سبحانه وتعالى: والآية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) فمعناها: أنه مطلع سبحانه على جميع عباده أينما كانوا يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم ورسله من الملائكة الكرام والكاتبين الحفظة أيضا كذلك يكتبون ما يتناجون به مع علم الله به وسمعه له. والمراد بالمعية المذكورة في هذه الآية عند أهل السنة والجماعة معية علمه سبحانه وتعالى فهو معهم بعلمه ولكن سمعه أيضا مع علمه محيط بهم وبصره نافذ فيهم فهو سبحانه وتعالى مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء مع أنه سبحانه فوق جميع الخلق قد استوى على عرشه استواء يليق بجلاله
__________
(1) سورة الزخرف الآية 84
(2) سورة المجادلة الآية 7(28/407)
وعظمته ولا يشابه خلقه في شيء من صفاته كما قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) ثم ينبئهم يوم القيامة بجميع الأعمال التي عملوها في الدنيا؛ لأنه سبحانه بكل شيء عليم وبكل شيء محيط عالم الغيب لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.
أما حديث الجارية التي أراد سيدها إعتاقها كفارة لما حصل منه من ضربها، «فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " أين الله؟ قالت: في السماء، قال من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: اعتقها فإنها مؤمنة (2) » فإن فيه الدلالة على علو الله على خلقه وأن الاعتراف بذلك دليل على الإيمان.
هذا هو المعنى الموجز لما سألت عنه، والواجب على المسلم أن يسلك في هذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحيحة الدالة على أسماء الله وصفاته مسلك أهل السنة والجماعة وهو الإيمان بها واعتقاد صحة ما دلت عليه وإثباته له سبحانه على
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، برقم 537.(28/408)
الوجه اللائق به من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل وهذا هو المسلك الصحيح الذي سلكه السلف الصالح واتفقوا عليه.
كما يجب على المسلم الذي يريد السلامة لنفسه وتجنيبها الوقوع فيما يغضب الله العدول عن طريق أهل الضلال الذين يؤولون صفات الله أو ينفونها عنه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وسبق أن صدر من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى في إثبات العلو لله سبحانه فنرفق لك نسخة منها لمزيد الفائدة كما نرفق لك نسخة من العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية وشرحها للشيخ محمد خليل الهراس وفيها بحث موسع في الموضوع الذي سألت عنه، ونسأل الله أن يرزق الجميع العلم النافع والعمل به وأن يوفق الجميع لما يرضيه إنه سميع مجيب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(28/409)
108 - إثبات رؤية أهل الجنة لله تعالى
س: هل ورد في الكتاب والسنة رؤية أهل الجنة لله في الغدو والعشي وزيارتهم له؟ (1)
ج: ثبت في الأحاديث المتواترة أن أهل الجنة يرون ربهم جل وعلا في الجنة كما يشاء سبحانه وتعالى، ويراه المؤمنون أيضا يوم القيامة كما يشاء سبحانه وتعالى.
__________
(1) نشر في مجلة الفرقان، العدد 100، في ربيع الثاني 1419هـ.(28/410)
109 - حكم من أنكر رؤية الله في الآخرة
س: هل رؤية الله سبحانه وتعالى ثابتة وما الدليل؟
وما القول الراجح في ذلك؟ وهل المنافقون يرونه في المحشر؟ (1)
ج: رؤية الله في الآخرة ثابتة عند أهل السنة والجماعة من أنكرها كفر، يراه المؤمنون يوم القيامة ويرونه في الجنة كما يشاء بإجماع أهل السنة كما قال عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} (2) {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (3) وقال سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (4)
__________
(1) من فتاوى الحج، الشريط الرابع.
(2) سورة القيامة الآية 22
(3) سورة القيامة الآية 23
(4) سورة يونس الآية 26(28/410)
فسر النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله، وتواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة، أما في الدنيا فلا يرى في الدنيا كما قال سبحانه وتعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (1) . وقال لموسى: {لَنْ تَرَانِي} (2) وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «واعلموا أنه لن يرى أحد ربه حتى يموت (3) » فالدنيا ليست محل الرؤية؛ لأن الرؤية نعيم، رؤية الله أعلى نعيم أهل الجنة وهذه الدار ليست دار النعيم، دار الأكدار ودار الأحزان ودار التكليف فلا يرى في الدنيا لكنه يرى في الآخرة يراه المؤمنون، أما الكفار فهم عنه محجوبون كما قال سبحانه: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (4) فالكفار محجوبون عن الله يوم القيامة والمؤمنون يرونه في الآخرة، والصحيح أن الرسول
__________
(1) سورة الأنعام الآية 103
(2) سورة الأعراف الآية 143
(3) أخرجه مسلم في كتاب الفن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، برقم 2931.
(4) سورة المطففين الآية 15(28/411)
صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، أما المنافقون فمحل نظر جاء في بعض الروايات ما يدل على أنه يأتي هذا اليوم الأمة وفيها منافقوها لكن ليس فيه الصراحة بأنهم يرونه يوم القيامة.(28/412)
110 - حكم عبارة "والله من وراء القصد"
س: ترد عبارة تتكرر دائما عند نهاية المقالات المكتوبة في بعض الصحف وهي (والله من وراء القصد) ، فما حكم كتابتها وما المقصود منها؟ (1)
ج: لا أعلم فيها بأسا؛ لأن معناها: أن الله سبحانه هو الذي يعلم مقاصد العباد لا إله غيره ولا رب سواه، كما قال عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} (2) ، وقال سبحانه: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (3) ، وقال عز وجل: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} (4) الآية.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1661 بتاريخ 11 جمادى الآخرة 1419هـ.
(2) سورة البقرة الآية 235
(3) سورة آل عمران الآية 28
(4) سورة آل عمران الآية 29(28/412)
(باب ما جاء في التوبة)
111 - الكبائر تكفر بالتوبة النصوح
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - حفظه الله ورعاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
أفيدونا أحسن الله إليكم في مسألة تكفير الكبائر، وهل التوبة لازمة لها، أم أن الطاعات كالصلاة وغيرها تكفرها من غير توبة؟ وجزاكم الله خيرا (1) .
الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته؛ بعده:
الأدلة من الكتاب العزيز والسنة المطهرة كلها تدل على أن الكبائر إنما تكفر بالتوبة النصوح وصاحبها تحت مشيئة الله إن مات عليها مسلما لقول الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (2) وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (3) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (4) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} (5) الآية
__________
(1) سؤال شخصي موجه لسماحته وأجاب عنه بتاريخ 18\ 8\ 1418هـ.
(2) سورة النساء الآية 31
(3) سورة الفرقان الآية 68
(4) سورة الفرقان الآية 69
(5) سورة الفرقان الآية 70(28/413)
وقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر (2) » رواه مسلم في صحيحه، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وبذلك يعلم أن الآيات المطلقة والأحاديث المطلقة في تكفير السيئات بالأعمال الصالحات مقيدة بالنصوص المقيدة باجتناب الكبائر وهذه قاعدة شرعية عند أهل العلم والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، برقم 233(28/414)
112 - حكم قضاء الصلاة والصيام
لمن تركهما متعمدا قبل التوبة
س: رجل غارق في الكبائر ولم يكن يصلي ولا يصوم فهداه الله تعالى منذ سنين فاجتنب الكبائر وصار يصلي في الأوقات ويصوم، فهل يؤدي ما بذمته من صوم أو صلاة فيما مضى قبل الهداية؟ (1)
ج: التوبة تجب ما قبلها إن كان لا يصلي ولا يصوم ويفعل الكبائر ثم تاب، والتوبة تجب ما قبلها يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) فمن تاب أفلح ويقول سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (3) {عَسَى} (4) من الله واجبة فالله يكفر سيئاته إذا تاب ويقول جل وعلا:
__________
(1) سؤال موجه إلى سماحته بعد الدرس الذي ألقاه في المسجد الحرام بتاريخ 28\ 12\ 1418هـ
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة التحريم الآية 8
(4) سورة التحريم الآية 8(28/415)
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (1) ويقول سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} (2)
فالمقصود أن الله جل وعلا بين حال الزاني والسارق والعاصي: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (3) من صفات عباد الرحمن أنهم لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون، من صفات عباد الله العفة عن الزنى والعفة عن قتل النفوس بغير الحق ومن صفات عباد الرحمن الإخلاص لله والتوحيد الكامل ومن يفعل خلاف ذلك يشرك أو يقتل نفسا بغير حق أو يزني {يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (4) نعوذ بالله من ذلك {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (5)
__________
(1) سورة طه الآية 82
(2) سورة الفرقان الآية 68
(3) سورة الفرقان الآية 68
(4) سورة الفرقان الآية 68
(5) سورة الفرقان الآية 70(28/416)
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «التوبة تجب ما قبلها (1) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (2) » فمن تاب من سيئاته وأعماله غفرها الله له، والتوبة لها شروط ثلاثة: الندم على الماضي من السيئات، والإقلاع منها، والعزم الصادق ألا يعود إليها، هذه التوبة أن يندم على ما مضى من أعماله السيئة من شرك ومعصية، وأن يقلع عن ذلك ويدع ذلك خوفا من الله وتعظيما له وإخلاصا له، وأن يعزم عزما صادقا ألا يعود في ذلك، فإذا فعل هذا فقد تاب توبة نصوحا والله يغفر بها ذنوبه الماضية، وهناك شرط رابع إذا كانت المعصية تتعلق بالمخلوق فلا بد من شرط رابع وهو تحلله أو إعطاؤه حقه، فإذا كانت المعصية تتعلق بظلم إنسان، أخذ ماله أو ضربه أو قتله
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند الشاميين، بقية حديث عمرو بن العاص، برقم 17357 بلفظ: '' إن الإسلام يجب ما كان قبله وإن الهجرة تجب ما كان قبلها..''.
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، برقم 4250.(28/417)
فلا بد من إعطائه حقه أو تحلله من ذلك وإعطاء الحق للقتيل القصاص إلا أن يعفو أولياء القتيل، وفي المال يعطيه المال الذي أخذ منه، وفي العرض كذلك يستباح إذا كان الحق غيبة فإن لم يتيسر له ذلك دعا له وذكره بالخير الذي يعلمه منه في المجالس التي ذكره فيها بالشر والمقصود إذا كان الحق لمخلوق فلا بد مع الشروط الثلاثة من شرط رابع وهو إعطاء المخلوق حقه أو تحلله من ذلك.(28/418)
113 - مسألة في قضاء العبادات بعد للتوبة
س: ما يقول شيخنا الجليل فيمن لا يصلي ولا يصوم عمدا وبعد أن هداه الله وأناب إليه وبكى على إسرافه على نفسه، رجع يصلي ويصوم ويقوم بجميع العبادات هل يؤمر بقضاء الصلاة والصوم أم تكفيه الإنابة والتوبة؟ (1)
ج: من ترك الصلاة والصيام ثم تاب إلى الله توبة نصوحا لم يلزمه قضاء ما ترك؛ لأن ترك الصلاة كفر أكبر يخرج من الملة وإن لم يجحد التارك وجوبها في أصح قولي العلماء، وقد قال الله
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند، ج 4 ص 165.(28/418)
سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (1) الآية.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يهدم ما كان قبله، والتوبة تجب ما كان قبلها (2) » والأدلة في هذا كثيرة؛ ومنها قوله سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (3) ، وقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (4) الآية.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (5) » ، والمشروع للتائب أن يكثر بعد التوبة من الأعمال الصالحات، وأن يكثر من سؤال الله سبحانه الثبات على الحق وحسن الخاتمة. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 38
(2) صحيح مسلم الإيمان (121) ، مسند أحمد (4/204) .
(3) سورة طه الآية 82
(4) سورة التحريم الآية 8
(5) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، برقم 4250.(28/419)
114 - قبول توبة من كان ماله حراما
س: رجل ماله كله حرام وتزوج منه وحج منه وعمل تجارة ويريد التوبة فماذا يصنع؟
ج: إذا تاب تاب الله عليه، والمال محل نظر، بعض أهل العلم يراه له؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) .
فإذا أخذ منه ما يسد حاجته وتصدق منه إن شاء الله يكفي وإن تطهر منه كله وتصدق به في وجوه البر وجدد كسبا طيبا فهذا أحوط وأحسن لكن إذا كان فقيرا ينتفع به؛ لأن الله قال: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} (2) وهذا يعم الكفار. الذين أسلموا وقد كانوا يستعملون الربا وهو حرام وترك لهم ولم يقل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوا المال الربوي بعدما تابوا وأسلموا عليه، فهذا المسلم قال بعض أهل العلم: مثل الكافر، ما يكون أردى من الكافر فهو أولى من الكافر إذا تاب؛ لأن منعه من المال قد ينفره
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275(28/420)
من التوبة أيضا فإذا تاب له طريق في المال الذي تاب عليه، وإن تيسر إخراجه؛ لأن الإسلام يمنعه من ذلك والصدقة به هذا أحوط خروجا من خلاف العلماء والحج صحيح لأنه عمل بدني ليس له تعلق بالمال، لكن لا يجوز له إنفاق المال الخبيث.(28/421)
115 - التوبة النصوح
س: الأخ ب. ع. من صفاقس بتونس يقول في سؤاله:
ما هو السبيل إلى التوبة النصوح؟ (1)
ج: السبيل إلى ذلك هو الندم على ما سبق من المعصية، والعزم الصادق ألا يعود فيها، مع الإقلاع عنها والحذر منها، عن إخلاص لله ومحبة وتعظيم، ورغبة ورهبة، وإن كانت المعصية تتعلق بالمخلوقين فلا بد من تحلل صاحب الحق، وإن لم يتيسر ذلك دعا له واستغفر له، وذكره بمحاسن أعماله التي يعلمها بين من اغتابه عندهم، وإن كانت تتعلق بمال رده إليه أو طلب العفو عن ذلك فإذا عفا برئ من ذلك. والله الموفق.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من المجلة العربية، وأجاب عنه سماحته بتاريخ 8\ 8\ 1419هـ(28/421)
116 - التوبة الصادقة فلاح وسعادة
س: فضيلة الشيخ أفيدكم بأنني شاب مسلم تبت إلى الله وعاهدته على ذلك وبدأت توبتي في الحج أرجو الثبات على ذلك من الله عز وجل وأشهد الله على محبتي لكم في الله جل وعلا؟ (1)
ج: نسأل الله أن يثبتنا وإياك على دينه ويرزقنا وإياك لزوم التوبة والاستقامة ونوصيك بتقوى الله ولزوم التقوى وأبشر بالخير، من تاب أفلح والله يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) فالتوبة الصادقة فلاح ونجاح وسعادة. وأنا أقول أحبك الله الذي أحببتنا من أجله، ونقول عليك بلزوم التوبة وصحبة الأخيار واحذر من صحبة الأشرار، نسأل الله لك الهداية والتوفيق والسلامة والثبات على الحق.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407هـ، الشريط السابع.
(2) سورة النور الآية 31(28/422)
117 - حكم من أسرف على نفسه بالمعاصي
س: أنا شاب ولدت مسلما وكنت لا أترك الصلاة ولكن (شاءت الأقدار) أن أسافر خارج بلادي لفترة مع عائلتي ومن ثم بدونهم، وتركت الصلاة لفترة أكثر من أربع سنين وفعلت كثيرا من الفواحش مثل الزنى ولم أصم رمضان لمدة أربع أشهر، وجامعت زوجتي في شهر رمضان وكل ذلك بسبب جلساء السوء.
والآن أنا تائب إلى ربي ونادم على فعلي وأحافظ على الصلاة بمفردي أو في الجماعة أفيدوني ماذا يجب علي؟
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكرت فالتوبة النصوح كافية وهي تجب ما قبلها وليس عليك قضاء شيء من الصلاة والصوم ولا شيء من الكفارات؛ لأن ترك الصلاة كفر أكبر وإن لم يجحد وجوبها في أصح قولي العلماء، أما إن جحد وجوبها كفر إجماعا،(28/423)
والكافر إذا أسلم لا يقضي شيئا من الواجبات المتعلقة بحق الله سبحانه؛ لقول الله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} (1) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يهدم ما كان قبله والتوبة تهدم ما كان قبلها (2) » ، ونوصيك بالاستقامة على التوبة والإكثار من الاستغفار والعمل الصالح وأبشر بالخير والعاقبة الحميدة إذا استقمت على التوبة والإصلاح؛ لقول الله سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (3) . رزقنا الله وإياك الثبات على الحق إنه خير مسؤول.
وقد وقع في سؤالك كلمة يجب التنبيه عليها وهي قولك: "شاءت الأقدار" والأقدار لا مشيئة لها والصواب أن يقال: شاء الله وحده، أو شاء الله سبحانه ونحو ذلك. وفقنا الله وإياك للفقه في الدين والاستقامة عليه.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 38
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهم ما قبله برقم 121 بلفظ: '' أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ''.
(3) سورة طه الآية 82(28/424)
118 - مسألة في التوبة
س: أنا طالب علم وأحب الله ورسوله لكني مبتلى بكبيرة، ما أفتأ أن أتوب منها حتى أعود إليها، وكلما جددت العزم على تركها أجدني بعد شهور أقع فيها ولازمني هذا الأمر سنين، إني لأرجو أن أجد عندكم الحل الناجح والشفاء الأكيد أفيدونا مأجورين؟ (1)
ج: الواجب عليك الصدق مع الله وأبشر بالخير إذا تبت، فاصدق وحاسب نفسك واسأل ربك التوفيق والإعانة ولا تتبع الهوى، جاهد نفسك، والله يقول:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (2) ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (4)
__________
(1) سؤال موجه إلى سماحته بعد الدرس الذي ألقاه في المسجد الحرام بتاريخ 28\ 12\ 1418هـ
(2) سورة العنكبوت الآية 69
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 4(28/425)
فالواجب عليك تقوى الله ولا يلعب بك عدو الله الشيطان متى تبت فالزم التوبة واحذر العودة، وإذا عدت ثانية فليكن حذرك أشد حتى لا تعود مرة ثالثة، أما التلاعب بأن يلعب بك الشيطان فهذا دليل على ضعف الإيمان وضعف القوة وضعف البصيرة، فاتق الله وراقب الله وجاهد نفسك حتى لا تعود إلى المعصية، نسأل الله لنا ولك الهداية والتوفيق.(28/426)
119 - حكم الوقوع في الأخطاء التي لم يتعمدها
س: كنا مجموعة من الأصدقاء نجتمع للنقاش والحوار حول أمور الدين والدنيا، وإذا بأحد الحضور يلقي بسؤال يقول فيه: هل يستطيع المرء المسلم أن يعيش حياته مسلما بنسبة 100% مع استمرار تعايشه وتعامله مع مجتمعه بما في ذلك من إيجابيات وسلبيات ومؤثرات. أي بمعنى إن أراد البعد عن كل ما حرمه الله والتمتع بكل ما أحله الله في كتابه وكذلك العمل بسنة نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام بما تبيحه والبعد عما تنهى عنه؟(28/426)
واختلفت الإجابات وإن كان الكل قد أجاب بنعم، ولكن اختلفت الإجابات حول النسب ففريق قائل بقدرة المرء على ذلك أي أن يحيا المرء مسلما بنسبة 100% وفريق آخر لم يوافق على قدرة المرء أن يحيا حياة مسلم بنسبة. . 100% ووجهة نظر الفريق الآخر الذي لم يوافق على نسبة المائة بالمائة أن قوة المجتمع ومؤثراته متعددة وأن من الممكن أن تكون هناك أمور كثيرة غير صحيحة ولكن المجتمع مع هذا يقرها وضرب هذا الفريق مثلا بكرة القدم ومحاولة الناس تشجيع هذه اللعبة رغم عدم فائدتها للشباب بالقدر الذي لو تدرب الشباب على الفروسية والسباحة والرماية مثلا.
ومثل آخر. . التصوير والصور المجسمة. ومثل آخر يتعلق بغذاء الإنسان وهي ما تستورد الدولة من لحوم من الخارج. . ومثال آخر، فوائد البنوك.
وأمثلة أخرى عديدة ضربت، ولما طال النقاش وامتد واتفقنا في نقاط واختلفنا في أخرى.(28/427)
رأينا أن نرسل لمجلتكم الموقرة بسؤال عسانا أن نجد الجواب الشافي لديكم؟ (1)
ج: المسلم غير معصوم، «وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون (2) » ، كما جاء بذلك الحديث الشريف، لكن في الإمكان أن يعيش المسلم في مجتمع إسلامي محافظا على دينه حسب طاقته؛ عملا بقول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3) .
ولا يخدش في دينه ما قد يقع منه من الأخطاء التي لم يتعمدها، أو ظنها جائزة باجتهاده وما لديه من معلومات، أو بسؤاله بعض أهل العلم، فأفتاه في ذلك ولم تكن فتواه مطابقة للشرع المطهر، والخلاصة أن الواجب على المسلم أن يتقي الله ما استطاع، وأن يحرم ما حرم الله عليه، وأن يجتهد فيما فرض الله عليه، وإذا وقعت منه زلة وجب عليه المبادرة بالتوبة النصوح.
__________
(1) نشر في كتاب الدعوة، ص 27.
(2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2499) ، سنن ابن ماجه الزهد (4251) ، مسند أحمد (3/198) ، سنن الدارمي الرقاق (2727) .
(3) سورة التغابن الآية 16(28/428)
120 - الإقبال على العبادة من علامات الخير للتائب
س: لقد تبت من ذنوبي وندمت وما زلت نادما منذ أكثر من سنة ثم يسر الله لي العمرة والحج ودعاء عرفة وبعض الأمور الأخرى في مثل حضور مجالس العلماء لسماحتكم وفضيلة الشيخ ابن عثيمين، فهل هذه علامات أرجو بها أن أكون مقبول التوبة؟ (1)
ج: إن شاء الله ما دام أنك قد تبت إلى الله فالتوبة تجب ما قبلها، وحضورك مجالس العلم وإقبالك على العبادة هذا من وسائل الخير ومن علامات الخير فاستقم واثبت على الحق واحضر مجالس العلم وأكثر من الطواف والصلاة وأبشر بالخير إن شاء الله والزم التوبة.
__________
(1) سؤال موجه إلى سماحته بعد الدرس الذي ألقاه في المسجد الحرام بتاريخ 26\ 12\ 1418هـ(28/429)
121 - مسألة في التوبة
س: ما حكم من ارتكب شيئا من الذنوب والمعاصي هل له توبة؟
ج: الله يقول جل وعلا: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ، ويقول سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (2) ، يجب عليك التوبة والندم والإقلاع، هذه هي التوبة، يندم ويقلع من الذنوب ويتركها خوفا من الله وتعظيما لله ويعزم عزما صادقا ألا يعود فيها، هذه التوبة. فمن تاب تاب الله عليه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (3) » .
التوبة تهدم ما كان قبلها، وإذا كان الحق لمسلم لا بد من أمر رابع وهو تحلله أو إعطاؤه حقه إذا كان الحق فلوسا، أو
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة التحريم الآية 8
(3) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، برقم 4250.(28/430)
اغتابه، أو أخذ شيئا من ماله يتحلله أو يعطيه حقه، لا تتم التوبة إلا بهذا، مع الندم والإقلاع والعزم ألا يعود، لا بد من الأمر الرابع وهو أن يعطي صاحب الحق حقه يستحله يستبيحه يمكنه من القصاص ويقول: أبحني عما حصل مني من الغيبة، إن استطاع وإن ما استطاع يذكره بالخير، إذا لم يستطع أن يستحله من الغيبة يذكره بالخير الذي يعلمه في الأماكن التي اغتابه فيها، يذكره بأعماله الطيبة التي يعرفها والصفات الحميدة التي يعرفها فتكون هذه بهذه.(28/431)
122 - الزلازل والفيضانات تقع بقضاء الله وقدره وتدبيره
س: الزلازل والبراكين والصواعق والفيضانات. . هل هي جند من جنود الله؟ (1)
ج: كل هذه الأمور وغيرها مما يحدثه الله في الكون، كلها
__________
(1) أجاب عنه سماحته بتاريخ 17\ 12\ 1418هـ ونشر في مجلة الدعوة، العدد 1653، بتاريخ 14\ 4\ 1419 هـ.(28/431)
تقع بقضائه وقدره وتدبيره؛ لحكم بالغة وغايات حميدة، يعلمها سبحانه وإن خفيت على كثير من الناس، ويعذب الله بذلك أقواما ويرحم آخرين، وله الحكمة البالغة في ذلك سبحانه وتعالى، وفق الله الجميع.(28/432)
123 - الأذكار سبب لطرد الشياطين
س: لي بنتان وفي حجرتهن تنبعث رائحة كريهة منها وحاولوا تغيير الحجرة ولكن حدث نفس الشيء، وترى ابنتي أشخاصا يضعونها على وجهها وهي تراهم دائما فما تفسير ذلك وما الحل أرجوكم أرشدوني؟ (1)
ج: قد يكون هذا من فسقة الجن وكفرة الجن وسفهائهم، فعليها أن تستعمل هذا الدعاء: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق (2) » ، إذا دخلت الحجرة، تقول: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق (3) » تكررها ثلاثا، وتبشر بالعافية، يقول النبي صلى الله
__________
(1) سؤال موجه لسماحته بعد الدرس الذي ألقاه في المسجد الحرام بتاريخ 27\ 12\ 1418هـ
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) ، سنن الترمذي الدعوات (3437) ، سنن ابن ماجه الطب (3547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/409) ، سنن الدارمي الاستئذان (2680) .
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) ، سنن الترمذي الدعوات (3437) ، سنن ابن ماجه الطب (3547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/409) ، سنن الدارمي الاستئذان (2680) .(28/432)
عليه وسلم: «من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء (1) » ، وجاء في بعض الروايات: «من قالها ثلاثا (2) » ، فالواجب على المؤمن أن يتقي الله وأن يراقب الله وأن يحذر تلاعب الشياطين وسفهاء الجن، فإن جاءه مثل هذا يتعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ويقول: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات. جاء في الحديث أن من قالها لم يضره شيء إذا قالها صباحا أو مساء، ويكثر من قراءة القرآن فالقرآن من أسباب طرد الشياطين وسفهاء الجن ولا يضرها ذلك، عليها بالصدق فمتى صدقت سلمت من هذا، تقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات صباحا
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء برقم 2708.
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند؛ باقي مسند المكثرين؛ مسند أبي هريرة رضي الله عنه؛ برقم 7838.(28/433)
ومساء، ولها البشرى بالخير، وتكثر من ذكر الله وقراءة القرآن أو ما تيسر منه ولو بالفاتحة حسب ما تيسر لها، ولو الفاتحة، الفاتحة أم القرآن تكفي.(28/434)
124 - التحذير من الكذب
س: هل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمن لا يكذب لكن قد يعمل المعاصي الأخرى، فما هو توجيه الحديث من كذب فتاب ويخشى أن يكون قد كتب كذابا. فما عليه؟ (1)
ج: المؤمن الصادق لا يكذب، ولكن قد يكذب لنقص إيمانه وضعف إيمانه، فالواجب على كل مؤمن أن يحذر الكذب، ينبغي أن يتحرى الصدق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فان الكذب يهدي إلى
__________
(1) سؤال موجه لسماحته بعد الدرس الذي ألقاه في المسجد الحرام بتاريخ 27\ 12\ 1418هـ(28/434)
الفجور والفجور يهدي إلى النار (1) » ، ويقول الله جل وعلا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (2) ، ويقول سبحانه: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (3) .
فالواجب تحري الصدق والحذر من الكذب أينما كان إلا في الأوجه التي يجوز فيها الكذب، تقول أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها: «لم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته والمرأة زوجها (4) » ، في هذا لا بأس في الثلاث إذا كذب للمصلحة، في هذه الثلاث فلا بأس: الإصلاح
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، برقم 6094، ومسلم في كتاب البر والصلة والأدب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله، برقم 2607.
(2) سورة التوبة الآية 119
(3) سورة المائدة الآية 119
(4) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم الكذب وبيان المباح منه، برقم 2605.(28/435)
بين الناس، وفي الحرب من غير أن يغدر، وفي حديث الرجل مع امرأته والمرأة مع زوجها.(28/436)
125 - الوسائل المعينة على تحقيق الإخلاص
س: سماحة الشيخ لقد أهمني الشيطان كثيرا في تحقيق الإخلاص في الأقوال والأفعال فدلوني على الوسائل المعينة على تحقيق الإخلاص لله في الأقوال والأفعال جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: قد دلك ربك بقوله جل وعلا: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (2) ، وبقوله جل وعلا: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} (3) ، فعليك أن تستعيذ بالله من هذا العدو فتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وإذا أكثر عليك الوساوس انفث عن يسارك ثلاث مرات قل: أعوذ بالله من الشيطان
__________
(1) سؤال موجه لسماحته بعد الدرس الذي ألقاه في المسجد الحرام بتاريخ 27\ 12\ 1418هـ
(2) سورة الأعراف الآية 200
(3) سورة فاطر الآية 6(28/436)
ثلاث مرات، وأبشر بالخير والعافية، اصدق مع الله في التعوذ وأبشر بالخير، وإذا كانت الوسوسة حول الرب أو حول الجنة أو النار تقول مع التعوذ: آمنت بالله ورسله، آمنت بالله ورسله، آمنت بالله ورسله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم تكثر من هذا؛ لأن الصحابة لما اشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما يجدونه من الوساوس فأمرهم أن يستعيذوا بالله من الشيطان وأن يقولوا عند وساوسه فيما يتعلق بالرب والآخرة والجنة والنار ونحو ذلك: آمنت بالله ورسله، آمنت بالله ورسله، ويستعيذ بالله، وينتهي ويزول منه، وتزول عنه هذه الوساوس التي يبتليه بها عدو الله، هذه من مكائده.(28/437)
126 - ماذا يعمل من لديه
وساوس تتعلق بالعقيدة
س: عندي وساوس كثيرة، وخاصة في العقيدة، وفي الأعمال التي أعملها فما التوجيه؟ (1)
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من جريدة المسلمون، وقد أجاب عنه سماحته بتاريخ 5\ 6\ 1419هـ(28/437)
ج: عليك عند وجودها أن تتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، والنفث عن يسارك ثلاثا ولو كنت في الصلاة، وتقول مع ذلك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وتكررها ثلاثا، وتقول مع ذلك: آمنت بالله ورسله. إذا كانت الوساوس تتعلق بالعقيدة. هكذا علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، لما اشتكوا إليه الوساوس. والله الموفق.(28/438)
127 - علاج وساوس الشيطان
س: أنا الحمد لله أقيم الصلاة وأقوم بالنوافل ولكني أحيانا تساورني شكوك بأن أعمالي غير مقبولة نتيجة وسوسة الشيطان والعياذ بالله منه، فما هو العلاج منه أثابكم الله؟ (1) .
ج: لا شك أن هذا من الشيطان، فالإنسان إذا أدى ما عليه فإن عليه أن يحسن ظنه بربه وليجتهد في الإخلاص في العمل والصدق في العمل ويدع الوساوس التي تراوده بأنه مراء أو
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407هـ؛ الشريط الخامس(28/438)
بأنه كذا أو بأنه كذا ما دام يعلم أن عمله لله وأنه بحمد الله لا يرائي الناس، وإنما فعل ما قام به لله ويعلم أن هذا من الشيطان، والواجب أن يستعيذ بالله من الشيطان دائما، وليتشاغل عن هذا الشيء الذي يراوده وليعرض عنه، فإن هذا من عدو الله الشيطان حتى يثبطه، فليحارب عدو الله الشيطان بقوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وليشتغل بغير ذلك من الأشغال التي تنسيه هذا الأمر؛ كقراءة القرآن والاستغفار والتحدث مع إخوانه وأهل بيته وغير ذلك من أمور تشغله عن هذه الوساوس.(28/439)
128 - صلاة التوبة
س: شاب يقول: في فترة الشباب المبكر من العمر ارتكبت بعض المعاصي، وقد تبت إلى الله ولله الحمد والشكر، ولكن لا زال في نفسي شيء، وسمعت عن صلاة التوبة، أرجو أن تفيدوني نحو هذا جزاكم الله خيرا؟ (1)
__________
(1) نشر في الجزء الرابع من هذا المجموع.(28/439)
ج: التوبة تجب ما قبلها وتمحوه والحمد لله، فلا ينبغي أن يبقى في قلبك شيء من ذلك، والواجب أن تحسن الظن بربك، وأن تعتقد أن الله تاب عليك إن كنت صادقا في توبتك؛ لأن الله يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) " (2) فعلق الفلاح بالتوبة، فمن تاب فقد أفلح، وقال سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (3) ، وهو الصادق سبحانه وتعالى في خبره ووعده، وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (4) و {عَسَى} (5) من الله واجبة.
فعليك أن تحسن ظنك بربك، وأنه قبل توبتك، إذا كنت صادقا في توبتك نادما على ما عملت، مقلعا عنه، عازما ألا تعود فيه، وإياك والوساوس، والله جل وعلا يقول في الحديث القدسي
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة النور، الآية 31.
(3) سورة طه الآية 82
(4) سورة التحريم الآية 8
(5) سورة التحريم الآية 8(28/440)
«أنا عند ظن عبدي بي (1) » .
فينبغي أن تظن بالله خيرا، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن ظنه بالله (2) » خرجه مسلم في صحيحه.
أما صلاة التوبة فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث الصديق رضي الله عنه أنه قال: «ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتطهر فيحسن الطهور، ثم يصلي ركعتين، ثم يتوب لله من ذنبه، إلا تاب الله عليه (3) » وبالله التوفيق.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: (ويحذركم الله نفسه) ، برقم 7405، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب الحث على ذكر الله تعالى، برقم 2675.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، برقم 2877.
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند أبى بكر الصديق رضي الله عنه، برقم 57.(28/441)
129 - التائب من الذنب يستتر بستر الله
س: عملي أوقعني في أخطاء ومعاص مع النساء ما دون الزنا وكذبت مخافة الفضيحة، فهل يلزمني بعد توبتي الإخبار عن الحقيقة؟ (1)
ج: التوبة كافية، الإنسان يستر بستر الله، فعليه التوبة وعدم إفشاء ما وقع من المعاصي والسيئات ومن تاب تاب الله عليه، الواجب عليك التوبة إلى الله والحذر من أسباب الشر والحذر من وسائل الزنا، والحذر من كل ما حرم الله، وإذا ألم العبد شيء من المعاصي فليتب إلى الله، وليستغفر الله، ولا يبد صفحته ولا ينشر سوءته، ولا يفضح نفسه.
__________
(1) سؤال شخصي أجاب عنه سماحته ضمن مجموع من الأسئلة.(28/442)
130 - النصح واجب بين المسلمين
س: إنني شاب متزوج ولي ثلاثة أولاد أعيش في بيتي وفي بيت والدي المتوفى مع والدتي وجدتي وإخواني، ومشكلتي(28/442)
تتلخص بأن أخي الأكبر الذي يسكن معنا في البيت لا يصلي ولا يشهد الصلاة في المسجد في كل الأوقات ويشرب الخمر أغلب الأوقات وعاطل عن العمل، لقد تشاجرت معه كثيرا ولكن لا فائدة بل يصرح بأنه لن يصلي ولم تفده النصيحة، فقد فكرت في الخروج من البيت ولكن والدتي بكت كثيرا واتهمتني بالعقوق وقالت احمد ربك حتى لا يعاقبك الله بولد مثله.
فضيلة الشيخ إنني أعيش في حيرة فهل يجوز لي الخروج من البيت وترك والدتي بالرغم من أنني أنا الذي أصرف على البيت وإذا تغاضيت عنه من أجل والدتي هل أكون شريكا في الإثم والمعاصي وجهوني؟ (1)
ج: الذي لا يصلي كافر نعوذ بالله. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (2) » ، ويقول عليه الصلاة والسلام: «العهد
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط رقم 341.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 82.(28/443)
الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » ، وشرب الخمر من أقبح الكبائر وأعظم الذنوب، والله جل وعلا قال في الخمر: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2)
وقد «ثبت عليه الصلاة والسلام أنه لعن الخمر وشاربها وساقيها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها واحمل ثمنها (3) » - نسأل الله العافية-.
وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن (4) » . الخمر أم الخبائث ومن أعظم القبائح والكبائر، وننصحك أن تستمر في نصيحته وتخويفه من الله عز وجل بأسلوب حسن بالترغيب والترهيب، وأن تستعين على ذلك أيضا بسؤال الله جل وعلا أن
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة برقم 2621، والنسائي في كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة برقم 463، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة برقم 1079، وأحمد في باقي مسند الأنصار، حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه برقم 22428.
(2) سورة المائدة الآية 90
(3) سنن أبي داود الأشربة (3674) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3380) ، مسند أحمد (2/97) .
(4) أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب النهي بغير إذن صاحبه برقم 2475.(28/444)
يهديه وأن يشرح صدره للحق، اسأل ربك أن يهديه وأن يعيذه من شر نفسه وهواه وأن يلهمه الصواب ويوفقه لقبول الحق، فهو أخوك له حق عليك، فاسأل ربك له أن يهديه، في أوقات الإجابة، في سجودك، وفي آخر الصلاة، وفي آخر الليل، سل ربك أن يهديه ويعيذه من الشيطان، وهكذا تستعين عليه أيضا بإخوانك في الله الطيبين الذين قد يؤثرون عليه حتى ينصحوه ويوجهوه، ولا تخرج من البيت اجلس مع والدتك وأحسن إليها، فإن لم تفد معه النصيحة ولم يقبل فارفع أمره إلى الهيئة، وإلى المحكمة حتى يقام عليه الحد، ارفع أمره إلى الهيئة لعلها تعالج الموضوع، فإن لم يحصل ذلك فالمحكمة؛ لأن ترك الصلاة، وشرب الخمر أمر عظيم، فالذي يجاهر بهذا ولا يبالي، لا يترك، وإذا لم يقبل النصيحة يجري عليه الحكم الشرعي، نسأل الله لنا ولك وله الهداية ولجميع المسلمين.(28/445)
131 - شروط التوبة
س: سائل يقول: لقد ارتكبت كثيرا من المعاصي والمحرمات والآن أشعر بالذنب وأخيرا يقول: دلوني على الطريق الصحيح لأني أبحث عن التوبة وبودي أن أقلع عن هذا إن شاء الله؟ (1)
ج: أيها السائل اعلم أن رحمة الله أوسع وأن إحسانه عظيم وأنه جل وعلا هو الجواد الكريم وهو أرحم الراحمين وهو خير الغافرين سبحانه وتعالى، واعلم أيضا أن الإقدام على المعاصي شر عظيم وفساد كبير وسبب لغضب الله ولكن متى تاب العبد إلى ربه توبة صادقة تاب الله عليه، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم مرات كثيرة عن الرجل يأتي كذا ويأتي كذا من الهنات والمعاصي الكثيرة ومن أنواع الكفر ثم يتوب فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «التوبة تهدم ما كان قبلها والإسلام يهدم ما كان قبله (2) » وفي لفظ آخر: «الإسلام يجب ما كان قبله
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط رقم 59
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهم ما قبله برقم 121 بلفظ: '' أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ''.(28/446)
والتوبة تجب ما كان قبلها (1) » يعني تمحوها وتقضي عليها، فعليك أن تعلم يقينا أن التوبة الصادقة النصوح يمحو الله بها الخطايا والسيئات حتى الكفر، ولهذا يقول سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) فعلق الفلاح في التوبة، وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (3) و {عَسَى} (4) من الله واجبة، المعنى أن التائب التوبة النصوح يغفر له سيئاته ويدخله الله الجنة فضلا منه وإحسانا سبحانه وتعالى.
فعليك يا أخي بالتوبة الصادقة، ولزومها والثبات عليها والإخلاص لله في ذلك، وأبشر بأنها تمحو ذنوبك ولو كانت كالجبال.
وشروط التوبة ثلاثة: الندم على الماضي مما فعلت ندما
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة التحريم الآية 8
(4) سورة التحريم الآية 8(28/447)
صادقا، والإقلاع من الذنوب، ورفضها وتركها مستقبلا طاعة لله وتعظيما له، والعزم الصادق ألا تعود في تلك الذنوب، هذه أمور لا بد منها، أولا: الندم على الماضي منك والحزن على ما مضى منك، الثاني: الإقلاع والترك لهذه الذنوب دقيقها وجليلها، الثالث: العزم الصادق ألا تعود فيها فإن كان عندك حقوق للناس، أموال أو دماء أو أعراض فأدها إليهم، هذا أمر رابع من تمام التوبة، عليك أن تؤدي الحقوق التي للناس إن كان قصاصا تمكن من القصاص إلا أن يسمحوا بالدية، إن كان مالا ترد إليهم أموالهم، إلا أن يسمحوا، إن كان عرضا كذلك تكلمت في أعراضهم، واغتبتهم تستسمحهم، وإن كان استسماحهم قد يفضي إلى شر فلا مانع من تركه، ولكن تدعو لهم وتستغفر لهم، وتذكرهم بالخير الذي تعلمه منهم في الأماكن التي ذكرتهم فيها بالسوء، ويكون هذا كفارة لهذا، وعليك البدار قبل الموت، قبل أن ينزل بك الأجل، عليك البدار، والمسارعة، ثم الصبر والصدق، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 135(28/448)
افهم معنى {وَلَمْ يُصِرُّوا} (1) يعني لم يقيموا على المعاصي، بل تابوا وندموا وتركوا، ولم يصروا على ما فعلوا، وهم يعلمون، انتقل بعد ذلك- سبحانه- إلى {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (2) هذا جزاء التائبين الذين أقلعوا ولم يصروا لهم الجنة، فأنت إن شاء الله منهم إذا صدقت في التوبة، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 135
(2) سورة آل عمران الآية 136(28/449)
132 - مسألة في شروط التوبة
س: إنني كنت جاهليا وقد من الله علي بالإسلام وكنت قبل ذلك قد ارتكبت بعض المظالم ولا أستطيع ذكرها هاهنا ولقد سمعت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من أي شيء(28/449)
فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم (1) » ، إلى آخر الحديث. ما هي النصيحة التي توجهونها لي سماحة الشيخ حفظكم الله ورعاكم؟ (2)
ج: قد شرع الله لعباده التوبة، قال الله سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) ، وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (4) ، وقال جل وعلا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (5) .
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (6) » .
فمن اقترف شيئا من المعاصي فعليه البدار بالتوبة والندم والإقلاع والحذر والعزم ألا يعود في ذلك والله سبحانه وتعالى
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2449) ، مسند أحمد (2/506) .
(2) من برنامج نور على الدرب، الشريط رقم 83.
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة التحريم الآية 8
(5) سورة طه الآية 82
(6) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، برقم 4250.(28/450)
يتوب على التائب، متى صدق في التوبة بالندم على ما مضى والعزم ألا يعود وأقلع منها تعظيما لله، وخوفا من الله، فإنه يتاب عليه، ويمحو الله عنه ما مضى من الذنوب فضلا منه وإحسانا، سبحانه وتعالى، لكن إن كانت المعصية ظلما للعباد، هذا يحتاج إلى أداء الحق، وعليه التوبة مما وقع بالندم والإقلاع، والعزم أن لا يعود وعليه مع ذلك أداء الحق لمستحقه، أو تحلله من ذلك ككونه يقول: سامحني يا أخي أو اعف عني، أو ما أشبه ذلك أو يعطيه حقه، للحديث الذي ذكره السائل وغيره من الأحاديث والآيات، والرسول يقول: «من كان عنده لأخيه مظلمة فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح- يعني الظالم- أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه (1) » هذا جزاؤه.
فينبغي للمؤمن أن يحرص على البراءة والسلامة من حق أخيه، فإما أن يؤديه أو يتحلله منه وإذا كان عرضا، فلا بد من تحلله إن استطاع فإن لم يستطع أو خاف من مغبة ذلك، وأن
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب القصاص يوم القيامة، برقم 6534.(28/451)
يترتب على إخباره شر أكثر، فإنه يستغفر له ويدعو له، ويذكره بالمحاسن التي يعرفها عنه، بدلا مما ذكره من السوء، يعني يغسل السيئات الأولى بالحسنات الأخيرة، فيذكره بالخير الذي يعلمه عنه لا يكذب وينشر محاسنه، ضد السيئات التي نشرها سابقا ويستغفر له ويدعو له، وبهذا ينتهي من المشكلة.
انتهى الجزء الثامن والعشرون
ويليه بمشيئة الله تعالى الجزء التاسع والعشرون
وأوله كتاب ملحقات الطهارة(28/452)
بسم الله الرحمن الرحيم(29/3)
صفحة فارغة(29/4)
كتاب ملحقات الطهارة(29/5)
صفحة فارغة(29/6)
باب المياه
1 - حكم الماء إذا تغير بما ليس بنجس
س: إذا تغير الماء بما يؤثر في طعمه أو لونه أو ريحه من غير النجاسات كالبوية ونحوها فما الحكم؟ (1)
ج: إذا تغير الماء بالنجاسات صار نجسا بالإجماع، أما إذا تغير بأشياء أخرى من الطاهرات كالبوية وأثر الدباغ في القرب ونحوها وما يقع في المياه من الحشائش والأتربة ونحو ذلك، فإنه لا ينجس بذلك، ولا يكون مسلوب الطهورية، بل هو باق على حاله طاهر مطهر ما دام اسم الماء ثابتا له؛ لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (2) ، وقوله سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (3) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ص 118.
(2) سورة النساء الآية 43
(3) سورة الفرقان الآية 48(29/7)
الماء طهور لا ينجسه شيء (1) » ، أما إذا خرج عن اسم الماء فصار لبنا أو مرقا أو بوية أو ما أشبه ذلك فإنه والحالة هذه تزول عنه أحكام الماء المطلق، ولا يجوز التطهر به؛ لأنه لا يدخل في اسم الماء الوارد في النصوص المتقدمة وغيرها، هكذا ذكر أهل العلم والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء أن الماء لا ينحسه شيء برقم 66، والنسائي في كتاب المياه، باب ذكر بئر بضاعة برقم 326، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب ما جاء في بئر بضاعة رقم 67، والإمام أحمد في باقي مسند المكثرين، مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه برقم 11406.(29/8)
باب الآنية
2 - حكم استعمال آنية الذهب والفضة
س: هذه رسالة وردتنا من ع. ف. ع. من الرياض يقول: انتشر في هذه الأيام استعمال آنية الذهب والفضة، وخاصة بين الموسرين من الناس، بل وصل الأمر عند بعضهم إلى أن يشتري أطقما من المواد الصحية كخلاطات الحمامات أو المسابح أو مواسير المياه أو مساكاتها كلها من الذهب الخالص، ولا يزكون هذا الذهب، ولا ينظرون إلى قيمته، والمعلوم أن هذا ممنوع، ما رأي سماحتكم في ذلك؟ وهل يمكن التوجيه بمنع بيع مثل هذه الأجهزة للمسلمين الذين يجهلون حكمها، بارك الله فيكم. (1)
ج: الأواني من الذهب والفضة محرمة بالنص والإجماع، وقد ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه
__________
(1) من أسئلة نور على الدرب.(29/9)
قال: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة (1) » متفق على صحته من حديث حذيفة رضي الله عنه، وثبت أيضا عنه صلى الله عليه وسلم: «الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم (2) » متفق على صحته من حديث أم سلمة رضي الله عنها، وهذا لفظ مسلم، فالذهب والفضة لا يجوز اتخاذهما أواني، ولا الأكل ولا الشرب فيها، وهكذا الوضوء والغسل، هذا كله محرم بنص الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والواجب منع بيعها حتى لا يستعملها المسلم، وقد حرم الله عليه استعمالها، فلا تستعمل في الشراب ولا في الأكل ولا في غيرهما، ولا يجوز أن يتخذ منها ملاعق ولا أكواب للقهوة أو الشاي، كل هذا ممنوع؛ لأنها نوع من الأواني، فالواجب على المسلم الحذر مما حرم الله عليه، وأن يبتعد عن الإسراف والتبذير والتلاعب بالأموال، وإذا
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة، باب الأكل في إناء مفضض برقم 5426، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال برقم 2067.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأشربة، باب آنية الفضة برقم 5634، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب برقم 2065.(29/10)
كان عنده سعة من الأموال فعنده الفقراء يتصدق عليهم، عنده المجاهدون في سبيل الله يعطيهم في سبيل الله، يتصدق، لا يلعب بالمال، المال له حاجة وله من هو محتاج، فالواجب على المؤمن أن يصرف المال في جهته الخيرية كمواساة الفقراء والمحاويج، وفي تعمير المساجد والمدارس، وفي إصلاح الطرقات، وفي إصلاح القناطر، وفي مساعدة المجاهدين والمهاجرين الفقراء، وفي غير ذلك من وجوه الخير كقضاء دين المدينين العاجزين، وتزويج من لا يستطيع الزواج، كل هذه طرق خيرية يشرع الإنفاق فيها، أما التلاعب بها في أواني الذهب والفضة أو ملاعق أو أكواب منها أو مواسير وأشباه ذلك، كل هذا منكر يجب تركه والحذر منه، ويجب على من له شأن في البلاد التي فيها هذا العمل من العلماء والأمراء إنكار ذلك، وأن يحولوا بين المسرفين وبين هذا التلاعب، والله المستعان.(29/11)
3 - حكم استعمال الذهب والفضة في الأبواب والجدران
س: أرى الآن في بعض المنازل من يبنيها بأغلى الأثمان مثل أبواب المنزل (يد الباب من الذهب، بعض نقش اللحام(29/11)
من الذهب عيار 18، وبعض النجف الغالي بحوالي مليون ريال) ، هل هذا حرام مع أنه من ماله وهو مقتدر على ذلك؟ (1)
ج: المشروع لكل مسلم هو التوسط في الأمور في البناء والتعمير والفرش وغير ذلك؛ لقول الله سبحانه: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (2) ، وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (3) ، والأدلة في هذا المعنى كثيرة.
ولا يجوز استعمال الذهب والفضة في البناء والأبواب ونحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، وقال: «إنها للكفار في الدنيا، ولكم - يعني المسلمين - في الآخرة (4) » ، وفي الحديث تنبيه على منع استعمالها في الأبواب والجدران والسقف والفرش ونحو ذلك، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1662 في 18 جمادى الآخرة 1419 هـ.
(2) سورة الإسراء الآية 29
(3) سورة الفرقان الآية 67
(4) صحيح البخاري اللباس (5837) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2067) ، سنن الترمذي الأشربة (1878) ، سنن النسائي الزينة (5301) ، سنن أبي داود الأشربة (3723) ، سنن ابن ماجه اللباس (3590) ، مسند أحمد (5/408) ، سنن الدارمي الأشربة (2130) .(29/12)
باب الاستنجاء
4 - حكم من صلى وبه سلس بول ولم يستنج
سماحة الشيخ الفاضل عبد العزيز بن باز حفظه الله السلام عليكم ورحمة الله.
س: أنا شيخ كبير مصاب بسلس البول وأرتدي حفاظة، وإذا كنت في غير بيتي كنت عند ناس لا أستطيع تغييرها إذا امتلأت بالبول، وقد توضأت للمغرب وصليت والحفاظة لم تتغير، فما الحكم؟ أفادكم الله.
ج: وعليكم السلام، بعده:
عليك أن تعيد الصلاة المذكورة لعدم استنجائك من البول بعد دخول الوقت، وعدم تغيير الحفاظة أو غسلها.(29/13)
5 - حكم الاكتفاء في الاستجمار بالمناديل ونحوها
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخت في الله خ. ع. ق. مستشفى التأهيل بالطائف وفقها الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد (1) :
فقد وصلني كتابك المتضمن للأسئلة الثمانية، وهذا نص الثالث منها وجوابه فيما يلي:
ج: وعن الثالث وهو: عجزك عن الاستنجاء بالماء من أجل المرض، والجواب: يكفيك التنظف بالاستجمار بالمناديل الطاهرة وشبهها كالحجر واللبن ثلاث مرات أو أكثر حتى يزول الأذى من القبل والدبر، ولا يكفي أقل من ثلاث مرات، فإن لم تكف وجبت الزيادة عن الثلاث حتى ينقى الدبر والقبل من الأذى، ويكفي ذلك عن الماء، شفاك الله والمسلمين من كل سوء.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة من الأخت خ. ع. ق. وأجاب عنه سماحة الشيخ برقم 4\ 1، وتاريخ 4\ 1\ 1410 هـ.(29/14)
6 - حكم الاستجمار مع وجود الماء
س: إذا استجمر الإنسان ثم وجد ماء هل يكمل بقية الأعضاء بالماء أم يعيد الاستنجاء بالماء؟ جزاكم الله خيرا. (1)
ج: يكفيه الاستجمار، وتحصل به الطهارة إذا استجمر ثلاثا أو أكثر وأنقى المحل، كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو مع وجود الماء، وعليه أن يتوضأ بالماء، وفق الله الجميع.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1578، 21 رمضان 1417 هـ.(29/15)
7 - حكم مسح أثر الغائط والبول بالورق
س: ما حكم مسح أثر الغائط والبول بالورق؟ هل يكفي عن الماء؟ (1)
ج: نعم يكفي المسح بالورق وغيره من الجامدات الطاهرات كالأحجار والخشب والخرق والتراب وغير ذلك، ما عدا العظام والأرواث إذا أنقى المحل وكرر ذلك ثلاث مرات
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ص 117.(29/15)
فأكثر، ويقوم ذلك مقام الماء لأحاديث كثيرة وردت في ذلك منها: قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنهن تجزي عنه (1) » . رواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال الحافظ الدارقطني: إسناده صحيح، وعن خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه قال: «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة فقال: بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع (2) » رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بعظم أو روث وقال: إنهما لا يطهران (3) » أخرجه الدارقطني وقال: إسناده صحيح، وأخرج مسلم في صحيحه عن سلمان الفارسي رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الطهارة، باب الاجتزاء في الاستطابة بالحجارة دون غيرها برقم 44، والإمام أحمد في باقي مسند الأنصار، حديث عائشة رضي الله عنها برقم 24491
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسند الأنصار رضي الله عنهم، حديث خزيمة بن ثابت رضي الله عنه 21349، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالحجارة برقم 41، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروث والرمة برقم 315.
(3) أخرجه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب الاستنجاء برقم 9.(29/16)
وسلم نهى أن يستنجى بأقل من ثلاثة أحجار، ونهى أن يستنجى برجيع أو عظم (1) » ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وفيما ذكرناه منها كفاية إن شاء الله.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب الاستطابة برقم 262.(29/17)
8 - حكم صلاة من كان متهاونا بالطهارة
س: أنا رجل كنت أتهاون بالتنزه من البول، وكنت أصلي بشكل عادي، والآن أريد أن أتوب، فهل يجب علي أن أعيد جميع الصلوات التي صليتها من غير طهارة؟ مع العلم أنها لمدة سنة تقريبا. (1)
ج: عليك التوبة، ويكفي التوبة إلى الله، والندم على ما مضى، والإقلاع والحرص على الطهارة مستقبلا، والتوبة إلى الله مما سلف، وليس عليك إعادة، فالتوبة تجب ما قبلها، نسأل الله العافية والسلامة.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1415 هـ، الشريط رقم 49\ 3.(29/17)
9 - حكم الاستنجاء من الريح
س: ما حكم الاستنجاء من الريح ونحوها من نواقض الوضوء غير البول والغائط؟ وإذا كان الناقض البول فقط فهل يجب عليه غسل الدبر تبعا للقضيب؟ (1)
ج: قد دلت الأدلة الشرعية على أن الاستنجاء إنما يكون من البول والغائط خاصة، فأما ما يخرج من الدبر من الريح، وهكذا النوم ومس الذكر وأكل لحم الإبل، فهذه وأشباهها من النواقض لا يجب فيها استنجاء، بل يكفي فيها الوضوء الشرعي الذي دل عليه قوله سبحانه في سورة المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (2) الآية.
هذه المسألة ليس فيها خلاف بحمد الله بين أهل العلم، قال موفق الدين محمد بن عبد الله بن قدامة رحمه الله في كتابه المغني: (لا نعلم خلافا بين أهل
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ص 122.
(2) سورة المائدة الآية 6(29/18)
العلم في أنه لا يجب الاستنجاء من النوم والريح) . انتهى، والحجة في ذلك الآية السابقة، وما ثبت في الأحاديث الصحيحة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يذكر فيها أنه استنجى من النوم أو الريح ونحوهما، وإنما ثبت استنجاؤه من البول والغائط، وإذا كان الناقض البول فقط وجب غسل ما أصاب القضيب من البول، أما الدبر فلا حاجة إلى غسله إذا لم يخرج منه شيء من الغائط عند البول، وهكذا الخصيتان لا يجب غسلهما إذا لم يصبهما شيء من البول؛ لأن المقصود من الاستنجاء هو التطهير من النجاسة، فالمحل الذي لم تصبه النجاسة لا يجب غسله، لكن إذا كان الناقض هو المذي وهو ما يخرج عند أثر الشهوة عند انتشار القضيب بسبب نظر إلى النساء أو تفكر أو ملامسة، فإن هذا المذي يوجب غسل الذكر والأنثيين لأحاديث وردت في ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والمذي غير المني، أما المني فهو أصل الإنسان، وهو الذي يخرج بدفق وشهوة عند وجود أسباب ذلك، فهذا يوجب الغسل كما هو معلوم من الأدلة الشرعية.(29/19)
10 - حكم نتر الذكر عند البول
عن عيسى بن يزداد عن أبيه رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات (1) » رواه ابن ماجه بسند ضعيف، قاله الحافظ في البلوغ (2) .
قلت: وأخرجه أحمد وهو ضعيف كما قال الحافظ؛ لأن عيسى وأباه مجهولان، قاله ابن معين، وجزم بذلك الحافظ في التقريب؛ ومما يدل على ضعفه أن هذا العمل يسبب الوسوسة والإصابة بالسلس، فالواجب ترك ذلك.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الاستبراء بعد البول رقم 326.
(2) صدرت من سماحته في تاريخ 2\ 7\ 1413 هـ.(29/20)
11 - حكم من شك في خروج المذي بعد الوضوء
س: أثناء خروجه من البيت لصلاة الفجر أحس بخروج المذي أثناء المشي دائما، وبعض الأيام بعد خروجي(29/20)
من المسجد إذا لمست القضيب وجدت به مذيا قد خرج بالرغم من المبالغة في الوضوء، وهذا أيضا يقلقني دائما، فأرجو إفتائي في ذلك (1)
ج: إن كان خروج المذي عارضا فينبغي علاجه بأن تستنجي منه عند الاستنجاء، وترش ما حول الفرج عند الوضوء، تحمل ما قد يقع في نفسك على هذا حتى تجزم يقينا بما خرج من شيء، وما دام عندك أدنى شك أعرض عن هذا، ولا تلمس السراويل، ولا تنظر في شيء، أما إذا كان هذا دائما مستمرا هذه الرطوبة فهذا من جنس السلس، عليك أن تتوضأ إذا دخل الوقت وتصلي بحسب حالك إذا كان المذي مستمرا، أما إذا كان يعرض عند الخروج من البيت بعض الأحيان فهذا مثل البول أو الريح، إن خرج شيء انتقض الوضوء، وإن لم يخرج شيء فالحمد لله، وما دام عندك شك ولو قليلا ولو واحد في المائة لا تلتفت إلى هذا الشيء، واحمله على الوهم وأنه ليس بصحيح.
__________
(1) من فتاوى الحج، الشريط الرابع.(29/21)
12 - حكم غسل رشاش البول
س: ما حكم رشاش البول الذي يقع على الثياب نتيجة اصطدام الماء الخارج بجسم صلب؟ هل يلزم الغسل أم يكفي النضح؟
ج: لا بد من الغسل، ما يصيب الثياب أو الرجل من البول لا بد فيه من الغسل، ولا يكفي النضح؛ لأنه نجاسة مغلظة، الذي ينضح المذي خاصة، وبول الصبي الذي لم يأكل الطعام ينضح، أما البول للصبي الذي يأكل الطعام فيغسل.(29/22)
س: سماحة الشيخ: عند ذهابي إلى المسجد أو أثناء الصلاة تنزل بعض قطرات البول، فما حكم صلاتي؟ علما أنه أخبرني بعض الشباب أن أزيل البقعة بالماء فقط، وهل أعيد الوضوء بعد إزالة البقع؟ وفقكم الله.(29/22)
ج: عليك أن تعيد الوضوء والاستنجاء، وتغسل ما أصابك من البول إذا كان البول ليس بمستمر معك، أما إذا كان مستمرا فأنت صاحب سلس، توضأ لكل صلاة بعد دخول الوقت، ولا يضرك ما خرج وقت الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «توضئي لوقت كل صلاة (1) » (2) .
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب غسل الدم برقم 228.(29/23)
باب سنن الوضوء وسنن الفطرة(29/24)
13 - حكم التسمية عند الوضوء
س: الرسالة من المستمع س. ع. أ. يسأل ما حكم التسمية قبل الوضوء؟ وإذا لم يسم الإنسان فما حكم وضوئه؟ جزاكم الله خيرا. (1)
ج: بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فالتسمية عند الوضوء سنة عند الجمهور (جمهور العلماء) ، وذهب بعض أهل العلم إلى وجوبها مع الذكر، فينبغي للمؤمن أن لا يدعها، فإن نسي أو جهل فلا شيء عليه، ووضوؤه صحيح.
أما إن تعمد تركها وهو يعلم الحكم الشرعي فينبغي له أن يعيد الوضوء احتياطا وخروجا من الخلاف؛ لأنه جاء عنه صلى الله
__________
(1) سؤال أجاب عنه سماحته في تاريخ 22\ 2\ 1413 هـ.(29/25)
عليه وسلم أنه قال: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه (1) » ، وهذا الحديث جاء من طرق، وقد حكم جماعة من العلماء أنه غير ثابت وأنه ضعيف، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: إنه حسن بسبب كثرة الطرق، فيكون من باب الحسن لغيره، فينبغي للمؤمن أن يجتهد في التسمية عند أول الوضوء وهكذا المؤمنة، فإن نسيا ذلك أو جهلا ذلك فلا حرج.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التسمية عند الوضوء برقم 25، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب التسمية على الوضوء برقم 101.(29/26)
14 - فضل السواك
س: ما معنى حديث: «ركعتان بسواك خير من سبعين ركعة بدون سواك» ؟ (1)
ج: السواك سنة وطاعة عند الصلاة أو عند الوضوء لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب (2) » خرجه النسائي بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله
__________
(1) سؤال من برنامج نور على الدرب.
(2) أخرجه النسائي في كتاب الطهارة، باب الترغيب في السواك برقم 5.(29/26)
عنها، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة (1) » متفق على صحته، وفي لفظ: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء (2) » خرجه الإمام النسائي بإسناد صحيح، أما حديث: «صلاة بسواك خير من صلاة بلا سواك» فهو حديث ضعيف ليس بصحيح، وفي الأحاديث الصحيحة ما يغني عنه والحمد لله.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة برقم 887، ومسلم في كتاب الطهارة، باب السواك برقم 252.
(2) أخرجه النسائي في السنن الكبرى، ج 2 برقم 30430.(29/27)
15 - حكم التلفظ
بالشهادة أثناء الوضوء داخل الحمام
س: ما حكم النطق بالشهادة أثناء الوضوء في داخل دورة المياه؟ (1)
ج: السنة إذا فرغ من الوضوء أن يتشهد خارج الحمام؛ لأنه ليس هناك ضرورة أن يتشهد داخل الحمام، بل إذا فرغ
__________
(1) من نور على الدرب، الشريط الخامس عشر.(29/27)
يخرج ثم يقول: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين (1) » ، ويكره أن يقول هذا في الداخل.
أما عند بدء الوضوء فيسمي ولو في الداخل، فيقول: بسم الله ثم يتوضأ؛ لأنه محتاج إلى التسمية، وقد أوجبها جمع من أهل العلم مع الذكر، فلا يدعها، والكراهة تزول عند الحاجة، أما الشهادة فليس هناك حاجة أن يأتي بها وهو في الحمام، بل يخرج ثم يأتي بالشهادة بعد ذلك.
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (55) .(29/28)
16 - حكم السلام ورده في المواضئ
س: الأخ ص. ع. أ. من الرياض يقول في سؤاله: إذا دخلت على أناس يتوضئون في المواضئ التابعة للمسجد والمجاورة للحمامات فهل أسلم عليهم ويردون علي السلام أم لا؟ أفتونا جزاكم الله خيرا. (1)
ج: يشرع لك السلام عليهم، ويجب عليهم رد السلام
__________
(1) سؤال موجه من المجلة العربية، وأجاب عنه سماحته بتاريخ 23\ 1 \ 1419 هـ.(29/28)
إذا كانت المواضئ خارج الحمام كما ذكرت في السؤال لعموم الأدلة من الكتاب والسنة، والله ولي التوفيق.(29/29)
17 - حكم التسمية والوضوء داخل الحمام
س: سائل يسأل عن ذكر الله والإنسان يتوضأ داخل الحمام كيف يكون؟
ج: السنة الإنصات وعدم الذكر، يكره الذكر في الحمام - محل قضاء الحاجة -، لكن إذا أراد الوضوء فإنه يسمي عند أول الوضوء؛ لأن التسمية واجبة عند جمع من أهل العلم، فلا يتركها من أجل الكراهة، فالواجب يقدم وتزول الكراهة، فيسمي عند بدء الوضوء عند غسل اليدين قبل أن يتمضمض ويستنشق، أو عند المضمضة والاستنشاق، المقصود يسمي في أول الوضوء ولو أنه في الحمام إذا دعت الحاجة للوضوء في الحمام؛ لأن التسمية واجبة عند جمع من أهل العلم، سنة مؤكدة عند الأكثر، فلا ينبغي له تركها.(29/29)
س: إذا أراد الإنسان الوضوء في حمام وهو مخصص(29/29)
لقضاء الحاجة فهل يذكر اسم الله في هذا المكان؟ (1)
ج: إذا دعت الحاجة إلى الوضوء في الحمامات فلا بأس؛ لأن التسمية واجبة عند جمع من أهل العلم، فلا يترك الواجب لشيء مكروه، فإذا فعل الواجب زالت الكراهية، فإذا لم يتيسر له الوضوء خارج الحمام سمى باسم الله وبدأ الوضوء ولا حرج، وإن تيسر له الوضوء خارج الحمام خرج وتوضأ خارجه، أما الشهادة فالأولى أن يؤخرها عن الوضوء حتى يخرج ويتشهد خارج الحمام وهي: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين (2) » ، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء (3) » أخرجه مسلم في صحيحه، وهذا لفظه، وزاد الترمذي بإسناد حسن: «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين (4) » (5) .
__________
(1) نشر في مجلة البحوث الإسلامية، العدد 46 عام 1416 هـ ص 196.
(2) سنن الترمذي الطهارة (55) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء برقم 234.
(4) سنن الترمذي الطهارة (55) .
(5) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب فيما يقال بعد الوضوء برقم 55.(29/30)
س: ما حكم الوضوء في الحمام؟
ج: لا حرج، (صحيح) إذا توضأ في الحمام فلا بأس، لكن إذا فرغ يخرج من الحمام ويتشهد وهو خارج الحمام، ويسمي عند الوضوء، لا بأس أن يسمي عند بدء الوضوء؛ لأن التسمية أوجبها بعض أهل العلم مع الذكر، فهي متأكدة، يسمي عند الوضوء وتزول الكراهية لأجل شدة التأكيد في التسمية، وإذا خرج وبرز من الحمام يتشهد بعد الوضوء يقول: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين (1) » بعدما يخرج من الحمام.
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (55) .(29/31)
18 - حكم قراءة القرآن في الحمام
س: ما حكم قراءة القرآن في الحمام؟ (1)
ج: لا يجوز قراءة القرآن في الحمام؛ لأنه محل قضاء الحاجة، أما محلات الوضوء أي: محلات التمسح فلا يضر قراءة القرآن، لكن في محل قضاء الحاجة - وهو الحش - لا يجوز.
__________
(1) من الأسئلة الموجهة لسماحته في حج عام 1407 هـ، الشريط رقم 4.(29/31)
19 - وجوب إعفاء اللحية
وتحريم حلقها أو قصها
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد (1) :
فقد نشرت صحيفة (المدينة) في عددها الصادر في 24\ 1\ 1415 هـ مقالا للشيخ محمد بن علي الصابوني - عفا الله عنا وعنه - يتضمن ما نصه:
ومما يتعلق بالصورة والمظهر أن يهذب المسلم شعره، ويقص أظافره، ويتعاهد لحيته، فلا يتركها شعثة مبعثرة دون تشذيب أو تهذيب، ولا يتركها تطول بحيث تخيف الأطفال، وتفزع الرجال، فكل شيء زاد عن حده انقلب إلى ضده، فمن الشباب من يظن أن أخذ أي شيء من اللحية حرام، فنراه يطلق لها العنان حتى تكاد تصل إلى سرته، ويصبح في مظهره كأصحاب الكهف: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} (2) . . . إلخ ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) نشرت في ج 8 من هذا المجموع ص 368.
(2) سورة الكهف الآية 18(29/32)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما.
ولما كان في هذا الكلام مخالفة للسنة الصحيحة وإباحة لتشذيب اللحية وتقصيرها، رأيت أن من الواجب التنبيه على ما تضمنه كلامه - وفقه الله - من الخطأ العظيم والمخالفة الصريحة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما أنه قال: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى (1) » ، وفي لفظ: «قصوا الشوارب ووفروا اللحى، خالفوا المشركين (2) » ، وفي رواية مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس (3) » .
ففي هذه الأحاديث الصحيحة الأمر الصريح بإعفاء اللحى وتوفيرها وإرخائها وقص الشوارب مخالفة للمشركين
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين، مسند أبي هريرة برقم 7092.
(2) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب تقليم الأظفار برقم 5892، ومسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة برقم 259.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة برقم 260.(29/33)
والمجوس، والأصل في الأمر: الوجوب، فلا تجوز مخالفته إلا بدليل يدل على عدم الوجوب، وليس هناك دليل على جواز قصها وتشذيبها وعدم إطالتها.
وقد قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) ، وقال سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (2) ، وقال عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) ، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: يا رسول الله ومن يأبى؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى (4) » رواه البخاري في صحيحه، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) سورة النور الآية 54
(3) سورة النور الآية 56
(4) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم 7280.(29/34)
فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم (1) » متفق عليه، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقد احتج الشيخ محمد المذكور على ما ذكره بما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها» ، وهذا الحديث ضعيف الإسناد لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو صح لكان حجة كافية في الموضوع، ولكنه غير صحيح لأن في إسناده عمر بن هارون البلخي، وهو متروك الحديث.
واحتج أيضا الشيخ على ما ذكره بفعل ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأخذ من لحيته في الحج ما زاد على القبضة، وهذا لا حجة فيه؛ لأنه اجتهاد من ابن عمر رضي الله عنهما، والحجة في روايته لا في اجتهاده، وقد صرح العلماء رحمهم الله: أن رواية الراوي من الصحابة ومن بعدهم الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي الحجة، وهي مقدمة على رأيه إذا خالف السنة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم 7288، ومسلم في كتاب الفضائل، باب توتيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله برقم 1337.(29/35)
فأرجو من صاحب المقال الشيخ محمد أن يتقي الله سبحانه، وأن يتوب إليه مما كتب، وأن يصرح بذلك في الصحيفة التي نشر فيها الخطأ، ومعلوم عند أهل العلم أن الرجوع إلى الحق شرف لصاحبه، وواجب عليه، وخير له من التمادي في الخطأ.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياه وجميع المسلمين للفقه في الدين، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(29/36)
20 - إعفاء اللحية اقتداء برسول الله وامتثال لأمره
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم رئيس تحرير جريدة عكاظ حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد (1) :
فقد نشر في العدد الصادر بتاريخ 18 شعبان سنة 1393 هـ من جريدتكم في صفحة (مجتمعنا) كلمة قصيرة بعنوان (الإهمال تدمير للحياة الزوجية) ، وقد جاء فيها: (وبالمثل قد يصيب الإهمال الرجل الزوج، فلا يحلق ذقنه يوم العطلة فيبدو رثا مهلهلا مكتئبا) ، وبما أن هذا قول منكر ودعوة إلى مخالفة السنة النبوية تنشر علنا في صحيفتكم، رأيت أن من الواجب الكتابة لكم نصحا لكم وللمسلمين وحذرا من العقوبة، ومعلوم لكل عاقل أن خير القرون قرن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في ذلك القرن من يحلق ذقنه من الصحابة الكرام رضي الله عنهم اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وامتثالا لأمره، حيث قال: «جزوا الشوارب
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته بتاريخ 7\ 1 \ 1394 هـ.(29/37)
وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس (1) » ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «قصوا الشوارب واعفوا اللحى، خالفوا المشركين (2) » ، وحذرا من الوقوع في مخالفته صلى الله عليه وسلم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولكنه التقليد الأعمى لأعداء الله والزهد في تعاليم الشريعة السمحة، جعل الكثير من الناس يقع في استبدال الذي هو شر بالذي هو خير، ولم يقتصر ذلك على وقوعه في المحذور بمفرده، بل تعدى ذلك إلى نشر الدعوة إليه كما جاء في جريدتكم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (3) » .
