111 - لا يمس المصحف، إلا مسلم
س: يعمل في طباعة المصحف بعض الكفرة ويقومون بإمساك المصحف فما الحكم في ذلك مع توفر وجود غيره؟
ج: إذا استطعت أن تمنعهم امنعهم إذا كان لك سلطان امنعهم، ولا يمسك المصحف إلا مسلم، أما إذا ما كان لك سلطان فلا تمنعهم ولا يضرك، والإثم على الدولة التي مكنتهم منه.(24/339)
112 - حكم مس النصراني للمصحف
س: ما حكم مس النصراني للمصحف، وكذلك مسه لترجمة معاني القرآن الكريم؟ (1) .
ج: هذا فيه نزاع بين أهل العلم، والمعروف عند أهل العلم منع النصراني واليهودي وسائر الكفرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، قال: «لئلا تناله أيديهم (2) » ، فدل ذلك على أنهم لا يمكنون منه وإنما يمكنون من السماع، قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (3) الآية، يعني: يتلى عليهم حتى يسمعوه ولكن لا يدفع إليهم القرآن. وذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك إذا رجي إسلام الكافر واحتجوا على هذا بأنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم قوله- جل وعلا-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (4) الآية،
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) جمع محمد المسند ج 4 ص 41
(2) أخرجه مسلم في صحيحة كتاب الإمارة برقم (3476) .
(3) سورة التوبة الآية 6
(4) سورة آل عمران الآية 64(24/340)
قالوا: هذه الآية العظيمة آية من كتاب الله وقد كتبها إلى هرقل. والصواب أنه ليس بحجة، وإنما يدل على جواز الكتابة للآية والآيتين من كتاب الله. أما تسليم المصحف فليس بثابت عنه صلى الله عليه وسلم، أما بالنسبة لكتاب ترجمة معاني القرآن فلا حرج في أن يمسه الكافر؛ لأن المترجم معناه أنه كتاب تفسير وليس بقرآن، أي أن الترجمة تفسير لمعاني القرآن، فإذا مسه الكافر أو من ليس على طهارة فلا حرج؛ لأنه ليس له حكم القرآن، وحكم القرآن يختص بما إذا كان مكتوبا بالعربية وحدها وليس فيه تفسير، أما إذا كان معه الترجمة فحكمه حكم التفسير، والتفسير يجوز أن يحمله المحدث والمسلم والكافر؛ لأنه ليس كتاب القرآن ولكنه يعتبر من كتب التفسير.(24/341)
113 - الواجب إتلاف الصحف والأوراق المشتملة على الآيات والذكر بعد الفراغ منها
س: إننا نجد بعض آيات القرآن الكريم في بعض الصحف والمذكرات، كما أننا نجد " بسم الله الرحمن الرحيم " في بداية بعض الأوراق والرسائل فماذا نصنع بهذه الآيات بعد أن نفرغ من قراءة الصحيفة أو المستند أو الرسالة.. هل نقوم بتمزيقها أم حرقها أم ماذا نصنع بها؟ .
ج: الواجب بعد الفراغ من الصحف والأوراق المذكورة حفظها أو إحراقها أو دفنها في أرض طيبة، صيانة للآيات القرآنية وأسماء الله سبحانه من الامتهان، ولا يجوز إلقاؤها في القمامات ولا طرحها في الأسواق، ولا اتخاذها ملفات للحاجات ولا فراشا للطعام ونحو ذلك؛ لما في هذا العمل من الامتهان لها وعدم الصيانة. والله ولي التوفيق.(24/342)
114 - طهارة قارئ القرآن من المصحف واجبة
س: هل المدرس الذي يدرس تلاميذه القرآن من المصحف الشريف يجب عليه أن يكون طاهرا أم لا يشترط طهارته؟ (1) .
ج: المدرس وغيره في هذا الباب سواء، ليس له أن يمس المصحف وهو على غير طهارة عند جمهور أهل العلم، ومنهم الأئمة الأربعة رحمة الله عليهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن حزم: «لا يمس القرآن إلا طاهر (2) » . وهو حديث جيد الإسناد رواه أبو داود وغيره متصلا ومرسلا، وله طرق تدل على صحته واتصاله؛ وبذلك أفتى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية جمع محمد المسند ج 4 ص 26.
(2) أخرجه مالك في الموطأ برقم (419) في كتاب (النداء للصلاة) باب (الأمر بالوضوء لمن مس القرآن) والدارمي برقم (2166) في كتاب (الطلاق) باب (لا طلاق قبل نكاح) .(24/343)
115 - حكم قراءة القرآن للحائض والنفساء
س: اعتدت يا سماحة الشيخ أن أقرأ بعض السور من القرآن الكريم قبل النوم، ولكن هناك أياما لا يمكنني أن أقرأ فيها بسبب الدورة الشهرية، فهل يجوز أن أكتب السور في ورقة وأقرأها أيام الدورة الشهرية؟ (1) .
ج: يجوز للحائض والنفساء قراءة القرآن في أصح قولي العلماء؛ لعدم ثبوت ما يدل على النهي عن ذلك بدون مس المصحف، ولهما أن يمسكاه بحائل كثوب طاهر ونحوه، وهكذا الورقة التي كتب فيها القرآن عند الحاجة إلى ذلك. والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 4 ص 27.(24/344)
116 - حكم قراءة الحائض للأذكار والأدعية
س: هل يجوز للحائض قراءة كتب الأدعية يوم عرفة على الرغم من أن بها آيات قرآنية؟ (1) .
ج: لا حرج أن تقرأ الحائض والنفساء الأدعية المكتوبة في مناسك الحج، ولا بأس أن تقرأ القرآن على الصحيح أيضا؛ لأنه لم يرد نص صحيح صريح يمنع الحائض والنفساء من قراءة القرآن، إنما ورد في الجنب خاصة بأن لا يقرأ القرآن وهو جنب؟ لحديث علي رضي الله عنه وأرضاه، أما الحائض والنفساء فورد فيهما حديث ابن عمر «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (2) » ولكنه ضعيف، لأن الحديث من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين وهو ضعيف في روايته عنهم. ولكنها تقرأ بدون مس المصحف عن ظهر قلب، أما الجنب فلا يجوز له أن يقرأ القرآن لا عن ظهر قلب ولا من المصحف حتى يغتسل، والفرق بينهما: أن الجنب وقته يسير وفي إمكانه أن يغتسل في الحال من حين يفرغ من إتيانه أهله فمدته لا تطول، والأمر في يده متى شاء اغتسل، وإن عجز عن الماء تيمم
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) جمع محمد المسند ج 4 ص 25
(2) سنن الترمذي الطهارة (131) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596) .(24/345)
وصلى وقرأ، أما الحائض والنفساء فليس بيدهما وإنما هو بيد الله عز وجل.
فمتى طهرت من حيضها أو نفاسها اغتسلت، والحيض يحتاج إلى أيام، والنفاس كذلك؛ ولهذا أبيح لهما قراءة القرآن لئلا تنسيانه، ولئلا يفوتهما فضل القراءة وتعلم الأحكام الشرعية من كتاب الله، فمن باب أولى أن تقرأ الكتب التي فيها الأدعية المخلوطة من الأحاديث والآيات إلى غير ذلك. هذا هو الصواب وهو أصح قولي العلماء رحمهم الله في ذلك.(24/346)
117 - هل يسجد للتلاوة من لم يكن على طهارة.
س: الأخ م. م. ص من اللاذقية في سوريا يقول في سؤاله: إذا كنت أقرأ القرآن الكريم، وأنا غير مستقبل القبلة، ومررت بآية فيها سجدة تلاوة فهل أسجد؟ وهل يشترط لسجدة التلاوة أن يكون الإنسان على طهارة؟ وإذا كنت أقرأ القرآن الكريم، وأنا مسافر بالسيارة أو الطائرة، ومررت بآية فيها سجدة تلاوة فهل أسجد وأنا على الكرسي؟ وماذا لو(24/346)
مررت بها وأنا جالس على الكرسي في المكتب أو المنزل؟ نرجو التكرم بالإجابة، جزاكم الله خيرا (1) .
ج: السنة لمن مر بآية السجدة في حال قراءته أن يسجد تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بين أصحابه، فإذا مر بآية فيها سجدة سجد، وسجدوا معه. والسنة: استقبال القبلة إذا تيسر ذلك، وسجدة التلاوة ليست مثل الصلاة؛ بل هي خضوع لله وتأس برسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يشترط لها شروط الصلاة، لعدم الدليل على ذلك، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن في مجلسه بين أصحابه فإذا مر بآية السجدة سجد وسجدوا معه، ولم يقل لهم: لا يسجد إلا من كان على طهارة. والمجالس تجمع من هو على طهارة، ومن هو على غير طهارة، فلو كانت الطهارة شرطا لنبههم النبي إلى ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أنصح الناس، وقد أمره الله بالبلاغ، ولو كانت الطهارة شرطا في سجود التلاوة لأبلغهم بذلك رضي الله عنهم، ولو بلغهم لنقلوا ذلك لمن بعدهم، كما نقلوا عنه سيرته وأحاديثه عليه الصلاة والسلام، فإذا كان القارئ في الطائرة، أو السيارة، أو الباخرة، أو
__________
(1) نشر في المجلة العربية ربيع أول 1417هـ(24/347)
على دابة في السفر فإنه يسجد إلى جهة سيره، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك في أسفاره في صلاة النافلة. وإن تيسر له استقبال القبلة حال صلاة النافلة عند الإحرام، ثم يتجه إلى جهة سيره فذلك أفضل؛ لأنه ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث. والله ولي التوفيق.(24/348)
118 - جواز مس كتب التفسير بدون طهارة
س: هل يجوز الإمساك بالمصحف المفسر بدون طهارة، والمقصود هو المصحف الذي على جوانبه تفسير للقرآن الكريم؟ أي أنه " قرآن وتفسير "؟ نرجو من سماحتكم إفادتنا (1) .
ج: يجوز إمساك كتب التفسير من غير حائل، ومن غير طهارة؛ لأنها لا تسمى مصحفا، أما المصحف المختص بالقرآن فقط فلا يجوز مسه لمن لم يكن على طهارة، لقول الله عز وجل: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (2) {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (3) {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (4)
__________
(1) نشر في المجلة العربية ربيع أول 1417هـ.
(2) سورة الواقعة الآية 77
(3) سورة الواقعة الآية 78
(4) سورة الواقعة الآية 79(24/348)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يمس القرآن إلا طاهر (1) » . والأصل في الطهارة المطلقة في العرف الشرعي هي الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، كما فهم ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحفظ عن أحد منهم- فيما نعلم - أنه مس المصحف وهو على غير طهارة، وهذا هو قول جمهور أهل العلم، وهو الصواب. والله الموفق.
__________
(1) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .(24/349)
119 - الأفضل وضع المصحف مكان مرتفع أثناء سجود التلاوة
س: إذا كنت أقرأ القرآن ووصلت إلى آية فيها سجدة فهل يجوز لي أن أضع المصحف شرفه الله على الأرض حتى أفرغ من سجدة التلاوة أم لا بد من وضعه على شيء مرتفع؟ (1) .
ج: لا حرج في وضعه في الأرض إذا كانت طاهرة وقت سجود التلاوة، وإذا تيسر مكان مرتفع شرع وضعه فيه، أو تسليمه إلى أخيك الذي بجوارك إن وجد حتى تفرغ من السجود؛
__________
(1) نشر في جريدة العالم الإسلامي، الاثنين 13- 19 رجب 1419 هـ(24/349)
لأن ذلك من تعظيمه والعناية به، ولئلا يظن بعض الناس أنك أردت إهانته أو قلة المبالاة به. وبالله التوفيق.(24/350)
120 - حكم مس المصحف للصغير
س: عندنا مدرسة أطفال يحفظون القرآن الكريم ولا يمكنهم الالتزام بالطهارة دائما، هل يلزم الأطفال الوضوء لمس المصحف؟ (1) .
ج: يلزم وليهم أن يأمرهم بذلك، وهكذا الأستاذ الذي يعلمهم إذا كانوا أبناء سبع سنين فأكثر؛ لأن المصحف لا يجوز أن يمسه إلا طاهر للأدلة الشرعية الواردة في ذلك، أما دون سبع فلا يمكن من مس المصحف لو توضأ؛ لأنه لا وضوء له لعدم تمييزه.
__________
(1) نشر في جريدة الندوة العدد (12080) في 4\4\1419هـ(24/350)
121 - حكم مس الكافر لترجمة معاني القرآن
س: يوجد لدي ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية، فهل يجوز أن يمسها الكافر؟ (1) .
ج: لا حرج أن يمس الكافر ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية، أو غيرها من اللغات؛ لأن الترجمة تفسير لمعاني القرآن، فإذا مسها الكافر، أو من ليس على طهارة فلا حرج في ذلك؛ لأن الترجمة ليس لها حكم القرآن وإنما لها حكم التفسير، وكتب التفسير لا حرج أن يمسها الكافر، ومن ليس على طهارة، وهكذا كتب الحديث والفقه واللغة العربية. والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة في 1\2\1417 هـ(24/351)
122 - حكم مس كتب التفسير من غير وضوء
س: هناك بعض الكتب يكون القرآن مكتوبا فيها كاملا في وسط الكتاب، وفي الأعلى وعن شمال ويمين مكتوب فيها تفسير مختصر للآيات مثل تفسير الجلالين، هل يجوز مس مثل هذه الكتب وقراءة القرآن منها وأنا غير متوضئ؟ (1) .
ج: هذه لها حكم التفسير مادامت كتب تفسير لها حكم التفسير، فلك أن تقرأ فيها ولك أن تحملها وأنت على غير وضوء، أما الجنب فلا يقرأ القرآن حتى يغتسل، لا يقرأ لا من المصحف ولا من غيره حتى يغتسل، أما غير الجنب فله أن يمس كتب التفسير والحديث والفقه.
__________
(1) نور على الدرب شريط رقم 5 حج عام 1418 هـ(24/352)
123 فضل قراءة القرآن بتدبر
س: الأخت ع. م. أبو سعيد من الدار البيضاء في المغرب تقول في رسالتها: هل هناك فرق في الأجر بين قراءة القرآن من المصحف أو عن ظهر قلب، وإذا قرأت القرآن في المصحف(24/352)
فهل تكفي القراءة بالعينين أم لا بد من تحريك الشفتين، وهل يكفي تحريك الشفتين أم لا بد من إخراج الصوت، نرجو التفصيل يا سماحة الشيخ (1) .
ج: لا أعلم دليلا يفرق بين القراءة في المصحف أو القراءة عن ظهر قلب، وإنما المشروع التدبر وإحضار القلب، سواء قرأ من المصحف أو عن ظهر قلب، وإنما تكون قراءة إذا سمعها. . ولا يكفي نظر العينين ولا استحضار القراءة من غير تلفظ. . والسنة للقارئ أن يتلفظ ويتدبر، كما قال الله عز وجل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) وقال عز وجل: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (3) وإذا كانت القراءة عن ظهر قلب أخشع لقلبه وأقرب إلى تدبر القرآن، فهي أفضل، وإن كانت القراءة من المصحف أخشع لقلبه، وأكمل في تدبره كانت أفضل. والله ولي التوفيق.
__________
(1) السؤال من المجلة العربية
(2) سورة ص الآية 29
(3) سورة محمد الآية 24(24/353)
124 - الحث على قراءة القرآن بالتدبر
س: كم يوما يحتاج الإنسان إلى ختم القرآن بالفهم والتدبر، وهل إذا ختم الإنسان القرآن في شهرين يكون قد تأخر في قراءته؟ أفيدونا أفادكم الله. (1) .
ج: النبي صلى الله عليه وسلم قال: لعبد الله بن عمرو بن العاص: «اقرأ القرآن في شهر، فلم يزل يقول: زدني يا رسول الله، حتى قال: اقرأه لي أسبوع (2) » . ثم طلب الزيادة إلى ثلاث.
وكان الصحابة يقرءون في أسبوع، فالأفضل في أسبوع وإذا تيسر في الثلاثة أيام فلا بأس لكن مع العناية بالتدبر والتعقل والخشوع وإذا قرأ الإنسان القرآن في شهر أو شهرين فلا حرج لكن مع التدبر وإذا رتب الإنسان القراءة كل شهر يقرأ كل يوم جزءا فهذا حسن فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لعبد الله بن عمرو بن
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب)
(2) أخرجه البخاري في كتاب (فضائل القرآن) برقم (4664- 4666) باب في كم يقرأ القرآن؟، ومسلم في كناب (الصيام) برقم (1963، 1964) باب النبي عن صوم الدهر(24/354)
العاص: «اقرأه في شهر (1) » فالحسنة بعشر أمثالها فالمقصود أن الإنسان يتحرى في قراءته الخشوع والتدبر والتعقل والاستفادة فمن قرأه في شهر أو شهرين أو أقل أو أكثر فلا حرج، لكن يكره أن يكون ذلك في أقل من ثلاث، فأقل شيء ثلاثة أيام يقرأ في ثلاثة أيام ولياليها في كل يوم وليلة عشرة أجزاء هذا أقل ما ورد.
__________
(1) صحيح مسلم الصيام (1159) ، سنن النسائي الصيام (2400) ، سنن أبو داود الصلاة (1390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/162) .(24/355)
125 - حكم من ينظر في المصحف دون تحريك الشفتين
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
إن بعض الناس يأخذون المصحف ويطالعون فيه دون تحريك شفتيهم، هل هذه الحالة ينطبق عليها اسم قراءة القرآن، أم لا بد من التلفظ بها؟ والإسماع؟ لكي يستحقوا بذلك ثواب قراءة القرآن؟ وهل المرء يثاب عنى النظر في المصحف؟ أفتونا جزاكم الله خيرا (1) .
__________
(1) نشر في المجموع ج 8 ص 363(24/355)
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لا مانع من النظر في القرآن من دون قراءة للتدبر والتعقل وفهم المعنى، لكن لا يعتبر قارئا ولا يحصل له فضل القراءة، إلا إذا تلفظ بالقرآن ولو لم يسمع من حوله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه (1) » . رواه مسلم.
ومراده صلى الله عليه وسلم بأصحابه: الذين يعملون به، كما في الأحاديث الأخرى، وقال صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من القرآن فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها (2) » . خرجه الترمذي، والدارمي بإسناد صحيح، ولا يعتبر قارئا إلا إذا تلفظ بذلك، كما نص على ذلك أهل العلم. والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه مسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) برقم (1337) باب (فضل قراءة القرآن) وأحمد في (باقي مسند الأنصار) برقم (21169)
(2) أخرجه الترمذي في كتاب (فضائل القرآن) برقم (2835) باب (ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر)(24/356)
126 - حكم قراءة القرآن الكريم لمن لا يجيد قواعد اللغة العربية
س: لي قريب يحب قراءة القرآن الكريم غير أنه لا يجيد قواعد اللغة العربية والتلاوة، فماذا يفعل؟ (1) .
ج: عليه أن يجتهد في قراءة القرآن ويتدبر ولا يعجل ويقرأ على من هو أعلم منه حتى يعلمه ما يجهل ولا بأس وله أجر عظيم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (2) » . أخرجه البخاري في صحيحه. وقوله صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق ويتتعتع فيه له أجران (3) » . متفق عليه.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد رقم (1520) في 15\7\1416 هـ
(2) أخرجه البخاري في (فضائل القرآن) برقم (4639) باب (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)
(3) رواه مسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) برقم (1329) وابن ماجه في (الآداب) برقم (3769)(24/357)
127 - حكم نسيان الآيات
س: الأخت م. م. ع. من صنعاء تقول في سؤالها: حفظت جزءا كاملا من القرآن الكريم ولعدم وجود من يسمع لي باستمرار نسيته فهل علي ذنب؟ وهل أعيد حفظه؟ (1) .
ج: ليس عليك إثم إن شاء الله في ذلك، لقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني (3) » . ولأن النسيان يغلب على الإنسان ولا يستطيع السلامة منه.
أما ما ورد في ذلك من الوعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو ضعيف.
ويشرع لك أن تجتهدي في حفظ ما تيسر من كتاب الله، ولا سيما حزب المفصل حتى تستطيعي بذلك القراءة في صلاتك
__________
(1) ضمن أسئلة المجلة العربية في 29\5\1417 هـ. ونشر في المجموع ج 9 ص 309
(2) سورة طه الآية 115
(3) رواه البخاري في كتاب الصلاة برقم (386) واللفظ له، ورواه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة برقم (889) و (891) و (893)(24/358)
بما تيسر منه بعد الفاتحة، أما الفاتحة فحفظها واجب، لأنها ركن في الصلاة في كل ركعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب (1) » . متفق على صحته. وبذلك يعلم أن قراءتها ركن في الصلاة في الفريضة والنافلة في حق الإمام والمنفرد، أما المأموم فهي واجبة في حقه على الصحيح من أقوال العلماء، وتسقط في حقه بالنسيان والجهل وفيما إذا أدرك الإمام راكعا أو عند الركوع ولم يتمكن من قراءتها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعلكم تقرأون خلف إمامكم قلنا: نعم قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها (2) » . أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان بإسناد صحيح، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه؛ ولما جاء في صحيح البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه أنه أتى إلى المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف ثم دخل في الصف فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له ذلك، فقال له عليه الصلاة
__________
(1) رواه البخاري في الأذان برقم (714) ، وسلم في الصلاة برقم (595)
(2) رواه أبو داود في الصلاة برقم (701) ، وأحمد في مسند الشاميين برقم (17376) ، وفي مسند البصريين برقم (19690)(24/359)
والسلام: «زادك الله حرصا ولا تعد (1) » . ولم يأمره بقضاء الركعة فدل ذلك على أن المأموم إذا لم يدرك القراءة مع الإمام؛ لكونه أتى قرب الركوع فإن الركعة تجزئه، ومثل ذلك من نسيها أو جهلها من المأمومين كسائر الواجبات في الصلاة، والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه البخاري في الأذان برقم (741) ، والنسائي في الإمامة برقم (861) ، وأحمد في مسند البصريين برقم (19510)(24/360)
128 - الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة
س: ما رأي سماحتكم في رجل يقرأ القرآن الكريم وهو لا يحسن القراءة بسبب أنه لم يحصل على قسط وافر من التعليم، وهو في قراءته يلحن لحنا جليا بحيث يتغير مع قراءته المعنى ويحتج بحديث عائشة رضي الله عنها: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به (1) » . . . الحديث؟ .
ج: عليه أن يجتهد ويحرص على أن يقرأه على من هو أعلم
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4937) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (798) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2904) ، سنن أبو داود الصلاة (1454) ، سنن ابن ماجه الأدب (3779) ، مسند أحمد بن حنبل (6/192) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3368) .(24/360)
منه ولا يدع القراءة، لأن التعلم يزيده خيرا والحديث المذكور حجة له وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق ويتتعتع فيه له أجران (1) » . رواه مسلم، ومعنى يتتعتع: قلة العلم بالقراءة، وهكذا قوله: «وهو عليه شاق (2) » معناه: قلة علمه بالقراءة، فعليه أن يجتهد ويحرص على تعلم القراءة على من هو أعلم منه، وفي ذلك فضل عظيم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (3) » ، خرجه البخاري في صحيحه، فخيار المسلمين هم أهل القرآن تعلما وتعليما وعملا ودعوة وتوجيها. والمقصود من العلم والتعلم هو العمل، وخير الناس من تعلم القرآن وعمل به وعلمه الناس، ويقول عليه الصلاة والسلام: «اقرءوا هذا القرآن فإنه يأتي شفيعا لأصحابه يوم القيامة (4) » رواه مسلم في صحيحه، ويقول عليه الصلاة والسلام: «القرآن حجة لك أو عليك (5) » . خرجه مسلم أيضا في صحيحه، والمعنى أنه حجة لك إن عملت به، أو حجة عليك إن لم تعمل به. والله أعلم.
__________
(1) رواه مسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) برمم (1329) وابن ماجه في (الآداب) برقم (3769)
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (798) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2904) ، سنن ابن ماجه الأدب (3779) ، مسند أحمد بن حنبل (6/98) .
(3) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .
(4) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (804) ، مسند أحمد بن حنبل (5/255) .
(5) أخرجه مسلم في كتاب (الطهارة) برقم (328) باب (فضل الوضوء)(24/361)
129 - من يقرأ القرآن وهو عليه شاق فله أجران
س: ما حكم من يقرأ القرآن وهو يخطئ في التشكيل؟ هل يؤجر على ذلك؟ (1) .
ج: يشرع للمؤمن أن يجتهد في القراءة، ويتحرى الصواب، ويقرأ على من هو أعلم منه حتى يستفيد ويستدرك أخطاءه. وهو مأجور ومثاب وله أجره مرتين إذا اجتهد وتحرى الحق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجره مرتين (2) » . متفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها، وهذا لفظ مسلم.
__________
(1) من أسئلة المجلة العربية في 26\12\1416 هـ ونشر في المجموع ج 9 ص 416
(2) رواه مسلم في صلاة المسافرين برقم (1329) وابن ماجه في الآداب برقم (3769)(24/362)
130 - المقصود من قراءة القرآن التدبر والعمل
س: شخص يجيد القراءة ولله الحمد فهل الأفضل في حقه الإكثار من تلاوة القرآن الكريم في المصحف أم الاستماع إلى أحد القراء عبر الأشرطة المسجلة؟ (1) .
ج: الأفضل أن يعمل بما هو أصلح لقلبه وأكثر تأثيرا فيه من القراءة أو الاستماع؛ لأن المقصود من القراءة هو التدبر والفهم للمعنى والعمل بما يدل عليه كتاب الله عز وجل كما قال الله سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) وقال عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (3) الآية. وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (4) الآية.
__________
(1) نشر في فتاوى إسلامية جمع محمد المسند ج 4 ص 37
(2) سورة ص الآية 29
(3) سورة الإسراء الآية 9
(4) سورة فصلت الآية 44(24/363)
131 - الحث على دراسة القرآن وحفظه
س: سماحة الشيخ: حلق جماعات تحفيظ القرآن الكريم في هذا البلد المبارك نفع الله بها نفعا عظيما. بماذا توجهون معلمي هذه الحلق وطلابها؟ (1) .
ج: نوجههم نوصيهم بتقوى الله والاستمرار في هذا الخير والصبر على هذا الخير، والإخلاص لوجه الله جل وعلا في التعلم والتعليم؛ لأن تعلم القرآن وحفظ القرآن من أهم القربات ومن أفضل القربات، فنوصي الجميع: المعلم والمتعلم، نوصيهم بتقوى الله والعمل بما علموا والإخلاص لله في العمل حتى يبارك الله في أعمالهم، وحتى يوفقوا في أعمالهم، ألا وهي أن الطالب يتعلم أن يستفيد ويعمل، والمعلم يقصد وجه الله في تعليم الطالب وتوجيهه إلى الخير يرجو من عند الله المثوبة، وإن أخذ أجرة، يرجو ما عند الله ويحتسب الأجر، وينصح في تعليمه، ويجتهد في الأسباب التي توصل المعلومات إلى الطالب وتستقر في ذهنه، فهذا يتقي الله،
__________
(1) نشر في جريدة الرياض العدد، (10763) وتاريخ 12\8\1418 هـ(24/364)
وهذا يتقي الله، يكون عند كل واحد إخلاص ورغبة في الخير، وأن يتعلم ما يرضي الله ويقرب لديه، وأن يستعين بما أعطاه الله من علم على طاعة الله.(24/365)
132 - حكم تعلم تجويد القرآن الكريم
س: إنني فتاة قائمة بتعاليم ديني والحمد لله ولكن في قراءتي للقرآن لا أعرف أن أجود القرآن أو أن أرتله كما يجب ولا يوجد من يعلمني فهل أقرأ القرآن على حالتي تلك وجهوني؟ جزاكم الله خيرا (1) .
ج: عليك أن تجتهدي في قراءة القرآن بتأمل وعناية ولا حرج عليك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق ويتتعتع فيه له أجران (2) » فأنت اجتهدي في قراءة القرآن وتأملي الحروف والحرص على النطق الجيد، وإذا تيسر لك من يعلمك من أخيك أو أبيك أو غيرهما أو امرأة تجيد القراءة تقرأين عليها فاحرصي، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4937) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (798) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2904) ، سنن أبو داود الصلاة (1454) ، سنن ابن ماجه الأدب (3779) ، مسند أحمد بن حنبل (6/170) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3368) .(24/365)
133 - لا يجوز الكف عن تدريس القرآن خشية الثناء أو المدح
س: سائل من مصر، يقول: أنا أقوم بتعليم قراءة القرآن الكريم لوجه الله تعالى بعد صلاة العشاء من كل يوم وذلك لأجناس مسلمة غير عربية من باكستانيين وهنود وصوماليين وغير ذلك في موقع السكن، حيث إننا نسكن في مجمع سكني يوجد به مسجد أقامه أهل الخير بارك الله فيهم، وقد قمت منذ وصولي بتدريس القرآن لهؤلاء الناس وبدأوا معي بداية طيبة. والآن أصبحوا يقرؤون وكثير منهم استغنى عني ولا زلت أواصل عليها، ولكن المشكلة أنهم يشكرونني ويبالغون في الثناء علي، وفي مدحي، وأنا أخشى من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه في الثلاثة الذين يدخلون النار، ومنهم قارئ القرآن حيث يقول الله له: «قرأت ليقال عنك قارئ وقد قيل (1) » . وأنا في الحقيقة أستنكر فعلهم هذا
__________
(1) رواه مسلم في (كتاب الإمارة) باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار برقم (3527)(24/366)
وأردهم عنه لكن ما ذنبي في أنهم يقولونه، هل علي ذنب أن أوقف القراءة أم ماذا أفعل؟ (1) .
ج: أنت على كل حال مشكور على هذا العمل الطيب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (2) » .، فأنت مشكور على عملك وأنت على أجر عظيم ولا حرج عليك ما دمت مخلصا لله في عملك هذا، ولا يضرك ثناؤهم عليك، وعليك أن تنصحهم وتوصيهم بعدم المبالغة في الثناء، أو يكفي الدعاء لك بدلا من الثناء. زادك الله من النشاط والتوفيق.
أما الوعيد الوارد في الحديث فهو لمن قرأ ليقال هو قارئ، وتعلم ليقال عالم، أما من علم الناس يريد ثواب الله ويطلب الأجر منه سبحانه وتعالى فإنه لا يضره ثناء الناس، ما دام مخلصا لله سبحانه في عمله. والله الموفق.
__________
(1) نشر في مجلة البحوث الإسلامية، العدد (49) ص 136
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) برقم (502) ، والبخاري في (كتاب فضائل القرآن) برقم (5027)(24/367)
134 - حكم من حفظ للقرآن ثم نسيه
س: هل يأثم من حفظ القرآن ثم نسيه بعد ذلك لانشغاله بأمور حياته؟ (1) .
ج: الصحيح أنه لا يأثم بذلك ولكن يشرع للمسلم العناية بمحفوظه من القرآن وتعاهده حتى لا ينساه؛ عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده إنه لأشد تفلتا من الإبل في عقلها (2) » . وإنما المهم الأعظم العناية بتدبر معانيه والعمل به، فمن عمل به فهو حجة له ومن ضيعه فهو حجة عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والقرآن حجة لك أو عليك (3) » رواه مسلم في صحيحه من حديث الحارث الأشعري في حديث طويل.
__________
(1) نشر في فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 4 ص 50
(2) أخرجه مسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) برقم (1317) باب (الأمر بتعهد القرآن) وأحمد في (أول مسند الكوفيين) برقم (18725)
(3) صحيح مسلم الطهارة (223) ، سنن الترمذي الدعوات (3517) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (280) ، مسند أحمد بن حنبل (5/344) ، سنن الدارمي كتاب الطهارة (653) .(24/368)
135 - الاستماع إلى القرآن عبادة
س: أنا شاب في يوم رأيت شابا يستمع إلى الغناء وأنا أعلم أنه حرام وأحببت أن أنصحه، فبعد أن نصحته سألني يقول: ماذا تستفيد من القرآن؟ فقلت: الاستماع للقرآن عبادة وتفقه في الدين قال: أنا أستفيد مثلما تستفيد من القرآن فما حكم ذلك؟ (1) .
ج: هذا قول منكر لا يقوله من عرف دين الإسلام وعرف حقيقة القرآن وأنه كلام الله، ويخشى على صاحبه من الردة عن الإسلام إذا كان يعتقد أنه يستفيد من الأغاني كما يستفاد من القرآن، فنسأل الله العافية والسلامة من زيغ القلوب وزلات اللسان إنه سميع قريب.
وينبغي أن يقال لهذا الشاب الجاهل وأمثاله إذا قال ماذا تستفيد من القرآن؟ إنني أستفيد من القرآن ما فيه صلاحي وهدايتي، وما فيه نجاتي وصلاح قلبي وعملي، وما فيه سلامة ديني ودنياي،
__________
(1) من ضمن الأسئلة التابعة لمحاضرة عنوانها؛ '' السنة ومكانتها '' ونشر في المجموع ج 9 ص 387(24/369)
وأستفيد منه مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال التي ترضي الله وتقرب لديه، فإن القرآن الكريم يدعو إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ويعلمنا فرائض الله التي علينا، ويعلمنا ما نهى الله عنه، ويعلمنا طريق الرسل قبلنا، ويعلمنا صفات الأنبياء والمؤمنين وأخلاق الأنبياء والمؤمنين، يعلمنا صفات أهل الجنة وأخلاقهم، يعلمنا صفات أهل النار وأخلاقهم، كل هذا في القرآن العظيم، وهل هناك فائدة أكبر من هذه الفائدة؟ هل هناك في الدنيا شيء أكبر من هذه الفوائد؟ أن تعلم ما يرضي الله عنك، وما يغضبه عليك، وأن تعلم أسماءه سبحانه وصفاته، وأن تعلم صفات الأبرار، والأخيار، والمؤمنين حتى تأخذ بها، وأن تعلم صفات أهل الجنة حتى تأخذ بها، وأن تعلم صفات الأشرار والكفار وأهل النار حتى تحذرها، هل هناك شيء أفضل من هذا؟
أما الغناء فإنه لا يستفيد منه إلا من مرض قلبه، وانحرف عن الهدى، وزاغ عن الحق، هذه الفائدة من الغناء، قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما صح عنه: «الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل (1) » . والله يقول في كتابه العظيم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (2) من يشتري: أي
__________
(1) رواه أبو داود في الأدب برقم (4279)
(2) سورة لقمان الآية 6(24/370)
يعتاض، من الناس: هذا ذم لبعض الناس، يشتري: يعتاض. الحديث: قال أكثر المفسرين: معناه، الغناء، وذهب بعضهم إلى تفسير لهو الحديث بالغناء وآلات الملاهي والطرب، وكل صوت يصد عن الحق، فكله داخل في لهو الحديث، ثم قال بعدها: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (1) وقرأ بعضهم: (ليضل عن سبيل الله) بفتح الياء، فدل على أن اعتياض الأغاني فيه ضلال عن سبيل الله وإضلال عن سبيل الله، يعني: عاقبة لهو الحديث الضلال والإضلال نسأل الله العافية، ثم من فوائده الخطيرة أنه سبب لاتخاذ آيات الله هزوا، يعني: أنه يدعو صاحبه بعد ذلك إلى الاستهزاء بالقرآن، وعدم الأنس بقراءته، والاستكبار عن سماعه أيضا نعوذ بالله من ذلك؛ ولهذا قال سبحانه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} (2) فهذه فوائد الغناء: الضلال، والإضلال، والسخرية بسبيل الله، والاستكبار عن سماع آيات الله. نعوذ بالله من ذلك، ونسأله سبحانه لنا وللمسلمين العافية من كل ما يغضبه.
__________
(1) سورة لقمان الآية 6
(2) سورة لقمان الآية 7(24/371)
136 - دعوة إلى المساهمة المادية في تحفيظ القرآن الكريم (1) .
إن الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمنطقة الرياض قد أنشئت منذ سنوات وافتتحت عددا من الحلق في المساجد وامتد نشاطها إلى مناطق واسعة من المملكة واحتضنت أعدادا كبيرة من أبناء المسلمين وبناتهم ونفع الله بها وظهرت آثارها وقامت بافتتاح معهد خاص لتعليم القرآن ومبادئ العلوم الإسلامية بالرياض وذلك في ظل الرعاية التي توليها الدولة لها.
إن الجماعة تعتمد في أعمالها على الله ثم على ما تتلقاه من حكومتنا - وفقها الله - بواسطة وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف، وما تتلقاه من تبرعات المحسنين؛ ولهذا فإن المساهمة المادية في تعليم القرآن وتيسير ذلك للمسلمين تعتبر خدمة لكتاب الله - وهو يبقى - وأجر لا ينقطع؛ لما ثبت عن رسول الله صلى
__________
(1) نشر في جريدة الرياض في 22\12\1415 هـ عدد (9827) . وفي المجموع ج 9 ص 256(24/372)
الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (1) » . والإنفاق في هذا من الصدقة الجارية والعلم النافع.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الوصية برقم (3084) واللفظ له، ورواه الترمذي في الأحكام برقم (1297) ، والنسائي في الوصايا برقم (3591)(24/373)
137 - لا يجوز قراءة القرآن الكريم بأجرة للأموات
س: يقول السائل: إذا جاء الإنسان بشخص إلى بيته ليقرأ عنده القرآن، ويجزيه بعد ذلك بمبلغ من المال. فما حكم ذلك أفيدونا أفادكم الله؟ (1) .
ج: أخذ الأجرة على التلاوة أمر لا يجوز، وقد حكى بعض أهل العلم إجماع أهل العلم على ذلك، فلا يجوز أن يقرأ الإنسان بالأجرة، فلا يقوم بالتلاوة حتى يأخذ الأجرة في بيت فلان أو فلان، أو على ميت فلان، بل يقرأ احتسابا ولا يعطى أجرة.
__________
(1) نشر في جريدة (عكاظ) العدد رقم (11660) في 2\4\1419 هـ(24/373)
أما إن أهدي هدية أو أعطي شيئا من دون مشارطة فنرجو ألا يكون عليه شيء في ذلك، من باب الإحسان إذا كان فقيرا، أما أن يكون مشارطة، يعني أن يكون اليوم بكذا، أو الجزء، أو السورة بكذا، فهذا منكر لا يجوز.(24/374)
138 - جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن
س: ما حكم أخذ الأجرة على تدريس القرآن الكريم في مدارس تحفيظ القرآن الكريم؟
ج: لا حرج في ذلك في الصحيح ولا بأس في ذلك؛ لأن في أخذ الأجرة إعانة له في الاستمرار على التعليم والصبر عليه، ولأن كثيرا من الناس قد لا يستطيع أن يعلم من دون شيء، لأنه ليس له دخل يقوم بحاله حتى يتفرغ للتعليم فإذا أعطي أجرة على ذلك تفرغ للتعليم ونفع الناس، وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله (1) » . هذا يشمل التعليم، فالتعليم هو أهم ما يطلبه، أي تعليم الناس وتوجيههم وإرشادهم،
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (الطب) باب الشرط في الرقية بقطيع من الغنم برقم (05296)(24/374)
هذا يحفظ، وهذا يعلم، هذا من أهم المهمات ومن أفضل القربات، فإذا أخذ الأجرة التي تعينه على هذا الأمر العظيم فلا بأس.(24/375)
139 - حكم قراءة القرآن للناس بأجرة
س: ما حكم قراءة القرآن للناس بأجرة؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا؟ (1) .
ج: إن كان المقصود تعليم القرآن للناس وتحفيظهم إياه فلا حرج في أخذ الأجرة على ذلك في أصح قولي العلماء للحديث الصحيح في القراءة على اللديغ بشرط أجرة معلومة، ولقوله صلى الله عليه وسلم، في الحديث نفسه «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله (2) » أخرجه البخاري - رحمه الله- في صحيحه، أما إن كان المراد أخذ الأجرة على مجرد التلاوة في أي مناسبة فهذا لا يجوز أخذ الأجرة عليه.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- أنه لا يعلم نزاعا بين أهل العلم في تحريم ذلك.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) جمع محمد المسند الجزء الرابع ص 20
(2) صحيح البخاري الطب (5737) .(24/375)
140 - لا حرج في الاجتماع على تلاوة القرآن
س: أقوم وزملائي في العمل بالاجتماع ليلة في الأسبوع نتلو فيها آيات محددة من كتاب الله للتعلم وإجادة القرآن ثم نتحدث بعد ذلك في أمور عديدة وقد سمعنا أنه لا يجوز الاجتماع من أجل التلاوة ويجوز من أجل الحفظ فهل هذا صحيح؟ (1) .
ج: لا حرج في الاجتماع من أجل التلاوة ومدارسة القرآن وحفظه والتفقه في الدين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده (2) » . رواه الإمام مسلم في صحيحه، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يعرض القرآن على جبرائيل عليه السلام ويدارسه إياه كل ليلة في رمضان وكان صلى الله عليه وسلم، يجلس مع
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) جمع محمد المسند الجزء الرابع ص 10
(2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب (الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار) باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر برقم (4867)(24/376)
أصحابه كثيرا يقرأ عليهم القرآن، ويذكرهم بالله عز وجل وربما أمر بعض أصحابه أن يقرأ عليه بعض القرآن.
وفيما ذكرناه كله دلالة صريحة على شرعية الاجتماع لسماع القرآن ومدارسته والمذاكرة فيه ومدارسة العلم. والله ولي التوفيق.(24/377)
141 - حكم قراءة القرآن بصوت مرتفع عند من يصلي
س: هل تجوز تلاوة القرآن بصوت مرتفع بالمسجد علما بوجود من يتنفل في تلك اللحظات بالمسجد من المصلين؟ (1) .
ج: لا ينبغي رفع الصوت بالقراءة في المسجد إذا كان حوله من يتشوش بذلك من المصلين بالقراءة وهكذا إذا كان القارئ في أي مكان حوله مصلون أو قراء فإن السنة أن لا يرفع صوته عليهم؛ لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه خرج ذات يوم على أناس يصلون في المسجد ويجهرون بالقراءة فقال عليه الصلاة والسلام: «كلكم يناجي الله فلا يؤذ بعضكم بعضا (2) » .
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) جمع وترتيب محمد المسند، الجزء الرابع ص 30
(2) أخرجه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (11461)(24/377)
142 - حكم رفع الصوت بالقرآن
س: الأخ م. م. ح. من بور سودان من جمهورية السودان يقول في سؤاله: ما حكم رفع الصوت بقراءة القرآن قبل الصلاة؟ (1) .
ج: لا يرفع صوته إذا كان عنده أحد، بل يقرأ بينه وبين نفسه كي لا يؤذي الناس ولا يشغل المصلين ولا يشغل القراء ولكن يرفع بحيث يكون خفيفا.
__________
(1) نشر في (المجلة العربية) جمادى الأولى 1413 هـ(24/378)
143 - معنى التغني بالقرآن
س: ما معنى التغني بالقرآن يا سماحة الشيخ؟ (1) .
ج: جاء في السنة الصحيحة الحث على التغني بالقرآن، يعني تحسين الصوت به، وليس معناه أن يأتي به كالغناء وإنما المعنى
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) جمع وترتيب محمد المسند ج 4 ص 18(24/378)
تحسين الصوت بالتلاوة ومنه الحديث الصحيح: «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به (1) » وحديث «ليس منا من لم يتغن بالقرآن يجهر به (2) » ومعناه تحسين الصوت بذلك كما تقدم، ومعنى الحديث المتقدم «ما أذن الله (3) » أي ما استمع الله " كإذنه " أي كاستماعه، وهذا استماع يليق بالله لا يشابه صفات خلقه مثل سائر الصفات. يقال في استماعه سبحانه وإذنه مثل ما يقال في بقية الصفات على الوجه اللائق بالله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (4)
والتغني: الجهر به مع تحسين الصوت والخشوع فيه حتى يحرك القلوب؛ لأن المقصود تحريك القلوب بهذا القرآن حتى تخشع وحتى تطمئن وحتى تستفيد، ومن هذا قصة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه لما مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (التوحيد) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم الماهر برقم (6989) ومسلم في صحيحه كتاب (صلاة المسافرين وقصرها) باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن برقم (1319) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (التوحيد) باب قوله تعالى: (وأسروا قولكم أو اجهروا..) برقم (6973) .
(3) صحيح البخاري فضائل القرآن (5024) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (792) ، سنن النسائي الافتتاح (1017) ، سنن أبو داود الصلاة (1473) ، مسند أحمد بن حنبل (2/450) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3497) .
(4) سورة الشورى الآية 11(24/379)
فجعل يستمع له عليه الصلاة والسلام وقال: «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود (1) » . فلما جاء أبو موسى أخبره النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، قال أبو موسى: لو علمت يا رسول الله أنك تستمع إلي لحبرته لك تحبيرا. ولم ينكر عليه النبي عليه الصلاة والسلام ذلك فدل على أن تحبير الصوت وتحسين الصوت والعناية بالقراءة أمر مطلوب ليخشع القارئ والمستمع ويستفيد هذا وهذا.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (فضائل القرآن) باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن برقم (4660) ومسلم في صحيحه كتاب (صلاة المسافرين وقصرها) باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن برقم (1322)(24/380)
144 - حكم قراءة المصحف بالنظر دون تحريك الشفتين
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فإن بعض الناس يأخذون المصحف ويطالعون فيه دون تحريك شفتيهم، هل هذه الحالة ينطبق عليها اسم قراءة القرآن،(24/380)
أم لا بد من التلفظ بها؛ والإسماع؛ لكي يستحقوا بذلك ثواب قراءة القرآن؟ وهل المرء يثاب على النظر في المصحف؟ أفتونا جزاكم الله خيرا.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لا مانع من النظر في القرآن من دون قراءة للتدبر والتعقل وفهم المعنى، لكن لا يعتبر قارئا ولا يحصل له فضل القراءة إلا إذا تلفظ بالقرآن، ولو لم يسمع من حوله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه (1) » . رواه مسلم.
ومراده صلى الله عليه وسلم بأصحابه: الذين يعملون به، كما في الأحاديث الأخرى، وقال صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من القرآن فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها (2) » . خرجه الترمذي، والدارمي بإسناد صحيح، ولا يعتبر قارئا إلا إذا تلفظ بذلك، كما نص على ذلك أهل العلم. والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب (صلاة المسافرين وقصرها) باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة برقم (1337)
(2) أخرجه الترمذي في سننه كتاب (فضائل القرآن) باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ماله من الأجر برقم (2835) والدارس في سننه كتاب (الرقاق) باب الحسنة بعشر أمثالها برقم (2645)(24/381)
145 - المسر بالقرآن. . كالمسر بالصدقة
س: أنا والحمد لله أقرأ القرآن جيدا بدرجة أقرب إلى الحفظ، ولكن مشكلتي إذا جهرت في القراءة بدون مصحف كثيرا ما أغلط فهل قراءتي إذا قرأت في السر علي جرم أو ينقص ذلك من ثوابي؟ (1) .
ج: السر أفضل كما أوضح الحديث الذي رواه جماعة بإسناد حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة، والجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة (2) » . هذا يدل على أن السر أفضل كما أن الصدقة في السر أفضل إلا إذا دعت الحاجة والمصلحة إلى الجهر، كالإمام الذي يصلي بالناس، والخطيب الذي يخطب بالناس، فإذا كان السر أنفع لك فهو أفضل إلا إذا احتاج إليك إخوانك لتسمعهم فأسمعهم من المصحف حتى لا يصدر عنك خطأ أو يكون فيهم من يحفظ فيفتح عليك.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) جمع وترتيب محمد المسند ج 4 ص 40
(2) أخرجه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) برقم (17128) بقية حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.(24/382)
146 - حكم التكلم بالقرآن بين الناس
س: هل يجوز التكلم بالقرآن، فمثلا إذا سلم بعض الناس بقوله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (1) كما فعلت المرأة في القصة التي حكاها عبد الله بن المبارك؟ (2) .
ج: المعروف عند أهل العلم أنه لا ينبغي اتخاذ القرآن بدلا من الكلام، بل الكلام له شأن والقرآن له شأن، وأقل أحواله الكراهة، وعليه أن يسلم السلام العادي، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل وأصحابه رضي الله عنهم يقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهكذا يستعمل العبارات المعتادة في تحية إخوانه.
__________
(1) سورة يس الآية 58
(2) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) جمع وترتيب محمد المسند ج 4 ص 38(24/383)
147 - وضع المصحف في السيارة وغيرها بقصد التبرك
س: يعلق بعض الناس آيات قرآنية وأحاديث نبوية في غرف المنازل، أو في المطاعم أو المكاتب، وكذلك في المستشفيات والمستوصفات يعلقون قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (1) وغير ذلك. . فهل تعليق ذلك يعتبر من التمائم المنهي عنها شرعا، علما بأن مقصودهم استنزال البركات وطرد الشياطين، وقد يقصد من ذلك أيضا تذكير الناسي وتنبيه الغافل. . وهل من التمائم وضع المصحف في السيارة بحجة التبرك به؟ (2) .
ج: إذا كان المقصود بما ذكره السائل تذكره الناس وتعليمهم ما ينفعهم فلا حرج في ذلك، أما إذا كان المقصود اعتبارها حرزا من الشياطين أو الجن فلا أعلم لهذا أصلا، وهكذا وضع المصحف في السيارة للتبرك بذلك، ليس له أصل وليس بمشروع، أما إذا وضعه في السيارة ليقرأ فيه بعض الأحيان، أو ليقرأ فيه بعض الركاب فهذا طيب ولا بأس. . والله ولي التوفيق. ذ50
__________
(1) سورة الشعراء الآية 80
(2) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) جمع وترتيب محمد المسند ج 4 ص 29(24/384)
148 - حكم تعليق الآيات في المكاتب
س: هل يجوز تعليق بعض الآيات القرآنية في المكاتب؟ وهل صحيح أن حكمها حكم الصور المعلقة؟ (1)
ج: تعليق الصور لا يجوز، أما تعليق الآيات والأحاديث في المكاتب للتذكر فلا نعلم بأسا بذلك. . والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) جمع وترتيب محمد المسند ج 4 ص 29.(24/385)
149 - الجواب عن قراءة سورة الكهف يوم الجمعة
س: ما ثواب قراءة سورة الكهف يوم الجمعة؟ (1) .
ج: جاء فيها بعض الأحاديث الضعيفة، وثبت عن بعض الصحابة أنه كان يقرؤها يوم الجمعة، فإذا قرأها يوم الجمعة فحسن إن شاء الله؛ لأنه ثبت عن بعض الصحابة قراءتها.
__________
(1) من ضمن الأسئلة التي ألقيت على سماحته في المسجد الحرام في تاريخ 26\12\1413 هـ(24/385)
150 - هل في القرآن مجاز. .؟
س: كثيرا ما أقرأ في كتب التفاسير وغيرها بأن هذا الحرف زائد كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) فيقولون بأن (الكاف) في كمثله زائدة، وقد قال لي أحد المدرسين بأنه: ليس في القرآن شيء اسمه زائد أو ناقص أو مجاز، فإذا كان الأمر كذلك فما القول في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (2) وقوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} (3) ؟ (4)
ج: الصحيح الذي عليه المحققون أنه ليس في القرآن مجاز على الحد الذي يعرفه أصحاب فن البلاغة، وكل ما فيه فهو حقيقة في محله.
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة يوسف الآية 82
(3) سورة البقرة الآية 93
(4) نشر في هذا المجموع ج 4 ص 382. وفي كتاب (فتاوى إسلامية) جمع محمد المسند ج 4 ص 46.(24/386)
ومعنى قول بعض المفسرين أن هذا الحرف زائد، يعني من جهة قواعد الإعراب وليس زائدا من جهة المعنى، بل له معناه المعروف عند المتخاطبين باللغة العربية؛ لأن القرآن الكريم نزل بلغتهم كقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (1) يفيد المبالغة في نفي المثل وهو أبلغ من قولك ليس مثله شيء وهكذا قوله سبحانه: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} (2) فإن المراد بذلك سكان القرية وأصحاب العير وعادة العرب تطلق القرية على أهلها والعير على أصحابها؛ وذلك من سعة اللغة العربية وكثرة صيغها في الكلام وليس من باب المجاز المعروف في اصطلاح أهل البلاغة ولكن ذلك من مجاز أي: مما يجوز فيها ولا يمتنع.
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة يوسف الآية 82(24/387)
151 - جواز ترجمة معاني القرآن إلى لغات أخرى غير العربية
س: سؤال عن جواز ترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغات أخرى غير العربية؟ (1)
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة(24/387)
ج: ذلك جائز لمسيس الحاجة إليها (1) ؛ ولأنه ليس في الأدلة الشرعية ما يمنع ذلك؛ ولأن ذلك من وسائل التبليغ عن الله ورسوله وهو مأمور به شرعا، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود ليترجم كتبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أن جنس الترجمة من العربية وإليها أمر مطلوب عند الحاجة إليه، بشرط أن يكون المترجم عالما باللغتين أمينا في ذلك.
__________
(1) أي إلى ترجمة معاني القرآن وهي تفسيره، أما ترجمة ألفاظه فلا تجوز.(24/388)
152 - دواء قسوة القلب
س: أنا شاب ملتزم والحمد لله وأحاول تطبيق السنة في كل أمور حياتي، أقوم الليل وأصوم النهار وأختم كل يوم جزءا من كتاب الله ولا أفرط في صلاة الضحى، وأحرص على الصدقة لكن مع ذلك أشكو من قسوة القلب وعدم البكاء عند سماع كتاب الله فبماذا تنصحوني أثابكم الله؟
ج: أحسن ما يوصى به لعلاج القلب وقسوته العناية بالقرآن الكريم، وتدبره والإكثار من تلاوته مع الإكثار من ذكر(24/388)
الله عز وجل، فإن قراءة القرآن الكريم، بالتدبر والإكثار من ذكر الله، وقول سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر، وسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، كل هذه من أسباب إزالة القسوة.(24/389)
153 - علاج الأمراض العضوية بالقرآن
س: سؤال من: م. ب- من الرياض: هل التداوي والعلاج بالقرآن يشفي من الأمراض العضوية كالسرطان كما هو يشفي من الأمراض الروحية كالعين والمس وغيرهما؟ وهل لذلك دليل؟ جزاكم الله خيرا. (1)
ج: القرآن والدعاء فيهما شفاء من كل سوء بإذن الله، والأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (2) وقوله سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (3)
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة في العدد (1497) بتاريخ 1\2\1416 هـ
(2) سورة فصلت الآية 44
(3) سورة الإسراء الآية 82(24/389)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى شيئا قرأ في كفيه عند النوم سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) و (المعوذتين) (ثلاث مرات) ، ثم يمسح في كل مرة على ما استطاع من جسده فيبدأ برأسه ووجهه وصدره في كل مرة عند النوم، كما صح الحديث بذلك عن عائشة رضي الله عنها.
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1(24/390)
154 - حكم وضع المصحف خلف المصلي
س: ما حكم وضع المصاحف على الحامل بين الصفوف خلف ظهور المصلين؟ (1)
ج: لا نعلم بأسا في ذلك للضرورة.
__________
(1) نشر في (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 4 ص 48(24/390)
155 - حكم أخذ المصحف من المسجد
س: الأخ أ. ح. م. من الرباط في المملكة المغربية يقول في سؤاله: ما حكم أخذ المصحف من المسجد إلى البيت؟ (1)
ج: لا يجوز أخذه، لأن مصاحف المسجد تبقى في المسجد ولا تؤخذ. . والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في (المجلة العربية) جمادى الأولى عام 1413 هـ.(24/390)
156 - حكم كتابة البسملة على الفواتير والوصفات الطبية ونحوها
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة صاحب السمو الملكي الأمير المكرم نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية سلمه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد (1) :
فأشفع لسموكم الكريم نسخة من كتاب فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد العجلان ومشفوعاته الموجه لنا لأخذ الرأي الشرعي في كتابة البسملة على المطبوعات من فواتير ومسودات ووصفات طبية وأكياس الأدوية.
وأفيد سموكم بأن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء درست هذا الموضوع من جميع نواحيه واتضح لها أن كثيرا من الشركات والمؤسسات والمستشفيات والمستوصفات وأشباهها تطبع على بعض الأوراق كلمة- بسم الله الرحمن الرحيم- أو بعض أسماء الله أو بعض الآيات القرآنية وهذه الأوراق تستعمل أوعية لبعض الحوائج وملفات لبعض الأغراض أو تستعمل في
__________
(1) صدرت من سماحته برقم 2441\2 في 12\11\1406 هـ.(24/391)
المستوصفات والمستشفيات وعاء للدواء أو لما يؤخذ من المريض من العينات للتحليل، ولا شك أن كتابة البسملة أو شيء من أسماء الله أو كتابة بعض الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية على هذه الأوراق التي يؤول الأمر فيها إلى الامتهان، فيه امتهان لها لا يليق. فأرجو من سموكم الكريم التعميم على الجهات المعنية. بمنع ذلك. وفقكم الله لما فيه رضاه وأعانكم على كل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(24/392)
157 - حكم الدخول بالمصحف إلى الحمام وحكم تمزيق الأوراق المكتوب فيها آيات قرآنية
س: إذا كان في جيبي مصحف لأقرأ فيه أينما كنت وأدخل الحمام وهو في جيبي فهل في ذلك شيء؟ وفي بعض الأحيان أكتب الآيات في ورقة لتثبيت حفظها في ذهني، وبعد حفظها أمزقها وأضعها في صندوق المهملات، فهل في ذلك شيء أفيدونا جزاكم الله خيرا؟
ج: أما دخول الحمام بالمصحف فلا يجوز إلا عند الضرورة، إذا كنت تخشى عليه أن يسرق فلا بأس، وأما تمزيق الآيات التي حفظتها إذا مزقتها تمزيقا ما يبقى معه شيء فيه ذكر الله أي: تمزيقا دقيقا فلا حرج في ذلك، وإلا فادفنها في أرض طيبة أو أحرقها، أما التمزيق الذي يبقى معه آيات لم تمزق فإنه لا يكفي.(24/393)
158 - لا يجوز امتهان كل ما كان فيه ذكر الله
س: الأخ ع. ص. س. من تعز في اليمن يقول في سؤاله:
قرأنا فتوى لسماحتكم أنه لا يجوز امتهان الصحف والمجلات لوجود بعض الآيات والأحاديث النبوية فيها. وسؤالي يا سماحة الشيخ عن الرسائل التي تصل الإنسان من البريد كيف أتصرف بالنسبة لها إذا كان مكتوب عليها اسم الله، فهل عبد الرحمن وعبد الله أو البسملة داخل الرسالة، نرجو التكرم بالإجابة؟ (1)
ج: حكم الرسائل التي فيها ذكر الله أو آيات من القرآن الكريم حكم الصحف التي فيها ذكر الله أو بعض الآيات، لا يجوز امتهانها، بل الواجب حفظها في محل مناسب أو إحراقها أو دفنها في أرض طيبة، صيانة لأسماء الله سبحانه وكتابه عن الامتهان. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سؤال موجه من (المجلة العربية) وأجاب عنه سماحته بتاريخ 21\1\1417 هـ(24/394)
159 - القرآن الكريم يحرق إذا كان متقطعا لا ينتفع به
س 1: ما جزاء من قام بحرق القرآن الكريم سهوا ولم يعرف إلا بعد ما مضى هذا الفعل؟ (1)
ج: ليس عليه شيء ما دام سهوا مثل أن حرقه وهو لا يدري أنه قرآن، وكذلك إذا حرقه عمدا لكونه متقطعا لا ينتفع به، حتى لا يمتهن فلا بأس عليه؛ لأن القرآن إذا تقطع وتمزق ولم ينتفع به يحرق أو يدفن في محل طيب حتى لا يمتهن، أما إذا حرقه كارها له سابا له مبغضا له، فهذا منكر عظيم وردة عن الإسلام، وهكذا لو قعد عليه أو وطأ عليه برجله إهانة له، أو لطخه بالنجاسة أو سبه وسب من تكلم به، فهذا كفر أكبر وردة عن الإسلام والعياذ بالله.
__________
(1) هذان السؤالان نشرا في جريدة (عكاظ) العدد (11910) وتاريخ 20\12\1419 هـ.(24/395)
س 2: هل يجب علي أن أتوضأ قبل كل حصة من حصص القرآن الكريم وأنا في المدرسة؟
ج: ليس عليك الوضوء إذا كنت على طهارة، وكذلك إذا كانت القراءة عن ظهر قلب أي: من غير المصحف، فليس عليك أن تتطهر.. أما إذا كان القراءة من المصحف وقد أحدثت بعد الحصة الأولى فعليك أن تتطهر للحصة الثانية، وهكذا الثالثة فكلما أردت أن تقرأ من المصحف وأنت على غير وضوء فعليك أن تتطهر؛ لما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يمس القرآن إلا طاهر (1) » ، وهكذا أفتى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأن المحدث لا يمس القرآن، وهو الذي عليه جمهور أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم.
فالواجب عليك يا أخي إذا أردت القراءة من المصحف وأنت على غير طهارة، أن تتوضأ الوضوء الشرعي، أما إذا كنت على جنابة فليس لك أن تقرأ لا عن ظهر قلب، ولا من المصحف حتى تغتسل.
__________
(1) أخرجه الإمام مالك في كتاب (النداء للصلاة) باب: الأمر بالوضوء لمن مس القرآن برقم (419)(24/396)
160 - حكم وضع القرآن الكريم على الأرض
س: ما حكم وضع القرآن الكريم على الأرض لفترة قصيرة أو طويلة، وهل يجب وضعه في مكان مرتفع عن الأرض بمقدار شبر على الأقل؟ (1) .
ج: وضعه على محل مرتفع أفضل مثل الكرسي أو الرف في الجدار ونحو ذلك مما يكون مرفوعا به عن الأرض، وإن وضعه على الأرض للحاجة لا لقصد الامتهان، على أرض طاهرة بسبب الحاجة لذلك ككونه يصلي وليس عنده محل مرتفع أو أراد السجود للتلاوة فلا حرج في ذلك إن شاء الله ولا أعلم بأسا في ذلك، لكنه إذا وضعه على كرسي أو على وسادة ونحو ذلك أو في رف كان ذلك أحوط، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم عندما طلب التوراة لمراجعتها، بسبب إنكار اليهود حد الرجم طلب التوراة وطلب كرسيا ووضعت التوراة عليه وأمر من يراجع التوراة حتى وجدوا الآية الدالة على الرجم وعلى كذب اليهود، فإذا كانت التوراة يشرع وضعها على كرسي لما فيها من كلام
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، شريط رقم (7) . ونشر في هذا المجموع ج 9 ص 288(24/397)
الله سبحانه فالقرآن أولى بأن يوضع على الكرسي؛ لأنه أفضل من التوراة.
والخلاصة: أن وضع القرآن على محل مرتفع ككرسي، أو بشت مجموع ملفوف يوضع فوقه، أو رف في جدار أو فرجة هو الأولى والذي ينبغي، وفيه رفع للقرآن وتعظيم له واحترام لكلام الله، ولا نعلم دليلا يمنع من وضع القرآن فوق الأرض الطاهرة الطيبة عند الحاجة لذلك.(24/398)
161 - حكم تقبيل المصحف
س: ما حكم تقبيل المصحف بعد سقوطه من مكان مرتفع؟ (1)
ج: لا نعلم دليلا على شرعية تقبيله، ولكن لو قبله الإنسان فلا بأس لأنه يروى عن عكرمة بن أبي جهل الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه أنه كان يقبل المصحف ويقول هذا كلام ربي، وبكل
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) شريط رقم (7) ونشر في هذا المجموع ج 9 ص 289.(24/398)
حال التقبيل لا حرج فيه ولكن ليس بمشروع وليس هناك دليل على شرعيته، ولكن لو قبله الإنسان تعظيما واحتراما عند سقوطه من يده أو من مكان مرتفع فلا حرج في ذلك ولا بأس إن شاء الله.(24/399)
162 - مسألة في تقبيل المصحف
س: هل تقبيل المصحف جائز أم لا؟ (1)
ج: هذا العمل ليس له أصل وتركه أحسن، لأنه ليس عليه دليل، لكن يروى عن بعض الصحابة أنه قبل المصحف وقال: هذا كلام ربي ولا يضر من فعله، لكن ليس عليه دليل وتركه أولى، ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت عن الصحابة إنما يروى عن عكرمة، قد يصح أو لا يصح فالترك أولى لعدم الدليل، المهم العمل به والتلاوة والإكثار من القراءة والعمل، هذا المهم وهذا الواجب فالإنسان عليه أن يكثر من قراءة القرآن ويتدبر ويعمل هذا هو المطلوب منه.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1418 هـ في منى.(24/399)
163 - حكم قراءة القرآن على طريقة المغنين
س: ماذا يقول سماحتكم في قارئ القرآن بواسطة مقامات هي أشبه بالمقامات الغنائية بل هي مأخوذة منها أفيدونا بذلك جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: لا يجوز للمؤمن أن يقرأ القرآن بألحان الغناء وطريقة المغنين بل يجب أن يقرأه كما قرأه سلفنا الصالح من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، فيقرأه مرتلا متحزنا متخشعا حتى يؤثر في القلوب التي تسمعه وحتى يتأثر هو بذلك.
أما أن يقرأه على صفة المغنين وعلى طريقتهم فهذا لا يجوز.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب شريط رقم (7) ونشر في هذا المجموع ج 9 ص 290.(24/400)
164 - تعقيب على فتوى
نشرت في جريدة البلاد
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم سعادة رئيس تحرير جريدة البلاد وفقه الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد (1) :
فقد جاء في جريدة البلاد العدد (11030) الصادر يوم الأحد 20 ربيع الآخر سنة 1415 هـ في صفحة (روضة الإسلام) (8) تحت عنوان (فتاوى العلماء) السؤال التالي مع جوابه المنسوب إلي وهو:
س: سمعت بعض المصلين أثناء قراءته القرآن في الصلاة يقطع القراءة، ويدعو بأدعية مناسبة فيقول عند ذكر الجنة: اللهم إني أسألك الجنة، وعند ذكر النار: اللهم أجرني من النار، فهل ذلك جائز شرعا؟
ج: يسن لكل من قرأ في الصلاة أو غيرها إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مر بآية عذاب أن يستعيذ به من النار.
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم 1508\1 في 12\5\1415 هـ(24/401)
وإذا مر بآية تنزيه لله سبحانه نزهه، فقال: سبحانه وتعالى، أو نحو ذلك، ويستحب لكل من قرأ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} (1) أن يقول: " بلى وأنا على ذلك من الشاهدين " وإذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (2) قال: بلى أشهد، وإذا قرأ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (3) قال: " آمنت بالله "، وإذا قرأ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (4) قال: لا نكذب بشيء من آيات ربنا، وإذا قال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (5) قال: سبحان ربي الأعلى، ويستحب هذا للإمام والمأموم والمنفرد؛ لأنه دعاء فهو مطلوب منهم كالتأمين وكذلك الحكم في القراءة في غير الصلاة. أهـ.
ولا أدري من أين نقلتم هذا السؤال مع جوابه، وقد سبق أن كتبنا لكم برقم (40\1) وتاريخ 6\1\1415 هـ نستوضح عن المصدر الذي تأخذون منه هذه الفتاوى. وهذا السؤال وجوابه فيه أشياء لست أفتي بها. . منها: -
__________
(1) سورة التين الآية 8
(2) سورة القيامة الآية 40
(3) سورة الأعراف الآية 185
(4) سورة الرحمن الآية 13
(5) سورة الأعلى الآية 1(24/402)
- ما يقال عند آخر قراءة سورة التين، وآخر سورة المرسلات؛ لأن الحديث في ذلك ضعيف.
- ومنها ما ذكرتم أنه يقال عند قراءة: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (1) فإنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك عند قراءته هذه الآية في الصلاة أو غيرها.
وإنما المنقول عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما قرأ سورة الرحمن على الصحابة رضي الله عنهم أخبرهم أن الجن كانوا يقولون لما قرأ عليهم هذه الآية: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (2) ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد (3) .
فاصلة: فأرجو الإفادة عن أي كتاب نقلتم عنه هذا السؤال وجوابه، وأرجو أن ترسلوا إلي الأسئلة التي تحبون الجواب عنها، حتى أجيب عنها إن شاء الله، ولا أسمح لكم أن تنقلوا الجواب إلا من كتاب آذن لكم بالنقل منه؛ حذرا من الأخطاء.
وفق الله الجميع لما يرضيه. . وأعاننا وإياكم على كل خير. . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية الإفتاء
__________
(1) سورة الرحمن الآية 13
(2) سورة الرحمن الآية 13
(3) أخرجه الترمذي في كتاب (تفسير القرآن) باب ومن سورة الرحمن برقم (3213) .(24/403)
165 - حكم قول: بلى، عند قوله تعالى
: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (1)
س: هل يجوز قول: (بلى) عند السور التي تنتهي ببعض الأسئلة مثل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} (2) ، مثل قول: (آمين) عند قراءة الفاتحة؟ وجزاكم الله خيرا. حيث أسمع بعض المصلين يقولون ذلك؟ (3) .
ج: لا يشرع ذلك، إلا عند تلاوة آخر آية من سورة القيامة وهي قوله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (4) فإنه يستحب أن يقال عند قراءتها: " سبحانك فبلى " (5) ؛ لصحة الحديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة القيامة الآية 40
(2) سورة التين الآية 8
(3) أجاب عنه سماحته في 26\6\1419 هـ
(4) سورة القيامة الآية 40
(5) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى ج 2 برقم (3507)(24/404)
166 - التكبير لسجدة التلاوة
س: هل يلزم التكبير لسجدة التلاوة في الصلاة وخارجها؟ وهل يلزم السلام خارجها؟ أرجو الإفادة وفقكم الله (1) .
ج: سجدة التلاوة في الصلاة مثل سجود الصلاة إذا سجد يكبر، وإذا رفع يكبر، والدليل على هذا: ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في الصلاة يكبر في كل خفض ورفع، إذا سجد كبر، وإذا نهض كبر، هكذا أخبر الصحابة من حديث أبي هريرة وغيره، وهذا السجود من سجود الصلاة (2) ، هذا هو الأظهر من الأدلة، أما إذا سجد للتلاوة في خارج الصلاة فلم يرو إلا التكبير في أوله هذا هو المعروف كما رواه أبو داود والحاكم.
أما عند الرفع في خارج الصلاة فلم يرو فيه تكبير ولا تسليم، وبعض أهل العلم قال: يكبر عند النهوض، ويسلم أيضا ولكن لم يرد في هذا شيء، فلا يشرع له إلا التكبيرة الأولى عند السجود إذا كان خارج الصلاة، وبالله التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1520) في 15\7\1416 هـ
(2) لعله: مثل.(24/405)
167 - بيان سجدات القرآن
س: ما هما السجدات في القرآن الكريم مع بيان السجدات الحتمية منها؟ (1)
ج: سجدات التلاوة كلها سنة ليست حتمية وليست واجبة، وهي خمس عشرة سجدة على الصحيح: منها سجدة آخر الأعراف وهي أولها، ومنها سجدة سورة الرعد، وسجدة النحل، وسجدة في بني إسرائيل " سبحان "، وسجدة في سورة مريم، وسجدتان في سورة الحج، وسجدة في سورة الفرقان، وسجدة في سورة النمل، وسجدة في " ألم " السجدة، وسجدة في سورة " ص " (2) ، وسجدة في سورة فصلت، وسجدة في سورة النجم في آخرها، وسجدة في سورة: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (3) وسجدة في سورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (4) هذه خمس عشرة سجدة، سنة كلها. إذا سجد فهو أفضل وإن لم يسجد لا إثم عليه. وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم في بعض الأحيان ولم يسجد فدل على أنها لا تجب، قال عمر رضي الله عنه: " إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء " فالمعنى: أن من سجد فله أجر ومن لم يسجد فلا حرج عليه.
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) الشريط رقم (17)
(2) على قول.
(3) سورة الانشقاق الآية 1
(4) سورة العلق الآية 1(24/406)
168 - تأكيد سجدة (ص)
س: ما حكم السجدة التي في سورة (ص) حيث إن بعض الأئمة يسجد عند تلاوتها وبعضهم لا يسجد؟ (1)
ج: السنة السجود فيها إذا قرأها المسلم في الصلاة أو خارجها؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها (2) » - يعني سجدة ص- وقد قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (3) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي (4) » رواه البخاري في الصحيح. والله ولي التوفيق.
__________
(1) من أسئلة المجلة العربية.
(2) أخرجه البخاري في (كتاب الجمعة) باب سجدة (ص) برقم (1007)
(3) سورة الأحزاب الآية 21
(4) أخرجه البخاري في كتاب (الأذان) باب: الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة برقم (595) .(24/407)
169 - ما الحكمة في تقديم ذكر المال على الأولاد في القرآن الكريم
س: دائما يرد ذكر المال مقدما على الأولاد في القرآن الكريم، رغم أن الأولاد أغلى لدى الأب من ماله، فما الحكمة من ذلك؟ (1) .
ج: الفتنة بالمال أكثر؛ لأنه يعين على تحصيل الشهوات المحرمة وغيرها بخلاف الأولاد، فإن الإنسان قد يفتن بهم، ويعصي الله من أجلهم، ولكن الفتنة بالمال أكثر وأشد؛ ولهذا بدأ سبحانه بالأموال قبل الأولاد، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} (2) الآية، وقوله سبحانه: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (3) الآية، وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (4)
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد (1635) في 28\11\1418 هـ وفي كتاب فتاوى إسلامية جمع محمد المسند ج 4 ص 66.
(2) سورة سبأ الآية 37
(3) سورة التغابن الآية 15
(4) سورة المنافقون الآية 9(24/408)
170 - حكم استماع القرآن من النساء
س: ما حكم الاستماع إلى تلاوة النساء في مسابقات القرآن الكريم التي تقام سنويا في بعض البلاد الإسلامية؟ أفيدونا أفادكم الله (1) .
ج: لا أعلم بأسا في هذا الشيء إذا كان النساء على حدة والرجال على حدة، من غير اختلاط في محل المسابقة، بل يكن على حدة، مع تسترهن وتحجبهن عن الرجال.
وأما المستمع فإذا استمع للفائدة والتدبر لكلام الله فلا بأس، أما مع التلذذ بأصواتهن فلا يجوز. أما إذا كان القصد الاستماع للفائدة، والتلذذ في استماع القرآن والاستفادة من القرآن فلا حرج إن شاء الله في ذلك.
__________
(1) نشر في جريدة (عكاظ) العدد (11664) في 6\4\1419 هـ.(24/409)
171 - حكم قول: صدق الله العظيم عند انتهاء قراءة القرآن
س: إنني كثيرا ما أسمع من يقول: إن (صدق الله العظيم) عند الانتهاء من قراءة القرآن بدعة، وقال بعض الناس: إنها جائزة واستدلوا بقوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (1) وكذلك قال لي بعض المثقفين: إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يوقف القارئ قال له: حسبك، ولا يقول: صدق الله العظيم، وسؤالي هو هل قول: صدق الله العظيم جائز عند الانتهاء من قراءة القرآن الكريم، أرجو أن تتفضلوا بالتفصيل في هذا؟ (2)
ج: اعتاد الكثير من الناس أن يقولوا: صدق الله العظيم عند الانتهاء من قراءة القرآن الكريم وهذا لا أصل له، ولا ينبغي اعتياده بل هو على القاعدة الشرعية من قبيل البدع إذا اعتقد قائله أنه سنة فينبغي ترك ذلك، وأن لا يعتاده لعدم الدليل، وأما قوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} (3) فليس في هذا الشأن، وإنما أمره الله عز
__________
(1) سورة آل عمران الآية 95
(2) سبق نشره في هذا الجموع ج 7 ص 329.
(3) سورة آل عمران الآية 95(24/410)
وجل أن يبين لهم صدق الله فيما بينه في كتبه العظيمة من التوراة وغيرها، وأنه صادق فيما بينه لعباده في كتابه العظيم القرآن، ولكن ليس هذا دليلا على أنه مستحب أن يقول ذلك بعد قراءة القرآن، أو بعد قراءة آيات أو قراءة سورة؛ لأن ذلك ليس ثابتا ولا معروفا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته رضوان الله عليهم.
«ولما قرأ ابن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم أول سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى: قال له النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك. قال ابن مسعود: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان (3) » عليه الصلاة والسلام أي: يبكي لما تذكر هذا المقام العظيم يوم القيامة المذكور في الآية وهي قوله سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ} (4) أي: يا محمد {عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (5) أي: على أمته عليه الصلاة والسلام، ولم ينقل أحد من أهل العلم فيما نعلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5050) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (800) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3024) ، سنن أبو داود العلم (3668) ، سنن ابن ماجه الزهد (4194) ، مسند أحمد بن حنبل (1/433) .
(2) سورة النساء الآية 41 (1) {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}
(3) أخرجه البخاري في كتاب (فضائل القرآن) باب: قول المقرئ للقارئ حسبك برقم (4662) (2)
(4) سورة النساء الآية 41
(5) سورة النساء الآية 41(24/411)
قال: صدق الله العظيم، بعد ما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك، والمقصود أن ختم القراءة بقول القارئ: صدق الله العظيم، ليس له أصل في الشرع المطهر، أما إذا فعلها الإنسان بعض الأحيان لأسباب اقتضت ذلك فلا بأس به.(24/412)
172 - حكم قراءة القرآن في أوقات العمل
س: أنا موظف وفي العمل أقرأ القرآن الكريم في أوقات الفراغ، ولكن المسئول ينهاني عن ذلك بقوله: إن هذا الوقت للعمل وليس لقراءة القرآن، فما حكم ذلك. جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: إذا لم يكن لديك عمل فلا حرج في قراءة القرآن، وهكذا التسبيح والتهليل والذكر، وهو خير من السكوت، أما إذا كانت القراءة تشغلك عن شيء يتعلق بعملك فلا يجوز لك ذلك؛ لأن الوقت مخصص للعمل، فلا يجوز لك أن تشغله. مما يعوقك عن العمل.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة في العدد (1480) بتاريخ 17\9\1415 هـ(24/412)
173 - حكم سماع سورة البقرة
من المسجل بدلا من قراءتها في المنزل
س: الأخ م. ع. م. من الباحة يقول في سؤاله: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة (1) » .
وسؤالي يا سماحة الوالد، هل يكفي أن يأتي الإنسان بالمسجل، ويضع فيه شريطا مسجلا عليه سورة البقرة، ويقوم بتشغيله حتى يقرأ كامل السورة؟ أو لا بد أن يقرأ الإنسان بنفسه أو من ينوب عنه السورة؟ وهل يشترط قراءتها كاملة في جلسة واحدة أو لا بأس بقراءتها على فترات؟ أرجو التكرم بالإفادة (2) .
ج: الأظهر- والله أعلم- أنه يحصل بقراءة سورة البقرة كلها من المذياع أو من صاحب البيت ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من فرار الشيطان من ذلك البيت، ولكن لا يلزم من فراره أن
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (780) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2877) ، سنن أبو داود المناسك (2042) ، مسند أحمد بن حنبل (2/337) .
(2) نشر في (المجلة العربية) في ربيع الأول عام 1417 هـ.(24/413)
لا يعود بعد انتهاء القراءة، كما أنه يفر من سماع الأذان والإقامة ثم يعود حتى يخطر بين المرء وقلبه، ويقول له: اذكر كذا، واذكر كذا. . كما صح بذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالمشروع للمؤمن أن يتعوذ بالله من الشيطان دوما، وأن يحذر من مكائده ووساوسه وما يدعو إليه من الإثم. والله ولي التوفيق.(24/414)
174 - حكم قراءة القرآن في منزل فيه كلب
س: ما حكم قراءة القرآن في منزل فيه كلب؟ (1)
ج: لا حرج في ذلك، والواجب إخراج الكلب وعدم بقائه في المنزل، إلا إذا كان لأحد ثلاثة أمور وهي: الصيد، والحرث، والماشية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد، أو ماشية، أو زرع فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان (2) » متفق عليه. والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في هذا المجموع لسماحته ج 8 ص 362. وفي كتاب فتاوى إسلامية جمع محمد المسند ج 4 ص 22.
(2) أخرجه البخاري قي كتاب (الذبائح والصيد) باب: من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد برقم (5060) ، ومسلم في كتاب (المساقاة) باب: الأمر بقتل الكلاب برقم (2941) .(24/414)
175 - الأولى ترك التكبير
من سورة الضحى إلى آخر القرآن
س: هل ثبت التكبير من سورة الضحى إلى آخر القرآن؟
ج: لم يثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما صرح بذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله في أول تفسير سورة الضحى، ولكن ذلك عادة جرى عليها بعض القراء، لحديث ضعيف ورد في ذلك، فالأولى ترك ذلك، لأن العبادات لا تثبت بالأحاديث الضعيفة. والله الموفق.
176 - الأفضل ألا يختم القرآن في أقل من ثلاث
س: ما نصيحة الشيخ للذين يمضي عليهم الشهر والشهور الطويلة ولا يمسون كتاب الله الكريم بدون عذر وتجد أحدهم يتابع المجلات غير المفيدة؟ (1)
ج: يسن للمؤمن والمؤمنة الإكثار من قراءة كتاب الله مع التدبر والتعقل سواء كان ذلك من المصحف أو عن ظهر قلب؛
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) جمع محمد المسند ج 4 ص 16.(24/415)
لقول الله سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} (2) {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (3)
والتلاوة المذكورة تشمل القراءة والاتباع، والقراءة بالتدبر والتعقل والإخلاص لله وسيلة للاتباع وفيها أجر عظيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه (4) » . رواه مسلم في صحيحه، وقال عليه الصلاة والسلام: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (5) » . خرجه البخاري في صحيحه، وقال صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من القرآن فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول [ألم] ، حرف. ولكن ألف
__________
(1) سورة ص الآية 29
(2) سورة فاطر الآية 29
(3) سورة فاطر الآية 30
(4) أخرجه مسلم في كتاب (صلاة المسافرين وقصرها) باب: فضل قراءة القرآن برقم (1337) .
(5) أخرجه البخاري في كتاب (فضائل القرآن) باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه برقم (4639) .(24/416)
حرف ولام حرف وميم حرف (1) » وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص: «اقرأ القرآن في كل شهر، فقال: إني أطيق أكثر من ذلك فقال: اقرأه في سبع (2) » . وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يختمونه في كل سبع.
ووصيتي لجميع قراء القرآن الإكثار من قراءته بالتدبر والتعقل، والإخلاص لله مع قصد الفائدة والعلم، وأن يختمه في كل شهر فإن تيسر أقل من ذلك فذلك خير عظيم، وله أن يختمه في أقل من سبع، والأفضل ألا يختمه في أقل من ثلاث؛ لأن ذلك هو أقل ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص، ولأن قراءته في أقل من ثلاث قد تفضي إلى العجلة وعدم التدبر، ولا يجوز أن يقرأه من المصحف إلا على طهارة، أما إن كان يقرأه عن ظهر قلب فلا حرج عليه أن يقرأه وهو على غير وضوء، أما الجنب فليس له قراءته من المصحف ولا عن ظهر قلب حتى يغتسل؛ ما روى الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد حسن عن علي
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب (فضائل القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) باب: ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن برقم (2910) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب (الصيام) باب: النهي عن صوم الدهر برقم (1964) .(24/417)
رضي الله عنه أنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحجزه شيء عن القرآن سوى الجنابة (1) » ، وبالله التوفيق.
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب (الطهارة) باب: حجب الجنب من قراءة القرآن برقم (266) .(24/418)
177 - حكم إهداء تلاوة القرآن الكريم للآخرين
س: في هذا الشهر العظيم، شهر القرآن الكريم هل يجوز أن أختم القرآن الكريم لوالدي، علما بأنهما أميان لا يقرآن ولا يكتبان؟ وهل يجوز أن أختم القرآن لشخص يعرف القراءة والكتابة ولكن أريد إهداءه هذه الختمة؟ وهل يجوز لي أن أختم القرآن لأكثر من شخص؟ (1)
ج: لم يرد في الكتاب العزيز ولا في السنة المطهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن صحابته الكرام ما يدل على شرعية إهداء تلاوة القرآن الكريم للوالدين ولا لغيرهما، وإنما شرع الله قراءة القرآن للانتفاع به، والاستفادة منه، وتدبر معانيه والعمل بذلك، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2)
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة في العدد (1478) بتاريخ 3\9\1415 هـ.
(2) سورة ص الآية 29(24/418)
وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (2) وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه (3) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إنه يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران، كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما (4) » .
والمقصود: أنه أنزل للعمل به وتدبره والتعبد بتلاوته والإكثار من قراءته لا لإهدائه للأموات أو غيرهم، ولا أعلم في إهدائه للوالدين أو غيرهما أصلا يعتمد عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (5) » .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة فصلت الآية 44
(3) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (804) ، مسند أحمد بن حنبل (5/249) .
(4) أخرجه مسلم في كتاب (صلاة المسافرين وقصرها) باب: فضل قراءة القرآن برقم (1337) .
(5) أخرجه البخاري في كتاب (الصلح) باب: إذا اصطلحوا على صلح جور برقم (2499) ، ومسلم في كتاب (الأقضية) باب: نقض الأحكام الباطلة برقم (3242) .(24/419)
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك وقالوا: لا مانع من إهداء ثواب القرآن وغيره من الأعمال الصالحات، وقاسوا ذلك على الصدقة والدعاء للأموات وغيرهم، ولكن الصواب: هو القول الأول، للحديث المذكور، وما جاء في معناه، ولو كان إهداء التلاوة مشروعا لفعله السلف الصالح.
والعبادة لا يجوز فيها القياس؛ لأنها توقيفية لا تثبت إلا بنص من كلام الله عز وجل أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ للحديث السابق وما جاء في معناه.
أما الصدقة عن الأموات وغيرهم، والدعاء لهم، والحج عن الآخرين ممن قد حج عن نفسه، وهكذا العمرة عن الآخرين ممن قد اعتمر عن نفسه، وهكذا قضاء الصوم عمن مات وعليه صيام، فكل هذه العبادات قد صحت بها الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا كان المحجوج عنه والمعتمر عنه ميتا، أو عاجزا لهرم أو مرض لا يرجى برؤه. والله ولي التوفيق.(24/420)
178 - دعاء ختم القرآن لابن تيمية
س: هناك كتيب " دعاء ختم القرآن " لابن تيمية مكتوب عليه تأليف شيخ الإسلام وقدوة الأنام أحمد بن عبد الحليم. . الخ [قدس الله روحه ونور ضريحه آمين] ما حكم هذا القول؟ (1)
ج: الدعاء المشار إليه مشهور عند العلماء أنه من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
أما أنا فلم أقف عليه في شيء من كتبه. . والدعاء المذكور لا أعلم به بأسا، والله ولي التوفيق.
__________
(1) من أسئلة مجلة (الدعوة) أجاب عنه سماحته في 27\5\1419 هـ.(24/421)
179 - حكم دعاء ختم القرآن
س: هل ورد دليل على تعيين دعاء معين لختم القرآن الكريم فيما يعلم سماحتكم؟ (1)
ج: يجوز للإنسان أن يدعو بما شاء ويتخير من الأدعية الدافعة كطلب مغفرة الذنوب والفوز بالجنة والنجاة من النار والاستعاذة من
__________
(1) نشر في جريدة (البلاد) العدد (15532) في 26\9\1419 هـ.(24/421)
الفتن وطلب التوفيق لفهم القرآن الكريم على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى والعمل به وحفظه ونحو ذلك.
وقد ثبت عن أنس رضي الله عنه أنه كان يجمع أهله عند ختم القرآن ويدعو، أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عنه شيء في ذلك.(24/422)
180 - استحباب دعاء المسلم عند ختم القرآن
س: هل من ختم تلاوة القرآن يلزمه دعاء معين؟ (1)
ج: يدعو بما تيسر فليس فيه شيء معين، وإذا دعا بـ " اللهم إني عبدك وابن عبدك. . . " فهو طيب؛ لأنه ورد في الحديث.
انتهى الجزء الرابع والعشرون
ويليه بمشيئة الله تعالى الجزء
الخامس والعشرون وأوله كتاب الحديث
__________
(1) من أسئلة حج 1415 هـ، الشريط رقم 49\6.(24/422)
صفحة فارغة(25/1)
صفحة فارغة(25/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فبحمد الله وتوفيقه تم الانتهاء من الجزء (25) من كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - وهو في كتاب الحديث.
ونظرا إلى توسع سماحة شيخنا - رحمه الله - في كتاب الحديث فقد تقرر إصدار هذا الكتاب في جزأين مستقلين وهما (25، 26) .
أما الجزء (25) فقد تم ترتيبه على ضوء ترتيب صحيح مسلم - رحمه الله -.
أما الجزء (26) فقد احتوى على ثلاثة موضوعات وهي كما يلي:(25/3)
1 - كتاب الأذكار والأدعية.
2 - كتاب الأحاديث الضعيفة.
3 - كتاب الأحاديث الموضوعة.
فنسأل الله تعالى أن يغفر لشيخنا مغفرة واسعة وأن يسكنه فسيح جناته وأن يوفق الجميع لخدمة دينه وإعلاء كلمته، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
المشرف على جمع وترتيب الكتاب(25/4)
كتاب الحديث وعلومه(25/5)
صفحة فارغة(25/6)
1 - السنة ومكانتها في
الإسلام وفي أصول التشريع
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على سيد المرسلين ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا بحث مهم يتعلق بالسنة وأنها الأصل الثاني من أصول الإسلام يجب الأخذ بها والاعتماد عليها إذا صحت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقول: من المعلوم عند جميع أهل العلم أن السنة هي الأصل الثاني من أصول الإسلام، وأن مكانتها في الإسلام الصدارة بعد كتاب الله عز وجل، هي الأصل المعتمد بعد كتاب الله عز وجل بإجماع أهل العلم قاطبة، وهي حجة قائمة مستقلة على جميع الأمة، من جحدها أو أنكرها أو زعم أنه يجوز الإعراض عنها والاكتفاء بالقرآن فقط فقد ضل ضلالا بعيدا وكفر كفرا أكبر، وارتد عن الإسلام بهذا المقال، فإنه بهذا المقال وبهذا الاعتقاد يكون قد كذب الله ورسوله وأنكر ما أمر الله به ورسوله وجحد أصلا عظيما فرض الله الرجوع إليه والاعتماد(25/7)
عليه والأخذ به، وأنكر إجماع أهل العلم عليه، وكذب به، وجحده.
وقد أجمع علماء الإسلام على أن الأصول المجمع عليها ثلاثة: الأصل الأول: كتاب الله، والأصل الثاني: سنة رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، والأصل الثالث: إجماع أهل العلم. وتنازع أهل العلم في أصول أخرى، أهمها: القياس، والجمهور على أنه أصل رابع إذا استوفى شروطه المعتبرة.
أما السنة: فلا نزاع ولا خلاف في أنها أصل مستقل وأنها هي الأصل الثاني من أصول الإسلام وأن الواجب على جميع المسلمين، بل على جميع الأمة الأخذ بها، والاعتماد عليها والاحتجاج بها إذا صح السند عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام -.
وقد دل على هذا المعنى آيات كثيرات من كتاب الله، وأحاديث صحيحة عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، كما دل على هذا المعنى إجماع أهل العلم قاطبة على وجوب الأخذ بها، والإنكار على من أعرض عنها أو خالفها.(25/8)
وقد نبغت نابغة في صدر الإسلام أنكرت السنة بسبب تهمتها للصحابة - رضي الله عنهم - وأرضاهم، كالخوارج، فإن الخوارج كفروا كثيرا من الصحابة، وفسقوا كثيرا منهم، وصاروا لا يعتمدون بزعمهم إلا على كتاب الله، لسوء ظنهم بأصحاب رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، وتابعتهم الرافضة فقالوا: لا حجة إلا فيما جاء من طريق أهل البيت فقط، وما سوى ذلك لا حجة فيه.
ونبغت نابغة بعد ذلك، ولا يزال هذا القول يذكر فيما بين وقت وآخر، وتسمى هذه النابغة الأخيرة القرآنية، ويزعمون أنهم أهل القرآن، وأنهم يحتجون بالقرآن فقط، وأن السنة لا يحتج بها؛ لأنها إنما كتبت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بمدة طويلة، ولأن الإنسان قد ينسى وقد يغلط؛ ولأن الكتب قد يقع فيها غلط، إلى غير هذا مما قالوا من الترهات، والخرافات، والآراء الفاسدة، وزعموا أنهم بذلك يحتاطون لدينهم فلا يأخذون إلا بالقرآن فقط. وقد ضلوا عن سواء السبيل، وكذبوا، وكفروا بذلك كفرا أكبر بواحا.(25/9)
فإن الله عز وجل أمر بطاعة رسوله - عليه الصلاة والسلام -، واتباع ما جاء به، وسمى كلامه وحيا في قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (1) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (2) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (3) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (4) ولو كان رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يتبع ولا يطاع لم يكن لأوامره ونواهيه قيمة.
وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - أن تبلغ سنته، فكان إذا خطب أمر أن تبلغ السنة، فدل ذلك على أن سنته - صلى الله عليه وسلم - واجبة الاتباع، وعلى أن طاعته واجبة على جميع الأمة، كما تجب طاعة الله تجب طاعة رسوله - عليه الصلاة والسلام -، ومن تدبر القرآن العظيم وجد ذلك واضحا، قال تعالى في كتابه الكريم في سورة آل عمران: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (5) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (6) فقرن طاعة الرسول بطاعته سبحانه، وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (7) فعلق الرحمة بطاعة الله ورسوله، وقال سبحانه أيضا في سورة آل عمران: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (8) {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (9)
__________
(1) سورة النجم الآية 1
(2) سورة النجم الآية 2
(3) سورة النجم الآية 3
(4) سورة النجم الآية 4
(5) سورة آل عمران الآية 131
(6) سورة آل عمران الآية 132
(7) سورة آل عمران الآية 132
(8) سورة آل عمران الآية 31
(9) سورة آل عمران الآية 32(25/10)
وقال سبحانه في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله أمرا مستقلا، وكرر الفعل في ذلك {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (2) ثم قال: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (3) ولم يكرر الفعل؛ لأن طاعة أولي الأمر تابعة لطاعة الله ورسوله وإنما تجب في المعروف حيث كان ما أمروا به من طاعة الله ورسوله ومما لا يخالف أمر الله ورسوله، ثم بين أن العمدة في طاعة الله ورسوله فقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (4) ولم يقل: إلى أولي الأمر منكم، بل قال: {إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (5) فدل ذلك على أن الرد في مسائل النزاع والخلاف إنما يكون لله ولرسوله، قال العلماء: معنى إلى الله: الرد إلى كتاب
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة النساء الآية 59
(4) سورة النساء الآية 59
(5) سورة النساء الآية 59(25/11)
الله، ومعنى والرسول: الرد إلى الرسول في حياته، وإلى سنته بعد وفاته - عليه الصلاة والسلام -.
فعلم بذلك أن سنته مستقلة، وأنها أصل متبع، وقال جل وعلا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (1) وقال سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2) وقبلها قوله جل وعلا: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) فجعل الفلاح لمن اتبعه - عليه الصلاة والسلام -؛ لأن السياق فيه - عليه الصلاة والسلام -: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) فذكر أن الفلاح لهؤلاء المتبعين لنبي الله - عليه الصلاة والسلام - دون غيرهم، فدل ذلك على أن من أنكر سنته ولم يتبعه فإنه ليس بمفلح وليس من المفلحين، ثم قال بعدها: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} (5) يعني: قل يا محمد: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (6)
__________
(1) سورة النساء الآية 80
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) سورة الأعراف الآية 157
(4) سورة الأعراف الآية 157
(5) سورة الأعراف الآية 158
(6) سورة الأعراف الآية 158(25/12)
فعلق الهداية باتباعه - عليه الصلاة والسلام -، فدل ذلك على وجوب طاعته، واتباع ما جاء به من الكتاب والسنة - عليه الصلاة والسلام -، وقال عز وجل في آيات أخرى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (1) وقال جل وعلا أيضا في هذه السورة سورة النور: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) فأفرد طاعته وحدها بقوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) وقال في آخر السورة سورة النور: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) فذكر جل وعلا أن
__________
(1) سورة النور الآية 54
(2) سورة النور الآية 56
(3) سورة النور الآية 56
(4) سورة النور الآية 63(25/13)
المخالف لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - على خطر عظيم من أن تصيبه فتنة بالزيغ والشرك والضلال أو عذاب أليم نعوذ بالله من ذلك، وقال عز وجل في سورة الحشر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) فهذه الآيات وما جاء في معناها كلها دالة على وجوب اتباعه وطاعته - عليه الصلاة والسلام -، وأن الهداية والرحمة والسعادة والعاقبة الحميدة كلها في اتباعه وطاعته - عليه الصلاة والسلام -، فمن أنكر ذلك فقد أنكر كتاب الله، ومن قال: إنه يتبع كتاب الله دون السنة فقد كذب وغلط وكفر فإن القرآن أمر باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فمن لم يتبعه فإنه لم يعمل بكتاب الله، ولم يؤمن بكتاب الله، ولم ينقد لكتاب الله، إذ كتاب الله أمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأمر باتباعه، وحذر من مخالفته - عليه الصلاة والسلام -، فمن زعم أنه يأخذ بالقرآن، ويتبع القرآن دون السنة فقد كذب؛ لأن السنة جزء من القرآن، فطاعة الرسول جزء من
__________
(1) سورة الحشر الآية 7(25/14)
القرآن، وقد دل على الأخذ بها القرآن وأمر بالأخذ بها القرآن، فلا يمكن أن ينفك هذا عن هذا، ولا يمكن أن يكون الإنسان متبعا للقرآن بدون اتباع السنة، ولا يكون متبعا للسنة بدون اتباع القرآن فهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر.
ومما جاء في السنة عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - ما رواه الشيخان البخاري ومسلم - رحمة الله عليهما - في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني (1) » وفي صحيح البخاري - رحمة الله عليه - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قيل: يا رسول الله: ومن يأبى، قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (2) » وهذا واضح في أن من عصاه فقد
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب يقاتل وراء الإمام ويتقي به، برقم 2737، ومسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، برقم 3417.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 6737.(25/15)
عصى الله، ومن عصاه فقد أبى دخول الجنة والعياذ بالله، وفي المسند وأبي داود وصحيح الحاكم بإسناد جيد عن المقدام بن معدي كرب الكندي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه (1) » والكتاب هو القرآن، ومثله معه يعني: السنة، وهي الوحي الثاني «ألا يوشك رجل شبعان يتكئ على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينهم كتاب الله، ما وجدنا فيه من حلال حللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه (2) » ، وفي لفظ: «يوشك رجل شبعان على أريكته يحدث بالأمر من أمري مما أمرت به ونهيت عنه يقول: بيننا وبينكم كتاب الله ما وجدنا فيه اتبعناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله (3) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على جميع الأمة أن تعظم سنة الرسول - عليه الصلاة والسلام -، وأن تعرف قدرها، وأن تأخذ بها، وتسير عليها،
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4604) .
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسند الشاميين، برقم 16546، والترمذي في كتاب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 2588، وابن ماجه في المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 12، وأبو داود في كتاب السن
(3) سنن الترمذي العلم (2664) ، سنن الدارمي المقدمة (586) .(25/16)
فهي الشارحة والمفسرة لكتاب الله عز وجل، والدالة على ما قد يخفى من كتاب الله، والمقيدة لما قد يطلق من كتاب الله، والمخصصة بما قد يعم من كتاب الله، ومن تدبر كتاب الله وتدبر السنة عرف ذلك؛ لأن الله يقول جل وعلا: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1)
فهو المبين للناس ما نزل إليهم - عليه الصلاة والسلام -، فإذا كانت سنته غير معتبرة ولا يحتج بها، فكيف يبين للناس دينهم وكتاب ربهم؟ هذا من أبطل الباطل، فعلم بذلك أنه المبين لما قاله الله، وأنه الشارح لما قد يخفى من كتاب الله، وقال في آية أخرى في سورة النحل: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2)
فبين جل وعلا أنه أنزل الكتاب عليه ليبين للناس ما اختلفوا فيه، فإذا كانت سنته لا تبين للناس ولا تعتمد بطل هذا المعنى، فهو سبحانه وتعالى بين أنه - صلى الله عليه وسلم - الذي يبين للناس ما نزل إليهم، وأنه - عليه الصلاة والسلام - هو الذي يفصل النزاع
__________
(1) سورة النحل الآية 44
(2) سورة النحل الآية 64(25/17)
بين الناس فيما اختلفوا فيه، فدل ذلك على أن سنته لازمة الاتباع، وواجبة الاتباع.
وليس هذا خاصا بأهل زمانه وصحابته - رضي الله عنهم -؛ بل هو لهم ولمن يجيء بعدهم إلى يوم القيامة، فإن الشريعة شريعة لأهل زمانه ولمن يأتي بعد زمانه - عليه الصلاة والسلام - إلى يوم القيامة فهو رسول الله إلى الناس عامة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1) وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (2) فهو رسول الله إلى جميع العالم: الجن والإنس، العرب والعجم، الأغنياء والفقراء، الحكام والمحكومين، الرجال والنساء إلى يوم القيامة، ليس بعده نبي ولا رسول بل هو خاتم الأنبياء والمرسلين - عليه الصلاة والسلام -. فوجب أن تكون سنته موضحة لكتاب الله وشارحة لكتاب الله، ودالة على ما قد يخفى من كتاب الله، وسنته أيضا جاءت بأحكام لم يأت بها كتاب الله، جاءت بأحكام مستقلة شرعها الله عز وجل لم تذكر في كتاب الله سبحانه وتعالى، من ذلك: تفصيل
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 107
(2) سورة سبأ الآية 28(25/18)
الصلوات وعدد الركعات، وتفصيل أحكام الزكاة، وتفصيل أحكام الرضاع، فليس في كتاب الله إلا الأمهات والأخوات من الرضاع وجاءت السنة ببقية محرمات بالرضاع، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (1) » وجاءت السنة بحكم مستقل في تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، وجاءت بأحكام مستقلة لم تذكر في كتاب الله في أشياء كثيرة، في الجنايات والديات، والنفقات، وأحكام الزكوات، وأحكام الصوم والحج إلى غير ذلك.
ولما قال بعض الناس في مجلس عمران بن حصين - رضي الله عنهما -: (دعنا من الحديث وحدثنا عن كتاب الله) غضب عمران رضي الله عنه وأرضاه، واشتد إنكاره عليه وقال: (لولا السنة كيف تعرف أن الظهر أربع والعصر أربع، والعشاء أربع، والمغرب ثلاث. . .) إلى آخره.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء، برقم 4838، ومسلم في كتاب الرضاع، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، برقم 2615، والنسائي في كتاب النكاح، باب ما يحرم من الرضاع، برقم 3250 واللفظ له.(25/19)
فالسنة بينت لنا تفاصيل الصلاة، وتفاصيل الأحكام، ولم يزل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يرجعون إلى السنة ويتحاكمون إليها ويحتجون بها، ولما ارتد من العرب من ارتد وقام الصديق - رضي الله عنه - وأرضاه ودعا إلى جهادهم توقف عمر في ذلك، وقال: كيف نقاتلهم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها (1) » قال الصديق - رضي الله عنه -: أليست الزكاة من حقها - من حق لا إله إلا الله - والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها، قال عمر - رضي الله عنه -: (فما هو إلا أن عرفت أن الله قد شرح صدر أبي بكر لقتالهم فعرفت أنه الحق) ثم وافق المسلمون، ووافق الصحابة واجتمع رأيهم على قتال المرتدين فقاتلوهم بأمر الله ورسوله.
ولما جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - تسأله عن إرثها؟ قال: ما أعلم لك شيئا في كتاب الله، ولا في سنة
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، برقم 32.(25/20)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن سوف أسأل الناس، يعني عما جاء في السنة، فسأل الناس فأخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى لها بالسدس، فقضى لها بالسدس رضي الله عنه وأرضاه، وهكذا عمر - رضي الله عنه - لما أشكل عليه حكم إملاص المرأة: وهو خروج الجنين ميتا بالجناية على أمه ما حكمه؟ توقف حتى سأل الناس، فشهد عنده محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بغرة عبد أو أمة، فقضى بذلك. ولما أشكل على عثمان حكم المعتدة من الوفاة، هل تكون في بيت زوجها أو تنتقل إلى أهلها؟ فشهدت عنده فريعة بنت مالك الخدرية أخت أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تعتد في بيت زوجها، فقضى بذلك عثمان رضي الله عنه وأرضاه، ولما سمع علي - رضي الله عنه - عثمان في بعض حجاته ينهى عن المتعة ويأمر بإفراد الحج أحرم علي - رضي الله عنه - بالحج والعمرة جميعا وقال: لا أدع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول أحد من الناس، ولما سمع ابن عباس بعض الناس ينكر عليه الفتوى بالمتعة ويحتج عليه بقول أبي بكر وعمر أنهما يريان إفراد الحج قال: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال(25/21)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقولون: قال أبو بكر وعمر) ، ولما ذكر لأحمد - رحمه الله - جماعة يتركون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان الثوري ويسألونه عما لديه وعما يقول، تعجب! وقال: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يعني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذهبون إلى رأي سفيان، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) ولما ذكر عند أيوب السختياني - رحمه الله - رجل يدعو إلى القرآن ويثبط عن السنة قال: دعوه فإنه ضال.
والمقصود أن السلف الصالح قد عرفوا هذا الأمر، ونبغت عندهم نوابغ بسبب الخوارج في هذا الباب، فاشتد نكيرهم عليهم، وضللوهم، وحذروا منهم، مع أنه إنكار ليس مثل الإنكار الموجود الأخير؛ لأنه إنكار له شبهة بالنسبة إلى الخوارج وما اعتقدوه في الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في بعضهم دون بعض، أما هؤلاء المتأخرون فجاءوا بداهية كبرى ومنكر عظيم وبلاء كبير، ومصيبة عظمى حيث قالوا: إن السنة برمتها لا يحتج بها بالكلية لا
__________
(1) سورة النور الآية 63(25/22)
من هنا ولا من هنا، وطعنوا فيها وفي رواتها وفي كتبها، وساروا على هذا النهج الوخيم وأعلنه كثيرا أحد زعماء العرب فضل وأضل، وهكذا جماعة في مصر، وغير مصر فإن من قال بهذه المقالة واحد أو جماعة، فقد ضلوا وأضلوا وسموا أنفسهم بالقرآنيين، وقد كذبوا وجهلوا ما قام به علماء السنة؛ لأنهم لو عملوا بالقرآن لعظموا السنة وأخذوا بها، ولكنهم جهلوا ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فضلوا وأضلوا.
وقد احتاط أهل السنة كثيرا للسنة حيث تلقوها أولا عن الصحابة حفظا، ودرسوها، وحفظوها حفظا كاملا، وحفظا دقيقا حرفيا، ونقلوها إلى من بعدهم، ثم ألف العلماء على رأس القرن الأول وفي أثناء القرن الثاني ثم كثر ذلك في القرن الثالث، ألفوا الكتب، وجمعوا فيها الأحاديث حرصا على بقائها وحفظها وصيانتها فانتقلت من الصدور إلى الكتب المحفوظة المتداولة المتناقلة التي لا ريب فيها ولا شك، ثم نقبوا عن الرجال، وعرفوا ثقاتهم من كذابيهم وضعفائهم، ومن هو سيئ الحفظ منهم حتى حرروا(25/23)
ذلك أتم تحرير، وبينوا من يصلح للرواية، ومن لا يصلح للراوية، ومن يحتج به ومن لا يحتج به، وأوضحوا ما وقع من بعض الناس أوهام وأغلاط، وسجلوها عليهم، وعرفوا الكذابين والوضاعين، وألفوا فيهم وأوضحوا أسماءهم، فأيد الله بهم السنة، وأقام بهم الحجة، وقطع بهم المعذرة، وزال تلبيس الملبسين، وانكشف ضلال الضالين، فبقيت السنة بحمد الله جلية واضحة لا شبهة فيها، ولا غبار عليها، وكان الأئمة يعظمون ذلك كثيرا، وإذا رأوا من أحد أي تساهل بالسنة أو إعراض أنكروا عليه. حدث ذات يوم عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله (1) » فقال بعض أبنائه: والله لنمنعهن - عن اجتهاد منه - ومقصوده أنهن تغيرن، وأنهن قد يتساهلن في الخروج، وليس قصده إنكار السنة، فأقبل عليه عبد الله وسبه سبا سيئا وقال: أقول: قال رسول الله وتقول: والله لنمنعهن.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء، برقم 849، ومسلم في كتاب الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد، برقم 668.(25/24)
ورأى عبد الله بن مغفل المزني - رضي الله عنه - بعض أقاربه يخذف، فقال له: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخذف وقال: إنه لا يصيد صيدا، ولا ينكأ عدوا (1) » . ثم رآه في وقت آخر يخذف، فقال: أقول إن الرسول نهى عن هذا ثم تخذف، لا كلمتك أبدا.
فالصحابة - رضي الله عنهم - وأرضاهم كانوا يعظمون هذا الأمر جدا ويحذرون الناس من التساهل بالسنة أو الإعراض عنها أو الإنكار لها برأي من الآراء أو اجتهاد من الاجتهادات، وقال أبو حنيفة في هذا المعنى - رضي الله عنه - ورحمه: إذا جاء الحديث عن رسول الله فعلى العين والرأس، وإذا جاء عن الصحابة - رضي الله عنهم - فعلى العين والرأس. . إلى آخر كلامه. وقال مالك - رحمه الله -: ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر، يعني النبي - عليه الصلاة والسلام -. وقال أيضا: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، وهو اتباع الكتاب والسنة. وقال الشافعي - رحمه الله -:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب النهي عن الخذف، برقم 5752 ومسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب إباحة ما يستعان به على الاصطياد والعدو، برقم 3613.(25/25)
إذا رويت عن الرسول حديثا صحيحا ثم رأيتموني خالفته فاعلموا أن عقلي قد ذهب. وفي لفظ آخر، قال: إذا جاء الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقولي يخالفه فاضربوا بقولي الحائط. وقال أحمد - رحمه الله -: لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي وخذوا من حيث أخذنا. وسبق قوله - رحمه الله -: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله سبحانه وتعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1)
فالأمر في هذا واضح، وكلام أهل العلم في هذا جلي ومتداول عند أهل العلم، وقد تكلم المتأخرون في هذا المقام كلاما كثيرا كأبي العباس ابن تيمية وابن القيم وابن كثير وغيرهم، وأوضحوا أن من أنكر السنة فقد زاغ عن سواء السبيل، وأن من عظم آراء الرجال وآثرها على السنة فقد ضل وأخطأ، وأن الواجب عرض آراء الرجال مهما عظموا على كتاب الله وسنة الرسول - عليه الصلاة والسلام -، فما شهدا له أو أحدهما بالقبول
__________
(1) سورة النور الآية 63(25/26)
قبل، وما لا فإنه يرد على قائله، ومن آخر من كتب في هذا الحافظ السيوطي - رحمه الله - حيث كتب رسالة سماها: (مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة) وذكر في أولها أن من أنكر السنة وزعم أنه لا يحتج بها فقد كفر إجماعا، ونقل كثيرا من كلام السلف في ذلك.
فهذه منزلة السنة من الإسلام، وهذه مكانتها من الشريعة وأنها الأصل الثاني من أصول الإسلام، وأنها حجة مستقلة قائمة بنفسها، يجب الأخذ بها والرجوع إليها، وأنه متى صح السند إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجب الأخذ به مطلقا، ولا يشترط في ذلك أن يكون متواترا أو مشهورا أو مستفيضا أو بعدد كذا من الطرق، بل يجب أن يؤخذ بالسنة ولو كانت من طريق واحدة، متى استقام الإسناد وجب الأخذ بالحديث مطلقا بسند واحد أو بسندين أو بثلاثة، أو بأكثر، سواء سمي خبرا متواترا، أو خبر آحاد، لا فرق في ذلك، كلها حجة، يجب الأخذ بها، مع اختلاف ما تقتضيه من العلم الضروري أو العلم النظري، أو الظني إذا استقام الإسناد وسلم من العلة فالعمل بها واجب، والأخذ بها متعين، متى صح الإسناد وسلم من العلة عند أهل العلم بهذا(25/27)
الشأن، أما كونه متواترا، أو كونه مشهورا، أو مستفيضا أو آحادا غير مستفيض ولا مشهور، أو غريبا، أو غير ذلك، فهذه أشياء اصطلح عليها أهل الحديث في علم الحديث وبينوها في أصول الفقه أيضا، وأحكامها عندهم معلومة والعلم بها يختلف بحسب اختلاف الناس، فإنه قد يكون هذا الحديث متواترا عند زيد وعمرو وليس متواترا عند خالد وبكر لما بينهما من الفرق في العلم، واتساع المعرفة فقد يروي زيد حديثا من عشرة طرق أو من ثمانية، أو من سبعة، أو من ستة أو خمسة ويقطع هو أنه بهذا متواتر؛ لما اتصف به رواته من العدالة والحفظ، والإتقان، والجلالة، وقد يروي الآخر حديثا من عشرين سندا، ولا يحصل له ما حصل لذلك من العلم اليقيني القطعي بأنه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو بأنه متواتر.
فهذه أمور تختلف بحسب ما يحصل للناس من العلم بأحوال الرواة وعدالتهم، ومنزلتهم في الإسلام، وصدقهم، وحفظهم، وغير ذلك. هذا يتفاوت فيه الرجال حسب ما أعطاهم الله من العلم بأحوال رواة الحديث، وصفاتهم، وطرق الحديث إلى غير ذلك، لكن أهل العلم أجمعوا على أنه متى صح السند وسلم من العلة(25/28)
وجب الأخذ به، وبينوا أن الإسناد الصحيح هو ما ينقله العدل الضابط عن مثله، عن مثله، عن مثله، إلى الصحابة - رضي الله عنهم -، إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من دون شذوذ ولا علة، فمتى جاء الحديث بهذا المعنى متصلا لا شذوذ فيه ولا علة، وجب الأخذ به والاحتجاج به على المسائل التي يتنازع فيها الناس، سواء حكمنا عليه بأنه غريب أو عزيز أو مشهور أو متواتر، أو غير ذلك؛ إذ الاعتبار باستقامة السند وصلاحه وسلامته من الشذوذ والعلة سواء تعددت أسانيده أم لم تتعدد.
هذا وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وجميع المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه، والاستقامة على ما يرضيه، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه جل وعلا جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(25/29)
2 - وجوب العمل بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكفر من أنكرها
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد المرسل رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، وعلى آله وأصحابه الذين حملوا كتاب ربهم سبحانه وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - إلى من بعدهم بغاية الأمانة والإتقان والحفظ التام للمعاني والألفاظ، رضي الله عنهم وأرضاهم وجعلنا من أتباعهم بإحسان (1) .
أما بعد: فقد أجمع العلماء قديما وحديثا على أن الأصول المعتبرة في إثبات الأحكام وبيان الحلال والحرام في كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم سنة رسول الله - عليه الصلاة والسلام - الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ثم إجماع علماء الأمة. واختلف العلماء في
__________
(1) نشرت في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، العدد 53 السنة الرابعة عشر عام 1402هـ.(25/30)
أصول أخرى أهمها: القياس، وجمهور أهل العلم على أنه حجة إذا استوفى شروطه المعتبرة، والأدلة على هذه الأصول أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر.
أما الأصل الأول: فهو كتاب الله العزيز وقد دل كلام ربنا عز وجل في مواضع من كتابه على وجوب اتباع هذا الكتاب والتمسك به والوقوف عند حدوده قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (1) وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (3) {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (4) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} (5) {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (6)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 3
(2) سورة الأنعام الآية 155
(3) سورة المائدة الآية 15
(4) سورة المائدة الآية 16
(5) سورة فصلت الآية 41
(6) سورة فصلت الآية 42(25/31)
وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (1) وقال تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد جاءت الأحاديث الصحاح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آمرة بالتمسك بالقرآن والاعتصام به، دالة على أن من تمسك به كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلال، ومن ذلك ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خطبته في حجة الوداع: «إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به كتاب الله (3) » رواه مسلم في صحيحه، وفي صحيح مسلم أيضا عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به (4) » فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: «وأهل
__________
(1) سورة الأنعام الآية 19
(2) سورة إبراهيم الآية 52
(3) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 2137.
(4) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2408) ، مسند أحمد بن حنبل (4/367) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3316) .(25/32)
بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي (1) » وفي لفظ قال في القرآن: «هو حبل الله من تمسك به كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلال (2) » .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وفي إجماع أهل العلم، والإيمان من الصحابة ومن بعدهم على وجوب التمسك بكتاب الله والحكم به والتحاكم إليه مع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يكفي ويشفي عن الإطالة في ذكر الأدلة الواردة في هذا الشأن.
أما الأصل الثاني: من الأصول الثلاثة المجمع عليها فهو ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وأفعاله وتقريره، ولم يزل أهل العلم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم يؤمنون بهذا الأصل الأصيل ويحتجون به ويعلمونه الأمة، وقد ألفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة وأوضحوا ذلك في كتب أصول الفقه والمصطلح، والأدلة على ذلك لا تحصى كثرة؛ فمن ذلك ما جاء في كتاب الله العزيز من الأمر باتباعه
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - برقم 4425.
(2) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2408) .(25/33)
وطاعته وذلك موجه إلى أهل عصره ومن بعدهم؛ لأنه رسول الله إلى الجميع، ولأنهم مأمورون باتباعه وطاعته حتى تقوم الساعة؛ ولأنه - عليه الصلاة والسلام - هو المفسر لكتاب الله والمبين لما أجمل فيه بأقواله وأفعاله وتقريره.
ولولا السنة لم يعرف المسلمون عدد ركعات الصلوات وصفاتها وما يجب فيها، ولم يعرفوا تفصيل أحكام الصيام والزكاة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يعرفوا تفاصيل أحكام المعاملات والمحرمات وما أوجب الله بها من حدود وعقوبات. ومما ورد في ذلك من الآيات قوله تعالى في سورة آل عمران: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) وقوله تعالى في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) وقال تعالى في سورة النساء أيضا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (3)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 132
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة النساء الآية 80(25/34)
وكيف يمكن طاعته، ورد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله إذا كانت سنته لا يحتج بها، أو كانت غير محفوظة؟ وعلى هذا القول يكون الله قد أحال عباده إلى شيء لا وجود له، وهذا من أبطل الباطل ومن أعظم الكفر بالله وسوء الظن به. وقال عز وجل في سورة النحل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) ؛ وقال أيضا في آية أخرى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2) فكيف يكل الله سبحانه إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - تبيين المنزل إليهم، وسنته لا وجود لها أو لا حجة فيها، ومثل ذلك قوله تعالى في سورة النور: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (3)
__________
(1) سورة النحل الآية 44
(2) سورة النحل الآية 64
(3) سورة النور الآية 54(25/35)
وقال تعالى في السورة نفسها: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) وقال في سورة الأعراف: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2)
وفي هذه الآيات الدلالة الواضحة على أن الهداية والرحمة في اتباعه - عليه الصلاة والسلام -، وكيف يمكن ذلك مع عدم العمل بسنته أو القول بأنه لا صحة لها أو لا يعتمد عليها؟ فقال عز وجل في سورة النور: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) وقال في سورة الحشر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4)
__________
(1) سورة النور الآية 56
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) سورة النور الآية 63
(4) سورة الحشر الآية 7(25/36)
والآيات في هذا المعنى كثيرة وكلها تدل على وجوب طاعته - عليه الصلاة والسلام - واتباع ما جاء به كما سبقت الأدلة على وجوب اتباع كتاب الله والتمسك به وطاعة أوامره ونواهيه، وهما أصلان متلازمان من جحد واحدا منهما فقد جحد الآخر وكذب به وذلك كفر وضلال وخروج عن دائرة الإسلام بإجماع أهل العلم والإيمان، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجوب طاعته واتباع ما جاء به وتحريم معصيته، وذلك في حق من كان في عصره، وفي حق من يأتي بعده إلى يوم القيامة، ومن ذلك ما ثبت عنه في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله (1) » ، وفي صحيح البخاري عنه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل يا رسول الله: ومن يأبى، قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى (2) » . وخرج أحمد وأبو داود والحاكم بإسناد صحيح عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7137) ، صحيح مسلم الإمارة (1835) ، سنن النسائي الاستعاذة (5510) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2859) ، مسند أحمد بن حنبل (2/387) .
(2) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، صحيح مسلم الإمارة (1835) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .(25/37)
أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه (1) » .
وخرج أبو داود وابن ماجه بسند صحيح: عن ابن أبي رافع عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه (2) » .
وعن الحسن بن جابر قال: سمعت المقدام بن معدي كرب - رضي الله عنه - يقول: حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر أشياء ثم قال: «يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكئ يحدث بحديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله (3) » أخرجه الحاكم والترمذي
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4604) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب لزوم السنة، برقم 3989، وابن ماجه في المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 13.
(3) أخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 2588، وابن ماجه في المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 12.(25/38)
وابن ماجه بإسناد صحيح. وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان يوصي أصحابه في خطبته أن يبلغ شاهدهم غائبهم ويقول لهم: «رب مبلغ أوعى من سامع (1) » . ومن ذلك ما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خطب الناس في حجة الوداع في يوم عرفة وفي يوم النحر قال لهم: «فليبلغ الشاهد الغائب فرب من يبلغه أوعى له ممن سمعه (2) » .
فلولا أن سنته حجة على من سمعها وعلى من بلغته، ولولا أنها باقية إلى يوم القيامة لم يأمرهم بتبليغها. فعلم بذلك أن الحجة بالسنة قائمة على من سمعها من فيه - عليه الصلاة والسلام - وعلى من نقلت إليه بالأسانيد الصحيحة.
وقد حفظ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنته - عليه الصلاة والسلام - القولية والفعلية وبلغوها من بعدهم من
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في أول مسند البصريين، برقم 19594، وابن ماجه في المقدمة، باب من بلغ علما، برقم 229.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأضاحي، باب من قال الأضحى يوم النحر، برقم 5124، ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، برقم 3179.(25/39)
التابعين ثم بلغها التابعون من بعدهم. وهكذا نقلها العلماء الثقات جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن، وجمعوها في كتبهم وأوضحوا صحيحها من سقيمها، ووضعوا لمعرفة ذلك قواعد وضوابط معلومة بينهم يعلم بها صحيح السنة من ضعيفها، وقد تداول أهل العلم كتب السنة من الصحيحين وغيرهما وحفظوها حفظا تاما، كما حفظ الله كتابه العزيز من عبث العابثين وإلحاد الملحدين وتحريف المبطلين؛ تحقيقا لما دل عليه قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1)
ولا شك أن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحي منزل فقد حفظها الله كما حفظ كتابه، وقيض الله لها علماء نقادا ينفون عنها تحريف المبطلين وتأويل الجاهلين، ويذبون عنها كل ما ألصقه بها الجاهلون والكذابون والملحدون؛ لأن الله سبحانه جعلها تفسيرا لكتابه الكريم وبيانا لما أجمل فيه من الأحكام وضمنها أحكاما أخرى لم ينص عليها الكتاب العزيز، كتفصيل أحكام الرضاع وبعض أحكام المواريث وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها
__________
(1) سورة الحجر الآية 9(25/40)
وبين المرأة وخالتها إلى غير ذلك من الأحكام التي جاءت بها السنة الصحيحة ولم تذكر في كتاب الله العزيز. ونذكر بعض ما ورد عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم في تعظيم السنة ووجوب العمل بها.
في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارتد من ارتد من العرب، قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فقال له عمر - رضي الله عنه -: كيف تقاتلهم وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله إذا قالوها عصموا من دماءهم وأموالهم إلا بحقها (1) » فقال أبو بكر الصديق: أليست الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها، فقال عمر - رضي الله عنه -: فما هو إلا أن عرفت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق. وقد تابعه الصحابة - رضي الله عنهم - على ذلك فقاتلوا أهل الردة، حتى ردوهم إلى الإسلام وقتلوا من أصر على ردته، وفي هذه القصة أوضح دليل على تعظيم السنة ووجوب العمل بها.
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (393) ، سنن الترمذي الإيمان (2608) ، سنن النسائي تحريم الدم (3967) ، سنن أبو داود الجهاد (2641) ، مسند أحمد بن حنبل (3/225) .(25/41)
وجاءت الجدة إلى الصديق - رضي الله عنه - تسأله ميراثها، فقال لها: ليس لك في كتاب الله شيء، ولا أعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى لك بشيء، وسأسأل الناس، ثم سأل - رضي الله عنه - الصحابة فشهد عنده بعضهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى الجدة السدس فقضى لها بذلك، وكان عمر - رضي الله عنه - يوصي عماله أن يقضوا بين الناس بكتاب الله، فإن لم يجدوا القضية في كتاب الله فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولما أشكل عليه حكم إملاص المرأة وهو إسقاطها جنينا ميتا بسبب تعدي أحد عليها، سأل الصحابة - رضي الله عنهم - عن ذلك، شهد عنده محمد بن سلمة والمغيرة بن شعبة - رضي الله عنهما - بأن النبي قضى في ذلك بغرة عبد أو أمة، فقضى بذلك - رضي الله عنه -.
ولما أشكل على عثمان - رضي الله عنه - حكم اعتداد المرأة في بيتها بعد وفاة زوجها، وأخبرته فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بعد وفاة زوجها أن تمكث في بيته حتى يبلغ الكتاب أجله، قضى بذلك - رضي الله عنه -، وهكذا قضى بالسنة في إقامة حد الشرب على الوليد بن عقبة، ولما بلغ عليا - رضي الله عنه - أن عثمان - رضي(25/42)
الله عنه - ينهى عن متعة الحج، أهل علي - رضي الله عنه - بالحج والعمرة جميعا، وقال: لا أدع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد من الناس، ولما احتج بعض الناس على ابن عباس - رضي الله عنهما - في متعة الحج بقول أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - في تحبيذ إفراد الحج قال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون: قال أبو بكر وعمر.
فإذا كان من خالف السنة لقول أبي بكر وعمر تخشى عليه العقوبة فكيف بحال من خالفها لقول من دونهما أو لمجرد رأيه واجتهاده.
ولما نازع بعض الناس عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في بعض السنة، قال له عبد الله: هل نحن مأمورون باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - أم باتباع عمر؟ ولما قال رجل لعمران بن حصين - رضي الله عنهما -: حدثنا عن كتاب الله وهو يحدثهم عن السنة غضب - رضي الله عنه - وقال: إن السنة هي تفسير كتاب الله ولولا السنة لم نعرف أن الظهر أربع، والمغرب ثلاث، والفجر ركعتان ولم(25/43)
نعرف تفصيل أحكام الزكاة، إلى غير ذلك مما جاءت به السنة في تفصيل الأحكام.
والقضايا عن الصحابة - رضي الله عنهم - في تعظيم السنة ووجوب العمل بها والتحذير من مخالفتها كثيرة جدا. ومن ذلك أيضا أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - لما حدث بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله (1) » قال بعض أبنائه: والله لنمنعهن، فغضب عليه عبد الله وسبه سبا شديدا وقال: أقول قال رسول الله وتقول: والله لنمنعهن.
ولما رأى عبد الله بن المغفل المزني - رضي الله عنه - وهو من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض أقاربه يخذف نهاه عن ذلك، وقال له: «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخذف وقال: إنه لا يصيب صيدا ولا ينكأ عدوا، ولكنه يكسر السن ويفقأ العين (2) » ، ثم رآه بعد ذلك يخذف فقال: والله لا كلمتك أبدا، أخبرك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الخذف ثم تعود، وأخرج البيهقي عن أيوب السختياني التابعي الجليل أنه قال: إذا حدث الرجل بسنة فقال: دعنا من هذا، وأنبئنا عن القرآن فاعلم أنه ضال، وقال الأوزاعي
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (900) ، صحيح مسلم الصلاة (442) ، سنن ابن ماجه المقدمة (16) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) .
(2) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5479) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1954) ، سنن النسائي القسامة (4815) ، سنن أبو داود الأدب (5270) ، سنن ابن ماجه المقدمة (17) ، مسند أحمد بن حنبل (5/54) ، سنن الدارمي المقدمة (440) .(25/44)
- رحمه الله -: السنة قاضية على الكتاب ولم يجئ الكتاب قاضيا على السنة، ومعنى ذلك: أن السنة جاءت لبيان ما أجمل في الكتاب، أو تقييد ما أطلقه، أو بأحكام لم تذكر في الكتاب، كما في قول الله سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) وسبق قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه (2) » وأخرج البيهقي عن عامر الشعبي - رحمه الله - أنه قال لبعض الناس: إنما هلكتم في حين تركتم الآثار يعني بذلك: الأحاديث الصحيحة.
وأخرج البيهقي أيضا عن الأوزاعي - رحمه الله - أنه قال لبعض أصحابه: إذا بلغك عن رسول الله حديث فإياك أن تقول بغيره، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مبلغا عن الله تعالى.