فالواجب عليكم الحذر من نشر كل ما لا تقره الشريعة، والحرص على نشر هديها وتعاليمها، وأن تكون جريدتكم مفتاح هدى ودليل رشد، ولم أعلم بما ذكر إلا في 5\ 1\ 1394 هـ، ولهذا تأخر التنبيه.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة برقم 260.
(2) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين، مسند أبي هريرة برقم 7092.
(3) أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة برقم 2674.(29/38)
وفقنا الله وإياكم لما يرضيه، وهدانا جميعا صراطه المستقيم، وأعاذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رئيس الجامعة الإسلامية(29/39)
21 - حكم أخذ شعر الخدين وأعلى الحاجب للرجل
س: يقول السائل: هل أخذ الشعر من الوجه مثل أخذ شعر الخد وأعلى الحاجب للرجل فيه إثم؟ وجهونا جزاكم الله خيرا. (1)
ج: الخدان من اللحية لا يأخذهما، والحاجب لا يجوز أخذه لا من الرجال ولا النساء، والرسول صلى الله عليه وسلم لعن النامصة والمتنمصة، والنمص أخذ شعر الحاجبين، فلا يجوز أخذ شعر الحاجبين لا من الرجل ولا من المرأة، وهكذا شعر الخدين، فالخدان تبع اللحية؛ لأن اللحية الشعر النابت على الخدين والذقن، والمرأة لا تأخذ الشعر الذي في وجهها إذا كان
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.(29/39)
عاديا ليس به تشويه، أما إذا كان فيه تشويه كاللحية لها أو الشارب أو شعر يشوهها فلا مانع من إزالته، وليس من النمص.(29/40)
22 - حدود اللحية
س: هل الشعر في الحلق من اللحية؟
ج: اللحية مثل ما قال صاحب القاموس وصاحب اللسان وغيرهما: ما نبت على الخدين والذقن.(29/40)
23 - حكم قص وتقصير اللحية
س: إذا قص أحدهم من اللحية فما الحكم؟
ج: لا يجوز، تنصحه تقول له: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قصوا الشوارب واعفوا اللحى، قصوا الشوارب ووفروا اللحى، خالفوا المشركين (1) » ، «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس (2) » ، تنصحه تبين له، بعض الناس يذكر حديثا للنبي
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة برقم 260.(29/40)
صلى الله عليه وسلم: «كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها (1) » ، وهذا حديث لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الأدب، باب ما جاء في الأخذ من اللحية برقم 2762.(29/41)
24 - بيان أن شعر العارضين من اللحية
س: ما حكم حلق اللحية وحكم حلق العارضين وترك اللحية والشارب؟
ج: حلق اللحية لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى، خالفوا المشركين (1) » أخرجه مسلم في صحيحه.
واللحية هي ما نبت على الخدين والذقن كما أوضح ذلك صاحب القاموس، فالواجب ترك الشعر النابت على الخدين والذقن وعدم حلقه أو قصه، أصلح الله حال المسلمين جميعا.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين، مسند أبي هريرة برقم 7092.(29/41)
25 - حكم صبغ اللحية باللون الأسود
س: ما حكم صبغ اللحية باللون الأسود؟ وما حكم من يفعل ذلك؟
ج: لا يجوز صبغ الشيب - سواء كان في الرأس أو اللحية - بالصبغ الأسود؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة النهي عن ذلك، ويشرع تغييره بغير الأسود كالأحمر والأصفر، وكالحناء والكتم مخلوطين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «غيروا هذا الشيب، وجنبوه السواد (1) » . (2) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم (3) » متفق على صحته من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة وتحريمه برقم 2102
(2) رواه مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي وابن ماجه
(3) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب الخضاب برقم 5899، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب في مخالفة اليهود في الصبغ برقم 2103.(29/42)
26 - مسألة في تحريم حلق اللحية
س: أضطر إلى حلق اللحية بعد الحج وقبل سفري إلى مصر حتى أستمر في العمل، فما الحكم في ذلك؟ وبماذا تنصحني؟ جزاكم الله خيرا. (1)
ج: ليس لك حلق اللحية، الواجب عليك إعفاؤها وتوفيرها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «قصوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المشركين (2) » ، لا تحلقها من أجل قول فلان بأنك لن تتوظف حتى تحلقها، الرزق عند الله {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (4) ، لا تحلقها وستجد عملا عند غيرهم، اتق الله يجعل لك مخرجا.
__________
(1) من أسئلة حج 1418 هـ.
(2) سبق تخريجه.
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 3(29/43)
27 - حكم حلق اللحية
س: هل يجوز حلق العارضين؟ وما حكم قص اللحية؟ وهل حكم قصها كحكم حلقها؟
ج: اللحية كرامة من الله للرجل، وجعلها الله ميزة له عن النساء، وجعلها ميزة له عن الكفرة والعصاة الذين يحلقون لحاهم، فهي زينة للرجال، وهي نور في الوجه، وهي ميزة له عن النساء، فلا يجوز له أن يتعرضها بحلق ولا قص، فلا يحلقها ولا يقصها ولا يحلق العارضين مع الخدين؛ لأن اللحية تشمل الشعر الذي ينبت على اللحيين والذقن، فما نبت على الخدين والذقن فهو اللحية، وهكذا الذي تحت الشفة السفلى داخل في اللحية، فلا يجوز له قصها ولا حلقها، بل يجب إكرامها وإعفاؤها وتوفرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعفاء اللحى وقص الشوارب، وقال: «خالفوا المشركين، قصوا الشوارب وأعفوا اللحى (1) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «جزوا الشوارب
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين، مسند أبي هريرة برقم 7092.(29/44)
وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس (1) » ، وفي لفظ: «وفروا اللحى (2) » ، و «أوفوا اللحى (3) » ، فعلى المسلم أن يوفرها ويعفيها، ويحرم عليه قصها أو حلقها، هذا هو الواجب على المسلم، فلا ينبغي أن يرضى بأن يشابه أخته وبنته وعمته وأمه، أو الكفرة أو العصاة، بل ينبغي له أن يخدمها ويوفرها حتى يبقي على سمة الرجال ووجوه الرجال، وحتى يتباعد عن مشابهة المجوس والمشركين الذين يحلقونها ويطيلون السبالات، وهي الشوارب، فالشارب يقص ويحفى، واللحية تعفى وترخى، هذا هو المشروع، وهذا هو الواجب، والله المستعان.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة برقم 260.
(2) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب تقليم الأظفار برقم 5892، ومسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة برقم 259.
(3) سبق تخريجه.(29/45)
28 - حكم تقصير المرأة شعرها
س: هل يجوز للمرأة أن تقصر شعرها؟ وما هو الدليل؟ (1)
ج: إذا كان فيه طول فلا بأس أن تأخذ من أطرافه؛ لأن
__________
(1) من أسئلة حج 1418 هـ.(29/45)
أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم أخذن من طوله لأجل الكلفة، وإذا لم يكن فيه طول تركه أولى لأن هذا جمال لها.(29/46)
29 - حكم وصل الشعر
س: إذا تساقط شعر امرأة بفعل علاجها من بعض الأمراض الخبيثة هل يجوز لها استخدام الشعر المستعار؟ وهل ذلك من قاعدة " الضرورات تبيح المحظورات "؟ جزاكم الله خيرا. (1)
ج: لا يجوز وصل الشعر، ولا لبس الكبة من الشعرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك لما في ذلك من التزوير والكذب، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1688 في 6\1\ 1420 هـ.(29/46)
30 - حكم قص الشعر للمرأة
س: ما حكم قص الشعر للمرأة حيث إن نساء هذا العصر يتجملن بذلك القص، وإن لم يكن متزوجات؟ وهل له(29/46)
حدود؟ وما حكم (الفرقة) المائلة؟ نرجو التفصيل في هذه المسألة لكثرة اللغط فيها؟ (1)
ج: لا يجوز للنساء قص شعرهن؛ لأن الشعر جمال لهن، ولأن قصه مثلة، وقص بعضه قزع، لكن إذا طال جدا وأخذن من أطرافه فلا بأس؛ لما ثبت عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنهن أخذن من أطراف رءوسهن بعد وفاته عليه الصلاة السلام، ولأنه إذا طال كثيرا قد يتعب المرأة ويشق عليها في غسله ومشطه، وأما الفرقة المائلة فلا تجوز؛ لأنه تشبه بالنساء المائلات المميلات، والله الموفق.
__________
(1) أجاب عليه سماحته بتاريخ 22\ 8\ 1419 هـ.(29/47)
31 - حكم وضع الحناء على اليدين والرجلين للرجل
س: هل هناك دليل يحرم وضع الكحل على العينين والحناء على اليدين والرجلين بالنسبة للرجل؟ علما بأن وضعها ليس القصد منه التشبه بالنساء، إنما هي عادة. (1)
ج: ليس للمؤمن أن يتشبه بالنساء لا في الحناء ولا في غيره،
__________
(1) سؤال من برنامج (نور على الدرب) ، الشريط الرابع عشر.(29/47)
ولو كان عادة فليس له أن يفعل ما يكون فيه متشبها فيه بالنساء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم «لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال (1) » .
أما الكحل فلا بأس؛ لأنه مشروع للرجال والنساء على حد سواء، فكونه يكحل عينيه فلا بأس، والكحل طيب نافع، «وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكتحل (2) » ، فلا بأس بذلك.
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5885) ، سنن الترمذي الأدب (2784) ، سنن أبي داود الأدب (4930) ، سنن ابن ماجه النكاح (1904) ، مسند أحمد (1/365) ، سنن الدارمي الاستئذان (2649) .
(2) سنن الترمذي الطب (2048) ، سنن ابن ماجه الطب (3499) ، مسند أحمد (1/354) .(29/48)
32 - حكم حلق شعر العانة والإبط
س: الأخت التي رمزت لاسمها بـ. ز. ل. ف. من المملكة العربية السعودية تقول في سؤالها: هل إزالة شعر العانة والإبطين مطلوبة شرعا؟ وإذا كان كذلك فما هي الحكمة الإلهية من خلقه؟ وما حكم استعمال بعض الكريمات لإزالته؟
ج: حلق العانة وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الآباط كل ذلك سنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص الشارب وقلم الأظفار ونتف الآباط (1) » متفق على صحته، وقال أنس بن مالك رضي
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب قص الشارب برقم 5889، ومسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة برقم 257.(29/48)
الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وقت لنا في قص الشارب وقلم الظفر ونتف الإبط وحلق العانة ألا نترك ذلك أكثر من أربعين ليلة (1) » أخرجه الإمام أحمد في مسنده. والمشروع لكل مسلم ومسلمة المبادرة إلى ما شرعه الله من قول أو عمل سواء عرف الحكمة أم لم يعرفها، لأن الله سبحانه حكيم عليم لا يأمر بشيء ولا ينهى عن شيء إلا لحكمة بالغة، أما عن استعمال بعض الكريمات لإزالة الشعر فلا حرج في ذلك، لكن الحلق للعانة والنتف للإبط أفضل إذا تيسر، فإن لم يتيسر ذلك فلا حرج في إزالة شعرهما بأي نوع يزيل ذلك من الأشياء المباحة، والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة برقم 258.(29/49)
33 - حكم إطالة الأظافر
س: هل إطالة الأظافر محرمة؟ وما حكم الصلاة بهذه الحالة؟ (1)
ج: الأظافر يجوز بقاؤها مدة أربعين يوما، وهكذا الشارب والإبط، وهكذا العانة؛ لما ثبت في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: «وقت لنا في قص الشارب وقلم الظفر ونتف الإبط وحلق العانة، ألا يدع ذلك أكثر من أربعين ليلة (2) » ، وفي لفظ: «وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) » ، فإذا بلغ ذلك أربعين يوما وجب عليه قص الشارب وقلم الظفر ونتف الإبط وحلق العانة للحديث المذكور.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط الأول.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة برقم 258.
(3) أخرجه الإمام أحمد في المسند، باقي مسند المكثرين مسند أنس بن مالك رضي الله عنه برقم 11823.(29/50)
34 - الختان من آكد سنن الفطرة
س: كيف يكون ختان الأولاد؟ نرجو توجيه الناس في هذا الموضوع. (1)
ج: الختان سنة مؤكدة، وذهب بعض أهل العلم إلى وجوبه، كما قال ابن عباس وجماعة من أهل العلم: واجب في حق الرجال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الفطرة خمس - يعني السنة خمس -: الختان والاستحداد وقلم الأظافر وقص الشارب ونتف الإبط (2) » .
والختان من آكد السنن، وهو قطع القلفة التي على رأس الذكر حتى تخرج الحشفة التي هي طرف الذكر وتبرز، والقلفة معروفة يعرفها الختانون، تقطع في حال الصغر أفضل؛ لأنها في حال الصغر أسهل، ولا يجوز تأخيرها إلى أن يبلغ، بل يحب المبادرة في ذلك قبل أن يبلغ، وكلما كان في حال الصغر وفي حال الرضاعة، أو في أول الولادة في اليوم السابع أو بعده، كلما كان أبكر كان أسهل.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط الخامس عشر.
(2) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب قص الشارب برقم 5889، ومسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة برقم 257.(29/51)
وهو سنة مؤكدة، وذهب بعض أهل العلم إلى وجوب ذلك في حق الرجال، والختان سنة في حق النساء إذا تيسر من يحسن ذلك من الرجال أو النساء، فيشرع لأهل الإسلام أن يحافظوا على ذلك للحديث المذكور.(29/52)
35 - حكم المضمضة من آثار الطعام قبل الصلاة
س: الأخ ع. ص. ش من القنفذة يقول في سؤاله: يحين وقت صلاة الفريضة وأنا على وضوء، ولكني قد أكلت شيئا وربما بقي من آثاره شيء في أسناني، فهل يجب علي المضمضة لإزالته أم لا؟ أفتوني مأجورين يا سماحة الشيخ. (1)
ج: المضمضة مستحبة من آثار الطعام، ولا يضر بقاء شيء من ذلك في أسنانك بحكم الصلاة، لكن إذا كان المأكول من لحم الإبل فلا بد من الوضوء قبل الصلاة؛ لأن لحم الإبل ينقض الوضوء لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «توضئوا من لحوم
__________
(1) سؤال موجه من المجلة العربية.(29/52)
الإبل (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم لما سأله بعض الصحابة قائلا: «أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم، فقال السائل: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ فقال: إن شئت (2) » أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في سننه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل برقم 497، والإمام أحمد في أول مسند الكوفيين حديث أسيد بن حضير رضي الله عنه برقم 18617.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل برقم 360.(29/53)
36 - حكم من صلى
أكثر من فرض بوضوء واحد
س: هل يجوز أن أصلي صلاتين بوضوء واحد؟ (1)
ج: يجوز، وأكثر من صلاة، وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء واحد عدة صلوات يوم الفتح.
__________
(1) نشر في مجلة البحوث، العدد 46 ص 197.(29/53)
صفحة فارغة(29/54)
باب فرائض الوضوء
37 - كيفية وضوء النبي صلى الله عليه وسلم
س: يعلم سماحتكم أن نية الوضوء للمسلم واجبة، لذلك أريد أن أعرف كيف كان يتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم؟ وماذا يقول بعد الفراغ من الوضوء؟ وهل يقول أثناء الوضوء شيئا؟ (1)
ج: النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ومرة مرتين، وثلاثا ثلاثا، فالوضوء شرط للصلاة، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (2) الآية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول (3) » ، وقال عليه الصلاة والسلام:
__________
(1) من فتاوى الحج، الشريط الرابع.
(2) سورة المائدة الآية 6
(3) أخرجه الإمام مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة برقم 224.(29/55)
«لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ (1) » ، فالوضوء شرط للصلاة لا بد منه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ كالآتي: يغسل يديه ثلاث مرات أول ما يبدأ، ويسمي الله عز وجل، ثم يتمضمض ويستنشق ويستنثر، ثم يغسل وجهه، ثم يغسل ذراعيه مع المرفقين، ثم يمسح رأسه مع الأذنين، ثم يغسل رجليه مع الكعبين.
هذا هو وضوؤه عليه الصلاة والسلام، يغسل كفيه أولا ثلاث مرات، ثم يبدأ فيتمضمض ويستنشق ويستنثر، ثم يغسل وجهه، ثم يغسل ذراعيه مع المرفقين، ثم يمسح رأسه مع الأذنين، ثم يغسل رجليه مع الكعبين، مرة مرة هذا مجزئ، وربما غسل مرتين مرتين، يغسل وجهه مرتين، يتمضمض مرتين، ويستنشق مرتين، ويغسل وجهه مرتين، وذراعيه مرتين، ويمسح رأسه مرة واحدة، الرأس يمسح مرة واحدة دائما، ويغسل رجليه مرتين مع الكعبين، والغالب أنه يغسل ثلاثا ثلاثا، هذا هو الغالب وهو الأفضل، يتمضمض ويستنشق ويستنثر ثلاث مرات بثلاث غرفات، ثم يغسل وجهه ثلاثا، يعني ثلاث مرات، ثم يغسل ذراعيه مع الكعبين ثلاث مرات، كل يد ثلاث مرات، ثم يمسح رأسه مع الأذنين مرة واحدة، ثم يغسل رجليه مع الكعبين ثلاثا ثلاثا.
هذا هو الوضوء الكامل، وهذا هو
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء باب لا تقبل صلاة بغير طهور برقم 135، ومسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة برقم 225.(29/56)
الغالب على فعله عليه الصلاة والسلام، وإن توضأ الإنسان مرة مرة، أو مرتين مرتين، أو ثلاثا ثلاثا، في بعض الأعضاء، أو مرتين في بعض الأعضاء، أو مرة في بعض الأعضاء، أجزأ هذا كله والحمد لله، وإذا فرغ يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، هذا سنة بعد الوضوء، وفي الحديث: «ما من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء (1) » ، وهذا فيه فضل عظيم، أما الدعاء أثناء الوضوء فليس فيه شيء أثناء الوضوء مأثور، بل عليه أن يبدأ بالتسمية ويختم بالشهادة، أما عند غسل الوجه أو اليدين فليس فيه شيء، وكل ما قيل فإنما هي أحاديث موضوعة غير صحيحة.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء برقم 234، وأحمد مسند الشاميين، حديث عقبة بن عامر الحهني عن النبي صلى الله عليه وسلم برقم 16863.(29/57)
38 - الاستنجاء ليس من فرائض الوضوء
س: هل مطلوب من المسلم إذا أراد أداء الصلاة أن يغسل وجهه ويديه، وأن يمسح على رأسه وأذنيه، وأن يغسل الرجلين إلى الكعبين فقط دون أن يقوم بالاستنجاء؟ (1)
ج: الوضوء الشرعي الوارد في القرآن الكريم والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو: أن يتمضمض ويستنشق، ويغسل وجهه ويديه مع المرفقين، ويمسح رأسه وأذنيه، ويغسل رجليه مع الكعبين، هذا هو الوضوء الشرعي المذكور في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (2) الآية (3) .
والمقصود أن الواجب على المؤمن إذا كان على غير طهارة من ريح أو بول أو غير ذلك أن يتوضأ الوضوء الشرعي، وهو المذكور في قوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (4) .
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط الخامس عشر.
(2) سورة المائدة الآية 6
(3) سورة المائدة، الآية 6.
(4) سورة المائدة الآية 6(29/58)
لكن إن كان الحدث بولا أو غائطا فليستنج، أي: يغسل الدبر عن أثر الغائط ويغسل ذكره عن أثر البول، ثم يتوضأ الوضوء الشرعي، يعني يغسل كفيه ثلاث مرات، ويتمضمض ويستنشق، ويغسل وجهه، ويغسل اليدين مع المرفقين، ويمسح رأسه مع الأذنين، ويغسل رجليه مع الكعبين، هذا الوضوء الشرعي والواجب مرة واحدة، فإن كرر ثلاثا فهو أفضل، يغسل وجهه ثلاثا، ويتمضمض ويستنشق ثلاثا، ويغسل يديه ثلاثا مع المرفقين، ويمسح رأسه مرة واحدة وأذنيه، أي: أن المسح يكون مرة واحدة فقط، إذا المرة في الغسل كافية، والمرتان كافيتان، لكن الكمال والأفضل ثلاثا ثلاثا، إلا الرأس فإنه يمسحه واحدة مع الأذنين، وهذا كله بعد الاستنجاء إذا كان هناك بول أو غائط، أما إن كان الحدث ريحا فهذا لا يحتاج إلى استنجاء، بل يبدأ بغسل كفيه ثلاثا، ثم المضمضة والاستنشاق.
وهكذا لو كان الحدث نوما أو مسا للفرج أو أكلا للحم الإبل، كل هذه الأحداث لا تحتاج إلى استنجاء، وإنما يبدأ بالمضمضة والاستنشاق.(29/59)
39 - حكم من صلى
بالناس وهو على غير طهارة
س: إذا صليت خلف إمام وأثناء الصلاة لاحظت أن في إحدى رجليه بقعة لم يغسلها الماء، فنبهته بعد الصلاة فلم يبال، فأعدت الصلاة، فما حكم ما فعلت؟
ج: إذا صلى الإمام بالناس ثم بان أنه محدث، أو أن طهارته غير صحيحة، فصلاة المأمومين صحيحة، وعليه هو الإعادة إذا علم أنه محدث، أو أن طهارته بها خلل يبطلها، عليه أن يعيد، وليس على الجماعة الإعادة، وصلاتهم صحيحة، والواجب عليه أن يعيد.
سؤال من مقدم البرنامج:
وإذا أعاد المأموم اعتقادا منه أن فعله صحيح؟
ج: لا حرج عليه، هذا اجتهاد منه، لكن ينبغي أن يعلم الحكم الشرعي، وأنه لا إعادة عليه، ومن أعاد يظن أن عليه إعادة فهو مأجور إن شاء الله، وهي زيادة.(29/60)
40 - وجوب تعميم أعضاء الوضوء بالماء
س: أنا طالبة في المدرسة وعندما أريد أن أتوضأ لا يرتفع ثوبي إلى ما فوق المرفق؛ نظرا لضيق الكم، فهل لها أن تمسح؟
ج: ليس لها ذلك، وليس لها لبس الضيق، بل هذا لا يجوز، بل عليها أن تلبس لباسا يمكن حسره عن مرفقها حتى تغسل المرفق، المرفق من الذراع لا بد أن تغسل ذراعها مع المرفق، والواجب عليها ترك هذا الضيق، وأن تلبس لباسا تستطع معه غسل مرفقيها.(29/61)
41 - كيفية وضوء من كان يسبح في البحر
س: الأخ إ. أ. ص من الزلفي في المملكة العربية السعودية يقول في سؤاله: إذا أردت الاستحمام للتنظيف والوضوء فهل أتوضأ قبل الاستحمام أم بعده أم أثناءه؟ وإذا كنت أسبح في البحر فهل يجوز أن أتوضأ وأنا داخل الماء؟ أفتونا جزاكم الله خيرا.
ج: لا حرج عليك أن تتوضأ قبل الاستحمام أو بعده، لكن إذا كان الاستحمام عن الجنابة فالسنة أن تبدأ بالوضوء تأسيا بالنبي(29/61)
صلى الله عليه وسلم، أما إذا كنت في البحر تسبح فلا حرج عليك أن تتوضأ وأنت في البحر، مع مراعاة الترتيب والموالاة، تبدأ بوجهك، ثم يديك اليمنى ثم اليسرى، ثم تمسح رأسك وأذنيك، ثم تحرك رجليك بنية الوضوء اليمنى ثم اليسرى، وفق الله الجميع.(29/62)
42 - مسألة في الوضوء
س: الأخ ب. س. ق من سوريا يقول في سؤاله: أنا أقتدي بالإمام الشافعي، فهل يصح لي أن أتبع الإمام أبا حنيفة في الوضوء، أي: أطبق الوضوء على المذهبين الشافعي وأبي حنيفة؟ نرجو سرعة الفتوى. (1)
ج: عليك أن تسأل أهل العلم عن صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وتعمل بذلك لقول الله عز وجل: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (2) ، وقوله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (3) ، وإذا كنت من طلبة العلم فراجع كتب
__________
(1) السؤال من المجلة العربية.
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة الأحزاب الآية 21(29/62)
الحديث كالمنتقى أو بلوغ المرام أو عمدة الحديث، حتى تعرف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتعمل بها في الصلاة والوضوء وغير ذلك، وإذا أشكل عليك الأمر فاسأل أهل العلم الذين تعرفهم بالعلم والفضل وتحري الحق في بلدك أو غيرها عما أشكل عليك؛ لقول الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) ، وفقني الله وإياك للعلم النافع والعمل به، فهو سبحانه ولي التوفيق.
__________
(1) سورة النحل الآية 43(29/63)
43 - حكم مسح الشعر في الوضوء بعد دهنه
س: هل زيت الشعر يمنع صحة الوضوء؟
ج: دهن الشعر بالزيت أو غيره من أنواع الأدهان لا يمنع مسحه في الوضوء، ولا غسله من الجنابة والحيض والنفاس؛ لما ثبت «عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله إني أشد شعر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة والحيض؟ فقال: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء، فتطهرين (1) » أخرجه مسلم في صحيحه، ولأدلة أخرى في ذلك.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب حكم ضفائر المغتسلة برقم 330.(29/63)
44 - حكم قراءة القرآن بدون وضوء
س: هل يجوز قراءة القرآن بدون وضوء؟ ومن هم المطهرون؟ (1)
ج: تجوز قراءة القرآن بدون وضوء إذا كان لا يمس المصحف، بل يقرأ عن ظهر قلب، أما مس المصحف فلا يجوز إلا على طهارة، والمطهرون المذكورون في قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (2) هم: المتطهرون من الحدث الأكبر والأصغر في قول بعض العلماء، والصحيح أن المراد بهم الملائكة، وأما الجنب فلا يقرأ شيئا من القرآن لا حفظا ولا من المصحف؛ لما ثبت عن علي رضي الله عنه أنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحجزه شيء عن القرآن سوى الجنابة (3) » .
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1690 في 20\1\ 1420 هـ.
(2) سورة الواقعة الآية 79
(3) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة برقم 594.(29/64)
س: هل المدرس الذي يدرس تلاميذه القرآن من المصحف الشريف يجب عليه أن يكون طاهرا أم لا يشترط طهارته؟ (1)
ج: المدرس وغيره في هذا الباب سواء، ليس له أن يمس المصحف وهو على غير طهارة عند جمهور أهل العلم، ومنهم الأئمة الأربعة رحمة الله عليهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن حزم: «لا يمس القرآن إلا طاهر (2) » ، وهو حديث جيد الإسناد، ورواه أبو داود وغيره متصلا ومرسلا، وله طرق تدل على صحته واتصاله، وبذلك أفتى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1661 في 11 جمادى الآخرة 1419 هـ.
(2) أخرجه مالك في الموطأ كتاب النداء للصلاة، باب الأمر بالوضوء لمن مس القرآن برقم 468.(29/65)
45 - حكم قراءة الأطفال
للقرآن في المصحف بدون طهارة
س: عندنا مدرسة أطفال يحفظون القرآن ولا يمكنهم الالتزام بالطهارة دائما، هل يلزم الأطفال الوضوء لمس المصحف؟
ج: يلزم وليهم أن يأمرهم بذلك، وهكذا الأستاذ الذي يعلمهم إذا كانوا أبناء سبع سنين فأكثر؛ لأن المصحف لا يجوز أن يمسه إلا طاهر للأدلة الشرعية الواردة في ذلك، أما من دون السبع فلا يمكن من مس المصحف ولو توضأ؛ لأنه لا وضوء له لعدم تمييزه.(29/66)
باب المسح على الخفين
46 - بيان مدة المسح على الجوربين
س: ما هي كيفية المسح على الجورب؟ مثلا أتوضأ لصلاة الفجر ثم ألبس الجورب وأمسح عليه عند الوضوء لصلاة الظهر في المدرسة حيث إني أعمل معلمة، وعند عودتي للمنزل أخلعه، وأتوضأ بعد ذلك الوضوء العادي، فهل هذا جائز؟ (1)
ج: لا بأس في ذلك ولا حرج من لبس الجوربين أو الخفين، إن شاء المسلم أبقاها يوما وليلة إذا كان مقيما غير مسافر، وإن شاء خلعها متى شاء ولو لم يصل فيها إلا مرة واحدة، لكن له رخصة أن يبقى عليه الجوربان أو الخفان أربعا وعشرين ساعة بعد الحدث إذا كان لبسهما على طهارة، وأن يمسح عليهما، والمسافر له ثلاثة أيام يعني اثنتين وسبعن ساعة بعد الحدث، فالحاصل أنه لا بأس أن يمسح عليها وقتا أو وقتين ثم يخلعها.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط الرابع عشر.(29/67)
47 - شروط المسح على الجوربين
س: ما هي الشروط التي يجب على المسلم مراعاتها عند المسح على الجوربين؟ (1)
ج: 1 - لا بد من طهارة: فيلبسها على طهارة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد المغيرة أن ينزع خفيه، قال: «دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين (2) » ، فإذا أراد أن يمسح فليلبسهما على طهارة رجلا كان أو امرأة، مسافرا كان أو مقيما.
2 - لا بد من أن يكونا ساترين صفيقين، ويمسح مع الخروق اليسيرة على الصحيح.
3 - أن يكون المسح لمدة معينة هي يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، ولا يمسح أكثر من ذلك.
إذا توافرت هذه الشروط فإن المؤمن يمسح على خفيه وجوربيه، والمرأة كذلك.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط الرابع عشر.
(2) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب لبس جبة الصوف في الغزو برقم 5799، ومسلم في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين برقم 274.(29/68)
48 - حكم المسح على الجورب والنعل
س: لاحظت أن بعض المسلمين يمسح على خفيه وعليه جوربان، فإذا أراد أن يدخل المسجد خلع الحذاء وهو يعتقد أن المسح بتلك الصورة صحيح، هل هو صحيح أم لا؟ (1)
ج: هذا فيه تفصيل: فإن كان المسح على الجورب والنعل إذا كان لبس على طهارة، فإذا مسح على النعل مع الجورب وخلع النعل فإنه يخلع الجورب، ويبطل الوضوء، إذا كان قد مسح عليهما جميعا فيبطل الوضوء بخلع أحدهما، أما إذا خص المسح بالجورب ثم لبس الحذاء فإنه لا يبطل الوضوء بذلك؛ لأن الحكم حينئذ للجورب، أما إذا مسح عليهما جميعا فالحكم يتعلق بهما جميعا، فإذا خلع الواحد خلع الآخر وبطل وضوؤه.
ومما ينبغي التنبه عليه أن المسح على ظاهر القدم فقط، ولا يحتاج إلى العقب ولا أسفل الخف، فمتى مسح على ظاهر قدميه كفى، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح على ظاهر
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط الرابع عشر.(29/69)
الخفين فقط، ولا يجب مسح العقب ولا مسح الأسفل، وإنما السنة مسح الظاهر فقط؛ لما ثبت عن علي رضي الله عنه أنه قال: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه (1) » .
وأما مسألة الجبيرة كأن يكون على الإنسان جبيرة على قدمه أو على ذراعه أو في وجهه جرح، فإنه يمسح عليها، وليس لها وقت معين، ما دامت موجودة يمسح ولو طالت المدة حتى يشفى ما تحتها ثم يزيلها، وليس لهذا حد محدود إلا العافية، ويمسح على الجبيرة كلها، ولو كانت وضعت على غير طهارة كما لو جرح مثلا في يده أو في رجله وهو على غير وضوء، ثم وضع الطبيب عليه الجبيرة، فإنه يمسح مطلقا على الراجح، ولو كان وضعها حين وضعها على غير وضوء.
وهكذا في غسل الجنابة، فإذا كان في ظهره أو في جنبه " لزقة " أو جبيرة فإنه يمر عليها الماء ويكفي، ولا حاجة إلى أن يزيلها، بل متى مر عليها الماء كفى حتى يعافيه الله، وليس عليه تيمم، بل يكفيه مرور الماء عليها.
__________
(1) سنن أبي داود الطهارة (162) ، مسند أحمد (1/124) ، سنن الدارمي الطهارة (715) .(29/70)
49 - مسألة في المسح على الجورب والنعل
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم مدير مدرسة تحفيظ القرآن الكريم الابتدائية بجدة سلمه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد اطلعت على استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 752 وتاريخ 24\2\1407 هـ المتضمن استشكالك بعض فقرات وردت في كتابي مقرر الفقه للصف الخامس والسادس الابتدائي.
وأفيدك بأنه يجوز المسح على الجزم مع ما ظهر من الجوارب، ويكون الحكم لهما جميعا، فمتى خلع الجزمة بعد الحدث وجب خلع الجورب وإعادة الوضوء للصلاة ونحوها، وإن مسح على الجورب دون الجزمة كفى ذلك إذا كانت الجوارب ساترة لمحل الفرض، ولا يضره خلع الجزمة في حال الصلاة أو غيرها، وفق الله الجميع لما فيه رضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(29/71)
50 - مسألة في المسح على الجورب
س: يقول السائل: ما كيفية المسح على الجوارب؟ (1)
ج: المسح على الجوارب مثل المسح على الخفين، الخفان من الجلد، والجوارب من القطن ونحوه، فيمسح على ظاهرهما، يضع اليمنى على القدم اليمنى، ويده اليسرى على القدم اليسرى، فيمسح عليها، إذا مسح رأسه وأذنيه فإنه يمسح على الجوربين والخفين، يضع يده اليمنى على ظاهر قدمه اليمنى فيمسح على قدمه اليمنى، ويضع يده اليسرى على قدمه اليسرى فيمسح على ظاهرها، ويكفي.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.(29/72)
51 - مسألة في المسح على الشراب والكندرة
س: عن كيفية المسح على الشراب والكندرة، وهل يصلي به صلاتين أم لا كالتيمم؟ (1)
ج: يمسح على الشراب إذا كان ساترا لمحل الغسل كما
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(29/72)
يمسح على الخف، والفرق بينهما أن الخف من الجلد، وأما الشراب فيكون من القطن، ويكون من الصوف، ويكون من غيرهما، والحكم في المسح عليهما واحد في أصح أقوال العلماء، وقد ثبت في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الجوربين والنعلين، والجوربان هما الشراب، وثبت ذلك عن جماعة من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام أنهم مسحوا على الجوربين، وإذا مضت المدة وهي يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر وجب الخلع على من يجد الماء حتى يتوضأ ويغسل قدميه، ثم إذا أحب لبسهما بعد ذلك ومسح مثل المدة السالفة وهكذا.
أما الكندرة فهي كالنعل إذا كانت لا تستر القدم مع الكعبين، فإن مسح عليهما مع الشراب صار الحكم لهما، ومتى خلع أحدهما خلع الآخر، وإن اقتصر على مسح الشراب كفاه ذلك، وجاز له خلع الكندرة متى يشاء، والطهارة باقية بحالها؛ لأن حكم المسح قد تعلق بالشراب، ومما تقدم يتضح أنه يجوز أن يصلي المسلم بالمسح على الشراب صلوات كثيرة في المدة التي منحه الشارع إياها، وهي يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، ابتداء من أول مسح وقع بعد الحدث الذي يعقب اللبس.