وأخرج البيهقي عن الإمام الجليل سفيان بن سعيد الثوري - رحمه الله - أنه قال: إنما العلم كله العلم بالآثار. وقال مالك - رحمه الله -: ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: إذا
__________
(1) سورة النحل الآية 44
(2) سنن أبو داود السنة (4604) .(25/45)
جاء الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلى الرأس والعين، وقال الشافعي - رحمه الله -: متى رويت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب. وقال أيضا - رحمه الله -: إذا قلت قولا وجاء الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلافه فاضربوا بقولي الحائط. وقال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - لبعض أصحابه: لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي وخذ من حيث أخذنا. وقال أيضا - رحمه الله -: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذهبون إلى رأي سفيان، والله سبحانه يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) ثم قال: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك لعله إذا رد بعض قوله - عليه الصلاة والسلام - أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
وأخرج البيهقي عن مجاهد بن جبر التابعي الجليل أنه قال في قوله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (2) قال: الرد إلى الله، الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول الرد إلى السنة.
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) سورة النساء الآية 59(25/46)
وأخرج البيهقي عن الزهري - رحمه الله - أنه قال: كان من مضى من علمائنا يقولون الاعتصام بالسنة نجاة، وقال موفق الدين ابن قدامة - رحمه الله - في كتابه روضة الناظر في بيان أصول الأحكام ما نصه: والأصل الثاني من الأدلة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة؛ لدلالة المعجزة على صدقه وأمر الله بطاعته وتحذيره من مخالفة أمره. انتهى المقصود.
وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) أي: عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله، كائنا من كان، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » أي: فليخش وليحذر من خالف شريعة الرسول باطنا أو ظاهرا {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} (3) أي: في قلوبهم من كفر أو نفاق أو
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم 2499، ومسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، برقم 3243.
(3) سورة النور الآية 63(25/47)
بدعة، {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) أي: في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك، كما روى الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، قال: فذلك مثلي ومثلكم أنا اخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار فتغلبوني وتقتحمون فيها (2) » أخرجاه من حديث عبد الرزاق. وقال السيوطي - رحمه الله - في رسالته المسماة: (مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة) ما نصه:
اعلموا رحمكم الله أن من أنكر أن كون حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا كان أو فعلا بشرطه المعروف في الأصول حجة كفر، وخرج عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة. انتهى المقصود.
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي، برقم 6002، ومسلم في كتاب الفضائل، باب شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته، برقم 4235.(25/48)
والآثار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم في تعظيم السنة ووجوب العمل بها والتحذير من مخالفتها كثيرة جدا، وأرجو أن يكون فيما ذكرناه من الآيات والأحاديث والآثار كفاية ومقنع لطالب الحق، ونسأل الله لنا ولجميع المسلمين التوفيق لما يرضيه والسلامة من أسباب غضبه، وأن يهدينا جميعا صراطه المستقيم إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(25/49)
3 - ما صحة حديث: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة (1) » "
س: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة (2) » ، هل هذا حديث؟ وهل إذا كان حديثا فهل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك شيئا لأحد حتى يسن به سنة في الإسلام؟ نرجو أن توضحوا لنا هذا المقام بالتفصيل (3) .
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .
(2) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .
(3) من برنامج نور على الدرب، شريط رقم 26، ونشر في هذا المجموع ج 4 ص 372.(25/49)
ج: هذا الحديث صحيح، وهو يدل على شرعية إحياء السنن والدعوة إليها والتحذير من البدع والشرور؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا (1) » خرجه مسلم في صحيحه.
ومثل هذا الحديث ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (2) » ، وهكذا حديث أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه -، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، برقم 1691.
(2) أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، برقم 4831.(25/50)
دل على خير فله مثل أجر فاعله (1) » خرجهما مسلم في صحيحه.
ومعنى: «سن في الإسلام (2) » يعني: أحيا سنة وأظهرها وأبرزها مما قد يخفى على الناس، فيدعو إليها ويظهرها ويبينها، فيكون له من الأجر مثل أجور أتباعه فيها وليس معناها الابتداع في الدين؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البدع وقال: «كل بدعة ضلالة (3) » ، وكلامه - صلى الله عليه وسلم - يصدق بعضه بعضا، ولا يناقض بعضه بعضا بإجماع أهل العلم، فعلم بذلك أن المقصود من الحديث إحياء السنة وإظهارها، مثال ذلك: أن يكون العالم في بلاد ما يكون عندهم تعليم للقرآن الكريم، أو ما عندهم تعليم للسنة النبوية فيحيي هذه السنة بأن يجلس للناس يعلمهم القرآن ويعلمهم السنة أو يأتي بمعلمين، أو في بلاد يحلقون لحاهم أو يقصونها فيأمر هو بإعفاء اللحى وإرخائها، فيكون بذلك قد أحيا هذه السنة العظيمة في هذا البلد التي لا تعرفها
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، برقم 3509.
(2) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، برقم 1435.(25/51)
ويكون له من الأجر مثل أجر من هداه الله بأسبابه، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين (1) » متفق على صحته من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، والناس لما رأوا هذا العالم قد وفر لحيته ودعا إلى ذلك تابعوه، فأحيا بهم السنة، وهي سنة واجبة لا يجوز تركها، عملا بالحديث المذكور وما جاء في معناه، فيكون له مثل أجورهم. وقد يكون في بلاد يجهلون صلاة الجمعة ولا يصلونها فيعلمهم ويصلي بهم الجمعة فيكون له مثل أجورهم، وهكذا لو كان في بلاد يجهلون الوتر فيعلمهم إياه ويتابعونه على ذلك، أو ما أشبه ذلك من العبادات والأحكام المعلومة من الدين، فيطرأ على بعض البلاد أو بعض القبائل جهلها، فالذي يحييها بينهم وينشرها ويبينها يقال: سن في الإسلام سنة حسنة؛ بمعنى أنه أظهر حكم الإسلام، فيكون بذلك ممن سن في الإسلام سنة حسنة.
وليس المراد أن يبتدع في الدين ما لم يأذن به الله، فالبدع كلها ضلالة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب تقليم الأظافر، برقم 5442، ومسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، برقم 382.(25/52)
الصحيح: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (1) » ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح أيضا: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » ، وفي اللفظ الآخر: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » متفق عليه.
ويقول في خطبة الجمعة - عليه الصلاة والسلام -: أما بعد: «فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (4) » خرجه مسلم صحيحه. فالعبادة التي لم يشرعها الله لا تجوز الدعوة إليها، ولا يؤجر صاحبها، بل يكون فعله لها ودعوته إليها من البدع، وبذلك يكون الداعي إليها من الدعاة إلى الضلالة، وقد ذم الله من فعل ذلك بقوله سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (5) الآية.
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4607) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(4) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، باب تخفيف الخطبة، برقم 1435.
(5) سورة الشورى الآية 21(25/53)
4 - كيف أنزل الحديث
سماحة والدنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله من كل سوء آمين.
فأبعث لسماحتكم سؤالا راجيا تفضلكم الإجابة عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
س: إن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن بالوحي على الرسول فكيف أنزل الحديث؟
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
أنزل الله القرآن الكريم على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة أشرف الملائكة وهو جبرائيل عليه الصلاة والسلام، كما قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (2) {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (3) {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (4) وقال جل وعلا في سورة الدخان:
__________
(1) سورة الشعراء الآية 192
(2) سورة الشعراء الآية 193
(3) سورة الشعراء الآية 194
(4) سورة الشعراء الآية 195(25/54)
{حم} (1) {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} (2) {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} (3) {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (4) وقال سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (5) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} (6) {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (7) وهذه الليلة هي أشرف الليالي، وهي في العشر الأواخر من رمضان، كما قال الله سبحانه في سورة البقرة: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (8) الآية.
أما الحديث فيوحيه الله إلى نبيه وحيا بواسطة جبرائيل عليه الصلاة والسلام، وتارة يتمثل له الملك في صورة إنسان، فيسمعه ما يقول، كما في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها. والله ولي التوفيق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الدخان الآية 1
(2) سورة الدخان الآية 2
(3) سورة الدخان الآية 3
(4) سورة الدخان الآية 4
(5) سورة القدر الآية 1
(6) سورة القدر الآية 2
(7) سورة القدر الآية 3
(8) سورة البقرة الآية 185(25/55)
5 - قراءة الأحاديث فيها أجر
س: وردت الأدلة على الأجر في قراءة القرآن الكريم، فهل هناك أجر في قراءة الأحاديث النبوية؟ (1) .
ج: نعم قراءة العلم كله فيها أجر، تعلم العلم وطلب العلم من طريق القرآن الكريم، ومن طريق السنة فيه أجر عظيم، فالعلم يؤخذ من الكتاب، ويؤخذ من السنة، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خيركم من تعلم العلم وعلمه (2) » وجاء في قراءة القرآن الكريم أحاديث كثيرة، منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اقرءوا القرآن، فإنه يأتي شفيعا لأصحابه يوم القيامة (3) » رواه مسلم.
وقال ذات يوم - عليه الصلاة والسلام -: «أيحب أحدكم أن يذهب إلى بطحان - واد في المدينة - فيأتي بناقتين عظيمتين في
__________
(1) نشر في جريدة عكاظ العدد رقم 11689 بتاريخ 1 \ 5 \ 1419هـ.
(2) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، برقم 4639.
(3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، برقم 1337.(25/56)
غير إثم ولا قطيعة رحم؟ فقالوا: كلنا يحب ذلك يا رسول الله، فقال: لأن يذهب أحدكم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين عظيمتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل (1) » أو كما قال - عليه الصلاة والسلام -، فهذا يدل على فضل تعلم القرآن الكريم، وقراءة القرآن الكريم.
وفي حديث ابن مسعود: «من قرأ حرفا من القرآن فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها (2) » .
هكذا السنة إذا تعلمها المؤمن، فقرأ الأحاديث ودرسها يكون له أجر عظيم؛ لأن هذا من تعلم العلم، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (3) » وهذا يدل على أن دراسة العلم، وحفظ
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه، برقم 1336.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر، برقم 2835.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، برقم 4867.(25/57)
الأحاديث، والمذاكرة فيها من أسباب دخول الجنة والنجاة من النار، وهكذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » متفق عليه، والتفقه في الدين يكون من طريق الكتاب، ويكون من طريق السنة، والتفقه في السنة من الدلائل على أن الله أراد بالعبد خيرا، كما أن التفقه في القرآن الكريم دليل على ذلك، والأدلة في هذا كثيرة ولله الحمد.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، برقم 69، ومسلم في كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، برقم 1719.(25/58)
6 - ما معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
«ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه (1) » .
س: ما معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه (2) » ؟
ج: هذا حديث من الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعنى (ومثله معه) يعني أن الله أعطاه وحيا آخر وهو السنة التي تفسر القرآن وتبين معناه، كما
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4604) ، مسند أحمد بن حنبل (4/131) .
(2) سنن أبو داود السنة (4604) ، مسند أحمد بن حنبل (4/131) .(25/58)
قال الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) فالله أوحى إليه القرآن وأيضا السنة وهي الأحاديث التي ثبتت عنه - صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلق بالصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك من أمور الدين والدنيا، فالسنة وحي ثان أوحاه الله إليه لإكمال الرسالة وتمام البلاغ، وهو - صلى الله عليه وسلم - يعبر عن ذلك بالأحاديث التي بينها للأمة قولا وفعلا وتقريرا مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (2) » وقوله - عليه الصلاة والسلام -: «لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ (3) » ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقبل صلاة بغير طهور ولا
__________
(1) سورة النحل الآية 44
(2) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي، برقم 1، ومسلم في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: '' إنما الأعمال بالنيات '' برقم 3530.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب لا تقبل صلاة بغير طهور، برقم 132، ومسلم في كتاب الوضوء، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم 330.(25/59)
صدقة من غلول (1) » ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ما لم تغش الكبائر (2) » إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة في كل ما يحتاجه العباد وفيما يتعلق بتفسير كتاب الله عز وجل عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهذا الوحي وحي أوحاه الله إليه وأخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وبينه للأمة فهو من الله وحي بالمعنى، وهو من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ما تقدم في وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات (3) » . . . إلخ. ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا (4) » . . . إلخ الحديث.
ويدخل في الوحي الثاني الذي أوتيه النبي - صلى الله عليه وسلم - الأحاديث القدسية التي يرويها الرسول عن ربه عز وجل فهي وحي من الله ومن كلامه سبحانه ولكن ليس لها حكم القرآن، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم 329.
(2) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين، برقم 8830.
(3) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2079) ، صحيح مسلم البيوع (1532) ، سنن الترمذي البيوع (1246) ، سنن النسائي البيوع (4464) ، سنن أبو داود البيوع (3459) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) ، سنن الدارمي البيوع (2547) .(25/60)
عز وجل: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم (1) » . . . إلى آخر الحديث وهو حديث طويل رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - وكل ذلك داخل في قوله سبحانه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (2) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (3) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (4) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (5) الآيات.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم 4674.
(2) سورة النجم الآية 1
(3) سورة النجم الآية 2
(4) سورة النجم الآية 3
(5) سورة النجم الآية 4(25/61)
7 - ما معنى أحاديث الآحاد
س: ما المقصود بحديث الآحاد؟ وهل يؤخذ بها في أمر العقيدة؟
ج: خبر الآحاد هو كل حديث لم تتوافر فيه شروط المتواتر، ويسمى خير آحاد وهو أقسام ثلاثة: مشهور ويسمى(25/61)
المستفيض، وعزيز، وخبر الواحد. كما أوضح ذلك أئمة الحديث ومنهم الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في النخبة وشرحها.
وخبر الآحاد حجة في العقيدة وغيرها، عند أهل السنة إذا صح سنده. والله ولي التوفيق.(25/62)
8 - كتب الحديث المعروفة المشهورة
س: ما هي كتب السنة التي ترون أنها مناسبة وتنصحوننا باقتنائها؟
ج: كتب السنة كثيرة والحمد لله منها الكتب الستة وهي الصحيحان البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه رحمهم الله، ومنها موطأ مالك - رحمه الله - ومسند أحمد - رحمه الله - وسنن الدارمي - رحمه الله -، فهذه كتب الحديث المعروف المشهورة.
ومن كتب السنة ما ألفه جماعة آخرون من أهل العلم، منها ما ألفه الشافعي - رحمه الله - كالأم، ومنها ما ألفه الفقهاء بعد ذلك في أحكام الشرع المطهر، ومن أحسن ما ألف في ذلك مؤلفات(25/62)
شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - تعالى وتلميذه العلامة ابن القيم - رحمه الله -، فإن كتبهما مفيدة جدا وتعتني بالدليل وترجح الراجح في مسائل الخلاف فهي كتب عظيمة، وهكذا كتب أئمة الدعوة الذين اشتغلوا بها ونشروها في هذه الجزيرة في النصف الثاني من القرن الثاني عشر وما بعده، وهم الشيخ الإمام العلامة محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - تعالى وأبناؤه وأحفاده وأنصاره من دعاة السنة، فكتبهم مفيدة وعظيمة مثل الدرر السنية، وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد، وكشف الشبهات، وآداب المشي إلى الصلاة، وثلاثة الأصول، والقواعد الأربع، ومجموعة التوحيد، وتيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله.
ومن كتب العقيدة المهمة: العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية والتدمرية والحموية له أيضا - رحمه الله -، وشرح الطحاوية لابن أبي العز، وكتاب التوحيد لابن خزيمة - رحمه الله -. كل هذه كتب عظيمة ومفيدة.(25/63)
9 - دراسة علوم الحديث
س: ما هي الطرق الصحيحة لمعرفة ودراسة علم الحديث؟ (1)
ج: دراسة علم الحديث تكون بقراءة الكتب المؤلفة في ذلك، على أهل العلم العارفين بالحديث ومصطلحات أهله، والله الموفق.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1662 بتاريخ 18 \ 6 \ 1419 هـ.(25/64)
10 - كتب شروح معنى الأحاديث
س: أرجو منكم إعطائي أسماء كتب تفسر معنى الأحاديث النبوية، وهل يجوز اختصار كتابة الصلاة على محمد بالرمز لها بحرف (ص) ؟ أفيدوني.
ج: من الكتب المفيدة في شرح الأحاديث النبوية: فتح الباري للحافظ ابن حجر في شرح صحيح البخاري رحمة الله(25/64)
عليهما، وشرح النووي لصحيح الإمام مسلم رحمة الله عليهما، وعون المعبود لسنن أبي داود، وتحفة الأحوذي لجامع الترمذي، ونيل الأوطار في شرح المنتقى للشوكاني، وسبل السلام في شرح بلوغ المرام للأمير: محمد بن إسماعيل الصنعاني.
ولا يجوز الاكتفاء ب (ص) ولا (صلعم) للإشارة إلى الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بل المشروع التصريح بذلك، فيقول: - صلى الله عليه وسلم -. والله ولي التوفيق.(25/65)
11 - علم الرجال والنظر في الأحاديث لا يزال
س: فيما يتعلق في تخريج الأحاديث يا سماحة الشيخ وتعديل الرواة وتجريحهم. هناك من يرى أن باب علم الرجال مغلق أو انتهى من قديم. كيف ترون ذلك يا سماحة الشيخ؟ (1) .
ج: لا، هذا ليس بصحيح، بل علم الرجال والنظر في الأحاديث باق، ولم يمض، بل لا يزال، فأهل العلم عليهم أن يعتنوا
__________
(1) نشر في جريدة الرياض العدد 10736 بتاريخ 19 \ 8 \ 1418 هـ.(25/65)
بهذا ويراجعوا الأحاديث ويميزوا صحيحها وسقيمها، ويرشدوا الناس إلى ذلك، ولا يقفوا عند ذكر فلان أو فلان، بل يتابع، مثل المنتقى، مثل بلوغ المرام، مثل السنن الأربعة، مثل مسند أحمد، يراجع الأسانيد ويعتني بها، ويعرف صحيحها من سقيمها، حتى يستفيد من ذلك ويفيد غيره، هكذا شأن طالب العلم الذي قد وفقه الله لمعرفة الأحاديث ومعرفة أسانيدها ومعرفة أحوال الرجال واشتغل بهذا الشيء، يكون فيه فائدة عظيمة له ولغيره.(25/66)
12 - حكم الحديث إذا كان إسناده
ليس بقوي وقد ورد في فضائل الأعمال
س: إذا خرج الترمذي حديثا وقال: إسناده ليس بقوي، وكان الحديث في فضائل الأعمال، فما رأي سماحتكم؟
ج: الترمذي - رحمه الله - الغالب على تصحيحه وتحسينه جيد، ولكنه قد يضعف بعض الأحاديث وهي عند غيره قوية لكن سندها عنده ضعيف، وقد يحسن بعض الأحاديث أو يصححها وهي ليست كذلك عند غيره من أئمة الحديث، مثل حديث(25/66)
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في «المرأة التي دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فقال لها - صلى الله عليه وسلم -: أتعطين زكاة هذا؟ (1) » الحديث، في باب الزكاة، وهو عند الترمذي ضعيف، لأنه من طريق المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب وهو ضعيف أعني: المثنى وهو عند أبي داود والنسائي جيد؛ لكونه من رواية بعض الثقات عن عمرو بن شعيب، وحكم عليه الحافظ في البلوغ بأن إسناده قوي، والمقصود أنه عند أبي داود والنسائي جيد، وأما عند الترمذي فضعيف؛ لكونه من رواية المثنى بن الصباح كما تقدم، ولديه أحاديث أخرى - رحمه الله - صححها أو حسنها وهي ضعيفة. والمقصود من هذا أنه لا يكفي تصحيحه ولا تحسينه بل لا بد من مراجعة الأسانيد وكلام أهل العلم في ذلك حتى يكون الطالب على بينة، وهكذا رواية أبي داود والنسائي وابن ماجه والدارمي والإمام أحمد رحمهم الله جميعا، كل هؤلاء يروون الضعيف
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة، برقم 6380، وأبو داود في كتاب الزكاة، باب الكنز ما هو وزكاة الحلي، برقم 1336 والنسائي في كتاب الزكاة، باب زكاة الحلي، برقم 2434.(25/67)
والصحيح، فإذا سكت أبو داود أو النسائي أو ابن ماجه أو الدارمي أو غيرهم ممن لم يلتزم الصحة فيما يرويه فراجع الأسانيد وتأملها إن كان عندك دراية ومعرفة، وإلا راجع كلام أهل العلم كالحافظ في التلخيص، ونصب الراية للزيلعي وفتح الباري وغيرهم، ولا تتعجل في التصحيح ولا التضعيف حتى يكون عندك أهلية لأن هذه أمور خطيرة بخلاف الصحيحين فأحاديثهما متلقاة بالقبول عند أهل العلم، وقد صرح أبو داود - رحمه الله - أنه إذا سكت عن شيء فهو صالح للاحتجاج به عنده. يقول عنه - رحمه الله - الحافظ العراقي في ألفيته ما نصه:
وما به وهن شديد قلته ... وحيث لا فصالح خرجته
يعني الذي فيه وهن شديد يبينه والذي يسكت عنه صالح ولكن ليس على إطلاقه، فقد يكون ضعيفا عند غيره وإنه صالح عنده كما أوضح ذلك أهل العلم كالحافظ ابن حجر وغيره.(25/68)
13 - تضعيف الأحاديث
الصحيحة شذوذ عن العلماء
س: ما موقفنا ممن يضعف أحاديث في صحيح مسلم أو صحيح البخاري؟
ج: هذا شذوذ عن العلماء لا يعول عليه إلا في أشياء يسيرة عند مسلم - رحمه الله - نبه عليها الدارقطني وغيره، والذي عليه أهل العلم هو تلقي أحاديث الصحيحين بالقبول والاحتجاج بها كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر والحافظ ابن الصلاح وغيرهما، وإذا كان في بعض الرجال المخرج لهم في الصحيحين ضعف فإن صاحبي الصحيح قد انتقيا من أحاديثهم ما لا بأس به، مثل: إسماعيل بن أبي أويس، ومثل عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وجماعات فيهم ضعف لكن صاحبي الصحيح انتقيا من أحاديثهم ما لا علة فيه؛ لأن الرجل قد يكون عنده أحاديث كثيرة فيكون غلط في بعضها أو رواها بعد الاختلاط إن كان ممن اختلط، فتنبه صاحبا الصحيحين لذلك فلم يرويا عنه إلا ما صح عندهما سلامته.(25/69)
والخلاصة أن ما رواه الشيخان قد تلقته الأمة بالقبول فلا يسمع كلام أحد في الطعن عليهما رحمة الله عليهما سوى ما أوضحه أهل العلم كما تقدم.
ومما أخذ على مسلم - رحمه الله - رواية حديث أبي هريرة: أن الله خلق التربة يوم السبت. . . الحديث. والصواب أن بعض رواته وهم برفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو من رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - عن كعب الأحبار؛ لأن الآيات القرآنية والأحاديث القرآنية الصحيحة كلها قد دلت على أن الله سبحانه قد خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة؛ وبذلك علم أهل العلم غلط من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله خلق التربة يوم السبت، وغلط كعب الأحبار ومن قال بقوله في ذلك، وإنما ذلك من الإسرائيليات الباطلة. والله ولي التوفيق.(25/70)
14 - هذا رأيي في الشيخ الألباني
س: لدينا شيخ رزقه الله علما، لكنه يسب المشايخ الذين يخالفونه القول، ويخص بالذكر الشيخ ناصر الدين الألباني، حيث يحذر منه كل ليلة تقريبا في أحاديثه، في شهر رمضان، ويدعي بأن هذا رأي كل الأفاضل في الألباني، وأنه مجرد تاجر كتب، فما جوابكم ورأيكم يا سماحة الشيخ في الألباني لنطلعه عليه، ونطلع عليه رواد الدرس الكثر.
ج: بسم الله والحمد لله، الشيخ ناصر الدين الألباني من خواص إخواننا الثقات المعروفين بالعلم والفضل والعناية بالحديث الشريف تصحيحا وتضعيفا، وليس معصوما بل قد يخطئ في بعض التصحيح والتضعيف، ولكن لا يجوز سبه ولا ذمه ولا غيبته، بل المشروع الدعاء له بالمزيد من التوفيق وصلاح النية والعمل، ومن(25/71)
وجد له غلطا واضحا بالدليل فعليه أن يناصحه ويكتب له في ذلك، عملا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة (1) » الحديث رواه مسلم، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه (2) » الحديث، وقول جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه -: «بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (3) » متفق على صحتهما.
ومعلوم أن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ولا سيما أهل العلم؛ لقول الله سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (4)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم 82.
(2) أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، برقم 2262، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم 4677.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين، برقم 55، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم 83.
(4) سورة التوبة الآية 71(25/72)
فالواجب على الجميع التناصح والتواصي بالحق، وتنبيه المخطئ إلى خطئه، وإرشاده إلى الصواب حسب الأدلة الشرعية، وفق الله الجميع.(25/73)
كتاب الإيمان(25/75)
صفحة فارغة(25/76)
15 - شرح حديث: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله الحديث
س: سائل يرجو شرح هذا الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله (1) » .
ج: هذا الحديث صحيح، رواه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أمرت أن أقاتل الناس حتى (2) » . . . الحديث، وهذا على ظاهره، فإن من أتى بالشهادتين وهو لا يأتي بهما قبل ذلك، وأقام الصلاة وآتى الزكاة فإنه يعتبر مسلما حرام الدم والمال إلا بحق الإسلام، يعني: إلا بما يوجبه الإسلام عليه بعد ذلك، كأن يزني فيقام عليه حد الزنا؛ إن كان
__________
(1) نشر في هذا المجموع، ج8 ص303.
(2) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .(25/77)
بكرا فبالجلد والتغريب، وإن كان ثيبا فبالرجم الذي ينهي حياته، وهكذا بقية أمور الإسلام يطالب بها هذا الذي أسلم وشهد هذه الشهادة وأقام الصلاة وآتى الزكاة.
فيطالب بحقوق الإسلام، وهو معصوم الدم والمال إلا أن يأتي بناقض من نواقض الإسلام، أو بشيء يوجب الحد عليه، وهكذا قوله في الحديث الآخر عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله (1) » .
هذا الحديث مثل ذاك الحديث: من أتى بالتوحيد والإيمان بالرسالة فقد دخل في الإسلام، ثم يطالب بحق الإسلام، فيطالب بالصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك، فإن أدى ما أوجب الله عليه فهو مسلم حقا، وإن امتنع عن شيء أخذ بحق الله فيه، وأجبر وألزم بحقوق الله التي أوجبها على عباده.
وهذا هو الواجب على جميع من دخل في دين الإسلام أن يلتزم بحق الإسلام، فإن لم يلتزم أخذ بحق الإسلام.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2946) ، صحيح مسلم الإيمان (21) ، سنن الترمذي الإيمان (2606) ، سنن النسائي تحريم الدم (3971) ، سنن أبو داود الجهاد (2640) ، سنن ابن ماجه الفتن (3928) ، مسند أحمد بن حنبل (1/11) .(25/78)
16 - شرح حديث:
«من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة (1) »
س: من قال: (لا إله إلا الله دخل الجنة) هل هذا حديث؟ وهل يكتفي الإنسان بقول: (لا إله إلا الله) دون العمل بمقتضاها؟ (2)
ج: جاء في ذلك أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن من قال: «لا إله إلا الله صدقا من قلبه دخل الجنة (3) » ، وفي بعضها: «خالصا من قلبه (4) » ، وفي بعضها: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله (5) » وفي بعضها يقول عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (29) ، سنن الترمذي الإيمان (2638) ، مسند أحمد بن حنبل (5/318) .
(2) من الأسئلة المقدمة لسماحته من جريدة المسلمون، وقد أجاب عنه سماحته بتاريخ 27 \ 3\ 1419 هـ.
(3) أخرجه أبو يعلى في مسنده 6\ 10.
(4) صحيح البخاري العلم (99) ، مسند أحمد بن حنبل (2/373) .
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2946) ، صحيح مسلم الإيمان (21) ، سنن الترمذي الإيمان (2606) ، سنن النسائي تحريم الدم (3971) ، سنن أبو داود الجهاد (2640) ، سنن ابن ماجه الفتن (3928) ، مسند أحمد بن حنبل (1/11) .(25/79)
ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله (1) » .
والأحاديث كلها يفسر بعضها بعضا والمعنى أن من قال: لا إله إلا الله صادقا من قلبه مخلصا لله وحده وأدى حقها بفعل ما أمر الله، وترك ما حرم الله، ومات على ذلك دخل الجنة، وعصم دمه وماله حال حياته، إلا بحق الإسلام.
فالواجب على جميع المسلمين أن يتقوا الله ويخلصوا له العبادة وأن يؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله إلى جميع الثقلين، الجن والإنس، وأنه خاتم الأنبياء ليس بعده نبي وعليهم مع ذلك أن يؤدوا فرائض الله، وأن يزكوا محارم الله، وأن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يتواصوا بالحق والصبر عليه، وأن يتبرءوا من كل ما يخالف ذلك من جميع أديان المشركين، فمن مات على ذلك دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، ومن أتى شيئا من المعاصي كالزنا وشرب الخمر وأكل الربا وعقوق الوالدين وغير ذلك من المعاصي، ومات على ذلك ولم يتب فهو تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفر له فضلا منه وإحسانا من أجل توحيده وإيمانه بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وسلامته من الشرك وإن
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .(25/80)
شاء عذبه على قدر المعاصي التي مات عليها، ثم يخرجه الله من النار، بعد التطهير والتمحيص ويدخله الجنة؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) فأخبر سبحانه أنه لا يغفر الشرك لمن مات عليه، وأما ما دونه فهو معلق بمشيئة الله، فقد يعفو له سبحانه عنه فضلا ورحمة منه بدون شفاعة أحد، وقد يغفر له سبحانه بشفاعة الأنبياء والصالحين والأفراط وغيرهم ممن يأذن الله لهم بالشفاعة من المؤمنين، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (2) وقال سبحانه في حق الملائكة: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (3) وقال عز وجل: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (4)
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يشفع يوم القيامة لكثير من العصاة من أمته الذين دخلوا النار بذنوبهم، عدة شفاعات، فيحد الله له حدا في كل شفاعة، فيخرجهم من
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة البقرة الآية 255
(3) سورة الأنبياء الآية 28
(4) سورة النجم الآية 26(25/81)
النار، وتشفع الملائكة، والأنبياء والصالحون والأفراط بعد إذنه سبحانه لهم ويبقى في النار بقية من العصاة لم تشملهم الشفاعة، فيخرجهم الله سبحانه من النار بفضله ورحمته، ولا يبقى في النار إلا الكفار، فإنهم يخلدون فيها أبد الآباد.. كما قال الله عز وجل في حقهم: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (1) وقال سبحانه في حقهم: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (2) وقال سبحانه في حقهم: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} (3) وقال عز وجل في حقهم: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} (4) وقال سبحانه وتعالى في حقهم أيضا: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (5) {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} (6) فيرد عليهم سبحانه بقوله:
__________
(1) سورة البقرة الآية 167
(2) سورة المائدة الآية 37
(3) سورة الإسراء الآية 97
(4) سورة النبأ الآية 30
(5) سورة فاطر الآية 36
(6) سورة فاطر الآية 37(25/82)
{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} (1)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهذا الذي ذكرناه هو قول أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، نسأل الله أن يجعلنا منهم. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة فاطر الآية 37(25/83)
17 - شرح حديث: «الدين النصيحة (1) »
س: السائل يطلب شرح حديث «الدين النصيحة (2) » ..) ؟
ج: هذا حديث عظيم رواه مسلم في الصحيح من حديث تميم الداري وله شواهد عند غير مسلم. يقول صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (3) » .
فهذا الحديث العظيم يدل على أن الدين هو النصيحة وذلك يدل على عظم شأنها لأنه جعلها الدين كما قال النبي صلى الله
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .(25/83)
عليه وسلم: «الحج عرفة (1) » وهذا الحديث يدل على أن النصيحة هي الدين وهي الإخلاص في الشيء والصدق فيه حتى يؤدى كما أوجب الله، فالدين هو النصيحة في جميع ما أوجب الله وفي ترك ما حرم الله، وهذا عام يعم حق الله وحق الرسول وحق القرآن وحق الأئمة وحق العامة.
والنصيحة كما تقدم هي الإخلاص في الشيء والعناية به والحرص على أن يؤدى كاملا تاما لا غش فيه ولا خيانة ولا تقصير، يقال في لغة العرب: ذهب ناصح، أي ليس فيه غش.
ويقولون أيضا: عسل ناصح، يعني ليس فيه غش.
وهكذا يجب أن يكون المؤمن في أعماله ناصحا لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
فالنصيحة لله توحيده سبحانه وتعالى والإخلاص له وصرف العبادة له جل وعلا من صلاة وصوم وحج وجهاد وغير ذلك،
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، برقم 814، والنسائي في كتاب مناسك الحج، باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة، برقم 2994، وأبو داود في كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة، برقم 1664، وابن ماجه في كتاب الم(25/84)
يعني: أن يعمل في غاية الإخلاص لله، لا يعبد معه سواه بل يعبده وحده، وينصح في هذه العبادة ويكملها، مع الإيمان به وبكل ما أمر به، وهكذا ينصح في أداء ما فرض الله عليه وترك ما حرم الله عليه يؤدي ذلك كاملا لعلمه بحق الله وأن الله أوجبه عليه فهو يخلص في ذلك ويعتني به.
وهكذا في حق القرآن يتدبره ويتعقله ويعمل بما فيه من أوامر وينتهي عن النواهي وهو كتاب الله العظيم وحبله المتين، فالواجب العناية به والنصح في ذلك قولا وعملا وذلك بحفظ الأوامر وترك النواهي والوقوف عند الحدود التي بينها الله في القرآن الكريم حتى لا تخل بشيء من أوامر الله في القرآن وحتى لا ترتكب شيئا من محارم الله، مع الإيمان بأنه كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، هذا قول أهل السنة والجماعة قاطبة، كما قال عز وجل {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (1) {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (2) وقال سبحانه: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (3)
__________
(1) سورة الشعراء الآية 193
(2) سورة الشعراء الآية 194
(3) سورة الزمر الآية 1(25/85)
وقال عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (1) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه كلام الله سبحانه وأنه منزل من عنده، فالمؤمن يؤمن بهذا كله وهكذا المؤمنة، ويعتقد كل منهما أنه كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود خلافا للجهمية ومن سار في ركابهم من المبتدعة.
وهكذا النصح للرسول صلى الله عليه وسلم، يكون بطاعة أوامره واجتناب نواهيه والإيمان بأنه رسول الله حقا وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، مع الدفاع عن سنته والذب عنها، كل هذا من النصح للرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا العناية بأحاديثه صلى الله عليه وسلم وبيان صحيحها من سقيمها والذب عنها والامتثال لها والوقوف عند الحدود التي حددها الله ورسوله، كما قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (2) الآية. هذه هي النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم، وما زاد على ذلك من أداء الواجبات وترك المحرمات كان كمالا للنصيحة وتماما لها.
فالحاصل أنه بعنايته بما أمر الله به ورسوله وما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله من الحقوق يكون قد نصح لله ولكتابه
__________
(1) سورة القدر الآية 1
(2) سورة البقرة الآية 229(25/86)
ولرسوله؛ بأداء فرائض الله وترك محارم الله والوقوف عند حدود الله والإكثار من الثناء عليه وذكره سبحانه وتعالى وخشيته جل وعلا، كل هذا من النصيحة لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
أما النصيحة لأئمة المسلمين فبالدعاء لهم والسمع والطاعة لهم في المعروف والتعاون معهم على الخير وترك الشر وعدم الخروج عليهم، وعدم منازعتهم، إلا أن يوجد منهم كفر بواح عليه برهان من الله سبحانه وتعالى. كما جاء ذلك في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في مبايعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم.
ومن النصيحة لهم: توجيههم إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالأسلوب الحسن والرفق وسائر الطرق المفيدة؛ عملا بهذا الحديث الصحيح، وبقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4)
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(25/87)
وأما النصيحة لعامة المسلمين فإنها تكون بتعليمهم وتفقيههم في الدين ودعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وإقامة الحدود عليهم والتعزيرات الشرعية كل هذا من النصيحة لهم. والله ولي التوفيق.(25/88)
18 - شرح حديث: «ولا هامة ولا صفر (1) »
س: سمعت حديثا عن التشاؤم، يقول فيما معناه: «ولا هام ولا صفر (2) » أرجو منكم ذكر الحديث كاملا مع شرح الكلمات التي لا أفهمها فيه (3) .
ج: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر (5) ويعجبني الفأل» .
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5757) ، سنن أبو داود الطب (3911) ، مسند أحمد بن حنبل (2/327) .
(2) سنن ابن ماجه الطب (3539) ، مسند أحمد بن حنبل (1/269) .
(3) سؤال أجاب عنه سماحته بتاريخ 24 \ 11 \ 1418 هـ.
(4) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الفأل، برقم 5315، ومسلم في كتاب السلام، باب الطيرة والفأل، برقم 4123.
(5) (4) ، ولا نوء ولا غول أخرجه مسلم من رواية أبي هريرة ومن رواية جابر في كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة، برقم 4118، 4119.(25/88)
والمعنى: إبطال ما يعتقده أهل الجاهلية، من أن الأشياء تعدي بطبعها، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن هذا الشيء باطل، وأن المتصرف في الكون هو الله وحده، فقال بعض الحاضرين له صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله، الإبل تكون في الصحراء، كأنها الغزلان، فيدخل فيها البعير الأجرب فيجربها، فقال صلى الله عليه وسلم: فمن أعدى الأول (1) » . والمعنى: أن الذي أنزل الجرب في الأول هو الذي أنزله في الأخرى، ثم بين لهم صلى الله عليه وسلم أن المخالطة قد تكون سببا لنقل المرض من المريض إلى الصحيح، بإذن الله عز وجل، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لا يورد ممرض على مصح (2) » . والمعنى: النهي عن إيراد الإبل المريضة ونحوها بالجرب ونحوه مع الإبل الصحيحة؛ لأن هذه المخالطة قد تسبب انتقال المرض من المريضة إلى الصحيحة بإذن
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب لا صفر وهو داء يأخذ البطن، برقم 5278، ومسلم في كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء، برقم 4116.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب لا هامة، برقم 5328، ومسلم في كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء، برقم 4117.(25/89)
الله، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «فر من المجذوم فرارك من الأسد (1) » وذلك لأن المخالطة له قد تسبب انتقال المرض منه إلى غيره، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم «أنه أكل مع مجذوم وقال: كل بسم الله ثقة بالله (2) » ليبين صلى الله عليه وسلم أن انتقال الجذام من المريض إلى الصحيح إنما يكون بإذن الله، وليس هو شيئا لازما.
والخلاصة: أن الأحاديث في هذا الباب تدل على أنه لا عدوى على ما يعتقده الجاهليون من كون الأمراض تعدي بطبعها، وإنما الأمر بيد الله سبحانه. إن شاء انتقل الداء من المريض إلى الصحيح وإن شاء سبحانه لم يقع ذلك. ولكن المسلمين مأمورون بأخذ الأسباب النافعة، وترك ما قد يفضي إلى الشر.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا طيرة (3) » فالمعنى إبطال ما يعتقده أهل الجاهلية من التطير بالمرئيات والمسموعات مما يكرهون وتردهم عن حاجتهم فأبطلها النبي صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في باب مسند المكثرين برقم 9345.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الأكل مع المجذوم، برقم 1739، وأبو داود في كتاب الطب، باب في الطيرة، برقم 3424، وابن ماجه في كتاب الطب، باب الجذام، برقم 3532.
(3) صحيح البخاري الطب (5754) ، صحيح مسلم السلام (2223) ، سنن ابن ماجه الطب (3536) ، مسند أحمد بن حنبل (2/267) .(25/90)
وقال في الحديث الآخر: «الطيرة شرك الطيرة شرك (1) » . وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك (2) » . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك، قالوا: وما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: أن يقول اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك (3) » .
وأما الهامة: فهو طائر يسمى البومة، يزعم أهل الجاهلية أنه إذا نعق على بيت أحدهم فإنه يموت رب هذا البيت، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا صفر (4) » فهو الشهر المعروف وكان بعض أهل الجاهلية يتشاءمون به. فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وأوضح صلى الله عليه وسلم أنه كسائر الشهور ليس فيه ما يوجب التشاؤم.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة، برقم 3978، وأبو داود في كتاب الطب، باب في الطيرة، برقم 3411.
(2) أخرج أبو داود في كتاب الطب، باب في الطيرة، برقم 3418.
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة برقم 6748.
(4) صحيح البخاري الطب (5717) ، صحيح مسلم السلام (2220) ، سنن أبو داود الطب (3911) ، مسند أحمد بن حنبل (2/327) .(25/91)
وقال بعض أهل العلم: إنها دابة تكون في البطن، تسمى: صفر. وكان بعض أهل الجاهلية يعتقدون فيها أنها تعدي، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما النوء: فهو واحد الأنواء، وهي النجوم، وكان بعض أهل الجاهلية يتشاءمون ببعض النجوم، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وقد أوضح الله سبحانه في القرآن العظيم أنه خلق النجوم زينة للسماء ورجوما للشياطين. وعلامات يهتدى بها في البر والبحر، كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} (1) وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (2) الآية. وقال سبحانه: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (3)
وأما الغول: فهو جنس من الجن يتعرضون للناس في الصحراء، ويضلونهم عن الطرق ويخوفونهم، وكان بعض أهل الجاهلية يعتقدون فيهم، وأنها تتصرف بقدرتها، فأبطل الله ذلك،
__________
(1) سورة الملك الآية 5
(2) سورة الأنعام الآية 97
(3) سورة النحل الآية 16(25/92)
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان (1) » والمعنى: أن ذكر الله يطردها، وهكذا التعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، يقي من شرها وشر غيرها، مع الأخذ بالأسباب التي جعلها الله أسبابا للوقاية من كل شر.
أما الفأل: فهو أن يسمع الإنسان الكلمة الطيبة، فتسره، ولكن لا ترده عن حاجته، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الفأل بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: «ويعجبني الفأل. قالوا: يا رسول الله وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة (2) » . هـ.
ومن أمثلة ذلك أن يسمع المريض من يقول: يا سليم يا معافى فيسره ذلك، وهكذا إذا سمع من ينشد ضالة من يقول: يا واجد، أو يا ناجح أو يا موفق فيسره ذلك ويتفاءل به. والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في باب مسند المكثرين برقم 14559.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب لا عدوى، برقم 5331، ومسلم في كتاب السلام، باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم، برقم 4124.(25/93)
19 - شرح حديث:
«من علق تميمة فقد أشرك (1) »
س: ذكر في الحديث أن من علق تميمة فقد أشرك، أرجو شرح هذا الحديث؟
ج: هذا الحديث ورد باللفظ الآتي: (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (2) » رواه أحمد وأبو داود، والتمائم شيء يعلق على الأولاد عن العين وهي ما تسمى عند بعض الناس بالجوامع والحجب والحروز وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له (3) » . وفي رواية: «من تعلق تميمة فقد أشرك (4) » . والعلة في كون تعليق التمائم من الشرك هي- والله أعلم-: أن من علقها سيعتقد فيها النفع ويميل
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة، برقم 3433، وأبو داود في كتاب الطب، باب في تعليق التمائم، برقم 3385.
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسند الشامين برقم 16781.
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .(25/94)
إليها وتنصرف رغبته عن الله إليها، ويضعف توكله على الله وحده وكل ذلك كاف في إنكارها والتحذير منها، وفي الأسباب المشروعة والمباحة ما يغني عن التمائم وانصراف الرغبة عن الله إلى غيره شرك به، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
وتعليق التمائم يعتبر من الشرك الأصغر ما لم يعتقد معلقها بأنها تدفع عنه الضرر بذاتها دون الله، فإذا اعتقد هذا الاعتقاد صار تعليقها شركا أكبر.(25/95)
20 - الجمع بين حديثين متعلقين
بالرقى والتمائم والتولة
س: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (1) » وعن جابر رضي الله عنه قال: «كان لي خال يرقي من العقرب فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، قال فأتاه فقال: يا رسول الله إنك نهيت عن الرقى وأنا أرقي من العقرب فقال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل (2) »
__________
(1) سنن أبو داود الطب (3883) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) .
(2) صحيح مسلم السلام (2199) ، سنن ابن ماجه الطب (3515) .(25/95)
ما هو الجمع بين أحاديث المنع والجواز في موضوع الرقى؟ وما حكم تعليق الرقى من القرآن على صدر المبتلى؟ (1)
ج: الرقى المنهي عنها هي الرقى التي فيها شرك، أو توسل بغير الله، أو ألفاظ مجهولة لا يعرف معناها، أما الرقى السليمة من ذلك فهي مشروعة ومن أعظم أسباب الشفاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (2) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه (3) » خرجهما مسلم في صحيحه، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا رقية إلا من عين أو حمة (4) » ومعناه: لا رقية أولى وأشفى من الرقية من هذين الأمرين، وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم ورقي.
__________
(1) نشر في كتاب الدعوات ج1 ص 21، وفي هذا المجموع ج6 ص381.
(2) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك، برقم 4079، وأبو داود في كتاب الطب، باب ما جاء في الرقى، برقم 3388، واللفظ له.
(3) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة، برقم 4078.
(4) أخرجه الترمذي في كتاب الطب، باب ما جاء في الرخصة في ذلك، برقم 1983، وأبو داود في كتاب الطب، باب في تعليق التمائم، برقم 3386(25/96)
أما تعليق الرقى على المرضى أو الأطفال فذلك لا يجوز، وتسمى الرقى المعلقة: (التمائم) وتسمى الحروز والجوامع؛ والصواب فيها أنها محرمة ومن أنواع الشرك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «من تعلق تميمة فقد أشرك (2) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (3) » .
واختلف العلماء في التمائم إذا كانت من القرآن أو من الدعوات المباحة هل هي محرمة أم لا؟ والصواب تحريمها لوجهين:
أحدهما: عموم الأحاديث المذكورة، فإنها تعم التمائم من القرآن وغير القرآن.
والوجه الثاني: سد ذريعة الشرك فإنها إذا أبيحت التمائم من القرآن اختلطت بالتمائم الأخرى واشتبه الأمر وانفتح باب الشرك بتعليق التمائم كلها، ومعلوم أن سد الذرائع المفضية إلى الشرك والمعاصي من أعظم القواعد الشرعية. والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه الأمام أحمد في مسند الشاميين برقم 16763
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .
(3) سنن أبو داود الطب (3883) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) .(25/97)
21 - الجمع بين حديثين في الطيرة
س: كيف نجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: «لا طيرة ولا هامة (1) » ، وقوله: «إن كانت الطيرة ففي البيت والمرأة والفرس (2) » أفيدونا جزاكم الله خيرا؟ (3) .
ج: الطيرة نوعان: الأول من الشرك وهي التشاؤم من المرئيات أو المسموعات فهذه يقال لها طيرة وهي من الشرك ولا تجوز، الثاني: مستثناة وهذا ليس من الطيرة الممنوعة؛ ولهذا في الحديث الصحيح: «الشؤم في ثلاث: في المرأة، وفي الدار، وفي الدابة (4) » وهذه هي المستثناة وليست من الطيرة الممنوعة؛ لأن بعضهم يقول: إن بعض النساء أو الدواب فيهن شؤم وشر بإذن الله، وهو شر قدري، فإذا ترك البيت الذي لم يناسبه، أو طلق المرأة التي لم تناسبه، أو الدابة أيضا التي لم تناسبه فلا بأس فليس هذا من الطيرة.
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5754) ، صحيح مسلم السلام (2223) ، سنن ابن ماجه الطب (3536) ، مسند أحمد بن حنبل (2/267) .
(2) سنن أبو داود الطب (3921) ، مسند أحمد بن حنبل (1/180) .
(3) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، جمع وترتيب محمد المسند، ج4، ص121.
(4) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب ما يكره من شؤم الفرس، برقم 2646، ومسلم في كتاب السلام، باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم، برقم 4128.(25/98)
22 - الجمع بين حديثين في العدوى
س: كيف نوفق بين الحديثين الشريفين: " لا عدوى ولا طيرة " و" فر من المجذوم فرارك من الأسد"؟
ج: لا منافاة عند أهل العلم بين هذا وهذا، وكلاهما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول (1) » وذلك نفي لما يعتقده أهل الجاهلية من أن الأمراض كالجرب تعدي بطبعها، وأن من خالط المريض أصابه ما أصاب المريض، وهذا باطل، بل ذلك بقدر الله ومشيئته، وقد يخالط الصحيح المريض المجذوم ولا يصيبه شيء، كما هو واقع ومعروف؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الإبل الصحيحة يخالطها البعير الأجرب فتجرب كلها، قال له عليه الصلاة والسلام: «فمن أعدى الأول (2) » .
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5753) ، صحيح مسلم السلام (2225) ، سنن ابن ماجه الطب (3540) .
(2) صحيح البخاري الطب (5717) ، صحيح مسلم السلام (2220) ، سنن أبو داود الطب (3911) ، مسند أحمد بن حنبل (2/434) .(25/99)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «فر من المجذوم فرارك من الأسد (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «لا يورد ممرض على مصح (2) » فالجواب عن ذلك: أنه لا يجوز أن يعتقد العدوى، ولكن
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/443) .
(2) صحيح البخاري الطب (5771) ، صحيح مسلم السلام (2221) .(25/100)
يشرع له أن يتعاطى الأسباب الواقية من وقوع الشر، وذلك بالبعد عمن أصيب بمرض يخشى انتقاله منه إلى الصحيح بإذن الله عز وجل كالجرب والجذام، ومن ذلك عدم إيراد الإبل الصحيحة على الإبل المريضة بالجرب ونحوه توقيا لأسباب الشر، وحذرا من وساوس الشيطان الذي قد يملي عليه أنما أصابه أو أصاب إبله هو بسبب العدوى.(25/101)
- شرح حديث: اثنتان في الناس هما بهم كفر
س: ما هو شرح حديث: «اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في الأنساب والنياحة على الميت (1) » وما معنى الكفر في هذا الحديث؟ (2) .
ج: هذا حديث صحيح رواه مسلم في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والطعن في النسب بأنه: هو التنقيص لأنساب الناس وعيبها على قصد الاحتقار لهم والذم، أما إن كان من باب الخبر، فلان من بني تميم ومن أوصافهم كذا، ومن قحطان، أو من قريش، أو من بني هاشم، يخبر عن أوصافهم من غير طعن في أنسابهم فذلك ليس من الطعن في الأنساب.
والنياحة هي: رفع الصوت بالبكاء على الميت. هي محرمة، والمراد بالكفر هنا: كفر دون كفر، وليس هو الكفر المطلق المعرف بأداة التعريف: كقوله عليه الصلاة والسلام: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (3) » أخرجه مسلم في صحيحه، وهذا هو الكفر الأكبر في أصح قولي العلماء، والكفر كفران، والظلم ظلمان، والفسق فسقان.
وهكذا الشرك شركان: أكبر وأصغر فالشرك الأكبر مثل: دعاء الأموات، والاستغاثة بهم والنذر لهم، أو للأصنام والأشجار
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة، برقم 100.
(2) نشر في جريدة الجزيرة بتاريخ 26\ 11\ 1416هـ، وفي هذا المجموع ج9، ص340.
(3) رواه مسلم في الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، برقم 117.(25/101)
والأحجار والكواكب والشرك الأصغر مثل: لولا الله وفلان، وما شاء الله وشاء فلان، والواجب أن يقول: لولا الله ثم فلان وما شاء الله ثم شاء فلان.
وكذا الحلف بغير الله كالحلف بالنبي، أو حياة فلان؛ أو بالأمانة فهذا من الشرك الأصغر.
وهكذا الرياء مثل كونه يستغفر الله ليسمع الناس، أو يقرأ ليرائي الناس فهو شرك أصغر.
الظلم ظلمان: أكبر وهو الشرك بالله، كقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) وكقوله سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (2)
أما الظلم الأصغر: فهو مثل ظلم الناس في دمائهم وأموالهم، وظلم العبد نفسه بالمعاصي: كالزنا وشرب المسكر ونحوها، نعوذ بالله من ذلك.
__________
(1) سورة البقرة الآية 254
(2) سورة الأنعام الآية 82(25/102)
24 - الجمع بين حديث
غربة الدين والطائفة المنصورة
س: ما الجمع بين حديث «بدأ الإسلام غريبا (1) » وحديث: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق (2) » ؟ (3)
ج: لا منافاة بينهما: فالأول ظاهر من الواقع. وتمامه: «فسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء (4) » وفي رواية لغير مسلم: «يحيون ما أمات الناس من سنتي (5) » وفي رواية أخرى: «الذين يصلحون ما أفسد الناس (6) » .
والحديث الثاني يدل على بقاء الإصلاح والدعوة والعلم والتعليم، وفيه بشارة أن هنالك طائفة لا تزال ظاهرة على الحق،
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الإيمان (145) ، سنن ابن ماجه كتاب الفتن (3986) ، مسند أحمد بن حنبل (2/389) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1920) ، سنن الترمذي الفتن (2229) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4252) ، سنن ابن ماجه الفتن (3952) ، مسند أحمد بن حنبل (5/279) .
(3) نشر في كتاب فتاوى إسلامية جمع وترتيب محمد المسند، ج 4، ص 136.
(4) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، برقم 208.
(5) أخرجه ابن قتيبة في كتاب تأويل مختلف الحديث 1 \ 115.
(6) أخرجه الترمذى في كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، برقم 2554.(25/103)
فالغربة لا تنافي الطائفة، ولا يلزم أن تكون بمكان واحد، والحق لا بد من بقائه حتى يخرج الدجال، وحتى تأتي الريح.
ثم إن هذه الغربة قد تزداد في مصر من الأمصار وتقل في مصر آخر، وقد تكون الغربة ذات معان متعددة: في كثرة البدع أو إنكار صلاة الجماعة أو عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أعظمها، غربة أهل التوحيد وظهور الشرك. نسأل الله العافية. وقد يظهر الإسلام في ناحية ويكون فيها أحسن مما قبل كما هو الواقع، وقد يكون في زمان أفضل من زمان آخر.
أما حديث: «لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه (1) » فهو محمول على الأغلب فلا يمنع أن يكون في بعض الزمان أحسن مما قبله، كما جرى في زمان عمر بن عبد العزيز فإن زمانه أحسن من زمان سليمان والوليد، وكما حصل في زمان شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من ظهور السنة والرد على المبتدعة، وكما جرى في الجزيرة بعد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الفتن، باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه، برقم 6541.(25/104)
25 - شرح حديث: بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا
س: ما معنى هذا الحديث: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء؟ (1) » (2)
ج: معناه أن الإسلام بدأ غريبا كما كان الحال في مكة وفي المدينة في أول الهجرة لا يعرفه ولا يعمل به إلا القليل، ثم انتشر ودخل الناس فيه أفواجا وظهر على سائر الأديان، وسيعود غريبا في آخر الزمان كما بدأ لا يعرفه حق المعرفة إلا القليل من الناس، ولا يعمل به على الوجه المشروع إلا القليل من الناس وهم الغرباء.
وتمام الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «فطوبى للغرباء (3) » رواه مسلم في صحيحه، وفي رواية لغير مسلم: «قيل: يا رسول الله ومن الغرباء فقال: الذين يصلحون إذا فسد الناس (4) » وفي لفظ آخر: «هم الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي (5) » .
نسأل الله أن يجعلنا وسائر إخواننا المسلمين منهم إنه خير مسئول.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (146) .
(2) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، جمع وترتيب محمد المسند، ج 4، ص 107.
(3) صحيح مسلم كتاب الإيمان (145) ، سنن ابن ماجه كتاب الفتن (3986) ، مسند أحمد بن حنبل (2/389) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/74) .
(5) سنن الترمذي كتاب الإيمان (2630) .(25/105)
26 - ما صحة حديث: " لا يؤمن
أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به "
س: ما مدى صحة الحديث: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» ؟ (1)
ج: الحديث هذا صححته جماعة وضعفته جماعة. ومما قال صاحب الحجة: لا يؤمن المؤمن إيمانا كاملا حتى يكون هواه تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. أما إذا كان يهوى الزنى ويفعل المعاصي يكون إيمانا ناقصا، وكذلك إن كان يهوى الغيبة أو النميمة، أو يفعلها يكون إيمانا ناقصا، فلا يكون إيمانه كاملا حتى يكون هواه وميله تبعا لما جاء به صلى الله عليه وسلم، وإذا تابع هواه وأطاع الشيطان فهذا نقص في الإيمان. وهذا النقص قد يرتقي به إلى الكفر، فإذا وافق هواه في عبادة غير الله، وفي الاستهزاء بالدين أو سبه، أو استحل ما حرم الله، انتقل إلى الكفر وصار مرتدا عن الإسلام نسأل الله السلامة.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، جمع وترتيب محمد المسند، ج 4، ص 107.(25/106)
27 - شرح حديث:
«يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا (1) »
س: ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في حديث طويل: «يصبح الرجل مؤمنا ويصبح كافرا، ويمسي الرجل مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل (2) » ما المقصود بالكفر في الحديث وكيف يكون بيع الدين؟ (3)
ج: لقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم (4) » بادروا بالأعمال يعني: الصالحة «فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مسلما ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا، ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا (5) » المعنى: أن الغربة في الإسلام تشتد حتى يصبح المؤمن مسلما، ثم يمسي كافرا، وبالعكس يمسي مؤمنا، ويصبح كافرا،
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (118) ، سنن الترمذي الفتن (2195) ، مسند أحمد بن حنبل (2/390) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (118) ، سنن الترمذي الفتن (2195) ، مسند أحمد بن حنبل (2/304) .
(3) سؤال موجه لسماحته في حج عام 1415هـ الشريط رقم 49 \ 9.
(4) صحيح مسلم الإيمان (118) ، سنن الترمذي الفتن (2195) ، مسند أحمد بن حنبل (2/390) .
(5) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال ومخافة المؤمن أن يحبط عمله، برقم 169 لكن لفظه: (مؤمنا) بدل (مسلما) .(25/107)
يبيع دينه بعرض من الدنيا، وذلك بأن يتكلم بالكفر، أو يعمل به من أجل الدنيا، فيصبح مؤمنا ويأتيه من يقول له: تسب الله، تسب الرسول، تدع الصلاة ونعطيك كذا وكذا، تستحل الزنا، تستحل الخمر، ونعطيك كذا وكذا، فيبيع دينه بعرض من الدنيا، ويصبح كافرا، أو يمسي كذلك، أو يقولوا: لا تكن مع المؤمنين ونعطيك كذا وكذا لتكون مع الكافرين، فيغريه بأن يكون مع الكافرين وفي حزب الكافرين، وفي أنصارهم، حتى يعطيه المال الكثير فيكون وليا للكافرين وعدوا للمؤمنين، وأنواع الردة كثيرة جدا، وغالبا ما يكون ذلك بسبب الدنيا، حب الدنيا وإيثارها على الآخرة، لهذا قال: «يبيع دينه بعرض من الدنيا (1) » ، وفي لفظ آخر: «بادروا بالأعمال الصالحة، هل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا، أو موتا مجهزا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو الدجال، فالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر (2) » المؤمن يبادر بالأعمال، يحذر قد يبتلى بالموت العاجل، موت
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (118) ، سنن الترمذي الفتن (2195) ، مسند أحمد بن حنبل (2/304) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في المبادرة بالعمل، برقم 2228.(25/108)
الفجاءة، قد يبتلى بمرض يفسد عليه قوته فلا يستطيع العمل، يبتلى بهرم، يبتلى بأشياء أخرى، على الإنسان أن يغتنم حياته وصحته وعقله بالأعمال الصالحات قبل أن يحال بينه وبين ذلك، تارة بأسباب يبتلى بها، من مرض وغيره، وتارة بالطمع في الدنيا، وحب الدنيا، وإيثارها على الآخرة، وتزيينها من أعداء الله، والدعاة إلى الكفر والضلال.(25/109)
28 - شرح حديث:
"
«لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة (1) »
"
س: قال صلى الله عليه وسلم: «لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم، وآخر هن الصلاة (2) » ما معنى هذا الحديث، وما المقصود بنقض الحكم؟ (3)
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/251) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/251) .
(3) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته من جريدة المسلمون، ونشر في هذا المجموع ج9، ص 205.(25/109)
ج: الحديث المذكور أخرجه الإمام أحمد في مسنده والطبراني في المعجم الكبير وابن حبان في صحيحه بإسناد جيد عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها وأولهن نقضا: الحكم، وآخرهن الصلاة (1) » .
ومعناه ظاهر وهو: أن الإسلام كلما اشتدت غربته كثر المخالفون له والناقضون لعراه يعني بذلك فرائضه وأوامره، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود في غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء (2) » أخرجه مسلم في صحيحه.
ومعنى قوله في الحديث: وأولها نقضا: الحكم معناه ظاهر وهو: عدم الحكم بشرع الله وهذا هو الواقع اليوم في غالب الدول المنتسبة للإسلام. ومعلوم أن الواجب على الجميع هو الحكم بشريعة الله في كل شيء والحذر من الحكم بالقوانين والأعراف المخالفة للشرع المطهر؛ لقوله سبحانه:
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار، برقم 21139.
(2) صحيح مسلم كتاب الإيمان (145) ، سنن ابن ماجه كتاب الفتن (3986) ، مسند أحمد بن حنبل (2/389) .(25/110)
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) وقال سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (2) {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (3) وقال عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (4) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (5) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (6)
وقد أوضح العلماء رحمهم الله أن الواجب على حكام المسلمين أن يحكموا بشريعة الله في جميع شئون المسلمين، وفي كل
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) سورة المائدة الآية 49
(3) سورة المائدة الآية 50
(4) سورة المائدة الآية 44
(5) سورة المائدة الآية 45
(6) سورة المائدة الآية 47(25/111)
ما يتنازعون فيه، عملا بهذه الآيات الكريمات، وبينوا أن الحاكم بغير ما أنزل الله إذا استحل ذلك كفر كفرا أكبر مخرجا له من الملة الإسلامية، أما إذا لم يستحل ذلك وإنما حكم بغير ما أنزل الله لرشوة أو غرض آخر مع إيمانه بأن ذلك لا يجوز، وأن الواجب تحكيم شرع الله، فإنه بذلك يكون كافرا كفرا أصغر، وظالما ظلما أصغر، وفاسقا فسقا أصغر.
فنسأل الله سبحانه أن يوفق حكام المسلمين جميعا للحكم بشريعته والتحاكم إليها وإلزام شعوبهم بها، والحذر مما يخالف ذلك، إنه جواد كريم، ولا شك أن في تحكيم الشريعة والتحاكم إليها، والعمل بها صلاح أمر الدنيا والآخرة وعز الدنيا والآخرة، والسلامة من مكائد الأعداء والإعانة على النصر عليهم، كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) وقال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) وقال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4)
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة الروم الآية 47
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41(25/112)
وقال عز وجل: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (1) {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور: وآخرهن الصلاة فمعناه كثرة التاركين لها والمتخلفين عنها. وهذا هو الواقع اليوم في كثير من البلدان الإسلامية. فنسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يوفقهم للثبات على دينه والاستقامة عليه، وأن يعينهم على إقامة الصلاة والمحافظة عليها في أوقاتها في جماعة، في بيوت الله عز وجل، وهي المساجد التي قال فيها عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (3) {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (4) {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (5)
__________
(1) سورة غافر الآية 51
(2) سورة غافر الآية 52
(3) سورة النور الآية 36
(4) سورة النور الآية 37
(5) سورة النور الآية 38(25/113)
والصلاة هي عمود الإسلام وهي الركن الثاني من أركانه العظام، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت (2) » .
وقد أمر الله عز وجل بإقامتها والمحافظة عليها في كتابه الكريم، فقال عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (3) وقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4)
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند الأنصار، برقم 21054، ورواه الترمذي في الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، برقم 2541.
(2) رواه البخاري في الإيمان، باب بني الإسلام على خمس برقم 7، ومسلم في الإيمان، بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، برقم 21، 22.
(3) سورة البقرة الآية 43
(4) سورة النور الآية 56(25/114)
وقال عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (1) والوسطي هي: صلاة العصر كما صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأوجب سبحانه المحافظة على الصلوات الخمس وإقامتها كما شرع الله، وخص الوسطى. بمزيد التأكيد؛ ولعل الحكمة في ذلك أنها تقع في آخر النهار بعد مباشرة الناس للأعمال، وربما كسلوا عنها أو ناموا عنها بسبب تعب العمل، فحثهم الله سبحانه على المحافظة عليها وحذرهم من إضاعتها وقال سبحانه: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (2) والآيات في شأن الصلاة كثيرة. وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (3) »
__________
(1) سورة البقرة الآية 238
(2) سورة العنكبوت الآية 45
(3) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار برقم 21859، ورواه الترمذي في الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، برقم 2545، والنسائي في الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، برقم 459.(25/115)
أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن الأربع بإسناد صحيح، وقال عليه الصلاة والسلام: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (1) » أخرجه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
وقال عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل رضي الله عنه: «من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام
__________
(1) رواه مسلم في الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على ترك الصلاة، برقم 117.(25/116)
في الصف (1) » أخرجه مسلم في صحيحه.
والأحاديث في شأن الصلاة والحث عليها والتحذير من تركها والتهاون بها كثيرة جدا، وقد أخبر الله سبحانه في كتابه العظيم أن التكاسل عنها من صفات المنافقين الموعودين بالدرك الأسفل من النار، كما قال الله عز وجل في سورة النساء: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (2)
وقال سبحانه بشأن المنافقين في سورة التوبة: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} (3) {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (4)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صلاة الجماعة من سنن الهدى، برقم 1046.
(2) سورة النساء الآية 142
(3) سورة التوبة الآية 54
(4) سورة التوبة الآية 55(25/117)
نسأل الله لنا ولجميع المسلمين العافية من صفات الكفار والمنافقين، ونسأله سبحانه أن يوفقنا وجميع المسلمين للثبات على دينه والاستقامة عليه والسلامة من أسباب غضبه. إنه ولي ذلك والقادر عليه.(25/118)
29 - الرد على من يحتج بحديث
السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب على ترك الأسباب
س: هناك من يحتج بترك الأسباب بحديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. فما هو الرد عليهم؟
ج: هؤلاء السبعون ما تركوا الأسباب إنما تركوا شيئين وهما الاسترقاء والكي، والاسترقاء هو طلب الرقية من الناس.
وهذا الحديث يدل على أن ترك الطلب أفضل وهكذا ترك الكي أفضل لكن عند الحاجة إليهما لا بأس بالاسترقاء والكي؛ لأن النبي عليه السلام أمر عائشة أن تسترقي من مرض أصابها(25/118)
وأمر أم أولاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وهي أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن تسترقي لهم، فدل ذلك على أنه لا حرج في ذلك عند الحاجة إلى الاسترقاء، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: «الشفاء في ثلاث: كية نار أو شرطة محجم أو شربة عسل وما أحب أن أكتوي (1) » وقد كوى عليه السلام بعض أصحابه لما دعت الحاجة إلى الكي، لأنه سبب مباح عند الحاجة إليه، والاسترقاء: طلب الرقية، أما إن رقي من دون سؤال فهو من الأسباب أيضا لا بأس به ولا كراهة في ذلك، وهكذا بقية الأسباب المباحة كالأدوية المباحة من إبر وحبوب وشراب وغير ذلك.
أما الطيرة المذكورة في حديث السبعين فهي التشاؤم ببعض المرئيات أو المسموعات وهي محرمة ومن الشرك الأصغر إذا ردت المتشائم عن حاجته لقول الله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2)
__________
(1) أخرجه البخاري من حديث ابن عباس وجابر بن عبد الله في كتاب الطب، باب الشفاء في ثلاث، برقم 5249، وباب الدواء بالعسل، برقم 5251.
(2) سورة الأنفال الآية 2(25/119)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم أيضا: «الطيرة شرك، الطيرة شرك (2) » وقوله صلى الله عليه وسلم لما ذكرت عنده الطيرة: «أحسنها الفأل ولا تردن مسلما، إذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك (3) » وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك. قالوا: فما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك (4) » رواه أحمد.
فعلم مما ذكرنا من الأدلة أن التوكل لا يمنع تعاطي الأسباب، فالإنسان يأكل ويشرب فالأكل سبب للشبع ولقوام هذا البدن وسلامته، وهكذا الشرب ولا يجوز للإنسان أن يقول: أنا لا آكل ولا أشرب وأتوكل على الله في حياتي وأبقى صحيحا سليما. فهذا لا يقوله عاقل، وهكذا يلبس الثياب الثقيلة في الشتاء
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5753) ، صحيح مسلم السلام (2225) ، سنن ابن ماجه الطب (3540) .
(2) سنن الترمذي السير (1614) ، سنن أبو داود الطب (3910) ، سنن ابن ماجه الطب (3538) ، مسند أحمد بن حنبل (1/440) .
(3) سنن أبو داود الطب (3919) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (2/220) .(25/120)
للدفء، لأنه يضره البرد، وهكذا يتعاطى الأسباب الأخرى من إغلاق الباب حذرا من السراق، ويحمل السلاح عند الحاجة، وكل هذه أسباب مأمور بها الإنسان، والنبي صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين في أحد لبس السلاح، وفي بدر كذلك، وفي أحد ظاهر بين درعين ولبس اللأمة، وعليه المغفر حين دخل مكة، وكل هذه أسباب فعلها صلى الله عليه وسلم وهكذا أصحابه رضي الله عنهم.(25/121)
30 - لا يشهد لأحد بجنة أو بنار
إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم
س: قرأت في كتاب "شفاء العليل " رواية عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما «توفي طفل قالت: طوبى لك طير من طيور الجنة. فقال صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عائشة أنه في الجنة، لعل الله اطلع على ما كان يفعل؟» . والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة (1) » ذكر منهم:
__________
(1) سنن النسائي الطلاق (3432) ، سنن أبو داود الحدود (4398) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2041) ، مسند أحمد بن حنبل (6/101) ، سنن الدارمي الحدود (2296) .(25/121)
«الطفل حتى يحتلم (1) » والروايتان صحيحتان فلا أدري كيف الجمع بينهما؟ (2)
ج: هذا الحديث صحيح عند الشيخين، قالت فيه عائشة رضي الله عنها: عصفور من عصافير الجنة، قال النبي: «يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم (3) » .
والمقصود من هذا منعها من أن تشهد لأحد معين بالجنة أو بالنار، ولو كان طفلا لا يشهد له، فقد يكون تابعا لأبويه، وأبواه ليسا على الإسلام وإن أظهراه، فالإنسان قد يظهر الإسلام نفاقا، وقد تظهره أمه نفاقا، فلا يشهد لأحد بالجنة والنار، ولو طفلا، ولا يقال: هذا من أهل الجنة قطعا؛ لأنه لا يدري عن حال والديه، والأطفال تبع لآبائهم.
ومن كان مات على الصغر ولم يتبع للمسلمين فإنه يمتحن يوم القيامة على الصحيح؛ فإذا كان ليس ولدا للمسلمين بل
__________
(1) سنن الترمذي الحدود (1423) ، سنن أبو داود الحدود (4399) ، مسند أحمد بن حنبل (1/140) .
(2) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1644 بتاريخ 10 صفر 1419 هـ.
(3) أخرجه مسلم في كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، برقم 4813.(25/122)
لغيرهم من الكفار فإنه يمتحن يوم القيامة فإن أطاع دخل الجنة، وإن عصى دخل النار، كأهل الفترة.
فالصحيح أنهم يمتحنون، فهكذا الأطفال؛ ولهذا لما «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين قال: الله أعلم بما كانوا عاملين (1) » .
وجاء في السنة ما يدل على أنهم يمتحنون، يعني يختبرون يوم القيامة ويؤمرون بأمر، فإن أطاعوا دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار.
والمقصود من هذا أنه لا يشهد لأحد معين بجنة ولا بنار، إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه قاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة.
فإنكار الرسول صلى الله عليه وسلم على عائشة؛ لأنها شهدت بالتعيين؛ لأنها قالت: عصفور من عصافير الجنة. فلهذا أنكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم أن تقول هذا لأن هناك
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، برقم 1295، ومسلم في كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، برقم 4805.(25/123)
شيئا وراء هذا الأمر قد يكون سببا لعدم دخوله الجنة، وأنه يمتحن يوم القيامة؛ لأن والديه ليسا على الإسلام.
أما أولاد المسلمين فإنهم تبع لآبائهم عند أهل السنة والجماعة في الجنة، وأما أولاد الكفار فإنهم يمتحنون يوم القيامة وهذا هو الحق، فمن أطاع يوم القيامة دخل الجنة، ومن عصى دخل النار، كأهل الفترة، هذا هو الصواب، وهذا وجه الحديث.(25/124)
31 - ما صحة حديثين في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام
س: ما مدى صحة الحديثين المرويين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأول معناه: «من رآني فقد رآني حقا (1) » والحديث الآخر الذي معناه: «من رآني فقد حرمت عليه النار» وما معناهما؟ (2)
__________
(1) صحيح البخاري التعبير (6994) ، مسند أحمد بن حنبل (3/269) .
(2) نشر في جريدة المسلمون بتاريخ 4 \ 9 \ 1415 هـ، ونشر في هذا المجموع ج4، ص 445.(25/124)
ج: أما الحديث الأول وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «من رآني فقد رآني حقا (1) » فهذا حديث صحيح وله ألفاظ منها قوله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي (2) » ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتمثل بي (3) » في عدة ألفاظ وردت عنه عليه الصلاة السلام، وقد دلت كلها على أن عدو الله الشيطان قد حيل بينه وبين أن يتمثل في صورة النبي صلى الله عليه وسلم.
فمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقد رآه عليه السلام حقيقة، إذا رآه في صورته التي هي معروفة عند أهل العلم وهو عليه الصلاة والسلام ربعة من الرجال حسن الصورة أبيض مشرب بحمرة كث اللحية سوداء، وفي آخر حياته حصل فيها شعرات قليلة من الشيب عليه الصلاة والسلام، فمن
__________
(1) صحيح البخاري التعبير (6994) ، مسند أحمد بن حنبل (3/269) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، برقم 107، ومسلم في كتاب الرؤيا، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: '' من رآني'' برقم 206.
(3) أخرجه البخاري في كتاب التعبير، باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، برقم 6482، وفي آخره '' إن الشيطان لا يتكونني ''.(25/125)
رآه على صورته الحقيقية فقد رآه فإن الشيطان لا يتمثل به عليه الصلاة والسلام.
وأما الحديث الثاني: «من رآني فقد حرمت عليه النار» فهذا لا أصل له وليس بصحيح.(25/126)
32 - الجمع بين حديثين في صفة اليدين لله تعالى
س: ما موقفنا من حديث ابن عمر موقوفا عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أنا الله، أين الجبارون، أين المتكبرون؟ (1) » وكيف يجمع بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم: «إن كلتا يديه يمين (2) » ؟
ج: كلها أحاديث صحيحة عند علماء السنة، وحديث ابن عمر مرفوع صحيح، وليس موقوفا وليس بينها اختلاف بحمد الله. فالله سبحانه توصف يداه باليمين والشمال من حيث الاسم، كما في حديث ابن عمر وكلتاهما يمين مباركة من حيث الشرف والفضل، كما في الأحاديث الصحيحة الأخرى.
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7413) ، صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2788) ، سنن ابن ماجه الزهد (4275) ، مسند أحمد بن حنبل (2/88) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1827) ، سنن النسائي آداب القضاة (5379) ، مسند أحمد بن حنبل (2/160) .(25/126)
وكما دل على ذلك قوله تعالى: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «يمين الله ملآى لا تغيضها نفقة (2) » الحديث، واليمين ضدها الشمال بنص الحديث.
والمقصود من الآيات والأحاديث بيان أن الله سبحانه وتعالى له يمين وشمال من جهة الاسم، أما من جهة الفضل فكلتاهما يمين مباركة. ليس فيهما نقص بوجه من الوجوه، بل له سبحانه الكمال المطلق، في كل شيء بإجماع أهل السنة والجماعة، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، كما قال الله عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (3)
__________
(1) سورة الزمر الآية 67
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4684) ، صحيح مسلم الزكاة (993) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3045) ، سنن ابن ماجه المقدمة (197) ، مسند أحمد بن حنبل (2/313) .
(3) سورة المائدة الآية 64(25/127)
33 - ما صحة حديث:
«إن الله خلق آدم على صورته (1) »
س: الحديث الذي في صحيح البخاري كتاب الاستئذان: «إن الله خلق آدم على صورته (2) » وهو في الاستئذان وبدء الخلق، ولكنه جاء بلفظ: «إن الله خلق آدم على صورة
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2612) ، مسند أحمد بن حنبل (2/251) .
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2612) ، مسند أحمد بن حنبل (2/251) .(25/127)
الرحمن (1) » وقال ابن حجر رحمه الله: " قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن " ما صحة هذا الحديث؟ (2)
ج: هذا هو الصواب الحديث صحيح مثل ما قال إسحاق وأحمد وغيرهم معناه سميع بصير وليس معناه مثل سمع ابن آدم وبصره يقول الله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3) يعني أن الله خلق آدم على صورته سميعا بصيرا متكلما له يد وله قدم وليس مثل ابن آدم، تعالى الله عن الشبيه والنظير.
فالله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (4) ويقول سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (5) ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (6) ويقول جل وعلا: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} (7)
__________
(1) صحيح البخاري العتق (2560) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2612) ، مسند أحمد بن حنبل (2/251) .
(2) من ضمن أسئلة حج عام 1418 هـ.
(3) سورة الشورى الآية 11
(4) سورة الشورى الآية 11
(5) سورة الإخلاص الآية 4
(6) سورة مريم الآية 65
(7) سورة النحل الآية 74(25/128)
34 - حديث أن النبي صلى الله
عليه وسلم خلق من نور، لا أصل له
س: نسمع في بعض خطب الجمعة عندنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من نور وليس من تراب كسائر الناس، فما صحة هذا الكلام؟ (1)
ج: هذا الكلام باطل وليس له أصل، فالله خلق نبينا صلى الله عليه وسلم مثل ما خلق بقية البشر من ماء مهين من ماء أبيه عبد الله وأمه آمنة، كما قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (2) ومحمد صلى الله عليه وسلم من نسل آدم وجميع نسل آدم كلهم من سلالة ماء مهين.
أما من يرى أنه خلق من النور فهذا لا أصل له وهو حديث موضوع مكذوب باطل لا أصل له، وبعضهم يعزوه إلى مسند
__________
(1) نشر في جريدة عكاظ، العدد 11914، بتاريخ 24 \ 12 \ 1419 هـ.
(2) سورة السجدة الآية 8(25/129)
أحمد عن جابر، وهذا لا أصل له، وبعضهم يعزوه لمصنف عبد الرزاق وهذا لا أصل له.
إلا أن الله جعله صلى الله عليه وسلم نورا للناس بما أوحى إليه من الهدى من الكتاب العزيز والسنة المطهرة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (1) هذا النور هو محمد صلى الله عليه وسلم وكما قال سبحانه في الآية الأخرى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (2) {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (3) السراج المنير وهو نور لما أعطاه الله من الوحي العظيم من القرآن الكريم والسنة، فإن الله أنار بهما الطريق وأوضح بهما الصراط المستقيم وهدى بهما الأمة إلى الخير فهو نور وجاء بالنور عليه الصلاة والسلام، وليس معناه أنه خلق من نور.
__________
(1) سورة المائدة الآية 15
(2) سورة الأحزاب الآية 45
(3) سورة الأحزاب الآية 46(25/130)
35 - حديث السبعة الذين
يظلهم الله في ظله هل هو خاص بالرجال
س: هل حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله خاص بالذكور أم أن من عملت عمل هؤلاء من النساء تحصل على الأجر المذكور في الحديث؟ (1)
ج: ليس هذا الفضل المذكور في هذا الحديث خاصا بالرجال، بل يعم الرجال والنساء، فالشابة التي نشأت في عبادة الله داخلة في ذلك، وهكذا المتحابات في الله من النساء داخلات في ذلك، وهكذا كل امرأة دعاها ذو منصب وجمال إلى الفاحشة فقالت: إني أخاف الله، داخلة في ذلك، وهكذا من تصدقت بصدقة من كسب طيب لا تعلم شمالها ما تنفق يمينها داخلة في ذلك، وهكذا من ذكر الله خاليا من النساء داخل في ذلك كالرجال، أما الإمامة فهي من خصائص الرجال، وهكذا صلاة
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، جمع محمد المسند، ص 113.(25/131)
الجماعة في المساجد تختص بالرجال، وصلاة المرأة في بيتها أفضل لها كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله ولي التوفيق.(25/132)
كتاب الطهارة(25/133)
صفحة فارغة(25/134)
3602 - ما صحة حديث:
«كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله ... »
س: ما مدى صحة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر أقطع أجذم» ؟
ج: جاء هذا الحديث من طريقين أو أكثر عند ابن حبان وغيره، وقد ضعفه بعض أهل العلم والأقرب أنه من باب الحسن لغيره، وبالله التوفيق.(25/135)
37 - ما صحة حديث: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه (1) »
س: ما حكم التسمية قبل الوضوء، وإذا لم يسم الإنسان، فما حكم وضوئه جزاكم الله خيرا؟ (2)
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (25) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (398) .
(2) من برنامج نور على الدرب في 22 \ 2 \ 1413 هـ.(25/135)
ج: بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه أما بعد:
فالتسمية عند الوضوء سنة عند الجمهور (جمهور العلماء) وذهب بعض أهل العلم إلى وجوبها مع الذكر، فينبغي للمؤمن أن لا يدعها، فإن نسي أو جهل فلا شيء عليه ووضوءه صحيح.
أما إن تعمد تركها وهو يعلم الحكم الشرعي، فينبغي له أن يعيد الوضوء احتياطا وخروجا من الخلاف؛ لأنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه (1) » وهذا الحديث جاء من طرق، وقد حكم جماعة من العلماء أنه غير ثابت، وأنه ضعيف، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: إنه حسن بسبب كثرة الطرق، وذلك من باب الحسن لغيره، فينبغي للمؤمن أن يجتهد في التسمية عند أول الوضوء وهكذا المؤمنة فإن نسيا ذلك أو جهلا ذلك فلا حرج.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التسمية عند الوضوء برقم 25، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في التسمية عند الوضوء برقم 392.(25/136)
38 - حكم من انتقض وضوءه
في الصلاة بريح أو رعاف كثير
س: ذكر أن من نواقض الوضوء القيء الفاحش، والدم الفاحش: وهو الرعاف، إذا حدث لشخص ما أثناء الصلاة الرباعية خروج رعاف من الأنف، وقد قيل في ذلك: بأنه يخرج من الصلاة، ويذهب إلى المرحاض ويتوضأ، ثم يعود ويكمل الركعتين التي بقيت، فهل هذا صحيح؟ وجزاكم الله خيرا (1) .
ج: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم وبعد:
فإن من انتقض وضوءه في الصلاة بريح أو رعاف كثير أو غيرهما، فإن صلاته تبطل في أصح قولي العلماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف،
__________
(1) رد على رسالة شخصية، ونشر في هذا المجموع ج 10، ص 158.(25/137)
وليتوضأ، ثم ليعد الصلاة (1) » أخرجه الإمام أحمد، وأهل السنن، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في البلوغ.
أما الحديث الذي فيه البناء على ما مضى من الصلاة فهو حديث ضعيف، كما أوضح ذلك أيضا الحافظ ابن حجر في البلوغ.
وفق الله الجميع. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب من يحدث في الصلاة، برقم 177، والترمذي في كتاب الرضاع، باب ما جاء في كراهية إتيان النساء في أدبارهن، برقم 1084.(25/138)
39 - شرح حديث إن حيضتك ليست في يدك
س: ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أناوله شيئا من المسجد فقلت: إني حائض. فقال: إن حيضتك ليست في يدك (1) » أرجو
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الحيض (298) ، سنن الترمذي كتاب الطهارة (134) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (384) ، سنن أبو داود الطهارة (261) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (632) ، مسند أحمد بن حنبل (6/245) ، سنن الدارمي كتاب الطهارة (771) .(25/138)
شرح هذا الحديث، وهل معنى هذا أن الحائض لا تدخل المسجد ولا تعمل شيئا؟ أفيدونا أفادكم الله. (1)
ج: النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب (2) » والله قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} (3) فاستثنى الله عابر السبيل من أهل الجنابة، والحائض كذلك ليس لها أن تجلس في المسجد، ولكن لها أن تعبر، فالعابرة لا بأس عليها أن تمر من باب إلى باب، أو تدخل لتأخذ حاجة من المسجد: إناء أو كتابا أو ما أشبه ذلك؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما قال لعائشة رضي الله عنها: «ناوليني الخمرة من المسجد (4) » ، والخمرة: مصلى يصلي عليه من الخوص - عليه
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط رقم 109، ونشر في هذا المجموع ج10، ص218.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الجنب يدخل المسجد، برقم 201
(3) سورة النساء الآية 43
(4) صحيح مسلم كتاب الحيض (298) ، سنن الترمذي كتاب الطهارة (134) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (384) ، سنن أبو داود الطهارة (261) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (632) ، مسند أحمد بن حنبل (6/112) ، سنن الدارمي الطهارة (1065) .(25/139)
الصلاة والسلام - قالت: (إنها حائض) فقال لها: «إن حيضتك ليست في يدك (1) » .
فالمعنى: أنه ليس هناك مانع من دخولها لأخذ الحاجة، فلا بأس بذلك. إنما الممنوع: جلوسها في المسجد، أما أن تعبر من المسجد أو تدخله لحاجة ثم ترجع من غير جلوس فلا بأس بذلك؛ للآية الكريمة والحديث المذكور.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله برقم 450(25/140)
كتاب الصلاة(25/141)
صفحة فارغة(25/142)
40 - قراءة الفاتحة للمأموم خلف الإمام
س: ما حكم وقوف الإمام بعد الفاتحة لحين يقرأ المأموم الفاتحة وإذا لم يقف الإمام تلك الوقفة فمتى يقرأ المأموم الفاتحة؟ (1)
ج: ليس هناك دليل صريح يدل على شرعية سكوت الإمام حتى يقرأ المأموم الفاتحة في الصلاة الجهرية. أما المأموم فالمشروع له أن يقرأها في حالة سكتات إمامه إن سكت فإن لم يتيسر ذلك قرأها المأموم سرا ولو كان إمامه يقرأ، ثم ينصت بعد ذلك لإمامه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب (2) » متفق عليه.
وقوله عليه الصلاة والسلام: «لعلكم تقرءون خلف إمامكم قالوا: نعم، قال: لا تفعلوا إلا
__________
(1) نشر في كتاب الدعوة، ج 1، ص 60.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات، برقم 714، ومسلم في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، برقم 595.(25/143)
بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها (1) » رواه أحمد وأبو داود وابن حبان بإسناد حسن.
وهذان الحديثان يخصصان قوله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا (3) » الحديث رواه مسلم في صحيحه، لكن لو ترك المأموم قراءة الفاتحة جاهلا أو ناسيا صحت صلاته في أصح قولي العلماء لأن قراءتها في حقه واجبة لا ركن، وهكذا لو جاء المأموم والإمام راكع فركع معه أجزأته الركعة وسقطت عنه الفاتحة لفوات محلها، والأصل في هذا حديث أبي بكرة الثقفي رضي الله عنه أنه «جاء إلى الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم راكع فركع دون الصف ثم دخل في الصف فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " زادك الله حرصا ولا تعد (4) » رواه البخاري في صحيحه ولم يأمره لقضاء الركعة فدل ذلك على
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين برقم 21688، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، برقم 701.
(2) سورة الأعراف الآية 204
(3) صحيح البخاري الصلاة (378) ، صحيح مسلم الصلاة (411) ، سنن الترمذي الصلاة (361) ، سنن النسائي الإمامة (832) ، سنن أبو داود الصلاة (601) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1238) ، مسند أحمد بن حنبل (3/200) ، موطأ مالك النداء للصلاة (306) ، سنن الدارمي الصلاة (1256) .
(4) صحيح البخاري الأذان (783) ، سنن النسائي الإمامة (871) ، سنن أبو داود الصلاة (684) ، مسند أحمد بن حنبل (5/42) .(25/144)
سقوط الفاتحة عمن لم يدرك القيام مع الإمام وفي حكمه من تركها جاهلا أو ناسيا من المأمومين في أصح قولي العلماء كما تقدم والله ولي التوفيق.(25/145)
41 - شرح حديث: «خير صفوف النساء آخرها (1) »
س: الأخت ح. ع. م. من الرياض تقول في سؤالها: نحن مجموعة من النساء نصلي في المسجد في رمضان في مكان منعزل عن الرجال بحيث لا يروننا ولا نراهم وقد لاحظت أن الأخوات لا يكملن الصفوف الأول ولا يسوينها وقد احتج بعضهن بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها (2) » فقلت لهن إن هذا الحديث يقصد به عندما كان النساء يصلين خلف الرجال بدون ساتر أما الآن فقد اختلف الوضع ولكنهن لم يسمعن نرجو من سماحتكم إفادتنا عن المشروع في هذا حيث إن هذا هو الحال في كثير من مساجد المسلمين؟ جزاكم الله خيرا.
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (440) ، سنن الترمذي الصلاة (224) ، سنن النسائي الإمامة (820) ، سنن أبو داود الصلاة (678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1000) ، مسند أحمد بن حنبل (2/340) ، سنن الدارمي الصلاة (1268) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها برقم 664.(25/145)
ج: الحديث المذكور صحيح ولكنه محمول عند أهل العلم على المعنى الذي ذكرت وهو كون الرجال ليس بينهم وبين النساء حائل، أما إذا كن مستورات عن الرجال فخير صفوفهن أولها وشرها آخرها كالرجال، وعليهن إتمام الصفوف الأول فالأول وسد الفرج كالرجال لعموم الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.(25/146)
42 - كيف الجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: «أفتان أنت يا معاذ (1) » وبين فعله في قراءته بسورة البقرة وآل عمران
س: كيف نجمع بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أفتان أنت يا معاذ (2) » ، وفعله هو عليه الصلاة والسلام حيث ثبت عنه أنه قرأ بالبقرة وآل عمران والمائدة والأعراف وغيرها؟ (3)
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الأذان (705) ، صحيح مسلم الصلاة (465) ، سنن النسائي الإمامة (835) ، سنن أبو داود الصلاة (790) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (986) ، مسند أحمد بن حنبل (3/308) ، سنن الدارمي الصلاة (1296) .
(2) صحيح البخاري كتاب الأذان (705) ، صحيح مسلم الصلاة (465) ، سنن النسائي الإمامة (835) ، سنن أبو داود الصلاة (790) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (986) ، مسند أحمد بن حنبل (3/308) ، سنن الدارمي الصلاة (1296) .
(3) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من المجلة العربية(25/146)
ج: مراده صلى الله عليه وسلم الحث على التخفيف إذا كان إماما يصلي بالناس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أيكم أم الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف وذا الحاجة، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء (1) » .
وكان صلى الله عليه وسلم أخف الناس صلاة في تمام، كما قال أنس رضي الله عنه: «ما صليت خلف أحد أتم صلاة ولا أخف صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم (2) » متفق عليه.
أما إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء. وقراءته صلى الله عليه وسلم بالبقرة والنساء وآل عمران كانت في تهجده بالليل. وفق الله الجميع.
__________
(1) رواه البخاري في الأذان باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء برقم 662، ومسلم في الصلاة باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام برقم 714.
(2) رواه البخاري في الأذان باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي برقم 667، ومسلم في الصلاة باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام برقم 721) .(25/147)
43 - الجمع بين الأحاديث التي وردت في كيفية السجود
سيدي الفاضل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فتعقيبا على ما جاء في كتابكم كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في ص 16 ونصه: ( ... ويسجد مكبرا واضعا ركبتيه قبل يديه إذا تيسر ذلك فإن شق عليه قدم ركبتيه مستقبلا.... حتى.... انبساط الكلب " وهذا خلاف ما كتب الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في كتابه " صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم" عن سجود اليدين قبل الركبتين. وما قول فضيلتكم في الحديث الذي رواه أبو داود جاء فيه: «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه (1) » .
كذلك أرجو من فضيلتكم التوضيح لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وبيان سنده حول القراءة زيادة على الفاتحة في الأخريين.
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (269) ، سنن النسائي التطبيق (1091) ، سنن أبو داود الصلاة (840) ، مسند أحمد بن حنبل (2/381) ، سنن الدارمي الصلاة (1321) .(25/148)
وفقنا الله لما فيه الخير العميم ونسأله أن يبعد عنا الشر والأشرار والنار والدمار آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. أختكم في الإسلام \ ح. ع. ن.
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخت في الله ح. ع. وفقها الله لكل خير وأتم عليها نعمة الإسلام آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد (1) :
فإجابة لرسالتك المؤرخة في يوم السبت 23 \ رجب \ 1413 هـ. والتي تعقبين فيها على رسالة سابقة منك بتاريخ 17 \ ربيع الأول \ 1413هـ. لقد سرني فيها حرصك على العلم واهتمامك بالبحث في الأمور الشرعية زادك الله توفيقا ورزقك الله العلم النافع والعمل الصالح.
أما الرسالة الأولى فلا أذكرها. واستيضاحك عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه في بروك البعير ومدى مخالفته لحديث وائل بن حجر في كيفية سجود رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أفيدك بأن نص حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سجد أحدكم فلا يبرك
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم 2852 \ 1 في تاريخ 16 \ 12 \ 1413 هـ.(25/149)
كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه (1) » . وصدر الحديث لا يخالف حديث وائل بن حجر الذي قال فيه: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه (2) » وذلك في تقديم الركبتين لأن البعير يبرك على يديه أولا، فإذا قدم المصلي ركبتيه لم يبرك بروك البعير.
وأما قوله في آخره «وليضع يديه قبل ركبتيه (3) » فالأظهر أن ذلك انقلاب على الراوي لأنه يخالف صدر الحديث.
والصواب وليضع ركبتيه قبل يديه حتى يتفق آخر الحديث مع أوله.. ومع حديث وائل بن حجر المذكور وما جاء في معناه.
أما حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الذي سألت عنه فقد رواه مسلم في صحيحه وهذا نصه: «قال كنا نحزر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر " الم تنزيل " السجدة وفي
__________
(1) أخرجه أحمد في باقي مسند المكثرين برقم 8598 وأبو داود في كتاب الصلاة، باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه برقم 714.
(2) سنن الترمذي الصلاة (268) ، سنن النسائي الافتتاح (889) ، سنن أبو داود الصلاة (838) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (882) ، مسند أحمد بن حنبل (4/319) .
(3) سنن الترمذي الصلاة (269) ، سنن النسائي التطبيق (1091) ، سنن أبو داود الصلاة (840) ، مسند أحمد بن حنبل (2/381) ، سنن الدارمي الصلاة (1321) .(25/150)
الأخريين قدر النصف من ذلك، وفي الأوليين من العصر على قدر الآخرين من الظهر، والآخريين على النصف من ذلك (1) » وفقك الله لما فيه خيرا الدنيا والآخرة، وزادك الله حرصا وطاعة لله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية الإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر برقم 687.(25/151)
44 - ما صحة حديث: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه ... (1) »
س: جاء في الحديث عن [أبي جهيم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه (2) » رواه البخاري ومسلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم] ، فهل الحديث صحيح كتابة أم فيه أخطاء حيث وجد اشتباه في: «أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر (3) » . وفقكم الله (4) .
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (510) ، صحيح مسلم الصلاة (507) ، سنن الترمذي الصلاة (336) ، سنن النسائي القبلة (756) ، سنن أبو داود الصلاة (701) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (945) ، مسند أحمد بن حنبل (4/169) ، موطأ مالك النداء للصلاة (365) ، سنن الدارمي الصلاة (1417) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (510) ، صحيح مسلم الصلاة (507) ، سنن الترمذي الصلاة (336) ، سنن النسائي القبلة (756) ، سنن أبو داود الصلاة (701) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (945) ، مسند أحمد بن حنبل (4/169) ، موطأ مالك النداء للصلاة (365) ، سنن الدارمي الصلاة (1417) .
(3) صحيح البخاري الصلاة (510) ، صحيح مسلم الصلاة (507) ، سنن الترمذي الصلاة (336) ، سنن النسائي القبلة (756) ، سنن أبو داود الصلاة (701) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (945) ، مسند أحمد بن حنبل (4/169) ، موطأ مالك النداء للصلاة (365) ، سنن الدارمي الصلاة (1417) .
(4) نشر في كتابة الدعوة ج 1 ص 84.(25/151)
ج: الحديث صحيح، رواه البخاري ومسلم في الصحيحين ولفظه هو كما ذكر في السؤال، وأما ما يوجد في بعض الكتب من زيادة [من ثم] بعد قوله (ماذا عليه) فليست هذه الزيادة صحيحة من جهة الرواية ولكن معناها صحيح.(25/152)
45 - حكم مرور النساء بين يدي المصلين في المسجد الحرام
س: لقد وجدت حديثا مثبتا وهذا نصه: «إذا كان أحدكم في صلاة، فمر أمامه حمار أو كلب أسود أو امرأة فإن صلاته باطلة» إذا كان نص الحديث صحيحا فما رأيكم في الذين يصلون في الحرم الشريف وتمر النساء أمامهم وهن طائفات؟ (1)
ج: الحديث صحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يقطع صلاة المرء المسلم إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل:
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط الثامن.(25/152)
المرأة والحمار والكلب الأسود (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه (2) ، وروي مثله عن أبي هريرة - رضي الله عنه - لكن ليس فيه تقييد الكلب بالأسود، والمقصود أن هذا ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والقاعدة أن المطلق يحمل على المقيد فإذا مر بين يدي المصلي أو بينه وبين سترته كلب أسود أو حمار أو امرأة، كل واحد يقطع صلاته. هكذا جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الأصح من أقوال أهل العلم وفي ذلك خلاف بين أهل العلم:
- منهم من يؤوله على أن المراد قطع الثواب، أو قطع الكمال.
- ولكن الصواب أنها تقطع الصلاة وأنها تبطل بذلك.
لكن ما يقع في المسجد الحرام معفو عنه عند أهل العلم؛ لأن في المسجد الحرام لا يمكن للإنسان أن يتقي ذلك بسبب الزحام ولا سيما في أيام الحج فهذا مما يعفى عنه في المسجد الحرام ويستثنى من عموم الأحاديث، فما يقع من مرور بعض النساء أو الطائفات بين يدي المصلين في المسجد الحرام لا يضرهم وصلاتهم صحيحة: النافلة والفريضة، هذا هو المعتمد عند أهل العلم.
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (338) ، سنن النسائي القبلة (750) ، سنن أبو داود الصلاة (702) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (952) ، مسند أحمد بن حنبل (5/160) ، سنن الدارمي الصلاة (1414) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي برقم 789.(25/153)
46 - حكم وجود المرأة أمام المصلي
س: كيف نجمع بين حديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنه لا يقطع الصلاة إلا المرأة والكلب الأسود والحمار، وبين حديث أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تنام أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي حتى إذا أراد أن يوتر غمزها فقامت؟ (1)
ج: ليس بين الحديثين تخالف؛ لأن وجودها أمامه وهي في الفراش لا يسمى مرورا وهكذا انسلالها من الفراش ليس مرورا.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.(25/154)
47 - شرح حديث: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة (1) »
س: نرجو من فضيلتكم شرحا مبسطا لحديث: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة (2) » ؟ (3)
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (710) ، سنن الترمذي الصلاة (421) ، سنن النسائي الإمامة (865) ، سنن أبو داود الصلاة (1266) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1151) ، مسند أحمد بن حنبل (2/455) ، سنن الدارمي الصلاة (1448) .
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (710) ، سنن الترمذي الصلاة (421) ، سنن النسائي الإمامة (865) ، سنن أبو داود الصلاة (1266) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1151) ، مسند أحمد بن حنبل (2/455) ، سنن الدارمي الصلاة (1448) .
(3) من برنامج نور على الدرب.(25/154)
ج: الحديث على ظاهره رواه مسلم في الصحيح (1) . ومعنى إذا أقيمت الصلاة أي إذا شرع المؤذن في الإقامة فإن الذي يصلي يقطع صلاته النافلة سواء كانت راتبة أو تحية المسجد يقطعها ويشتغل بالاستعداد للدخول في الفريضة وليس له الدخول في الصلاة بعد ما أقيمت الصلاة بل يقطع الصلاة التي هو فيها ويمتنع من الدخول في صلاة جديدة؛ لأن الفريضة أهم، هذا هو معنى هذا الحديث الصحيح في أصح قولي العلماء. وقال بعض أهل العلم يتمها خفيفة ولا يقطعها ويحتجون بقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (2) لكن من قال يقطعها وهو القول الصحيح كما تقدم يجيب عن الآية الكريمة بأنها عامة وهذا خاص والخاص يقدم على العام ولا يخالفه وهذه قاعدة جليلة معروفة عند أهل العلم وأمثلتها كثيرة، وقيل المراد بالآية المذكورة وهي قوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (3) النهي عن إبطالها بالردة وهذه ليست ردة.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب كراهته الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن في الإقامة برقم 1161.
(2) سورة محمد الآية 33
(3) سورة محمد الآية 33(25/155)
وبكل حال فالآية عامة وقطع الصلاة التي هو فيها عند إقامة الصلاة دليلها خاص والخاص يخص العام ولا يخالفه ويقضي عليه وهذا هو الذي نعتقده ونفتي به أنه إذا كان المصلي في النافلة وأقيمت الصلاة فإنه يقطعها ولا يتمها إلا إذا كان في آخرها قد ركع الركوع الثاني أو في السجود أو في التحيات فإنه يتمها، لأن أقل الصلاة ركعة ولم يبق إلا أقل منها فإتمامها لا يخالف الحديث المذكور، وهذا هو الأفضل ولا يخالف هذا الحديث الصحيح.(25/156)
48 - ما المراد بدبر الصلاة
س: ما المراد بدبر الصلاة في الأحاديث التي ورد فيها الحث على الدعاء أو الذكر دبر كل صلاة؟ هل هو آخر الصلاة أو بعد السلام؟ (1) .
ج: دبر الصلاة يطلق على آخرها قبل السلام، ويطلق على ما بعد السلام مباشرة، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك وأكثرها يدل على أن المراد آخرها قبل السلام فيما يتعلق بالدعاء كحديث ابن
__________
(1) نشر في هذا المجموع ج11، ص194.(25/156)
مسعود رضي الله عنه لما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم التشهد، ثم قال: «ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو (1) » . وفي لفظ: «ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء (2) » . متفق على صحته.
ومن ذلك حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك (3) » أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد صحيح. ومن ذلك ما رواه البخاري رحمه الله عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة: اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا ومن عذاب القبر (4) » .
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (835) ، صحيح مسلم الصلاة (402) ، سنن النسائي السهو (1298) ، سنن أبو داود الصلاة (968) ، مسند أحمد بن حنبل (1/431) ، سنن الدارمي الصلاة (1340) .
(2) صحيح مسلم الصلاة (402) ، سنن النسائي السهو (1298) ، سنن أبو داود الصلاة (968) ، سنن الدارمي الصلاة (1340) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الاستغفار برقم 1301، والنسائي في كتاب السهو، باب نوع آخر من الدعاء برقم 1286.
(4) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب التعوذ من عذاب القبر برقم 5888.(25/157)
أما الأذكار الواردة في ذلك، فقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن ذلك في دبر الصلاة بعد السلام. ومن ذلك أن يقول حين يسلم: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام سواء كان إماما أو مأموما أو منفردا ثم ينصرف الإمام بعد ذلك إلى المأمومين ويعطيهم وجهه ويقول الإمام والمأموم والمنفرد بعد هذا الذكر والاستغفار: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله. لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن. لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
ويستحب أن يقول المسلم والمسلمة هذا الذكر بعد كل صلاة من الصلوات الخمس ثم يسبح الله ويحمده ويكبره ثلاثا وثلاثين، ثم يقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وهذا كله قد ثبتت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستحب أن يقرأ(25/158)
بعد ذلك آية الكرسي مرة واحدة سرا ويقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين بعد كل صلاة سرا مرة واحدة، إلا في المغرب والفجر فيستحب له أن يكرر قراءة السور الثلاث المذكورة ثلاث مرات، ويستحب أيضا للمسلم والمسلمة بعد صلاة المغرب والفجر أن يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، عشر مرات زيادة على ما تقدم قبل قراءة آية الكرسي وقبل قراءة السور الثلاث. عملا بالأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك. والله ولي التوفيق.(25/159)
49 - حكم صلاة المنفرد خلف الصف
س: أرجو من سماحتكم إفادتنا عن صلاة الرجل منفردا خلف الصف في الفريضة، هل هي صحيحة أم عليه الإعادة كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي رآه منفردا خلف الصف بالإعادة، وهل هذا الحديث صحيح أم غير صحيح أم منسوخ أم يتضارب مع أحاديث أخرى في هذا الصدد؟(25/159)
نرجو توضيح ذلك توضيحا شافيا كافيا؛ لأنه كثر الجدل في ذلك، وهل يجوز لمن أتى إلى المسجد والصف الأول منه منته ويخشى فوات الركعة أن يسحب رجلا من وسط الصف أم يكبر ويدخل في الصلاة أم ينتظر، مع العلم أنه إذا انتظر يخشى فوات الركعة؟ أفتونا بارك الله فيكم (1) .
ج: لا يجوز للمسلم أن يصلي خلف الصف وحده؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة لمنفرد خلف الصف (2) » وإذا صلى وحده وجب عليه أن يعيد، لهذا الحديث وللحديث الذي ذكرته في السؤال وهما حديثان صحيحان.
وليس له أن يجر من الصف أحدا؛ لأن الحديث الوارد في ذلك ضعيف، وعليه أن يتمس فرجة في الصف حتى يدخل فيها أو يصف عن يمين الإمام إن تيسر ذلك، فإن لم يتيسر له ذلك انتظر حتى يوجد من يصف معه ولو فاتته ركعة، هذا هو الأصح من قولي العلماء للأحاديث المذكورة وغيرها مما جاء في هذا المعنى.
__________
(1) نشر في كتاب الدعوة، الجزء الثاني، ص 106.
(2) أخرجه الإمام أحمد في أول مسند المدنيين حديث علي بن شيبان - رضي الله عنه - برقم 15708.(25/160)
والواجب على أهل العلم في مسائل التنازع ردها إلى الله ورسوله وعدم التقليد في ذلك؛ لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) ولقوله سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10(25/161)
50 - حكم اتكاء المصلي على إلية يده
س: ذكر بعض أهل العلم - رحمهم الله - أنه لا يجوز أن يتكئ الرجل على إلية يده اليسرى، وقد ذكر شيخ الإسلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مر على رجل متكئ على يده اليسرى في الصلاة فقال له المصطفى - عليه الصلاة والسلام - إنها جلسة المغضوب عليهم (1) » فهل هذا الفعل أي الاتكاء على اليد اليسرى خاص بالصلاة أم على العموم؟ (2)
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (4848) ، مسند أحمد بن حنبل (4/388) .
(2) من فتاوى الحج، الشريط الرابع.(25/161)
ج: نعم ورد حديث في إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، والذي يظهر أنه عام في الصلاة وغير الصلاة كونه يتكئ على يده اليسرى يتكئ على إليتها، هكذا ظاهر الحديث المنع من ذلك.(25/162)
51 - ما صحة الحديث الذي معناه
أن أكثر من ثلاث حركات في الصلاة تبطلها
س: مشكلتي أنني كثير الحركة في الصلاة.. وقد سمعت أن هناك حديثا معناه أن أكثر من ثلاث حركات في الصلاة تبطلها.. فما صحة هذا الحديث، وما السبيل إلى التخلص من كثرة العبث في الصلاة؟ (1)
ج: السنة للمؤمن أن يقبل على صلاته ويخشع فيها بقلبه وبدنه سواء كانت فريضة أو نافلة لقول الله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (2) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (3) وعليه أن يطمئن فيها وذلك من أهم أركانها وفرائضها «لقول النبي - صلى الله عليه
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1269 بتاريخ 19 \ 5 \ 1411هـ.
(2) سورة المؤمنون الآية 1
(3) سورة المؤمنون الآية 2(25/162)
وسلم - للذي أساء في صلاته ولم يطمئن فيها: ارجع فصل فإنك لم تصل، فعل ذلك ثلاث مرات، فقال الرجل: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فعلمني، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها (1) » متفق على صحته.
وفي رواية لأبي داود قال فيها: «ثم اقرأ بأم القران وبما شاء الله (2) » وهذا الحديث الصحيح يدل على أن الطمأنينة ركن في الصلاة وفرض عظيم فيها لا تصح بدونها، فمن نقر صلاته فلا صلاة له والخضوع هو لب الصلاة وروحها، فالمشروع للمؤمن أن يهتم بذلك ويحرص عليه، أما تحديد الحركات المنافية للطمأنينة وللخشوع بثلاث حركات فليس ذلك بحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما ذلك من كلام بعض أهل العلم وليس
__________
(1) صحيح البخاري الاستئذان (6251) ، صحيح مسلم الصلاة (397) ، سنن الترمذي الصلاة (303) ، سنن النسائي الافتتاح (884) ، سنن أبو داود الصلاة (856) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) ، مسند أحمد بن حنبل (2/437) .
(2) سنن أبو داود الصلاة (856) .(25/163)
عليه دليل يعتمد. ولكن يكره العبث في الصلاة كتحريك الأنف واللحية والملابس والاشتغال بذلك، وإذا كثر العبث وتوالى أبطل الصلاة. أما إن كان قليلا عرفا أو كان كثيرا ولكن لم يتوال فإن الصلاة لا تبطل به ولكن يشرع للمؤمن أن يحافظ على الخشوع ويترك العبث قليله وكثيره حرصا على تمام الصلاة وكمالها.
ومن الأدلة على أن العمل القليل والحركات القليلة في الصلاة لا تبطلها، وهكذا العمل والحركات المتفرقة غير المتوالية ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه فتح الباب يوما لعائشة وهو يصلي.. وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - «أنه صلى ذات يوم بالناس وهو حامل أمامة بنت ابنته زينب فكان إذا سجد وضعها وإذا قام حملها (1) » . والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (516) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (543) ، سنن النسائي السهو (1205) ، سنن أبو داود الصلاة (917) ، مسند أحمد بن حنبل (5/303) ، موطأ مالك النداء للصلاة (412) ، سنن الدارمي الصلاة (1360) .(25/164)
52 - ما صحة حديث صلاة الحاجة
س: هل الحديث الذي رواه أحمد في صلاة الحاجة صحيح أم لا؟ (1)
ج: نعم، روى أحمد - رحمه الله - وغيره بإسناد صحيح عن علي - رضي الله عنه - عن الصديق - رضي الله عنه - أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قال: «من أذنب ذنبا ثم تاب ثم تطهر وصلى ركعتين فتاب إلى الله من ذلك تاب الله عليه (2) » أو كما قال - عليه الصلاة والسلام -. هذا صحيح وثابت وهو من الأسباب المعروفة إذا أذنب وأتى شيئا مما يكرهه الله ثم تطهر وصلى ركعتين - صلاة التوبة - ثم سأل ربه واستغفره فهو حري بالتوبة كما وعده الله بذلك، وحديث صلاة الاستخارة يسمى أيضا صلاة الحاجة لأن الاستخارة في الحاجات التي تهم الإنسان فيشرع له أن يصلي ركعتين ويستخير الله في ذلك.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط رقم 7.
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، برقم 46.(25/165)
53 - تغيير المكان لأداء السنة بعد الصلاة
س: هل ورد في تغيير المكان لأداء السنة بعد الصلاة ما يدل على استحبابه؟ (1)
ج: لم يرد في ذلك فيما أعلم حديث صحيح ولكن كان ابن عمر - رضي الله عنهما - وكثير من السلف يفعلون ذلك والأمر في ذلك واسع والحمد لله.
وقد ورد فيه حديث ضعيف عند أبي داود رحمه الله.. وقد يعضده فعل ابن عمر - رضي الله عنهما - ومن فعله من السلف الصالح، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سؤال شخصي أجاب عنه سماحته.(25/166)
54 - ما الحكمة من تغيير المكان لأداء السنة
س: ما الحكمة في أن المصلي إذا انتهى من أداء الصلاة وقام يؤدي السنة غير مكانه إلى مكان آخر غير الذي صلى فيه الفريضة؟ (1)
__________
(1) نشر في كتاب الدعوة، الجزء الثاني ص 122.(25/166)
ج: لم يثبت في تغيير المكان حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما نعلم، وإنما ورد في ذلك بعض الأحاديث الضعيفة.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن الحكمة في ذلك على القول بشرعيته هي شهادة البقاع التي يصلى فيها، والله سبحانه أعلم وهو الحكيم العليم.(25/167)
55 - شرح حديث أنه - عليه الصلاة
والسلام - «صلى بالمدينة ثمانا جمعا وسبعا جمعا (1) »
س: أرجو التوضيح عما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالمدينة ثمانا جميعا وسبعا جميعا (2) » وجاء في رواية مسلم في صحيحه: أن المراد بذلك الظهر والعصر والمغرب والعشاء. وقال في روايته: «من غير خوف ولا مطر (3) » . وفي لفظ آخر: «من غير خوف ولا سفر (4) » ؟ حفظكم الله ورعاكم.
ج: أن يقال قد سئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن ذلك فقال: لئلا يحرج أمته. قال أهل العلم: معنى ذلك لئلا يوقعهم في
__________
(1) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (543) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (705) ، سنن الترمذي الصلاة (187) ، سنن النسائي المواقيت (602) ، سنن أبو داود الصلاة (1214) ، مسند أحمد بن حنبل (1/251) ، موطأ مالك النداء للصلاة (332) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1174) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (705) ، سنن النسائي المواقيت (589) ، سنن أبو داود الصلاة (1214) ، مسند أحمد بن حنبل (1/349) .
(3) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (543) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (705) ، سنن الترمذي الصلاة (187) ، سنن النسائي المواقيت (602) ، سنن أبو داود الصلاة (1211) ، موطأ مالك النداء للصلاة (332) .
(4) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (705) ، سنن الترمذي الصلاة (187) ، سنن النسائي المواقيت (601) ، سنن أبو داود الصلاة (1210) ، موطأ مالك النداء للصلاة (332) .(25/167)
الحرج. وهذا محمول على أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بالمدينة لسبب يقتضي رفع الحرج والمشقة عن الصحابة في ذلك اليوم؛ إما لمرض عام وإما لدحض وإما لغير ذلك من الأعذار التي يحصل بها المشقة على الصحابة ذلك اليوم. وقال بعضهم: إنه جمع صوري وهو أنه أخر الظهر إلى آخر وقتها وقدم العصر في أول وقتها وأخر المغرب إلى آخر وقتها وقدم العشاء في أول وقتها. وقد روى ذلك النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس راوي الحديث وهو محتمل. ولم يذكر ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذا الحديث أن هذا العمل تكرر من النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل ظاهره أنه إنما وقع منه مرة واحدة. قال الإمام أبو عيسى الترمذي - رحمه الله - ما معناه: إنه ليس في كتاب - يعني الجامع - حديث أجمع العلماء على ترك العمل به سوى هذا الحديث وحديث آخر في قتل شارب المسكر في الرابعة. ومراده: أن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز الجمع إلا بعذر شرعي، وأنهم قد أجمعوا على أن جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - الوارد في هذا الحديث محمول على أنه وقع لعذر. جمعا بينه وبين بقية الأحاديث الصحيحة الكثيرة الدالة على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي(25/168)
كل صلاة في وقتها ولا يجمع بين الصلاتين إلا لعذر وهكذا خلفاؤه الراشدون وأصحابه جميعا - رضي الله عنهم - والعلماء بعدهم ساروا على هذا السبيل ومنعوا من الجمع إلا من عذر، سوى جماعة نقل عنهم صاحب النيل جواز الجمع إذا لم يتخذ خلقا ولا عادة وهو قول مردود للأدلة السابقة وبإجماع من قبلهم.
وبهذا يعلم السائل أن هذا الحديث ليس فيه ما يخالف الأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة على تحريم الجمع بين الصلاتين بدون عذر شرعي، بل هو محمول على ما يوافقها ولا يخالفها لأن سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - القولية والفعلية يصدق بعضها بعضا ويفسر بعضها بعضا ويحمل مطلقها على مقيدها ويخص عامها بخاصها. وهكذا كتاب الله المبين يصدق بعضه بعضا ويفسر بعضه بعضا، قال الله سبحانه: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (1) وقال عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} (2) الآية. والمعنى: أنه مع إحكامه وتفصيله يشبه بعضه بعضا ويصدق
__________
(1) سورة هود الآية 1
(2) سورة الزمر الآية 23(25/169)
بعضه بعضا وهكذا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - سواء بسواء. والله ولي التوفيق.(25/170)
56 - كيف يعمل المصلي
إذا لبس الشيطان عليه في صلاته
س: بالنسبة تلبيس الشيطان في الصلاة.. هل يثني رأسه لليسار أو يميل به قليلا لأجل أن يتفل على الشيطان؟
ج: يلتفت قليلا عن يساره وينفث ثلاث مرات هكذا جاءت السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه «لما اشتكى إليه عثمان بن أبي العاص الثقفي - رضي الله عنه - قائلا: يا رسول إن الشيطان قد لبس علي صلاتي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ذاك شيطان يقال له: خنزب. فإذا أحسست بذلك فانفث عن يسارك ثلاث مرات وتعوذ بالله من الشيطان ثلاثا قال عثمان: ففعلت ذلك فأذهب الله عني ما أجد (2) » . أخرجه الإمام أحمد وبعض أهل السنن بإسناد صحيح.
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2203) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة، برقم 4083. (1)(25/170)
57 - ما صحة حديث: «من جلس بعد صلاة الصبح يذكر الله ثم صلى ركعتين كان له أجر حجة تامة (1) » . . .
س: حديث: «من جلس بعد صلاة الصبح يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة (2) » (3) ؟
ج: هذا الحديث له طرق لا بأس بها، فيعتبر بذلك من باب الحسن لغيره، وتستحب هذه الصلاة بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، أي بعد ثلث أو ربع ساعة تقريبا من طلوعها.
__________
(1) سنن الترمذي الجمعة (586) .
(2) سنن الترمذي الجمعة (586) .
(3) أخرجه الترمذي في كتاب الجمعة، باب ذكر ما يستحب من الجلوس في المسجد بعد صلاة الفجر، برقم 535.(25/171)
58 - مسألة في دخول المصلي مع الإمام أثناء الصلاة في الحالة التي عليها
س: حديث: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة (1) » هل يشمل صلاة السنة التي يبتدئها صاحبها والتي هو فيها حين الإقامة؟
ج: الحديث المذكور يشمل الصلاة التي يبتدئها حين الدخول فإنه لا يجوز له ذلك، وعليه أن يدخل مع الإمام في الحالة التي هو عليها، وهكذا من كان في صلاة النافلة حين الإقامة فإنه يقطعها للحديث المذكور، إلا أن يكون في الركوع الثاني أو بعده فإنه يتمها خفيفة ثم يلتحق بالإمام؛ لأن ما أدركه في هذه الحال أقل من الركعة فلا يدخل في الحديث المذكور؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن بالإقامة، برقم 1160.(25/172)
الصلاة (1) » أخرجه مسلم في صحيحه. وقطع الصلاة يكون بالنية ولا يحتاج إلى التسليم، والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب من أدرك ركعة من الصلاة، برقم 954.(25/173)
59 - حكم من عطس في الصلاة فحمد الله
س: إذا كان الإنسان في صلاة ثم عطس فهل يحمد الله، سواء كانت فريضة أو نافلة؟
ج: نعم يشرع له أن يحمد الله؛ لأنه ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع من يحمد الله بعد عطاسه في الصلاة فلم ينكر عليه. بل قال: «لقد رأيت كذا وكذا من الملائكة كلهم يبتدرونها أيهم يكتبها (1) » ، ولأن حمد الله من جنس ذكر الصلاة وليس بمناف لها.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (799) ، سنن النسائي التطبيق (1062) ، سنن أبو داود الصلاة (770) ، مسند أحمد بن حنبل (4/340) ، موطأ مالك النداء للصلاة (491) .(25/173)
60 - حكم الاستغفار والصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثناء الصلاة
س: إذا قرأ المصلي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) أو الأمر بالاستغفار وغير ذلك. فهل يتلفظ بها بالصلاة أو الاستغفار؟
ج: يستحب ذلك في النافلة كصلاة الليل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتهجد في الليل فإذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية وعيد تعوذ، وإذا مر بآية تسبيح سبح. وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (2) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صلوا كما رأيتموني أصلي (3) » أخرجه البخاري في صحيحه.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 56
(2) سورة الأحزاب الآية 21
(3) صحيح البخاري الأذان (631) ، سنن الدارمي الصلاة (1253) .(25/174)
61 - صفة السلام من الصلاة
س: إذا فرغ المصلي من صلاته وأراد أن يسلم فهل يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يمينا ثم شمالا، أم يقول: السلام عليكم ورحمة الله، فقط، وما حكم صلاة من فعل ذلك بزيادة وبركاته؟ (1)
ج: المحفوظ في السنة ورحمة الله فقط، وهذا هو المشروع أن يقول: (السلام عليكم ورحمة الله) عن يمينه وشماله، أما زيادة (وبركاته) ففيها خلاف بين أهل العلم، وقد روى علقمة بن وائل عن أبيه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هكذا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ، لكن في رواية علقمة عن أبيه خلاف بين أهل العلم في صحة سماعه من أبيه أو عدمها، ومنهم من قال: إنها منقطعة، فالمشروع للمؤمن ألا يزيدها وأن يقتصر على: (ورحمة الله) ، ومن زادها ظانا صحتها أو جاهلا
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، شريط رقم 517.(25/175)
بالحكم فلا حرج وصلاته صحيحة، ولكن الأولى والأحوط ألا يزيدها خروجا من خلاف العلماء وعملا بالأمر الأثبت والأحوط.(25/176)
62 - ما صحة حديث: «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر (1) »
س: يتأخر البعض في صلاة الفجر حتى الإسفار معللين ذلك: بأنه ورد فيه حديث وهو: «أسفروا بالفجر أنه أعظم للأجر (2) » هل هذا الحديث صحيح؟ وما الجمع بينه وبين حديث: «الصلاة على وقتها (3) » ؟ (4)
ج: الحديث المذكور صحيح، أخرجه الإمام أحمد، وأهل السنن بإسناد صحيح، عن رافع بن خديج رضي الله عنه، وهو لا يخالف الأحاديث الصحيحة الدالة على «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الصبح بغلس، (5) » ولا يخالف أيضا حديث: «الصلاة
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (154) ، سنن النسائي المواقيت (548) ، سنن أبو داود الصلاة (424) ، سنن ابن ماجه الصلاة (672) ، مسند أحمد بن حنبل (4/142) ، سنن الدارمي الصلاة (1217) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (154) ، مسند أحمد بن حنبل (4/142) ، سنن الدارمي الصلاة (1217) .
(3) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (527) ، صحيح مسلم الإيمان (85) ، سنن الترمذي البر والصلة (1898) ، سنن النسائي المواقيت (610) ، مسند أحمد بن حنبل (1/439) ، سنن الدارمي الصلاة (1225) .
(4) من ضمن الفتاوى المهمة المتعلقة بأركان الإسلام الخمسة قدمها لسماحته بعض طلبة العلم عام 1413 هـ.
(5) صحيح البخاري الأذان (872) .(25/176)
لوقتها (1) » ، وإنما معناه عند جمهور أهل العلم: تأخر صلاة الفجر إلى أن يتضح الفجر، ثم تؤدى قبل زوال الغلس، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤديها، إلا في مزدلفة فإن الأفضل التبكير بها من حين طلوع الفجر؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في حجة الوداع.
وبذلك تجتمع الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقت أداء صلاة الفجر، وهذا كله على سبيل الأفضلية.
ويجوز تأخيرها إلى آخر الوقت قبل طلوع الشمس؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وقت الفجر من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس (2) » رواه الإمام مسلم في صحيحه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7534) ، صحيح مسلم الإيمان (85) ، سنن الترمذي البر والصلة (1898) ، سنن النسائي المواقيت (611) ، مسند أحمد بن حنبل (1/444) ، سنن الدارمي الصلاة (1225) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (612) ، سنن النسائي المواقيت (522) ، سنن أبو داود الصلاة (396) ، مسند أحمد بن حنبل (2/210) .(25/177)
63 - ما صحة حديث: «من قام مع الإمام حتى ينصرف (1) » . . .
س: ما صحة حديث: «من قام مع إمامه حتى ينصرف غفر له (2) » ؟ (3)
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (806) ، سنن النسائي السهو (1364) ، سنن أبو داود الصلاة (1375) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1327) ، مسند أحمد بن حنبل (5/160) ، سنن الدارمي الصوم (1777) .
(2) سنن الترمذي الصوم (806) ، سنن النسائي السهو (1364) ، سنن أبو داود الصلاة (1375) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1327) ، مسند أحمد بن حنبل (5/160) ، سنن الدارمي الصوم (1777) .
(3) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1621 بتاريخ 11 شعبان 1418 هـ.(25/177)
ج: الحديث المذكور صحيح ولفظه: «من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة (1) » . والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند الأنصار، برقم 20450، والترمذي في كتاب الصيام، باب ما جاء في صيام شهر رمضان، برقم 734.(25/178)
64 - شرح حديث: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا (1) »
س: بالنسبة للحديث هل هو: "فأتموا" وإلا "فاقضوا"؟
ج: جاء هذا وجاء هذا، جاء "فأتموا" وجاء "فاقضوا"، والأكثر "فأتموا". ومعنى فاقضوا هو معنى فأتموا، فالذي فاتته الصلاة ما أدركه مع الإمام هو أول صلاته، وما يقضيه فهو تمامها، والله سبحانه يقول: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} (2) الآية، والمعنى فإذا أتممتم الصلاة، ويقول سبحانه: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} (3) الآية، يعني أتممتم مناسككم.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (635) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (603) ، مسند أحمد بن حنبل (5/306) ، سنن الدارمي الصلاة (1283) .
(2) سورة النساء الآية 103
(3) سورة البقرة الآية 200(25/178)
قضاء الصلوات الفائتة
س: ما حكم الصلوات الفائتة علي، هل علي قضاؤها؟ أم ماذا أفعل؛ لأنني سمعت حديثا عن أنس رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فاتته صلاة ولم يصلها فله أن يقيم في آخر الجمعة من رمضان ويصلي أربع ركعات ويستغفر الله بعدها» فهل هذا صحيح؟ أفيدوني أفادكم الله. (1)
ج: ليس هذا الحديث بصحيح، ولا أصل له، ولكن عليك القضاء، فإذا ترك الإنسان صلوات نسيانا، أو لأسباب نوم أو مرض فإنه يقضيها، أما إن كان تركه لها عمدا بلا شبهة فإنه لا يقضي؛ لأن تركها عمدا كفر أكبر، وإن لم يجحد وجوبها في أصح قولي العلماء. أما إن ترك الصلاة عامدا جاحدا لوجوبها فهو يكفر عند جميع أهل العلم، لكن إذا كان يقر بوجوبها، ويعلم أنها فرض عليه، ولكنه تركها تهاونا وتكاسلا فهذا في حكمه نزاع بين أهل العلم.
__________
(1) نشر في هذا المجموع ج10 ص315(25/179)
والصواب الراجح في هذه المسألة: كفره كفرا أكبر، ولا قضاء عليه، وعليه التوبة مما سلف، والاستقامة على فعلها مستقبلا.
أما من تركها لمرض أو تركها عن نسيان، أو عن نوم فهذا يقضي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك (1) » وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (2) ولقوله صلى الله عليه وسلم: «التوبة تهدم ما كان قبلها، والإسلام يهدم ما كان قبله (3) » وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر (4) » وقال عليه الصلاة والسلام: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة برقم562، ومسلم في كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة برقم 1104.
(2) سورة الأنفال الآية 38
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله، برقم 173 بلفظ ''أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله..'' الحديث.
(4) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار برقم 21859.(25/180)
سبيل الله (1) » وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (2) » أخرجه مسلم في صحيحه رحمه الله.
فهذه النصوص وما جاء في معناها كلها دالة على كفر من ترك الصلاة عمدا تهاونا وتكاسلا، لا عن علة من نوم أو مرض يسوغ له معه التأخير، أو عن نسيان، فالناسي والنائم والمريض الذي يسوغ له التأخير يقضي، وأما المتعمد المتساهل فهذا لا يقضي، وعليه التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، كما تقدم.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند الأنصار برقم 1200، والترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة برقم 2541.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 116.(25/181)
66 - شرح حديث: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي أربعا فلا تسأل حسنهن وطولهن (1) »
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد (2) :
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3569) ، سنن الترمذي الصلاة (439) ، سنن أبو داود الصلاة (1341) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النداء للصلاة (265) .