أما التيمم ففيه خلاف مشهور،(29/73)
والصحيح من أقوال العلماء أنه يرفع الحدث كالطهارة بالماء، ويصلي به صلوات كثيرة كما يصلي بالماء ما لم يحدث أو يجد الماء؛ لقول الله سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) .
فبين سبحانه في هذه الآية أنه شرع لعباده التيمم عند عدم الماء ليرفع عنهم الحرج بذلك، وليطهرهم به، فدل ذلك على أنه مطهر كالماء، وفي الآية المذكورة دلالة على أن الفاقد للماء يكفيه التيمم، سواء كان حدثه أصغر وهو ما يوجب الوضوء، أو كان أكبر وهو ما يوجب الغسل، وعلى أن كيفية التيمم عنهما واحدة، وهي: مسح الوجه والكفين من الصعيد، ووجه الدلالة أن قوله سبحانه وتعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} (2) يشير به إلى الحدث الأصغر، وقوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (3) يشير به
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) سورة النساء الآية 43
(3) سورة النساء الآية 43(29/74)
إلى الحدث الأكبر؛ لأن الملامسة كناية عن الجماع في أصح قولي العلماء، كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة من علماء التفسير.
وأما من فسر ذلك بمس اليد واحتج به على أن مس المرأة ينقض الوضوء فقوله ضعيف لأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذكرها؛ لأن المقصود هنا الإيجاز والاختصار والإشارة إلى أصح الأقوال في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة (1) » ، ففي هذا الحديث العظيم الدلالة على أن التيمم يرفع الحدث ويطهر كالماء، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التيمم، باب قول الله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا) برقم 335، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم 521.(29/75)
52 - حكم المسح على الشراب المثقوب
س: ما حكم المسح على الشراب المثقوب؟ (1)
ج: الثقب يختلف، إذا كان الثقب يسيرا يعد يسيرا عرفا، فالصواب أنه إن شاء الله لا يؤثر الثقب اليسير؛ لأن هذا قد يبتلى به الناس ولا سيما الفقراء، أما إذا كان شقا واسعا فينبغي له ألا يمسح، إما أن يخيطه، وإما أن يرقع الثقب، وإما أن يبدله، أما الشيء اليسير الذي لا أهمية له بل يعتبر خرقا يسيرا فهذا يعفى عنه إن شاء الله.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1406 هـ.(29/76)
53 - مسألة في المسح على الجورب
س: تبرد قدماي وتصبح في برودة الثلج وتتورم، ويسبب لي ذلك ألما شديدا خاصة في الليل، فذهبت إلى الطبيب ونصحني بلبس جوارب عليها حتى تصبح دافئة،(29/76)
ولذلك أضطر إلى لبس أكثر من جورب في وقت واحد، وسؤالي عن المسح كيف يكون؟ جزاكم الله خيرا. (1)
ج: تلبس الجورب أو الجوربين عليهما للدفء، وتمسح عليهما إذا لبستها على طهارة كل يوم وليلة، فإذا مضى اليوم والليلة تخلع ثم تتوضأ ثم تلبسهما مرة أخرى، وهكذا كل ما مر يوم وليلة تخلعها وتتوضأ.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط الأول.(29/77)
صفحة فارغة(29/78)
باب نواقض الوضوء
54 - حكم وضوء صاحب الحدث الدائم
س: أعاني من خروج ريح دائمة، والسؤال هو: هل يجوز لي الصلاة والطواف بوضوء واحد؟ وهل يجوز لي أداء صلاة التراويح بوضوء صلاة العشاء؟ جزاكم الله خيرا. (1)
ج: صاحب الحدث الدائم كالسلس والريح الدائمة ونحوهما يلزمه أن يتوضأ لكل صلاة بعد دخول الوقت، ثم يصلي بذلك الوضوء ويطوف به في جميع الوقت؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: «وتوضئي وقت كل صلاة (2) » ، وإذا توضأ بعد دخول الوقت للطواف صلى بذلك الوضوء الفريضة والتراويح، وإن توضأ للصلاة بعد الوقت جاز له أن يطوف بذلك الوضوء ما دام في الوقت للحديث المذكور، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة رقم 1578 في 21\9\1417 هـ.
(2) سبق تخريجه.(29/79)
55 - حكم نقض الوضوء
بأكل شحم وكرش الجزور
س: لحم الجزور ناقض للوضوء، ولكن بعض أهل العلم يقول: ليس كله ناقضا، بل ينقض السنام وزور البعير ورجلاه فقط، فما هو الدليل؟ (1)
ج: قد دلت الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لحم الإبل ينقض الوضوء، أما ما لا يسمى لحما كالشحم والكرش فهذا في نقض الوضوء به نظر.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1662 في 18\ 6\ 1419 هـ.(29/80)
56 - حكم إزالة طلاء المناكير عند الوضوء
س: هل في استعمال المرأة للمناكير التي تطلى بها الأظافر إثم؟ وماذا تعمل عند الوضوء؟ (1)
ج: لا نعلم شيئا في هذا، لكن تركه أولى لعدم الحاجة إليه، ولأنه يحول دون وصول الماء إلى البشرة عند الوضوء،
__________
(1) من أسئلة المجلة العربية.(29/80)
الحاصل: أن تركه أولى، والاكتفاء بالحناء والذي عليه الأوائل أولى، فإن استعملته فالواجب أن تزيليه عند الوضوء؛ لأنه كما قلنا يحول دون وصول الماء إلى البشرة، والله ولي التوفيق.(29/81)
57 - حكم وضع المناكير لمدة خمسة فروض
س: ما حكم وضع المناكير لمدة خمسة فروض ثم مسحه؟ هل يجوز ذلك؟ (1)
ج: لا أصل لهذا، وليس مثل المسح على الخفين حتى يوضع خمسة فروض، هذا التحديد للخفين التي يجوز المسح عليهما، أما المناكير فلا ينبغي وضعها، وإذا وضعت فلتغسل وتزال عند الوضوء، ويكفي عنها الحناء، فالحناء كافية، لكن هذا إنما دخل على الناس ليتشبهن بغير المسلمين وللاقتداء بالكافرين، فالمناكير على اسمها مناكير لا حاجة إليها، فإذا وضعت على الأظفار تزال عند الوضوء، فلا يتوضأ عليها؛ لأنها تمنع وصول الماء إلى البشرة إلى الظفر، فإن لها جسما، فيزال عند الوضوء.
__________
(1) من أسئلة حج 1407 هـ.(29/81)
58 - حكم وصلاة من به السلس
س: حيث إن لي والدة كبيرة في السن ومقعدة ولا تتحكم في الخارج من السبيلين، ونضطر إلى استعمال الحفائظ لها، وتدخل أوقات الصلاة فتصلي وهي أحيانا غير طاهرة من أثر الخارج منها الذي لا تستطيع أن تتحكم فيه ولو لنصف ساعة، فأرجو عرض سؤالي على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز.
ما هو حكم صلاتها على هذه الحالة؟ وما الحكم إذا لم تستطع الصوم؟ حيث إنها مصابة بداء السكر، ولا تستغني عن الأكل كل 6 ساعات ولا الشرب كذلك. (1)
ج: عليها أن تستنجي وتتوضأ لكل صلاة وتتحفظ لكل وقت بشيء طاهر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: «توضئي لوقت كل صلاة (2) » ، ومثلها صاحب السلس من الرجال والنساء، وهو استمرار البول في وقت الصلاة وغيره، وأما الصوم فلا يلزمها أن تصوم إذا كانت عاجزة ولا تستطيع الصوم، وعليها القضاء بعد الشفاء لقول الله تعالى:
__________
(1) من أسئلة المجلة العربية.
(2) سبق تخريجه.(29/82)
{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) إلا أن يكون مرضها دائما لا يرجى برؤه حسب تقرير المختص من الأطباء، فإنها تطعم عن كل يوم مسكينا، ولا يلزمها الصوم كالشيخ الكبير والعجوز الكبيرة العاجزين عن الصوم، ويجوز جمع الكفارة وإخراجها في أول الشهر أو آخره إلى فقير واحد أو أكثر، ومقدار الكفارة نصف صاع من قوت البلد عن كل يوم، ومقداره 1.5 كيلو ونصف تقريبا، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(29/83)
59 - حكم انتقاض الوضوء بالنوم
س: ما حكم اللواتي يفقن من نوم عميق بالمسجد ويبدأن الصلاة دون تجديد للوضوء؟ (1)
ج: من نام نوما مستغرقا بطل وضوؤه سواء كان رجلا أو امرأة، ولا تصح منه الصلاة إلا بوضوء، ولا الطواف إلا بوضوء؛ «لقول صفوان بن عسال رضي الله عنه بأن الرسول علمهم إذا كانوا
__________
(1) سؤال موجه إلى سماحته بعد الدرس الذي ألقاه في المسجد الحرام في 28\12\1418 هـ.(29/83)
سفرا أن لا يخلعوا خفافهم ثلاثة أيام إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم (1) » ، جعل النوم كالبول والغائط، فإذا استغرق في النوم فإنه يتوضأ، أما إذا كان نوما يسيرا فلا ينقض الوضوء مثل كونه ينعس ويشعر بمن حوله.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم برقم 96، والنسائي في كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين للمسافر برقم 127.(29/84)
60 - حكم من شك
في طهارته للصلوات الفائتة
س: إنه كان مرة يتوضأ فلفت نظره أحد الناس إلى لمعة قدمه، وفي مرة أخرى لفت نظره إلى لمعة مشابهة، مما أوجب لديه الشك أنه لا يحسن الوضوء قبل ذلك، ويسأل عن حالته السابقة التي يشك في صحة وضوئه فيها وكذلك غسله من الجنابة، هل يعيد صلواته أم ماذا يفعل؟ (1)
ج: كون السائل لفت نظره مرة أو مرتين إلى لمعة في
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 747.(29/84)
قدمه لم يصلها الماء حينما توضأ لا يعني الحكم على طهاراته الأخرى أنها غير صحيحة؛ لأن الأصل إن شاء الله أنه توضأ وضوءا صحيحا، ولا ينتقض الأصل بالشكوك، وكذا الأمر بالنسبة إلى غسله من الجنابة الأصل سلامته، ولا إعادة عليه لما مضى من صلواته.(29/85)
61 - حكم من لمس امرأة بعد وضوئه
س: هل لمس المرأة ينقض الوضوء؟
ج: الصواب أن مسها لا ينقض الوضوء ما لم يخرج شيء بسبب ذلك من المذي أو المني، فإن خرج مني فعليك الغسل، أما إن خرج مذي فعليك غسل الذكر والخصيتن مع الوضوء الشرعي، أما إن كان المس لفرجها أو فرجك بغير حائل فإنه ينتقض الوضوء بذلك؛ لأن مس الفرج من الرجل والمرأة ينقض الوضوء، وفق الله الجميع.(29/85)
62 - مسألة في لمس المرأة بعد الوضوء
س: رجل كان يطوف طواف الإفاضة في زحام شديد، ولامس جسم امرأة أجنبية عنه، هل يبطل طوافه ويبدأه من جديد قياسا على الوضوء أم لا؟ (1)
ج: لمس الإنسان جسم المرأة حال طوافه أو حال الزحمة في أي مكان لا يضر طوافه ولا يضر وضوؤه في أصح قولي العلماء، وقد تنازع الناس في لمس المرأة هل ينقض الوضوء على أقوال: قيل: لا ينقض مطلقا، وقيل: ينقض مطلقا، وقيل: ينقض إن كان مع الشهوة، والأرجح من هذه الأقوال والصواب منها أنه لا ينقض الوضوء مطلقا، وأن الرجل إذا مس المرأة أو قبلها لا ينقض وضوؤه في أصح الأقوال؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ، ولأن الأصل سلامة الوضوء وسلامة الطهارة.
فلا يجوز القول بأنها منتقضة بشيء إلا بحجة قائمة تدل على نقض الوضوء بلمس المرأة مطلقا، أما قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (2) فالصواب
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى تتعلق بالحج والعمرة والزيارة ص 25.
(2) سورة المائدة الآية 6(29/86)
في تفسيرها أن المراد به الجماع، وهكذا القراءة الأخرى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (1) ، فالمراد بها الجماع كما قال ابن عباس وجماعة، وليس المراد به مجرد مس المرأة كما يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه، بل الصواب في ذلك هو الجماع كما يقوله ابن عباس وجماعة، وبهذا يعلم أن الذي مس جسمه جسم امرأة في الطواف أن طوافه صحيح، وهكذا الوضوء ولو مس امرأته أو قبلها فوضوؤه صحيح ما لم يخرج منه شيء.
__________
(1) سورة المائدة الآية 6(29/87)
س: أحيانا الإنسان حين الطواف عندها يلمس الركن اليماني وتقع يده على امرأة، فهل ينقض ذلك الوضوء؟ (1)
ج: الوضوء لا ينتقض بذلك، ولأن الصواب من أقوال أهل العلم أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقا إذا لم يخرج منه شيء، أما قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (2) فالمراد به الجماع في أصح أقوال العلماء.
__________
(1) سؤال موجه لسماحته في درس بلوغ المرام.
(2) سورة المائدة الآية 6(29/87)
63 - دخول المقابر لا ينقض الوضوء
س: سمعت أن دخول المقابر يفسد الوضوء فهل هذا صحيح؟ أفيدونا جزاكم الله عنا خيرا. (1)
ج: زيارة القبور سنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة (2) » ، ولكن لا تشد الرحال إلى ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (3) » ، وليس دخول المقابر ينقض الوضوء، بل هذا قول باطل لا أساس له في الشرع المطهر.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد رقم 1655 في 28 ربيع الآخر 1419 هـ.
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب ما جاء في الجنائز، باب ما جاء في زيارة القبور برقم 1569.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد برقم 1397.(29/88)
باب الغسل
64 - من أحكام غسل الجنابة
س: الأخ الذي رمز لاسمه بـ ع. ع. من الخرج يقول في سؤاله: صحوت من نومي في إحدى المرات وأنا أحتلم وخرج مني سائل، ثم قمت بغسل الجزء الأسفل من جسمي فقط ثم صليت، فما حكم فعلي هذا؟ وماذا عن الصلوات التي صليتها فيما بعد؟ أرشدوني يا سماحة الوالد جزاكم الله عني وعن المسلمين خير الجزاء. (1)
ج: إذا احتلم الرجل أو المرأة وخرج منهما المني فعليهما الغسل لجميع بدنهما، وهو غسل الجنابة، لقول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (2) ، ولما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة رضي الله عنها «أن أم سليم قالت: يا رسول الله إن الله
__________
(1) من أسئلة المجلة العربية.
(2) سورة المائدة الآية 6(29/89)
لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم إذا رأت الماء (1) » ، وعلى من لم يغتسل أن يقضي الصلوات التي صلاها قبل أن يغتسل لكونه صلاها بدون طهور، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول (2) » أخرجه مسلم في صحيحه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ (3) » .
وقد دل القرآن الكريم على ذلك في قوله سبحانه في سورة المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (4) ، فدلت هذه الآية الكريمة والأحاديث الصحيحة على أن من قام إلى الصلاة وهو محدث
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب إذا احتلمت المرأة برقم 282، ومسلم في كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها برقم 313.
(2) أخرجه الإمام مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة برقم 224.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء؛ باب لا تقبل صلاة بغير طهور برقم 135، ومسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة برقم 225.
(4) سورة المائدة الآية 6(29/90)
حدثا أصغر أن يتوضأ الوضوء الشرعي المذكور في هذه الآية، أما إن كان حدثه أكبر وهو حدث الجنابة فعليه الغسل، ولا بد من الاستنجاء قبل الوضوء إذا كان الحدث بولا أو غائطا أو نحوه للأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك، والله ولي التوفيق.(29/91)
65 - وجوب الغسل
على من جامع أهله ولو لم ينزل
س: إذا جامع الرجل أهله ولم ينزل فهل عليه غسل؟ (1)
ج: نعم، متى جامع زوجته حتى مس الختان الختان وجب عليه الغسل، وإن لم يخرج منه الماء؛ لما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر بذلك، ومن الوارد في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل وإن لم ينزل (2) » متفق عليه،
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين برقم 348.(29/91)
وهذا لفظ مسلم، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب عليه الغسل (1) » ، وعنها رضي الله عنها «أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: كنت أفعله مع هذه - يعني عائشة - ثم نغتسل (2) » أخرجهما مسلم في صحيحه.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين برقم 349.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين برقم 350.(29/92)
66 - مسألة في الغسل من الجنابة
س: أنا شاب لم أتزوج بعد، وفي بعض الأحيان عندما أستيقظ من النوم أحس وأرى أثر مني في الملابس الداخلية، ولكنني لم أذكر أنني احتلمت، فهل يجب علي الغسل؟ آمل توضيح ذلك أثابكم الله. (1)
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1537 في 23\ 11\ 1416هـ.(29/92)
ج: متى وجدت منيا في بدنك أو ثيابك عند الاستيقاظ من النوم فإنه يجب عليك الغسل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الماء من الماء (1) » ، «وقوله صلى الله عليه وسلم لأم سليم الأنصارية لما سألته عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل فهل عليها أن تغتسل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم إذا رأت الماء (2) » ، يعني المني، متفق على صحته، والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب إنما الماء من الماء برقم 343.
(2) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته برقم 3328، ومسلم في كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها برقم 313.(29/93)
67 - حكم الجمع بين الوضوء والغسل من الجنابة
س: هل للإنسان أن يتوضأ داخل الحمام أثناء الاستحمام قبل أن يرتدي ملابسه؟ (1)
ج: لا نعلم بأسا في هذا إذا اغتسل من الجنابة أو يوم الجمعة، لكن الأفضل أن يبتدئ بالوضوء في غسل الجنابة، أن
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط الرابع عشر.(29/93)
يتوضأ ثم يغتسل للجنابة، ويكفيه الوضوء الأول؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ، يعني يستنجي ويغسل ما أصاب فرجه وما حوله، ثم يتوضأ وضوء الصلاة، ثم يغتسل حتى إذا انتهى من الغسل انتهى من كل شيء، وليس عليه وضوء بعد ذلك، إلا إذا أحدث بعد الغسل بأن مس فرجه أو خرج منه ريح فإنه يعيد الوضوء، أما إذا اغتسل ولم يمس فرجه ولم يخرج منه ريح ولم يحدث فإن وضوءه الأول كاف.
أما غسل الجمعة فإن شاء توضأ قبله، وإن شاء توضأ بعده، ولا يكفي الغسل وحده، بل لا بد من وضوء قبله أو بعده، وإذا توضأ قبله أو بعده وهو عريان فلا بأس في ذلك لأنه تجرد ليغتسل.(29/94)
68 - حكم إزالة " المناكير "
للوضوء والغسل من الجنابة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ي. م. ج. سلمه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 931 وتاريخ 6 \3\ 1407هـ الذي تسأل فيه عن عدد من الأسئلة.
وأفيدك بأن الشعر الاصطناعي المسمى (الباروكة) لا يجوز لبسه، سواء كان اللابس له رجلا أم امرأة، وسبق أن كتبنا رسالة بشأنه المرفق لك صورة منها، أما الطلاء الذي تضعه النساء على أظفارهن المسمى (المناكير) فإنه يجب إزالة ما على الأظفار منه وقت الوضوء والغسل الواجب إذا كان له جرم يمنع وصول الماء إلى البشرة.
أما الزوجان المشركان فلا يلزمهما تجديد النكاح بعد إسلامهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الذين أسلموا(29/95)
عام الفتح وغيره بتجديد أنكحتهم إلا أن يكون هناك مانع قائم، كما لو كانا مجوسيين قد تزوج الرجل خالته أو أخته ونحو ذلك، فإنه يفسخ النكاح الموجود للمانع القائم من صحته بعد الإسلام بإجماع أهل العلم، وفق الله الجميع لما فيه رضاه إنه سميع مجيب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(29/96)
69 - حكم قراءة القرآن للجنب
س: هل يجوز للمسلم أن يقرأ ما تيسر من القرآن وهو جنب؟ (1)
ج: لا يجوز للمسلم أن يقرأ القرآن وهو جنب، سواء كانت قراءته من حفظه أو من المصحف؛ لما ثبت «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يحجزه شيء عن القرآن إلا الجنابة (2) » .
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، العدد الثالث، للسنة 1391 هـ.
(2) سنن الترمذي الطهارة (146) ، سنن النسائي الطهارة (266) ، سنن أبي داود الطهارة (229) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (594) ، مسند أحمد (1/124) .(29/96)
70 - مسألة في قراءة القرآن للجنب
س: هل الجنب يقرأ كتاب الله غيبا؟ وإذا لم يجز ذلك فهل يستمع له؟ جزاكم الله خيرا. (1)
ج: الجنب لا يجوز له قراءة القرآن لا من المصحف ولا عن ظهر قلب حتى يغتسل؛ لأنه قد ثبت «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يحجزه شيء عن القرآن إلا الجنابة (2) » ، أما الاستماع لقراءة القرآن فلا حرج في ذلك للجنب، بل يستحب له ذلك لما فيه من الفائدة العظيمة من دون مس المصحف ولا قراءة منه للقرآن، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 1 ص 222.
(2) سنن الترمذي الطهارة (146) ، سنن النسائي الطهارة (266) ، سنن أبي داود الطهارة (229) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (594) ، مسند أحمد (1/124) .(29/97)
71 - حكم لمس
الجنب للثوب ونحوه قبل أن يغتسل
س: إذا وقع الجماع بين الزوج وزوجته بعد ذلك هل يجوز قبل غسلهما لمس أي شيء؟ وإذا حصل اللمس لأي(29/97)
شيء هل ينجس أم لا؟ (1)
ج: نعم يجوز للجنب قبل أن يغتسل لمس الأشياء من أثواب وأطباق وقدور ونحوها، سواء كان رجلا أم امرأة؛ لأنه ليس بنجس ولا يتنجس ما لمسه منها بلمسه إياه.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة.(29/98)
72 - حكم أخذ الجنب
من شعره وأظفاره قبل أن يغتسل
س: هل يجوز للجنب أن يأخذ من شعره أو أظفاره؟ (1)
ج: لا بأس إذا كان ليس محرما، له أن يأخذ من إبطه أو من أظفاره وهو جنب لم يغتسل، لا يضر.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1415 هـ، الشريط رقم 49\6.(29/98)
باب التيمم
73 - بيان كيفية التيمم
س: سؤال عن الطريقة الصحيحة للتيمم؟ (1)
ج: الطريقة الصحيحة بينها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمار بن ياسر في الصحيحين قال له: «إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بهما الأرض (ضرب بهما الأرض: أي: بكفيه) ، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (2) » ، وهذا مطابق لقوله سبحانه: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (3) ، فإذا كان في السفر وليس عنده ماء أو مريض لا يستطيع استعمال الماء ضرب بكفيه الأرض ضربة واحدة - ضربة خفيفة -، ثم مسح بهما وجهه وكفيه، وإذا علق فيها تراب نفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه، هكذا المشروع، يكفي ضربة واحدة، هذه هي السنة.
وإذا ضرب
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) ، شريط 11.
(2) صحيح البخاري التيمم (347) ، صحيح مسلم الحيض (368) ، سنن الترمذي الطهارة (144) ، سنن النسائي الطهارة (320) ، سنن أبي داود الطهارة (322) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (571) ، مسند أحمد (4/265) ، سنن الدارمي الطهارة (745) .
(3) سورة المائدة الآية 6(29/99)
ضربتين إحداهما لوجهه والأخرى لكفيه لا بأس، لكن الأفضل والسنة ضربة واحدة كما في حديث عمار، يضرب بهما الأرض، أو إذا كان عنده إناء فيه تراب أو ما أشبه ذلك يضرب بهما بالتراب، ثم يمسح بهما وجهه وكفيه، هذا هو التيمم الشرعي بنية الطهارة، ويسمى الله يقول: بسم الله، كما يسمي في الماء عند الوضوء، وإذا ضرب بهما التراب ومسح بهما وجهه وكفيه، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، كما يفعل في الماء؛ لأن هذا يقوم مقام الماء.(29/100)
74 - حكم من عجز عن
استعمال الماء وتعذر عليه وجود التراب
س: دخلت مستشفى لعلاج عيني وأجريت لعيني عملية وعصبت، وتعذر حصولي على تراب للتيمم فتوضأت وتركت العين، فما الحكم؟ (1)
ج: الصلاة صحيحة من أجل العذر لعدم وجود التراب،
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(29/100)
وعدم القدرة على غسل العين، لكن إذا أمكن مسح الجرح والجبيرة التي عليه عند غسل عضوه كفى ذلك عن التيمم، فإن لم يتيسر ذلك خوفا من مضرة الماء وجب التيمم مع القدرة.(29/101)
75 - حكم التيمم مع وجود الماء
س: بعض الحجاج المقيمين بمسجد الخيف أو في الحرم يصعب عليهم الخروج للوضوء، فهل يجوز لهم أن يتيمموا أم ينبغي لهم الخروج لوجود الماء؟ (1)
ج: لا يجوز لهم التيمم، بل يلزمهم الخروج للوضوء من المياه الموجودة، والله يقول: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (2) ، وهؤلاء واجدون للماء.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407هـ شريط 10.
(2) سورة النساء الآية 43(29/101)
صفحة فارغة(29/102)
باب إزالة النجاسة
76 - حكم رذاذ البول على الجسم والملابس
س: ما رأي سماحتكم في رذاذ البول الذي يتناثر على الملابس والجسم عند التبول أحيانا؟ هل يكفي المسح عليه أم لا بد من الاستحمام مع تغيير الثياب؟ أفيدونا جزاكم الله خير الجزاء. (1)
ج: يجب غسل ما أصابه البول من البدن والثياب ولا يكفي المسح، وهذا معلوم بالنص والإجماع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه (2) » ، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى أما أحدهما فكان لا يستتر من البول (3) » ، وفي رواية:
__________
(1) من أسئلة المجلة العربية.
(2) أخرجه الدارقطني في كتاب الطهارة ج 1 برقم 7.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب ما جاء في غسل البول برقم 218.(29/103)
«لا يستنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة (1) » ، والأحاديث في هذا المعني كثيرة، وبالله التوفيق.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء برقم 292.(29/104)
77 - حكم غسل الدم الخارج من السبيلين
س: إذا خرج من مجرى البول دم بعد التبول هل يؤثر في الإحرام إن أصاب الإزار؟
ج: نعم، يؤثر في الثوب، تغسله، وينقض الوضوء، تستنجي وتعيد الوضوء، وإذا أصاب الإحرام شيء تغسل ما أصاب الإحرام.(29/104)
78 - حكم الصلاة في ملابس أصابها مني
س: إذا تبقى من مني الرجل في ملابسه بعد غسلها شيء، هل يؤثر على طهارة ثوبه؟ (1)
ج: المني طاهر ولا يؤثر، وهو أصل الإنسان، ولا يؤثر
__________
(1) من أسئلة حج عام 1415هـ، الشريط رقم 49\4.(29/104)
بقاؤه في ملابسه، قالت عائشة رضي الله عنها: «كنت أحكه يابسا من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحكه بظفري، وربما غسلته (1) » ، فالمني طاهر ولا يضر.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب حكم المني برقم 290.(29/105)
79 - حكم طهارة بول وروث ما يؤكل لحمه
س: عندي مزرعة مواشي وأحيانا وأنا أتفقدهن يأتي على ثيابي من بول وروث البهائم، فهل هذه تعتبر نجاسة؟ علما بأني سمعت أن كل ما أكل لحمه فبوله وروثه طاهر، فهل هذا صحيح؟ (1)
ج: نعم، هذا هو الصواب: أن بول ما يؤكل لحمه وروثه كله طاهر، مثل الإبل والبقر والغنم والصيد كله طاهر، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مرابض الغنم، ولما استوخم العرنيون في المدينة بعثهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها
__________
(1) سؤال بعد الدرس الذي ألقاه سماحته بالمسجد الحرام في 26\ 12\ 1418 هـ.(29/105)
وألبانها حتى صحوا، فلما أذن لهم بالشرب من أبوالها دل على طهارتها، ولما صلى في مرابض الغنم دل على طهارتها، ولكن نهى عن الصلاة في معاطن الإبل لا للنجاسة بل لأمر آخر، وإلا فبولها وروثها طاهر، وهكذا البقر، وهكذا الغنم، وهكذا الصيد، وهكذا الدجاج، وهكذا الحمام، لكن إذا كانت دجاجة جلالة تأكل نجاسات هذه تنجس، حتى تأكل شيئا طيبا ثلاثة أيام أو أكثر حتى تنظف، وإذا غسل ثوبه منها وقت كونها جلالة يكون أحوط وأحسن.(29/106)
80 - حكم من صلى بالنجاسة وهو لا يعلم
س: ما الحكم إذا كان الشخص يعلم بالنجاسة ولم يذكرها إلا بعد نهاية الصلاة؟ (1)
ج: إذا كان على بدن الإنسان أو ثوبه نجاسة فنسي ذلك ولم يذكر إلا بعد الصلاة فصلاته صحيحة؛ لعموم قوله سبحانه: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (2) ، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه قال: «قد فعلت (3) » ، ولما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه في بعض صلواته صلى في نعليه فأتاه جبرائيل فأخبره أن بهما خبثا فخلعهما، ولم يعد أول صلاته، وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: «إذا أتى أحدكم الصلاة فليقلب نعليه، فإن وجد بهما أذى فليزله ثم ليصل فيهما (4) » ، فدل ذلك على
__________
(1) أجاب عليه سماحته فجر الجمعة 28\ 9\ 1419هـ.
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) أخرجه مسلم في كتاب الأيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق برقم 126.
(4) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه برقم 10769، والدارمي في سننه كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعلين برقم 1378.(29/107)
أن المصلي إذا لم يعلم بالنجاسة في ثوبه أو نعله أو في مصلاه إلا بعد الصلاة، أو لم يذكر ذلك إلا بعد الصلاة، فإن صلاته صحيحة، بخلاف الحدث فإنه إذا صلى وهو محدث ناسيا فإن صلاته غير صحيحة، وعليه أن يعيدها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ (1) » متفق على صحته، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول (2) » أخرجه مسلم في صحيحه، والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب لا تقبل صلاة بغير طهور برقم 135، ومسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة برقم 225.
(2) أخرجه الإمام مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة برقم 224.(29/108)
باب الحيض والنفاس
81 - بيان مدة الطهر في الحيض
س: تسأل أختنا: كم مدة الطهر؟ (1)
ج: الصحيح ليس للطهر حد محدود، ولا للحيض حد محدود، لكن الغالب أن الحيض يكون ستة أيام أو سبعة أيام، والغالب أن يكون الطهر ثلاثة وعشرين يوما أو أربعة وعشرين يوما، هذا هو الغالب، إن حاضت ستة أيام صار الطهر أربعة وعشرين يوما، وإن حاضت سبعا صار الطهر ثلاثا وعشرين يوما، هذا هو الأغلب، لكن قد يزيد وقد ينقص، فليس هناك حد محدود، فإذا كانت عادتها عشرا أو طهرها شهرا فلا بأس، أو أكثر أو أقل، فبعض النساء قد تأتيها العادة في الشهرين أو الثلاثة مرة، أو في السنة مرة، فليس لهذا حد محدود.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.(29/109)
82 - الفرق بين دم الحيض والاستحاضة
س: كيف تفرق المرأة بين دم العادة المستمرة وبين دم الاستحاضة؟ (1)
ج: إذا طهرت من حيضتها وأصابها صفرة أو كدرة بعد ذلك فهذه هي الاستحاضة، وإذا كان الدم في وقت العادة فهذا حيض، ولو صفرة وكدرة هي وقت الحيض، وإذا استمر بها الحيض كأن يكون عادتها سبعا فاستمر بها إلى عشرة فلا بأس أن تجلس، بل يجب عليها أن تجلس ولا تصلي ولا تصوم، بل تترك الصلاة؛ لأن العادة تزيد وتنقص إلى خمسة عشر يوما، فأكثرها خمسة عشر يوما، فإذا صارت عادتها سبعا ثم زادت في بعض الأحيان، وكان الدم ثمانا أو تسعا أو عشرا فلا بأس، لا تصلي ولا تصوم ولا يقربها الزوج، أما إذا طهرت من حيضتها ثم رأت صفرة أو كدرة في أيام الطهر فلا عمل عليها، تصلي وتصوم ولا عمل عليها، لكن تتوضأ لكل صلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: «توضئي لكل صلاة (2) » ، ولقول أم
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب غسل الدم برقم 228.(29/110)
عطية رضي الله عنها: كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئا، وأم عطية صحابية تقول: كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئا، يعني فيها الوضوء فقط.(29/111)
س: سائلة تسأل عن كيفية التفرقة بين دم الحيض ودم الاستحاضة مرة أخرى. (1)
ج: الغالب أن دم الحيض يكون غليظا، وقد يكون أسود، وقد يكون له رائحة، ودم الاستحاضة في الغالب ليس كذلك، يكون رقيقا أصفر، هذا هو الأغلب، ولكن العمدة العادة، فإذا جاءت العادة فإنها تدع الصلاة ولو كان الدم رقيقا، ولو كان صفرة أو كدرة في وقت العادة لا تصلي ولا تصوم، فإن الدم يتغير، فإذا طهرت فإنها لا تلتفت إلى الصفرة والكدرة، بل تصلي وتصوم وتتوضأ لكل صلاة، أما إذا استمر الدم وزاد على العادة فإنها لا تصلى ولا تصوم إلى خمسة عشر يوما، فإن زاد فهو استحاضة فوق الخمسة عشر يوما، هذا هو الراجح عند جمهور أهل العلم، إذا زاد الدم عن خمسة عشر يوما فهو دم استحاضة،
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.(29/111)
لا تدع الصلاة ولا تدع الصوم، بل عليها أن تغتسل، ثم إذا جاء وقت الحيض في الشهر الآخر جلست لعادتها المعتادة.(29/112)
83 - حكم طهارة المرأة
من الحيض إذا كانت عادتها مبعضة
س: امرأة تسأل وتقول: إن دورتها تأتيها كل شهر خمسة أيام ثم تطهر، ثم بعد ثلاثة أيام تأتيها مرة أخرى لمدة يومين، فهل تترك الصلاة أم تعتبرها استحاضة؟ (1)
ج: إذا كانت هذه العادة الماشية، نعم تصير عادة مبعضة، ثلاثة ويومين وبينهما طهارة، فاعتبري كل الأيام حيضا، الأولى والأخيرة وبينهما طهر إذا كان هذه عادتك الجارية.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1418 هـ، الشريط السادس.(29/112)
84 - حكم استعمال
الدواء لمنع الدورة الشهرية
س: تسأل أختنا تقول: هل يجوز للمرأة أن تستعمل دواء يمنع عنها الدورة الشهرية ولا سيما في الحج ورمضان والعمرة؟ (1)
ج: إذا دعت الحاجة إلى ذلك فلا بأس، في رمضان أو في أيام الحج أو العمرة، فلا بأس في ذلك.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.(29/113)
85 - حكم صلاة المرأة وهي حائض
س: ما حكم المرأة التي تذهب إلى الحرم لتصلي فيه أثناء عادتها الشهرية وهي عالمة بذلك؟ (1)
ج: أما ذهاب المرأة إلى الحرم الشريف والصلاة مع الناس وقد نزلت بها العادة الشهرية، وهي الحيض، وهي تعلم ذلك، فهذا منكر عظيم لوجهين:
__________
(1) نشر في مجلة التوعية الإسلامية، العدد الخامس بتاريخ 24\ 11\ 1404هـ.(29/113)
أحدهما: لأنها لا صلاة لها، وليس عليها أن تتلبس بالصلاة وهي بهذا الحدث، فذلك منكر عظيم، وصلاتها باطلة.
والأمر الثاني: أنه ليس لها دخول المسجد الحرام والجلوس فيه وهي حائض، فإن الحائض والجنب ممنوعان من الجلوس في المسجد، أما المرور والعبور فلا بأس للحاجة، وأما - الجلوس في المسجد فليس للحائض ولا للجنب الجلوس في المسجد، والصلاة وهي حائض أكبر وأشنع، فلا يجوز لها هذا العمل، بل يجب عليها أن تبقى في بيتها، وليس لها أن تذهب إلى المسجد حتى تنتهي من هذه الحيضة، فإذا تطهرت منها ذهبت إذا شاءت مع أخواتها إلى المسجد.