(2) نشرت في 19 \ 9 \ 1414هـ.(25/181)
فقد بلغني أن بعض أئمة المساجد وفقهم الله في هذه الليالي يصلون في التراويح أربعا جميعا بسلام واحد ثم أربعا جميعا بسلام واحد وبلغني أن بعضهم يصلي الثمان جميعا بسلام واحد. ويعتقدون أن ذلك هو مراد عائشة - رضي الله عنها - حين قالت في الحديث الصحيح: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا (1) » . الحديث وهذا الفهم خلاف الصواب وخلاف السنة. والصواب أن مرادها أنه يصلي أربعا يسلم من كل اثنتين وإنما أرادت بذلك وصفهن بالحسن والطول لا أنهن بسلام واحد والدليل على ذلك ما ثبت عنها في الصحيحين - رضي الله عنها - قالت «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل عشر ركعات يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بواحدة (2) » وأحاديثها يفسر بعضها بعضا. ولا يجوز أن
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب قيام النبي بالليل برقم 1079، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل برقم 1219.
(2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1216.(25/182)
يفسر ما أجمل من حديثها بغير ما فسر منه. ويدل على ذلك أيضا ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى (1) » فهذا الخبر من النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه الأمر. والمعنى صلوا بالليل اثنتين اثنتين. فالمشروع للمؤمن والمؤمنة في صلاة الليل التقيد. مما أوضحته السنة والحذر مما يخالف ذلك. ولا يخفى ما في السلام من كل اثنتين من التيسير والتسهيل على الجماعة وعدم المشقة عليهم مع موافقة السنة. لكن لو أراد الرجل أو المرأة الإتيان بثلاث جميعا بسلام واحد وجلوس واحد أو خمس جميعا بسلام واحد فلا بأس بذلك لأنه قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يفعل ذلك في بعض الأحيان. وهكذا لو أوتر بسبع جميعا بسلام واحد فلا بأس وإن أوتر بسبع وجلس في السادسة وأتى بالتشهد الأول ثم قام إلى السابعة فلا بأس لأنه قد صح عن
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، باب ما جاء في الوتر، برقم 936، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل مثنى مثنى، برقم 1239.(25/183)
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل هذا وهذا. وهكذا لو أوتر بتسع جميعا وجلس في الثامنة وأتى بالتشهد الأول ثم قام إلى التاسعة فلا بأس لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك. ولكن الأفضل والأكمل أن يسلم من كل اثنتين كما تقدم. ولا يجوز أن يوتر بثلاث كالمغرب حيث يجلس في الثانية وإن تشهد التشهد الأول ثم يقوم إلى الثالثة لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - «نهى أن يشبه الوتر بالمغرب،» ولوجوب النصيحة وبيان السنة والتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى جرى تحريره وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء
وإدارة البحوث العلمية والإفتاء(25/184)
67 - شرح حديث: «إن في كل ليلة ساعة مستجابة»
س: قرأت في نشرة معلقة حديثا ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعزى إلى صحيح مسلم: إن في كل ليلة ساعة مستجابة ولم يذكر أنها خاصة بآخر الليل فهل هذا الحديث صحيح؟
ج: نعم، هذا الحديث صحيح رواه مسلم عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن في كل ليلة ساعة مستجابة» ولم يبينها بل لو صادفها أجيبت دعوته فهي ساعة مستجابة، مخفاة بالليل مثل ما أخفى الله ساعة الجمعة في يوم الجمعة لكن أحراها بعد العصر، وعند جلوس الإمام في الخطبة يوم الجمعة، وهذه أحراها في جوف الليل كما جاء في بعض الروايات وثلث الليل.. أحراها في هذين الوقتين ولكنها عامة في الليل كله.(25/185)
68 - حديث: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ... إلا بمكة "
س: ما درجة صحة هذا الحديث: " لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة.. إلا بمكة.. إلا بمكة.."؟ (1)
ج: هذا الحديث بهذه الزيادة "إلا بمكة " ضعيف. أما أصل الحديث فهو ثابت في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس (2) » لكن هذا العموم يستثنى منه الصلاة ذات السبب في أصح قولي العلماء كصلاة الكسوف
__________
(1) نشر في كتاب الدعوة، الجزء الأول، ص 82. وفي كتاب فتاوى إسلامية لمحمد المسند ج 4 ص120.
(2) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب لا تتحرى الصلاة قبل غروب الشمس برقم 551، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها برقم 1368.(25/186)
وصلاة الطواف وتحية المسجد، فإن هذه الصلوات يشرع فعلها ولو في وقت النهي؛ لأحاديث صحيحة وردت في ذلك تدل على استثنائها من العموم، والله ولي التوفيق.(25/187)
69 - ما صحة حديث ابن عباس عن رجل يقوم الليل ويصوم النهار ولا يشهد الجمعة والجماعة
س: ورد في الحديث: سئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن رجل يقوم الليل ويصوم النهار ولكنه لا يشهد الجمعة والجماعة، فقال: هو في النار، ما صحة هذا الحديث الشريف؟ (1)
ج: هذا الأثر معروف عن ابن عباس، وصحيح عنه - رضي الله عنهما -، وهو يدل على أن إضاعة الجمعة والجماعة من أسباب دخول النار، والعياذ بالله.
وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لينتهين أقوام عن تركهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم،
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط رقم 51.(25/187)
ثم ليكونن من الغافلين (1) » خرجه مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة، وابن عمر رضي الله تعالى عنهم، وخرج أبو داود بإسناد صحيح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال - عليه الصلاة والسلام -: «من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه (2) » ، وقال - عليه الصلاة والسلام -: «من سمع النداء ولم يأت فلا صلاة له إلا من عذر (3) » .
فالواجب على المسلم البدار بإجابة النداء للجمعة والجماعة، وأن لا يتأخر عن ذلك، ومتى تأخر عن ذلك بغير عذر شرعي - كالمرض والخوف - فهو متوعد بالنار ولو كان يصوم النهار ويقوم الليل.
نسأل الله لنا ولجميع المسلمين السلامة والعافية من كل سوء.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، باب التغليظ في ترك الجمعة برقم 1432)
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب التشديد في ترك الجمعة برقم 888) .
(3) أخرجه ابن ماجه في كتاب المساجد، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة برقم 785.(25/188)
70 - حكم وصل الصلاة بصلاة أخرى
س: أريد شرح هذا الحديث: عن السائب بن يزيد أن معاوية قال: إذا صليت، الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بذلك أن لا نصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج؟ (1)
ج: الحديث أخرجه مسلم في صحيحه وهو يدل على أن المسلم إذا صلى الجمعة أو غيرها من الفرائض فإنه ليس له أن يصلها بصلاة حتى يتكلم أو يخرج من المسجد، والتكلم يكون بما شرع الله من الأذكار كقوله: أستغفر الله. أستغفر الله. أستغفر الله. اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، حين يسلم، وما شرع الله بعد ذلك من أنواع الذكر؛ وبهذا يتضح انفصاله عن الصلاة بالكلية حتى لا يظن أن هذه الصلاة جزء من هذه الصلاة.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.(25/189)
والمقصود من ذلك تمييز الصلاة التي فرغ منها من الصلاة الأخرى، فإذا سلم من الجمعة فلا يصلها بالنافلة لئلا يعتقد هو أو غيره أنها مرتبطة بها أو أنها لازمة لها.
وهكذا الصلوات الأخرى كالظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر لا بد من الفصل بالكلام كالذكر أو غير ذلك من الكلام أو الخروج من المسجد حتى يعلم أنها غير مربوطة بما قبلها.(25/190)
71 - حكم إقامة صلاة الجمعة في القرى
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى الأخوين الكريمين وفقهما الله لقول الحق والعمل به وزادهما من العلم والإيمان
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد (1) :
فقد وصلني كتاباكما وتأملت ما ذكرتما فيهما من اختلاف بينكما في حكم إقامة صلاة الجمعة في القرى وتحكيمكما لي في هذا وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من دعاة الهدى وأنصار الحق وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه والثبات عليه إنه خير مسئول، ولا يخفى
__________
(1) صدر من مكتب سماحته برقم 2484 \ 1 وتاريخ12 \ 9 \ 1406هـ.(25/190)
أن الحق ضالة المؤمن متى وجدها أخذها؛ ولا يخفى أيضا أن المرجع في مسائل الخلاف هو كتاب الله عز وجل وسنة رسوله وصفوته من خلقه نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) وقال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) وقال عز وجل: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (3) وقد تأملت أدلة الفريقين القائلين بوجوب إقامة صلاة الجمعة في القرى والقائلين بعدم وجوبها وعدم صحتها. ورأيت أدلة أصحاب القول الأول وهم الجمهور أوضح وأكثر وأصح، مما يوضح ذلك أن الله سبحانه
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) سورة النور الآية 54(25/191)
فرض على عباده إقامة صلاة الجمعة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (1) الآية.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين (2) » رواه الإمام مسلم في صحيحه.
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام صلاة الجمعة في المدينة وهي في أول الهجرة في حكم القرى، وأقر أسعد بن زرارة على إقامة صلاة الجمعة في نقيع الخضمات وهو في حكم القرية، ولم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أنكر ذلك والحديث في ذلك حسن الإسناد، ومن أعله بابن إسحاق فقد غلط؛ لأنه قد ثبت تصريحه بالسماع فزالت شبهة التدليس ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي (3) » ، وقد رأيناه صلى الجمعة في المدينة من حين
__________
(1) سورة الجمعة الآية 9
(2) صحيح مسلم الجمعة (865) ، سنن النسائي الجمعة (1370) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (794) ، مسند أحمد بن حنبل (1/239) ، سنن الدارمي الصلاة (1570) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة برقم 595.(25/192)
هاجر إليها، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - أقر أهل جواثا وهي قرية من قرى البحرين على إقامة صلاة الجمعة، والحديث بذلك مخرج في صحيح البخاري؛ ولأنها إحدى الصلوات الخمس في يوم الجمعة فوجما أداؤها على أهل القرى كأهل الأمصار وكصلاة الظهر في حق الجميع في غير يوم الجمعة، وإنما تركت إقامتها في البادية والسفر؛ لعدم أمره - صلى الله عليه وسلم - للبوادي والمسافرين بإقامتها؛ ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقمها في السفر فوجبت إقامتها فيما سوى ذلك، ومعلوم أن الذي سوى ذلك هو القرى والأمصار، ولأن في إقامتها مصالح عظيمة من جمع أهل القرية في مسجد واحد ووعظهم وتذكيرهم كل أسبوع بما شرع الله في خطبتي الجمعة.
وبما ذكرنا من الأدلة يتضح لكل منصف صحة قول الجمهور وأنه أقرب إلى الحق من قول من خالفهم، وأنه أنفع للمسلمين في أمر دينهم ودنياهم وأقرب إلى برائة الذمة وصلاح الأمة أما أثر علي - رضي الله عنه - فهو موقوف عليه، ولا يصح المرفوع كما نبه على ذلك غير واحد منهم النووي - رحمه الله - مع أن في صحة الموقوف نظرا، وأيضا؛ لأن في إسناده عند عبد الرزاق الثوري - رحمه الله -: ولم يصرح(25/193)
بالسماع وهو موصوف بالتدليس وجابر الجحفي والحارث الأعور وكلاهما ضعيف.
وفي سنده عند ابن أبي شيبة الأعمش ولم يصرح بالسماع وهو مدلس معروف لكن عنعنته وعنعنة الثوري محمولة على السماع فيما خرجه عنهما البخاري ومسلم - رضي الله عنهما - في الصحيحين. أما في غير الصحيحين فليس هناك مانع من تعليل روايتهما بذلك إذا لم يصرحا بالسماع.
هذا ما ظهر لي وأسأل الله أن يوفقني وإياكما وسائر إخواننا لإصابة الحق وأن يمن علينا جميعا بإيثار الحق على ما سواه وأن يعيذنا جميعا من التعصب واتباع الهوى في جميع الأحوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(25/194)
72 - ما صحة الحديث الوارد في اشتراط الأربعين لصلاة الجمعة
س: قرأت في بعض الكتب أن من شروط إقامة الجمعة وجود أربعين ممن تجب عليهم الصلاة.
وسبق أن نشر في (الدعوة) فتوى لسماحتكم أنها تقام في اثنين مع الإمام فكيف نجمع بين هذين الأمرين؟ (1) .
ج: اشتراط الأربعين لإقامة صلاة الجمعة قال به جماعة من أهل العلم، منهم الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -، والقول الأرجح جواز إقامتها بأقل من أربعين وأقل الواجب ثلاثة كما تقدم في الفتوى في جواب السؤال الذي قبل هذا؛ لعدم الدليل على اشتراط الأربعين.
والحديث الوارد في اشتراط الأربعين ضعيف كما أوضح ذلك الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام.
__________
(1) نشر في كتاب الدعوة، الجزء الأول، ص 66. ونشر في ج 12 من هذا المجموع ص 327.(25/195)
73 - قراءة سورة الكهف يوم الجمعة
س: هل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة وليلتها عمل مندوب؟ (1) .
ج: في ذلك أحاديث مرفوعة يشد بعضها بعضا، تدل على شرعية قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة.
وقد ثبت ذلك عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - موقوفا عليه، ومثل هذا لا يعمل من جهة الرأي بل يدل على أن لديه فيه سنة.
__________
(1) نشر في كتاب الدعوة، الجزء الثاني، ص 131.(25/196)
74 - حكم قراءة سورة الكهف في ليلة الجمعة
س: ما حكم قراءة سورة الكهف في ليلة الجمعة ويومها؟ .(25/196)
ج: جاء في قراءة سورة الكهف يوم الجمعة أحاديث لا تخلو من ضعف، لكن ذكر بعض أهل العلم أنه يشد بعضها بعضا وتصلح للاحتجاج، وثبت عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه كان يفعل ذلك.
فالعمل بذلك حسن، تأسيا بالصحابي الجليل - رضي الله عنه -؛ وعملا بالأحاديث المشار إليها؛ لأنه يشد بعضها بعضا ويؤيدها عمل الصحابي المذكور، أما قراءتها في ليلة الجمعة فلا أعلم له دليلا، وبذلك يتضح أنه لا يشرع ذلك والله ولي التوفيق.(25/197)
75 - وقت تحري ساعة الإجابة من يوم الجمعة
س: في أي الأوقات يتحرى المسلمون ساعة الإجابة يوم الجمعة، أفي يوم الجمعة كله، أم في العصر، أم بعد صلاة الجمعة مباشرة؟ .(25/197)
ج: الله جل وعلا جعل في الجمعة ساعة يقبل فيها الدعاء، وهي ساعة قليلة لا يوافقها المسلم وهو قائم يصلي إلا أعطاه الله سؤاله، فهي ساعة عظيمة قليلة، جاء في بعض الروايات عند مسلم أنها حين يجلس الإمام على المنبر يوم الجمعة إلى أن تقضى الصلاة، هكذا جاء في صحيح مسلم من حديث أبي موسى مرفوعا، وعلله بعضهم بأنه من كلام أبي بردة بن أبي موسى وليس مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والصواب ثبوت رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجاء أيضا من حديث جابر بن عبد الله وعبد الله بن سلام أنها ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، وجاء في بعض الأحاديث أنها آخر ساعة من يوم الجمعة، وكلها صحيحة لا تنافي بينها، فأحراها وأرجاها ما بين الجلوس على المنبر إلى أن تقضى الصلاة، وما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، هذه الأوقات هي الأرجى لساعة الإجابة، وبقية الأوقات في يوم الجمعة كلها ترجى فيها إجابة الدعاء، لكن أرجاها ما بين جلوس الإمام على المنبر إلى أن تقضى الصلاة وما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس كما تقدم، وبقية ساعات الجمعة ترجى فيها هذه الإجابة؛ لعموم بعض الأحاديث الواردة في ذلك.(25/198)
فينبغي الإكثار في يوم الجمعة من الدعاء رجاء أن يصادف هذه الساعة المباركة، ولكن ينبغي أن تحظى الأوقات الثلاثة المذكورة آنفا بمزيد من العناية؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد نص على أنها ساعة الإجابة. والله ولي التوفيق.(25/199)
76 - ما صحة حديث: " ليس للنساء نصيب في الجنازة "
س: روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: " ليس للنساء نصيب في الجنازة " ما رأيكم في هذا الحديث؟ وما هي الأمور التي تجتنبها المرأة في موضوع الجنازة؟ (1) .
ج: هذا الحديث الذي ذكرته السائلة " ليس للمرأة نصيب في الجنازة " لا نعلم له أصلا ولا نعلم أحدا أخرجه من أهل العلم، وإنما الوارد عنه - صلى الله عليه وسلم - في هذا أنه - صلى الله عليه وسلم - «لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد» والسرج، «ونهى النساء عن اتباع الجنازة (2) » يعني للمقبرة، أما الصلاة عليها مع
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط رقم 843.
(2) صحيح مسلم الجنائز (938) ، مسند أحمد بن حنبل (5/85) .(25/199)
الناس في المسجد أو المصلى فهي مشروعة للجميع، وقد كان النساء يصلين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الفريضة وعلى الجنائز.
وقد صلت عائشة - رضي الله عنها - على جنازة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالحاصل أن المرأة تصلي على الجنائز مع الرجال ولا بأس بذلك، أما ذهابها مع الجنازة إلى المقبرة أو زيارة القبور هذا هو المنهي عنه فلا يجوز لها ذلك.(25/200)
77 - كيف الجمع بين النهي عن الصلاة والدفن في ثلاث ساعات وحديث التعجيل في الجنازة
س: كيف نجمع بين نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة والدفن في ثلاث ساعات وبين حديث التعجيل بالجنازة وكانت الجنازة مثلا بعد العصر؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا (1) .
ج: ليس بين الحديثين تعارض، فالسنة تعجيل الصلاة على الجنازة ودفنها؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أسرعوا بالجنازة
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1657 بتاريخ 12 \ 5 \ 1419هـ.(25/200)
فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم (1) » . ولكن إذا صادف ذلك وقت الساعات الثلاث أجلت الصلاة عليها ودفنها؛ لقول عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: «ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس، وحين تتضيف الشمس للغروب (2) » . أخرجه مسلم في صحيحه.
وهذه الساعات الثلاث كلها قليلة لا يضر تأخير الصلاة على الميت فيها ولا تأخير دفنه، ولله الحكمة البالغة سبحانه في ذلك، وهو سبحانه أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين، والله الموفق.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب السرعة بالجنازة برقم 1231، ومسلم في كتاب الجنائز، باب الإسراع بالجنازة برقم 1569.
(2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها برقم 1373.(25/201)
كتاب الزكاة
78 - حكم دفع الزكاة إلى الأقارب الفقراء
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أرجو من سماحتكم التكرم بالإجابة على سؤالي هذا:
هو أنني عندي مال أدفع زكاته إلى أقارب محتاجين وهم جدتي أم أمي، وجدتي زوج جدي التي ليست أم أبي، ومع العلم أن لهم عائلا غيري وقد سمعت حديثا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ما معناه " اجعلوها في الأقربين" فما مدى صحة هذا الحديث وما حكم السنوات التي سبق وأن دفعتها مع العلم أنني لا أحصي عددها. هذا وأرجو من الله أن يمد في عمرك وينفع بعلمك المسلمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1) .
__________
(1) سؤال شخصي أجاب عنه سماحته.(25/203)
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
الحديث المذكور صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأبي طلحة الأنصاري لما أراد أن يتصدق بنخل له اسمه بيرحاء، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أرى أن تجعلها في الأقربين (1) » . متفق على صحته. وهذا في صدقة التطوع أما الزكاة ففيها تفصيل: إن كان الأقربون ليسوا من الفروع ولا من الأصول جاز صرف الزكاة فيهم كالإخوة والأخوال والأعمام ونحوهم إذا كانوا فقراء فتكون صدقة وصلة، وهكذا زوجة الجد إذا كانت ليست جدة لك وكانت فقيرة ليس لها عائل يقوم بحاجاتها، وعليك أن تقضي ما صرفته في جدتكم أم أمك وفي زوجة جدك إذا كانت مستغنية بنفقة غيرك. وفقنا الله الجميع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب، برقم 1368، ومسلم في كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج، برقم 1664.(25/204)
كتاب الصيام(25/205)
صفحة فارغة(25/206)
79 - حديث: «من فطر صائما (1) » . . . يعم الغني والفقير
س: حديث: «من فطر صائما كان له مثل أجره دون أن ينقص (2) » . . . . هل المقصود بالصائم الفقير؟ أو يدخل في هذا الأقارب والأصدقاء؟ وهل صيام التطوع فيه نفس الأجر إذا فطر صائما؟ (3) .
ج: الحديث عام يعم الغني والفقير، والفرض والنفل، وفضل الله واسع سبحانه وتعالى.
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (807) ، سنن ابن ماجه الصيام (1746) ، مسند أحمد بن حنبل (5/192) ، سنن الدارمي الصوم (1702) .
(2) سنن الترمذي الصوم (807) ، سنن ابن ماجه الصيام (1746) ، مسند أحمد بن حنبل (5/192) ، سنن الدارمي الصوم (1702) .
(3) نشر في مجلة الدعوة العدد 1562 بتاريخ 28 \ 5 \ 1417هـ.(25/207)
80 - شرح حديث: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه (1) »
س: حديث: «من مات وعليه صوم صام عنه وليه (2) » الشيء الذي أعرف أنه محمول على صوم النذر، لكن أحد العلماء ذكر في البرنامج أنه صوم رمضان، فهل هذا صحيح أم الصحيح ما أعرفه عن طريق أحد الكتب السلفية؟ أفيدوني مأجورين جزاكم الله خيرا (3)
ج: الصواب أنه عام وليس خاصا بالنذر، وقد روي عن بعض الأئمة كأحمد وجماعة أنهم قالوا: إنه خاص بالنذر، ولكنه قول مرجوح ولا دليل عليه والصواب أنه عام؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه (4) »
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1952) ، صحيح مسلم الصيام (1147) ، سنن أبو داود الصوم (2400) ، مسند أحمد بن حنبل (6/69) .
(2) صحيح البخاري الصوم (1952) ، صحيح مسلم الصيام (1147) ، سنن أبو داود الصوم (2400) ، مسند أحمد بن حنبل (6/69) .
(3) من برنامج نور على الدرب الشريط رقم 17.
(4) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم، برقم 1816، ومسلم في كتاب الصيام، باب قضاء الصوم عن الميت، برقم 1935(25/208)
متفق على صحته من حديث عائشة - رضي الله عنها -. ولم يقل: صوم النذر، ولا يجوز تخصيص كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بالدليل؛ لأن حديث النبي - عليه الصلاة والسلام - عام يعم صوم النذر وصوم رمضان إذا تأخر المسلم في قضائه تكاسلا مع القدرة أو صوم الكفارات، فمن ترك ذلك صام عنه وليه، والولي هو القريب من أقاربه، وإن صام غيره أجزأ ذلك.
فقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله رجل: قال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: «أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيه؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء (1) » . وسألته امرأة عن ذلك قالت يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأصوم عنها قال: «أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء (2) » .
وفي مسند أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن امرأة قالت: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب قضاء الصوم عن الميت، برقم (1937) .
(2) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7315) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2332) .(25/209)
رمضان أفأصوم عنها؟ قال: «صومي عن أمك» . فأوضحت أنه رمضان فأمرها بالصيام.
والأحاديث كثيرة دالة على قضاء رمضان وغيره وأنه لا وجه لتخصيص النذر بل هو قول مرجوح ضعيف والصواب العموم.
هكذا جاءت الأدلة عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، لكن إذا كان المفطر في رمضان لم يفرط، بل أفطر من أجل المرض أو من أجل الرضاع أو الحمل ثم مات المريض أو ماتت الحامل أو ماتت المرضعة ولم تستطع القضاء فلا شيء عليها ولا على الورثة، لا قضاء ولا إطعام للعذر الشرعي وهو المرض ونحوه. أما إن شفي من مرضه وأمكنه الصوم فتساهل فيقضى عنه، والمرضعة والحامل إن استطاعتا أن تقضيا بعد ذلك فتساهلتا فهما يقضى عنهما. والله ولي التوفيق.(25/210)
81 - الحديث في مضاعفة الأجر في مكة خاص بالصلاة
س: صوم رمضان في مكة يعدل صيام ألف شهر فيما سواه، هل هذا حديث صحيح؟
(1) ج: ليس بصحيح فقد ورد حديث ضعيف لا يصح، إنما الثابت في الصلاة فقط الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه، وفي مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - خير من ألف صلاة فيما سواه، وأما الصوم فلم يثبت فيه شيء، سوى حديث ضعيف أنه خير من مائة ألف فيما سواه، لكنه ضعيف لكن الأعمال الصالحة لها فضل في مكة، الصوم والصدقة والأذكار وغير هذا من الأعمال الصالحة لها فضل، لكن ليس هناك دليل على بيان المضاعفة لكميتها ما عدا الصلاة.
__________
(1) سؤال موجه لسماحته في حج عام 1415 هـ، الشريط 49 \ 9.(25/211)
82 - حكم إفراد يوم السبت بالصيام
سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام الديار السعودية سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
كما تعلمون- حفظكم الله- وافق هذا العام يوم التاسع من محرم 1415هـ، يوم السبت، وكان يوم العاشر يوم الأحد- حسب تقويم أم القرى- وعملا بالحديث «لأن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر (1) » . . . الحديث، أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -، صمت يوم السبت والأحد (9 - 10 \ 1) . ولكن أحد الإخوة اعترض على صيام يوم السبت وقال: إن صيامه تطوعا منهي عنه لما ورد في الحديث، وذكر معناه ولم يذكر نصه.
ولرغبتي في استجلاء الموضوع، وعملا بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) أرجو من
__________
(1) صحيح مسلم الصيام (1134) ، مسند أحمد بن حنبل (1/236) .
(2) سورة النحل الآية 43(25/212)
سماحتكم إيضاح هذا الإشكال مع ذكر الحديث ومدى صحته، وما نصيحتكم حول هذا الموضوع، والله يحفظكم.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده (1) .:
الحديث المذكور معروف وموجود في بلوغ المرام في كتاب الصيام وهو حديث ضعيف شاذ ومخالف للأحاديث الصحيحة ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا يوما قبله أو يوما بعده (2) » ومعلوم أن اليوم الذي بعده هو يوم السبت والحديث المذكور في الصحيحين، وكان - صلى الله عليه وسلم - يصوم يوم السبت ويوم الأحد ويقول: «إنهما يوما عيد للمشركين فأحب أن أخالفهم (3) » ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة كلها تدل على جواز صوم يوم السبت تطوعا، وفق الله الجميع والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المفتي العام للمملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء والبحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) صدر من مكتب سماحته برقم 1179 \ ش في 9 \ 2 \ 1415هـ.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب صوم الجمعة فإذا أصبح صائما يوم الجمعة، برقم 1849، بلفظ ''لا يصومن أحدكم''.. . ومسلم في كتاب الصيام، باب كراهة صيام يوم الجمعة منفردا، برقم 1929.
(3) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار، برقم 25525.(25/213)
83 - شرح حديث: «من أفطر في رمضان متعمدا لا يقبل الله منه صوما (1) » . . .
س: ما معنى حديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - «من أفطر في رمضان متعمدا لا يقبل الله منه صوما وإن صام الدهر كله (2) » وإن أفطر متعمدا ثم تاب فهل يقبل الله منه توبته؟
(3) .
ج: الحديث المذكور ضعيف والتوبة مقبولة إذا استوفت شروطها، فإذا تاب توبة صادقة فإنها تقبل وعليه القضاء لذلك اليوم الذي أفطره فقط، أما الحديث المذكور فهو ضعيف كما تقدم ولا تقوم به الحجة، وعليه التوبة وليس عليه إلا قضاء ذلك اليوم الذي أفطره والتوبة تكفي حتى من الشرك فكيف بالمعصية والتوبة تجب ما قبلها، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (4) » . وذلك إذا تاب توبة
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (723) ، سنن أبو داود الصوم (2396) ، سنن ابن ماجه الصيام (1672) ، مسند أحمد بن حنبل (2/470) ، سنن الدارمي الصوم (1714) .
(2) سنن الترمذي الصوم (723) ، سنن أبو داود الصوم (2396) ، سنن ابن ماجه الصيام (1672) ، مسند أحمد بن حنبل (2/470) ، سنن الدارمي الصوم (1714) .
(3) من برنامج نور على الدرب.
(4) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، برقم 4240.(25/214)
صادقة بالعزم على ألا يعود، والندم على فعله الماضي، وبالإقلاع عن عمله السيئ، فإنها بذلك تكون توبة نصوحا، والحمد لله إلا إذا كانت المعصية تتعلق بالمخلوق فإنه لا بد من شرط رابع وهو إعطاؤه حقه أو تحلله منه.(25/215)
84 - الجمع بين حديثي حفصة وعائشة في صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ذي الحجة
س: روى النسائي في سننه عن أم المؤمنين حفصة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدع ثلاثا: صيام العشر، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين قبل الغداة.
وروى مسلم في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - قولها: «ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صائما في العشر قط (1) » . وفي رواية: «لم يصم العشر قط (2) » .
__________
(1) صحيح مسلم الاعتكاف (1176) ، سنن الترمذي الصوم (756) ، سنن أبو داود الصوم (2439) .
(2) صحيح مسلم الاعتكاف (1176) .(25/215)
وقد ذكر الشوكاني في الجزء الرابع ص 324 من نيل الأوطار: قول بعض العلماء في الجمع بين الحديثين: حديث حفصة وحديث عائشة، إلا أن الجمع غير مقنع، فلعل لدى سماحتكم جمعا مقنعا بين الحديثين؟
ج: قد تأملت الحديث واتضح لي أن حديث حفصة فيه اضطراب، وحديث عائشة أصح منه.
والجمع الذي ذكره الشوكاني فيه نظر، ويبعد جدا أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم العشر ويخفي ذلك على عائشة، مع كونه يدور عليها في ليلتين ويومين من كل تسعة أيام؛ لأن سودة وهبت يومها لعائشة، وأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك.
فكان لعائشة يومان وليلتان من كل تسع، ولكن عدم صومه - صلى الله عليه وسلم - العشر لا يدل على عدم أفضلية صيامها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تعرض له أمور تشغله عن الصوم.
وقد دل على فضل العمل الصالح في أيام العشر حديث ابن عباس المخرج في صحيح البخاري، وصومها من العمل الصالح.(25/216)
فيتضح من ذلك استحباب صومها من حديث ابن عباس، وما جاء في معناه، وهذا يتأيد بحديث حفصة وإن كان فيه بعض الاضطراب.
ويكون الجمع بينهما على تقدير صحة حديث حفصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم العشر في بعض الأحيان، فاطلعت حفصة على ذلك وحفظته، ولم تطلع عليه عائشة، أو اطلعت عليه ونسيته. والله ولي التوفيق.(25/217)
85 - ما «صحة حديث: " لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة»
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم س. ع. م. سلمه الله
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 4886 وتاريخ 24 \ 10 \ 1408 هـ الذي تسأل فيه عن عدد من الأسئلة ومنها:(25/217)
س: ما صحة الحديث " لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة " وإن صح الحديث هل يعني فعلا لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة؟ (1) .
ج: يصح الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة إلا أنه يشترط في المسجد الذي يعتكف فيه إقامة صلاة الجماعة فيه فإن كانت لا تقام فيه صلاة الجماعة لم يصح الاعتكاف فيه، إلا إذا نذر الاعتكاف في المساجد الثلاثة فإنه يلزمه الاعتكاف بها وفاء لنذره.
أما الحديث الذي ذكرت فهو ضعيف. وفق الله الجميع لما فيه رضاه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) صدر من مكتب سماحته برقم 3558 \ 2 وتاريخ 13 \ 11 \ 1408هـ. ونشر في هذا المجموع ج15 ص 444.(25/218)
86 - كيف الجمع بين حديث: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا (1) » وحديث: «كانت أحب الشهور إليه أن يصومه شعبان ثم يصله برمضان (2) »
س: لقد قرأت في صحيح الجامع الحديث رقم (397) تحقيق الألباني وتخريج السيوطي (398) صحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يكون رمضان (3) » . ويوجد حديث آخر خرجه السيوطي برقم (8757) صحيح، وحققه الألباني في صحيح الجامع برقم (4638) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كانت أحب الشهور إليه- صلى الله عليه وسلم- أن يصومه، شعبان ثم يصله برمضان فكيف نوفق بين الحديثين؟ (4) .
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (738) ، سنن أبو داود الصوم (2337) ، سنن ابن ماجه الصيام (1651) ، مسند أحمد بن حنبل (2/442) ، سنن الدارمي الصوم (1740) .
(2) سنن أبو داود الصوم (2431) .
(3) سنن الترمذي الصوم (738) ، سنن أبو داود الصوم (2337) ، سنن ابن ماجه الصيام (1651) ، مسند أحمد بن حنبل (2/442) ، سنن الدارمي الصوم (1740) .
(4) نشر في مجلة الدعوة، بتاريخ 3 \ 11 \ 1414هـ.(25/219)
ج: بسم الله والحمد لله، وبعد: فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم شعبان كله وربما صامه إلا قليلا كما ثبت ذلك من حديث عائشة وأم سلمة، أما الحديث الذي فيه النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان فهو صحيح، كما قال الأخ العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني، والمراد به النهي عن ابتداء الصوم بعد النصف، أما من صام أكثر الشهر أو الشهر كله فقد أصاب السنة، والله ولي التوفيق.(25/220)
87 - كيف الجمع بين حديث: «صيام يوم عرفة يكفر السنة الماضية (1) » . . . وأنه - عليه الصلاة والسلام - ثبت عنه أنه لم يصمه
س: سؤال عن حديث «صيام يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية (2) » وقد ثبت أنه لم يصمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرجو تبيين ذلك حتى لا يفوت فضل صيام يوم عرفة؟ (3) .
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (749) ، سنن ابن ماجه الصيام (1730) ، مسند أحمد بن حنبل (5/296) .
(2) سنن الترمذي الصوم (749) ، سنن ابن ماجه الصيام (1730) ، مسند أحمد بن حنبل (5/296) .
(3) من أسئلة حج عام 1418هـ.(25/220)
ج: «سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيام يوم عرفة فقال: يكفر الله به السنة التي قبلها والتي بعدها (1) » «وسئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: يكفر الله به السنة التي قبلها (2) » . هذا من قوله - صلى الله عليه وسلم - سواء صامه أو ما صامه علم الأمة، ومعنى يكفرها: إذا اجتنب الكبائر يكفر الصغائر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر (3) » . والنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أخبر عن شيء وشرع للأمة يكفي، ولو لم يفعله - صلى الله عليه وسلم -، القول أقوى من الفعل.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار برقم 21492، والترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل صوم يوم عرفة، برقم 680، وابن ماجه في كتاب الصيام، باب صيام يوم عرفة، برقم 1720.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في الحث على صوم يوم عاشوراء، برقم 683.
(3) صحيح مسلم الطهارة (233) ، سنن الترمذي الصلاة (214) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1086) ، مسند أحمد بن حنبل (2/400) .(25/221)
صفحة فارغة(25/222)
كتاب الحج(25/223)
صفحة فارغة(25/224)
88 - ما صحة حديث: الزاد والراحلة في الحج
س: حديث أنس - رضي الله عنه - في الزاد والراحلة قال: «قيل: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة (1) » رواه الدارقطني وصححه الحاكم والراجح إرساله، وأخرجه الترمذي من حديث ابن عمر وفي إسناده ضعف فما صحته؟ (2) .
ج: كلها ضعيفة لكن يشهد بعضها لبعض فهي من باب الحسن لغيره، وأجمع العلماء على المعنى، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (3) فمن استطاع السبيل إلى البيت لزمه الحج، ومن لم يستطع فلا حرج عليه، فكل إنسان أعلم بنفسه.
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (2998) ، سنن ابن ماجه المناسك (2896) .
(2) من أسئلة درس بلوغ المرام.
(3) سورة آل عمران الآية 97(25/225)
89 - ما صحة حديث: " أنه - عليه الصلاة والسلام - أحرم بعدما صلى"
س: حديث ابن عباس أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لبى بعدما صلى ركعتين، ثم لبى بعد ذلك، ثم لبى لما ركب، ثم لبى لما كان بالبيداء. قلتم ضعيف. فما علة ضعفه؟ (1) .
ج: لأن فيه خصيفا الذي ذكر أنه أحرم بعدما صلى رواه بعض أهل السنن لكنه ضعيف؛ لأن خصيفا ضعيف سيئ الحفظ. والمحفوظ أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما لبى بعدما ركب الراحلة.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في درس بلوغ المرام.(25/226)
90 - مسألة في تلبية الحاج بعد إحرامه
س: حديث ابن عمر فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما لبى بعدما ركب الراحلة واستقلت به (1) .
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في درس بلوغ المرام.(25/226)
ج: ابن عمر وأنس وابن عباس - رضي الله عنهم - كلهم أخبروا أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما لبى بعدما ركب الراحلة.(25/227)
91 - رأي ابن عباس - رضي الله عنه - فيمن أفرد الحج ولم يصحب الهدي
س: ما صحة هذا الحديث الوارد عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "من أفرد ولم يصحب معه الهدي وطاف وسعى تحلل وإن لم يتحلل رغم الأنف" وإن صح هذا الحديث فكيف يكون الإفراد بدون فسخ؟ (1) .
ج: هذا مشهور عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، من طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة ولم يكن معه هدي فقد حل، فهذا رأي له - رضي الله عنه وأرضاه -، والصواب أنه لا يتحلل إلا بالتحلل المعروف، فإن رأى التحلل حلق أو قصر وإلا فلا يحل ويبقى على إحرامه.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407هـ، الشريط رقم 5.(25/227)
92 - الصواب أن على المتمتع سعيين
س: وجدت في مناسك الحج من كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية ما معناه: أن المتمتع ما عليه إلا سعي واحد كالمفرد والقارن، واستدل بحديث جابر من رواية مسلم، هل هذا القول ثابت عنه أفيدونا أثابكم الله؟ (1) .
ج: نعم هذا موجود في منسكه - رحمه الله - ولكنه قول ضعيف، والصواب أن على المتمتع سعيين؛ لأنه قد ثبت من حديث عائشة وابن عباس. فحديث عائشة وابن عباس أعلى من حديث جابر، وحديث جابر محمول على أن مراده الذين ساقوا الهدي هم الذين سعوا سعيا واحدا. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه هم الذين ساقوا الهدي. وعلى من تمتعوا فقد أخبرت عائشة أنهم طافوا طوافا آخر لحجهم، وأخبر ابن عباس أنهم سعوا سعيا ثانيا لحجهم، كما في صحيح البخاري، وحديث عائشة كما في الصحيحين، وهما مقدمان على عموم حديث جابر.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407هـ، الشريط رقم 4.(25/228)
وشيخ الإسلام رحمه الله أخذ بحديث جابر، فكل يؤخذ من قوله ويترك كما قال مالك: ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم.
فالواجب أن عليه سعيا ثانيا كما قاله جمهور أهل العلم: الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في مسنده، كلهم يقولون: لا بد من سعيين، على حديث ابن عباس وعائشة، وهذه العمرة انتهت بسعيها، وجاء بعدها الحج بعمله المستقل.(25/229)
93 - معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارحم المحلقين"
س: ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «رحم الله المحلقين ثلاثا (1) » ؟ وهل حلق دائما في عمره وحجه عليه الصلاة والسلام؟ (2) .
ج: النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين بالرحمة والمغفرة ثلاثا وللمقصرين واحدة، قال: «اللهم ارحم المحلقين
__________
(1) سنن الترمذي الحج (913) ، موطأ مالك الحج (901) ، سنن الدارمي المناسك (1906) .
(2) من أسئلة حج عام 1418هـ.(25/229)
قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: والمقصرين في الثالثة (1) » . وفي لفظ: «اللهم اغفر لهم (2) » . فدل ذلك على أن الحلق أفضل لمن أتى للحج فالحلق أفضل. أما العمرة إذا كانت قرب الحج فالتقصير أفضل حتى يبقى الحلق للحج، فمن أتى بعمرة قرب الحج فإنه يقصر فيها، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتقصير ويبقى الحلق، أما إذا كانت عمرة بينها وبين الحج مسافة كعمرة رمضان أو شعبان فيحلق أفضل ثم في الحج يحلق أيضا، هذا هو الأفضل والتقصير لا بأس به هذا كله في حق الرجل، أما المرأة فليس عليها حلق إنما عليها التقصير من أطراف شعرها تأخذ قليلا من كل عميلة أي من طرف الجديلة وليس لها الحلق.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال، برقم 1612، ومسلم في كتاب الحج، باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير، برقم 2293.
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة، برقم 4662.(25/230)
94 - ما صحة حديث: " لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس "
س: ما رأيكم في شخص رمى جمرة العقبة الكبرى يوم النحر قبل طلوع الشمس؟ (1) .
ج: يجوز الرمي بعد نصف الليل، لكن بعد طلوع الشمس أفضل، إذا رماها آخر الليل أو الفجر كله جائز لكن بعد ارتفاع الشمس هو الأفضل، أما حديث: «لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس (2) » فحديث ضعيف، لكن الحجة في فعل النبي صلى الله عليه وسلم، رماها ضحى صلى الله عليه وسلم، ورخص للضعفة أن يرموا في آخر الليل، ورمتها أم سلمة في آخر الليل.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1415هـ، الشريط رقم 49\6.
(2) سنن الترمذي الحج (893) ، سنن أبو داود المناسك (1941) .(25/231)
95 - مسألة: متى يحل الحاج يوم العيد
س: يقول السائل: قال الشيخ ناصر الدين الألباني غفر الله له: فإذا انتهى من رمي الجمرة في يوم العيد حل له كل شيء(25/231)
إلا النساء، ولو لم ينحر أو يحلق فيلبس ثيابه ويتطيب، لكن عليه أن يطوف طواف الإفاضة في اليوم نفسه- إلى أن قال-: وإلا فإنه إذا أمسى ولم يطف عاد محرما، كما كان قبل الرمي، فعليه أن ينزع ثيابه ويلبس ثياب الإحرام؟ لقوله صلى الله عليه وسلم: " إن هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا من كل ما حرمتم منه إلا النساء، وإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت صرتم حرما كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة قبل أن تطوفوا به " فما صحة هذا الحديث وما هو موقف العلماء من هذا الرأي؟ (1) .
ج: أما الرمي فقد اختلف العلماء في ذلك، منهم من يرى أن الرمي وحده يكفي- كما قال الشيخ ناصر - وأنه متى رمى حل له كل شيء إلا النساء، وقد ورد في هذا حديث عن عائشة وابن عباس أنه إذا رمى حل له كل شيء من الطيب والثياب إلا النساء.
__________
(1) من فتاوى الحج، الشريط الرابع.(25/232)
وقال آخرون من أهل العلم: إنه إذا رمى لا بد أن يضيف له شيئا ثانيا وهو الحلق أو التقصير أو الطواف فإذا فعل اثنين من ثلاثة حل، وهذا هو الأحوط والأولى، وإن حل بعد الرمي ولبس ثيابه فلا شيء عليه؛ لأن حجة من قال بأنه يتحلل بالرمي قوية، لكن الأحوط للمؤمن أن لا يتحلل ولا يلبس ثيابه ولا يتطيب إلا بعد أن يضيف أمرا ثانيا وهو الحلق أو التقصير لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما تطيب بعدما حلق، كما قالت عائشة رضي الله عنها: «طيبته بعدما فرغ من رميه وحلقه قبل أن يطوف بالبيت (1) » فالأفضل للمؤمن أن يصبر حتى يحلق أو يقصر؛ ولأن في بعض الروايات عن عائشة: إذا رميتم وحلقتم، وإن كان فيها ضعف لكن ضم هذا الحديث الذي فيه ضعف لفعله صلى الله عليه وسلم يعين على البعد عن المشتبه والأخذ بالحيطة.
فالأحوط للمؤمن ألا يحل حتى يفعل اثنين من ثلاثة: يرمي ويحلق أو يقصر، أو يرمي ويطوف، أو يطوف ويحلق، إذا فعل اثنين من ثلاثة حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء، فإذا فعل الثلاثة رمى وحلق وطاف وسعى، إن كان عليه سعي حل له كل
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (2687) ، مسند أحمد بن حنبل (6/244) .(25/233)
شيء حتى النساء، وأما ما يتعلق بعوده محرما كما كان إذا لم يطف يوم العيد. فهذا القول ضعيف وهو خلاف ما عليه أهل العلم وبعضهم حكى إجماع أهل العلم أنه إذا حل؛ حل حلا كاملا لا يعود حراما بعدما حل إذا لم يطف يوم العيد إذا أمسى ولم يطف. هذا القول قول شاذ ومخالف لما عليه أهل العلم، والحديث ضعيف لا يحتج به، ولو فرضنا أن له شاهدا صحيحا فهو قول شاذ مخالف لما عليه أهل العلم ولما دلت عليه السنة.(25/234)
96 - حكم من أمسى يوم النحر ولم يطف
س: سمعنا الإجابة عن حديث أم سلمة، والذي فيه: أن من لم يطف طواف الإفاضة قبل المساء يوم النحر فإن إحرامه يعود عليه، كما كان قبل الرمي، وذكرتم أنه معارض للأحاديث الصحيحة، فكيف عارضها وهو أي الحديث ليس حجة لوحده؟ (1)
ج: الأحاديث الصحيحة دلت على الحل، والرسول صلى الله عليه وسلم لما رمى وحلق تطيب قبل أن يطوف، ولم يقل
__________
(1) من أسئلة الحج، الشريط الثاني.(25/234)
للناس: إنكم إذا أمسيتم ولم تطوفوا عاد إحرامكم، وإنما هذا حديث جاء في بيت أم سلمة، وهو ضعيف الإسناد، وأما ما في شرح معاني الآثار فهذا ينظر فيه، ولا أظنه صحيحا، وإن قال بعض الناس إنه صحيح، فما أظنه صحيحا، ولو كان صحيحا لم يخف على أئمة الإسلام، من أئمة السنن، والصحيحين وغيرهم من الأئمة المعروفين، حتى اطلع عليه الطحاوي في شرح الآثار، ثم لو صح فهو شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة الدالة على الحل، فقد حل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما رمى وحلق عليه الصلاة والسلام، ولم يقل للناس على رءوس الأشهاد إن هذا يلزمكم فيه كذا وكذا، وهذه مسائل عظيمة، مسائل عامة لا يكون فيها الأشياء السرية والداخلية في بيت امرأة من النساء، هذه أمور عظيمة، فلو كان هذا شرعا عاما لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للناس، وأوضحه للناس عليه الصلاة والسلام، ثم الأئمة الأربعة، والجمهور، فهو كالإجماع، وإنما يروى فيها خلاف لعروة بن الزبير، وإلا فهو كالإجماع من أهل العلم، أن من حل فحله تام، لا يعود للإحرام، وإجماعهم حجة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا(25/235)
يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله (1) » فإذا أجمعوا فالطائفة المنصورة منهم، وعروة بن الزبير تابعي قبله الصحابة.
__________
(1) أخرجه الطبراني في ''المعجم الأوسط '' 8 \ 200.(25/236)
97 - مسألة فيمن أمسى يوم النحر ولم يطف
س: كثر الكلام حول مسألة هل يحل من رمى جمرة العقبة دون أن يطوف طواف الإفاضة يوم النحر مع أنه ورد هناك بعض الأحاديث التي تدل على أنه لا يحل، ومنها حديث في معاني الآثار على شرط الشيخين وسنده صحيح، فالمطلوب هو التفصيل في هذه المسألة مع الأدلة والتوضيح حتى يكون المسلم على بينة من أمره؟ (1)
ج: إذا رمى جمرة العقبة وحلق أو قصر حل التحلل الأول ويبقى عليه الطواف، فإن طاف يوم العيد هذا أفضل، وإن لم يطف يوم العيد ولم يتيسر له طواف العيد طاف في الأيام التي بعد العيد وحله تام وليس عليه أن يعيد الإحرام.
__________
(1) من أسئلة الحج، الشريط الثاني.(25/236)
وأما الحديث الذي أشار إليه فهو موجود في أبي داود وهو ضعيف الإسناد وليس بصحيح، وأما الذي في (شرح معاني الآثار) فلم نطلع عليه، ولو صح فهو شاذ مخالف للأدلة الشرعية التي استقام عليها الجمهور وساروا عليها.
فالحاصل أن هذا الحديث ليس بصحيح وما يدعى في (شرح معاني الآثار) إن صح فهو شاذ ومخالف للأحاديث الصحيحة. فهو شبه إجماع من أهل العلم أنه إذا حل تم حله ما يعود محرما بعد ما حل.(25/237)
98 - ما صحة حديث: "إذا رميت وحلقتم فقد حل لكم الطيب.."
س: أريد أن أعلمك يا سماحة الشيخ أني أحبك في الله وأدعو لك حتى في سجودي من حبي لك وأتمنى رؤيتك دائما، وطلبي منك دعوة صالحة تختارها لي يا شيخي، ثم أسألك هل ثبت حديث في التحلل الأول غير حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه أحمد وأبو داود بسند ضعيف، كما قال ابن حجر في(25/237)
بلوغ المرام وإن كان لم يوجد غير هذا الحديث فكيف يبني العلماء حكم التحلل الأول على حديث ضعيف؟ (1)
ج: أولا الجواب عما ذكرت من الحب في الله نقول: أحبك الله الذي أحببتنا له، وفضل الحب في الله أمره معلوم كما تقدم، وأما الدعاء لأخيك في سجودك فجزاك الله خيرا وتقبل منا ومنك، وأما الدعاء لك فأسأل الله أن يصلح قلبك وعملك وأن يثبتنا وإياك وجميع المسلمين على الهدى ويعيذنا من مضلات الفتن. وأما حديث عائشة فهو ضعيف كما قلت يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب وكل شيء إلا النساء (2) » . وجاء في حديث آخر عن ابن عباس: "إذا رميتم" فقط، لكن عمدة العلماء في هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يمس الطيب، ولم يتحلل إلا بعد ما رمى وحلق، فهذا هو الاحتياط للمؤمن؛ لأن خبر عائشة في الصحيحين قالت: «كنت أطيب الرسول لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف (3) » .
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407هـ.
(2) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار، برقم 23951.
(3) صحيح مسلم الحج (1189) ، سنن الترمذي الحج (917) ، سنن النسائي مناسك الحج (2685) ، سنن أبو داود المناسك (1745) ، سنن ابن ماجه المناسك (2926) ، مسند أحمد بن حنبل (6/175) .(25/238)
والرسول صلى الله عليه وسلم رمى ونحر وحلق ثم تطيب، فأخذ العلماء من ذلك أن الطيب يكون بعد الاثنين من الثلاثة، وفيه قول بأنه يحصل بالرمي وهو قول قوي، لكن ينبغي للمؤمن أن يحتاط لدينه، ويفعل كما فعل عليه الصلاة والسلام إذا رمى وحلق أو قصر، لبس المخيط وتطيب إذا شاء، وهكذا لو رمى وطاف أو طاف وحلق؛ لأن الطواف أعظم، فإذا جاز مع الرمي والحلق فمع الطواف وأحدهما أولى وبهذا يحصل التحلل الأول، وإذا فعل الثلاثة حصل التحلل الكامل من جميع ما حرم عليه بالإحرام.(25/239)
99 - ما صحة حديث: "من لم يطف يوم العيد قبل أن يمسي عاد محرما"
س: ما صحة حديث: «من لم يطف يوم العيد قبل أن يمسي عاد محرما» ؟ (1) .
__________
(1) من أسئلة حج عام 1418هـ.(25/239)
ج: هذا ليس بصحيح، فإذا رمى الجمرة وحلق أو قصر حل ولو ما طاف ذلك اليوم، أما هذا الحديث يعود محرما كما كان فهو حديث ضعيف مخالف للأحاديث الصحيحة وفي إسناده أبو عبيدة بن عبد الله بن ربيعة وهو لا يحتج به.(25/240)
100 - ما صحة حديث: "من أراد أن يضحي أو يضحى عنه فلا يأخذ من شعره "
س: ما قولكم في حديث: "من وصل إلى الميقات فله أخذ ما احتاج إلى أخذه من قص الشارب وتقليم الأظافر وحلق عانة وطيب ونحوه" وحديث: "من أراد أن يضحي أو يضحى عنه فلا يأخذ من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته شيئا حتى يضحي أو يضحى عنه" فهل ينطبق على الحاج وغير الحاج أم يلزم المقيم دون الحاج، حيث إن السائل لما عزم على الحج في اليوم الثامن من ذي الحجة حلق أي قص الشارب وأزال شعر الإبط خشية ألا يتمكن من ذلك عند الميقات لبعد المسافة،(25/240)
وحيث إن السائل أقام من ينوب عنه في الأضحية لأهله من الأسرة، فهل عليه شيء في ذلك وما هو الأفضل في الحديثين المذكورين؟ وماذا عليه لو أنه ضحى في اليوم الثاني بعد العيد؟ (1)
ج: ليس الأول بحديث، وإنما هو من كلام لبعض العلماء إذا وصل إلى الميقات يتنظف يأخذ من الشارب والإبط ونحو ذلك وهذا ليس بحديث، هذا من كلام بعض العلماء كما قلنا بأنه يستحب لمن أراد العمرة أو الحج، أن يتنظف يقص من شاربه ويقلم من أظفاره، هذا قاله بعض أهل العلم إذا كان فيها طول وإن أخذها في بيته كفى، وإن كان سيضحي فلا يأخذ شيئا إذا كان سيضحي والإحرام في عشر ذي الحجة فإنه لا يأخذ شيئا من شاربه ولا من إبطه ولا من عانته ولا من أظفاره، وأما قوله: "إن أراد أن يضحي أو يضحي عنه" فهذا حديث لكن ليس فيه " أو يضحى عنه " إنما لفظه يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل شهر ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407هـ، الشريط رقم 10.(25/241)
أظفاره شيئا (1) » . وفي اللفظ الآخر: «ولا من بشرته شيئا (2) » . وليس فيه " أو يضحي عنه " هذه زيادة من كلام بعض الفقهاء أو العلماء، فالمضحي هو الذي لا يأخذ شيئا إذا أراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره ولا من بشرته شيئا في العشر حتى يضحي، وأما من يضحي عنه كزوجته وأولاده فليس عليهم بأس لا حرج عليهم أن يأخذوا؛ لأن المضحي صاحب الدار الذي بذل المال هذا هو الصواب. يصبر حتى اليوم الثاني لكن تقصيره للعمرة من رأسه، وحلقه في الحج لا يدخل في ذلك يعني إذا طاف وسعى يقصر وليس هذا بداخل في النهي وإذا رمى يوم العيد وحلق ليس داخلا في النهي لكن لا يأخذ من الشارب ولا من الظفر ولا من الإبط والعانة شيئا.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي، باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد التضحية أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئا، برقم 3656.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي، باب الفرع والعتيرة، برقم 3653.(25/242)
101 - ما صحة حديث: " لقد صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا "
س: حديث " لقد صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا " ما صحة هذا الحديث؟ (1)
ج: لا أعرف عن صحته شيئا.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1418هـ.(25/243)
102 - مسألة في التكبير يوم العيد وأيام التشريق
س: هل الزيادة في التكبير الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا ثابت وصحيح؟ (1)
ج: ثابت رواه مسلم في الصحيح (2)
__________
(1) من أسئلة حج عام 1415هـ، الشريط رقم 49 \ 6.
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة برقم 943.(25/243)
كتاب النكاح
شرح حديث: " استوصوا بالنساء خيرا"
س: في الحديث: «استوصوا بالنساء خيرا؛ فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه (1) » .
ج: هذا حديث صحيح رواه الشيخان في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء خيرا؛ فإنهن
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1550 بتاريخ 3 ربيع الأول 1417هـ، وفي هذا المجموع ج5، ص300.(25/245)
خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه؛ فاستوصوا بالنساء خيرا (1) » انتهى.
هذا أمر للأزواج والآباء والإخوة وغيرهم أن يستوصوا بالنساء خيرا، وأن يحسنوا إليهن وألا يظلموهن، وأن يعطوهن حقوقهن ويوجهوهن إلى الخير، وهذا هو الواجب على الجميع؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «استوصوا بالنساء خيرا (2) » ، وينبغي ألا يمنع من ذلك كونها قد تسيء في بعض الأحيان إلى زوجها وأقاربها بلسانها أو فعلها؛ لأنهن خلقن من ضلع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه. ومعلوم أن أعلاه مما يلي منبت الضلع، فإن الضلع يكون فيه اعوجاج، هذا معروف. فالمعنى أنه لا بد أن يكون في خلقها شيء من العوج والنقص، ولهذا ورد في الحديث الآخر في الصحيحين «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته، برقم 3084، ومسلم في كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء، برقم 2671.
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3331) ، صحيح مسلم الرضاع (1468) ، سنن الدارمي النكاح (2222) .(25/246)
إحداكن (1) » ، والمقصود: أن هذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ثابت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ومعنى نقص العقل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أن شهادة المرأتين تعدل شهادة رجل واحد، وأما نقص الدين فهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنها تمكث الأيام والليالي لا تصلي؛ يعني من أجل الحيض، وهكذا النفاس، وهذا نقص كتبه الله عليها ليس عليها فيه إثم.
فينبغي لها أن تعترف بذلك على الوجه الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم ولو كانت ذات علم وتقى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وإنما ذلك منه وحي يوحيه الله إليه فيبلغه الأمة كما قال عز وجل: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (2) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (3) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (4) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (5)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، ـ برقم 293، ومسلم في كتاب الإيمان باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات برقم 114
(2) سورة النجم الآية 1
(3) سورة النجم الآية 2
(4) سورة النجم الآية 3
(5) سورة النجم الآية 4(25/247)
(25/248)
كتاب الرضاع
104 - حكم إرضاع الكبير
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
حفظه الله ورعاه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.
تعلمون- حفظكم الله- حديث سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم، وكانت أم حذيفة قد ربته في صغره فكان يعتبرها مثل أمه، فلما نزلت آية الحجاب لزمها أن تتحجب منه، فشق ذلك عليهم (سالم وأبي حذيفة وأم حذيفة) ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر سالما أن يشرب من لبن أم حذيفة فيصير بذلك ابنها من الرضاع، الحديث في مسلم.
وقد راجعت كلام أهل العلم في المسألة في كتاب (زاد المعاد) فوجدت أنهم فريقان ووسط:
فريق يرى أن الحديث خاص في حق سالم فقط.(25/249)
فريق يرى عموم الحديث في سالم وغيره.
فريق يتوسط ويرى أن الحديث عام في سالم وغيره بشرط أن تكون حاله مثل حال سالم وأم حذيفة، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وإني يا شيخ، قد ربتني في صغري امرأة أجنبية عني، وقد شق عليها أن تتحجب عني، فأردت أن أعمل بقول شيخ الإسلام في مسألة سالم فعارضني جمع من أقاربها، وطلبوا فتوى شرعية بخصوص هذه المسألة. لذا أطلب توجيه سماحتكم في هذا الموضوع، وجزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
نرى أن حديث سالم مولى أبي حذيفة خاص بسالم، كما هو قول الجمهور؛ لصحة الأحاديث الدالة على أنه لا رضاع إلا في الحولين، وهذا هو الذي نفتي به. وأسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته بتاريخ 3 \ 5 \ 1415هـ.(25/250)
105 - مسألة في حكم إرضاع الكبير
س: رسالة من أم بلال - خميس مشيط، تقول: ما هو الراجح في إرضاع الكبير؟ (1)
ج: الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد اختلف أهل العلم في رضاع الكبير هل يؤثر أم لا؟ والسبب في ذلك أنه ورد في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سهلة بنت سهيل أن ترضع سالما مولى أبي حذيفة وكان كبيرا وكان مولى لدى زوجها، فلما كبر طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم الحل لهذا الأمر، فأمرها أن ترضعه خمس رضعات، فاختلف العلماء في ذلك، والصحيح من قولي العلماء أن هذا خاص بسالم وبسهلة بنت سهيل وليس عاما للأمة، كما قاله غالب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقاله جمع غفير من أهل العلم وهذا هو الصواب؛ لقوله صلى الله عليه
__________
(1) من برنامج نور على الدرب الشريط رقم 520.(25/251)
وسلم: «لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام (1) » ولقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الرضاعة من المجاعة (2) » . رواه الشيخان في الصحيحين، ولقوله أيضا عليه الصلاة والسلام: «لا رضاع إلا في الحولين (3) » فهذه الأحاديث تدل على أن الرضاع يختص بالحولين ولا يؤثر الرضاع بعد ذلك وهذا هو الصواب والله جل وعلا ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الرضاع، باب ما ذكر أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر، برقم 1072، وابن ماجه في كتاب النكاح، باب لا رضاع بعد فصال، برقم 1936 مختصرا.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت، برقم 2453، ومسلم في كتاب الرضاع، باب إنما الرضاعة من المجاعة، برقم 2642.
(3) أخرجه الدارقطني في سننه، 4 \ 174.(25/252)
كتاب الطلاق
106 - ما صحة حديث: " أبغض الحلال إلى الله الطلاق "
س: ما صحة حديث: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق (1) » ؟ (2) .
ج: الحديث صحيح رواه النسائي وجماعة بإسناد صحيح، وهو يدل على أن ترك الطلاق أفضل إذا لم تدع الحاجة إليه.
__________
(1) سنن أبو داود الطلاق (2178) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2018) .
(2) نشر في مجلة الدعوة العدد 1569، بتاريخ 17 رجب 1417 هـ.(25/253)
كتاب البيوع
107 - ما صحة حديث: " الربا بضع وسبعون حوبا "
س: ما صحة حديث «الربا بضع وسبعون حوبا (1) » ؟ (2)
ج: لا بأس به، حديثا جيد وتمامه: «وإن أربى الربا استطالة المسلم في عرض أخيه المسلم (3) » . وهذا الحديث جاء من طرق متعددة، فالواجب على المؤمن أن يحذر أنواع الربا ويحذر المعاصي كلها لهذا جعل صلى الله عليه وسلم الاستطالة في عرض المسلم من الربا؛ لأن ضررها عظيم وتسبب فتنة ونزاعات وفسادا في المجتمع وشحناء إذا بلغ الشخص ما قاله في الآخر، وبذلك وغيره من الأحاديث يعلم أن الغيبة والنميمة من أعظم الفساد في
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2274) .
(2) من برنامج نور على الدرب، الشريط رقم 10.
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه، برقم 1564(25/255)
الأرض وهما من أربى الربا، فالربا ليس خاصا بالبيع والشراء فقط بل يكون في المعاصي والمخالفات والتعدي على الناس بالغيبة والنميمة- نسأل الله العافية- لأنه زيادة على ما أباح الله له فقد أربى بزيادته على ما أباح الله له حتى وقع في الحرام وارتكب ما نهى الله عنه نسأل الله السلامة.(25/256)
108 - ما صحة حديث: "كل قرض جر نفعا فهو ربا "
س: ما صحة هذا الحديث: «كل قرض جر نفعا فهو ربا» ؟ (1)
ج: الحديث ضعيف، ولكن معناه عند أهل العلم صحيح إذا كان القرض مشروطا فيه نفع للمقرض، أما إذا كان قرضا مجردا ليس فيه اشتراط نفع للمقرض فهو مستحب وفيه فضل كبير؛ لما فيه من التعاون على الخير، والتفريج لكرب المكروبين.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1569 بتاريخ 17 رجب 1417هـ.(25/256)
كتاب الهبات
109 - كيفيه قسمة الهبة بين الأولاد من الذكور والإناث
إلى سماحة شيخنا الجليل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرجو الله لسماحتكم دوام التوفيق والسداد وبعد: أعطيت أولادي هبة من مالي، ورأيت أن العدل بينهم إعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين، كما هو مقتضى الإرث الشرعي في حقهم، ولكن البنات أبدين بعض التساؤل عن تفضيل الذكور عليهن في العطاء والتمسن مني أن أساوي في العطية بين الذكر والأنثى من أولادي، وأستفتي سماحتكم هل ما فعلته هو العدل الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «اعدلوا بين أولادكم (1) » أم أن العدل
__________
(1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587) ، سنن أبو داود البيوع (3544) .(25/257)
مساواة الأنثى بالذكر في العطية بين الأولاد؟ أرجو تكرم سماحتكم على ابنكم بالإجابة عن السؤال حفظكم الله (1)
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
فالذي فعله فضيلتكم هو العدل فيما نعتقده وفيما نفتي به، وهو الموافق لقسمة الله في الميراث وهو سبحانه الحكم العدل في شرعه وقدره، فأسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) سؤال شخصي موجه لسماحته من فضيلة الشيخ ع. س. م. وقد أجاب عنه سماحته بتاريخ 2 \ 8 \ 1410 هـ(25/258)
110 - مسألة في العدل بين الأولاد في الهبة
س: ورد في الحديث: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم (1) » فهل المقصود المساواة المطلقة أم للذكر مثل حظ الأنثيين أسوة
__________
(1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587) ، سنن النسائي النحل (3681) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2375) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، موطأ مالك الأقضية (1473) .(25/258)
بالميراث؟ فالحديث على ما أظن يقول: "أكلهم أعطيتهم مثله" فكلمة مثل إن صحت توحي بالمساواة المطلقة، اللهم إلا إن كان يتكلم عن الذكور فقط، أفيدونا أفادكم الله؟ (1)
ج: الحديث صحيح رواه الشيخان عن النعمان بن بشير رضي الله عنه «أن أباه أعطاه غلاما، فقالت أمه: لا أرضى حتى يشهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فذهب بشير بن سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما فعل فقال: "أكل ولدك أعطيته مثل ما أعطيت النعمان " فقال: لا. فقال الرسول: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم (2) » . فدل ذلك على أنه لا يجوز تفضيل بعض الأولاد على بعض في العطايا، أو تخصيص بعضهم بها، فكلهم ولده، وكلهم يرجى بره، فلا يجوز أن يخص بعضهم بالعطية دون بعض، واختلف العلماء رحمة الله عليهم هل يسوى بينهم ويكون الذكر كالأنثى، أم يفضل الذكر على الأنثى
__________
(1) من برنامج نور على الدرب شريط رقم 53
(2) أخرجه البخاري في كتاب الهبة وفضلها، باب الإشهاد في الهبة، برقم 2398، ومسلم في كتاب الهبات، باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، برقم 3055(25/259)
كالميراث؟ على قولين لأهل العلم، والأرجح أن العطية كالميراث وأن التسوية تكون بجعل الذكر كالأنثيين، فإن هذا هو الذي جعله الله لهم في الميراث وهو سبحانه الحكم العدل، فيكون المؤمن في عطيته لأولاده كذلك، كما لو خلفه لهم بعد موته للذكر مثل حظ الأنثين هذا هو العدل
بالنسبة إليهم وبالنسبة إلى أمهم وأبيهم، وهذا هو الواجب على الأب والأم أن يعطوا الأولاد للذكر مثل حظ الأنثين؛ وبذلك يحصل العدل والتسوية، كما جعل الله ذلك في الميراث وهو عدل من أبيهم وأمهم.(25/260)
كتاب الأيمان
111 - ما هو تأويل الحلف في قوله صلى الله عليه وسلم: "أفلح وأبيه"
س: هل الرسول صلى الله عليه وسلم حلف بغير الله في قوله في الحديث: «أفلح وأبيه إن صدق (1) » وإن كان لا فما هو تأويل الحديث جزاك الله خيرا؟ (2)
ج: كانوا في أول الإسلام وأول الهجرة يحلفون بآبائهم ثم نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا قال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم (3) » . أما قوله صلى الله عليه وسلم: «أفلح
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (11) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3252) ، سنن الدارمي الصلاة (1578) .
(2) من أسئلة حج عام 1418 هـ، الشريط السادس
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا، برقم 5643، ومسلم في كتاب الإيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله، برقم 3104(25/261)
وأبيه إن صدق (1) » فإنه قبل النهي ثم جاء النهي فترك ذلك، وتركه المسلمون فصار الحلف بالله وحده، وقال صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد أشرك (2) » . وقال: «من حلف بالأمانة فليس منا (3) » . وقال: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون (4) » . فاستقرت الشريعة على تحريم الحلف بغير الله.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: «أفلح وأبيه (5) » فكان هذا قبل النهي.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالآباء، برقم 2830
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة برقم 5799، والترمذي في كتاب النذور والأيمان، باب في كراهية الحلف بغير الله، برقم 1455
(3) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار، برقم 21902، وأبو داود في كتاب الأيمان والنذور، باب كراهية الحلف بالأمانة، برقم 2831
(4) أخرجه النسائي في كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بالأمهات، برقم 3709، وأبو داود في كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالآباء، برقم 2827
(5) صحيح مسلم الإيمان (11) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3252) ، سنن الدارمي الصلاة (1578) .(25/262)
كتاب الحدود
112 - ما صحة حديث: «ادرءوا الحدود بالشبهات (1) »
س: هل يرى سماحتكم صحة حديث: «ادرءوا الحدود بالشبهات (2) » ؟ (3)
ج: الحديث له طرق فيها ضعف لكن مجموعها يشد بعضه بعضا، ويكون من باب الحسن لغيره؛ ولهذا احتج بها العلماء على درء الحدود بالشبهات.
أما حديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (4) » . فهو صحيح، وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: «من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه (5) » .
__________
(1) أخرجه الهندي في كنز العمال برقم 12957، 12972، وفي كشف الخفاء، برقم 166
(2) أخرجه الهندي في كنز العمال برقم 12957، 12972، وفي كشف الخفاء، برقم 166
(3) أجاب عنه سماحته بتاريخ 8 \ 1 \ 1412 هـ
(4) أخرجه النسائي في سننه في كتاب الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات، برقم 5615، والترمذي في سننه في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب منه برقم 2448
(5) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، برقم 2996، وابن ماجه في سننه كتاب الوقوف عند الشبهات، باب الفتن، برقم 3974(25/263)
113 - شرح حديث: «ادرءوا الحدود بالشبهات (1) »
س: في مسند أبي حنيفة للحارثي حديث رواه عبد الله بن عباس عن الرسول صلى الله عليه وسلم «ادرءوا الحدود بالشبهات (2) » أرجو أن تتفضلوا بشرح هذا الحديث؟ جزاكم الله خيرا (3)
ج: الحمد لله، لقد جاء في هذا الباب عدة أحاديث في أسانيدها مقال، لكن يشد بعضها بعضا، منها الحديث الذي ذكر السائل: «ادرءوا الحدود بالشبهات (4) » . وفي الآخر: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم (5) » . والمعنى: أن الواجب على
__________
(1) أخرجه الهندي في كنز العمال برقم 12957، 12972، وفي كشف الخفاء، برقم 166
(2) أخرجه الهندي في كنز العمال برقم 12957، 12972، وفي كشف الخفاء، برقم 166
(3) من برنامج نور على الدرب الشريط الثالث
(4) أخرجه الهندي في كنز العمال برقم 12957، 12972، وفي كشف الخفاء، برقم 166
(5) أخرجه الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود، برقم 1344، والبيهقي في السنن الكبرى كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات 8 \ 238(25/264)
ولاة الأمور من العلماء والأمراء أن يدرءوا الحدود بالشبهة التي توجب الشك في ثبوت الحد، فإذا لم يثبت عند الحاكم الحد ثبوتا واضحا لا شبهة فيه فإنه لا يقيمه، ويكتفي بما يردع عن الجريمة من أنواع التعزير، ولا يقام الحد الواجب كالرجم في حق الزاني المحصن، وكالجلد مائة جلدة في حق الزاني البكر، وبقطع اليد في حق السارق لا يقام إلا بعد ثبوت ذلك ثبوتا لا شبهة فيه ولا شك فيه بشاهدين عدلين لا شبهة فيهما، فيما يتعلق بالسرقة وبأربعة شهود عدول فيما يتعلق بحد الزنا، وهكذا بقية الحدود، فالواجب على ولاة الأمر أن يعتنوا بذلك وأن يدرءوا الحد بالشبهة التي توجب الريبة والشك في الثبوت.(25/265)
صفحة فارغة(25/266)
كتاب الأقضية
114 - الجمع بين حديثين متعلقين بالقضاء والاجتهاد
س: كيف نوفق بين الحديثين التاليين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به. ورجل عرف الحق فجار فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار (1) » . رواه أبو داود. وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومعناه: «المجتهد إذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد (2) » . وفقوا بين الحديثين؟
ج: ليس بينهما بحمد الله تعارض، بل المعنى واضح؛ فالحديث الأول في من قضى للناس على جهل ليس عنده علم
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب القضاة، باب في القاضي يخطئ، برقم 3102
(2) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7352) ، صحيح مسلم الأقضية (1716) ، سنن الترمذي الأحكام (1326) ، سنن أبو داود الأقضية (3574) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2314) ، مسند أحمد بن حنبل (4/198) .(25/267)
لشرع الله يقضي به بين الناس فهو متوعد بالنار؛ لقوله على الله بغير علم، وهكذا الذي يعلم الحق ولكن يجور من أجل الهوى لمحبته لشخص أو لرشوة أو ما أشبه ذلك فيجور في الحكم فهذان في النار؛ لأن الأول ليس عنده علم يقضي به فهو جاهل فليس له القضاء، أما الثاني فقد تعمد الجور والظلم فهو في النار. أما الأول فقد عرف الحق وقضى به فهو في الجنة.
أما حديث الاجتهاد الذي رواه عمرو بن العاص رضي الله عنه وما جاء في معناه وهو في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر (1) » . فهذا في العالم الذي يعرف الأحكام الشرعية وليس جاهلا، ولكن قد تخفى عليه بعض الأمور وتشتبه عليه بعض الأشياء فيجتهد ويتحرى الحق وينظر في الأدلة الشرعية من القرآن والسنة ويتحرى الحكم الشرعي لكنه لم يصبه، فهذا له أجر الاجتهاد ويفوته أجر الصواب وخطؤه مغفور،
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد، برقم 6805، ومسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد، برقم 3240(25/268)
لأنه عالم عارف بالقضاء ولكن في بعض المسائل قد يغلط بعد الاجتهاد والتحري والنية الصالحة فهذا يعطى أجر الاجتهاد ويفوته أجر الصواب.
الثاني اجتهد في طلب الحق واعتنى بالأدلة الشرعية وليس له قصد سيئ، بل هو مجتهد طالب للحق فوفق له واهتدى إليه وحكم بالحق فهذا له أجران أجر الإصابة وأجر الاجتهاد؛ وبذلك يعلم أنه ليس بين الحديثين تعارض، والحمد لله.(25/269)
كتاب الصيد والذبائح
115 - ما صحة حديث: "صيد البر لكم حل ما لم تصيدوه "
س: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم (1) » . هل هو صحيح؟
ج: لا بأس به، وإسناده حسن (2) . ويشهد له حديث أبي قتادة الأنصاري وحديث الصعب بن جثامة الليثي وغيرهما.
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب المناسك، باب لحم الصيد للمحرم، برقم 1577، والترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم، برقم 775
(2) وهو في المحرم(25/271)
116 - ما صحة حديث: "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع ... "
س: بالنسبة لهذا الحديث لا ندري ما صحته، وهو: «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع» .
ج: هذا يروى عن بعض الوفود وفي سنده ضعف، يروى أنهم قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع» يعنون أنهم مقتصدون، هذا المعنى صحيح لكن السند فيه ضعيف. (يراجع في زاد المعاد، والبداية لابن كثير) .(25/273)
وهذا ينفع الإنسان إذا كان يأكل على جوع أو حاجة، وإذا أكل لا يسرف في الأكل ويشبع الشبع الزائد، أما الشبع الذي لا يضر فلا بأس به.
فالناس كانوا يأكلون ويشبعون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيره، ولكن يخشى من الشبع الظاهر الزائد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان يدعى إلى ولائم، ويضيف الناس ويأمرهم بالأكل فيأكلون ويشبعون، ثم يأكل بعد ذلك عليه الصلاة والسلام ومن بقي من الصحابة.
وفي عهده يروى «أن جابر بن عبد الله الأنصاري دعا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب -يوم غزوة الخندق- إلى طعام على ذبيحة صغيرة - سخلة - وعلى شيء من شعير، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع الخبز واللحم، وجعل يدعو عشرة عشرة، فيأكلون ويشبعون ثم يخرجون، ويأتي عشرة آخرون وهكذا، فبارك الله في الشعير وفي السخلة، وأكل منها جمع غفير،(25/274)
وبقي منها بقية عظيمة، حتى صرفوها للجيران (1) » .
«والنبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم أيضا سقى أهل الصفة لبنا " قال أبو هريرة فسقيتهم حتى رووا، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم اشرب يا أبا هريرة قال: شربت. ثم قال: اشرب فشربت. ثم قال: اشرب فشربت. ثم قلت: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ما بقي وشرب عليه الصلاة والسلام (2) » . وهذا يدل على جواز الشبع وجواز الري، لكن من غير مضرة.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، برقم 3792، 3793، ومسلم في صحيحه، كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه، برقم 3800.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الرقائق، باب كيف عيش النبي صلى الله عليه وسلم، برقم 5971.(25/275)
117 - حكم الأكل والشرب واقفا
س: هناك بعض الأحاديث النبوية المطهرة تنهى عن الأكل والشرب واقفا، وهناك أيضا بعض الأحاديث تسمح(25/275)
للإنسان بالأكل والشرب واقفا، فهل معنى ذلك أننا لا نأكل ولا نشرب واقفين أم نأكل ونشرب جالسين وأي الأحاديث أجدر بالاتباع؟
ج: الأحاديث الواردة في هذا صحيحة جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الشرب قائما والأكل مثل ذلك، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه شرب قائما، فالأمر في هذا واسع وكلها صحيحة والحمد لله، فالنهي عن ذلك للكراهة، فإذا احتاج الإنسان إلى الأكل واقفا أو إلى الشرب واقفا فلا حرج، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرب قاعدا وقائما، فإذا احتاج الإنسان إلى ذلك فلا حرج أن يأكل قائما وأن يشرب قائما، وإن جلس فهو أفضل وأحسن، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم «أنه شرب من زمزم واقفا (1) » عليه الصلاة والسلام، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث علي رضي الله عنه أنه شرب قائما وقاعدا، والأمر في هذا واسع، والشرب قاعدا والأكل قاعدا أفضل وأهنأ، وإن شرب قائما فلا حرج، وهكذا إن أكل قائما فلا حرج.
__________
(1) صحيح البخاري الأشربة (5617) ، صحيح مسلم الأشربة (2027) ، سنن الترمذي الأشربة (1882) ، سنن النسائي مناسك الحج (2965) .(25/276)
118 - شرح حديث: «من أكل بصلا أو ثوما فلا يقربن مساجدنا ثلاثة أيام (1) »
س: هناك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أكل بصلا أو ثوما أو كراثا فلا يقربن مساجدنا ثلاثة أيام فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم (2) » أو كما قال عليه الصلاة والسلام هل معنى ذلك أن الآكل لأي من هذه الأشياء لا تجوز له الصلاة في المسجد حتى تمضي عليه تلك المدة أم يعتبر أكلها غير جائز لمن تلزمه صلاة الجماعة؟ (3)
ج: هذا الحديث وما في معناه من الأحاديث الصحيحة يدل على كراهة حضور المسلم لصلاة الجماعة ما دامت الرائحة توجد منه ظاهرة تؤذي من حوله؛ سواء كان ذلك من أجل الثوم أو البصل أو الكراث أو غيرها من الأشياء المكروهة الرائحة كالدخان حتى تذهب الرائحة، أما التحديد بثلاثة أيام فلا أعلم له أصلا.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (853) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (561) ، سنن أبو داود الأطعمة (3825) ، سنن الدارمي الأطعمة (2053) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب نهي من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو نحوها عن حضور المسجد، برقم 876
(3) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، جمع محمد المسند، ص 135(25/277)
119 - أحكام ماء زمزم
س: هل هناك حديث صحيح عن فائدة ماء زمزم؟
ج: ماء زمزم قد دلت الأحاديث الصحيحة على أنه ماء شريف وماء مبارك، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم «قال في زمزم: إنها مباركة، إنها طعام طعم (1) » . وزاد في رواية عند أبي داود بسند جيد: «وشفاء سقم (2) » . فهذا الحديث الصحيح يدل على فضلها وأنها طعام طعم وشفاء سقم وأنها مباركة.
والسنة الشرب منها كما شرب منها النبي صلى الله عليه وسلم ولما فيها من البركة، وهي طعام طيب طعام مبارك، طعام يشرع التناول منه إذا تيسر، كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي ذر، برقم 4520
(2) أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده برقم 459، والهيثمي في مجمع الزوائد 3 \ 286، والهندي في كنز العمال ج 12 برقم 34769، 3480(25/278)
وهذا الحديث الصحيح يدلنا على ما تقدم من فضلها وأنها مباركة وأنها طعام طعم وشفاء سقم، وأنه يستحب للمؤمن أن يشرب منها إذا تيسر له ذلك، ويجوز له الوضوء منها، ويجوز أيضا الاستنجاء منها والغسل من الجنابة إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه نبع الماء من بين أصابعه ثم أخذ الناس حاجتهم من هذا الماء ليشربوا وليتوضئوا وليغسلوا ثيابهم وليستنجوا، كل هذا واقع، وماء زمزم إن لم يكن مثل الذي نبع من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فوق ذلك فكلاهما ماء شريف، فإذا جاز الوضوء والاغتسال والاستنجاء وغسل الثياب من الماء الذي نبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم فهكذا يجوز من ماء زمزم.
وبكل حال فهو ماء طهور طيب يستحب الشرب منه، ولا حرج في الوضوء منه، ولا حرج في غسل الثياب منه، ولا حرج في الاستنجاء منه إذا دعت الحاجة إلى ذلك كما تقدم، والحمد لله.(25/279)
120 - شرح حديث: "بيت ليس فيه تمر جياع أهله"
س: ما صحة هذا الحديث: "بيت ليس فيه تمر جياع أهله"؟ (1)
ج: الحديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه (2) . وهو محمول عند أهل العلم على من كان من طعامه التمر كأهل المدينة في وقته صلى الله عليه وسلم وأشباههم ممن يقتاتون التمر، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1569 بتاريخ 17 رجب 1417 هـ
(2) أخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب في ادخار التمر ونحوه من الأقوات للعيال، برقم 3812(25/280)
كتاب اللباس والزينة
121 - ما صحة حديث أنه صلى الله عليه وسلم «كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها (1) »
س: ما صحة حديث رواه الترمذي رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها (2) » ؟ (3)
ج: هذا خبر باطل عند أهل العلم لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تشبث به بعض الناس، وهو خبر لا يصح؛ لأن في إسناده عمر بن هارون البلخي وهو متهم بالكذب.
فلا يجوز للمؤمن أن يتعلق بهذا الحديث الباطل، ولا أن يترخص بما يقوله بعض أهل العلم أو يفعله من تخفيف اللحية أو أخذ ما زاد عن القبضة؛ لأن ذلك مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بإعفاء اللحى وتوفيرها وإرخائها وقص الشوارب وإحفائها، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وكما في صحيح مسلم من
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2762) .
(2) سنن الترمذي الأدب (2762) .
(3) سؤال شخصي أجاب عنه سماحته بتاريخ 4 \ 12 \ 1411 هـ(25/281)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ لأن السنة حاكمة على الجميع، والله سبحانه وتعالى يقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (1) ويقول سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (2) ويقول سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) والله ولي التوفيق ولا حول ولا قوة إلا به.
__________
(1) سورة النساء الآية 80
(2) سورة النور الآية 54
(3) سورة النور الآية 63(25/282)
122 - حكم صبغ اللحية بالسواد
س: ما مدى صحة الأحاديث التي وردت في صبغ اللحية بالسواد، فقد انتشر صبغ اللحية بالسواد عند كثير ممن ينتسبون إلى العلم؟(25/282)
ج: في هذا الباب أحاديث صحيحة كثيرة، من أشهرها حديث جاء في قصة والد الصديق رضي الله عنه رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لما رأى رأس والد الصديق ولحيته كالثغامة بياضا: غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد (1) » . وفي رواية: «وجنبوه السواد (2) » . وحديث ابن عباس رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة (3) » . وهذا وعيد شديد، وفي ذلك أحاديث أخرى كلها تدل على تحريم الخضاب بالسواد، وعلى شرعية الخضاب بغيره.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة وتحريمه بالسواد، برقم 3925
(2) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين، برقم 13933، وابن ماجه في كتاب اللباس، باب الخضاب بالسواد، برقم 3614
(3) أخرجه الإمام أحمد في من مسند بني هاشم برقم 2341، وأبو داود في كتاب الترجل، باب ما جاء في خضاب السواد، برقم 3679، والنسائي في كتاب الزينة، باب النهي عن الخضاب بالسواد، برقم 4988(25/283)
123 - شرح حديث: "مائلات مميلات "
س: ما معنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث: "مائلات مميلات"؟ (1)
ج: هذا حديث صحيح، رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صنفان من أهل النار لم أرهما رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس؛ ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها (2) » . وهذا وعيد عظيم يجب الحذر مما دل عليه.
فالرجال الذين في أيديهم سياط كأذناب البقر هم من يتولى ضرب الناس بغير حق من شرط أو من غيرهم، سواء كان ذلك بأمر الدولة أو بغير أمر الدولة. فالدولة إنما تطاع في المعروف،
__________
(1) نشر في هذا المجموع، ج 6، ص 355.
(2) أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات، برقم 3971(25/284)
قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف (1) » . وقال عليه الصلاة والسلام: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (2) » . وأما قوله صلى الله عليه وسلم: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، فقد فسر ذلك أهل العلم بأن معنى «كاسيات (3) » يعني من نعم الله «عاريات (4) » يعني من شكرها، لم يقمن بطاعة الله، ولم يتركن المعاصي والسيئات من إنعام الله عليهن بالمال وغيره، وفسر الحديث أيضا بمعنى آخر وهو أنهن كاسيات كسوة لا تسترهن إما لرقتها أو لقصورها، فلا يحصل بها المقصود، ولهذا قال: «عاريات (5) » ؛ لأن الكسوة التي عليهن لم تستر عوراتهن «مائلات (6) » يعني: عن العفة والاستقامة؛ أي عندهن معاص وسيئات كاللائي يتعاطين الفاحشة، أو يقصرن في أداء الفرائض، من الصلوات وغيرها «مميلات (7) » : يعني: مميلات لغيرهن، أي يدعون إلى الشر والفساد، فهن بأفعالهن وأقوالهن يملن غيرهن إلى الفساد والمعاصي ويتعاطين الفواحش، لعدم إيمانهن أو لضعفه
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، برقم 6612، ومسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، برقم 3425
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة، برقم 1041
(3) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .
(4) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .
(5) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .
(6) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/356) ، موطأ مالك الجامع (1694) .
(7) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .(25/285)
وقلته، والمقصود من هذا الحديث الصحيح هو التحذير من الظلم وأنواع الفساد من الرجال والنساء، وقوله صلى الله عليه وسلم: «رءوسهن كأسنمة البخت المائلة (1) » قال بعض أهل العلم: إنهن يعظمن الرءوس بما يجعلن عليها من شعر ولفائف وغير ذلك، حتى تكون مثل أسنمة البخت المائلة، والبخت: نوع من الإبل لها سنامان، بينهما شيء من الانخفاض والميلان، هذا مائل إلى جهة وهذا مائل إلى جهة، فهؤلاء النسوة لما عظمن رؤوسهن وكبرن رءوسهن بما جعلن عليها أشبهن هذه الأسنمة. أما قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها (2) » ، فهذا وعيد شديد، ولا يلزم من ذلك كفرهن ولا خلودهن في النار كسائر المعاصي، إذا متن على الإسلام، بل هن وغيرهن من أهل المعاصي كلهم متوعدون بالنار على معاصيهم، ولكنهم تحت مشيئة الله إن شاء سبحانه عفا عنهم وغفر لهم وإن شاء سبحانه عفا عنهم وغفر لهم وإن شاء عذبهم، كما قال عز وجل في سورة النساء في موضعين: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) ومن دخل النار من أهل المعاصي فإنه لا يخلد فيها
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .
(2) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .
(3) سورة النساء الآية 48(25/286)
خلود الكفار بل من يخلد منهم كالقاتل والزاني والقاتل نفسه لا يكون خلوده مثل خلود الكفار بل هو خلود له نهاية عند أهل السنة والجماعة، خلافا للخوارج والمعتزلة ومن سار على نهجهم من أهل البدع؛ لأن الأحاديث الصحيحة قد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دالة على شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل المعاصي من أمته، وأن الله عز وجل يقبلها منه صلى الله عليه وسلم عدة مرات، في كل مرة يحد له حدا فيخرجهم من النار، وهكذا بقية الرسل والمؤمنون والملائكة والأفراط كلهم يشفعون بإذنه سبحانه، ويشفعهم عز وجل فيمن يشاء من أهل التوحيد الذين دخلوا النار بمعاصيهم وهم مسلمون، ويبقى في النار بقية من أهل المعاصي لا تشملهم شفاعة الشفعاء، فيخرجهم الله سبحانه برحمته وإحسانه، ولا يبقى في النار إلا الكفار فيخلدون فيها أبد الآباد، كما قال عز وجل في حق الكفرة: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} (1) وقال تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} (2) وقال سبحانه في الكفرة من عباد الأوثان:
__________
(1) سورة الإسراء الآية 97
(2) سورة النبأ الآية 30(25/287)
{كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (1) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة. نسأل الله العافية والسلامة من حالهم
__________
(1) سورة البقرة الآية 167
(2) سورة المائدة الآية 36
(3) سورة المائدة الآية 37(25/288)
124 - حكم الإسلام في الشعر الصناعي المسمى (الباروكة)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ثبت في الصحيحين «عن معاوية رضي الله عنه أنه خطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتناول قصة من الشعر كانت بيد حرسي، فقال: أين علماؤكم يا أهل المدينة؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه(25/288)
ويقول: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم (1) » وفي لفظ لمسلم: «إنما عذب بنو إسرائيل لما اتخذ هذه نساؤهم (2) » وفي الصحيحين أيضا، واللفظ لمسلم عن سعيد بن المسيب قال: «قدم معاوية المدينة فخطبنا وأخرج كبة من شعر فقال: ما كنت أرى أن أحدا يفعله إلا اليهود، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه فسماه الزور (3) » وفي لفظ آخر لمسلم: أن معاوية رضي الله عنه قال ذات يوم: «إنكم قد أحدثتم زي سوء وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الزور (4) »
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم عند كلامه على هذا الحديث: قوله قصة من شعر قال الأصمعي وغيره: هي شعر مقدم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، برقم 3209، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة، برقم 3968.
(2) أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة، برقم 3968.
(3) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، برقم 3229، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة برقم 3969.
(4) رواه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة برقم 3970.(25/289)
الرأس المقبل على الجبهة وقيل: شعر الناصية، قال: وقوله: أخرج كبة من شعر هي بضم الكاف وتشديد الباء وهي شعر مكفوف بعضه على بعض، وقال صاحب القاموس: القصة بالضم شعر الناصية.
وفي هذا الحديث الدلالة الصريحة على تحريم اتخاذ الرأس الصناعي المسمى (الباروكة) لأن ما ذكره معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح في حكم القصة والكبة ينطبق عليه، بل ما اتخذه الناس اليوم مما يسمى الباروكة أشد من التلبيس وأعظم من الزور إن لم يكن هو عين ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم عن بني إسرائيل فليس دونه، بل هو أشد منه في الفتنة والتلبيس والزور ويترتب عليه من الفتنة ما يترتب على القصة والكبة إن لم يكن هو عينهما، ولا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى؛ لأن العلة تعمهما جميعا وبذلك يكون محرما من وجوه أربعة: أحدها: أنه من جملة الأمور التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل في النهي التحريم؛ لقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتبوه وما أمرتكم به
__________
(1) سورة الحشر الآية 7(25/290)
فأتوا منه ما استطعتم (1) » الحديث متفق على صحته. الثاني: أنه زور وخداع، والثالث: أنه تشبه باليهود وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم (2) » ، الرابع: أنه من موجبات العذاب والهلاك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما هلكت بنو إسرائيل لما اتخذ مثل هذه نساؤهم (3) » ، ويؤيد ما ذكرنا تحريم اتخاذ هذا الرأس أنه أشد في التلبيس والزور والخداع من وصل الشعر بالشعر.
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما أنه «لعن الواصلة والمستوصلة (4) » ، والواصلة هي التي تصل شعرها بشعر آخر؛ ولهذا ذكر البخاري رحمه الله هذا الحديث أعني حديث معاوية في باب وصل الشعر، تنبيها منه رحمه الله على أن اتخاذ مثل هذا الرأس الصناعي في حكم الوصل، وذلك يدل على فقهه- رحمه الله- وسعة علمه ودقة فهمه، ووجه
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، برقم 6744، ومسلم في كتاب الفضائل، باب توقيره صلى الله عليه وسلم برقم 4348.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب اللباس والزينة، باب في لبس الشهرة، برقم 3512.
(3) صحيح البخاري اللباس (5933) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2127) ، سنن الترمذي الأدب (2781) ، سنن النسائي الزينة (5245) ، سنن أبو داود الترجل (4167) ، مسند أحمد بن حنبل (4/98) ، موطأ مالك الجامع (1765) .
(4) صحيح البخاري تفسير القرآن (4887) .(25/291)
ذلك: أنه إذا كان وصل المرأة شعرها. بما يطوله أو يكثره ويكبره حراما تستحق عليه اللعنة، لما في ذلك من الخداع والتلبيس والزور، فاتخاذ رأس كامل مزور أشد في التدليس وأعظم في الزور والخداع، وهذا بحمد الله واضح.
فالواجب على المسلمين محاربة هذا الحدث الشنيع وإنكاره وعدم استعماله، كما يجب على ولاة الأمور وفقهم الله منعه والتحذير منه؛ عملا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتنفيذا لمقتضاها، وحسما لمادة الفتنة، وحذرا من أسباب الهلاك والعذاب، وحماية للمسلمين من مشابهة أعداء الله اليهود، وتحذيرا لهم مما يضرهم في العاجل والآجل، والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين وأن يفقههم في الدين وأن يعيذهم من كل ما يخالفه وأن يوفق ولاة أمرهم لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد في المعاش والمعاد إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(25/292)
125 - وجوب إعفاء اللحية وتحريم حلقها أو قصها
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فقد نشرت صحيفة المدينة في عددها الصادر في 24 \ 1 \ 1415هـ مقالا للشيخ محمد بن علي الصابوني عفا الله عنا وعنه، يتضمن ما نصه:
ومما يتعلق بالصورة والمظهر أن يهذب المسلم شعره، أو يقص أظافره ويتعاهد لحيته، فلا يتركها شعثة مبعثرة، دون تشذيب أو تهذيب، ولا يتركها تطول بحيث تخيف الأطفال، وتفزع الرجال فكل شيء زاد عن حده انقلب إلى ضده، فمن الشباب من يظن أن أخذ أي شيء من اللحية حرام، فنراه يطلق لها العنان حتى تصل إلى سرته ويصبح في مظهره كأصحاب الكهف {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} (1)
__________
(1) سورة الكهف الآية 18(25/293)
إلى آخر ما ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن ابن عمر رضي الله عنهما.
ولما كان في هذا الكلام مخالفة للسنة الصحيحة وإباحة لتشذيب اللحية وتقصيرها رأيت أن من الواجب التنبيه على ما تضمنه كلامه وفقه الله من الخطأ العظيم والمخالفة الصريحة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما أنه قال: «قصوا الشوارب وأعفو اللحى (1) » ، وفي لفظ: «قصوا الشوارب ووفروا اللحى خالفوا المشركين (2) » ، وفي رواية مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس (3) » ففي هذه الأحاديث الصحيحة الأمر الصريح بإعفاء اللحى وتوفيرها وإرخائها وقص الشوارب مخالفة للمشركين والمجوس. والأصل في الأمر الوجوب فلا تجوز مخالفته إلا بدليل يدل على عدم الوجوب وليس هناك دليل يدل على جواز قصها وتشذيبها وعدم إطالتها. وقد قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4)
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .
(3) صحيح مسلم الطهارة (260) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .
(4) سورة الحشر الآية 7(25/294)
وقال سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (1) وقال عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قيل: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (3) » رواه البخاري في صحيحه. وقال صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم (4) » متفق عليه. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقد احتج الشيخ محمد المذكور على ما ذكره بما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
__________
(1) سورة النور الآية 54
(2) سورة النور الآية 56
(3) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، صحيح مسلم الإمارة (1835) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .
(4) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الفضائل (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .(25/295)
وسلم أنه «كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها، (1) » وهذا الحديث ضعيف الإسناد لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو صح لكان حجة كافية في الموضوع ولكنه غير صحيح؛ لأن في إسناده عمر بن هارون البلخي، وهو متروك الحديث.
واحتج أيضا الشيخ على ما ذكره بفعل ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأخذ من لحيته في الحج ما زاد عن القبضة، وهذا لا حجة فيه؛ لأنه اجتهاد من ابن عمر رضي الله عنهما، والحجة في روايته لا في اجتهاده، وقد صرح العلماء أن رواية الراوي من الصحابة ومن بعدهم الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي الحجة وهي مقدمة على رأيه إذا خالف السنة.
فأرجو من صاحب المقال الشيخ محمد أن يتقي الله سبحانه وأن يتوب إليه مما كتب وأن يصرح بذلك في الصحيفة التي نشر فيها الخطأ، ومعلوم عند أهل العلم أن الرجوع إلى الحق شرف لصاحبه وواجب عليه وخير له من التمادي في الخطأ.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياه وجميع المسلمين للفقه في الدين وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأن يصلح
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2762) .(25/296)
قلوبنا وأعمالنا، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء
وإدارة البحوث العلمية والإفتاء(25/297)
126 - حكم إعفاء اللحية وخبر الآحاد
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فقد اطلعت على مقال لبعض الكتاب في عام 1391 هـ جزم فيه بأن حلق اللحية ليس حراما ولا مباحا ولكنه مكروه، وبنى ذلك على أمرين: أحدهما: أنه لم يرد في ذلك نص قطعي يدل على تحريم حلقها. والثاني: أن الأمر بالشيء لا يقتضي تحريم مخالفته لأمور منها:
أن المختار عن الحنفية أن الأمر بالشيء لا يقتضي تحريم ضده. ومنها: أن الأمر بالشيء إذا اقترن به علة معقولة المعنى -(25/297)
وهي أن الشارع لم يطلبه لذاته، بل لمقصد آخر مقترن به عند صدور الأمر - إذا انفك عنه هذا المقصد لم يفد الأمر الوجوب، والأمر بالإعفاء والإحفاء المقصود منه مخالفة المجوس. ومنها: أن مخالفة المسلمين غيرهم مطلوبة فيما هو من شعائر دينهم لا مطلقا ... إلخ.
ومنها: أنه ورد ما يدل على عدم التحريم؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إن اليهود والنصارى لا يصلون في نعالهم فخالفوهم (1) » ، ولم يقل أحد بوجوب الصلاة في النعال وأن خلعها حرام، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم (2) » ، وقد فهم منه الصحابة الندب، فلم يصبغ بعضهم. ومنها أنه إذا ذكرت أفعال متعددة وأعطيت حكما واحدا سرى هذا الحكم عليها جميعا، وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: «عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار (3) » إلى آخر الحديث.
ومنها: أنه قد ثبت «أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها (4) » ، ولو كان الأمر بالإعفاء على إطلاقه لما أخذ منها شيئا.
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (652) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3462) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2103) ، سنن النسائي الزينة (5071) ، سنن أبو داود الترجل (4203) ، سنن ابن ماجه اللباس (3621) ، مسند أحمد بن حنبل (2/309) .
(3) صحيح مسلم الطهارة (261) ، سنن الترمذي الأدب (2757) ، سنن النسائي الزينة (5040) ، سنن أبو داود الطهارة (53) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (293) ، مسند أحمد بن حنبل (6/137) .
(4) سنن الترمذي الأدب (2762) .(25/298)
هذه جملة ما بنى عليه هذا الكاتب حكمه بعدم تحريم حلق اللحية.
وقد تضمن مقاله تحبيذ الإعراض عن البحث في هذا الموضوع؛ لأن مسألة اللحية من المسائل الفرعية، ونحن المسلمين نقف في ميدان حرب بين الكفر والإيمان، ومن كان بيته مهددا بالنسف بالبارود لا يسأل عن زجاج النافذة من كسره؟ ومن كان على سرير العمليات يعمل الطبيب سكينه في رئته لاستخراج السرطان منها يخشى أن يعاجله الموت قبل أن يعالجه من المرض لا يدع عملية الرئة لاستخراج شوكة من تحت ظفر اليد.. إلى أن قال في آخر مقاله: وأكرر القول أننا نواجه اليوم أعنف هجوم على الإسلام، ونقابل حربا تخطط لها عقول كبيرة شريرة، وتنفق عليها الأموال الكثيرة الوفيرة ... إلى أن قال: من الواجب توجيه القوى الإسلامية إلى ذلك العدو.. إلى أن قال: ومقصدي أن أقول لإخواننا الدعاة إلى الله: إن عدم إعفاء اللحية ليس من المحرمات الصريحة فلا يبدءوا الشباب بها ولا يحملوهم حملا عليها، بل نبدأ بما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح الإيمان واجتناب الكبائر وإقامة الأركان. انتهى.(25/299)
كما ذكر في أثناء المقال أنه ذهب إلى أوربا للعلاج فرأى أن إعفاء اللحية صار شعارا لطائفة من الهيبيين الفاسدين وأنها حلية المنحرفين ... ثم قال: أقول هذا لمجرد البيان.
والجواب أن يقال: قد وقع في هذا المقال أخطاء كثيرة بعضها أشد من بعض، وسننبه عليها إن شاء الله بالتفصيل.
فنقول: أما اشتراطه للحكم بالتحريم أن يكون النص قطعي الورود والدلالة، فهو مجرد دعوى لا دليل عليها، بل قول باطل من وجوه:
الوجه الأول: أن ذلك خلاف المعروف من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه رضي الله عنهم وعمل العلماء بعدهم. فلم يزل صلى الله عليه وسلم يبعث الواحد والاثنين وأكثر من ذلك دعاة ومبلغين للإسلام وأحكام الشريعة، ولو كان ذلك لا تقوم به الحجة لم يفعله عليه الصلاة والسلام، ولم يزل أصحابه رضي الله عنهم يعملون بخبر الآحاد ويحتجون به في العقائد والأحكام، ولا نعلم أن أحدا منهم أنكر ذلك وليس كل خبر من أخبار الآحاد يفيد القطع. فعلم بذلك أن هذا الشرط لا أصل له(25/300)
عندهم، والوقائع عنهم في ذلك كثيرة مشهورة؛ منها: عمل الصديق رضي الله عنه بشهادة المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة في ميراث الجدة، وعمل عمر رضي الله عنه بشهادتهما في دية الجنين، وعمله بشهادة أبي موسى وأبي سعيد رضي الله عنهما في الاستئذان، وأمره لابنه عبد الله أن يقبل خبر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إذا أخبره عن الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء، ولا يسأل عنه غيره، ومنها: عمل أهل قباء بخبر الذي أخبرهم بنسخ القبلة من الشام إلى الكعبة.. إلى غير ذلك من الوقائع الكثيرة.
وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم والعلماء بعدهم على العمل بحديث عمرو بن العاص وأبي هريرة رضي الله عنهما في تحريم الجمع بين المرأة وخالتها وبين المرأة وعمتها، وخصوا بذلك قول الله سبحانه: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (1) والأدلة في ذلك أكثر من أن تحصى.
الوجه الثاني: أنه يترتب على هذا الشرط إلغاء الكثير من الأحكام الشرعية الثابتة بالسنة المطهرة؛ لأن أدلتها ليست قطعية
__________
(1) سورة النساء الآية 24(25/301)
بالمعنى الذي يقصده هذا الكاتب؛ لأن القطعي من السنة عند أكثر المتأخرين هو المتواتر، أما الآحاد ليست قطعية عندهم، وهذا اللازم كاف في إبطال هذا الشرط وعدم اعتباره، فكيف وهو مخالف لجميع الأدلة الشرعية، ولما سار عليه المصطفى عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضي الله عنهم وجميع العلماء بعدهم، كما سبق بيان ذلك في الوجه الأول.
الوجه الثالث: ما قد علم من إجماع علماء الإسلام على أنه يجب العمل بالأدلة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأحكام من التحريم والإباحة وغيرهما؛ وإنما اختلف علماء الأصول في إفادة أخبار الآحاد العلم؛ فقال قوم: إنها لا تفيد إلا الظن وإنما يستفاد العلم من نص القرآن الكريم والأحاديث المتواترة، وقال آخرون: بل يستفاد العلم من أخبار الآحاد ويقطع صحتها بالقرائن الدالة على ذلك. أما العمل بها في إثبات العقائد والأحكام فلم يختلف العلماء في وجوبه.
وممن صرح بذلك الإمام أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله في كتابه: (جامع بيان العلم وفضله) قال ما نصه بعدما ذكر الضرب الأول من السنة وهو الخبر المتواتر، قال: والضرب الثاني من السنة خبر الآحاد الثقات الأثبات المتصل(25/302)
الإسناد، فهذا يوجب العمل عند جماعة علماء الأمة الذين هم الحجة والقدوة، ومنهم من يقول: إنه يوجب العلم والعمل جميعا. انتهى المقصود.
وقال العلامة النووي رحمه الله في مقدمة شرحه لصحيح مسلم بعدما ذكر قول العلامة ابن الصلاح: إن أحاديث الصحيحين تفيد القطع والعلم النظري؛ لتلقي الأمة لهما بالقبول ما نصه: وهذا الذي ذكره الشيخ خلاف ما قاله المحققون والأكثرون؛ فإنهم قالوا: أحاديث الصحيحين التي ليست بمتواترة إنما تفيد الظن فإنها آحاد والآحاد إنما تفيد الظن على ما تقرر، ولا فرق بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك، وتلقي الأمة لهما بالقبول إنما أفادنا وجوب العمل بما فيهما، وهذا متفق عليه. فإن أخبار الآحاد التي في غيرهما يجب العمل بها إذا صحت أسانيدها ولا تفيد إلا الظن، فكذا الصحيحان، وإنما يفترق الصحيحان وغيرهما من الكتب في كون ما فيهما صحيحا لا يحتاج إلى النظر فيه، بل يجب العمل به مطلقا، وما كان في غيرهما لا يعمل به حتى ينظر وتوجد فيه شروط الصحيح. ولا يلزم من إجماع الأمة(25/303)
على العمل بما فيهما إجماعهم على أنه مقطوع بأنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وهذا الذي ذكره النووي رحمه الله من إجماع الأمة على وجوب العمل بأحاديث الصحيحين وإن لم تفد القطع؛ لكونها أخبار آحاد موافق لما نقلناه آنفا عن الإمام ابن عبد البر ودال على أن الخلاف بين العلماء في أخبار الآحاد إنما هو في إفادتها العلم لا في وجوب العمل بها إذا صحت أسانيدها، وهذا مطابق لما ذكرنا في الوجه الأول والثاني من هذا الجواب، وهو معلوم من الدين بالضرورة، والقول بخلافه قول في غاية البطلان والمخالفة للأدلة الشرعية ولما اجتمعت عليه الأمة.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في النخبة وشرحها ما نصه: وقد يقع فيها - أي في أخبار الآحاد المنقسمة إلى مشهور وعزيز وغريب - ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار، خلافا لمن أبى ذلك، والخلاف في التحقيق لفظي؛ لأن من جوز إطلاق العلم قيده بكونه نظريا، وهو الحاصل عن الاستدلال، ومن أبى الإطلاق خص لفظ العلم بالمتواتر، وما عداه عنده كله ظني،(25/304)
لكنه لا ينفي أن ما احتف بالقرائن أرجح مما خلا عنها، والخبر المحتف بالقرائن أنواع: منها ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما مما لم يبلغ التواتر، فإنه احتفت به قرائن منها: جلالتهما في هذا الشأن وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة على التواتر، إلا أن هذا يختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه مما وقع في الكتابين؛ حيث لا ترجيح لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته.
فإن قيل: إنما اتفقوا على وجوب العمل به لا على صحة معناه، وسند المنع أنهم متفقون على وجوب العمل بكل ما صح ولو لم يخرجه الشيخان، فلم يبق للصحيحين في هذا مزية، والإجماع حاصل على أن لهما مزية فيما يرجع إلى نفس الصحة.
وممن صرح بإفادة ما خرجه الشيخان العلم النظري الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، ومن أئمة الحديث أبو عبد الله الحميدي(25/305)
وأبو الفضل ابن طاهر وغيرهما. ويحتمل أن يقال: المزية المذكورة كون أحاديثهما أصح الصحيح، ومنها المشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل.
وممن صرح بإفادته العلم النظري الأستاذ أبو منصور البغدادي، والأستاذ أبو بكر ابن فورك وغيرهما. ومنها المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين حيث لا يكون غريبا كالحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل مثلا ويشاركه فيه غيره عن الشافعي، ويشاركه فيه غيره عن مالك بن أنس، فإنه يفيد العلم عند سامعه بالاستدلال من جهة جلالة رواته وأن فيهم من الصفات اللائقة الموجبة للقبول ما يقوم مقام العدد الكثير من غيرهم، ولا يتشكك من له أدنى ممارسة للعلم وأخبار الناس أن مالكا مثلا لو شافهه بخبر أنه صادق فيه، فإذا انضاف إليه من هو في تلك الدرجة ازداد قوة، وبعد عما يخشى عليه من السهو.
وهذه الأنواع التي ذكرناها لا يحصل العلم بصدق الخبر منها إلا للعالم بالحديث المتبحر فيه، العارف بأحوال الرواة، المطلع على العلل. وكون غيره لا يحصل له العلم بصدق ذلك؛ لقصوره عن الأوصاف المذكورة لا ينفي حصول العلم للمتبحر المذكور.(25/306)
ومحصل الأنواع الثلاثة التي ذكرناها: أن الأول يختص بالصحيحين، والثاني: بما له طرق متعددة، والثالث: بما رواه الأئمة، ويمكن اجتماع الثلاثة في حديث واحد فلا يبعد حينئذ القطع بصدقه. والله أعلم.
وهذا الذي ذكره الحافظ رحمه الله موافق لما نقلناه عن الإمام ابن عبد البر والعلامة النووي رحمة الله عليهما في بيان أن الخلاف إنما هو في إفادة أخبار الآحاد العلم والقطع، أما الاحتجاج بها ووجوب العمل بها إذا صحت أسانيدها فأمر مجمع عليه بين أهل العلم، وأحاديث الأمر بإعفاء اللحى وقص الشوارب أحاديث صحيحة قد روى بعضها الشيخان وروى بعضها الإمام مسلم في صحيحه، كما رواها غيرهما من أئمة أهل الحديث، فهي صحيحة بلا ريب ومفيدة للقطع - بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قالها - عند جمع من أئمة الحديث منهم أبو عبد الله الحميدي وأبو الفضل ابن طاهر وأبو عمرو ابن الصلاح وغيرهم رحمهم الله.
فعلم بما أوضحناه أن تعليل أحاديث الأمر بإعفاء اللحى وإرخائها وجز الشوارب بأنها ليست قطعية الورود والدلالة -(25/307)
تعليل باطل مخالف لما أجمع عليه أهل العلم، لا يجوز التعلق به ولا التعويل عليه، بل يجب على قائله أن يعلن التوبة إلى الله منه؛ لكونه منكرا عظيما وقولا شنيعا، يترتب عليه أنواع من الباطل وطعن في كثير من أحكام الشرع المطهر، والمنكر إذا أعلن يجب على صاحبه أن يعلن التوبة منه حتى يعلم رجوعه عنه، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (1) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2) فلم يكتف سبحانه في حق هؤلاء بمجرد التوبة والإصلاح، بل شرط في صحة ذلك البيان؛ فقال: {وَبَيَّنُوا} (3) فعلم أن التوبة الخالية من البيان لا تكفي، بل لا بد من بيان الحق للناس حتى يخرج بذلك من عهدة الكتمان. ولا شك أن من قال هذا القول المنكر لو تأمل المقام حين قال ما قال لم يقدم على هذه المقالة الشنيعة؛ لأن أهل العلم الراغبين في بيان الحق للناس لا يخفى عليهم أمرها لو تأملوا.
__________
(1) سورة البقرة الآية 159
(2) سورة البقرة الآية 160
(3) سورة البقرة الآية 160(25/308)
فالواجب على كل من قال هذا المقال الرجوع عن الخطأ وإظهار الحق كما هو سبيل أهل العلم، وليس في بيان الحق والرجوع إليه نقص ولا غضاضة على طالب العلم، بل ذلك دليل على فضله وإنصافه وإيثاره الحق على ما سواه.
وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه: (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) في هذا المقام كلاما جيدا عظيم النفع للقراء لعظم فائدته ومسيس الحاجة إليه في هذه المسألة وغيرها. وهذا نصه:
وأما المقام الرابع - وهو إفادتها للعلم واليقين - فنقول وبالله التوفيق: الأخبار المقبولة في باب الأمور الخبرية العلمية أربعة أقسام:
أحدها: متواتر لفظا ومعنى.
والثاني: أخبار متواترة معنى وإن لم تواتر بلفظ واحد.
الثالث: أخبار مستفيضة متلقاة بالقبول بين الأمة.
الرابع: أخبار آحاد مروية بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط عن مثله حتى تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.(25/309)
فأما القسمان الأولان: فكالأخبار الواردة في عذاب القبر والشفاعة والحوض ورؤية الرب تعالى وتكليمه عباده يوم القيامة، وأحاديث علوه فوق سماواته على عرشه، وأحاديث إثبات العرش، والأحاديث الواردة في إثبات المعاد والجنة والنار، ونحو ذلك مما يعلم بالاضطرار أن الرسول جاء بها، كما يعلم بالاضطرار أنه جاء بالتوحيد وفرائض الإسلام وأركانه وجاء بإثبات الصفات للرب تبارك وتعالى، فإنه ما من باب من هذه الأبواب إلا وقد تواتر فيه المعنى المقصود عن النبي صلى الله عليه وسلم تواترا معنويا لنقل ذلك عنه بعبارات متنوعة من وجوه متعددة يمتنع في مثلها في العادة التواطؤ على الكذب عمدا أو سهوا.
وإذا كانت العادة العامة والخاصة المعهودة من حال سلف الأمة وخلفها تمنع التواطؤ على الاتفاق على الكذب في هذه الأخبار ويمتنع في العادة وقوع الغلط فيها أفادت العلم اليقين.
ثم للناس في حصول العلم بها طريقان: أحدهما: أنه ضروري. والثاني: أنه نظري.
فأصحاب الضرورة يستدلون بحصول العلم لهم ضرورة على حصول التواتر الموجب له، وأصحاب النظر يعكسون الأمر،(25/310)
ويقولون: نحن نستدل بتواتر المخبرين على إفادة العلم، والطريق الأول أعلى التقديرين، فكل عالم بهذه الأحاديث وطرقها ونقلتها وتعددها يعلم علما يقينا لا شك فيه بل يجد نفسه مضطرة إلى ثبوتها أولا وثبوت مخبرها ثانيا، ولا يمكنه دفع هذين العلمين عن نفسه: العلم الأول: ينشأ من جهة معرفته بطريق الأحاديث وتعددها وتباين طرقها واختلاف مخارجها وامتناع التواطؤ زمانا ومكانا على وضعها.
والعلم الثاني: ينشأ من جهة إيمانه بالرسالة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يخبر به. وهذا عند أهل العلم أعظم من علم الأطباء بوجود بقراط وجالينوس، فإنهما من أفاضل الأطباء، وأعظم من علم النحاة بوجود سيبويه والخليل والفراء وعلمهم بالعربية، ولكن أهل الكلام وأتباعهم في الغاية من قلة المعرفة بالحديث وعدم الاعتناء به، وكثير منهم بل أفضلهم عند أصحابه لا يعتقد أنه روي في الباب الذي يتكلم فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، أو يظن أن المروي فيه حديث أو حديثان، كما يجده لأكابر شيوخ المعتزلة؛ كأبي الحسين البصري، يعتقد أنه ليس في الرؤية إلا حديث واحد وهو حديث جرير، ولم يعلم أن فيها ما يقارب ثلاثين حديثا. وقد ذكرناها في كتاب صفة الجنة(25/311)
(حادي الأرواح) ، فإنكار هؤلاء لما علمه أهل الوراثة النبوية من كلام نبيهم أقبح من إنكار ما هو مشهور من مذاهب الأئمة عند أتباعهم، وما يعلم أن كثيرا من الناس قد تطرق سمعه هذه الأحاديث ولا تفيده علما؛ لأنه لم تجتمع طرقها وتعددها واختلاف مخارجها في قلبه، فإذا اتفق لها إعراض عنها أو نفرة عن روايتها وإحسان ظن بمن قال بخلافها أو تعارض خيال شيطاني يقول بقلبه فهناك يكون الأمر كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} (1) فلو كانت أضعاف ذلك لم تحصل لهم إيمانا ولا علما، وحصول العلم في القلب بموجب التواتر؛ مثل الشبع والري ونحوهما.
وكل واحد من الأخبار يفيد قدرا من العلم، فإذا تعددت الأخبار وقويت أفادت العلم، إما للكثرة وإما للقوة وإما لمجموعهما، كما يحصل الشبع إما بكثرة أو بقوة المأكول وإما لمجموعهما، والعلم بمخبر الخبر لا يكون بمجرد سماع حروفه بل بفهم معناه مع سماع لفظه، فإذا اجتمع في قلب المستمع لهذه
__________
(1) سورة فصلت الآية 44(25/312)
الأخبار العلم بطريقها ومعرفة حال رواتها وفهم معناه حصل له العلم الضروري الذي لا يمكنه دفعه، ولهذا كان جميع أئمة الحديث الذين لهم لسان صدق في الأمة قاطعين بمضمون هذه الأحاديث شاهدين بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم جازمين بأن من كذب بها أو أنكر مضمونها فهو كافر.
مع علم من له اطلاع على سيرتهم وأحوالهم بأنهم أعظم الناس صدقا وأمانة وديانة وأوفرهم عقولا وأشدهم تحفظا وتحريا للصدق ومجانبة للكذب، وأن أحدا منهم لا يحابي في ذلك أباه ولا ابنه ولا شيخه ولا صديقه وأنهم حرروا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريرا لم يبلغه أحد سواهم، لا من الناقلين عن الأنبياء، ولا عن غير الأنبياء، وهم شاهدوا شيوخهم على هذه الحال وأعظم، وأولئك شاهدوا من فوقهم كذلك وأبلغ حتى انتهى الأمر إلى من أثنى الله عليهم أحسن الثناء وأخبر برضاه عنهم واختياره لهم واتخاذه إياهم شهداء على الأمم يوم القيامة، ومن تأمل ذلك أفاده علما ضروريا بما ينقلونه عن نبيهم أعظم من كل علم ينقله كل طائفة عن صاحبه، وهذا أمر وجداني عندهم(25/313)
لا يمكنهم جحده، بل هو بمنزلة ما يحسونه من الألم واللذة والحب والبغض حتى إنهم يشهدون بذلك ويحلفون عليه ويباهلون من خالفهم عليه ... إلى أن قال: فصل: خبر الواحد بحسب الدليل الدال عليه؛ فتارة يجزم بكذبه لقيام دليل كذبه، وتارة يظن كذبه إذا كان دليل كذبه ظنيا، وتارة يتوقف فيه، فلا يترجح كذبه ولا صدقه، إذا لم يقم دليل أحدهما، وتارة يترجح صدقه ولا يجزم به، وتارة يجزم بصدقه جزما لا يبقى معه شك، فليس خبر كل واحد يفيد العلم ولا الظن، ولا يجوز أن ينفي عن خبر الواحد مطلقا أنه يحصل العلم به، فلا وجه لإقامة الدليل على أن خبر الواحد لا يفيد العلم، وإلا اجتمع النقيضان، بل نقول: خبر الواحد يفيد العلم في مواضع:
أحدها: خبر من قام الدليل القطعي على صدقه، وهو خبر الواحد القهار جل وعلا، وخبر رسوله في كل ما يخبر به.
الثاني: خبر الواحد بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصدقه كخبر الحبر الذي أخبر بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يضع السماوات على أصبع والأرضين على(25/314)
أصبع والشجر على أصبع فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا له، وكخبر من أخبره أنه رأى السد مثل البرد المحبر فقال: قد رأيته. ومن هذا ترتيبه صلى الله عليه وسلم على خبر المخبر له مقتضاه (كغزوه من أخبره بنقض قوم العهد) وخبر من أخبره عن رجل أنه شتمه ونال من عرضه فأمر بقتله، فهذا تصديق للمخبر بالفعل.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يقطع بصدق أصحابه كما قطع بصدق تميم الداري لما أخبره بقصة الدجال وروى ذلك عنه على المنبر، ولم يقل: أخبرني جبريل عن الله بل قال: حدثني تميم الداري، ومن له أدنى معرفة بالسنة يرى هذا كثيرا فيما يجزم بصدق أصحابه ويرتب على أخبارهم مقتضاها من المحاربة والمسالمة والقتل والقتال. ونحن نشهد بالله ولله شهادة على البت والقطع لا نمتري فيها ولا نشك على صدقهم ونجزم به جزما ضروريا لا يمكننا دفعه عن نفوسنا، ومن هذا أنه كان يجزم بصدقهم فيما يخبرونه به من رؤيا المنام ويجزم لهم بتأويلها ويقول: «إنها رؤيا حق» ، وأثنى الله تعالى عليه بذلك في قوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} (1)
__________
(1) سورة التوبة الآية 61(25/315)
فأثنى عليه ومدحه بتصديقه لمن أخبره من المؤمنين ومن هذا إخبار الصحابة به بعضهم بعضا، فإنهم كانوا يجزمون بما يحدث به أحدهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل أحد منهم لمن حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: خبرك خبر واحد لا يفيد العلم حتى يتواتر، وتوقف من توقف منهم حتى عضده آخر منهم لا يدل على رد خبر الواحد عن كونه خبر واحد وإنما كان يستثبت أحيانا نادرة جدا إذا استخبر، ولم يكن أحد من الصحابة ولا أهل الإسلام بعدهم يشكون فيما يخبر به أبو بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وأبو ذر ومعاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمر وأمثالهم من الصحابة، بل كانوا لا يشكون في خبر أبي هريرة مع تفرده بكثير من الحديث، ولم يقل له أحد منهم يوما واحدا من الدهر: خبرك خبر واحد لا يفيد العلم، وكان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل في صدورهم من أن يقابل بذلك، وكان(25/316)
المخبر لهم أجل في أعينهم وأصدق عندهم من أن يقولوا له مثل ذلك، وكان أحدهم إذا روى لغيره حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات تلقاه بالقبول واعتقد تلك الصفة به على القطع واليقين كما اعتقد رؤية الرب وتكليمه ونداءه يوم القيامة لعباده بالصوت الذي يسمعه البعيد كما يسمعه القريب، ونزوله إلى سماء الدنيا كل ليلة وضحكه وفرحه وإمساك سماواته على إصبع من أصابع يده وإثبات القدم له، من سمع هذه الأحاديث ممن حدث بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن صاحب اعتقد ثبوت مقتضاها بمجرد سماعها من العدل الصادق، ولم يرتب فيها، حتى إنهم ربما ثبتوا في بعض أحايث الأحكام حتى يستظهروا بآخر، كما استظهر عمر رضي الله عنه برواية أبي سعيد الخدري على خبر أبي موسى. وكما استظهر أبو بكر رضي الله عنه برواية محمد بن مسلمة على رواية المغيرة بن شعبة في توريث الجدة.
ولم يطلب أحد منهم الاستظهار في رواية أحاديث الصفات البتة، بل كانوا أعظم مبادرة إلى قبولها وتصديقها والجزم بمقتضاها(25/317)
وإثبات الصفات بها من المخبر لهم بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن له أدنى إلمام بالسنة والتفات إليها يعلم ذلك، ولولا وضوح الأمر في ذلك لذكرنا أكثر من مائة موضع.
فهذا الذي اعتمده نفاة العلم عن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة وإجماع التابعين وإجماع أئمة الإسلام ووافقوا به المعتزلة والجهمية والرافضة والخوارج الذين انتهكوا هذه الحرمة وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء، وإلا فلا يعرف لهم سلف من الأئمة بذلك بل صرح الأئمة بخلاف قولهم، فممن نص على أن خبر الواحد يفيد العلم: مالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة وداود بن علي وأصحابه كأبي محمد ابن حزم، ونص عليه الحسين بن علي الكرابيسي والحارث بن أسد المحاسبي. قال ابن خويز منداد في كتاب أصول الفقه: وقد ذكر خبر الواحد الذي لم يروه إلا الواحد والاثنان.
ويقع بهذا الضرب أيضا العلم الضروري، نص على ذلك مالك، وقال أحمد في حديث الرؤية: نعلم أنها حق ونقطع على العلم بها. وكذلك روى المروذي قال: قلت لأبي عبد الله: ههنا(25/318)
اثنان يقولان: إن الخبر يوجب عملا ولا يوجب علما. فعابه وقال: لا أدري ما هذا. وقال القاضي: وظاهر هذا أنه يسوي بين العلم والعمل. وقال القاضي في أول المجرد: خبر الواحد يوجب العلم إذا صح سنده ولم تختلف الرواية فيه وتلقته الأمة بالقبول.
وأصحابنا يطلقون القول فيه وأنه يوجب العلم وإن لم نتلقه بالقبول. قال: والمذهب على ما حكيت لا غيره. إلى أن قال: وصرحت الحنفية في كتبهم بأن الخبر المستفيض يوجب العلم، ومثلوه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث (1) » قالوا: مع أنه إنما روي من طريق الآحاد، قالوا: ونحوه حديث ابن مسعود في المتبايعين إذا اختلفا أن القول قول البائع أو يترادان. قالوا: ونحوه حديث عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوسي.
قالوا: وكذلك حديث المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة في إعطاء الجدة السدس، قد اتفق السلف والخلف على استعمال حكم هذه الأخبار حين سمعوها، فدل ذلك من أمرها على صحة مخرجها وسلامتها، وإن كان قد خالف فيها قوم فإنهم عندنا
__________
(1) سنن الترمذي الوصايا (2120) ، سنن أبو داود البيوع (3565) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2713) .(25/319)
شذوذ ولا يعتد بهم في الإجماع. قال: وإنما قلنا: ما كان هذا سبيله من الأخبار فإنه يوجب العلم بصحة مخبره من قبل أنا إذا وجدنا السلف قد اتفقوا على قبول خبر هذا وصفه من غير تثبت فيه ولا معارضة بالأصول أو بخبر مثله مع علمنا بمذاهبهم في قبول الأخبار والنظر فيها وعرضها على الأصول دلنا ذلك من أمورهم على أنهم لم يعبروا إلى حكمه إلا من حيث ثبت عندهم صحته واستقامته فأوجب لنا العلم بصحته. هذا لفظ أبي بكر الرازي في كتابه أصول الفقه.
ومن المعلوم لكل ذي حس سليم وعقل مستقيم استفاضة أحاديث الرؤية والنداء والنزول والتكليم وغيرها من الصفات وتلقي الأمة لها بالقبول أعظم بكثير من استفاضة حديث اختلاف المتبايعين وحديث لا وصية لوارث وحديث فرض الجدة، بل لا نسبة بين استفاضة أحاديث الصفات واستفاضة هذه الأحاديث.
فهل يسوغ لعاقل أن يقول: إن هذه توجب العلم وتلك لا توجبه، إلا أن يكون مباهتا. وقد صرح الشافعي في كتبه بأن خبر الواحد يفيد العلم، نص على ذلك صريحا في كتاب: (اختلاف مالك) ،(25/320)
ونصره في الرسالة المصرية على أنه لا يوجب العلم الذي يوجبه نص الكتاب والخبر المتواتر.
إلى أن قال: وأما القسم الثاني من الأخبار: فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ونحوه، ولم يتواتر لفظه ولا معناه، ولكن تلقته الأمة بالقبول عملا به أو تصديقا له كخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه «إنما الأعمال بالنيات (1) » ، وخبر ابن عمر رضي الله عنهما: «نهى عن بيع الولاء وهبته (2) » ، وخبر أنس رضي الله عنه: «دخل مكة وعلى رأسه المغفر (3) » ، وكخبر أبي هريرة رضي الله عنه: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها (4) » ، وكقوله: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (5) » ، وقوله: «إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل (6) » ، وقوله في المطلقة ثلاثا: «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك (7) » ، وقوله: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ (8) » ، وقوله: «إنما الولاء لمن أعتق (9) » ، وقوله يعني ابن عمر: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر في رمضان على الصغير والكبير والذكر والأنثى (10) » وأمثال ذلك. فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأولين والآخرين.