وأما أن تذهب وهي في حالة حيض للمشاركة في الصلاة أو الجلوس مع النساء في المسجد، فهذا كله منكر ولا يجوز، والصلاة مع الحيض ومع غيره من الأحداث الكبرى والصغرى باطلة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول (1) » رواه مسلم.
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة برقم 224.(29/114)
86 - حكم إحساس المرأة
بنزول دم الحيض بعد الوضوء
س: بالنسبة لدم الحيض هل الإحساس بخروج الدم يعتبر ناقضا للوضوء؟ وهل عليها شيء في دخول الحرم؟ (1)
ج: إذا علمت بذلك لا بد من يقين، أما الشك فلا، أما الإحساس بخروج الدم فهذا فيه تفصيل، إن كانت مضطرة فلا حرج عليها، أو كان الشيء يسيرا ليس بحيض، دم لا يلوث الحرم وهو ليس بحيض لا بأس، أما إن كان الدم دم حيض فالواجب عليها الخروج، إلا إن كانت مضطرة فتتحفظ وتجلس حتى يأتي وليها أو دليلها.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1415هـ، الشريط رقم 49\4.(29/115)
87 - حكم الكدرة والصفرة بعد الطهر
س: امرأة تسأل وتقول: جاء في يوم التروية أوساخ وليس دم مادة بنية، هل يصح لي الطواف أم لا؟ مع العلم أني لم أصل(29/115)
هذا اليوم. (1)
ج: هذا يختلف، إن كان هذا بعد الطهارة فإن الأوساخ التي جاءت بعد الطهارة وليست في وقت الحيض، فهذه لا يعمل بها ولا يلتفت إليها؛ لأن الكدرة والصفرة بعد الطهر لا تعد شيئا، لا تعد حيضا بل هي من جنس البول، على صاحبتها أن تستنجي وتتوضأ وضوء الصلاة، وتتحفظ منها كلما دخل الوقت، أما إن كان هذا الوسخ جاء في أعقاب الحيض متصلا بالحيض أو في أول الحيض أو في وقت الحيض، فإنه يعتبر حيضا، فلا تصلي ولا تطوفي حتى تطهري.
فالمقصود أن هذا يختلف، وفيه تفصيل: إن كانت هذه الكدرة والصفرة البنية جاءت في أعقاب الحيض في آخره غير منفصلة فهي منه، أو جاءت في أوله غير منفصلة فهي منه، أو جاءت في وقت الحيض فهي منه، أما إذا كانت بعد الطهر كالمعتاد، جاءت بعد الطهر فهذه لا عمل عليها، تقول أم عطية رضي الله عنها: «كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئا (2) » ، لكن تعتبر مثل البول، إذا استمرت معها تستنجي قبل دخول الوقت، إذا دخل الوقت تستنجي وتتحفظ بقطن ونحوه، وتتوضأ وضوء الصلاة وتصلي وتطوف.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1406، الشريط رقم 3.
(2) صحيح البخاري الحيض (326) ، سنن أبي داود الطهارة (307) .(29/116)
88 - حكم الإحساس
بنزول دم الحيض أثناء السعي
س: هذه سائلة تقول: أخذت عمرة في شهر رمضان، وطافت بالبيت، وفي السعي أحست بنزول دم بسيط، فأكملت السعي، ثم كان ذلك الوقت وقت صلاة الظهر، فدخلت الحرم، وصليت الظهر، فهل عمرتي صحيحة وكذلك صلاة الظهر التي صليتها؟ (1)
ج: نعم السعي لا يشترط له الطهارة إذا أكملت الطواف وأنت طاهرة، فالحمد لله السعي لا يشترط له الطهارة، والطهارة أفضل، ولكن لو سعت المرأة أو الرجل على غير طهارة في السعي لا حرج، المشهور الطهارة التي تشترط من الطواف خاصة، وإن كنت صليت وأنت متيقنة خروج الدم فهي غير صحيحة، عليك أن تعيديها بعد التطهر؛ لأن الدم ناقض للوضوء، وإن كان دم الحيض فعليك أن تعيديها بعد الطهر من الحيض، وإن كان دما عارضا فاغسلي ما أصاب بدنك منه وتوضئي للصلاة وأعيديها، أما إن كان الذي نزل بك دم الحيض فهذا يتعلق بقضاء الصلاة التي
__________
(1) من أسئلة حج عام 1415 هـ، الشريط رقم 49\ 4.(29/117)
أدركتها وأنت طاهرة، إذا قضيتها بعد الطهر فحسن، وإلا فلا يلزم قضاؤها؛ لأن الحيض يمنع الصلاة، ولا يوجب القضاء والحمد لله، لكن إن قضيتها احتياطا فلا بأس.(29/118)
89 - وجوب الغسل
إذا رأت الكدرة في وقت العادة
س: امرأة بلعت حبوبا لمنع نزول الدورة أيام الحج واغتسلت من البيت، ويوم عرفة رأت كدرة ليست بقطرة ولا هي بدم، وصارت تغسل الموضع عند كل صلاة وتتوضأ، وفي مزدلفة لم تر شيئا، بل رأت الجفاف وقصة بيضاء، ورمت جمرة العقبة وذهبت إلى مكة، وطافت بالبيت وهي نظيفة، ولكن لم تغتسل للطواف، بل اعتمدت على النظافة، فما هو حكم الطواف؟ هل يجب عليها أن تغتسل مرة أخرى وتعيد الطواف؟ جزاكم الله خيرا. (1)
ج: إذا كان الذي رأيت في وقت العادة كدرة فلا بد من الغسل، تغتسلين وتعيدين الطواف إذا كان الكدرة والذي رأيت
__________
(1) من أسئلة حج عام 1418هـ، الشريط السادس.(29/118)
أنهما في وقت العادة، فالواجب الغسل، بعدما رأيت القصة البيضاء تغتسلين وتعيدين الطواف؛ لأنك طفت وأنت حائض في المعنى في الحكم، فعليك الغسل وإعادة الطواف.(29/119)
90 - حكم قراءة الحائض للقرآن
س: ما حكم قراءة الحائض للقرآن بدون أن تمس المصحف؟ (1)
ج: في المسألة خلاف بين العلماء، والأقرب والأظهر أنه لا حرج؛ لأن مدة الحيض تطول، وليست مثل الجنب فمدته قصيرة يغتسل ثم يقرأ، أما الحائض والنفساء فإن مدتهما تطول، والأرجح والأصوب أنه لا حرج عليهما في القراءة عن ظهر قلب، هذا هو الأصل، ولا يجوز أن يقاس الحيض على الجنابة، فالحيض مدته تطول، والنفاس مدته أطول، أما حديث: «لا تقرأ الحائض شيئا من القرآن (2) » فهو حديث ضعيف لا تقوم به
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط الأول.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا يقرآن القرآن برقم 131، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة برقم 596.(29/119)
الحجة.
والأرجح أنه لا حرج عليها - يعني الحائض - أن تقرأ عن ظهر قلب، ولا تقرأ من المصحف، بل عن ظهر قلب، وهكذا النفساء من باب أولى، أما الجنب فلا يقرأ القرآن لا عن ظهر قلب ولا من المصحف حتى يغتسل للحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان لا يمنعه شيء من القرآن إلا الجنابة (1) » ، وفي حديث آخر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ بعض الآيات ثم قال: «هذا لمن ليس جنبا، أما الجنب فلا، ولا آية (2) » .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة برقم 594.
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسند العشرة المبشرين بالحنة ومن مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه برقم 874.(29/120)
س: هل يجوز للمرأة أن تقرأ القرآن الكريم في أيام عذرها؟ وهل يجوز للمرأة أن تقرأ القرآن الكريم إذا أوت إلى النوم وتقرأ آية الكرسي بدون أن تلمس المصحف؟ نرجو من سماحة الشيخ أن يتفضل بإشباع هذا الموضوع حتى نكون فيه على بصيرة. (1)
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، رقم الشريط 32، ونشرت في المجموع ج 6 ص 364.(29/120)
ج: الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله، أما بعد:
فقد سبق أن تكلمت في هذا الموضوع غير مرة، وبينت أنه لا بأس ولا حرج أن تقرأ المرأة وهى حائض أو نفساء ما تيسر من القرآن عن ظهر قلب؛ لأن الأدلة الشرعية دلت على ذلك، وقد اختلف العلماء رحمة الله عليهم في هذا:
فمن أهل العلم من قال: إنها لا تقرأ كالجنب، واحتجوا بحديث ضعيف رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (1) » ، وهذا الحديث ضعيف عند أهل العلم؛ لأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين، وروايته عنهم ضعيفة، وبعض أهل العلم قاسها على الجنب قال: كما أن الجنب لا يقرأ فهي كذلك؛ لأن عليها حدثا أكبر يوجب الغسل، فهي مثل الجنب.
والجواب عن هذا أن هذا قياس غير صحيح؛ لأن حالة الحائض والنفساء غير حالة الجنب، الحائض والنفساء مدتهما تطول وربما شق عليهما ذلك، وربما نسيتا الكثير من حفظهما للقرآن الكريم، أما الجنب فمدته يسيرة، متى فرغ من حاجته اغتسل وقرأ، فلا يجوز قياس الحائض والنفساء عليه، والصواب من قول العلماء أنه لا حرج على الحائض والنفساء أن
__________
(1) سبق تخريجه.(29/121)
تقرأ ما تحفظان من القرآن، ولا حرج أن تقرأ الحائض والنفساء آية الكرسي عند النوم، ولا حرج أن تقرأ ما تيسر من القرآن في جميع الأوقات عن ظهر قلب، هذا هو الصواب، وهذا هو الأصل، ولهذا «أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة لما حاضت في حجة الوداع قال لها: افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري (1) » ، ولم ينهها عن قراءة القرآن.
ومعلوم أن المحرم يقرأ القرآن، فيدل ذلك على أنه لا حرج عليها في قراءته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما منعها من الطواف لأن الطواف كالصلاة، وهي لا تصلي، وسكت عن القراءة، فدل ذلك على أنها غير ممنوعة من القراءة، ولو كانت القراءة ممنوعة لبينها لعائشة ولغيرها من النساء في حجة الوداع وفي غير حجة الوداع، ومعلوم أن كل بيت في الغالب لا يخلو من الحائض والنفساء، فلو كانت لا تقرأ القرآن لبينه صلى الله عليه وسلم للناس بيانا عاما واضحا حتى لا يخفى على أحد.
أما الجنب فإنه لا يقرأ القرآن بالنص، ومدته يسيرة، متى فرغ تطهر وقرأ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحيانه إلا إذا كان جنبا انحبس عن القرآن حتى يغتسل عليه الصلاة
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت برقم 305، ومسلم في كتاب الحج، باب بيان وجوب الإحرام وأنه يحوز إفراد الحج برقم 1211.(29/122)
والسلام، كما قال علي رضي الله عنه: «كان عليه الصلاة والسلام لا يحجبه شيء عن القرآن سوى الجنابة (1) » ، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ بعدما خرج من محل الحاجة، فقد قرأ وقال: «هذا لمن ليس جنبا، أما الجنب فلا، ولا آية (2) » ، فدل ذلك على أن الجنب لا يقرأ حتى يغتسل.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة برقم 594.
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسند العشرة المبشرين بالحنة ومن مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه برقم 874.(29/123)
س: إننا طالبات ندرس في مدرسة بنات، وفي حصة القرآن الكريم يأمرنا الأستاذ بقراءة القرآن ونكون في حالة العذر، ونستحي أن نخبر الأستاذ فنقرأ مراعاة لذلك، فهل يجوز هذا؟ وإن كان لا يجوز فكيف نعمل أيام الامتحان إذا صادفتنا ونحن في حال الدورة الشهرية؟ (1)
ج: اختلف العلماء رحمة الله عليهم في قراءة الحائض والنفساء للقرآن الكريم، فذهب جماعة من أهل العلم إلى تحريم ذلك، وألحقوهما بالجنب، وقالوا: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الجنب لا يقرأ القرآن؛ لأن الجنابة حدث
__________
(1) نشر في المجموع ج 6 ص 360.(29/123)
أكبر، والحيض مثل ذلك، والنفاس مثل ذلك، فقالوا: لا تقرأ الحائض ولا النفساء حتى تطهرا، واحتجوا أيضا بحديث رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (1) » .
وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنه يجوز للحائض والنفساء قراءة القرآن عن ظهر قلب؛ لأن مدتهما تطول أياما كثيرة فلا يصح قياسهما على الجنب؛ لأن مدته قصيرة لأن في إمكانه إذا فرغ من حاجته أن يغتسل ويقرأ، أما الحائض والنفساء فليس في إمكانهما ذلك، وقالوا في الحديث السابق الذي احتج به المانعون: إنه حديث ضعيف، ضعفه أهل العلم لكونه من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين، وروايته عنهم ضعيفة، وهذا القول هو الصواب.
فيجوز للحائض والنفساء قراءة القرآن عن ظهر قلب؛ لأن مدتهما تطول، فقياسهما على الجنب غير صحيح، فعلى هذا لا بأس أن تقرأ الطالبة القرآن، وهكذا المدرسة في الامتحان وغير الامتحان عن ظهر قلب لا من المصحف، أما
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (131) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596) .(29/124)
إن احتاجت إحداهن إلى القراءة من المصحف فلا حرج عليها بشرط أن يكون ذلك من وراء حائل كالقفازين ونحوهما.(29/125)
91 - حكم قضاء المرأة
لصلاة الظهر إذا طهرت وقت صلاة العصر
س: إذا طهرت المرأة من حيضها في أحد الأوقات الخمسة للصلاة فماذا يلزمها؟ هل تصلي؟ وهل تقضي الصلاة التي كانت قبل طهرها مباشرة كأن تطهر في وقت العصر؟ فهل تقضي الظهر أو أن تطهر في وقت المغرب؟ فهل تقضي العصر وهكذا؟ أفتونا مأجورين. (1)
ج: إذا طهرت في وقت صلاة تجمع إلى ما يليها فإنها تصلي الاثنتين، فإذا طهرت في وقت العصر فإنها تصلي الظهر والعصر، وإذا طهرت في وقت العشاء فإنها تصلي المغرب والعشاء، وإذا طهرت بعد طلوع الفجر فإنها تصلي الفجر فقط، هذا الواجب عليها كما أفتى بذلك جماعة من الصحابة رضوان
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1644، 10 صفر 1419 هـ.(29/125)
الله عليهم؛ لأنها كالمريض يجمع بين الصلاتين، فإن طهرت في العصر فهي كالمريض تصلي الظهر والعصر، وإذا طهرت في الليل صلت المغرب والعشاء، أما إذا لم تطهر إلا بعد طلوع الفجر فإنها تصلي الفجر فقط كما تقدم، أما إن كان تطهرها وانقطاع الدم عنها بعد طلوع الشمس فلم تطهر إلا الضحى، فليس عليها شيء؛ لأن وقت صلاة الفجر قد زال وذهب وقتها، ولكن إذا طهرت في وقت صلاة كأن تطهرت قبل طلوع الشمس فإنها تصلي الفجر، وإذا طهرت قبل الفجر فإنها تصلي المغرب والعشاء، وإذا طهرت قبل غروب الشمس فإنها تصلي الظهر والعصر كما سبق.(29/126)
س: امرأة علمت مؤخرا أن المرأة إذا طهرت بعد صلاة العصر عليها جمع الظهر والعصر، وكذلك جمع المغرب والعشاء بعد الطهر، وعندما سألت قيل لها أن تقضي كل الصلوات التي لم تصلها، فما هي المدة التي يجب عليها أن تقضيها؟ أثابكم الله. (1)
ج هذا هو الواجب، إذا طهرت في العصر أن تصلي
__________
(1) من أسئلة حج عام 1418 هـ، شريط رقم 4.(29/126)
الظهر والعصر، وإذا طهرت في الليل تصلي المغرب والعشاء، وإذا كانت المرأة جاهلة ومضى مدة طويلة يعفو الله عنها إن شاء الله، ولا حرج عليها فيما مضى، وتعمل في المستقبل، والماضي يعفو الله عنه بسبب الجهل.(29/127)
92 - النفساء إذا طهرت تلزمها
الصلاة وكذا الصيام ولو لم تكمل الأربعين
س: امرأة في النفاس ومضى خمسة وعشرون يوما فرأت الطهر فهل تصوم لأن ذلك كان في شهر رمضان؟ (1)
ج: النفساء إذا رأت الطهر يلزمها أن تغتسل وأن تصوم إذا كانت في رمضان، وأن تصلي ولو كانت في خمس وعشرين أو لعشرين أو لشهر، ليس من اللازم أن تكمل الأربعين، متى رأت الطهارة بعد الولادة ولو بأيام قليلة فإنها تغتسل وتصلي وتصوم وتحل لزوجها، وإن استمر معها الدم حتى كملت الأربعين فإنها تغتسل أيضا وتصلي وتصوم ولو معها الدم بعد الأربعين؛ لأن
__________
(1) من أسئلة حج 1407هـ، شريط رقم 10.(29/127)
النهاية أربعون يوما، فإذا زاد الدم على الأربعين فهذا دم فاسد يعتبر كالاستحاضة لا يمنع الصلاة ولا الصوم، ولا يمنع حلها لزوجها، بل تغتسل وتصلي وتصوم وتتوضأ لوقت كل صلاة؛ لأنه دم فاسد كالسلس تصلي وتصوم وتحل لزوجها وتتوضأ لكل صلاة، هذا إذا بلغ الأربعين، أما إذا رأت الطهر قبل الأربعين وهي أم خمس وعشرين أو عشرين أو ثلاثين فإنها تغتسل أيضا وتصلي وتصوم، ولو أنها ما كملت الأربعين.(29/128)
93 - مسألة في طهارة
المرأة من دم الحيض والنفاس
س: امرأة طهرت من دم النفاس بعد ثلاثين يوما فاغتسلت وصلت، وبعد شهر ونصف جاءتها الدورة وتعدت سبعة أيام، هل تصلي أم لا؟ مع العلم أن أيام دورتها العادية ستة أيام. (1)
ج: النفساء إذا طهرت قبل الأربعين تغتسل وتصلي وتصوم، إذا طهرت بعد عشرة أيام أو عشرين يوما تغتسل وتصلي والحمد
__________
(1) من أسئلة حج عام 1418 هـ بمنى.(29/128)
لله، وإذا عاد الدم عليها في الأربعين تجلس ولا تصلي ما دامت في الأربعين، وإذا كملت الأربعين تغتسل وتصلي وتصوم ولو حصل معها دم، فإنه يكون دم فساد تتوضأ لكل صلاة، أما إذا طهرت وانتهت الأربعون ثم جاءتها العادة تجلس للعادة عادتها المعروفة ستة أو سبعة أيام عادتها المعروفة عندها تجلسها، وإذا زادت يوما أو يومين متصلة على العادة فلا بأس، أما إذا استمر الدم معها فيكون دم استحاضة إذا استمر معها الدم أو رأت الطهارة، ثم جاءها دم جديد، هذا يكون دم استحاضة أو استمر أكثر من خمسة عشر يوما قد يكون استحاضة، فإذا كانت عادتها ست أو سبع ليال ثم طهرت ثم جاءها دم بعد الطهارة تعتبر هذا دم فساد تصلي وتصوم وتتوضأ لكل صلاة كسائر المستحاضات، أما إذا استمر على حاله ستا أو سبعا فهذا إلى خمسة عشر فهو حيض، وإن زاد فهو استحاضة، فإن وقف واستقر عادة لها فلا بأس، ولكن الأحوط لها أن تلاحظ حتى لا يصيبها شك وتردد إذا تجاوزت العادة مجاوزة بينة تغتسل وتصلي وتصوم إذا كان الذي تجاوز العادة من الدم خلاف دم العادة، عادتها ست أو سبع ثم جاوز، جاءها دم صفرة أو كدرة بعد ذلك تغتسل وتصلي وتصوم، لأن هذا دم استحاضة، والحمد لله.(29/129)
94 - حكم صلاة من أسقطت جنينا دون أن يتخلق
س: علي صلاة بسبب تسقيط جنين عمره سبعة أسابيع، لم أصل جهلا مني؛ لأنني اعتبرت أنه نفاس، وكيف القضاء وتركت الصلاة لمدة نصف شهر لا أدري أكثر أو أقل هل يجوز أن أصلي في منى صلاتين التي علي من قبل ثلاث سنوات والصلاة الواجبة؟ (1) .
ج: إذا كان الجنين فد بان فيه علامة الإنسان من يد أو رجل فهو نفاس، وإن كان ما بان فيه شيء إنما هو دم فقط، فالمرأة تصلي وتتحفظ بحفائظ وتتوضأ لكل صلاة وتصلي، وإن قضيت هذا احتياطا، وإلا إن شاء الله ليس عليك شيء لأنك تركتها لشبهة تظنين ليس عليك شيء، والنبي صلى الله عليه وسلم ما أمر المستحاضات اللواتي تركن الصلوات لشبهة ما أمرهن بالقضاء، ولم يأمر الأعرابي الذي ينقر الصلاة ما أمره أن يقضي الأيام الماضية لجهله، وإن قضيتها فلا بأس، ولكن لا يلزمك ذلك، لأنك
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في حج عام 1418 هـ.(29/130)
جاهلة، وإن كان فيه علامة إنسان؛ لأنه في الطور الثالث قد يكون فيه يد أو رجل، في الأربعين الثالثة قد يبين فيه يد أو رجل أو رأس يكون نفاسا، لا تصلي ولا تصومي، والمقصود أنه ليس عليك قضاء؛ لأجل الشبهة، وإنما عليك التوبة والحرص في المستقبل.(29/131)
صفحة فارغة(29/132)
كتاب ملحقات الصلاة(29/133)
صفحة فارغة(29/134)
باب الأذان والإقامة
95 - حكم تأخير الأذان لعذر
س: هل يجوز تأخير الأذان بخمس دقائق لعذر؟ (1)
ج: الأمر في هذا واسع إذا كان التأخير يسيرا كخمس دقائق، والمشروع للمؤذن أن يحافظ على الوقت حتى يؤذن مع الناس.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.(29/135)
96 - قول: (الصلاة خير من النوم) تقال في الأذان الثاني من الفجر
س: حديث أبي محذورة رضي الله عنه قد يكون فيه شبهة؛ لأنه التقى بالنبي في العام الثامن من الهجرة وقال له: «ألا أعلمك الأذان، قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ يلقنه(29/135)
الأذان، حتى قال له: إذا كنت في أذانك الأول فقل: الصلاة خير من النوم (1) » وحديث آخر؟
ج: الأول أذان الفجر، والثاني الإقامة تسمى الإقامة أذانا ثانيا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «بين كل أذانين صلاة وفي الثالثة قال: لمن شاء (2) » الأذان الأول هو: الأذان عند طلوع الفجر، ما هو الأذان الأول الذي تعرف.
__________
(1) أخرجه أحمد في مسند المكين أحاديث أبي محذورة المؤذن رضي الله تعالى عنه برقم 14951.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب بين كل أذانين صلاة لمن شاء برقم 624، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بين كل أذانين صلاة برقم 838.(29/136)
س: وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم (1) » ؟
ج: هذا في رمضان.
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2656) ، صحيح مسلم الصيام (1092) ، سنن الترمذي الصلاة (203) ، سنن النسائي الأذان (637) ، موطأ مالك النداء للصلاة (163) ، سنن الدارمي الصلاة (1190) .(29/136)
س: في الحديث الآخر عندما «قال بلال: " الصلاة خير من النوم " قال له النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلها في أذانك (1) » ؟
__________
(1) سنن ابن ماجه الأذان والسنة فيه (716) ، سنن الدارمي الصلاة (1192) .(29/136)
ج: هذا في أذان الفجر عند طلوع الفجر؛ لأن أذان الفجر إذا أطلق فهو عند طلوع الفجر الصبح الذي يبيح الصلاة ويمنع الطعام للصائم، أما الأول فذاك للتنبيه، ولا بأس به لإيقاظ الناس، لكن الأفضل أن يكون قول: " الصلاة خير من النوم " في الأخير الذي هو تنبيه على الفجر، ولهذا جاء في حديث عائشة أن بلالا كان يقول في أذانه الأول: الصلاة خير من النوم، ثم يصلي ركعتين، فيقوم الناس للسنة بين الأذان والإقامة، فالأول الفجر، والثاني هو الإقامة، أما ذاك فيسمى أولا، لأنه قبل الفجر ليوقظ النائم ويرجع القائم، وهو أذان تنبيه ليس أذان صبح. وينبغي أن يتفقوا حتى لا يشتبه الأمر، فإذا اتفقوا على الأول فلا بأس، ولو اتفقوا على الثاني فلا بأس، حتى لا يشتبه الأمر على العامة والناس. المصيبة الاختلاف، هذا هو الذي يضر الناس.(29/137)
97 - حكم أذان المنفرد
س: أنا شيخ أصلي في البيت لا أستطيع الذهاب إلى المسجد وأسمع الأذان من التلفاز ثم أتوضأ ثم أؤذن وأصلي السنة ثم أقيم الصلاة وأصلي. فهل عملي هذا صحيح، هل يجوز لي الأذان؟(29/137)
ج: إذا كنت لا تستطيع الذهاب إلى المسجد فلا حرج عليك في الصلاة في البيت، ويشرع لك الأذان إذا كنت لا تسمع أذان البلد؛ لبعدك من المساجد. أما إن كانت المساجد قريبة، ولكنك لا تسمع الأذان؛ بسبب ضعف سمعك، فلا يشرع لك الأذان، يكفي أذان المسجد. أما الإقامة فتشرع لك الإقامة كلما صليت في البيت.(29/138)
98 - مسألة في الأذان
س: م. أ. أ. من الدار البيضاء يقول في سؤاله: هل هناك فرق بين قول: أشهد أن لا إله إلا الله، بتسكين النون، وبين أشهد أن لا إله إلا الله بتشديدها. نرجو الإفادة جزاكم الله خيرا (1) .
ج: المشروع في الأذان تسكين النون، مع إدغامها في اللام، والمعنى: أشهد أنه لا إله إلا الله، أما تشديدها فلا أصل له في الرواية ولا ينبغي فعله. ومعنى ذلك لو صحت الرواية به: أشهد أنه لا إله إلا الله. . ولكن لا أعلم لذلك أصلا في السنة المروية عن مؤذني النبي صلى الله عليه وسلم. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سؤال موجه من المجلة العربية، وأجاب عنه سماحته بتاريخ 18\ 2 \ 1419هـ(29/138)
99 - الترجيع في الأذان
س: الترجيع في الأذان هل هو في الأذان الأول أم في الثاني، وهل الأذان الأول في رمضان أم في رمضان وغيره؟
ج: الترجيع في كل أذان، وليس في أذان واحد، علمه الرسول صلى الله عليه وسلم أبا محذورة في مكة، والترجيع يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله بصوت ليس برفيع، ثم يعيدها بصوت أرفع، هذا الترجيع يأتي بالشهادتين بصوت ليس بالرفيع جدا، ثم يعيدها بصوت أرفع يقال له الترجيع. وأما عدم الترجيع بأن يأتي بالشهادتين مثل أذان الناس اليوم لا يكرر، هذا هو الأفضل الذي فعله بلال بين يدي رسول الله في المدينة، حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم، يؤذن بين يديه بلال بدون ترجيع، أذان الناس اليوم يكفي هو الأفضل.(29/139)
100 - ماذا يقول من سمع المؤذن
س: هل ثبت في الوسيلة بعد الأذان قول: الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد، أم يكفي " وابعثه اللهم المقام المحمود " فقط، وكذلك عند الإقامة، ماذا يقال عند قول: " قد قامت الصلاة "؟ (1) .
ج: يستحب للمسلم إذا سمع الأذان أن يقول مثل قول المؤذن إلا في الحيعلتين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول (2) » . متفق على صحته، ولما روى مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما سمع الأذان قال مثل قول المؤذن وعندما سمع حي على الصلاة، حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال مثل قول المؤذن في آخر الأذان، ثم قال
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 1 ص 253، 254
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي برقم 611، ومسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه برقم 384 واللفظ له.(29/140)
عليه الصلاة والسلام: من قال ذلك من قلبه دخل الجنة (1) » ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حفت له الشفاعة (2) » رواه مسلم في صحيحه.
وروى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة (3) » . زاد البيهقي بسند جيد عن جابر بعد قوله: الذي وعدته: " إنك لا تخلف الميعاد ".
ويستحب أن يجاب المقيم كما يجاب المؤذن، ويقول
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه برقم 385.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه برقم 384.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الدعاء عند النداء برقم 614.(29/141)
عند قول المقيم: " قد قامت الصلاة " مثله: " قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة " كما يستحب أن يقول عند قول المؤذن في أذان الفجر " الصلاة خير من النوم " مثله: " الصلاة خير من النوم " لعموم الأحاديث المذكورة وغيرها.
أما ما يروى عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال عند الإمامة: «أقامها الله وأدامها (1) » ، فهو حديث ضعيف لا يعتمد عليه. وبالله التوفيق.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب: ما يقول إذا سمع الإقامة برقم 528.(29/142)
101 - مسألة في قول: الصلاة خير من النوم
س: هل يقول: " المؤذن الصلاة خير من النوم " في الأذان الأول أم الثاني، وما الدليل على ذلك؟ (1)
ج: جائز في كل منهما لكن في الثاني أولى، الثاني الذي عند طلوع الفجر أولى، لأنه صح من حديث عائشة، ومن حديث أبي محذورة ما يدل على ذلك، وأن المؤذن كان يقولها في صلاة الفجر، وإذا فرغ المؤذن قام النبي فصلى ركعتين، ثم خرج
__________
(1) من فتاوى الحج الشريط الرابع.(29/142)
إلى الصلاة، كما قالت عائشة رضي الله عنها؛ فالسنة أن يكون في الفجر عند الأذان الأخير الذي يؤذن عند طلوع الفجر؛ لأن الصلاة خير من النوم هي صلاة الفريضة، أما النافلة فقد تكون خيرا من النوم، وقد يكون النوم أفضل منها، إذا احتاج إليه، أما الفريضة فهي خير من النوم على كل حال.(29/143)
102 - حكم قول: حي على خير العمل في الأذان
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم س. م. أ. وفقه الله لكل خير وزاده من العلم والإيمان آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد (1) :
فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ بدون، وصلكم الله بحبل الهدى والتوفيق، والحمد لله الذي هداك لمذهب أهل السنة والجماعة؛ وهو دين الله الذي بعث به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ودرج عليه أصحابه رضي الله عنهم وأتباعهم
__________
(1) خطاب موجه من سماحته برقم 801 \ خ في 9\ 5\ 1419 هـ إلى الأخ س. م. أ.(29/143)
بإحسان. وأما سؤالكم فهذا جوابه:
قولكم في الأذان: حي على خير العمل؟
هذا اللفظ لا أصل له في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعلمه صلى الله عليه وسلم المؤذنين فهو بدعة، والواجب تركه، وإن روي عن بعض السلف أنه فعله، لقول الله عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) الآية.
__________
(1) سورة الشورى الآية 10(29/144)
103 - حكم أداء تحية المسجد أثناء الأذان
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ح. أ. ح. سلمه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم (513) وتاريخ 5 / 2 / 1407 هـ الذي تسأل فيه عن جملة من الأسئلة (1) .
__________
(1) صدر من مكتب سماحته في 27\ 3\ 1407هـ(29/144)
وأفيدك بأنه إذا دخل الرجل المسجد، والمؤذن يؤذن فهو مخير إن شاء صلى تحية المسجد في حال الأذان، وإن شاء أجاب المؤذن، والأفضل أن يجيب المؤذن ثم يصلي، جمعا بين العبادتين وتحصيلا للأجرين.
أما الصلاة فصلها بالمسجد الذي فيه جماعة ولا تصلها بالمسجد الذي ليس فيه أحد غيرك. وفق الله الجميع لما فيه رضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(29/145)
س: صاحبنا هذا يسأل أخيرا عن نقطتين يقول في إحداهما: هل على المسلم ضير في تفضيل بعض فروض الصلاة على بعض، كأن يحب صلاة المغرب مثلا أكثر من غيرها، وماذا يجب على المسلم قبل دخوله في الصلاة، هل يجب عليه أن يأتي بالأذان أم يدعو دعاء آخر، أفيدونا أفادكم الله؟ (1)
ج: على المؤمن أن يحب كل ما شرع الله من الصلوات وغيرها، فيحب الصيام ويحب الحج ويحب كل ما شرع الله، هكذا المؤمن يحب ما أحبه الله، ويكره ما كره الله، لكن إذا كان
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) الشريط رقم 104.(29/145)
حبه لشيء من العبادة أكثر، فلا أعلم فيه مانعا كأن يكون محبا للعصر وللفجر أكثر من غيرهما، فلا أعلم مانعا من ذلك، لما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صلى البردين دخل الجنة (1) » والبردان هما الفجر والعصر؛ ولما جاء في العصر أنها الصلاة الوسطى، وهكذا من أحب سنة الضحى أكثر من سنة الليل، أو سنة الليل أكثر من سنة الضحى أو ما أشبه ذلك، أو صوم الاثنين والخميس أكثر، لأن صوم الاثنين والخميس لهما مزية بنص النبي عليه الصلاة والسلام على صومهما، فالمقصود أن الواجب حب جميع ما شرع الله، وكراهة ما نهى الله عنه، فإذا فضل بعض المشروع بالحب أكثر لأسباب دعت إلى ذلك فلا أعلم فيه مانعا شرعيا.
أما بالنسبة لما يقوله المسلم قبل دخوله في الصلاة، فالمشروع له هو ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم عند الدخول في المسجد يقدم رجله اليمنى ويقول: «بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله أعوذ بالله العظيم وبوجهه
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة الفجر برقم 574، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما برقم 635.(29/146)
الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم اللهم افتح لي أبواب رحمتك (1) »
وعند الخروج يسن أن يسمي الله ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: «اللهم إني أسألك من فضلك اللهم أجرني من الشيطان (2) » ولا يشرع له قول خاص ولا دعاء خاص عند الدخول في الصلاة؛ لأنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول شيئا عند الدخول في الصلاة فيما أعلم، ولكنه ينوي سرا الصلاة التي يريد الدخول فيها ظهرا أو عصرا أو مغربا أو عشاء أو فجرا أو نافلة ينويها بقلبه، ثم يكبر ولا يتلفظ بالنية، وأما ما يفعله بعض الناس من قوله: نويت أن أصلي كذا وكذا، فهذا لا أصل له، بل هو بدعة وإنما ينوي بقلبه ويكبر، هذا هو المشروع.
وأما الأذان فلا يشرع لكل مصل، بل يكفي من فاتته الصلاة أذان مؤذن المسجد، ويشرع له أن يقيم، وهكذا المريض الذي
__________
(1) أخرجه مسلم بنحوه في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: ما يقول إذا دخل المسجد برقم 713، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب: فيما يقوله الرجل عند دخوله المسجد برقم 465، 466.
(2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: ما يقول إذا دخل المسجد برقم 713، وابن خزيمة في صحيحة، باب السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ج1 برقم 452.(29/147)
لا يستطع الحضور للمسجد يكفيه أذان المسلمين إذا كان يسمعه، ويشرع له أن يقيم، أما من كان في مكان أو بلد ليس فيه أذان فإنه يؤذن لنفسه ويقيم، وهكذا المسافر إذا حضرت الصلاة في أي مكان من السفر أذن وأقام.(29/148)
104 - حكم إقامة الصلاة بدون إقامة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ع. م. ع. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد (1) :
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم (1790) وتاريخ 11\5\1407 هـ الذي تسأل فيه عن عدد من الأسئلة وأفيدك بأن الصلاة بدون إقامة صحيحة، لأنها من فروض الكفاية ولكن لا ينبغي تعمد تركها. وفق الله الجميع لما فيه رضاه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) جواب صدر من مكتب سماحته برقم 1672\ 2 في 13\ 6\ 1407هـ.(29/148)
105 - حكم قول: " أقامها الله وأدامها " عند إقامة الصلاة
س: عند قول المؤذن: قد قامت الصلاة يقول بعض المصليين: أقامها الله وأدامها، ونحن نعلم في ذلك حديثا ضعيفا فما قولكم؟ (1) .
ج: السنة أن يقول: قد قامت الصلاة، مثل المؤذن قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، أما حديث: «أقامها الله وأدامها (2) » فهو حديث ضعيف مثل ما قال السائل، لأن في روايته شخصا مبهما شخص مجهول، والسنة أن يقول مثل ما يقول في أذان الفجر: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، مثل المؤذن وهكذا في الإقامة: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول (3) » رواه الشيخان من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
__________
(1) من أسئلة حج 1408هـ.
(2) سنن أبي داود الصلاة (528) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه برقم 384.(29/149)
صفحة فارغة(29/150)
باب شروط الصلاة
106 -
نصيحة في الحث على العناية بالصلاة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من تبلغه هذه النصيحة من إخواننا المسلمين أئمة المساجد والمأمومين وسواهم. سلك الله بنا وبهم صراطه المستقيم، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد (1) :
فغير خاف على الجميع شأن الصلاة في الإسلام، إذ هي عموده، بها يستقيم دين المسلم، وتصلح أعماله، ويعتدل سلوكه في شؤون دينه ودنياه، متى أقيمت على الوجه المشروع عقيدة وعبادة، وتأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، لما لها من خاصية، قال الله عنها في محكم التنزيل: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (2)
__________
(1) نشر في رسالة إلى أئمة المساجد وخطباء الجوامع، جمع وتحقيق الشيخ عبد الله الجار الله عام 1418 هـ.
(2) سورة العنكبوت الآية 45(29/151)
وقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (1) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2) ، وكما أن هذا شأنها، فهي أيضا مطهرة لأدران الذنوب ماحية للخطايا. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا (3) » متفق عليه.
فحري بالمسلم تجاه فريضة هذا شأنها ألا يفرط فيها، كيف وهى الصلة بينه وبن ربه تعالى، كما أنها جديرة بالتفقه في أحكامها، وغير ذلكم مما شرع الله فيها، حتى يؤديها المؤمن بغاية الخشوع والإحسان والطمأنينة ظاهرا وباطنا. فعن عثمان ابن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 1
(2) سورة المؤمنون الآية 2
(3) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلوات الخمس كفارة برقم 528، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا برقم 667.(29/152)
وسلم يقول: «ما من امرئ تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله (1) » رواه مسلم.
فعليكم معشر المسلمين بتقوى الله في أموركم عامة، وفي صلاتكم خاصة، أن تقيموها محافظين عليها وحافظين لها عما يبطلها أو ينقص كمالها، من تأخير لها عن أوقاتها الفاضلة من غير عذر شرعي، أو التثاقل عن أدائها جماعة في المساجد، أو الإتيان فيها بما يذهب الخشوع ويلهي القلوب عن استحضار عظمة من تقفون بين يديه تعالى، وتدبر لكلامه وذكره ومناجاته جل شأنه، من نحو تشاغل في أمور خارجة عنها، أو حركات غير مشروعة فيها، كالذي يحدث من البعض عبثا، من تعديل لباسه من غترة وعقال، ونظر إلى الساعة، أو تسريح شعر لحية ونحوها بعد الإحرام بها. كل هذا مما ينافي الخشوع الذي هو لب الصلاة وروحها وسبب قبولها. وتحذيرا من مثل هذا جاء الحديث: «إن الرجل ليقوم في الصلاة ولا يكتب له منها إلا نصفها إلى أن قال: إلا عشرها (2) » رواه أبو داود بإسناد جيد.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه برقم 228.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما جاء في نقصان الصلاة برقم 796.(29/153)
فعلى الجميع عامة، وعلى الأئمة خاصة، أن يكونوا على جانب كبير من الفقه في أحكام الصلاة، وأن يكونوا قدوة حسنة في إقامة هذه الشعيرة العظيمة؛ لأنه يقتدي بهم المأمومون، ويتعلم منهم الجاهل والصغير، وربما ظن البعض من العامة أن ما يفعله الإمام، ولو كان خلاف السنة أنه سنة، ولا سيما بعض المسلمين الوافدين من بعض البلدان الخارجية، ممن لا يعرف أحكام الصلاة على الوجه المشروع، كما أن مما تساهل فيه بعض الأئمة وبعض المأمومين العناية بتسوية الصفوف واستقامتها، والتراص فيها، وهو أمر يخشى منه؛ للوعيد الوارد، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم (1) » رواه مسلم.
وفي المتفق عليه: «لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم (2) » . وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول برقم 432.
(2) صحيح البخاري الأذان (717) ، صحيح مسلم الصلاة (436) ، سنن الترمذي الصلاة (227) ، سنن النسائي الإمامة (810) ، سنن أبي داود الصلاة (665) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (994) ، مسند أحمد (4/276) .(29/154)
صلى الله عليه وسلم: «سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة (1) » متفق عليه. فكانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحث على تسوية الصفوف، والحث على المحافظة على أداء الصلوات في المساجد جماعة، كما درج عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان سلفا وخلفا، وفي ذلك الأجر العظيم من الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح (2) » متفق عليه.
وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تطهر في بيته ثم مضى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداها تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة (3) » رواه مسلم.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب إقامة الصف من تمام الصلاة برقم 723، ومسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول برقم 433 واللفظ له.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب فضل من غدا إلى المسجد ومن راح برقم 662، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا برمم 666.
(3) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا برقم 666(29/155)
وإذا علم هذا، فمما يجب الحذر منه ظاهرة التثاقل من البعض عن صلاة العشاء وصلاة الفجر في المساجد جماعة، وهي عادة خطيرة؛ لأنها من صفات المنافقين لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا (1) » فلا عذر ولا رخصة دونما عذر شرعي لمن سمع النداء فلم يجب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر (2) » ، واستأذنه رجل أعمى ليس له قائد يلازمه هل له رخصة أن يصلي في بيته قال صلى الله عليه وسلم: «هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم. قال: فأجب (3) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب فضل العشاء في جماعة برقم 657، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف برقم 651.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن يسمع النداء فلا يجب برقم 217.
(3) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء برقم 653(29/156)
وفي رواية أخرى قال: «لا أجد لك رخصة (1) » ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «من سره أن يلقى الله غدا مسلما؛ فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف (2) » رواه مسلم.
فهذه الأحاديث وما جاء في معناها دليل على وجوب حضور الجماعة حيث ينادى بالصلاة، وفي امتثالها طاعة الله ورسوله وسعادة الدارين والبعد عن مشابهة أهل النفاق وصفاتهم. فأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه، وأن يرزقنا الاستقامة على دينه، والمحافظة على هذه الصلوات الخمس حيت ينادى بهن، وأداءهن، والخشوع الكامل رغبة فيما عند
__________
(1) أخرجه أحمد في مسند المكين حديث عمرو بن أم مكتوم رضي الله عنه برقم 15064.
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صلاة الجماعة من سنن الهدى برقم 654.(29/157)
الله، وحذرا من عذابه، إنه ولي هذا والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(29/158)
107 - حكم تارك الصلاة تهاونا وكسلا
س: ما حكم تارك الصلاة تهاونا وكسلا، وإذا كان يكفر كفرا أكبر فما حكم زواجه بالمسلمة، أو زوجته المسلمة وأولاده إذا كان قد عقد له وهو تارك للصلاة، أو ترك الصلاة بعد ذلك؟ (1)
ج: التارك للصلاة قد أتى منكرا عظيما وذنبا كبيرا، فإن الصلاة عمود الإسلام فمن تركها كفر في أصح قولي العلماء. بعض العلماء يرى أنه أتى منكرا عظيما ولكن لا يكون كفره كفرا
__________
(1) سؤال موجه إلى سماحته بعد محاضرته في اليوم الثامن من ذي الحجة عام 1402 هـ في منى.(29/158)
أكبر، بل كفر أصغر، ولكن الصحيح أنه كفر أكبر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » وقال: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة (2) » وقال عليه الصلاة والسلام: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (3) » وهذا هو المعروف عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم جعلوه كافرا. فإذا تزوج مسلمة وهو لا يصلي يكون النكاح غير صحيح. لكن لو زوجه من يعتقد صحة النكاح، أو جاهلا بحاله يكون أولاده تابعين له وشرعيين من أجل الشبهة، وعليه أن يجدد النكاح على المسلمة إذا تاب إلى الله وهداه الله، وأما إذا لم يتب فالواجب التفريق بينهما؛ لأنه ليس كفؤا لها، كما قال الله تعالى في الكافر والمسلمة:
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند، باقي مسند الأنصار حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه برقم 22428.
(2) أخرجه أحمد في المسند، مسند الأنصار حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه برقم 21563.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 82.(29/159)
{لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (1) وقال جل وعلا: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (2) يعني لا تزوجوهم حتى يؤمنوا، وأولاده بكل حال تابعون له من أجل الشبهة.
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 10
(2) سورة البقرة الآية 221(29/160)
س: أرجو أن توضحوا عقوبة تارك الصلاة وهو مؤمن بوجوبها، وأن توضحوا لنا - عافاكم الله- فضل صلاة الفجر وعقوبة من لم يؤدها في وقتها؟ (1)
ج: من ترك الصلاة فعقوبته القتل، يستتاب فإن تاب وإلا قتل، قال الله سبحانه: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (2) فدل على أنه من لم يقم الصلاة لا يخلى سبيله يقتل، أي يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وقال عليه الصلاة والسلام: «إني نهيت عن قتل المصلين (3) » فالمصلي لا يقتل إذا استقام، أما من ترك الصلاة فإنه يستتاب فإن تاب وإلا وجب قتله مرتدا
__________
(1) نور على الدرب، الشريط رقم 10.
(2) سورة التوبة الآية 5
(3) أخرجه أبو داود في كناب الأدب، باب في الحكم في المخنثين برقم 4928.(29/160)
على أصح القولين، وعند جماعة من أهل العلم لا يكون مرتدا ولكن يكون قتله حدا، إذا قلنا بأن تركها ليس بكفر أكبر، إذا كان يقر بوجوبها ولا يجحد، والصواب أن يقتل كفرا إذا كان تاركا لها يستتاب فإن تاب وإلا قتل كفرا لا حدا، ويبعد جدا أن يقر بوجوبها ثم يصر على عدم فعلها حتى يقتل، هذا بعيد جدا.
والمقصود أنه يقتل كفرا مطلقا ما دام أبى أن يصلي ويستقيم فيقتل كفرا، نسأل الله العافية، سواء كانت الصلاة فجرا أو ظهرا أو عصرا أو مغربا أو عشاء.
والفجر لها شأن خاص لأنه يتكاسل عنها المنافقون وقد جاء في بعض الأحاديث الكثيرة؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا (1) » .
وقال عليه الصلاة والسلام: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته، فإنه من يطلبه بشيء من ذمته يدركه ثم يكبه في النار (2) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب فضل العشاء في جماعة برقم 657، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف برقم 651.
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاه العشاء والصبح في جماعة برقم 657.(29/161)
فالصلاة لها شأن عظيم سواء كانت فجرا أو ظهرا أو عصرا أو مغربا أو عشاء ولكن للصبح خصائص؛ لأنها تكون في آخر الليل عند حلاوة النوم في الصيف وعند شدة البرد في الشتاء، فربما تثاقل عنها الكسالى وتشبهوا بأهل النفاق؛ فجاء فيها تأكيد يجب على المؤمن أن يعتني بها حتى يتباعد عن مشابهة المنافقين، ولا يجوز له تركها حتى تطلع الشمس كما يفعل بعض الناس يصليها إذا قام للعمل، هذا منكر عظيم وشر مستطير، يجب على صاحبه أن يتقي الله وأن يؤديها في وقتها مع جماعة المسلمين في مساجد الله، ومن علم بهذا وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ لأن تركها حين يخرج وقتها منكر عظيم، بل كفر عند جمع من أهل العلم، نسأل الله للجميع الهداية والسداد.(29/162)
108 - حكم تارك الصلاة
س: هل تارك الصلاة يكفر كفرا يخرجه عن ملة الإسلام أم لا ? (1) .
__________
(1) من برنامج نور على الدرب شريط (14) الوجه الثاني.(29/162)
ج: تارك الصلاة على حالين: إحداهما: أن يترك الصلاة مع الجحد للوجوب، فيرى أنها غير واجبة عليه وهو مكلف، فهذا يكون كافرا كفرا أكبر بإجماع أهل العلم، فمن جحد وجوبها كفر بإجماع المسلمين، وهكذا من جحد وجوب الزكاة، أو جحد وجوب صوم رمضان من المكلفين، أو جحد وجوب الحج مع الاستطاعة، أو جحد تحريم الزنا، وقال: إنه حلال، أو جحد تحريم الخمر، وقال: إنه حلال، أو جحد تحريم الربا، وقال: إنه حلال. كل هؤلاء يكفرون بإجماع المسلمين.
الحالة الثانية: من تركها تهاونا وكسلا وهو يعلم أنها واجبة، فهذا فيه خلاف بين أهل العلم، فمنهم من كفره كفرا أكبر. وقال: إنه يخرج من ملة الإسلام ويكون مرتدا، كمن جحد وجوبها فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه إذا مات، ولا يدفن مع المسلمين ولا يرثه المسلمون من أقاربه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (1) » رواه مسلم، وهذا صريح منه صلى الله عليه وسلم بتكفيره.
والكفر والشرك إذا أطلق بالتعريف هو الكفر والشرك
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 82.(29/163)
الأكبر. وقال عليه الصلاة والسلام: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » خرجه الإمام أحمد، وأهل السنن الأربعة بإسناد صحيح عن بريدة رضي الله عنه، مع أحاديث أخرى جاءت في الباب.
وقال آخرون من أهل العلم: إنه لا يكفر بذلك كفرا أكبر، بل هو كفر أصغر؛ لأنه موحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويؤمن بأنها فريضة عليه وجعلوها كالزكاة والصيام والحج لا يكفر من تركها إنما هو عاص، وقد أتى جريمة عظيمة، ولكنه لا يكفر بذلك الكفر الأكبر.
والصواب القول الأول، لأن الصلاة لها شأن عظيم غير شأن الزكاة والصيام والحج. وهي أعظم من الزكاة والصيام والحج.
وهي تلي الشهادتين وهي عمود الإسلام. كما قال عليه الصلاة والسلام: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة (2) » .
ومن ذلك ما ثبت في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما في مسند أحمد بإسناد جيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوما بين أصحابه فقال: «من
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند، باقي مسند الأنصار حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه برقم 22428.
(2) أخرجه أحمد في المسند، مسند الأنصار حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه برقم 21563.(29/164)
حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف (1) » قال بعض أهل العلم: إن حشره مع هؤلاء يدل على أنه كافر كفرا أكبر؛ لأن حشره مع رؤوس الكفرة يدل على أنه قد صار مثلهم. أهـ.
__________
(1) أخرجه أحمد في مسند المكثرين من الصحابة مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه برقم 6540.(29/165)
109 - ترك الصلاة كفر يحبط العمل
س: توفيت والدتي منذ فترة ولم تصم رمضان قط، كما لم تكن تصلي إلا في آخر سنة من حياتها، نوت أن تحج إلى بيت الله الحرام ولكن قضاء الله حدث قبل موسم الحج. فهل يجوز لي أن أصوم عنها الأشهر التي لم تصمها؟ علما بأنها قبل وفاتها بدأت تصلي، وكذلك هل لي أن أحج عنها؟ وهل هناك طرق أو عبادات أقدر أن أقوم بها وأهب ثوابها إلى والدتي؟ أرجو الإجابة. وجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. (1)
__________
(1) نشر في جريدة الندوة في 10\ 9\ 1418 هـ.(29/165)
ج: ليس عليك قضاء الصيام الذي تركته والدتك مع تركها الصلاة؛ لأن ترك الصلاة كفر يحبط العمل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه بإسناد صحيح. وفي الباب أحاديث أخرى تدل على ذلك.
أما إن كان تركها شيئا من الصوم بعد أن هداها الله لأداء الصلاة، فيشرع لك قضاؤه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه (2) » متفق على صحته من حديث عائشة رضي الله عنها فإن لم تصم ولم يقم بذلك أحد من أقاربها أو غيرهم، فأطعم عنها عن كل يوم مسكينا نصف صاع من قوت البلد من تمر أو أرز أو غيرها مع قضاء اليوم الذي أفطرت فيه.
ويشرع لك الإكثار من الدعاء لها والصدقة عنها، رجاء أن ينفعها الله بذلك إذا لم تعلم أنه حدث منها شيء قبل وفاتها يوجب ردتها عن الإسلام، ويشرع لك أن تحج عنها، وإن كانت غنية في حياتها وجب عليك أن تحج عنها من مالها. وفقك الله وأعانك على كل خير.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند، باقي مسند الأنصار حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه برقم 22428.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم برقم 1952، ومسلم في كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت برقم 1147.(29/166)
110 - حكم من حج وهو تارك للصلاة
س: ما حكم من يحج وهو تارك للصلاة، وهل تجزئه عن حجة الإسلام؟ (1) .
ج: ترك الصلاة كفر أكبر، الذي يتعمده كافر كفرا أكبر، واختلف العلماء هل تجزئه حجته ويكون كفرا دون كفر، والصواب أن هذا كفر أكبر وأن من حج وهو لا يصلي لا تجزئه حجته، بل عليه أن يعيدها إذا تاب، ومن تاب تاب الله عليه هذا هو الصواب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (2) » وقال عليه الصلاة والسلام: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (3) » رواه مسلم في الصحيح. فالواجب على المؤمن أن يحذر ذلك، فإذا كان حال أدائه الحج لا يصلي فعليه أن يعيد الحج إذا رجع إلى الله ومن تاب تاب الله عليه.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1406 هـ.
(2) أخرجه أحمد في المسند، باقي مسند الأنصار حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه برقم 22428.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 82.(29/167)
111 - حكم قضاء الصلوات الفائتة لمن تركها تهاونا
س: كنت لا أصلي في بعض سنوات الشباب، ثم أعود للصلاة مرة أخرى ثم أنقطع عنها مرة أخرى، والآن ولله الحمد استقمت على أداء الصلاة فهل علي قضاء ما فاتني من الصلوات، بحيث أصلي كل وقت فات مع وقته أم ماذا أفعل؟ ونفس الأمر بالنسبة للصيام، هل يجزئ عنه صيام النوافل؟ وجزاكم الله خيرا. (1)
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكرت في السؤال فليس عليك قضاء ما تركت من الصلوات والصيام؛ لأن ترك الصلاة كفر، يبطل العمل، وقد قال الله سبحانه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم للذي أسلم: «أسلمت على ما أسلفت من خير (3) » ؛ ولقول النبي
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1677، في 11\ 10\ 1419هـ
(2) سورة الأنفال الآية 38
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده برقم 123.(29/168)
صلى الله عليه وسلم: «التوبة تجب ما قبلها (1) » ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر الذين أسلموا يوم الفتح أن يقضوا ما تركوا من صوم وصلاة، والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه مسلم بلفظ في كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله برقم 121، ولفظه: '' الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها. . . ''.(29/169)
112 - حكم قضاء الصوم وأداء الحج عمن مات وهو متهاون بالصلاة
إلى سماحة الوالد فضيلة شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز حفظه الله ورعاه.
أخي توفي وله 18 عاما وكان متهاونا في الصلاة متكاسلا فيها، أحيانا يصلي وأحيانا يتركها وقد أفطر ما يقارب 15 يوما من رمضان بلا عذر شرعي.
السؤال: هل أصوم عنه؟ وهل أحج عنه؟ وهل أستغفر له وأتصدق عنه؟
الرجاء الرد بسرعة للضرورة القصوى، وجزاكم الله خيرا، ونفعنا الله بعلمكم. ابنتك: ف. ع. من الكويت.(29/169)
الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. بعده (1) :
إذا كان حال أخيك ما ذكرت من التكاسل عن الصلاة وتركها في بعض الأحيان، فإنه ليس لك الحج عنه ولا الصدقة عنه، ولا الدعاء له، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (2) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (3) » وقد قال الله سبحانه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} (4) الآية، وفقك الله ورزقنا وإياك العلم النافع والعمل به إنه خير مسئول. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سؤال شخصي أجاب عنه سماحته بتاريخ 29\11\1419 هـ.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 82.
(3) أخرجه أحمد في المسند، باقي مسند الأنصار حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه برقم 22428.
(4) سورة التوبة الآية 113(29/170)
س: ألا ترى أن تارك الصلاة كافر كفرا دون كفر ويجب عدم إطلاق الكفر عليه حتى نقيم عليه الحجة؛ لأنه قد يكون تاركا للصلاة وليس جاحدا وإنما تكاسلا أو تهاونا؟ (1)
__________
(1) من أسئلة حج عام 1415 هـ.(29/170)
ج: الجاحد لوجوب الصلاة كافر بإجماع المسلمين من جحد وجوبها كفر إجماعا، وإنما الخلاف إذا تركها تكاسلا، والصواب أنه يكفر أيضا إذا تركها تكاسلا؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (1) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه وقوله: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (2) » خرجه أهل السنن ورواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن بريدة رضي الله عنه.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 82.
(2) أخرجه أحمد في المسند، باقي مسند الأنصار حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه برقم 22428.(29/171)
113 - حكم من صام رمضان وهو تارك للصلاة متهاونا
س: بعض الشباب هداهم الله يتكاسلون عن الصلاة في رمضان وغيره، ولكنهم يحافظون على صيام رمضان ويتحملون العطش والجوع. فبماذا تنصحهم وما حكم صيامهم؟ (1)
ج: نصيحتي لهؤلاء أن يفكروا مليا في أمرهم، وأن يعلموا
__________
(1) نشر في جريدة البلاد العدد (15378) وتاريخ 20\ 4\ 1419 هـ.(29/171)
أن الصلاة أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وأن من لم يصل وترك الصلاة متهاونا فإنه على القول الراجح عندي الذي تؤيده دلالة الكتاب والسنة أنه يكون كافرا كفرا مخرجا عن الملة، مرتدا عن الإسلام، فالأمر ليس بالهين، لأن من كان كافرا مرتدا عن الإسلام لا يقبل منه لا صيام ولا صدقة ولا يقبل منه أي عمل؛ لقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} (1) فبين الله سبحانه وتعالى أن نفقاتهم مع أنها ذات نفع متعد للغير لا تقبل منهم مع كفرهم، وقال سبحانه وتعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (2) ، وهؤلاء الذين يصومون ولا يصلون لا يقبل صيامهم بل هو مردود عليهم مادمنا نقول إنهم كفار، كما يدل على ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فنصيحتي لهم أن يتقوا الله عز وجل، وأن يحافظوا على الصلاة ويقوموا بها في أوقاتها ومع جماعة المسلمين، وأنا ضامن لهم بحول الله أنهم إذا فعلوا ذلك فسوف يجدون في قلوبهم الرغبة الأكيدة في رمضان وفيما بعد رمضان
__________
(1) سورة التوبة الآية 54
(2) سورة الفرقان الآية 23(29/172)
على أداء الصلاة في أوقاتها مع جماعة المسلمين، إن الإنسان إذا تاب إلى ربه وأقبل عليه وتاب إليه توبة نصوحا، فإنه قد يكون بعد التوبة خيرا منه قبلها، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى عن آدم عليه الصلاة والسلام أنه بعد أن حصل ما حصل منه من أكل الشجرة، قال الله تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (1) .
__________
(1) سورة طه الآية 122(29/173)
س: ما حكم من ترك الصلاة كسلا متكاسلا؟ (1)
ج: الذي يتركها كسلا هذا يسمى عامدا، لكن ليس جاحدا لوجوبها لعله يرجع. والجاحد لوجوبها كافر بالإجماع، والتارك لها كسلا كافر في الصحيح من القولين، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (2) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (3) » «ورأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة (4) » .
__________
(1) من أسئلة حج عام 1409 هـ الشريط التاسع.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 82.
(3) أخرجه أحمد في المسند، باقي مسند الأنصار حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه برقم 22428.
(4) أخرجه أحمد في المسند، مسند الأنصار حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه برقم 21563.(29/173)
س: ما حكم من يصلي أحيانا ويترك الصلاة أحيانا وجهونا ووجهوا الناس جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: الصلاة هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين. وهي عمود الإسلام. قد نزل فيها من الآيات الكريمات الشيء الكثير. كما قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (2) ، وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (3) ، وقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) ، وقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (5) ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمات كقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (6) .
فمن تركها تهاونا بها فهو دليل على فساد دينه وفساد عقيدته،
__________
(1) نور على الدرب، الشريط الخامس عشر.
(2) سورة البقرة الآية 43
(3) سورة البقرة الآية 238
(4) سورة النور الآية 56
(5) سورة العنكبوت الآية 45
(6) سورة مريم الآية 59(29/174)
وأنه ليس من الإسلام في شيء. ولو زعم أنه يقر بوجوبها مادام لا يحافظ عليها بل يدعها تارة ويصليها أخرى. أو يدعها بالكلية فهذا كافر في أصح قولي العلماء حتى يتوب إلى الله ويحافظ عليها.
والحجة في ذلك ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (1) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه. ولم يقل صلى الله عليه وسلم: إذا جحد وجوبها، وهو أفصح الناس وأنصح الناس عليه الصلاة والسلام. ولو كان جحد الوجوب شرطا لبين وهو المبلغ عن الله وهو الدال على الحق عليه الصلاة والسلام.
ومع هذا يقول: «بين الرجل وبن الكفر والشرك ترك الصلاة (2) » والمرأة مثل الرجل سواء. ولهذا كان في الحديث الآخر: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (3) » خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بسند صحيح عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه. وهذا عام يعم الرجال والنساء، ويعم من جحد الوجوب أو أقر به. وأي فائدة في إقراره بالوجوب إذا كان لا يصلي؟ ماذا ينفعه هذا الإقرار إذا كان قد ضيعها وأهملها واتصف بصفات المعرضين عنها؟ ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 82.
(2) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2618) ، سنن النسائي الصلاة (464) ، سنن أبي داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .
(3) أخرجه أحمد في المسند، باقي مسند الأنصار حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه برقم 22428.(29/175)
تركها فقد كفر (1) » فالواجب على كل مسلم ومسلمة العناية بالصلاة، والمحافظة عليها، والاستقامة عليها في جميع الأوقات؛ خوفا من الله وتعظيما له وابتغاء لمرضاته وحذرا من عقابه سبحانه وتعالى، وابتعادا عن مشابهة المشركين التاركين لها. وعلى الرجل أن يحافظ على الصلوات الخمس في بيوت الله مع إخوانه المسلمين، ولا يصلي في بيته، لأن الصلاة في البيت فيها مشابهة لأهل النفاق. يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا (2) » .
أي لأتوهما في المساجد. ويقول عليه الصلاة والسلام: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيؤم بالناس. ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم (3) » .
وما ذاك إلا لعظم الخطر؛ ولعظم جريمة تركهم الصلاة مع الجماعة في مساجد الله، وقال عليه الصلاة والسلام: «من سمع
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند، باقي مسند الأنصار حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه برقم 22428.
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة برقم 651.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة باب في التشديد في ترك الجماعة برقم 548.(29/176)
النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر (1) » وهذا وعيد شديد. وقد قيل لابن عباس رضي الله عنهما: ما هو العذر؟ قال: خوف أو مرض، وجاء للنبي عليه الصلاة والسلام رجل أعمى فقال: «يا رسول الله ليس لي قائد يلائمني إلى المسجد فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي. فقال له عليه الصلاة والسلام: هل تسمع النداء للصلاة. قال: نعم. قال: فأجب (2) » . (3) في صحيحه.
وفي رواية أخرى أخرجها مسلم يقول صلى الله عليه وسلم: «لا أجد لك رخصة (4) » فإذا كان الرجل الأعمى ليس له رخصة فكيف بحال الرجل البصير الصحيح فالأمر عظيم.
والواجب على الرجال أن يتقوا الله وأن يحضروا الصلاة مع المسلمين في مساجد الله، فهي شعيرة عظيمة يقيمها مع إخوانه في بيوت الله، ويجتمع مع إخوانه ويشاهدهم، ويتعاون مع الفقير، ويشجع الكسول. فإنه إذا صلى هذا في المسجد وهذا في المسجد تشجع الناس. وتعاونوا على الخير وأدوا هذه
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب المساجد والجماعات، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة برقم 793.
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء برقم 653
(3) رواه مسلم
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب التشديد في ترك الجماعة برقم 552.(29/177)
الفريضة العظيمة في بيوت الله. وإذا كسل هذا وكسل هذا تابعهما غيرهما، من أولاد وإخوة وخدم وغيرهم. فيكون عليه مثل آثامهم لاقتدائهم به؛ لأنه قد دعاهم بفعله إلى ترك هذه الفريضة في المساجد. فالواجب على كل مسلم أن يتقي الله، وأن يراقب الله، وأن يصلي في المسجد مع المسلمين. وإن كان تاجرا وإن كان أميرا، فعظمة الله فوق الجميع.
فالواجب على كل إنسان من المؤمنين أن يتقي الله وأن يراقب الله، وأن يؤدي هذه الصلاة في بيوت الله مع إخوانه، وأن يقوم على أولاده وخدمه حتى يصلوا معه في المساجد. هكذا المسلم يتقي الله، ويوصي بتقوى الله، ويلزم من تحت يده بتقوى الله.
وهكذا المرأة تعتني بذلك، وتصلى الصلاة في وقتها وتعتني ببناتها وخادماتها وأخواتها، تقوم عليهن وتلزمهن بما أوجب الله عليهن من الصلاة في وقتها؛ لعظم شأنها ولكونها عمود الإسلام.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من تركها فقد كفر، حتى ولو أقر بالوجوب. هذا هو الصحيح الذي عليه جمع من أئمة الحديث المعروفين، وذكر التابعي الجليل عبد الله بن شقيق العقيلي عن الصحابة رضي الله عنهم، قال: كانوا لا يرون شيئا تركه كفر من العمل غير الصلاة. وهذا لعظم شأنها. فنسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين الهداية والتوفيق.(29/178)
س: ما الحكم إذا ترك صلاة واحدة؟ (1)
ج: صلاة واحدة أو عشر إذا تركها عمدا حتى ذهب وقتها مثل الفجر حتى طلعت الشمس عمدا كفر، وعليه التوبة إلى الله، أو ترك العصر حتى غابت الشمس، أو العشاء حتى طلع الفجر هذا كفر على الصحيح في أقوال العلماء، نسأل الله العافية والسلامة.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407 الشريط التاسع.(29/179)
114 - حكم تأخير صلاة الفجر لغير عذر
س: مع الأسف إن بعض الناس لا يقوم لصلاة الفجر ولكن إذا قوم للوظيفة يقوم ويؤخر لأجلها صلاة الفجر؟ (1)
ج: هذه بلية عظيمة، ومنكر عظيم وقع فيه كثير من المسلمين نعوذ بالله من ذلك، يقوم الشخص لحاجته الدنيوية ولحق المخلوق ولا يقوم لحق الله تعالى، ومثل هذا إذا تعمد هذا العمل يكون ردة عن الإسلام في أصح قولي العلماء؛ لأنه تعمد ترك الصلاة في وقتها، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (2) » رواه مسلم،
__________
(1) من أسئلة طلبة كلية الشريعة أثناء لقاء سماحته بهم عام 1416 هـ.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 82.(29/179)
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه - بإسناد صحيح - مع أحاديث أخرى، والأكثرون على أنها كفر دون كفر لمن لم يجحد وجوبها، والصواب أنها كفر أكبر، وجحد الوجوب كفر مستقل بإجماع المسلمين، وإن لم يتركها، وإنما الخلاف في تركها من غير جحد لوجوبها. والصواب أن تركها كفر أكبر وإن لم يجحد وجوبها؛ لهذين الحديثين وما جاء في معناهما من الآيات والأحاديث.
وقال عبد الله بن شقيق العقيلي وهو تابعي جليل: لم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعدون شيئا من العمل تركه كفر إلا الصلاة. أما ترك الزكاة فهو كبيرة عظيمة وجريمة لكن ليس كفرا أكبر، وهكذا ترك الصيام والحج، في حق من لم يجحد وجوب الزكاة والصوم والحج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر في الأحاديث الصحيحة أن تارك الزكاة يعذب بحاله يوم القيامة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار، فدل ذلك على عدم كفره بمجرد ترك الزكاة. لكن الصلاة أمرها أعظم، هي عمود الإسلام وهى أعظم الأركان بعد الشهادتين، وجاءت
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند، باقي مسند الأنصار حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه برقم 22428.(29/180)
النصوص بأن تركها كفر، فإذا كان ينام عن الفجر ويتعمد ولا يركب الساعة إلا على وقت العمل فهذا متعمد للترك، نسأل الله العافية. وربما لو أيقظته زوجته أو غيرها لم يستجب لذلك، فهذا ينبغي أولا أن يعزر - يؤدب إذا رفع أمره للدولة - ثم يستتاب فإن تاب وإلا وجب قتله. قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (1) ، فدلت الآية على أن من لم يصل لا يخلى سبيله، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نهيت عن قتل المصلين (2) » فدل ذلك على أن من لا يصلي يستتاب فإن تاب وإلا قتل، لا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) أخرجه أبو داود في كناب الأدب، باب في الحكم في المخنثين برقم 4928.(29/181)
115 - حكم غيبة تارك الصلاة للتحذير منه
س: إذا كنت أعرف عن بعض الناس أنه لا يصلي ولا يذكر الله، بل يعمل فوق ذلك أعمالا سيئة تغضب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام من كل النواحي، فهل يجوز لي(29/181)
أن أغتابه لأعرف الناس به أو لا يجوز لي ذلك؟ (1)
ج: عليك أن تنصحه أولا فتأمره بفعل ما أمره الله وتنكر عليه فعل ما نهاه الله عنه، فإن امتثل ولو شيئا فشيئا فاستمر معه في النصيحة حسب وسعك، وإلا فاجتنبه قدر طاقتك اتقاء للفتنة وبعدا عن المنكر، ثم لك بعد ذلك أن تذكره بما هو فيه من التفريط في الواجبات وفعل المنكرات عند وجود الدواعي قصدا للتعريف به، وحفظا للناس من شره، وقد يجب عليك ذلك إذا استنصحك أحد في مجاورته أو مشاركته أو استخدامه مثلا، أو خفت على شخص أن يقع في حباله ويصاب بشره فيجب عليك بيان حاله إنقاذا لأهل الخير من شره، وأملا في ازدجاره إذا عرف كف الناس عنه، وتجنبهم إياه، وليس لك أن تتخذ من سيرته السيئة تسلية لك وللناس، وفكاهة تتفكه بها في المجالس، فإن ذلك من إشاعة الشر وبه تتبلد النفوس ويذهب إحساسها باستماع المنكرات، وليس لك أن تفتري عليه منكرات لم يفعلها رغبة في زيادة تشويه حاله والتشنيع عليه، فإن هذا كذب وبهتان، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 1 ص 366.(29/182)
116 - حكم قول: ترك الصلاة ليس بكفر
س: بعض الناس يقولون: لا إله إلا الله، ولا يصلون، ويقول لك: أنا مؤمن وأسأل الله أن يهديني للصلاة يوما ما. فهل هذا يكون مؤمنا بهذه الكلمة التي ينطقها وكيف نرد على الذين يقولون: ترك الصلاة ليس بكفر؟
ج: الذي يقول: لا إله إلا الله، هذا حق التوحيد إذا صدق في ذلك ووحد الله جل وعلا، لكن لا بد مع هذا من تجنب ما ينقضها ويبطلها من أسباب الردة، فإذا قال: لا إله إلا الله، وهو لا يصلي صار كافرا، أو يقول: إن الصلاة غير واجبة، صار كافرا، أو يقول: إن الزنا حلال، صار كافرا، أو إن الخمر حلال، صار كافرا، أو يدعو القبور وأصحاب القبور ويستغيث بهم صار كافرا، وبطل قوله لا إله إلا الله، لا بد أن يقول: لا إله إلا الله ويصدقها بأعماله وأقواله. وأما أن ينقضها بأقواله أو بأعماله فتبطل، مثل الذي يتوضأ ثم يحدث بالريح أو البول فإن وضوءه بطل، والذي يقول: لا إله إلا الله ويوحد الله، ثم يسب الدين، أو يستهزئ بالدين، أو يترك الصلاة، أو يستحل الزنا والخمر ويقول: إنه حلال، أو ما أشبه ذلك أو يدعو الأموات أو يستغيث بالجن بطل توحيده، مثل الذي أحدث بعد الطهارة(29/183)
وبطلت طهارته وبطل وضوؤه وبطلت عبادته وبطل توحيده - نسأل الله العافية - صار مرتدا عن الإسلام، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من بدل دينه فاقتلوه (1) » ويجب أن يرفع به لولي الأمر فإن تاب وإلا قتل.