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(2) صحيح البخاري العتق (2535) ، صحيح مسلم العتق (1506) ، سنن الترمذي البيوع (1236) ، سنن النسائي البيوع (4657) ، سنن أبو داود الفرائض (2919) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2747) ، مسند أحمد بن حنبل (2/107) ، موطأ مالك العتق والولاء (1522) .
(3) صحيح البخاري المغازي (4286) ، صحيح مسلم الحج (1357) ، سنن الترمذي الجهاد (1693) ، سنن النسائي مناسك الحج (2868) ، سنن أبو داود الجهاد (2685) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2805) ، مسند أحمد بن حنبل (3/231) ، موطأ مالك الحج (964) ، سنن الدارمي المناسك (1938) .
(4) صحيح البخاري النكاح (5109) ، صحيح مسلم النكاح (1408) ، سنن النسائي النكاح (3292) ، سنن ابن ماجه النكاح (1929) ، مسند أحمد بن حنبل (2/489) ، موطأ مالك النكاح (1129) .
(5) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/339) .
(6) صحيح البخاري الغسل (291) ، صحيح مسلم الحيض (348) ، سنن النسائي الطهارة (191) ، سنن أبو داود الطهارة (216) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (610) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الطهارة (761) .
(7) صحيح البخاري الشهادات (2639) ، صحيح مسلم النكاح (1433) ، سنن الترمذي النكاح (1118) ، سنن النسائي الطلاق (3409) ، سنن ابن ماجه النكاح (1932) ، مسند أحمد بن حنبل (6/226) ، سنن الدارمي الطلاق (2267) .
(8) صحيح البخاري الحيل (6954) ، صحيح مسلم الطهارة (225) ، سنن الترمذي الطهارة (76) ، سنن أبو داود الطهارة (60) ، مسند أحمد بن حنبل (2/308) .
(9) صحيح البخاري البيوع (2156) ، سنن النسائي البيوع (4644) ، مسند أحمد بن حنبل (2/100) .
(10) صحيح البخاري الزكاة (1503) ، صحيح مسلم الزكاة (984) ، سنن النسائي الزكاة (2505) ، سنن أبو داود الزكاة (1613) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1826) ، مسند أحمد بن حنبل (2/66) ، موطأ مالك الزكاة (627) ، سنن الدارمي الزكاة (1661) .(25/321)
أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع. وأما الخلف فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة. والمسألة منقولة في كتب الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، مثل: السرخسي وأبي بكر الرازي من الحنفية، والشيخ أبي حامد وأبي الطيب والشيخ أبي إسحاق من الشافعية، وابن خويز منداد وغيره من المالكية، ومثل القاضي أبي يعلى وابن أبي موسى وأبي الخطاب وغيرهم من الحنبلية، ومثل أبي إسحاق الإسفرائيني وابن فورك وأبي إسحاق النظام من المتكلمين.
وإنما نازع في ذلك طائفة كابن الباقلاني ومن تبعه مثل أبي المعالي والغزالي وابن عقيل.
وقد ذكر أبو عمرو ابن الصلاح القول الأول وصححه واختاره، ولكنه لم يعلم كثرة القائلين به ليتقوى بهم. وإنما قاله بموجب الحجة الصحيحة. وظن من اعترض عليه من المشايخ الذين لهم علم ودين وليس لهم بهذا الباب خبرة تامة أن هذا الذي قاله الشيخ أبو عمرو انفرد به عن الجمهور، وعذرهم أنهم يرجعون في هذه المسائل إلى ما يجدونه من كلام ابن الحاجب، وإن ارتفعوا درجة صعدوا إلى السيف الآمدي وإلى ابن الخطيب،(25/322)
فإن علا سندهم صعدوا إلى الغزالي والجويني والباقلاني، قال: وجميع أهل الحديث على ما ذكره الشيخ أبو عمرو.
والحجة على قول الجمهور أن تلقي الأمة للخبر تصديقا وعملا إجماع منهم، والأمة لا تجتمع على ضلالة، كما لو اجتمعت على موجب قياس فإنها لا تجتمع على خطأ وإن كان الواحد منهم لو جرد النظر إليه لم يؤمن عليه الخطأ، فإن العصمة تثبت بالنسبة الإجماعية، كما أن خبر التواتر يجوز الخطأ والكذب على واحد واحد من المخبرين بمفرده، ولا يجوز على المجموع، والأمة معصومة من الخطأ في روايتها ورأيها ورؤياها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر (1) » فجعل تواطؤ الرؤيا دليلا على صحتها.
والأحاديث في هذا الباب قد تكون ظنونا بشروطها فإذا قويت صارت علوما وإذا ضعفت صارت أوهاما وخيالات فاسدة.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1158) .(25/323)
قال: وأيضا فلا يجوز أن يكون في نفي الأمر كذبا على الله ورسوله وليس في الأمة من ينكره إذ هو خلاف ما وصفهم الله تعالى به. انتهى المقصود.
وقد بسط العلامة ابن القيم رحمه الله الكلام في هذه المسألة لعظم شأنها. ونرجو أن يكون فيما نقلناه من ذلك الكفاية والإقناع لطالب الحق ومن أراد المزيد في ذلك فليراجع هذا الكتاب؛ أعني: الصواعق المرسلة، يجد ما يشفي ويكفي، والله المستعان.
وأما قول الكاتب: إن الأمر بالشيء لا يقتضي تحريم مخالفته لأمور منها: أن المختار عند الحنفية أن الأمر بالشيء لا يقتضي تحريم ضده فجوابه أن يقال: ليس الأمر كما ذكره، بل الصواب أن الأمر بالشيء إذا ورد مجردا عما يدل على إرادة الندب فإنه دال على وجوب الامتثال وعلى تحريم المخالفة ما لم يوجد دليل آخر يدل على أن الأمر للندب لا الوجوب، وهذا هو قول جمهور العلماء من الحنفية وغيرهم، وهو مقتضى الأدلة الشرعية، كما سنبين ذلك قريبا إن شاء الله.(25/324)
وقد صرح أهل العلم رحمهم الله بما ذكرنا؛ قال الإمام أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي أحد أئمة الحنفية المتوفى سنة 490 هـ رحمه الله في كتابه في الأصول في مباحث الأمر ما نصه: فأما الكلام في موجب الأمر فالمذهب عند جمهور الفقهاء أن موجب مطلقه الإلزام إلا بدليل. انتهى.
وقال الشيخ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة صاحب المغني المتوفي سنة 620 هـ رحمه الله في كتابه (روضة الناظر) في مباحث الأمر ما نصه: (مسألة) : إذا ورد الأمر متجردا عن القرائن اقتضى الوجوب في قول الفقهاء وبعض المتكلمين. وقال بعضهم: يقتضي الإباحة؛ لأنها أدنى الدرجات، فهي مستيقنة، فيجب حمله على اليقين. وقال بعض المعتزلة: يقتضي الندب؛ لأنه لا بد من تنزيل الأمر على أقل ما يشترك فيه الوجوب والندب، وهو طلب الفعل واقتضاؤه وأن فعله خير من تركه، وهذا معلوم. أما لزوم العقاب بتركه فغير معلوم فيتوقف فيه؛ ولأن الأمر طلب والطلب يدل على حسن المطلوب لا غير، والمندوب حسن فيصح طلبه، وما زاد على ذلك درجة لا يدل عليها مطلق الأمر، ولا يلزم منه؛(25/325)
ولأن الشارع أمر بالمندوبات والواجبات معا، فعند وروده يحتمل الأمرين معا فيحمل على اليقين. وقالت الواقفية: هو على الوقف حتى يرد الدليل ببيانه؛ لأن كونه موضوعا لأحد هذه الأقسام إما أن يعلم بنقل أو عقل ولم يوجد أحدهما فيجب التوقف فيه، ولنا ظواهر الكتاب والسنة والإجماع وقول أهل اللسان.
أما الكتاب فقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) حذر الفتنة والعذاب الأليم في مخالفة الأمر، فلولا أنه مقتض للوجوب ما لحقه ذلك، وأيضا قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (2) وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} (3) ذمهم على ترك امتثال الأمر، والواجب ما يذم بتركه.
ومن السنة ما روى البراء بن عازب «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة بفسخ الحج إلى العمرة فردوا عليه القول
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) سورة الأحزاب الآية 36
(3) سورة المرسلات الآية 48(25/326)
فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة غضبان، فقالت: من أغضبك أغضبه الله. فقال: وما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع (1) » . فإن قيل: هذا في أمر اقترن به ما دل على الوجوب، قلنا: النبي صلى الله عليه وسلم إنما علل غضبه بتركهم اتباع أمره، ولولا أن أمره للوجوب لما غضب من تركه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة (2) » والندب غير شاق، فدل على أن أمره اقتضى الوجوب، وقوله عليه السلام لبريرة: «لو راجعتيه. فقالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: إنما أنا شافع. فقالت: لا حاجة لي فيه (3) » . وإجابة شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم مندوب إليها فدلنا ذلك على أن أمره للإيجاب.
الثالث: إجماع الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم أجمعوا على وجوب طاعة الله تعالى وامتثال أوامره من غير سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما عنى بأوامره، وأوجبو أخذ الجزية من المجوس بقوله: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب (4) » وغسل الإناء من الولوغ بقوله: «فليغسله سبعا (5) » والصلاة عند ذكرها بقوله: «فليصلها إذا ذكرها (6) » ، واستدل أبو بكر رضي الله عنه على إيجاب الزكاة بقوله
__________
(1) سنن ابن ماجه المناسك (2982) ، مسند أحمد بن حنبل (4/286) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (887) ، صحيح مسلم الطهارة (252) ، سنن الترمذي الطهارة (22) ، سنن النسائي الطهارة (7) ، سنن أبو داود الطهارة (46) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (287) ، موطأ مالك الطهارة (147) .
(3) صحيح البخاري الطلاق (5283) ، سنن النسائي آداب القضاة (5417) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2075) ، سنن الدارمي كتاب الطلاق (2292) .
(4) موطأ مالك الزكاة (617) .
(5) صحيح البخاري الوضوء (172) .
(6) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (597) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (684) ، سنن الترمذي الصلاة (178) ، سنن النسائي المواقيت (613) ، سنن أبو داود الصلاة (442) ، سنن ابن ماجه الصلاة (696) ، مسند أحمد بن حنبل (3/269) ، سنن الدارمي الصلاة (1229) .(25/327)
تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (1) ونظائر ذلك مما لا يخفى يدل على إجماعهم على اعتقاد الوجوب.
الرابع: أن أهل اللغة عقلوا من إطلاق الأمر الوجوب؛ لأن السيد لو أمر عبده فخالفه حسن عندهم لومه وتوبيخه وحسن العذر في عقوبته بمخالفة الأمر، والواجب ما يعاقب بتركه أو يذم بتركه. فإن قيل: إنما لزمت العقوبة؛ لأن الشريعة أوجبت ذلك، قلنا: إنما أوجبت طاعته إذا أتى السيد بما يقتضي الإيجاب، ولو أذن له في الفعل أو حرمه عليه لم يجب عليه، ولأن مخالفة الأمر معصية، قال الله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} (2) وقال: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} (3) ويقال: أمرتك فعصيتني.
وقال الشاعر:
أمرتك أمرا جازما فعصيتني
والمعصية موجبة للعقوبة، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (4) انتهى.
__________
(1) سورة البقرة الآية 43
(2) سورة التحريم الآية 6
(3) سورة طه الآية 93
(4) سورة الأحزاب الآية 36(25/328)
وقال العلامة أبو الحسن الآمدي المتوفى سنة 631 هـ رحمه الله في كتابه: (الإحكام في أصول الأحكام) لما ذكر اختلاف الناس في مقتضى الأمر ما نصه: ومنهم من قال: إنه حقيقة في الوجوب مجاز فيما عداه وهذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه والفقهاء وجماعة من المتكلمين كأبي الحسين البصري وهو قول الجبائي في أحد قوليه. انتهى المقصود.
وقال العلامة محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250 هـ رحمه الله في كتابه: (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق في علم الأصول) في مباحث الأمر ما نصه: الفصل الثالث: اختلف أهل العلم في صيغة (افعل) هل هي حقيقة في الوجوب أو فيه مع غيره فذهب الجمهور إلى أنها حقيقة في الوجوب فقط وصححه ابن الحاجب والبيضاوي، قال الرازي: وهو الحق، وذكر الجويني أنه مذهب الشافعي. قيل: وهو الذي أملاه الأشعري على أصحابه. انتهى المقصود.
وهذا قليل من كثير من كلام علماء الأصول في بيان أن الأمر عند الإطلاق يقتضي الوجوب عند أكثر العلماء ولا يجوز صرفه عن الوجوب إلا بدليل يدل عليه(25/329)
وقد دل على صحة ما ذهب إليه الجمهور أدلة كثيرة منها: أن الله سبحانه وعد أهل الطاعة الفوز بالجنة والكرامة ووعد أهل المعصية بسوء المصير، وهكذا رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى في سورة النساء: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (2) وقال في سورة الأحزاب: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (3) وقال تعالى في سورة الفتح {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل
__________
(1) سورة النساء الآية 13
(2) سورة النساء الآية 14
(3) سورة الأحزاب الآية 36
(4) سورة الفتح الآية 17(25/330)
أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قيل: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى (1) » رواه البخاري في صحيحه، فلو كان امتثال أمر الله ورسوله غير واجب إلا بدليل آخر يدل على الوجوب لم يستحق العاصي هذا الوعيد الشديد لأنه معذور إذا لم يكن في النص ما يدل على أن الأمر مقصود به الوجوب
ومن تأمل كلام سلف الأمة وأئمتها في مقام الاحتجاج عليم يقينا أنهم يحملون أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عند الإطلاق على الوجوب ويعيبون على من خالف ذلك إذا لم يكن معه دليل يدل على صرف الأمر عن ظاهره إلى غيره
ومن الأدلة الدالة على أن الأمر للوجوب ما لم يوجد دليل يدل على خلاف ذلك أن الله سبحانه وتعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس غضب عليه ولعنه وطرده من رحمته بسبب عصيانه الأمر المجرد وهو قوله سبحانه: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} (2)
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، صحيح مسلم الإمارة (1835) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .
(2) سورة الأعراف الآية 11(25/331)
وقال تعالى موبخا لإبليس على تخلفه عن الطاعة: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} (1) فدل ذلك على أن الأمر المطلق يقتضي الوجوب كما يقتضي ذم المخالف وتوبيخه والغضب عليه.
ومن الأدلة على ذلك أيضا قوله سبحانه في سورة المرسلات: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} (2) فذمهم بذلك على مخالفة الأمر وهو قوله: {ارْكَعُوا} (3)
ومن ذلك أيضا قوله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) فتوعد من خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصاب بالفتنة أو العذاب الأليم، فلو كان امتثال الأمر المجرد غير واجب لم يستحق المخالف له هذا الوعيد.
والأدلة في هذا الباب كثيرة لمن تدبر الكتاب والسنة طالبا للحق مؤثرا له (5) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 12
(2) سورة المرسلات الآية 48
(3) سورة المرسلات الآية 48
(4) سورة النور الآية 63
(5) وقد سبق كثير منها من كلام صاحب الروضة أبي محمد المقدسي رحمه الله(25/332)
وبما ذكرناه من الأدلة وكلام أهل العلم يعلم بطلان قول من قال: إن الأمر عند الإطلاق لا يدل على الوجوب وهو الذي اعتمده الكاتب في مقاله المذكور ورجح به قوله بعدم وجوب إعفاء اللحى، وهو قول ظاهر الفساد لمن تأمل الأدلة، والله ولي التوفيق.
وأما قوله في تبرير ما ذهب إليه من عدم اقتضاء الأمر الوجوب في قوله صلى الله عليه وسلم: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين (1) » متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس (2) » خرجه مسلم في صحيحه ما نصه: ومنها أن الأمر بالشيء إذا اقترن به علة معقولة المعنى - وهي أن الشارع لم يطلبه لذاته بل لمقصد آخر مقترن به عند صدور الأمر إذا انفك عنه هذا المقصد - لم يفد الأمر الوجوب، والأمر بالإعفاء والإحفاء المقصود به مخالفة المجوس. انتهى.
فجوابه أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد علل قص الشوارب وإعفاء اللحى بعلتين:
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .
(2) صحيح مسلم الطهارة (260) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .(25/333)
إحداهما: أن ذلك من الفطرة، كما في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عشر من الفطرة (1) » فذكر منها قص الشارب وإعفاء اللحية
والعلة الثانية: أن إطالة الشوارب وحلق اللحى فيهما مشابهة للمجوس والمشركين، وهذه العلة لم تنفك عن الأمر بل لا تزال معتبرة إلى يوم القيامة؛ لأن الشارع عليه الصلاة والسلام قد أمر أمرا مطلقا بمخالفة المشركين في زيهم وأخلاقهم وشعائر دينهم، ولم يحدد ذلك بزمن معلوم ولم يجعل له نهاية معلومة، فوجب أن يكون ذلك أمرا مطلوبا من المسلمين إلى يوم القيامة.
والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصى؛ منها ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قالوا يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ (2) » .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، برقم 384
(2) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل برقم 3197، ومسلم في كتاب العلم باب اتباع سنن اليهود والنصارى برقم 4822(25/334)
ومنها ما خرجه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تشبه بقوم فهو منهم (1) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة كتابا جليلا عظيم الفائدة سماه: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) ، وذكر فيه من الآيات والأحاديث والآثار وكلام أهل العلم ما يدل على أن الشرع المطهر جاء بالنهي عن مشابهة الكفار والأمر بمخالفتهم. فلنذكر من كلامه رحمه الله ما يبين لمن يطلع على هذه الكلمة ما في مشابهة الكفار في حلق اللحى وإطالة الشوارب وغير ذلك من صنوف المشابهة من الفساد الكبير والعواقب الوخيمة.
قال رحمه الله في الكتاب المذكور ما نصه:
الوجه الثامن من الاعتبار: أن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة، حتى إن
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين، مسند عبد الله بن عمر، برقم 4868(25/335)
الرجلين إذا كانا في بلد واحدة ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والموالاة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين أو كانا متهاجرين وذلك لأن الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة، بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضا ما لا يألفون غيرهم، حتى إن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة، إما على الملك وإما على الدين وكذلك تجد الملوك ونحوهم من الرؤساء وإن تباعدت ديارهم وممالكهم بينهم مناسبة تورث مشابهة ورعاية من بعضهم لبعض وهذا كله بموجب الطباع ومقتضاها، إلا أن يمنع عن ذلك دين أو غرض خاص، فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة فكيف بالمشابهة في أمور دينية فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1) {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} (2) {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} (3)
__________
(1) سورة المائدة الآية 51
(2) سورة المائدة الآية 52
(3) سورة المائدة الآية 53(25/336)
وقال تعالى فيما يذم به أهل الكتاب: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2) {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} (3) {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (4) فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان؛ لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم. وقال سبحانه وتعالى:
__________
(1) سورة المائدة الآية 78
(2) سورة المائدة الآية 79
(3) سورة المائدة الآية 80
(4) سورة المائدة الآية 81(25/337)
{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (1)
فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرا، فمن واد الكفار فليس بمؤمن، فالمشابهة الظاهرة مظنة المودة، فتكون محرمة، كما تقدم تقرير مثل ذلك، واعلم أن وجوه الفساد في مشابهتهم كثيرة، فلنقتصر على ما نبهنا عليه. والله أعلم. انتهى.
فتأمل رحمك الله قوله: فالمشابهة الظاهرة مظنة المودة فتكون محرمة، يتضح لك في ذلك شيء من الحكمة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفة المجوس والمشركين في إطالة الشوارب وعدم إعفاء اللحى وغير ذلك، وأن تلك المشابهة تورث المودة والمحبة؛ فلذلك أمر الشارع عليه الصلاة والسلام بإعفاء اللحى وإرخائها وجز الشوارب وإحفائها مخالفة للمشركين وحسما لمادة التشبه بهم المفضي إلى موالاتهم ومحبتهم علاوة على ما في ذلك من مخالفة الفطرة ومشابهة النساء، والله المستعان.
__________
(1) سورة المجادلة الآية 22(25/338)
وأما قول الكاتب - هداه الله - في مبررات صرف الأمر بإعفاء اللحى وجز الشوارب عن الوجوب إلى الندب ما نصه:
(ومنها أن مخالفة المسلمين غيرهم مطلوبة فيما هو من شعائر دينهم لا مطلقا ... إلخ) - فجوابه أن يقال: قد دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على ذم مشابهة المسلمين للكفار والتحذير من ذلك ولم تخص شيئا من شئونهم دون شيء فتخصيص النهي بما هو من شعائر دينهم يحتاج إلى دليل، وليس هناك دليل يدل على ذلك، بل الأدلة الشرعية كلها تقتضي ذم التشبه بالمشركين فيما هو من شعائر دينهم وفي غيره، وقد أسلفنا في الأدلة ما يدل على ذلك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه (1) » الحديث، ولم يقل في شعائر دينهم. وقوله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم (2) » ولم يقل في شعائر دينهم، ومنها: أحاديث الأمر بمخالفة المشركين والمجوس في جز الشوارب وإرخاء اللحى، وليس حلق اللحى وإطالة الشوارب من شعائر دينهم. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم في ذلك، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7320) ، صحيح مسلم العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (3/84) .
(2) سنن أبو داود اللباس (4031) .(25/339)
تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا - يعني الكفار - ولكم في الآخرة (1) » متفق على صحته، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، قالوا، يا رسول الله: كفارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك (2) » خرجه البخاري. والأدلة في هذا كثيرة ولا يجوز لأحد أن يخصص الأدلة الشرعية إلا بدليل شرعي يقتضي التخصيص، ولا ريب أن التشبه بالكفار في شعائر دينهم كأعيادهم ونحوها أشد في الإنكار وأعظم في الإثم، ولكن ليس النهي عن ذلك وتحريمه مختصا بما يتعلق بشعائر دينهم.
وأما احتجاج الكاتب على عدم اقتضاء الأمر الوجوب بالأحاديث الواردة في صبغ الشيب والصلاة في النعال، فجوابه أن يقال: إن الأصل وجوب الامتثال في الأمرين جميعا وهما مخالفة
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأشربة، باب آنية الفضة برقم 5202، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال، برقم 3850
(2) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) .(25/340)
اليهود والنصارى بصبغ الشيب والصلاة في النعال والخفاف، ولكنه ترك ذلك لما ورد من الأحاديث الدالة على أن الأمر بتغيير الشيب والصلاة في النعال للندب لا للوجوب.
وبذلك لا يبقى له ولا لغيره من القائلين بعدم اقتضاء الأمر الوجوب حجة في الحديثين المذكورين؛ لأن محل البحث هو الأمر المجرد، أما الأمر الذي ورد في الأدلة الشرعية ما يدل على أنه قد أريد به الندب لا الوجوب فليس محل البحث عند الجميع.
وأما احتجاجه على عدم اقتضاء الأمر الوجوب بما نصه: إذا ذكرت أفعال متعددة وأعطيت حكما واحدا سرى هذا الحكم عليها جميعا مستدلا على ذلك بما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار (1) » إلخ الحديث.
فجوابه أن يقال: ليس الأمر كما ذكر، وليس في الحديث المذكور حجة على ما ذهب إليه؛ لأن البراهين الشرعية تحددت
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة باب خصال الفطرة، برقم 384، والترمذي في كتاب الأدب، باب ما جاء في تقليم الأظفار، برقم 2681(25/341)
على أن بعض الأمور قد تشترك في كونها مشروعة أو منهيا عنها وينفرد بعضها عن بقية ما قرن به بكونه واجبا أو محرما، ومن ذلك الأمور المذكورة في هذا الحديث، فإن الأحاديث الصحيحة قد دلت على وجوب إعفاء اللحى وقص الشوارب والاستنشاق في الغسل والوضوء وانتقاص الماء، وهو الاستنجاء، كما دلت على أن السواك مستحب فقط وليس بواجب. وأما حلق العانة ونتف الإبط وقلم الأظفار ففي واجبها خلاف بين أهل العلم، والمشهور في كلامهم أنها سنة، وظاهر الأدلة يقتضي وجوبها لإطلاق الأحاديث الآمرة بذلك؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت للمسلمين أن لا يتركوها مع قص الشارب أكثر من أربعين ليلة؛ كما روى ذلك مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: «وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة ألا تترك أكثر من أربعين ليلة (1) » وإذا قال الصحابي مثل هذه الصيغة فهي في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: أمرنا أو نهينا؛ لأنه لا آمر ولا ناهي ولا مؤقت إلا هو
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، برقم 379(25/342)
عليه الصلاة والسلام، وقد جاء الرفع صريحا في رواية أحمد والنسائي والترمذي وأبي داود.
وأما احتجاجه على عدم وجوب إعفاء اللحى بقوله: ومنها: أنه قد ثبت «أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها (1) » ، ولو كان الأمر بالإعفاء على إطلاقه لما أخذ منها شيئا.
فجوابه: أن يقال: إن حكمه بثبوت هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أنه لم يراجع كلام أهل العلم على هذا الحديث، ولو راجعه لعلم أنه ليس بثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صرح أهل العلم بأن الواجب على من يتكلم في التحليل والتحريم وسائر الأحكام أن يعتني بالأدلة وأن لا يجزم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بما عرف صحته، فإن لم يعرف ذلك فالواجب أن يأتي بصيغة التمريض؛ ك (روي) و (يذكر) ونحو ذلك، كما نبه عليه الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح وغيره، وقال الحافظ العراقي رحمه الله في الألفية ما نصه:
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2762) .(25/343)
وإن ترد نقلا لواه أو لما ... يشك فيه لا بإسنادهما
فأت بتمريض كيروى واجزم ... بنقل ما صح كقال فاعلم
وقد نص أهل العلم من شراح الحديث وغيرهم على ضعف هذا الحديث؛ لأن مداره على عمر بن هارون البلخي وهو ضعيف الحديث عند أئمة الحديث، وقد اتهمه بعضهم بالكذب.
ونحن نذكر بعض كلام أهل العلم في ذلك؛ ليكون قارئ هذه الكلمة على بينة من هذا الحديث الذي قد اغتر به كثير من الناس واتخذه سلما لقص اللحى، وعدم توفيرها مع أنه لو صح لم يدل إلا على التخفيف من شعرها طولا وعرضا ولا يجوز أن يحتج به على حلقها لأنه تجاوز لما دل عليه الحديث لو صح. والله المستعان.
قال الشيخ أبو زكريا يحيى النووي رحمه الله في شرح المهذب ج1 ص 321 ما نصه: وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها (1) » ، فرواه الترمذي بإسناد ضعيف لا يحتج به.
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2762) .(25/344)
وبما ذكرنا في هذا الجواب من الأدلة الشرعية وكلام أهل العلم يتضح لطالب الحق بطلان ما اعتمده هذا الكاتب في قوله بعدم تحريم حلق اللحى كما يتضح له بطلان قوله: بأن الأمر المطلق لا يفيد الوجوب ولا تحريم ضد المأمور به. وبطلان قوله: (إن خبر الآحاد ليس قطعيا، فلا ينهض للقول بوجوب إعفاء اللحى وتحريم حلقها) ويعلم أن الحق الذي لا ريب فيه هو أن الأمر عند الإطلاق يقتضي الوجوب عند جمهور العلماء، وأن خبر الآحاد إذا استقام سنده حجة يجب العمل به عند جميع أهل العلم في العقائد وغيرها، وإنما الخلاف بينهم إنما هو في إفادته العلم لا في وجوب العمل، وقد سبق في كلام أهل العلم المحققين أن خبر الآحاد يفيد العلم بالقرائن، وأن سلف هذه الأمة ما كانوا يخوضون في ذلك بل كانوا يتلقون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صحت أسانيدها بالقبول وينقلونها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صحت أسانيدها بالقبول وينقلونها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جازمين أنه قالها، ويحتجون بها على جميع الأحكام، ولا يعلم عن واحد منهم انه قال لمن احتج عليه بحديث صحيح: إن هذا خبر آحاد لا تقوم به الحجة وإنما وقع مثل هذا(25/345)
في كلام بعض المتأخرين الذين خاضوا في الكلام واغتروا بشبهة أهله.
كما يتضح مما سبق أن القول بوجوب إعفاء اللحى وتوفيرها وتحريم حلقها هو القول الحق، وأنه ليس مع من خالف ذلك إلا شبهات لا تسمن ولا تغني من جوع أو حديث ضعيف لا يجوز أن تعارض به الأحاديث الصحيحة.
وسأنقل لك بعض كلام أهل العلم في وجوب إعفاء اللحى وتحريم حلقها، تكميلا للفائدة وإيضاحا لما سبق بيانه من دلالة الأحاديث الواردة في هذا الباب عند أهل العلم على ما ذكرنا مع العلم بأن اللحية هي ما نبت على الخدين والذقن، كما في القاموس ولسان العرب، والله ولي التوفيق.
قال العلامة النووي رحمه الله في شرح مسلم في شرحه لحديث ابن عمر وأبي هريرة لما ذكر كلام القاضي عياض رحمه الله في شرح حديث ابن عمر وأبي هريرة المذكورين آنفا، ما نصه:
(والمختار ترك اللحية على حالها وألا يتعرض لها بتقصير شيء أصلا، والمختار في الشارب ترك الاستئصال والاقتصار على ما يبدو به طرف الشفة..) اهـ(25/346)
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن في كلامه على حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية (1) » . . . الحديث ما نصه: (وأما إعفاء اللحية فهو إرسالها وتوفيرها. كره لنا أن نقصها كفعل بعض الأعاجم وكان من زي آل كسرى قص اللحى وتوفير الشوارب، فندب صلى الله عليه وسلم أمته إلى مخالفتهم في الزي والهيئة ... ) اه.
وقال العلامة ابن مفلح رحمه الله في الفروع ما نصه: (ويحرم حلقها - يعني اللحية - ذكره شيخنا يعني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله) وقال أيضا: (وذكر ابن حزم الإجماع أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض) انتهى المقصود من كلامه.
وقال العلامة المباركفوري في كتابه تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي بعد كلام سبق ما نصه: (قلت: لو ثبت حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المذكور في الباب المتقدم لكان قول الحسن البصري وعطاء أحسن الأقوال وأعدلها، لكنه حديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج به. وأما قول من قال إنه إذا زاد عن
__________
(1) صحيح مسلم الطهارة (261) ، سنن الترمذي الأدب (2757) ، سنن النسائي الزينة (5040) ، سنن أبو داود الطهارة (53) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (293) ، مسند أحمد بن حنبل (6/137) .(25/347)
القبضة يؤخذ الزائد واستدل بآثار ابن عمر وعمر وأبي هريرة رضي الله عنهم فهو ضعيف؛ لأن أحاديث الإعفاء المرفوعة الصحيحة تنفي هذه الآثار، فهذه الآثار لا تصلح للاستدلال بها مع وجود هذه الأحاديث المرفوعة الصحيحة، فأسلم الأقوال هو قول من قال بظاهر أحاديث الإعفاء، وكره أن يؤخذ شيء من طول اللحية وعرضها والله تعالى أعلم ... ) اه
ومراده بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ما خرجه الترمذي رحمه الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها (1) » وهو حديث لا يصلح كما قاله المباركفوري وغيره، وصرح به قبله النووي في شرح المهذب كما سبق بيان ذلك لأن في إسناده عمر بن هارون البلخي وهو متروك الحديث، كما في التقريب؛ لكونه متهما بالكذب.
وقد انفرد برواية هذا الحديث عن أسامة بن زيد الليثي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وقال الشيخ علي محفوظ في كتابه (الإبداع في مضار الابتداع) ما نصه: (ومن أقبح العادات ما اعتاده الناس اليوم من حلق اللحية وتوفير الشارب، وهذه البدعة كالتي قبلها سرت إلى
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2762) .(25/348)
المصريين من مخالطة الأجانب واستحسان عوائدهم حتى استقبحوا محاسن دينهم وهجروا سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب (1) » وروي أيضا عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى (2) » وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى وخالفوا المجوس (3) » . (التوفير) الإبقاء، (وأحفوا) بهمزة قطع: الإحفاء وهو المبالغة في الجز، (وأعفوا) : من أعفيته إذا تركته حتى كثر وزاد.
فإعفاء اللحية تركها لا تقص حتى تعفو وتكثر، وإرخاؤها وإبقاؤها بمعنى الإعفاء. والأحاديث في ذلك كثيرة، وكلها نص في وجوب توفير اللحية وحرمة حلقها والأخذ منها على ما سيأتي.
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5892) ، صحيح مسلم الطهارة (259) .
(2) صحيح مسلم الطهارة (259) .
(3) صحيح مسلم الطهارة (260) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .(25/349)
ولا يخفى أن قوله: «خالفوا المشركين (1) » وقوله «خالفوا المجوس (2) » يؤيدان الحرمة، فقد أخرج أبو داود وابن حبان وصححه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم (3) » وهو غاية في الزجر عن التشبه بالفساق أو بالكفار في أي شيء مما يختصون به من ملبوس أو هيئة. وفي ذلك خلاف للعلماء؛ فمنهم من قال بكفره وهو ظاهر الحديث، ومنهم من قال لا يكفر ولكن يؤدب.
فهذان الحديثان بعد كونهما أمرين دالان على أن هذا الصنع من هيئات الكفار الخاصة بهم، والنهي إنما يكون عما يختصون به، فقد نهانا صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم عموما في قوله (من تشبه) ومن أفراد هذا العام حلق اللحية، وخاصا في قوله: «وفروا اللحى (4) » «خالفوا المجوس (5) » «خالفوا المشركين (6) » .
ثم ما تقدم من الأحاديث ليس على إطلاقه؛ فقد روى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ من لحيته من عرضها وطولها (7) » وروى أبو داود والنسائي أن ابن عمر كان يقبض على لحيته فيقطع ما
__________
(1) صحيح مسلم الطهارة (259) .
(2) صحيح مسلم الطهارة (260) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .
(3) سنن أبو داود اللباس (4031) .
(4) صحيح البخاري اللباس (5892) ، صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن أبو داود الترجل (4199) .
(5) صحيح مسلم الطهارة (260) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .
(6) صحيح مسلم الطهارة (259) .
(7) سنن الترمذي الأدب (2762) .(25/350)
زاد على الكف، وفي لفظ: ثم يقص ما تحت القبضة، وذكره البخاري تعليقا، فهذه الأحاديث تفيد ما رويناه آنفا. فيحمل الإعفاء على إعفائها من أن يؤخذ غالبها أو كلها.
وقد اتفقت المذاهب الأربعة على وجوب توفير اللحية وحرمة حلقها والأخذ القريب منه.
الأول: مذهب الحنفية: قال في الدر المختار: ويحرم على الرجل قطع لحيته، وصرح في النهاية بوجوب قطع ما زاد على القبضة "بالضم". وأما الأخذ منها وهي دون ذلك كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال فلم يبحه أحد. وأخذ كلها فعل يهود الهند ومجوس الأعاجم.. اه فتح.(25/351)
وقوله: (وما وراء ذلك يجب قطعه) هكذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذ من اللحية من طولها وعرضها كما رواه الإمام الترمذي في جامعه، ومثل ذلك في أكثر كتب الحنفية.
الثاني: مذهب السادة المالكية: حرمة حلق اللحية وكذا قصها إذا كان يحصل به مثلة. وأما إذا طالت قليلا وكان القص لا يحصل به مثلة فهو خلاف الأولى أو مكروه، كما يؤخذ من شرح الرسالة لأبي الحسن، وحاشيته للعلامة العدوي. رحمهم الله.
الثالث: مذهب السادة الشافعية: قال في شرح العباب: "فائدة": قال الشيخان: يكره حلق اللحية، واعترضه ابن الرفعة بأن الشافعي رضي الله عنه نص في الأم على التحريم. وقال الأذرعي: الصواب تحريم حلقها جملة لغير علة بها ... اه. ومثله في حاشية ابن قاسم العبادي على الكتاب المذكور.
الرابع: مذهب السادة الحنابلة: نص في تحريم حلق اللحية؛ فمنهم من صرح بأن المعتمد حرمة حلقها. ومنهم من صرح بالحرمة ولم يحك خلافا، كصاحب الإنصاف، كما يعلم ذلك بالوقوف على شرح المنتهى وشرح منظومة الآداب وغيرهما.(25/352)
ومما تقدم تعلم أن حرمة حلق اللحية هي دين الله وشرعه الذي لم يشرع لخلقه سواه، وأن العمل على غير ذلك سفه وضلالة أو فسق وجهالة، أو غفلة عن هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم..) اه كلام الشيخ علي محفوظ من كتاب " الإبداع في مضار الابتداع ".
وكلام أهل العلم في هذه المسألة كثير وأرجو أن يكون فيما نقلنا من كلام أهل العلم كفاية ومقنع لطالب الحق. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله. وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وسائر المسلمين لمعرفة الحق واتباعه وإيثاره على ما سواه وأن يعيذنا وجميع المسلمين من مضلات الفتن وطاعة الهوى والشيطان، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
حرر في 21\9\1411 هـ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(25/353)
صفحة فارغة(25/354)
كتاب البر والصلة والآداب(25/355)
صفحة فارغة(25/356)
127 - كيفية التفريق في المضاجع
س: الأخ أ. م. ص. من مراكش في المغرب يقول في سؤاله: نرجو من سماحتكم إيضاح كيفية التفريق في المضاجع الوارد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، هل المقصود به التفريق بين البنين والبنات، أم بين البنين بعضهم بعضا وبين البنات بعضهن بعضا، وهل المقصود به التفريق بينهم في الفرش أم لا بد أن يكون كل منهم في غرفة مستقلة؟ نرجو بيان الحقيقة؛ لأن هذا الأمر يهم جميع المسلمين (1) .
ج: الحديث عام يعم البنين والبنات، والتفريق يكون بجعل كل واحد من البنين وكل واحدة من البنات في فراش مستقل ولو كانوا في غرفة واحدة؛ لأن وجود كل واحد مع الآخر في فراش واحد قد يكون وسيلة لوقوع الفاحشة. وفق الله الجميع لكل خير.
__________
(1) نشر في المجلة العربية، عدد شهر رجب 1412هـ.(25/357)
128 - صلة الرحم من أسباب بركة العمر
س: كيف نوفق بين الأحاديث التي وردت في زيادة العمر وذلك حين صلة الرحم وليلة القدر وغير ذلك مما ورد فيها أحاديث التي ورد أنها مما يزاد في العمر وينسأ في الأجل، ومعنى الحديث الذي ورد أن الإنسان حينما يتكون أو يصير في أربعين يوما يكتب أجله وشقي أو سعيد أفيدونا مأجورين؟ (1)
ج: ليس بين الأحاديث منافاة ولا تناقض فإن الله جل وعلا قدر الأشياء، قدر الآجال، قدر الأرزاق، قدر الأعمال والشقاء والسعادة، وقدر أسبابها، وقدر أن هذا يبر والديه ويصل أرحامه، ويكون له بسبب ذلك زيادة في عمره، وقدر أن الآخر يكون قاطعا وغير بار، ويكون النقص في العمر وقد يكون هذا، هذا طويل العمر وهذا قصير العمر؛ لأسباب أخرى، فالله قدر الأشياء وقدر أسبابها سبحانه وتعالى فلا منافاة، فبر الوالدين وصلة الأرحام من أسباب بركة العمر وطوله، والقطيعة والعقوق من
__________
(1) من أسئلة حج عام 1406هـ، الشريط الثالث.(25/258)
أسباب قصره ومحق بركته، ولا منافاة بين هذا وبين كون الأجل معدودا ومحدودا، وليس هناك زيادة ولا نقص فيما قدره الله سبحانه وتعالى، لكن هذه الأقدار مقدرة بأسبابها فهذا يطول عمره إلى كذا بأسباب كذا وكذا، وهذا ينقص عمره بأسباب كذا وكذا، وهذا يقتل لسن كذا وكذا، وهذا يموت لسن كذا وكذا إلى آخره، ربنا قدر الأشياء بأسبابها سبحانه وتعالى.(25/359)
129 - حكم سفر المرأة وحدها، وإن قل عن يوم وليلة
س: أريد أن أسألكم عن حديث: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسير يومين إلا ومعها محرم (1) » هل إن كانت تصل في أقل من يومين في طريق مأمون هل يجوز ذلك أم لا؟ (2)
ج: الأحاديث متنوعة في هذا فيها يومان وفيها يوم وليلة وفيها يوم وفيها ليلة وفيها ثلاثة أيام وفيها مطلق، هذا على
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1086) ، صحيح مسلم الحج (1338) ، سنن أبو داود المناسك (1727) ، مسند أحمد بن حنبل (2/13، 2/143، 2/143، 2/19) .
(2) من أسئلة حج عام 1407هـ، الشريط الثاني.(25/359)
اختلاف الأسئلة يجيبهم على قدر سؤالهم عليه الصلاة والسلام في الحديث الجامع ما رواه الشيخان في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم. فقال رجل: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال له النبي: انطلق فحج مع امرأتك (1) » والحديث الجامع: «لا تسافر إلا مع ذي محرم (2) » أي سفر يوم أو ليلة أو يومين أو ثلاث أو أكثر أو أقل، لأنها عورة وفتنة، وإذا لم يكن معها محرم يصونها ويلاحظها عن الخطر العظيم عليها. فالشيء الجامع هو السفر وما يعد سفرا هو الممنوع قد يكون يوما، قد يكون يومين، قد يكون ثلاثة، وقد يكون أكثر من ذلك، ولا فرق بين الطائرة وبين القطار والسيارة وبين الجمل، فإن الذي أخبر عن هذا يعلم سبحانه ما في السماء والأرض وما يكون في
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم، برقم 4832، ومسلم في كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم، برقم 2391.
(2) صحيح البخاري الجمعة (1086) ، صحيح مسلم الحج (1338) ، سنن أبو داود المناسك (1727) ، مسند أحمد بن حنبل (2/19) .(25/360)
آخر الزمان، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما يخبر عن مشروعية ذلك ة لقوله سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (1) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) فهو يعلم عن شرع الله ويخبر عن شرع الله في الحاضر والمستقبل، والله سبحانه يعلم ما يكون في آخر الزمان في القرن الرابع عشر والخامس عشر من الطائرات والسيارات والقطارات والبواخر العظيمة السريعة وغير ذلك، فحكمه واحد بينه لعباده ولم يقل إلا إذا كان في آخر الزمان وجاءت مراكب سريعة فلا بأس، قد جعل الحكم واحدا.
__________
(1) سورة النجم الآية 3
(2) سورة النجم الآية 4(25/361)
130 - الرد على شبهة أن عائشة رضي الله عنها حجت وحدها
س: يقولون إن عائشة رضي الله عنها حجت مع عثمان بدون محرم وأن المرأة تخرج من الحيرة إلى صنعاء لا تخاف إلا الله والذئب على غنمها؟ (1)
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407هـ، الشريط الثاني.(25/361)
ج: هذا يحتاج إلى دليل، لا يجوز أن يقال: حجت بدون محرم، بغير دليل لا بد أن يكون معها محرم فعندها أبناء أخيها، عندها عبد الرحمن أخوها، عندها أبناء أختها أسماء. الذي يقول: إنها حجت بدون محرم، يكون قوله كذبا إلا بدليل، ثم لو فرضنا أنها حجت بدون محرم فهي غير معصومة، كل واحد من الصحابة غير معصوم، الحجة في قال الله وقال رسوله، ما هو بحجة قول فلان أو فلان، ما خالف السنة فلا حجة فيه، الحجة في السنة المطهرة الصحيحة، هذا هو المعروف عند أهل العلم وهو المجمع عليه. يقول الشافعي رحمه الله: أجمع الناس على أنه من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس. وقال مالك رحمه الله: ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر.
المقصود أن الواجب على أهل الإسلام والمؤمنين هو الأخذ بالسنة، لا يجب أن تعارض لقول فلان أو فلان أو فلانة، ثم لا يظن بعائشة رضي الله عنها وهي الفقيهة المعروفة، أفقه نساء العالم لا يظن بها أن تخالف السنة وتحج بغير محرم وهي التي سمعت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(25/362)
131 - حكم خلو الرجل بالنساء الأجنبيات
س: الأخ س. ع. س. من رأس الخيمة يقول في سؤاله ورد في الحديث الشريف قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما (1) » أو كما قال صلى الله عليه وسلم فهل معنى هذا أنه يجوز للإنسان أن يخلو بامرأتين أو أكثر من غير محارمه؟ أرشدونا جزاكم الله خيرا (2)
ج: هذا الحديث يدل على تحريم خلو الرجل بالمرأة الأجنبية وأن الشيطان ثالثهما، ومفهومه أن الخلوة تزول إذا كانوا ثلاثة فأكثر، وقد دل على هذا المعنى أحاديث أخرى، لكن إذا وجدت ريبة في الخلوة بأكثر من امرأة وجب المنع، عملا بالأدلة الأخرى الدالة على وجوب حماية الأعراض ومنع أسباب الفتنة. وفق الله الجميع.
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2165) ، مسند أحمد بن حنبل (1/18) .
(2) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من المجلة العربية، وقد أجاب عنه سماحته بتاريخ 5 \ 2 \ 1417هـ.(25/363)
132 - فضل الإحسان إلى البنات
س: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له ثلاث بنات فصبر عليهن وسقاهن وكساهن كن له حجابا من النار (1) » ، هل يكن حجابا من النار لوالدهم فقط أم معه الأم وعندي ولله الحمد ثلاث بنات؟
ج: هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح عن عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته كن له حجابا من النار يوم القيامة (2) » وهذا يدل على فضل الإحسان إلى البنات والقيام بشئونهن؛ رغبة فيما عند الله عز وجل فإن ذلك من أسباب دخول الجنة والسلامة من النار.
ويرجى لمن عال غير البنات من الأخوات والعمات والخالات وغيرهن من ذوي الحاجة فأحسن إليهن وأطعمهن
__________
(1) سنن ابن ماجه الأدب (3669) ، مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسند الشاميين من حديث عقبة بن عامر الجهني، برقم 61762، وابن ماجه يا كتاب الأدب، باب بر الوالد والإحسان إلى البنات، برقم 3659.(25/364)
وسقاهن وكساهن أن يحصل له من الأجر مثل ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حق من عال ثلاث بنات وفضل الله واسع ورحمته عظيمة، وهكذا من عال واحدة أو اثنتين من البنات أو غيرهن فأحسن إليهن يرجى له الأجر العظيم والثواب الجزيل، كما يدل على ذلك عموم الآيات والأحاديث في الإحسان إلى الفقير والمساكين من الأقارب وغيرهم، وإذا كان هذا الفضل في الإحسان إلى البنات فالإحسان إلى الأبوين أو أحدهما أو الأجداد أو الجدات أعظم وأكثر أجرا؛ لعظم حق الوالدين ووجوب برهما والإحسان إليهما، ولا فرق في ذلك بين كون المحسن أبا أو أما أو غيرهما؛ لأن الحكم مناط بالعمل. والله ولي التوفيق.(25/365)
133 - بر الوالدين في حياتهما وبعد مماتهما
س: أرجو توضيح بر الوالدين أثناء حياتهم وبعد مماتهم؟ (1)
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط العاشر.(25/365)
ج: بر الوالدين من أهم الواجبات والفرائض، وقد أمر الله بذلك في كتابه الكريم في آيات كثيرة، منها قوله سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (1) ومنها قوله عز وجل في سورة (سبحان) : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (2) {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (3) ومنها قوله سبحانه في سورة لقمان: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (4) فبرهما من أهم الفرائض حيين وميتين.
فبرهما في الحياة: الإحسان إليهما والإنفاق عليهما إذا كانا محتاجين، والسمع والطاعة لهما في المعروف وخفض الجناح لهما وعدم رفع الصوت عليهما والدفاع عنهما في كل شيء يضرهما إلى غير ذلك من وجوه الخير.
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة الإسراء الآية 24
(4) سورة لقمان الآية 14(25/366)
والخلاصة أن يكون الولد حريصا على جلب الخير إليهما ودفع الشر عنهما في الحياة وفي الموت، لأنهما قد أحسنا إليه إحسانا عظيما في حال الصغر وربياه وأكرماه وتعبا عليه، فالواجب عليه أن يقابل المعروف بالمعروف والإحسان بالإحسان، والأم حقها أعظم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل قيل: «يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أبوك (1) » وفي لفظ آخر: «قال يا رسول الله من أحق الناس بالبر؟ (قال من أبر يا رسول الله؟) قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أباك، ثم الأقرب فالأقرب (2) »
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة، برقم 5514، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين، برقم 4621.
(2) أخرجه الإمام أحمد في أول مسند البصريين، من حديث بهز بن حكيم، برقم 19175.(25/367)
وبين عليه الصلاة والسلام أن أحق الناس بالإحسان والبر أمك ثلاث مرات ثم أبوك في الرابعة. وهذا يوجب للولد العناية بالوالدة أكثر، والإحسان إليها أكمل، ثم الأب يليها بعد ذلك، فبرهما والإحسان إليهما جميعا أمر مفترض، وحق الوالدة على الولد الذكر والأنثى أعظم وأكبر.
وسئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن حق الوالدين بعد مماتهما؟ فقال له سائل: «يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما بعد وفاتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، من بعدهما وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما (1) » .
خمسة أشياء: (الصلاة عليهما) : الدعاء ومن ذلك صلاة الجنازة فإنها في دعاء، والصلاة عليهما: الترحم عليهما أحق الحق ومن أعظم البر في الحياة والموت. (وهكذا الاستغفار لهما) وسؤال الله أن يغفر لهما سيئاتهما، هذا أعظم برهما حيين وميتين. (وإنفاذ عهدهما من بعدهما) (الوصية) التي يوصيان بها،
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكيين، من حديث أبي أسيد الساعدي، برقم 15479.(25/368)
فالواجب على الولد ذكرا كان أو أنثى إنفاذها إذا كانت موافقة للشرع المطهر.
والخصلة الرابعة (إكرام صديقهما) إذا كان لأبيك أو لأمك أصدقاء وأحباب وأقارب فتحسن إليهم، وتقدر لهم صحبة وصداقة والديك، ولا تنسى ذلك بالكلام الطيب والإحسان إذا كانا في حاجة إلى الإحسان وجميع أنواع الخير الذي تستطيعه، فهذا برهما بعد وفاتهما.
والخصلة الخامسة: (صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما) وذلك بالإحسان إلى أعمامك وأقارب أبيك، وإلى أخوالك وخالاتك من أقارب أمك هذا من الإحسان بالوالدين، وبر الوالدين أن تحسن إلى أقارب والديك الأعمام والعمات وأولادهم، والأخوال والخالات وأولادهم. الإحسان إليهم وصلتهم كل ذلك من صلة الأبوين ومن إكرام الوالدين.(25/369)
134 - العاق لوالديه واجب عليه الاستغفار والدعاء لهما بعد موتهما
س: ما صحة هذا الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن العبد ليموت والداه أو أحدهما وإنه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتب عند الله بارا "؟ (1)
ج: لا أعرف حال هذا الحديث، ولا أدري عن صحته ولكن المعنى صحيح، فإن الدعاء للوالدين والاستغفار لهما والصدقة عنهما من جملة البر بعد الموت، ولعل الله يخفف عنه بذلك ما سبق منه من عقوق مع التوبة الصادقة، وعليه أن يتوب إلى الله ويندم على ما فعل ويكثر من الاستغفار والدعاء لهما بالرحمة والعفو والمغفرة مع الإكثار من الصدقة عنهما، فإن هذا كله مما شرعه الله تعالى في حق الولد لوالديه؛ فقد ثبت عنه صلى
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط رقم 20، ونشر في هذا المجموع ج 9 ص 368.(25/370)
الله عليه وسلم أنه «سأله سائل فقال: يا رسول الله هل بقي لوالدي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما (1) » والصلاة عليهما: يعني الدعاء لهما، ومن ذلك صلاة الجنازة، والاستغفار لهما: أي طلب المغفرة من الله لهما، وإنفاذ عهدهما: يعني وصاياهما إذا أوصيا بشيء لا يخالف الشرع، فمن برهما تنفيذ الوصية الموافقة للشرع، وإكرام صديقهما: أي أصدقاء والديه يكرمهم ويحسن إليهم ويراعي حقوق الصداقة بينهم وبين والديه، وإن كان الصديق فقيرا واساه، وإن كان غير فقير اتصل به للسلام عليه والسؤال عن حاله استصحابا للصداقة التي بينهم وبين والديه إذا كان ذلك الصديق ليس ممن يستحق الهجر، كذلك صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما كالإحسان إلى أخواله وأعمامه وأقاربه من جهة أبيه وأمه، فكل هذا من بر الوالدين.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكيين حديث أبي أسيد الساعدي برقم 15479، وأبو داود في الأدب باب في بر الوالدين برقم 4476.(25/371)
135 - ما صحة حديث: النساء شقائق الرجال
س: «النساء شقائق الرجال» هل هذا الحديث صحيح، وما معنى شقائق الرجال؟
ج: نعم هذا حديث صحيح، والمعنى والله أعلم أنهن مثيلات الرجال إلا ما استثناه الشارع، كالإرث والشهادة وغيرهما مما جاءت به الأدلة.(25/372)
136 - شرح حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا رقما في ثوب
س: جاء في بعض كتب فضيلتكم عن التصوير: إلا رقما في ثوب ما المقصود بالرقم؟ هل هو الصورة أم هو معنى آخر؟ (1) .
__________
(1) نشر في هذا المجموع، الجزء الثامن ص 91.(25/372)
ج: فسر العلماء رحمهم الله الرقم بأمرين:
أحدهما: أنه الصورة التي تكون في البسط ونحوها مما يداس ويمتهن كالوسائد، فهذا معفو عنه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عفا عنه، والمقصود: العفو عن استعماله، أما التصوير فلا يجوز.
والثاني: أنه النقوش التي تكون في الثياب من غير الصور، فإن النقوش في الثياب لا تضر وليس حكمها حكم التصوير، إنما المحرم صورة ما له روح من آدمي أو غيره؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه دخل يوما على عائشة ورأى ثوبا فيه صورة فغضب وهتكه، وقال: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم. (2) » ، وخرج النسائي بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان على موعد مع جبرائيل عليه السلام فتأخر عنه فخرج إليه ينتظره، فقال له جبرائيل: إن في البيت
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5181) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) ، مسند أحمد بن حنبل (6/246) ، موطأ مالك الجامع (1803) .
(2) (1) ، قالت عائشة: فجعلت منه وسادتين يرتفق بهما النبي صلى الله عليه وسلم(25/373)
تمثالا، وسترا فيه صورة، وكلبا، فمر برأس التمثال أن يقطع حتى يكون كهيئة الشجرة، ومر بالستر أن يتخذ منه وسادتان منتبذتان توطآن، ومر بالكلب أن يخرج، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل جبرائيل عليه السلام. قال أبو هريرة: وكان الكلب جروا تحت نضد في البيت أدخله الحسن أو الحسين (2) » .
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2806) ، سنن النسائي الزينة (5365) ، سنن أبو داود اللباس (4158) ، مسند أحمد بن حنبل (2/305) .
(2) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين من حديث أبي هريرة، برقم 7701. (1)(25/374)
137 - القول الراجح فيما امتد من الشجر إلى ملك الجار
س: ما هو القول الراجح فيما يتعلق بالأغصان والعروق التي تمتد من ملك شخص إلى ملك جاره وما يترتب على ذلك من الضرر، وما هي درجة الحديث الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في قلع نخلة الذي أبى أن يقبل المعاوضة لما كان فيها من ضرر على أخيه صاحب البستان؟ (1)
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة(25/374)
ج: قد تأملت المسألة المذكورة ورأيت صاحب الإنصاف ذكر فيها وجهين، وذكر غيره قولين في المسألة:
أحدهما: أن المالك لا يجبر على إزالتها.
والثاني: يجبر، فإن امتنع ضمن ما ترتب عليها من الضرر؛ فاتضح لي أن القول الثاني أرجح من وجوه:
الأول: أن ذلك هو مقتضى الأدلة الشرعية مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار (1) » وما جاء في معناه.
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (2) » ولا شك أن العروق والأغصان المضرة بالجار داخلة في الأذى المنهي عنه، فالواجب منع الجار من ذلك.
الثالث: أن عدم الإجبار يفضي إلى استمرار النزاع والخصومة وربما أفضى إلى ما هو أشد من ذلك من المضاربة وما
__________
(1) أخرجه ابن ماجه، في كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، برقم 2331.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، برقم 5556، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت، برقم 68.(25/375)
هو أشد منها، فالواجب حسم ذلك والقضاء عليه، وقد دلت الأدلة الشرعية التي يتعذر أو يتعسر إحصاؤها على وجوب سد الذرائع المفضية إلى الفساد والنزاع والخصومة أو ما هو أشد من ذلك.
أما حديث صاحب النخلة فقد خرجه أبو داود من حديث محمد بن علي بن الحسين عن سمرة بن جندب، وفي إسناده نظر، لأن محمد بن علي لا يعلم سماعه من سمرة بل الظاهر أنه لم يسمع منه، كما نبه على ذلك الحافظ المنذري في (مختصر السنن) لكن ذكر الحافظ ابن رجب في (شرح الأربعين) في الكلام على الحديث الثاني والثلاثين شواهد لهذا الحديث، وهي كلها مع الحديث الذي ذكرنا في الوجه الأول تدل على ترجيح القول الذي ذكرنا، وهو إلزام المالك بإزالة ما حصل به الضرر من عروق أو أغصان، فإن لم يزل الضرر إلا بقلع الشجرة قلعت جبرا عليه؛ حسما لمادة الضرر والنزاع ورعاية لحق الجوار.(25/376)
138 - فضل زيارة الجار
س: بعض الجارات من غير المسلمات وجارات مسلمات لي عليهن بعض الملاحظات فما حكم تبادل الزيارات فيما بينهن؟
ج: تبادل الزيارات في مثل هذا إذا كان للنصح والتوجيه والتعاون على البر والتقوى طيب ومأمور به، يقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) ولقول النبي عليه الصلاة والسلام عن الله عز وجل أنه قال: «وجبت محبتي للمتحابين في والمتزاورين في والمتجالسين في والمتباذلين في (2) » أخرجه الإمام مالك رحمه الله بإسناد صحيح، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) أخرجه الإمام مالك في كتاب الجامع، باب ما جاء في المتحابين في الله، برقم 1503.(25/377)
فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه (1) » ، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره (2) » . وهذا يعم الرجال والنساء، ويقول صلى الله عليه وسلم أيضا: «يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة (3) » متفق على صحته.
ولا شك أن النصيحة والتوجيه إلى الخير أعظم وأنفع من إهداء فرسن الشاة وهو من أعظم الإكرام للجيران من النساء والرجال، فإن لم ينفع هذا التزاور ولم يحصل به الإصلاح للأوضاع وزوال المنكر شرع تركه لعدم الفائدة، والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، برقم 620، ومسلم في كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، برقم 1712.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، برقم 5560.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب لا تحقرن جارة لجارتها، برقم 5558، ومسلم في كتاب الزكاة باب الحث على الصدقة ولو بالقليل، برقم 1711.(25/378)
كتاب الفتن(25/379)
صفحة فارغة(25/380)
139 - ذكر بعض الأحاديث المتعلقة بالفتن والتحذير منها
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ ع. ح. خ. وفقه الله لما فيه رضاه وزاده من العلم والإيمان آمين (1) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ في 24 محرم 1411هـ وصلكم الله بهداه واطلعت على جميع ما ذكرتم، ويسرني أن أخبركم أن الأحاديث المتعلقة بالفتن والتحذير منها محمولة عند أهل العلم على الفتن التي لا يعرف فيها المحق من المبطل فهذه الفتن المشروع للمؤمن الحذر منها وهي التي قصدها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «القاعد فيها خير من القائم والماشي خير من الساعي (2) » . . الحديث.
__________
(1) صدر من مكتب سماحته برقم 275 \ خ وتاريخ 5 \ 3 \ 1411هـ.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الفتن، باب تكون فتن القاعد فيها خير من القائم، برقم 6554، ومسلم في كتاب الفتن، باب نزول الفتن كمواقع القطر، برقم 5136.(25/381)
أما الفتن التي يعرف فيها المحق من المبطل والظالم من المظلوم فليست داخلة في الأحاديث المذكورة، بل قد دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على وجوب نصر المحق والمظلوم على الباغي والظالم، ومن هذا الباب ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، فإن المصيب عند أهل السنة هو علي وهو مجتهد وله أجران ومعاوية ومن معه مخطئون وبغاة عليه، لكنهم مجتهدون طالبون للحق فلهم أجر واحد، رضي الله عن الجميع.
وأما الاستعانة ببعض الكفار في قتال الكفار عند الحاجة أو الضرورة، فالصواب أنه لا حرج في ذلك إذا رأى ولي الأمر الاستعانة بأفراد منهم أو دولة في قتال الدولة المعتدية لصد عدوانها؛ عملا بالأدلة كلها، فعند عدم الحاجة والضرورة لا يستعان بهم، كما في حديث عائشة رضي الله عنها، للذي أراد أن يخرج معه في بدر وهو مشرك: «ارجع فلن نستعين بمشرك (1) » ، وعند الحاجة والضرورة يستعان بهم على وجه ينفع المسلمين ولا يضرهم، وفي هذا جمع بين الأدلة الشرعية، لأنه صلى الله عليه
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر، برقم 3388.(25/382)
وسلم استعان بالمطعم بن عدي لما رجع من الطائف ودخل في مكة بجواره، واستعان بعبد الله بن أريقط الديلي ليدله على طريق المدينة وكلاهما مشرك، وسمح للمهاجرين من المسلمين بالهجرة إلى الحبشة مع كونها دولة نصرانية؛ لما في ذلك من المصلحة للمسلمين وبعدهم عن أذى قومهم من أهل مكة من الكفار، واستعان بدروع من صفوان بن أمية يوم حنين وهو كافر، وأقر اليهود بخيبر بعد ذلك واستعان بهم في القيام على مزارعها ونخيلها؛ لحاجة المسلمين إليه واشتغال الصحابة بالجهاد، فلما استغنى عنهم أجلاهم عمر رضي الله عنه والأدلة في هذا كثيرة.
والواجب على أهل العلم الجمع بين النصوص وعدم ضرب بعضها ببعض.
ودولة البعث أخطر على المسلمين من دولة النصارى؛ لأن الملحد أكفر من الكتابي كما لا يخفى، وما فعله حاكم العراق البعثي في الكويت يدل على الحقد العظيم والكيد للإسلام وأهله، ومما يجب التنبيه عليه أن بعض الناس قد يظن أن الاستعانة بأهل الشرك تعتبر موالاة لهم، وليس الأمر كذلك، فالاستعانة شيء والموالاة شيء آخر، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم حين(25/383)
استعان بالمطعم بن عدي أو بعبد الله بن أريقط أو بيهود خيبر مواليا لأهل الشرك ولا متخذا لهم بطانة، وإنما فعل ذلك للحاجة إليهم واستخدامهم في أمور تنفع المسلمين ولا تضرهم، وهكذا بعثه المهاجرين من مكة إلى بلاد الحبشة ليس ذلك موالاة للنصارى، وإنما فعل ذلك لمصلحة المسلمين وتخفيف الشر عنهم، فيجب على المسلم أن يفرق ما فرق الله بينه وأن ينزل الأدلة منازلها، والله سبحانه هو الموفق والهادي لا إله غيره ولا رب سواه، وأسأل الله عز وجل أن يمنحنا وإياكم الفقه في الدين والثبات عليه، والدعوة إليه على بصيرة، وأن يعيذنا وإياكم وسائر إخواننا من مضلات الفتن إنه سميع قريب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
انتهى الجزء الخامس والعشرون ويليه بمشيئة الله تعالى الجزء السادس والعشرون ويحتوي على القسم الثاني من كتاب الحديث(25/384)
صفحة فارغة(26/1)
صفحة فارغة(26/2)
صفحة فارغة(26/3)
صفحة فارغة(26/4)
كتاب الأذكار والأدعية(26/5)
صفحة فارغة(26/6)
1 ـ تحفة الأخيار ببيان جملة نافعة مما ورد في الكتاب والسنة من الأدعية والأذكار
مقدمة: (1)
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن من أفضل ما يتخلق به الإنسان وينطق به اللسان الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى، وتسبيحه، وتحميده وتلاوة كتابه العظيم، والصلاة والسلام على رسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه، مع الإكثار من دعاء الله سبحانه وسؤاله جميع الحاجات الدينية والدنيوية، والاستعانة به، والالتجاء إليه بإيمان صادق وإخلاص وخضوع، وحضور قلب يستحضر به الذاكر والداعي عظمة الله وقدرته على كل شيء
__________
(1) كتاب تحفة الأخيار ببيان جملة نافعة مما ورد في الكتاب والسنة من الأدعية والأذكار لسماحته رحمه الله.(26/7)
وعلمه بكل شيء واستحقاقه للعبادة.