ويرد على الذين يقولون لا يكفر تارك الصلاة، بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (2) » رواه مسلم في الصحيح، ويقول صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (3) » ويقول: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة (4) » فإذا وقع العمود سقطت الخيمة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم برقم 6922.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 82.
(3) أخرجه أحمد في المسند، باقي مسند الأنصار حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه برقم 22428.
(4) أخرجه أحمد في المسند، مسند الأنصار حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه برقم 21563.(29/184)
117 - حكم هجر تارك الصلاة
س: هل إذا كان لي أخ أو أخت لا يصلي إلا في رمضان ونصحته عدة مرات عن الصلاة ولكنه لم يقبل النصيحة فهل لي مقاطعته وعدم رد السلام عليه وهو أكبر مني بعدة سنوات، وهل يعتبر ذلك قطيعة للرحم أم لا؟ (1)
ج: هذا هو المشروع وهذا هو الهجر الشرعي وليس فيه قطيعة، بل هذا من إنكار المنكر والجهاد في سبيل الله فهجران أهل المعاصي أمر مشروع، وإذا نصحته واجتهدت في ذلك ولم ينفع فيه فهو كافر بهذا الترك في أصح قولي العلماء، وإن لم يجحد وجوبها، وهو يستحق الهجر والابتعاد عنه والقطيعة له حتى يرجع ويتوب من فعله هذا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (2) » أخرجه الإمام مسلم. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (3) » أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه - بإسناد صحيح - ولقوله
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.
(2) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/370) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .
(3) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد (5/346) .(29/185)
«رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله (1) » والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند، مسند الأنصار حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه برقم 21563.(29/186)
س: عندي ولد في المنزل لا يصلي وقد تكلمت معه وضربته ولكنه لم يرتدع، فهل يجوز لي أن أطرده من المنزل؟ (1)
ج: عليك أن تجتهد في إصلاحه، فإن لم يصلح فلك طرده وإبعاده، لكن الاجتهاد في إصلاحه ولو بالتأديب وبالضرب أولى من طرده لعل الله يهديه بأسبابك؛ ولأنك إذا طردته قد يكون شيء أكثر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع (2) » فأمر بضربهم ولم يأمر بطردهم.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة برقم 495، وأحمد في مسند المكثرين من الصحابة مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه برقم 6717.(29/186)
س: لي صديق تارك للصلاة وقدمت له النصيحة ولم يستجب، بل قابل ذلك بالقطيعة بيني وبينه: فما هو توجيهكم لي جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: قد أحسنت فيما فعلت وأديت الواجب في النصيحة، والواجب أن يهجر هو، فإذا قاطعك فأنت تقاطعه أيضا؛ لأنه يستحق الهجر، فقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الصحابة لما تخلفوا عن غزوة تبوك بغير عذر، فالذي يتأخر عن الصلاة ولا يصلي من باب أولى؛ لأن ترك الصلاة كفر أكبر، فالواجب هجره إذا لم يقبل النصيحة ورفع أمره إلى ولي الأمر إذا كان في بلاد تحكم بالإسلام حتى يعاقب بما يستحق، حتى يستتاب فإن تاب وإلا وجب قتله إذا ترك الصلاة؛ لأن الله سبحانه يقول: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (2) ، فدل على أن من لا يؤدي الصلاة لا يخلى سبيله، بل يرفع أمره إلى ولي الأمر، إلى المحكمة أو لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تنظر في أمره، وأنت أديت ما عليك بنصيحته وتوجيهه للخير.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.
(2) سورة التوبة الآية 5(29/187)
س: لي زملاء في العمل لا يصلون، وقد نصحتهم مرارا ولكن لم يقبلوا النصح فماذا أفعل؟ (1)
ج: ترفع أمرهم إلى الجهة المختصة المسؤولة عن العمل، وتخبرهم أنهم يتخلفون عن الصلاة في الجماعة، أو ترفع أمرهم إلى الهيئة، أو إلى أمير البلد، أو إلى المحكمة، وعليك أن تجتهد في الأشياء التي تعين على هدايتهم لعل الله أن يهديهم بأسبابك.
فتبدأ بالمسئول عنهم لعل الله يعينه على نصحهم وتوجيههم وإلزامهم بالحق.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.(29/188)
118 - حكم من ترك الصلاة بحجة ارتكابه للذنوب
س: إن أكثر الشباب عندما أنصحهم بالصلاة يقولون: لا نستطيع أن نصلي لأننا ننظر إلى النساء وخاصة المتبرجات، فهل النظر يمنع الصلاة أو يبطلها؟ (1)
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) شريط رقم 11.(29/188)
ج: هذا عذر باطل، الواجب عليهم أن يصلوا مع المسلمين ويحافظوا على ما أوجب الله عليهم من الصلاة وغض البصر، والصلاة في جماعة بالمساجد فريضة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر (1) » .
وهي عمود الإسلام يجب على المسلم أن يؤديها، إذا كان مكلفا. وتركها كفر بالله وضلال، وليس رؤية النساء في الطريق أو إذا كن يصلين في المسجد، ليس هذا عذرا في ترك الصلاة أو ترك الجماعة؛ بل هذا غلط ومنكر واعتذار عن منكر بمنكر، وهو ترك الصلاة - نسأل الله العافية - والواجب على المسلم غض البصر، وأن يتقي الله فيغض بصره في الأسواق وفي كل مكان، وليس عذرا له أن تصادفه في الطريق للصلاة النساء، بل إذا صادفه في الطريق للصلاة نساء يغض بصره، يجاهد نفسه، قال الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (2) والمسلم يغض بصره ليتقي الله ويحفظ فرجه ويؤدي ما أوجب الله عليه من الصلاة في مساجد الله مع المسلمين، يخاف الله ويرجوه، قال
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن يسمع النداء فلا يجب برقم 217.
(2) سورة النور الآية 30(29/189)
تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (1) وقال عليه الصلاة والسلام: «من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر (2) » وقال في شأن الصلاة وعظمتها: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (3) » رواه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح، وقال عليه الصلاة والسلام: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (4) » رواه الإمام مسلم في صحيحه.
وفيه أحاديث أخرى دالة على عظم شأنها، يقول صلى الله عليه وسلم: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة (5) » ، وقد هم عليه الصلاة والسلام أن يحرق على المتخلفين بيوتهم - المتخلفين عن صلاة الجماعة -.
فالواجب على كل مسلم ومسلمة أن يتقي الله، وأن يحافظ على الصلاة في أوقاتها، وأن يحذر عن التخلف عنها، فإن التخلف عنها من صفات أهل النفاق، ومن صفات الكفرة، ومن أسباب دخول النار، قال الله تعالى في كتابه العظيم عن الكفار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (6) {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (7) فأجابوا بأنهم دخلوا النار، لأنهم لم يكونوا من المصلين - نسأل الله العافية -
__________
(1) سورة النور الآية 36
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن يسمع النداء فلا يجب برقم 217.
(3) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد (5/346) .
(4) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 82.
(5) أخرجه أحمد في المسند، مسند الأنصار حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه برقم 21563.
(6) سورة المدثر الآية 42
(7) سورة المدثر الآية 43(29/190)
فالمؤمن يتقي الله في كل شيء فيغض البصر ويحفظ الفرج ويحفظ الجوارح عما حرم الله، ويؤدي ما أوجب الله من الصلاة والزكاة وبر الوالدين وصلة الرحم وغير ذلك، يجمع بين هذا وهذا، هذه الدار دار العمل ودار التكليف، دار الابتلاء والامتحان، فالواجب على كل مسلم وعلى كل مسلمة أن يتقي الله وأن يحافظ على ما أوجب الله، ويتباعد عن محارم الله، ويقف عند حدود الله، يرجو ثواب الله، ويخشى عقابه؛ ولهذا خلق، قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) ، وهذه العبادة الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج، الجهاد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الدعوة إلى الله، بر الوالدين، صلة الرحم، إلى غير هذا مما شرع الله، وهكذا ترك المحارم التي حرمها الله على عباده، تركها طاعة لله وتعظيما له من أعظم القربات.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56(29/191)
119 - حكم من مات وعليه صلوات مفروضة لغياب عقله
س: مات رجل وعليه صلوات مفروضة تركها وقت مرضه، وغياب عقله فهل على أقاربه الأحياء بعده - رجال أو نساء - قضاء هذه الصلوات، أو هي ساقطة عن الهالك لفقدان عقله، فلا يجب على الورثة شيء، وهل إذا تركها وهو مريض الجسم سليم العقل يجب على ورثته قضاء هذه الفرائض؟ (1) .
ج: إذا ترك الإنسان الصلوات المكتوبة لفقد عقله ولم يكن سائر بدنه مريضا فلا حرج عليه؛ لسقوطها عنه بفقد عقله. وبالضرورة لا قضاء على ورثته، وإذا ترك الصلاة المفروضة وعقله سليم سواء كان مريض الجسم أو غير مريض فهو آثم مسيء بترك الصلاة، وأمره إلى ربه، ولا تقضى عنه الصلاة.
__________
(1) نشر في محلة الدعوة العدد (740) .(29/192)
120 - حكم صلاة مرتكبي المعاصي
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ن. ق. ق. أ. سلمه الله
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: (1)
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 763 وتاريخ 24 / 2 / 1407 هـ. الذي تسأل فيه عن: جملة من الأسئلة.
وأفيدك بأن الأمر بالنسبة لقصاصات الأظافر والشعر واسع ولا حرج في وضعها في أي مكان. وأما دفع النقود لمن يضربن الدفوف في حفلات الزواج فلا بأس به إذا كان عملها كالعادة المتبعة في الأعراس؛ من عدم اختلاط النساء بالرجال، وعدم وجود منكرات أخرى كالموسيقى وضرب العود ونحو ذلك.
وأما صلاة مرتكبي المعاصي فإنها صحيحة، وكذلك صيامهم، إلا إذا كانت المعاصي التي يرتكبونها مكفرة، فإنه لا ينفع معها
__________
(1) جواب صدر من مكتب سماحته برقم 1567 في 25\ 5\ 1407 هـ.(29/193)
صيام ولا صلاة؛ لقوله سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) وفق الله الجميع لما فيه رضاه إنه سميع مجيب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) سورة الأنعام الآية 88(29/194)
س: ما يقول شيخنا الجليل: فيمن لا يصلي ولا يصوم عمدا، وبعد أن هداه الله، وأناب وبكى على إسرافه على نفسه، رجع يصلي ويصوم ويقوم بجميع العبادات، هل يؤمر بقضاء الصلاة والصوم أم تكفيه الإنابة والتوبة؟
ج: من ترك الصلاة والصيام ثم تاب إلى الله توبة نصوحا لم يلزمه قضاء ما ترك؛ لأن ترك الصلاة كفر أكبر يخرج من الملة، وإن لم يجحد التارك وجوبها في أصح قولي العلماء، وقد قال الله سبحانه وتعالى؛ {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (1) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 38(29/194)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يهدم ما كان قبله، والتوبة تجب ما كان قبلها (1) » والأدلة في هذا كثيرة، ومنها قوله سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (2) وقوله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (3) الآية.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (4) » ، والمشروع للتائب أن يكثر بعد التوبة من الأعمال الصالحات، وأن يكثر من سؤال الله سبحانه الثبات على الحق وحسن الخاتمة. والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله برقم 121 ولفظه: '' أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها. . . ''.
(2) سورة طه الآية 82
(3) سورة التحريم الآية 8
(4) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب التوبة برقم 4250.(29/195)
121 - من ارتد عن الإسلام ثم تاب فلا قضاء عليه للصلوات
س: هل على المرتد قضاء الصلاة والصيام إذا عاد إلى الإسلام وتاب إلى الله؟ (1)
ج: ليس عليه القضاء ومن تاب تاب الله عليه، فإذا ترك الإنسان الصلاة، أو أتى بناقض من نواقض الإسلام ثم هداه الله وتاب فإنه لا قضاء عليه، هذا هو الصواب من أقوال أهل العلم؛ لأن الإسلام يجب ما قبله والتوبة تهدم ما كان قبلها. . قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (2) فبين الله سبحانه وتعالى أن الكافر إذا أسلم غفر الله له ما قد سلف والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «التوبة تجب ما قبلها، والإسلام يهدم ما كان قبله (3) » .
__________
(1) نشر في جريدة عكاظ العدد 11913 في 23\ 12\ 1419 هـ.
(2) سورة الأنفال الآية 38
(3) أخرجه مسلم بلفظ في كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله برقم 121، ولفظه: '' الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها. . . ''.(29/196)
122 - التكاليف الشرعية تثبت على المكلف بعد بلوغه
س: إذا وجد شيء من الأشياء التي تثبت البلوغ هل تجري أحكام التكاليف والعقوبة على صاحبه إذا ترك فرضا ولو لم يبلغ خمسة عشر سنة؟ (1)
ج: إذا ثبت بلوغ الغلام أو الجارية بإحدى الأمارات المثبتة لذلك تعلقت بهما أحكام التكليف من وجوب الصلاة والصيام ونحوهما وإقامة الحدود ونحو ذلك كسائر المكلفين.
قال ابن المنذر رحمه الله: أجمعوا على أن الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل والمرأة بظهور الحيض منها. انتهى.
وأما التعزير فلا يشترط فيه تكليف المعزر، كتأديب الصبي إذا بلغ عشرا على ترك الصلاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «واضربوهم عليها لعشر (2) » وكما يؤدب على فعل الفواحش ليرتدع عنها، وكما يؤدب المجانين عن التعدي على الناس
__________
(1) سؤال شخصي أجاب عنه سماحته في أحد دروسه.
(2) أخرجه أحمد في مسند المكثرين، مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه برقم 6717.(29/197)
والأذية لهم؛ ليرتدعوا عن ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لا نزاع بين العلماء أن غير المكلف كالصبي المميز يعاقب على الفاحشة تعزيرا بليغا، وكذلك المجنون يضرب على ما فعل لينزجر. والله ولي التوفيق.(29/198)
123 - الواجب على الآباء أن يلزموا أبناءهم بطاعة الله ورسوله
س: إن بعض الآباء لا يهتم بأبنائه من ناحية أمور الدين فمثلا لا يأمرهم بالصلاة ولا بقراءة القرآن ومجالسة الأخيار، ونجده يأمر بالمحافظة على المدارس ويغضب إذا تخلف ابنه عنها، فما هي نصيحتكم يا سماحة الشيخ؟
ج: نصيحتي للآباء والأعمام والإخوان أن يتقوا الله فيمن تحت أيديهم من الأولاد ويأمروهم بالصلاة إذا بلغوا سبعا ويضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا كما صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع،(29/198)
واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع (1) » ، فالواجب على الآباء والأمهات وعلى الإخوان الكبار أن يقوموا على من تحت أيديهم في الصلاة وغيرها ويمنعوهم مما حرم الله ويلزموهم بما أوجب الله، هذا هو الواجب فهم أمانة عندهم. يقول الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (2) ، ويقول الله عز وجل: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (3) ، ويقول عن نبيه ورسوله إسماعيل عليه الصلاة والسلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (4) ، فعلينا أن نمتثل أمر الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن نلزم أهلينا وأولادنا بطاعة الله ورسوله في الصلاة وغيرها، ونمنعهم مما نهى الله ورسوله كالتخلف عن الصلاة، وشرب الخمر، والتدخين، والاستماع لآلات الملاهي، وصحبة الأشرار ونحو ذلك. ونلزمهم بصحبة الأخيار. هكذا يجب على الأولياء مع من
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة برقم 495، وأحمد في مسند المكثرين من الصحابة مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه برقم 6717.
(2) سورة التحريم الآية 6
(3) سورة طه الآية 132
(4) سورة مريم الآية 54(29/199)
تحت أيديهم من ذكور وإناث. والله سبحانه سائلهم عن ذلك يوم القيامة كما قال عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (1) {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والعبد راع في مال سيده ومسئول عن رعيته (3) » .
__________
(1) سورة الحجر الآية 92
(2) سورة الحجر الآية 93
(3) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن برقم 893، ومسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر برقم 1829.(29/200)
124 - حكم صلاة الطفلة دون خمار
س: ما حكم صلاة الطفلة دون خمار؟
ج: إذا كانت لم تبلغ فصلاتها صحيحة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار (1) » ، فدل
__________
(1) أخرجه أحمد في باقي مسند الأنصار باقي المسند السابق برقم 24641، والترمذي في كتاب الصلاة باب ما جاء لا تقبل صلاه المرأة إلا بخمار برقم 377.(29/200)
ذلك على أن غير الحائض؛ وهي غير البالغة لا حرج عليها في الصلاة بغير خمار، ولكن كونها تصلي بالخمار أولى وأكمل إذا كانت بنت سبع أو أكثر؛ أما من دون السبع من الذكور والإناث فليسوا من أهل الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع (1) » .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة برقم 495، وأحمد في مسند المكثرين من الصحابة مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه برقم 6717.(29/201)
125 - من بلغ الحلم وجبت عليه المحافظة على الصلاة
س: أنا فتاة مسلمة تقترب سني من الأربعة عشر عاما ومنذ صغري وأنا أصلي بانتظام وأحفظ القرآن الكريم من حين لآخر، ولكن لا أعرف كيف ولماذا مع مرور الأيام والسنين أصبحت أصلي أقل فأقل إلى أن أتى يوم لم أعد أصلي فيه. . أمي تنصحني دائما بالخضوع إلى ربي عز وجل، كما أنها تذكرني بيوم الحساب. . إني رغم ذلك لا أستطيع أن أجبر نفسي على الصلاة، أما بالنسبة للصيام أصوم شهر رمضان(29/201)
بأكمله وهذا لا يزعجني أبدا، بل إني أحب الصيام وأحب ديني، ولكن ماذا أفعل حتى أميل للصلاة وفي مواعيدها، ما الذي سيلحقني يوم القيامة إذا لم أخضع إلى ربي علما بأنه قد مر من " الوقت الضروري " أكثر من عام ونصف ? (1) .
ج: الواجب عليك التوبة إلى الله مما سلف إذا كنت قد بلغت الحلم، والمحافظة على الصلاة في أوقاتها، وقبول نصيحة والدتك فيما تأمرك به من الخير، مع العناية بتلاوة القرآن الكريم وتدبر معانيه وحفظ ما تيسر منه، مع سؤال الله سبحانه في كل وقت ولا سيما في أخر الصلاة وفي السجود وفي جوف الليل وآخره؛ أن يصلح قلبك وعملك وأن يثبتك على دينه الحق، ويعينك على المحافظة على الصلاة، وعلى غيرها مما أوجب الله عيك، وأن يشرح صدرك لذلك، وأذكرك قوله تعالى في سورة التوبة: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) ، وقوله سبحانه في سورة الأحزاب:
__________
(1) نشر في جريدة (الندوة) العدد (12295) في 24\ 9 \ 1419 هـ
(2) سورة التوبة الآية 71(29/202)
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) الآية. . وقوله سبحانه في سورة البقرة: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (2) .
وأسأل الله أن يصلح قلبك وعملك، ويشرح صدرك للحق، ويرزقك الاستقامة.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) سورة البقرة الآية 238(29/203)
126 - وجوب تعليم الكبير الجاهل لصفة الصلاة
س: الأولاد والبنات هل لهم أجر إذا قاموا بتعليم والدهم الكبير في السن الصلاة؟ (1)
ج: يجب عليهم أن يعلموه إذا كان يجهل، لكن بالرفق واللين والكلام الطيب لا بالشدة حتى يقبل منهم، وهكذا مع غيره من كبار السن، يتحرى المعلم الرفق، لأنه أقرب للقبول، كما قال
__________
(1) نشر في محلة الدعوة العدد 1644، 10 صفر 1419 هـ.(29/203)
صلى الله عليه وسلم: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (1) » فالولد مع والده ومع أخيه الكبير ومع جده ومع أمه يرفق بهم كثيرا لعلهم يقبلون منه، وهكذا مع غيرهم، لأن الشدة قد تسبب الحرمان وعدم الفائدة.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والأدب، باب فضل الرفق برقم 2592.(29/204)
127 - حكم تعويد الأبناء للصلاة مع الجماعة
س: عندي أولاد يتامى، وأنا عمهم في بيت واحد، وأحضهم على مداومة الصلاة، وفي صلاة الفجر لا يصلون مع الجماعة، ويصلونها في الصباح، فما العمل أطردهم من المنزل، أو ماذا أفعل مع العلم أنهم لا يوجد لهم أحد غيري؟
ج: عليك أن تقوم عليهم ولو بالضرب حتى يستقيموا ويصلوا مع الجماعة الفجر، ولا تتساهل معهم فإن عصوا فاطردهم إذا صاروا مكلفين، اطردهم حتى يصلوا لمصلحة أنفسهم، لا تتساهل معهم أبدا وإن استطعت أن تضربهم فاضربهم، حتى يستقيموا ويصلوا مع الناس. النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: «مروا(29/204)
أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر (1) » وإذا كانوا بالغين فهو أشد، يستحقون أن يستتابوا، الذي لا يصليها إلا بعد طلوع الشمس ما صلاها، لازم أن يصليها في الوقت، ولا بد أن يصليها مع الجماعة في المسجد، لا يجوز التساهل مع هؤلاء سواء كانوا أبناء لك أو أبناء لأخيك أو أي إنسان عندك.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة برقم 495، وأحمد في مسند المكثرين من الصحابة مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه برقم 6717.(29/205)
128 - بيان وقت الزوال
س: ما هو الزوال ومتى يبدأ وقته وما معنى ظل كل شيء مثله أو مثليه؟
ج: الزوال ميل الشمس إلى جهة الغرب هذا هو الزوال، إذا مالت إلى جهة الغرب في نظر الناظر هذا الزوال، يتبين بالمنصوبات، إذا نصب شيء يتبين بعد فيء الزوال إذا زالت الشمس زاد الفيء بعد ما مالت للمغرب هذا هو الزوال.(29/205)
129 - حكم صلاة المرابط والحارس في مكانه
س: إذا كنت أثناء عملي أي الدوام الرسمي، وكنت مرافقا لأحد كبار المسئولين بالدولة، وبدأت مرافقته قبل صلاة العصر، وفات وقت صلاة العصر والمغرب كذلك، هل أجمع قبل أو بعد، أفيدوني أفادكم الله؟ (1)
ج: المرابط والحارس يصلي على حسب حاله، لا يؤخر الصلاة، المرابط في محل أو الحارس يصلي على حسب حاله يصلى في مكانه، الحراسة لا تمنعك الصلاة، يصلى في الوقت، كلما جاء الوقت صلى، وإن كان حارسا أو مرابطا على عمل، لا تمنع مرابطته الصلاة، يصلي على حسب حاله، وإذا حدث شيء يحتاج إلى قطع الصلاة، قطع الصلاة وأدرك الحاجة.
__________
(1) من أسئلة الحج، الشريط الثاني.(29/206)
130 - وقت صلاة المرأة للظهر يوم الجمعة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخت في الله:
أ. ع. ع وفقها الله وزادها من العلم والإيمان آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابك المؤرخ في 7 / 4 / 1994 م وصلك الله بهداه وجعلنا وإياك من عباده الصالحين وحزبه المفلحين. . وقد سرني وصول الكتب إليك فالحمد لله، وما تضمنه من الأسئلة كان معلوما وإليك جوابها مع صورة الرسالة التي تحمل الأسئلة:
س 1: صلاة المرأة يوم الجمعة وخاصة الظهر. هل تصلي عندما يؤذن الأذان الأول أم الثاني أم تصلي متى شاءت أم مع صلاة الجمعة في التلفاز؟ (1)
ج: الواجب على المرأة أن تصلي صلاة الظهر يوم الجمعة بعد الزوال كسائر الأيام.
__________
(1) من ضمن أسئلة للأخت: أ. ع. ع وأجاب عليها سماحته بالخطاب رقم 3553 \1 في 25\ 12 \ 1414 هـ.(29/207)
س 2: عندما تكون المرأة عند أقاربها أو جيرانها، هل تصلي أم حتى تأتي إلى بيتها مثال: الظهر والعصر. وهل تجمع الأوقات في آن واحد أريد إجابة دقيقة؟
ج: لا حرج أن تصلي المرأة عند جيرانها إذا دخل الوقت وأمكن ذلك بدون أن يترتب على ذلك شيء من المنكرات.(29/208)
131 - حكم تأخير الصلاة لعذر
س: أنا طالبة في المدرسة فهل يجوز تأخير صلاة الظهر حين الرجوع للمنزل، علما بأن الساعة قد تكون الواحدة والنصف؟ (1)
ج: لا حرج في ذلك، إذا اشتغلت بالدراسة، وإذا لم يتيسر أداء الصلاة في أول الوقت لا حرج؛ لأن وقت الظهر بحمد الله متسع فإذا كانت تصل إلى بيتها قبل انتهاء الوقت فلا بأس بذلك، وإن صلتها في أول الوقت فهو أفضل إذا تيسر ذلك.
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) شريط 11.(29/208)
132 - حكم تأخير صلاة العشاء للمنفرد
س: الأخ خ. ع. م. من حلب في سوريا يقول في سؤاله: سمعت أن تأخير صلاة العشاء للمنفرد أفضل. فهل هذا صحيح؟ (1)
ج: إذا كان المنفرد لا تلزمه الجماعة لمرض أو نحوه، فالتأخير إلى ثلث الليل أفضل؛ لورود الأحاديث الصحيحة في ذلك. والله ولي التوفيق.
__________
(1) من أسئلة المجلة العربية.(29/209)
133 - وجوب العناية بالاستيقاظ لصلاة الفجر
س: إذا الإنسان عن صلاة الفجر، فهل يؤتيه الله أجر باقي صلوات اليوم أم لا؟ وإذا قضاها بعد أن يستيقظ من نومه فهل تقبل منه؟ (1)
ج: ثبت عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها، إلا
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 1 ص 281.(29/209)
ذلك (1) » ، وهذا يعم صلاة الصبح وغيرها. أما الصلوات التي بعدها فإذا حافظ عليها وأداها في وقتها لم يضره نومه عن الصلاة التي قبلها، وأجره تام على حسب عمله واجتهاده في صلاته.
ولكن ليس له أن يتساهل في هذا الأمر، والواجب عليه أن يعهد إلى من يوقظه حتى يقوم إلى الصلاة في وقتها، أو يجعل عند رأسه ساعة تنبهه وقت الصلاة حتى لا يكون مفرطا ولا متساهلا، فإذا غلبه النوم مع أخذه بالأسباب فلا شيء عليه، وعليه أن يبادر بالصلاة متى استيقظ.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها برقم 684، وأحمد في المسند، مسند المكثرين مسند أنس بن مالك رضي الله عنه برقم 11561.(29/210)
134 - حكم الصلاة في الباخرة
س: إذا كان الإنسان في السفينة ونحوها وشرع في الصلاة إلى جهة القبلة حسب اجتهاده ومعرفته ثم لم ينتبه إلا وهو إلى جهة أخرى بسبب تغير اتجاهات السفينة ونحوها(29/210)
فما الحكم؟ (1)
ج: الواجب على المسلم أينما كان هو: أن يستقبل القبلة وهي الكعبة في صلاته وذلك من أهم شرائطها؛ لقوله سبحانه: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (2) وإنما يستثنى في ذلك العجز، كالمصلوب إلى جهة أخرى، والمريض الذي لا يجد من يوجهه إلى القبلة؛ لقول الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3) .
وكذا المسافر ينتقل إلى جهة طريقه، ولو كان إلى غير القبلة؛ لما ثبت في ذلك، فمن الأحاديث الصحيحة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة على راحلته حيث كان وجهه (4) » ، لكن الأفضل أن يستقبل القبلة عند الإحرام؛ لحديث حسن ورد في ذلك.
وأما الفريضة من القادر على استقبال القبلة فليس له أن يتوجه إلى غيرها سواء كان مقيما أو مسافرا، لكن من كان في السفينة أو الطائرة ونحوهما فالواجب عليه أن يتقي الله ما استطاع ويجتهد في استقبال القبلة حسب الإمكان ويدور مع السفينة
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(2) سورة البقرة الآية 150
(3) سورة التغابن الآية 16
(4) صحيح البخاري الجمعة (1105) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (700) ، سنن الترمذي الصلاة (472) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1688) ، سنن أبي داود الصلاة (1224) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1200) ، مسند أحمد (2/138) ، موطأ مالك النداء للصلاة (271) ، سنن الدارمي الصلاة (1590) .(29/211)
والطائرة كلما دارتا، وإذا غلبه الأمر في بعض الأحيان ولم يشعر إلا وهو إلى غير القبلة لم يضره ذلك؛ لقول الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) ، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) ، وقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (4) » .
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) سورة الحج الآية 78
(3) سورة التغابن الآية 16
(4) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم 7288، ومسلم في كتاب الفضائل، باب توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله برقم 1337.(29/212)
135 - حكم إعادة صلوات أقيمت في مسجد علم انحرافه عن القبلة
س: مسجد قريتنا بعدما كنا نصلي فيه فترة من الزمن، وعلمنا بعد ذلك أنه منحرف عن جهة القبلة، فهل يجب علينا(29/212)
إعادة الصلوات الماضية؟ (1)
ج: ليس عليكم الإعادة، والانحراف اليسير يعفى عنه، وليس عليكم إعادة، وإن كان الانحراف تبين لكم أنه يسير فالاحتياط تعديله، لكن لو كان ميلا كبيرا فإنه يجب تعديله وهذا لا يخفى، إنما يخفى الشيء اليسير، وهذا يعفى عنه.
__________
(1) سؤال موجه لسماحته في حج 1415هـ.(29/213)
136 - مسألة في استقبال القبلة
س: يقول هذا الأخ في ملاحظته، سماحة الشيخ أثابكم الله، رأيت كثيرا من الحجاج يستقبلون بئر زمزم ويصلون ركعتين دون استقبال الكعبة أرجو تفضلكم بحث المسئولين على إرشاد الحجاج في ذلك جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: هذا باطل يجب التنبيه عليه؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يستقبل زمزم ولا غيرها، الواجب استقبال الكعبة في كل مكان، فإذا كان يرى الكعبة فعليه أن يستقبل عينها في المسجد، وعند
__________
(1) سؤال موجهة لسماحته بعد الدرس التي ألقاه سماحته في المسجد الحرام في 25\ 12\ 1418 هـ.(29/213)
البعد يستقبل الجهة، الله جل وعلا أمر بهذا {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (1) فالواجب على جميع المسلمين استقبال الكعبة، إن كانوا بحضورها إلى عينها، وإن كانوا بعيدين إلى جهتها، ويعلم الجاهل إذا استقبل زمزم أو غيره، يعلم الجاهل. على أهل الحرم ورجال الحرم أن يعلموا الجاهل ويرشدوه، هذا هو الواجب على الجميع، وهذا هو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 144
(2) سورة التوبة الآية 71(29/214)
137 - حكم من صلى وليس على أحد عاتقيه ثوب
س: أفيد سماحتكم أنه يوجد كثير من الإخوان هداهم الله يصلون الصلاة وهم في إزار واحد وهو الذي أسفل البطن، أما الإزار الذي على الظهر فإنهم ينزلونه في الأرض أو يربطونه على بطونهم، فأرجو إبلاغهم، هل صلاتهم صحيحة وهم مكشوفو الأظهر والبطون وهذا كثير ومتكرر فأرجو(29/214)
إفتائي في ذلك جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: الواجب على المؤمن أن يصلي في إزار ورداء لا بد أن يكون على عاتقيه أو أحدهما شيء، فإذا أراد الدخول في الصلاة فالواجب أنه يجعل الرداء على عاتقيه، أو يلبس قميصا إذا كان في غير الإحرام، فالمقصود أنه لا بد من ستر العاتقين، أو أحدهما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء (2) » وقال صلى الله عليه وسلم لجابر في الحديث: «وأمره أن يلتحف بثوبه ويجعل أطرافه على عاتقيه فإن لم يقدر على ذلك اتزر به (3) » أمره أن يلتحف به إن قدر وإلا اتزر به، فالحاصل أنه متى استطاع أن يغطى عاتقيه أو أحدهما وجب عليه ذلك، وليس له أن يصلى وعاتقاه مكشوفان وهو يقدر، أما العاجز الذي ما عنده إلا إزار لعجزه فصلاته صحيحة، أما الذي ليس بعاجز بل عنده رداء فإنه يصلي في رداء وإذا صلى وهو مكشوف العاتقين فينبغي
__________
(1) من أسئلة حج عام 1406 هـ.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه برقم 359، ومسلم في كتاب الصلاة، باب الصلاة قي ثوب واحد وصفة لبسه برقم 516.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب إذا كان الثوب ضيقا برقم 361.(29/215)
له أن يعيد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء (1) » والأصل في النهي التحريم وقد ذهب إلى هذا بعض أهل العلم فقالوا: من صلى وعاتقاه مكشوفان وهو يقدر فعليه الإعادة ولا سيما الفريضة فإن أمرها عظيم، كذلك بعض الناس فيما بلغني قد يصلي في ثياب رقاق عليه قميص رقيق وسراويل قصيرة، ويبدو فخذه ويصلي تحت الثوب الرقيق، هذا أيضا لا يجوز فالواجب أن تكون السراويل ساترة أو الثوب ساترا ويلبس قميصا ساترا لفخذيه؛ وإما أن يكون عليه سراويل ساترة وافية تستر فخذيه، ولا يجوز التساهل في هذا الأمر، ولا الصلاة في سراويل قصيرة وفي ثوب رقيق. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (359) ، صحيح مسلم الصلاة (516) ، سنن النسائي القبلة (769) ، سنن أبي داود الصلاة (627) ، مسند أحمد (2/520) ، سنن الدارمي الصلاة (1371) .(29/216)
138 - حكم الصلاة في الملابس الضيفة
س: ما حكم الصلاة بالملابس الضيقة للرجال؟ وهل يصلي بالناس من يرتديها؟ (1)
ج: الملابس الضيقة يكره لبسها للرجال والنساء جميعا، والمشروع أن تكون الملابس متوسطة، لا ضيقة تبين حجم العورة ولا واسعة ولكن بين ذلك.
أما الصلاة فهي صحيحة - إذا كانت ساترة - ولكن يكره للمؤمن تعاطي مثل هذه الألبسة الضيقة وهكذا المؤمنة. يكون اللباس متوسطا بين الضيق والسعة. هذا هو الذي ينبغي.
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) الشريط العاشر.(29/217)
139 - حكم الصلاة في ثياب بنصف الكم
س: ما حكم الصلاة في ثياب بنصف الكم للرجل؟ (1)
ج: لا بأس، يصلي الرجل بثياب قد بدا فيها نصف ساعده أو ساعده كله أو عضده كله، وهذا ليس بعورة، هذا إذا صلى
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407 هـ؛ شريط رقم 2(29/217)
في إزار وعلى عاتقيه شيء كفى، فالعورة ليست في ذراعه وساقه، وإنما هذا عورة في حق المرأة هي التي عورة كلها، أما الرجل فعورته في الصلاة من السرة إلى الركبة مع ستر أحد العاتقين.(29/218)
140 - حكم انكشاف الفخذ في الصلاة
س: هل من السنة قراءة سورة الكهف يوم الجمعة؟ وهل الفخذ عورة؟ (1)
ج: قراءة الكهف يوم الجمعة ورد فيه بعض الأحاديث التي فيها ضعف، ولكن يشد بعضها بعضا، وفعله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فإذا قرأها - يوم الجمعة فحسن، سورة الكهف -.
وأما الفخذ فهو عورة على الراجح عند أكثر أهل العلم، وعليه أن يستره في الصلاة وعند الناس أيضا.
__________
(1) من أسئلة الحج في منى يوم التروية، الشريط الرابع.(29/218)
141 - حكم الصلاة في ثياب، ملطخة بدم الهدي
س: هل تصح الصلاة بالثياب الملطخة بدم الهدي؟ ومن صلى وبها دم فماذا عليه؟ وما الذي يؤثر دم الذبيحة أم الدم الذي في اللحم؟ (1)
ج: الثياب يجب غسلها أو إبدالها لا يصلي فيها وهى ملطخة بالدم، إما أن يغسلها وإما أن يبدلها، يغسلها ويؤخر الصلاة حتى يغسلها، وإذا كان عالما بالدم عامدا فيعيد، أما إن كان ناسيا أو جاهلا فما عليه إعادة، أما إذا كان عامدا ذاكرا وتساهل فعليه أن يعيدها، والمقصود الدم المسفوح الذي يخرج من الذبيحة، أما دم اللحوم فلا يضر، دم اللحوم الذي يبقى في الأعضاء والعروق هذا معفو عنه، والمقصود الدم الذي يخرج عند ذبح الذبيحة.
__________
(1) من فتاوى الحج، الشريط الرابع.(29/219)
142 - المسبل آثم وصلاته صحيحة
س: ما حكم الصلاة في الثوب الذي غطى الكعبين؟ وهل تصح الصلاة خلف من ثوبه كذلك؟ رغم أن هذا الرجل يعلم أحاديث النهي عن ذلك. أفيدونا جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: صلاة المسبل صحيحة ولكنه آثم، والواجب نصيحته وتحذيره مما حرم الله عليه، ويجب على المسلم ألا تنزل ملابسه عن الكعب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار (2) » خرجه الإمام البخاري في صحيحه.
وحكم جميع الملابس من قميص وسراويل وبشت حكم الإزار، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان فيما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب (3) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1654 - 21 ربيع الآخر 1419 هـ.
(2) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار برقم 5787.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية برقم 106.(29/220)
وهذا في حق الرجال. أما المرأة فالواجب عليها ستر قدميها عند خروجها إلى الأسواق بالجوارب أو الملابس الضافية، وهكذا في البيت إذا كان عندها أجني كأخي زوجها ونحوه. وبالله التوفيق.(29/221)
143 - حكم إظهار اليدين والقدمين من المرأة في الصلاة
س: ما حكم إظهار اليدين والقدمين في الصلاة من المرأة، وإذا كان لا يجوز فهل إظهارهما يبطل الصلاة بمعنى أن صلاة المرأة على تلكم الحالة غير صحيحة، جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: إظهار القدمين في الصلاة لا يجوز عند جمهور أهل العلم ويبطل الصلاة، فإذا صلت المرأة وقدماها مكشوفتان وجب عليها أن تعيد عند أكثر أهل العلم، أما الكفان فأمرهما أوسع. إن سترتهما فهو أفضل، وإن أظهرتهما فلا حرج إن شاء الله كالوجه، فالوجه السنة كشفه في الصلاة، إلا أن يكون عندها غير محرم - أي أجنبي- فإنها تستر وجهها وكفيها، أما إن كانت ما عندها
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.(29/221)
أحد فلا مانع من كشف الكفين، وإن سترتهما فهو أفضل، أما الوجه فالسنة كشفه في الصلاة إن لم يكن عندها أجنبي.(29/222)
س: الأخت ح. ن. من الريا في المملكة العربية السعودية تسأل ما حكم تغطية اليدين والرجلين في الصلاة هل هو واجب على المرأة أم يجوز كشفها، لا سيما إذا لم يكن عندها أجانب أو كانت في الصلاة مع نساء؟ (1)
ج: أما الوجه فالسنة كشفه في الصلاة إذا لم يكن هناك أجانب، أما القدمان فالواجب سترهما عند جمهور أهل العلم، وبعض أهل العلم يتسامح في كشف القدمين، ولكن الجمهور يرى المنع، وأن الواجب سترهما؛ ولهذا روى أبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن المرأة تصلي في خمار وقميص، قالت: لا بأس إذا كان الدرع يغطي ظهور قدميها.
فستر القدمين أولى وأحوط بكل حال، أما الكفان فأمرهما أوسع إن كشفتهما فلا بأس وإن سترتهما فلا بأس، وبعض أهل العلم يرى أن سترهما أولى. والله ولي التوفيق.
__________
(1) من أسئلة المجلة العربية.(29/222)
144 - تغطية الرأس للمرأة عند سجود التلاوة
س: هل تغطية الرأس واليدين والقدمين واجبة عند سجود التلاوة في حق المرأة؟ (1)
ج: ليست التغطية المذكورة واجبة؛ لأن سجود التلاوة ليس صلاة في أصح قولي العلماء وإنما هو خضوع لله، وذل بين يديه، كالقراءة والذكر ونحو ذلك.
وقال بعض أهل العلم: إنه كالصلاة لا بد من الطهارة، ولا بد من ستر العورة، فإذا سجدت المرأة بتستر فهذا أفضل وأولى؛ خروجا من خلاف العلماء.
وهكذا إذا كانت على طهارة فهو أفضل، وهكذا الرجل وسجوده على طهارة أفضل، لكن لا يجب الطهارة في سجود التلاوة وسجود الشكر. فلو سجدت المرأة ورأسها مكشوف أو هي على غير وضوء، فالسجود صحيح ولا حرج في ذلك كالرجل في أصح قولي العلماء، لعدم الدليل المقتضي لاشتراط الطهارة، فإن سجود التلاوة يعرض للإنسان وهو يقرأ القرآن عن ظهر قلب،
__________
(1) من برنامج نور على الدرب الشريط الرابع عشر.(29/223)
وهو على غير طهارة، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالطهارة. وقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه ما يدل على أنها ليست بشرط. وأنه لا مانع من السجود على غير طهارة.
فالحاصل أن سجود التلاوة وسجود الشكر لا يشترط لها الطهارة. فإنه لو بشر بولد له أو فتح إسلامي أو بأمر يسر المسلمين فسجد شكرا لله فلا بأس، ولو كان على غير طهارة. ولما بلغ الصديق رضي الله عنه مقتل مسيلمة الكذاب سجد لله شكرا.(29/224)
145 - حكم صلاة المرأة بالقفازين
س: حكم الصلاة، والمرأة ترتدي القفازين؟ (1)
ج: لا مانع أن تصلي في قفازين، وهذا أستر لها، أو بجلالها الذي عليها أو بغير ذلك، هذا أفضل ولا يبقى مكشوف إلا الوجه هذا أفضل، وإن كشفت الكفين صح ذلك في أصح قولي العلماء. وهذا كله إذا كانت في محل ليس فيه أجنبي.
أما إذا كان فيه رجل ليس محرما لها فإنها تغطى جميع البدن حتى الوجه وهي في الصلاة.
__________
(1) نور على الدرب، شريط 11.(29/224)
146 - حكم الصلاة بالنعال
س: ما حكم الصلاة والإنسان لابس حذاءه، وخاصة أن المساجد في وقتنا الحاضر مفروشة بأحسن الفرش، وبعض الناس يقول: إنه بذلك يحيي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونرجو بيان حكم الشرع في ذلك؟ (1)
ج: هذا السؤال جوابه فيه تفصيل، فإذا كان الحذاء سليمة ونظيفة ليس فيها شيء يؤذي المصلين والفرش فلا حرج في ذلك والصلاة صحيحة؛ لأنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى في نعليه، وقال للصحابة لما خلع نعليه ذات يوم من أجل أذى فيهما وخلع الناس نعالهم، قال لهم صلى الله عليه وسلم لما سلم من صلاته: «ما لكم خلعتم نعالكم؟ قالوا: رأيناك يا رسول الله خلعت نعليك فخلعنا نعالنا. فقال صلى الله عليه وسلم: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما أذى (2) » - وفي لفظ: قذرا- فخلعتهما،
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1651 في 29\ 3\ 1419 هـ ونشر في فتاوى إسلامية ج 1 لمحمد المسند ص 281.
(2) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين مسند أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه برقم 11467.(29/225)
«إذا أتى أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه أذى فليمسحه ثم ليصل فيهما (1) » . هكذا جاء عنه عليه الصلاة والسلام. أما إن كان فيهما قذر أو فيهما نجاسة أو شيء يؤذي الفرش من طين ونحوه فإنه لا يصلي فيهما ولا يدخل بهما المسجد، بل يجعلهما في مكان عند باب المسجد حتى لا يؤذي المسجد، ومن فيه، وحتى لا يقذر عليهم موضع صلاتهم، لا سيما بعد وجود الفرش التي تتأثر بكل شيء، فالأولى بالمؤمن في هذه الحالة أن يحفظ نعليه في أي مكان، ويمشي في المسجد بدون نعلين حتى لا يؤذي أحدا لا بتراب ولا بغيره. أما السنة في هذا فتحيا بالكلام والبيان أن هذا فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا حرج فيه، ولكن أكثر الناس لا يبالي ولا يتحفظ من نعليه، بل يدخل المسجد ولا يبالي، فإذا سمح لهؤلاء بالدخول في المسجد بنعالهم تجمعت القاذورات والأذى في الفرش، وتمنع بعض الناس من الصلاة في المسجد من أجل هذا فهو يجني على المصلين ويؤذيهم بما يتقذرون منه، وهو إنما جاء بقصد الخير وفعل السنة، فالسنة في هذه الحالة ألا يؤذي المصلين وألا يقذر عليهم مسجدهم. هذا هو الذي ينبغي للمؤمن، ولا شك أن الفرش تتأثر بكل شيء. وهذا
__________
(1) سنن أبي داود الصلاة (650) ، مسند أحمد (3/20) ، سنن الدارمي الصلاة (1378) .(29/226)
هو الأفضل وهو مقتضى القواعد الشرعية، أما إذا كانت المساجد بدون فرش فإنه إذا صلى في نعليه فهو أفضل إذا كانت نظيفة وسليمة من الأذى عملا بالسنة.(29/227)
147 - حكم الصلاة إذا كان الحمام في قبلة المصلي
س: إذا كان الحمام في قبلة المصلي في فيلا أو صالة أو حوش، هل تصح الصلاة إليه؟ (1)
ج: تصح الصلاة ولا حرج في ذلك، وإنما ينهى عن الصلاة في داخل الحمام.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد: 1691 في 27\ 1\ 1420 هـ.(29/227)
148 - حكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور
س: ما حكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور؟ (1)
ج: نسأل الله العافية من هذه البلوى المنتشرة في بعض ديار المسلمين إنا لله وإنا إليه راجعون. نسأل الله العافية نسأل االعافية، حكمها أنها باطلة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » رواه الشيخان. ويقول صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن من كل قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوها مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (3) » خرجه مسلم صحيحه من حديث جرير بن عبد الله البجلي، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة
__________
(1) من أسئلة حج عام 1400هـ يوم عرفة، الشريط رقم 3.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور برقم 1330، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ برقم 529.
(3) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور برقم 532.(29/228)
وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد (1) » نسأل الله السلامة، ما أدري ماذا نقول، ما تدري كيف حال العلماء هناك، كيف يسكتون كيف يتساهلون في الأمر، لأن هذا أمر عظيم وخطير، ومن العجائب أنهم يحتجون بدخول قبر النبي في مسجده صلى الله عليه وسلم، فالني صلى الله عليه وسلم مدفون في بيته، وليس في المسجد، إنما كان أدخله الوليد للتوسعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما مر لم يدفن في المسجد ولا قبر في المسجد بل قبر في بيته بيت عائشة رضي الله عنها لكن لا حول ولا قوة إلا بالله. وعليه أن يصلي في بيته إذا ما تيسر له مسجد، عليه أن يصلي في بيته ولا يصلي في المساجد التي فيها قبور، إذا ما وجد مسجدا خاليا من القبور فإنه يصلي في بيته مع إخوانه أو جيرانه، أو يلتمس مكانا ليس فيه مسجد به قبور، أو يتصلون بالدولة ويراجعون الدولة إذا كان ذلك متيسرا حتى تنبش القبور التي في المساجد، وتنقل للمقابر وتبقى المساجد سليمة، وعلى العلماء أن يسعوا لدى الدولة لعلهم يجدون من هو أقرب للفهم من غيره وألين من غيره في هذا ربما تيسر على يده ما يعين على إزالة هذا المنكر، ولا تيأسوا حتى تسلم بعض المساجد من القبور؛
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة مسند عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه برقم 3834.(29/229)
لكن التساهل في هذا لا يعفي العلماء وطلاب العلم من المسئولية أمام الله، يقول سبحانه في سورة الزخرف: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (1) .
سؤال من مقدم البرنامج: ولو كان القبر منعزلا في حجرة خارجية يا شيخ عبد العزيز؟
ج: مادام في المسجد سواء عن يمينك، وإلا عن شمالك وإلا أمامك وإلا خلفك فلا تصح الصلاة فيه، أما إذا كان خارج المسجد فلا يضر بشيء، المهم أن القبر بني عليه المسجد.
س: من أجاز الصلاة في المساجد التي فيها قبور يحتج بأن المسجد النبوي فيه قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، فما رأيكم في ذلك؟ (2)
ج: يبين له أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم في بيته لا في المسجد، والمخطئ هو الذي أدخل القبر في المسجد.
__________
(1) سورة الزخرف الآية 44
(2) من ضمن الأسئلة الموجهة إلى سماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(29/230)
س: هل يصلى في المساجد التي فيها قبور؟
ج: المسجد الذي فيه قبر لا يصلى فيه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
س: إذا كان المسجد الذي فيه قبر هو الوحيد في البلد فهل يصلي المسلم فيه؟
ج: لا يصلى المسلم فيه أبدا، وعليه أن يصلي في غيره أو في بيته إن لم يجد مسجدا سليما من القبور، ويجب على ولاة الأمور نبش القبر الذي في المسجد إذا كان حادثا ونقل رفاته إلى المقبرة العامة وتوضع في حفرة خاصة يسوى ظاهرها كسائر القبور، وإذا كان القبر هو الأول فإنه يهدم المسجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم «لعن اليهود والنصارى الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » ، ولما أخبرته أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أنهما رأتا كنيسة في الحبشة وما فيها من الصور، قال لهما عليه الصلاة والسلام: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5816) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي الجنائز (2047) ، سنن أبي داود الجنائز (3227) ، مسند أحمد (6/275) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(29/231)
شرار الخلق عند الله (1) » متفق على صحته. ومن صلى في المساجد التي فيها القبور فصلاته باطلة، وعليه الإعادة، للحديثين المذكورين وما جاء في معناهما.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب بناء المسجد على القبر برقم 1341، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور برقم 528.(29/232)
149 - حكم الصلاة في مسجد في مؤخرته قبر، بينهما حاجز
فضيلة الوالد العلامة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظك الله ورعاك.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: (1)
نحن شباب منطقة (الدرجاج) في اليمن:
نرفع إليكم هذا الخطاب مضمنا لسؤالين هامين نرجو منكم الإجابة الخطية عليهما حتى نعرضهما على أهالينا، وفقكم الله للهدى والصواب في جميع الأقوال والأعمال:
__________
(1) جواب صدر من مكتب سماحته برقم 1585 ش في 24\ 11\ 1415 هـ.(29/232)
س: يوجد عندنا مسجد كبير يضم جميع المصلين، وهو الوحيد في المنطقة، ومشكلتنا: أنه يوجد بجانب المسجد (قبر) وقد تم توسعة المسجد - لحاجة الناس - فدخل القبر في المسجد، وقد عملنا للقبر حاجزا يفصله عن المسجد ويمنع المصلين من الصلاة خلفه، علما بأن القبر في مؤخرة المسجد؟ ويمكننا أن نخرج القبر إلى المقبرة بدون مشاكل، وخاصة إذا أفتيتمونا بذلك؟ فما حكم الصلاة في هذا المسجد والحال ما ذكرنا؟
فالجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
إنه يجب عليكم إخراج القبر من المسجد، ولا يجوز الدفن في المساجد، ولا بناء المساجد على القبور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » متفق على صحته، فنسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد (6/274) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(29/233)
س: ما حكم الصلاة في مسجد الحسين في مصر، ومعلوم أن الحسين لم يدفن في مصر ويكون القبر خاليا؟ (1)
ج: ما دام عندهم مظهر الحسين، أو الدعوة دعوة
__________
(1) من أسئلة حج 1408 شريط 3.(29/233)
الحسين، أو قبر الحسين، لا يجوز للمسلم أن يوافقهم على هذا فلا يصلي فيه ولا يعتبرها صلاة؛ لأن المظهر واضح، سواء في قبر الحسين أو غيره.(29/234)
س: يوجد عندنا مسجد به ضريح، ولا نعلم هل المسجد بني على القبر أم المسجد بني أولا؟ وقد قمنا لعدم توفر النفقة لبناء مسجد آخر ببناء جدار يفصل القبر عن المسجد؛ علما أن بناء الجدار الفاصل داخل حدود المسجد، فهل هذا العمل جائز، أفتونا جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: الواجب نبش القبر وإخراج الرفات ودفنه في المقبرة العامة، هذا إذا كان الميت دفن في المسجد بعد بناء المسجد، فإنه ينبش القبر ويؤخذ الرفات ويوضع في المقابر العامة، كسائر القبور، ولا يجوز دفن الموتى في المساجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » وأخبر أن اليهود والنصارى إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور.
__________
(1) سؤال بعد الدرس الذي ألقاه سماحته في المسجد الحرام في 25\ 12\ 1418 هـ
(2) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد (6/274) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(29/234)
قال: «أولئك شرار الخلق عند الله (1) » فالواجب إذا كان هناك مسجد وضع فيه قبر يجب إخراج رفات القبر ووضعها في قبر خاص في المقبرة العامة حتى يزول وحتى لا يوجد في المساجد شيء من القبور. أما إذا كان القبر هو القديم وبني المسجد على القبر، فإنه يهدم المسجد ويلتمسون مسجدا آخر بأن يبنى لهم مسجد في محل آخر ولا يبنون في المحل هذا، يبنون مسجدهم في محل آخر، أرض الله واسعة، الرسول نهى أن يبنى على القبر وأن يصلى عليه وأن يجصص وأن يقعد عليه. الرسول نهى عن هذا، لا يبنى على القبور ولا يقعد عليها ولا تجصص؛ لأن هذا وسيلة إلى الشرك، وقال: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها (2) » (3) هكذا قال عليه الصلاة والسلام فإذا كان المسجد هو الذي بني على القبر يهدم المسجد ويبنون في محل أخر ليس فيه قبور والقبر إذا كان محدثا في المسجد فإنه ينبش ويوضع في محل القبور حتى لا يغلى فيه حتى لا يفتن به أحد. نسأل الله العافية، ونسأل الله أن يهدي المسلمين.
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1341) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (528) ، سنن النسائي المساجد (704) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبي داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد (4/135) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه برقم 972.(29/235)
س: هل تجوز الصلاة في مسجد فيه قبر خارج المسجد لكنه في داخل السور؟ (1)
ج: المساجد التي تبنى على القبور لا يصلى فيها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » فإذا كانت القبور في داخل السور لا يصلى فيها، أما إذا كان خارجا في الأرض الخارجية عن يمينه أو شماله أو أمامه ما يضر، لكن إذا كانت في داخله لا يصلى فيه هذا من عمل اليهود والنصارى قال الرسول: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قالت عائشة: يحذر ما صنعوا (3) » . ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا، فدفنوه في بيت عائشة رضي الله عنها، لكن لما وسع الوليد بن عبد الملك المسجد أدخل القبر في المسجد في بيت عائشة، والرسول صلى الله عليه وسلم ليس في المسجد، ولكنه في بيت عائشة، وإنما أدخل البيت برمته في المسجد، فليس لأهل القبور حجة في ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم أدخل بيته في المسجد، لما وسع فليس لأحد أن يدفن في المسجد، ولا أن يقبر في المسجد، وعمل الوليد ليس بحجة، وليس عمله دفنا في المسجد، وإنما هو أدخل الحجرة برمتها توسعة للمسجد.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1415 هـ الشريط رقم 49\ 3
(2) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد (6/274) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(3) صحيح البخاري اللباس (5816) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، مسند أحمد (6/275) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(29/236)
باب صفة الصلاة
155 - نحن مأمورون أن نصلي كما صلى عليه الصلاة والسلام
س: كيف كانت صلاة الأنبياء قبل الإسلام، وكيف كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قبل الإسراء والمعراج؟ (1)
ج: صلاة الأنبياء الله أعلم بها، نحن مأمورون بالصلاة التي أمرنا بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فعلينا أن نصلي كما صلى عليه الصلاة والسلام يقول صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي (2) » .
__________
(1) من أسئلة حج عام 1418 هـ بمنى.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة برقم 631.(29/237)
151 - الكلام على حديث في آداب المشي إلى الصلاة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم مدير مدرسة تحفيظ القرآن الكريم الابتدائية بجدة سلمه الله. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: (1)
فقد اطلعت على استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 752 وتاريخ 24\2\1407 هـ.
وأفيدك بأن حديث: «اللهم إني أسألك بحق السائلين (2) » . . . حديث ضعيف الإسناد. لكن ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في آداب المشي إلى الصلاة؛ لكونه من أحاديث الترغيب في هذا الدعاء، وأكثر أهل العلم رحمهم الله تعالى يتساهلون في ذكر أحاديث الترغيب والترهيب، وإن كان فيها ضعف، وفق الله الجميع لما فيه رضاه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) جواب صدر من مكتب سماحته برقم 1185 في 20\ 4\ 1407 هـ.
(2) سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (778) ، مسند أحمد (3/21) .(29/238)
152 - حكم إرسال اليدين حال القيام في الصلاة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم س. م. أ. وفقه الله لكل خير وزاده من العلم والإيمان آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
سؤالك عن: إرسال اليدين حال القيام في الصلاة؟ (1)
والجواب: هذا مكروه، والسنة ضمهما وجعلهما على الصدر وجعل اليمنى على كف اليسرى والرسغ والساعد، لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سهل بن سعد ووائل بن حجر وهلب الطائي ما يدل على ذلك.
أما الإرسال فلا دليل عليه، بل هو خلاف السنة، لكن لا ينبغي التشديد في ذلك، بل المشروع تعليم السنة بالرفق والحكمة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) جواب صدر من مكتب سماحته برقم 801\ خ في 9\ 5\ 1419 هـ(29/239)
153 - سنية وضع اليدين في الصلاة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم مدير مدرسة تحفيظ القرآن الكريم الابتدائية بجدة سلمه الله. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: (1)
فقد اطلعت على استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء لرقم 752 وتاريخ 24 / 2 / 1407 هـ.
وأفيدك بأن ما ذكر من جهة وضع اليدين في الصلاة تحت السرة موافق لمذهب الإمام أحمد رحمه الله وهو المعروف في كتب الحنابلة وهو قول جماعة من أهل العلم، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الأفضل وضع اليدين على الصدر حال القيام في الصلاة وهو الأرجح دليلا. وفق الله الجميع لما فيه رضاه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة الإرشاد
__________
(1) جواب صدر من مكتب سماحته برقم 1185 في 20\ 4\ 1407 هـ.(29/240)
154 - السنة للمصلي أن ينظر إلى موضع سجوده حال القيام
س: أين يكون نظر المصلي في الصلاة؟ (1)
ج: السنة أن ينظر في موضع سجوده حال قيامه، وهكذا حال ركوعه، أما في حال الجلوس فينظر إلى محل إشارته إذا جلس للتشهد أو بين السجدتين ينظر إلى محل الإشارة كما جاء في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
س: في حال الصلاة في الحرم أيهما أفضل النظر إلى الكعبة أم محل السجود؟ (2)
ج: المشروع في جميع الصلوات، وفي كل مكان النظر إلى موضع السجود؛ لأن ذلك أخشع للعبد وأجمع للقلب، إلا في حال التشهد فإن السنة النظر إلى موضع الإشارة. والله الموفق.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.
(2) سؤال من جريدة المسلمون، وأجاب عليه سماحته في 12\ 6\ 1419 هـ.(29/241)
155 - إحضار القلب في الصلاة سبب في الخشوع
س: تقول السائلة: عندما أقف بين يدي الله سبحانه وتعالى في الصلاة تحضر في عقلي أفكار وأفكار ووساوس، فهل صلاتي صحيحة مع هذه الأفكار، ما العمل الذي أعمل حتى تبتعد عني هذه الأفكار السوداء جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: عليك أن تجاهدي نفسك في إحضار قلبك بين يدي الله، واستحضار أنك بين يدي الله، وأن الله سبحانه يراقبك ويرى مكانك حتى تخشعي لله، وحتى تبتعد عنك الوساوس، فإذا كثرت فتعوذي بالله من الشيطان وانفثي عن يسارك ثلاث مرات، وقولي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاث مرات، تزول هذه الوساوس إن شاء الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بعض الصحابة بذلك، لكن عليك أن تجتهدي في إحضار قلبك بين يدي الله، واستشعار أنك بين يدي الله، وأن الله سبحانه يطلع عليك ويرى مكانك، كما في الحديث الصحيح: «الإحسان أن تعبد
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.(29/242)
الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك (1) » فاستشعري هذه العظمة وهذه الرؤية وأنه سبحانه يراك ويعلم حالك فاخشعي لله واحذري الوساوس، وهذا من أسباب سلامتك من الوساوس، لكن متى بقيت ولم تزل فتعوذي بالله من الشيطان ولو في الصلاة فاتفلي عن يسارك ثلاث مرات، وقولي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاث مرات وتزول هذه الوساوس إن شاء الله.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب: سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم برقم 50، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان برقم 8.(29/243)
156 - حكم الاستعاذة والبسملة في كل ركعة؟
س: هل يلزم الالتزام بالاستعاذة والبسملة في كل ركعة من ركعات الصلاة أم يكفي ذلك في الركعة الأولى؟ (1)
ج: أما التسمية فالسنة في كل الركعات، إذا كنت تقرأ سورة مستقلة تسمي قبلها، أما الاستعاذة فسنة في الركعة الأولى، أما الركعات الأخرى فاختلف فيها العلماء هل تشرع الاستعاذة أم لا؟
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) شريط رقم 11.(29/243)
فمن استعاذ فلا بأس ومن ترك فلا بأس في الركعات الأخرى، لكن تشرع الاستعاذة في الركعة الأولى بتأكيد وهكذا التسمية، أما في الركعات الأخرى فيسن. . رجل أو امرأة، يسن إذا افتتح سورة، أما إذا كان يقرأ بعض آيات فلا حاجة إلى التسمية تكفي التسمية الأولى عند قراءته الفاتحة.(29/244)
157 - مسألة في الإسرار بالبسملة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم س. م. أ. وفقه الله لكل خير وزاده من العلم والإيمان آمين.
سؤالكم عن: الجهر بالبسملة وعدم التأمين؟ (1)
وجوابه: الأفضل الإسرار بالبسملة؛ لقول أنس رضي الله عنه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم (2) » . وإذا جهر بها الإنسان بعض الأحيان للتعليم فلا بأس به؛ لأنه ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه ما يدل على ذلك. أما التأمين فالسنة الإتيان به بعد كلمة {وَلَا الضَّالِّينَ} (3) في الصلاة وخارجها؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه
__________
(1) جواب صدر من مكتب سماحته برقم 801\ خ في 9\5\ 1419 هـ
(2) صحيح البخاري الأذان (743) ، صحيح مسلم الصلاة (399) ، سنن الترمذي الصلاة (246) ، سنن النسائي الافتتاح (907) ، سنن أبي داود الصلاة (782) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (813) ، مسند أحمد (3/275) ، موطأ مالك النداء للصلاة (179) ، سنن الدارمي الصلاة (1240) .
(3) سورة الفاتحة الآية 7(29/244)
وسلم أنه كان يفعل ذلك ويقول صلى الله عليه وسلم: «إذا قال الإمام: ولا الضالين فقولوا: آمين فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه (1) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب جهر المأموم بالتأمين برقم 780.(29/245)
158 - مسألة في دعاء الاستفتاح في الصلاة
س: هل يجوز أن أقرأ مع دعاء الاستفتاح الدعاء الآتي: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس. اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد، أي هل يجوز أن أقول الدعاءين معا بعد تكبيرة الإحرام، لأني تعودت على ذلك وأخاف أن يكون في ذلك إثم؟ (1)
ج: لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنواع من الاستفتاحات منها ما ذكرت في السؤال، وهو أنه «كان عليه الصلاة والسلام إذا كبر التكبيرة الأولى في الصلاة سكت سكتة يقول فيها: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق
__________
(1) من أسئلة المجلة العربية.(29/245)
والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد (1) » متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو أصح الاستفتاحات، ومنها أنه كان يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك (2) » وهذا هو أخصرها، وكان عمر رضي الله عنه يعلمه الناس، وهو مروي من حديث عمر وعائشة وأبي سعيد رضي الله عنهم من طرق يقوي بعضها بعضا، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم (3) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه، وهناك أنواع
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب ما يقول بعد التكبير برقم 44، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة برقم 598.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب حجة من قال: لا يجهر بالبسملة برقم 399.
(3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه برقم 770.(29/246)
أخرى، والأفضل أن يأتي المؤمن بهذا تارة وهذا تارة، أما الجمع بين استفتاحين أو أكثر فلا أعلم في شيء من الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، فالأولى تركه إلا أن يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الأحاديث أنه جمع بين استفتاحين. وبالله التوفيق.(29/247)
159 - حكم قراءة المرأة في الصلاة الجهرية والسرية بصوت مسموع
س: ما حكم قراءتي في الصلاة الجهرية والسرية بصوت مسموع وأنا في المنزل وذلك لكي تتعلم ابنتي الصغيرة وعمرها سنتان هذه السورة، وكذلك الصلاة؛ لأنها تقلدني في الحركات، وكذلك تنطق بعض الحروف والكلمات بطريقة نوعا ما مفهومة؟ جزاكم الله خيرا (1) .
ج: الواجب النطق بالقراءة على وجه تسمعين به نفسك، أما إسماع غيرك ففي الإمكان تعليمه خارج الصلاة. . ابنتك المذكورة ليست محل التعليم، لصغر سنها. والله الموفق.
__________
(1) من أسئلة مجلة الدعوة أجاب عليه سماحته في 5\10\ 1419هـ.(29/247)
160 - حكم قراءة الفاتحة في الصلاة
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد (1) :
فإن الله جل وعلا شرع لعباده في كل ركعة من الصلاة أن يقرءوا فاتحة الكتاب وهي أم القرآن وهي أعظم سورة في كتاب الله عز وجل كما صح بذلك الخبر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال «إنها أعظم سورة في كتاب الله وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم وهي الحمد (2) » . هذه السورة العظيمة اشتملت على الثناء على الله وتمجيده جل وعلا وبيان أنه سبحانه هو المستحق لأن يعبد وأن يستعان به واشتملت على تعليم العباد وتوجيه العباد إلى أن يسألوه سبحانه وتعالى الهداية إلي الصراط المستقيم فمن نعم الله العظيمة على عباده هذه السورة العظيمة وأن شرع لهم قراءتها في كل ركعة في الفرض والنفل بل جعلها ركن في الصلاة في كل ركعة لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب (3) » وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: «لعلكم
__________
(1) من دروس سماحته في المسجد الحرام، ألقاه في تاريخ 26\ 12\ 1418 هـ
(2) صحيح البخاري فضائل القرآن (5006) ، سنن النسائي الافتتاح (913) ، سنن أبي داود الصلاة (1458) ، سنن ابن ماجه الأدب (3785) ، مسند أحمد (4/211) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3371) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات برقم 756، ومسلم في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة برقم 394.(29/248)
تقرءون خلف إمامكم قالوا نعم. قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة لكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها (1) » فالواجب على كل مصل أن يقرأ بها في كل ركعة في الفرض والنفل أما المأموم فعليه أن يقرأ بها في صلاته خلف إمامه فلو جهل أو نسى أو جاء والإمام راكع سقطت عنه فيحملها عنه الإمام إذا جاء والإمام راكع ودخل في الركعة أجزأته وسقط عنه وجوب قراءتها؛ لأنه لم يحضرها لما ثبت في الصحيح من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه جاء والإمام راكع فركع دون الصف ثم دخل في الصف فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا بعد الصلاة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «زادك الله حرصا ولا تعد (2) » ولم يأمره بقضاء الركعة فدل على أن من أدرك الركوع أدرك الركعة وهكذا لو كان المأموم جاهلا أو نسي الفاتحة ولم يقرأها أجزأته وتحملها عنه الإمام أما من علم وذكر فالواجب عليه أن يقرأها مع إمامه كما يجب على المنفرد والإمام أن يقرأها، وهي ركن في حق المنفرد، وركن في حق الإمام وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله عز وجل: قسمت
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب برقم 823.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: إذا ركع دون الصف برقم 783.(29/249)
الصلاة بيني وبن عبدي نصفين فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله سبحانه حمدني عبدي وإذا قال العبد الرحمن الرحيم قال الله جل وعلا أثنى علي عبدي وإذا قال العبد مالك يوم الدين قال الله سبحانه مجدني عبدي، - لأن التمجيد هو تكرار الثناء والتوسع في الثناء - فإذا قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله عز وجل هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل (1) » فقوله إياك نعبد حق الله فإن حق الله على عباده أن يعبدوه وإياك نستعين حق للعبد أن يستعين بالله في كل شيء يقول الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) حق الله عليهم أن يعبدوه وفي الحديث الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (3) » هذا حق الله على العباد أن يعبدوه بطاعة أوامره وترك نواهيه ويحذروا الشرك به عز وجل وتقدم في الدرس الماضي أن
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة برقم 395.
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب إرداف الرجل خلف، برقم 5967، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة برقم 30.(29/250)
أصل هذه العبادة وأساسها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله هذا أصل العبادة وأساس العبادة توحيد الله والإيمان برسوله عليه والصلاة والسلام، فأعظم العبادة وأهمها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فعلى كل مكلف أن يتعبد عن علم ويقين وصدق أنه لا إله إلا الله والمعنى لا معبود حق إلا الله كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (1) وعليه أن يشهد عن علم ويقين وصدق أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب هو رسول الله حقا إلى جميع الثقلين الجن والإنس وهو خاتم الأنبياء ليس بعده نبي كما قال الله عز وجل: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2) قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (3) فعلى كل إنسان وعلى كل مكلف من الجن والإنس أن يعبد الله وحده هذا حق الله على عباده {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (4) يجب على جميع الثقلين جنهم وإنسهم ذكورهم وإناثهم عربهم وعجمهم أغنيائهم وفقرائهم وملوكهم
__________
(1) سورة الحج الآية 62
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) سورة الأحزاب الآية 40
(4) سورة الفاتحة الآية 5(29/251)
وعامتهم عليهم جميعا أن يعبدوا الله عليهم أن يعبدوا الله بأداء ما فرض وترك ما حرم، وعليهم أن يخصوه بالعبادة دون كل ما سواه {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) قال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ} (3) يعني أمر ربك وأوصى ربك {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (4) وفي هذه السورة يقول جل وعلا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (5) يعلمنا أن نقول {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (6) هذا حقه جل وعلا إياك نعبد يعني وحدك بدعائنا وخوفنا ورجائنا وصومنا وصلاتنا وذبحنا ونذرنا وغير هذا من العبادات كل لله وحده كما قال جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (7) فالذين يتقربون إلى الأصنام أو إلى الأموات من الأولياء وغيرهم بالدعاء أو الرجاء أو الذبح أو النذر أو الاستغاثة قد عبدوا مع الله غيره وقد أشركوا بالله غيره ونقضوا قول لا إله إلا الله وخالفوا قوله
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة الإسراء الآية 23
(4) سورة الإسراء الآية 23
(5) سورة الفاتحة الآية 5
(6) سورة الفاتحة الآية 5
(7) سورة الحج الآية 62(29/252)