وقد ورد في فضل الذكر والدعاء والحث عليهما آيات كثيرة وأحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نذكر ما تيسر منها، قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (1) {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (2) {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (3) قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} (4) وقال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} (5) إلى أن قال سبحانه: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (6) وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (7) {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (8) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (9)
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 41
(2) سورة الأحزاب الآية 42
(3) سورة الأحزاب الآية 43
(4) سورة البقرة الآية 152
(5) سورة الأحزاب الآية 35
(6) سورة الأحزاب الآية 35
(7) سورة آل عمران الآية 190
(8) سورة آل عمران الآية 191
(9) سورة الأنفال الآية 45(26/8)
وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (2) وقال تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (3) وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (4) وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (5) والإكثار من ذكر الله تبارك وتعالى ودعائه سبحانه مستحب في جميع الأوقات والمناسبات وفي الصباح والمساء وعند النوم واليقظة ودخول المنزل
__________
(1) سورة البقرة الآية 200
(2) سورة المنافقون الآية 9
(3) سورة النور الآية 37
(4) سورة الأعراف الآية 205
(5) سورة الجمعة الآية 10(26/9)
والخروج منه. وعند دخول المسجد والخروج منه؛ لما سبق من الآيات الكريمات، ولقوله أيضا: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (1) وقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (2) وقوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (3) وقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (4) وقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} (5) {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} (6) وقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (7) {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (8) وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (9) وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (10)
__________
(1) سورة غافر الآية 55
(2) سورة ق الآية 39
(3) سورة الأنعام الآية 52
(4) سورة مريم الآية 11
(5) سورة الطور الآية 48
(6) سورة الطور الآية 49
(7) سورة الروم الآية 17
(8) سورة الروم الآية 18
(9) سورة غافر الآية 60
(10) سورة البقرة الآية 186(26/10)
الآية، وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (1) {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (2) وقال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (3) الآية.
وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة فقال: أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم فقلنا: يا رسول الله، نحب ذلك. قال: أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل (4) »
__________
(1) سورة الأعراف الآية 55
(2) سورة الأعراف الآية 56
(3) سورة النمل الآية 62
(4) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة برقم 803.(26/11)
وفي صحيح البخاري عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1) »
وفي صحيح مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه (2) » . (3)
وفي صحيح مسلم أيضا من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما (4) »
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه برقم 5027.
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (804) ، مسند أحمد بن حنبل (5/249) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة برقم 804.
(4) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة برقم 805.(26/12)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف (1) » رواه الترمذي بسند حسن.
وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تدل على فضل الذكر والتحميد والتهليل والتسبيح والدعاء والاستغفار كل وقت، وفي طرفي الليل والنهار، وفي أدبار الصلوات الخمس بعد السلام، نذكر بعضها:
فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «سبق المفردون قالوا: يا رسول الله: من المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات (2) » رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال صلى الله عليه وسلم: «أحب الكلام إلى الله أربع لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر (3) » رواه مسلم.
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب فضل القرآن، باب: ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر برقم 2910.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى برقم 2676.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الأدب، باب كراهة التسمية بالأسماء القبيحة وبنافع برقم 2137.(26/13)
وفي صحيح مسلم أيضا عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علمني كلاما أقوله، قال: قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، فقال: يا رسول الله إن هؤلاء لربي فما لي؟ قال: قل اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني (1) »
وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله (2) » أخرجه النسائي، وصححه ابن حبان، والحاكم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وقال عليه الصلاة والسلام: «ما عمل ابن آدم عملا أنجى له من عذاب الله، من ذكر الله (3) » أخرجه ابن أبي شيبة
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء برقم 2696.
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين، مسند أبي سعيد الخدري برقم 11316.
(3) أخرجه الطبري في المعجم الكبير ج2 ص 166.(26/14)
والطبراني بإسناد حسن عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم. قالوا: بلى يا رسول الله قال: ذكر الله (1) » رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده (2) » رواه مسلم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب منه برقم 3377 وابن ماجه في كتاب الأدب، باب فضل الذكر برقم 3780، والإمام أحمد في مسند الأنصار، حديث معاذ بن جبل برقم 21065.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر برقم 2700.(26/15)
مرات، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل (1) » متفق عليه من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك، ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر (2) » .
وفي الصحيحين أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده،
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب فضل التهليل برقم 5925، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب فضل التهليل والتسبيح برقم 2693.
(2) صحيح البخاري بدء الخلق (3293) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2691) ، سنن الترمذي الدعوات (3468) ، سنن ابن ماجه الأدب (3798) ، مسند أحمد بن حنبل (2/302) ، موطأ مالك النداء للصلاة (486) .(26/16)
سبحان الله العظيم (1) » . .
وخرج الترمذي وغيره بإسناد حسن عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما قعد قوم مقعدا لم يذكروا الله فيه عز وجل، ولم يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليه ترة، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم (2) »
وقالت عائشة رضي الله عنها: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه (3) » خرجه مسلم في صحيحه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله
__________
(1) صحيح البخاري الدعوات (6406) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2694) ، سنن الترمذي الدعوات (3467) ، سنن ابن ماجه الأدب (3806) ، مسند أحمد بن حنبل (2/232) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء في القوم يجلسون ولا يذكرون الله برقم 3308 وأبو داود في كتاب الأدب، باب كراهية أن يقوم الرجل من مجلسه ولا يذكر الله برقم 4215.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها برقم 373.(26/17)
لم يسرع به نسبه (1) » خرجه مسلم في صحيحه.
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم «عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي وفي بيتي قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم (2) » .
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدعاء هو العبادة (3) » أخرجه أصحاب السنن الأربعة بإسناد صحيح.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك،
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر برقم 2699.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام برقم 834، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر برقم 2705.
(3) أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة برقم 2969 وأبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء برقم 1479، وابن ماجه كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء برقم 3828.(26/18)
وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك (1) » رواه مسلم في صحيحه.
وعنه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين، وغلبة العدو، وشماتة الأعداء (2) » رواه النسائي وصححه الحاكم.
وعن بريدة رضي الله عنه قال: «سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب (3) » أخرجه الأربعة وصححه ابن حبان.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب أكثر أهل الجنة الفقراء برقم 2739.
(2) أخرجه النسائي في كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من غلبة الدين برقم 5475.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء برقم 1493 والترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء في جامع الدعوات عن النبي صلى الله عليه وسلم برقم 3475 وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب اسم الله الأعظم برقم 3857.(26/19)
صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر (1) » أخرجه مسلم.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير (2) » متفق عليه.
وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل برقم 2720.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، برقم 6398 ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل برقم 2719.(26/20)
ما ينفعني، وارزقني علما ينفعني (1) » رواه النسائي والحاكم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة (2) » رواه البخاري.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة " رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور (3) » رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب العفو والعافية برقم 3599.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم برقم 6307.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الاستغفار برقم 1516، والترمذي في كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا قام من المجلس برقم 3434.(26/21)
وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت (1) » رواه البخاري في صحيحه.
والآيات والأحاديث في فضل الذكر والدعاء والاستغفار كثيرة معلومة.
وقد رأيت جمع ما يسر الله تعالى مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأذكار والأدعية المشروعة عقب الصلوات الخمس، وفي الصباح والمساء، وعند النوم واليقظة، وعند دخول المنزل والخروج منه، وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند الخروج للسفر والقفول منه. وقد سميتها " تحفة الأخيار ببيان جملة نافعة مما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة من الأدعية والأذكار " مقتصرا على ما صحت به الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره؛ لتكون زادا للمسلم، وعونا له بمشيئة الله تعالى في المناسبات المذكورة، مع أحاديث أخرى في فضل الذكر والدعاء، مع نصيحتي لكل مسلم ومسلمة بالعناية بالذكر والدعاء في جميع الأوقات؛ عملا بما تقدم من الآيات والأحاديث في ذلك، والله أسأل أن ينفعني بها وجميع المسلمين إنه جواد كريم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب فضل الاستغفار برقم 6306.(26/22)
2 ـ فصل في بيان الأذكار المشروعة بعد السلام في الصلوات الخمس
لقد ثبت عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سلم من صلاة الفريضة استغفر الله ثلاثا وقال: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام (1) » ، «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد (2) » ، «لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون (3) » ، «ويسبح الله ثلاثا وثلاثين، ويحمده مثل ذلك، ويكبره مثل ذلك ويقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته برقم 591.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة برقم 844، ومسلم في كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته برقم 593.
(3) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته برقم 594.(26/23)
وهو على كل شيء قدير (1) » ويقرأ آية الكرسي و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (3) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (4)
بعد كل صلاة. ويستحب تكرار هذه السور الثلاث ثلاث مرات: بعد صلاة الفجر، وصلاة المغرب؛ لورود الحديث الصحيح بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما يستحب أن يزيد بعد الذكر المتقدم بعد صلاة الفجر وصلاة المغرب قول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير (5) » عشر مرات؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان إماما انصرف إلى الناس وقابلهم بوجهه بعد استغفار ثلاثا. وبعد قوله: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ثم يأتي بالأذكار المذكورة، كما دل على ذلك أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم. وكل هذه الأذكار سنة وليست فريضة.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته برقم 593.
(2) سورة الإخلاص الآية 1
(3) سورة الفلق الآية 1
(4) سورة الناس الآية 1
(5) أخرجه أحمد في باقي مسند الأنصار، حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه برقم 23007.(26/24)
3 ـ فصل في أذكار الصباح والمساء
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه (1) » رواه مسلم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال: أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذه الليلة، وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار، وعذاب في القبر، وإذا أصبح قال ذلك أيضا: أصبحنا وأصبح الملك لله (2) » رواه مسلم.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء برقم 2692.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل برقم 2723.(26/25)
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت قال: ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة (1) » رواه البخاري.
وعن عبد الله بن حبيب رضي الله عنه قال: «خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة نطلب النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي لنا فأدركناه فقال: قل، فلم أقل شيئا، ثم قال: قل فلم أقل شيئا، ثم قال: قل: فقلت: يا رسول الله ما أقول؟ قال: قل: والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء (3) » رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي بإسناد حسن.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب فضل الاستغفار برقم 6306.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب في انتظار الفرج وغير ذلك برقم 3575 وأبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح برقم 5082.
(3) سورة الإخلاص الآية 1 (2) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}(26/26)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلم أصحابه يقول: «إذا أصبح أحدكم فليقل: اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور، وإذا أمسى فليقل: اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير (1) » رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وإسناده عند أبي داود وابن ماجه صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، «أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله، مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت قال: قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم. قال: قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت، إذا أخذت مضجعك (2) » . رواه الإمام
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح برقم 5068، والترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى برقم 3391.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح برقم 5067، والترمذي في كتاب الدعوات، باب منه برقم 3529 وأحمد في مسند العشر المبشرين بالجنة، مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه برقم 82(26/27)
أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والبخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح، وهذا لفظ أحمد والبخاري.
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم يضره شيء (1) » رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح، وهو كما قال رحمه الله.
وعن ثوبان خادم النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد مسلم يقول حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، إلا كان حقا على الله أن يرضيه يوم القيام (2) » رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى برقم 3388، وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى برقم 3869.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى برقم 3389 وأبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح برقم 5072.(26/28)
بإسناد حسن، وهذا لفظ أحمد. ولكنه لم يسم ثوبان وسماه الترمذي في روايته، أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة بلفظ أحمد.
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وجبت له الجنة (1) » .
وروى مسلم في صحيحه أيضا عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا (2) » .
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح أو يمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك أعتق الله ربعه من النار. ومن قالها مرتين أعتق الله
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب بيان ما أعده الله تعالى للمجاهد في الجنة برقم 1884.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا فهو مؤمن وإن ارتكب المعاصي الكبائر برقم 34.(26/29)
نصفه من النار. ومن قالها ثلاثا أعتق الله ثلاثة أرباعه من النار، فإن قالها أربعا أعتقه الله من النار (1) » رواه أبو داود بإسناد حسن، وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة بسند حسن ولفظه: «من قال حين يصبح: اللهم إني أشهد وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك أعتق الله ربعه ذلك اليوم من النار، فإن قالها أربع مرات أعتقه الله ذلك اليوم من النار (2) »
وعن عبد الله بن غنام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر فقد أدى شكر يومه، ومن قال ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته (3) » رواه أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة بإسناد حسن، وهذا لفظه لكنه لم يذكر " حين يمسي "، وأخرجه ابن حبان بلفظ النسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح برقم 5069.
(2) أخرجه النسائي في كتاب عمل اليوم والليلة، ج1\138.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح برقم 5073.(26/30)
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح. اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي (1) » خرجه الإمام أحمد في المسند، وأبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، من قالها عشر مرات حين يصبح كتب الله له مائة حسنة، ومحا عنه مائة سيئة، وكانت له عدل رقبة، وحفظ بها يؤمنذ حتى يمسي ومن قالها مثل ذلك حين يمسي كان له مثل ذلك (2) » رواه
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح برقم 5074، وأحمد في مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما برقم 4770.
(2) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين، حديث أبي هريرة برقم 8502.(26/31)
الإمام أحمد في مسنده بإسناد حسن.
وعنه رضي الله عنه أيضا قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال إذا أمسى ثلاث مرات: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضره حمة تلك الليلة (1) » رواه الإمام أحمد والترمذي بإسناد حسن. والحمة: سم ذوات السموم كالعقرب والحية ونحوهما.
وأخرج مسلم في صحيحه عن خولة بنت حكيم رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك (2) » .
وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى: أصبحنا على فطرة الإسلام وعلى كلمة الإخلاص وعلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفا
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب الاستعاذة برقم 3966، والإمام أحمد في باقي مسند المكثرين مسند أبي هريرة برقم 7838.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من سوء القضاء برقم 2708.(26/32)
مسلما وما كان من المشركين (1) » خرجه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح.
«وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة أنه قال لأبيه: يا أبت إني أسمعك تدعو كل غداة: اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري لا إله إلا أنت تعيدها ثلاثا حين تصبح وثلاثا حين تمسي، وتقول: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وأعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا أنت، تعيدها حين تصبح ثلاثا وحين تمسي ثلاثا، قال: نعم يا بني إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهن فأحب أن أستن بسنته (2) » رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي بإسناد حسن.
ويشرع لكل مسلم ومسلمة أن يقول في صباح كل يوم لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على
__________
(1) أخرجه أحمد في مسند المكيين، حديث عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي برقم 14935.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح برقم 5090، وأحمد في أول مسند البصريين، حديث أبي بكرة برقم 19917.(26/33)
كل شيء قدير مائة مرة حتى يكون في حرز من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي؛ لما تقدم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرز من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك، ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر (1) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب فضل التهليل رقم 5924 ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل التهليل والدعاء برقم 2691.(26/34)
4 ـ فصل فيما يقال عند دخول المنزل
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله، وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء (1) » رواه مسلم.
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ولج الرجل بيته فليقل: اللهم إني أسألك خير المولج، وخير المخرج، بسم الله ولجنا، وبسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا، ثم ليسلم على أهله (2) » خرجه أبو داود بإسناد حسن.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما برقم 2018.
(2) رواه أبو داود في كتاب الآداب، باب ما يقول الرجل إذا دخل بيته برقم 5096.(26/35)
5 ـ فصل فيما يقال عند الخروج من المنزل إلى المسجد أو غيره
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال إذا خرج من بيته: بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له حينئذ: كفيت ووقيت وهديت، وتنحى عنه الشيطان، فيقول لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي (1) » . رواه أبو داود والنسائي بإسناد حسن.
وقالت أم سلمة رضي الله عنها: «ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل، أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي (2) » رواه الإمام أحمد وأبو داود
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء ما يقول إذا خرج من بيته برقم 3426، وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب ما يدعو به الرجل إذا خرج من بيته برقم 3886
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا خرج من بيته برقم 5094، وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب ما يدعو به الرجل إذا خرج من بيته برقم 3884، الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار، حديث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم برقم 26076.(26/36)
والترمذي وابن ماجه، وهذا لفظ أبي داود، وإسناده صحيح.(26/37)
6 ـ فصل فيما يشرع عند دخول المسجد والخروج منه
عن أبي حميد أو أبي أسيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك (1) » رواه مسلم وأبو داود، واللفظ لأبي داود.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا دخل المسجد قال: «أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم (2) » خرجه أبو داود بإسناد حسن.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما يقول إذا دخل المسجد برقم 713، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب فيما يقول الرجل عند دخول المسجد برقم 465.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب فيما يقول الرجل عند دخوله المسجد برقم 446.(26/37)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم (1) » أخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب المساجد والجماعات، باب الدعاء عند دخول المسجد برقم 773.(26/38)
7 ـ فصل فيما يشرع من الذكر والدعاء عند النوم واليقظة
عن حذيفة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده ثم يقول: اللهم باسمك أموت وأحيا وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما آماتنا وإليه النشور (1) » . رواه البخاري. وأخرج عن أبي ذر رضي الله عنه مثله وأخرج مسلم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب وضع اليد اليمنى تحت الخد الأيمن برقم 6312(26/38)
عن البراء بن عازب رضي الله عنه مثل حديث حذيفة المذكور.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما: ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات (4) » متفق عليه.
«وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه أتاه آت يحثو من الصدقة وكان قد جعله النبي صلى الله عليه وسلم عليها ليلة بعد ليلة. فلما كان في الليلة الثالثة قال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قلت: ما هي؟ فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي حتى تختم الآية. فإنه لا يزال عليك من الله من حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدقك وهو كذوب ذاك شيطان (6) » رواه البخاري.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب فضل المعوذات برقم 5018.
(2) سورة الإخلاص الآية 1 (1) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
(3) سورة الفلق الآية 1 (2) {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}
(4) سورة الناس الآية 1 (3) {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}
(5) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة برقم 5010.
(6) سورة البقرة الآية 255 (5) {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}(26/39)
وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه (1) » متفق عليه.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك مت على الفطرة واجعلهن آخر ما تقول (2) » متفق عليه، وفي رواية لمسلم رحمه الله «واجعلهن من آخر كلامك (3) » .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة برقم 5010، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة برقم 807.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب فضل من بات على الوضوء برقم 247 ومسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع برقم 2710.
(3) صحيح البخاري الوضوء (247) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2710) ، سنن أبو داود الأدب (5046) .(26/40)
«أنه كان يقول إذا أوى إلى فراشة: اللهم رب السماوات، ورب الأرض، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر (1) » رواه مسلم.
وعن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن ثم يقول: اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك (3) » . رواه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد حسن.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا أوى إلى فراشه قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا، وآوانا، فكم ممن لا كافي له، ولا مؤوي (4) » خرجه مسلم.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع برقم 2713.
(2) سنن أبو داود الأدب (5045) ، مسند أحمد بن حنبل (6/288) .
(3) (2) ثلاث مرات
(4) أخرجه مسلم في كتاب الذكر، باب ما يقال عند النوم وأخذ المضجع برقم 2715.(26/41)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أمر رجلا إذا أخذ مضجعه أن يقول: «اللهم خلقت نفسي وأنت تتوفاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتها فاحفظها، وإن أمتها فاغفر لها، اللهم إني أسألك العافية (1) » قال ابن عمر: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. خرجه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه، فليأخذ داخلة إزاره، فلينفض بها فراشه، وليسم الله فإنه لا يعلم ما خلفه بعده على فراشه، فإذا أراد أن يضطجع فليضطجع على شقه الأيمن، وليقل: سبحانك اللهم ربي بك وضعت جنبي، وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها. وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين (2) » متفق عليه واللفظ لمسلم.
وعن علي رضي الله عنه «أن فاطمة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما فلم تجده، ووجدت
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقال عند النوم وأخذ المضجع برقم 2712.
(2) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب السؤل بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها برقم 7393، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقال عند النوم وأخذ المضجع برقم 2714.(26/42)
عائشة رضي الله عنها فأخبرتها. قال علي: فجاءنا النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذنا مضاجعنا فقال: ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم، إذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربعا وثلاثين، فإنه خير لكما من خادم (1) » . قال علي: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته (2) » رواه البخاري ومعنى قوله: «من تعار (3) » أي: استيقظ.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب التكبير والتسبيح عند المنام برقم 6318. ومسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب التسبيح أول النهار وعند النوم برقم 2728.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب فضل من تعار من الليل فصلى. برقم 1154.
(3) صحيح البخاري الجمعة (1154) ، سنن الترمذي الدعوات (3414) ، سنن أبو داود الأدب (5060) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3878) ، سنن الدارمي الاستئذان (2687) .(26/43)
8 ـ فضل في الأذكار والأدعية المشروعة في ابتداء الشرب والأكل والفراغ منهما
عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك (1) » متفق عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى في أوله. فإن نسي أن يذكر الله تعالى في أوله فليقل: بسم الله أوله وأخره (2) » رواه أبو داود والنسائي والترمذي، وقال: حسن صحيح. وصححه الحاكم، وأقره الذهبي.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين برقم 5376، ومسلم في كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامها برقم 2202.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام برقم 3767، والترمذي في كتاب الأطعمة، باب ما جاء في التسمية على الطعام برقم 1858.(26/44)
عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها (1) » رواه مسلم.
وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكل طعاما فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه (2) » رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه بإسناد حسن.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من طعامه قال: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا (3) » رواه البخاري في صحيحه.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب برقم 2734.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب اللباس برقم 4023، والترمذي في كتاب الدعوات، ما يقول إذا فرغ من الطعام برقم 3258، وابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب ما يقال إذا فرغ من الطعام برقم 3258.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة، باب ما يقول إذا فرغ من طعامه برقم 5458.(26/45)
9 - فصل فيما يشرع
من الذكر والدعاء عند رؤية البلدة أو القفول منها
عن صهيب رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: (اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، أسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها (1) » . رواه النسائي بإسناد حسن. وعن أنس رضي الله عنه قال: «أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بظهر المدينة قال: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون (2) » . فلم يزل يقول ذلك حتى قدمنا المدينة. رواه مسلم.
__________
(1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى ج5 ص256 برقم 8827
(2) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره برقم 1345(26/46)
9 ـ فضل فيما يشرع من الذكر والدعاء عند الأذان وبعده
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن (1) » متفق عليه.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة، والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته. حلت له شفاعتي يوم القيامة (2) » رواه البخاري، وزاد البيهقي في آخره بإسناد حسن «إنك لا تخلف الميعاد (3) » .
وعن سعد بن أبي قاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي برقم 611، ومسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب القول، مثل قول المؤذن لمن سمعه برقم 383.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب الدعاء عند النداء برقم 614.
(3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ج1 ص410 برقم 1790.(26/47)
إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، رضيت بالله ربا، وبمحمد رسولا، وبالإسلام دينا، غفر له ذنبه (1) » رواه مسلم.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمد رسول الله قال: أشهد أن محمد رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة (2) » رواه مسلم.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه برقم 386.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل المؤذن لمن سمعه برقم 385.(26/48)
بها عشرا. ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة (1) » . رواه مسلم في صحيحه.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن برقم 384(26/49)
11 ـ فصل في مشروعية السلام بدءا وإجابة وتشميت العاطس إذا حمد الله، وعيادة المريض
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما «أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف (1) » متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب إطعام الطعام من الإسلام برقم 12، ومسلم في كتاب في كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام. وأي أموره أفضل برقم 39.(26/49)
أفشوا السلام بينكم (1) » رواه مسلم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، تشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، وإتباع الجنائز (2) » متفق عليه.
وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله وسلم أنه قال: «حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه (3) » رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم فحمد الله فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته. وأما
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون برقم 54.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز برقم 1240، ومسلم في كتاب السلام، باب من حق المسلم على المسلم رد السلام برقم 2162.
(3) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب من حق المسلم على المسلم رد السلام برقم 2162.(26/50)
التثاؤب فإنما هو من الشيطان فليرده ما استطاع، فإذا قال: هاء، ضحك منه الشيطان (1) » متفق عليه.
وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التثاؤب من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع (2) » رواه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه. فإن الشيطان يدخل (3) » رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم (4) » . رواه البخاري.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب برقم 6223.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب تشميت العاطس وكراهية التثاؤب برقم 2994.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب تشميت العاطس وكراهة التثاؤب برقم 2995.
(4) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب إذا عطس كيف يشمت برقم 6224(26/51)
وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه، فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه (1) » رواه مسلم.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب تشميت العاطس وكراهة التثاؤب برقم 2992.(26/52)
12 ـ فصل ولنختم هذه الرسالة بما ورد في النصيحة لمسيس الحاجة إلى ذلك
عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم (1) » رواه مسلم في صحيحه.
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم (2) » رواه البخاري ومسلم في الصحيحين.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان بيان أن الدين النصيحة برقم 55.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين برقم 57، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة برقم 56.(26/52)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (1) » متفق عليه.
وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (2) » رواه مسلم في صحيحه.
وهذا آخر ما تيسر جمعه، وأسأل الله أن ينفع به عباده إنه سميع قريب، والحمد لله رب العالمين، صلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه برقم 13، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه برقم 45.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب أو غيره برقم 1893.(26/53)
13 ـ فضل الذكر
س: توجد بعض الأذكار في بعض الأحاديث النبوية الشريفة من يقولها بعدد معين من المرات كانت له عتق عدد من الرقاب، كما جاء في الحديث النبوي: «من يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير (1) » من يقول ذلك مائة مرة في اليوم كانت كعتق عشر رقاب، فهل يمكن لمسلم أن يكفر عما يرتكبه من أخطاء عن طريق قول هذه الأحاديث الشريفة، إذا كان إثمه يكفر بعتق عدد من الرقاب قد يكون أقل من عشر رقاب، وهل يقصد في قوله في الحديث مائة مرة في اليوم أيقولها في يوم واحد فقط أم ينبغي أن يردد هذا الحديث طوال حياته في كل يوم مائة مرة، أفيدونا أفادكم الله؟
ج: هذا الحديث من جملة الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رواه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال في يوم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (844) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (593) ، سنن النسائي السهو (1341) ، سنن أبو داود الصلاة (1505) ، مسند أحمد بن حنبل (4/250) ، سنن الدارمي الصلاة (1349) .(26/54)
حسنة، ومحا عنه مائة سيئة، وكان في حرز من الشيطان في يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من عمله (1) » وهذا فضل عظيم وخير كثير من الله عز وجل، وإذا كان الذكر عن إيمان وصدق وإخلاص حصل له هذا الخير العظيم، والرسول صلى الله عليه وسلم بين عن الله أنه يمحو به مائة سيئة، ويكتب به مائة حسنة ويكون عدل عشر رقاب، يعني: يعتقها، لكن ذكر جمع من أهل العلم أن هذا في غير الكبائر من الذنوب؛ لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (2) فالعبد إذا اجتنب الكبائر كانت صلاته وطهوره ودعواته وأذكاره كفارة لسيئاته الصغائر، وقد يمن الله جل وعلا على العبد بالإكثار من الذكر فيحمو الله به عنه حتى الكبائر، ولا سيما إذا اقترنت بذلك التوبة النصوح. فينبغي للمؤمن أن تكون له نية صالحة وقصد صالح بهذه الأذكار وإخلاص لله وصدق في قولها، مع التوبة إلى الله سبحانه، مع الصدق في توحيد الله والإخلاص له وعبادته وحده دون كل ما سواه، ثم يحمله هذا الإيمان وهذا الإخلاص على أداء الفرائض وترك المحارم والوقوف عند حدود الله حتى تكفر خطاياه كلها متى قال ذلك
__________
(1) صحيح البخاري الدعوات (6403) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2691) ، سنن الترمذي الدعوات (3468) ، سنن ابن ماجه الأدب (3798) ، مسند أحمد بن حنبل (2/375) ، موطأ مالك النداء للصلاة (486) .
(2) سورة النساء الآية 31(26/55)
عن صدق وإخلاص وإيمان صادق وتوبة نصوح، وبكل حال هذه بشرى من الله عز وجل وخير عظيم للمؤمنين والمؤمنات، والمقصود من الحديث: أن هذا الثواب يحصل للمؤمن بهذا الذكر كل يوم إذا قال ذلك صادقا مخلصا، ولا يجوز له أن يقيم على المعاصي، ويتعلق بهذا الحديث وأمثاله؛ لأن ذلك من أسباب حرمانه من هذا الثواب؛ للآية السابقة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما لم تغش الكبائر (1) » ، وفي لفظ: «إذا اجتنبت الكبائر (2) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه، والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة برقم 233.
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/359) .(26/56)
14 ـ شرح حديث: «لله ملائكة سياحون»
س: ورد في حديث: «إن لله ملائكة سيارة تسير في الأرض تحف الجماعة الذين يذكرون الله (1) » ويقال: إن بعض الصوفية يستدلون بهذا الحديث على بعض أعمالهم، فكيف ترد عليهم؟
ج: هذا الحديث صحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إن لله ملائكة سياحين يلتمسون مجالس الذكر، فإذا وجدوها تنادوا هلموا إلى حاجتكم فيحيطون بهم إلى عنان السماء، ويسمعون منهم أذكارهم وأعمالهم الطيبة، ثم إذا عرجوا سألهم الله عما وجدوا، وهو أعلم سبحانه وتعالى، فيخبرونه بما شاهدوا (2) » ولا حجة في هذا للصوفية،
__________
(1) صحيح البخاري الدعوات (6408) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2689) ، سنن الترمذي الدعوات (3600) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .
(2) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين، مسند أبي هريرة، برقم 7376.(26/57)
فالصوفية مبتدعة، عليهم أن يلتزموا بالشريعة ويستقيموا عليها ويذكروا الله بما شرع، وإذا ذكروا الله بما شرع فهذا طيب، ولهم أجر ذلك عند الله سبحانه إذا استقاموا على التوحيد، ومن ذكر الله تعليم القرآن الكريم والسنة المطهرة وأنواع العلم النافع الذي ينفع العباد في دينهم ودنياهم مع الإخلاص لله في ذلك وطلب الثواب منه سبحانه. وبذلك يعلم أن وجود الملائكة في مجالس الذكر لا حجة للصوفية فيه، ولا في اختراعهم البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان وعبادات ما شرعها الله لعباده، كعبادة بعضهم لأهل القبور بالاستغاثة بهم والنذر لهم والطواف بقبورهم وغير ذلك من أنواع العبادات، وكإحداثهم أذكارا وعبادات ما أنزل الله بها من سلطان، وغير ذلك مما اخترعوه من الطرق الباطلة. نسأل الله لنا ولهم الهداية، والله ولي التوفيق.(26/58)
15 ـ الذكر بالقلب مشروع في كل زمان ومكان
س: مطلوب من الإنسان ذكر الله في كل وقت، وعلى كل حال إلا في أماكن نهي عن ذكر الله فيها، كالحمام مثلا، فهل يقطع الإنسان ذكر الله في الحمام بتاتا، حتى ولو في قلبه؟ (1)
ج: الذكر بالقلب مشروع في كل زمان ومكان، في الحمام وغيره، وإنما المكروه في الحمام ونحوه: ذكر الله باللسان؛ تعظيما لله سبحانه، إلا التسمية عند الوضوء، فإنه يأتي بها إذا لم يتيسر الوضوء خارج الحمام؛ لأنها واجبة عند بعض أهل العلم، وسنة مؤكدة عند الجمهور.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1548 في 18 \ 2 \ 1417هـ.(26/59)
16 ـ قراءة القرآن في أوقات العمل
س: أنا موظف وفي العمل أقرأ القرآن الكريم في أوقات الفراغ، ولكن المسئول ينهاني عن ذلك بقوله: إن هذا الوقت للعمل وليس للقراءة القرآن، فما حكم ذلك جزاكم الله خيرا؟ (1)
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة، العدد 1652 في 17 \ 4 \ 1419 هـ.(26/59)
ج: إذا لم يكن لديك عمل فلا حرج في قراءة القرآن، وهكذا التسبيح والتهليل والذكر، وهو خير من السكوت، أما إذا كانت القراءة تشغلك عن شيء يتعلق بعملك فلا يجوز لك ذلك؛ لأن الوقت مخصص للعمل فلا يجوز لك أن تشغله بما يعوقك عن العمل.(26/60)
17 ـ ما صحة حديث:
"من أراد أن يتقابل مع الله ويناجيه. . . "
س: سماحة الشيخ قرأت أن هناك حديثا قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن يتقابل مع الله ويناجيه فعليه بتلاوة القرآن" ما مدى صحة هذا الحديث؟ (1)
ج: لا أعلم لهذا الحديث أصلا، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سؤال شخصي أجاب عنه سماحته بتاريخ 14 \ 1 \ 1420هـ.(26/60)
18 ـ ما صحة قول:
" رب قارئ للقرآن، والقرآن يلعنه "
س: أرجو أن تتفضلوا بشرح الجمل التالية:
رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه، كيف يلعن القرآن قارئه ولماذا؟ (1)
ج: لا أعلم صحة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا حاجة إلى تفسيره (2) ، ولو صح لكان المعنى أن في القرآن ما يقتضي ذمه ولعنه؛ لكونه يقرأ القرآن وهو يخالف أوامره أو يرتكب نواهيه، يقرأ كتاب الله وفي كتاب الله ما يقتضي سبه وسب أمثاله؛ لأنهم خالفوا الأوامر وارتكبوا النواهي هذا هو الأقرب في معناه إذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكني لا أعلم صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط السابع عشر.
(2) الظاهر أنه من قول العلماء(26/61)
19 ـ حكم سؤال العبد في صلاته إذا مر بآية رحمة أو آية عذاب
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم سعادة رئيس تحرير جريدة البلاد وفقه الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
فقد جاء في جريدة البلاد العدد (11030) الصادر يوم الأحد 20 ربيع الآخر سنة 1415هـ في صفحة (روضة الإسلام) (8) تحت عنوان (فتاوى العلماء) السؤال التالي مع جوابه المنسوب إلى وهو:
س: سمعت بعض المصلين أثناء قراءته القرآن في الصلاة يقطع القراءة ويدعو بأدعية مناسبة فيقول عند ذكر الجنة: اللهم أسألك الجنة، وعند ذكر النار: اللهم أجرني من النار، فهل ذلك جائز شرعا؟ (1)
الجواب: يسن لكل من قرأ في الصلاة أو غيرها إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مر بآية عذاب أن
__________
(1) أجاب عنه سماحته برقم 1508 \ 1 بتاريخ 12 \ 5 \ 1415هـ.(26/62)
يستعيذ به من النار. وإذا مر بآية تنزيه لله سبحانه نزهه فقال: سبحانه وتعالى، أو نحو ذلك، ويستحب لكل من قرأ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} (1) أن يقول: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، وإذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (2) قال: بلى أشهد، وإذا قرأ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (3) قال: آمنت بالله، وإذا قرأ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (4) قال: لا نكذب شيئا من آيات ربنا، وإذا قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (5) قال: سبحان ربي الأعلى، ويستحب هذا للإمام والمأموم والمنفرد؛ لأنه دعاء فهو مطلوب مهم كالتأمين، وكذلك الحكم في القراءة في غير الصلاة. اهـ.
ولا أدري من أين نقلتم هذا السؤال مع جوابه، وقد سبق أن كتبنا لكم برقم 40 \ 1وتاريخ 6 \ 1 \ 1415هـ نستوضح عن المصدر الذي تأخذون منه هذه الفتاوى.
__________
(1) سورة التين الآية 8
(2) سورة القيامة الآية 40
(3) سورة الأعراف الآية 185
(4) سورة الرحمن الآية 13
(5) سورة الأعلى الآية 1(26/63)
وهذا السؤال وجوابه فيه أشياء لست أفتي بها، منها:
ما يقال عند آخر قراءة سورة التين، وآخر سورة المرسلات؛ لأن الحديث في ذلك ضعيف.
ومنها ما ذكرتم أنه يقال عند قراءة: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (1) لا شيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد.
فاصلة: فأرجو الإفادة عن كتاب نقلتم عنه هذا السؤال وجوابه، وأرجو أن ترسلوا إلي الأسئلة التي تحبون الجواب عنها حتى أجيب عنها إن شاء الله، ولا أسمح لكم أن تنقلوا الجواب إلا من كتاب آذن لكم بالنقل منه، حذرا من الأخطاء. وفق الله الجميع لما يرضيه، وأعاننا وإياكم على كل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) سورة الرحمن الآية 13(26/64)
20 ـ دعاء الصباح والمساء
س: قال النبي صلى الله عليه وسلم: من قال حين يصبح وحين يمسي: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله تعالى ما أهمه من أمور الدنيا والآخرة. هل هذا الحديث صحيح أم لا؟ (1)
ج: هذا الحديث جاء موقوفا على أبي الدرداء رضي الله عنه من رواية أبي داود في سننه بإسناد جيد، ولفظه: «من قال إذا أصبح وإذا أمسى: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمه (2) » انتهى، وليست فيه الزيادة المذكورة وهي: من أمور الدنيا والآخرة. وهو حديث موقوف على أبي الدرداء وليس حديثا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه في حكم المرفوع؛ لأن مثله ما يقال من جهة الرأي، والله ولي التوفيق.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب شريط رقم 7 ونشر في المجموع ج9 ص 294.
(2) رواه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح برقم 5081.(26/65)
21 ـ أذكار تقال بعد صلاة الفجر والمغرب
س: ما هي الأدعية التي تكون بعد صلاة الفجر والمغرب أوجزوها لنا جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: يستحب للمؤمن والمؤمنة الاشتغال بالذكر والدعاء في أوائل الليل وأوائل النهار. فيستحب للمؤمن أن يكثر من ذكر الله في هذه الأوقات؛ لأن الله جل وعلا أمر بذكره وتسبيحه بكرة وعشيا. والعشي آخر النهار. والبكرة أول النهار. فيشتغل بما يسر الله له من الذكر مثل: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير) (سبحان الله، والحمد لله، ولا الله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله) ، (وسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) وهكذا الأدعية المناسبة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم. إذا تيسرت له وحفظها ودعا بها، وهي طيبة يدعو بها في أول الليل وأول النهار كل ذلك مما ينبغي فعله.
وإذا تيسر له مراجعة الكتب المؤلفة في هذا مثل: الأذكار للنووي ورياض الصالحين، والترغيب والترهيب والوابل
__________
(1) من برنامج نور على الدرب الشريط 14.(26/66)
الصيب لابن القيم. وغيرها من الكتب التي تنفعه ويستفيد منها فهذا أحسن.
وأنا أذكر لك في ذلك أن يقول في أول الليل: «أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد الله، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم إني أسألك خير هذه الليلة وخير ما فيها وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما بعدها، اللهم إني أعوذ بك من الكسل ومن سوء الكبر ومن عذاب في النار ومن عذاب في القبر، اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير (1) » ، وما أشبه ذلك مما ورد؛ وهكذا يقول في الصباح لكن يقول «أصبحنا وأصبح الملك لله، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم إني أسألك خير هذا اليوم وخير ما فيه وخير ما بعده، وأعوذ بك من شر هذا اليوم وشر ما فيه وشر ما بعده، رب إني أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، وأعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر، اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور، اللهم إني أصبحت على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2723) ، سنن الترمذي الدعوات (3390) ، سنن أبو داود الأدب (5071) ، مسند أحمد بن حنبل (1/440) .(26/67)
محمد صلى الله عليه وسلم وملة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام حنيفا مسلما وما كان من المشركين» .
كل هذه جاءت بها السنة ومن ذلك: «اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي (1) » .
فيدعو بهذا الدعاء صباحا ومساء، وهكذا إذا قرأ الكتب التي ذكرناها آنفا يستفيد منها.
__________
(1) سنن النسائي الاستعاذة (5530) ، سنن أبو داود الأدب (5074) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3871) .(26/68)
22 ـ فضل الجلوس للذكر بعد صلاة الصبح
س: حديث «من جلس بعد صلاة الصبح يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة (1) » ؟ (2)
ج: هذا الحديث له طرق لا بأس بها فيعتبر بذلك من باب الحسن لغيره، وتستحب هذه الصلاة بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، أي بعد ثلث وأربع ساعة تقريبا من طلوعها.
__________
(1) سنن الترمذي الجمعة (586) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الجمعة، باب ما يستحب من الجلوس في المسجد بعد صلاة الغداة، برقم 586.(26/69)
23 ـ حكم تكرار بعض الأذكار بعد صلاة المغرب والفجر
س: ورد الحث على قول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (1) »
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2693) ، سنن الترمذي الدعوات (3553) ، مسند أحمد بن حنبل (5/420) .(26/69)
عشر مرات بعد صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب. فهل ما ورد صحيح؟ (1)
ج: ورد في هذا أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها تدل على شرعية الذكر المذكور بعد صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب، وهو أن يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات، فيشرع لكل مؤمن ومؤمنة المحافظة على ذلك بعد الصلاتين المذكورتين. وذلك بعد الذكر المشروع بعد السلام من جميع الصلوات الخمس، وهو أن يقول بعد السلام: أستغفر الله، ثلاثا، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد
__________
(1) نشر في هذا المجموع، ج 11، ص 192.(26/70)
منك الجد. وإن كان إماما شرع له الانصراف إلى الناس ويعطيهم وجهه بعد قوله أستغفر الله ثلاثا، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. وللإمام عند الانصراف أن ينصرف عن يمينه أو شماله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا وهذا.
ويستحب للمصلي أيضا بعد كل صلاة من الصلوات الخمس بعد الذكر المذكور أن يقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر، ثلاثا وثلاثين مرة. فتلك تسع وتسعون، ويقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الترغيب في ذلك وبيان أنه من أسباب المغفرة. ويشرع للمصلي أيضا بعد كل صلاة من الصلوات الخمس: أن يقرأ آية الكرسي بعد هذه الأذكار وأن يقرأ: قل هو الله أحد، قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس. ويشرع أن يكرر هذه السور الثلاث بعد المغرب وبعد الفجر وعند النوم ثلاث مرات؛ لورود الأحاديث الصحيحة في ذلك.(26/71)
24 ـ مسألة في أذكار المساء
س: هل يجوز لي قراءة أذكار المساء قبل أذان المغرب بدقائق لانشغالي بعد صلاة المغرب بتدريس القرآن الكريم؟ (1)
ج: نعم يجوز أن تقرأ أذكار المساء بعد العصر؛ لأن ورد المساء يبدأ من بعد الزوال، فالأذكار في هذا الوقت كلها المساء وأذكار العشي.
__________
(1) سؤال بعد درس ألقاه سماحته في المسجد الحرام بتاريخ 26 \ 12 \ 1418هـ.(26/72)
25 ـ حكم إذا تأخرت الأذكار عن أوقاتها
س: هل تزول الفائدة من قراءة الأوراد والأذكار الصباحية والمسائية متأخرة عن وقتها كالظهر أو بعد العشاء مثلا؟ جزاكم الله خيرا (1) .
ج: بسم الله والحمد لله. . السنة المحافظة على الأذكار والدعوات الصباحية والمسائية في أوقاتها، وإذا ذهب وقتها ذهب
__________
(1) من ضمن أسئلة أجاب عنها سماحته في حج 1415هـ.(26/72)
ثوابها المتعلق بوقتها، أما التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والاستغفار والدعاء، وقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فهذا مشروع في جميع الأوقات.(26/73)
26 ـ مسألة في التسبيح
س: قرأت في كتاب أن من قرأ مائة مرة سبحانك اللهم وبحمدك، سبحانك اللهم العظيم غفر الله له ذنوبه ولو كانت كزبد البحر، هل هذا صحيح؟ (1)
ج: جاء في الأحاديث الصحيحة قريب من هذا، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر (2) » التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير من أسباب حط الخطايا. وقال عليه الصلاة والسلام: «أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر (3) » . قال عليه الصلاة والسلام: «الباقيات الصالحات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله (4) » .
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط السابع عشر.
(2) صحيح البخاري الدعوات (6405) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2691) ، سنن ابن ماجه الأدب (3812) ، مسند أحمد بن حنبل (2/375) ، موطأ مالك النداء للصلاة (487) .
(3) صحيح مسلم كتاب الآداب (2137) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (1/71) .(26/73)
فينبغي لكل مؤمن ومؤمنة الإكثار من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، وقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ففي ذلك خير عظيم وهو من أسباب تكفير الخطايا وحط السيئات ومضاعفة الحسنات. وقد قال عليه الصلاة والسلام: «من سبح الله دبر كل صلاة مكتوبة ثلاثا وثلاثين وحمد الله ثلاثا وثلاثين وكبر الله ثلاثا وثلاثين فتلك تسع وتسعون، وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر (1) » . فهذا فضل عظيم. فيستحب لكل مؤمن ومؤمنة بعد كل فريضة من الصلوات الخمس بعد السلام والذكر المتقدم أن يقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين مرة ثم يختم المائة بقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ للحديث السابق؛ ولأحاديث أخرى صحت عن النبي صلى الله عليه سلم في ذلك، وإن قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمسا وعشرين مرة بعد كل صلاة في بعض الأحيان كفى ذلك؛ لأن كلا منهما سنة فإذا أتى بهذا أو بهذا فكله طيب، وينبغي أن يعلم تكفير السيئات بهذه الأذكار وغيرها
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (597) ، سنن أبو داود الصلاة (1504) ، مسند أحمد بن حنبل (2/371) ، موطأ مالك النداء للصلاة (488) .(26/74)
مشروط باجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الذنوب؛ لقول الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (1) وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2) {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (3) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر (4) »
والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة النساء الآية 31
(2) سورة آل عمران الآية 135
(3) سورة آل عمران الآية 136
(4) صحيح مسلم الطهارة (233) ، سنن الترمذي الصلاة (214) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1086) ، مسند أحمد بن حنبل (2/400) .(26/75)
27 ـ ما صحة حديث: " سبحان الله عدد ما خلق وسبحان الله مثل ما خلق. . . "
س: حديث: " ألا أخبرك بأكثر من ذكرك الله الليل والنهار. . سبحان الله عدد ما خلق وسبحان الله مثل ما خلق، وسبحان الله عدد ما في السماوات وما في الأرض. . . " الحديث. ما صحة ذلك؟ (1)
ج: لا أعرف هذا الحديث، ولا أذكر حاله، ولا حال من رواه. والمحفوظ الذي رواه مسلم في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم لجويرية لما دخل عليها وهي في مصلاها بعد ما اشتد الضحى، قال: «لا زلت في مكانك، قالت: نعم، قال: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن، سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته (2) » .
__________
(1) من ضمن أسئلة شخصية مقدمة لسماحته، وقد أجاب عنه سماحته في يوم الجمة 24 \ 8 \ 1416هـ.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الذكر، باب التسبيح أول النهار وعند النوم، برقم 2726.(26/76)
وفيه حديث آخر رواه أبو داود وهو: «سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما خلق بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، والله أكبر مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك (1) » لكن في إسناده رجل غير معروف، فيكون ضعيفا من أجل هذه العلة. ويكفي عنه حديث جويرية السابق.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب التسبيح بالحصى، برقم 1282.(26/77)
28 ـ أسماء الله وفضل من أحصاها
س: ما المقصود بكلمة (أحصاها) في حديث الرسول الكريم عن أسماء الله الحسنى «من أحصاها دخل الجنة (1) » ؟ (2)
ج: الإحصاء يكون بالحفظ، ويكون بتدبر وتعقل معانيها والعمل بمقتضى ذلك؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «إن لله
__________
(1) صحيح البخاري الشروط (2736) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) ، سنن الترمذي الدعوات (3507) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3860) ، مسند أحمد بن حنبل (2/267) .
(2) من برنامج نور على الدرب، الشريط رقم 1500.(26/77)
تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة (1) » وفي لفظ: «من حفظها دخل الجنة (2) » والمعنى: إحصاؤها بتدبر المعاني والنظر في المعاني مع حفظها؛ لما في ذلك من الخير العظيم والعلم النافع، ولأن ذلك من أسباب صلاح القلب وكمال خشيته لله والقيام بحقه سبحانه وتعالى.
س: سماحة الشيخ قد يتكل الناس على بعض مثل هذه الأحاديث فيعتقد أن حفظ أسماء الله الحسنى دون عمل يكفيه لدخول الجنة؟ (3)
ج: هذا من الفهم الخطأ؛ فأحاديث الترغيب مقصودها حث العباد على العمل بما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا إليه مثل: «من أحصاها دخل الجنة (4) » في الأسماء
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الشروط، باب ما يجوز من الاشتراط والثنايا في الإقرار برقم 2736، ومسلم في كتاب الذكر، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها برقم 2677.
(2) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب: إن لله مائة اسم إلا واحدا برقم 7392.
(3) سؤال من برنامج نور على الدرب.
(4) صحيح البخاري الشروط (2736) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) ، سنن الترمذي الدعوات (3507) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3860) ، مسند أحمد بن حنبل (2/267) .(26/78)
الحسنى ومثل: «من صام عرفة كفر الله به السنة التي قبلها والسنة التي بعدها (1) » «والصوم يوم عاشوراء يكفر السنة التي قبله (2) » وأشبه ذلك كله من باب الترغيب في طاعة الله عز وجل، وأن هذا من أسباب المغفرة مع توافر الأسباب الأخرى التي لا تمنع المغفرة، فإذا تعاطى المؤمن أسباب المغفرة، وليس هناك موانع من إصراره على الكبائر أثرت أثرها، وإذا كان موانع صار ذلك من أسباب عدم المغفرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر (3) » وفي لفظ: «ما لم تؤت الكبائر (4) » ، ولهذا ذهب جمهور أهل العلم -أي أكثر أهل العلم- إلى أن هذه الأحاديث التي جاءت في فضل كذا، وفضل كذا، فضل الصلاة، وأنها تكفر الذنوب أو الوضوء أو صوم عرفة، أو صوم يوم عاشوراء أو إحصاء أسماء الله الحسنى أو ما أشبه ذلك، كل ذلك مقيد باجتناب الكبائر، بالاستقامة على ما أوجب الله وترك الكبائر، وأن هذه الفضائل وهذه الأعمال من أسباب المغفرة مع الأسباب الأخرى التي شرعها الله عز وجل، ومع السلامة من الموانع التي تمنع المغفرة، وذلك هو الإصرار على
__________
(1) صحيح مسلم الصيام (1162) ، سنن أبو داود الصوم (2425) ، مسند أحمد بن حنبل (5/308) .
(2) صحيح مسلم الصيام (1162) ، سنن أبو داود الصوم (2425) ، مسند أحمد بن حنبل (5/308) .
(3) صحيح مسلم الطهارة (233) ، سنن الترمذي الصلاة (214) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1086) ، مسند أحمد بن حنبل (2/400) .
(4) صحيح مسلم الطهارة (233) ، سنن الترمذي الصلاة (214) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1086) ، مسند أحمد بن حنبل (2/400) .(26/79)
الكبائر، كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) فشرط في هذا عدم الإصرار، والإصرار هو الإقامة على المعصية وعدم التوبة منها، وهو من أسباب عدم المغفرة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والخلاصة: أن هذه الفضائل وهذا الوعد الذي وعد الله به من أحصى أسماءه الحسنى بدخول الجنة، ووعد من صام يوم عاشوراء أن يكفر السنة التي قبلها، وهكذا في صوم عرفة، وهكذا غير ذلك كله مقيد بعدم الإصرار على المعاصي، وهكذا ما جاء في أحاديث التوحيد، وأن «من شهد أن لا إله إلا الله صادقا من قلبه دخل الجنة (2) » كل ذلك مقيد بعد إقامته على المعاصي، فأما إذا أقام على المعاصي فهو تحت مشيئة الله قد يغفر له، وقد يدخل النار بذنوبه التي أصر عليها ولم يتب، حتى إذا طهر ونقي منها أخرج من النار إلى الجنة.
فالواجب على كل مسلم ومسلمة أن يحذر الاتكال على أحاديث الترغيب والوعد، والإعراض عن أحاديث الوعيد وآيات الوعيد، بل يجب أن يأخذ بهذا وهذا، يجب أن يحذر مما حرمه الله من
__________
(1) سورة آل عمران الآية 135
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/229) .(26/80)
المعاصي، وأن تكون على باله الأحاديث والآيات التي فيها الوعيد، لمن تعدى حدود الله وانتهك محارمه، ومع ذلك يحسن ظنه بربه ويرجوه ويتذكر وعده بالمغفرة والرحمة لمن يعمل الأعمال الصالحات، فيجمع بين هذا وهذا، بين الرجاء والخوف، فلا يقنط ولا يأمن، وهذا هو طريق أهل العلم والإيمان كما قال جل وعلا عن أنبيائه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} (1) أي: رجاء وخوفا {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (2) وقال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (3) وهكذا أهل الإيمان من أتباع الرسل هم على هذا السبيل يوحدون الله ويخشونه، ويؤدون فرائضه ويدعون محارمه، ويرجونه ويخافونه سبحانه وتعالى.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 90
(2) سورة الأنبياء الآية 90
(3) سورة الإسراء الآية 57(26/81)
29 ـ لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة
س: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: قل لأمتك يقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله عشرا عند الصباح وعشرا عند المساء، وعشرا عند النوم، يدفع عنهم عند النوم بلوى الدنيا وعند المساء مكائد الشيطان، وعند الصباح أسوأ غضبه" ما مدى صحة هذا الحديث؟ (1)
ج: لا أعرف لهذا الحديث أصلا ولا أذكره في شيء من الكتب المعتمدة، ولكن كلمة (لا حول ولا قوة إلا بالله) كلمة عظيمة قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله (2) » رواه البخاري في الدعوات، ومسلم في الذكر، فينبغي الإكثار منها.
__________
(1) نشر في جريدة الندوة العدد 12250 بتاريخ 1\11\1419هـ.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا علا عقبة، برقم 6384، ومسلم في كتاب الذكر، باب استحباب خفض الصوت بالذكر برقم 2704.(26/82)
30 ـ حكم من رأى رؤيا يكرهها
س: أنا فتاة أبلغ الثامنة عشرة من عمري وأحمد الله أنني مستقيمة في حياتي وملتزمة بديني.. وكثيرا ما أرى في منامي رؤيا غالبا ما تكون هذه الرؤيا مزعجة، ولا يمضي عليها إلا أيام معدودة ثم تتحقق، وتأتي كفلق الصبح، وتنزل المصائب على أهلي وأسرتي.. وإذا رأيت هذه الرؤيا فإنني أخبر بها أهلي ويستعيذون بالله منها.. أرجو إفتائي في أمر يذهب عني هذه المصائب؟
ج: المشروع لمن رأى في منامه شيئا يكرهه أن ينفث عن يساره إذا استيقظ ثلاث مرات، ويستعيذ بالله من الشيطان ومن شر ما رأى ثلاث مرات، ثم ينقلب على جنبه الآخر، فإنها لا تضره، ولا يخبر بها أحدا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من رأى في منامه شيئا يكرهه أن يفعل ما ذكر.. أما إن رأى في منامه ما يسره فإنه يحمد الله على ذلك، ولا يخبر به إلا من يحب كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(26/83)
31 ـ الأحلام المزعجة
س: يراودني حلم مخيف مزعج ومتكرر وهو أني وأنا نائم أحلم وكأن شيئا في فمي يشبه العجين ويضايقني في التنفس والكلام، وكلما حاولت نزعه باليد أو الأخذ منه يتجدد غيره، وهكذا حتى أصحو من النوم، وأنا خائف جدا من هذا الحلم. وقد عكر علي حياتي وأصبحت أفكر فيه دائما، ولا أدري ما سبب ذلك؟ علما أني أصلي وأصوم وقد قمت بالحج، وأنا أستغفر الله دائما وأتوب إليه، ولكنه يتكرر علي من شهرين إلى أربعة أو خمسة ويعاودني، أسأل الله تعالى أن أجد لديكم تفسيرا لهذا الحلم المخيف. والله أسأل أن يوفقكم لما فيه خيرا الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه؟ (1)
ج: هذا الحلم من الشيطان، والمشروع لك ولكل مسلم ومسلمة إذا رأى ما يكره أن ينفث عن يساره ثلاث مرات، وأن يتعوذ بالله من الشيطان ومن شر ما رأى ثلاثا، ثم ينقلب على جنبه الآخر فإنه لا يضره ولا يخبره بذلك أحدا؛ لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الرؤيا الصالحة
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، جمع محمد المسند ج4 ص340.(26/84)
من الله، والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يكره فلينفث عن يساره ثلاثا، وليتعوذ بالله من الشيطان ومن شر ما رأى ثلاثا، ثم ينقلب على جنبه الآخر فإنها لا تضره ولا يخبر بها أحدا (1) » فهذا الحديث الصحيح فيه راحة للمؤمن إذا رأى ما يكره، وهكذا المؤمنة إذا رأت ما تكره، وهو بحمد الله دواء عظيم ميسر.
فعليك يا أخي أن تعمل بذلك، وعليك أن تطمئن وتريح قلبك ونفسك بهذا الدواء النبوي العظيم. وفق الله الجميع.
__________
(1) صحيح البخاري التعبير (6995) ، صحيح مسلم الرؤيا (2261) ، سنن الترمذي الرؤيا (2277) ، سنن أبو داود الأدب (5021) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3909) ، مسند أحمد بن حنبل (5/303) ، موطأ مالك الجامع (1784) ، سنن الدارمي الرؤيا (2142) .(26/85)
32 ـ من رأى في المنام ما يكره
س: لقد كان لي قريب يكرهني في حياته ولا يطيقني، وكان يضربني وقد توفاه الله ... وفي هذه الأيام أحلم أحلاما مزعجة، أراه يلاحقني أنا وابنتي الصغيرة لكني أهرب منه ولا يستطيع الإمساك بي، أرجو إرشادي إلى ما يريحني؟ (1)
ج: هذه الرؤيا وأشباها من المرائي المكروهة كلها من الشيطان، والمشروع للمسلم إذا رأى ما يكره أن ينفث عن
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1651 في 29\3\1419هـ. ونشر في المجموع ج8 ص359.(26/85)
يساره ثلاث مرات، وأن يتعوذ بالله من الشيطان، ومن شر ما رأى (ثلاث مرات) ، ثم ينقلب على جنبه الآخر فإنها لا تضره، ولا يخبر بها أحدا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يكره فلينفث عن يساره ثلاث مرات، وليتعوذ بالله من الشيطان ومن شر ما رأى ثلاث مرات، ثم لينقلب على جنبه الآخر فإنها لا تضره، ولا يخبر بها أحدا، وإذا رأى ما يحب فليحمد الله، وليخبر بها من يحب (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3292) ، صحيح مسلم الرؤيا (2261) ، سنن الترمذي الرؤيا (2277) ، سنن أبو داود الأدب (5021) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3909) ، مسند أحمد بن حنبل (5/303) ، موطأ مالك الجامع (1784) ، سنن الدارمي الرؤيا (2142) .(26/86)
33 ـ مسألة في الدعاء بعد الفراغ من الصلاة المكتوبة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ع. م. ص. سلمه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد (1) :
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) صدر من سماحته برقم 523\2 بتاريخ 9\3\1408هـ.(26/86)
برقم 499 وتاريخ 6\2\1408هـ. الذي تسأل فيه عن عدد من الأسئلة ... وأفيدك بأن سؤال العبد ربه بعد الفراغ من الصلاة المكتوبة أن يوسع عليه رزقه، ويصلح له ذريته ونحو ذلك، لا بأس به فيما بينه وبين ربه، دون رفع الصوت واليدين.
وأما الرجل الذي تزوج بامرأة تصلي وهو لا يصلي، ثم تاب بعد ذلك فإنه يجب تجديد العقد بولي وشاهدي عدل، إذا رضيت المرأة بذلك في أصح قولي العلماء. وفق الله الجميع لما فيه رضاه إنه سميع مجيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(26/87)
34 ـ صفة التكبير أيام التشريق
س: ما هي صفة التكبير أيام التشريق وهل هي مقيدة بعد الصلاة أو مطلقة؟ (1)
ج: التكبير في أيام التشريق مطلقا ومقيدا في أدبار الصلوات وفي بقية الأوقات جميعا، إن شاء شفع وإن شاء ثلث: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ويكثر من لا إله إلا الله، فيقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. من رواية أحمد رحمة الله عليه. وحديث ابن عمر: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب للعمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد (2) » وكان عمر رضي الله عنه يكبر في خيمته في أيام منى حتى ترتج منى تكبيرا، كما كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان أيام العشر فيكبران فيكبر الناس بتكبيرهما في الأسواق، يعلمون الناس.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1415هـ، شريط رقم 49\6.
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/75) .(26/88)
35 ـ التكبير المطلق والمقيد أيام التشريق
س: هل يشرع التكبير المطلق في أيام التشريق أم يقتصر على المقيد فقط؟ (1)
ج: التكبير مشروع مطلقا، المقيد والمطلق جميعا في هذه الأيام، وكان الصحابة يكبرون مطلقا ومقيدا، وهو ظاهر قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر (3) »
__________
(1) من أسئلة حج عام 1418هـ.
(2) سورة البقرة الآية 203
(3) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق برقم 1141.(26/89)
36 ـ مسألة في التكبير أيام التشريق وذكر مدته
س: هل التكبير مقتصر على ما بعد الصلوات أو في جميع الأوقات وكم مدته بعد يوم العيد؟ (1)
ج: التكبير مطلق ومقيد، عام بعد الصلوات ومطلق في جميع
__________
(1) من أسئلة حج عام 1415هـ، الشريط رقم 49\7.(26/89)
الأوقات، من صباح الفجر من يوم عرفة إلى غروب الشمس يوم الثالث عشر؛ خمسة أيام التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر إلى الثالث عشر، إلى غروب الشمس مطلق ومقيد.(26/90)
37 ـ فضل الاستغفار
س: ما صحة هذا الحديث: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب" وما معناه؟ (1)
ج: الحديث المذكور رواه أبو داود (2) وابن ماجه (3) وهذا ضعيف؛ لأن في إسناده الحكم بن مصعب وهو مجهول؛ ولكن الأدلة الكثيرة من الآيات والأحاديث تدل على فضل الاستغفار والترغيب فيه مثل قول الله سبحانه: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (4)
__________
(1) من الأسئلة الموجهة لسماحته من مجلة الدعوة، وقد أجاب عنه سماحته بتاريخ 20\6\1419هـ.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الاستغفار، برقم 1518.
(3) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأدب، في باب الاستغفار، برقم 3819.
(4) سورة هود الآية 3(26/90)
الآية من سورة هود، وقوله سبحانه في آخر المزمل: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة المزمل الآية 20(26/91)
38 ـ مسألة في فضل الاستغفار
س: هل الزيادة في الاستغفار في اليوم عن سبعين أو مائة مرة جائز؟
وهل الزيادة في ذكر سبحان الله وبحمده عن مائة مرة جائز، حيث إني ما زلت أذكر الله وأستغفره أي وقت في ذلك؟ لعل الله أن يقبل توبتي.
ج: هذا مستحب ولو سبحت ألف مرة أو ألفين أو عشرة آلاف، لكن النبي صلى الله عليه وسلم بين للأمة قال: «من قال حين يمسي وحين يصبح سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر (1) » يعني إذا لم يصر على الكبائر فهذه من أسباب المغفرة، ويسبح الله مائة مرة في
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح برقم 6405، ومسلم في كتاب الذكر، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء برقم 2691.(26/91)
السماء ومائة مرة في الصباح، هذه من أسباب المغفرة لمن وفقه الله لترك الكبائر، وهكذا قال صلى الله عليه وسلم: «من قال في يوم لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير مائة مرة كانت له عدل عشرة رقاب، وكتب الله له مائة حسنة، ومحي عنه مائة سيئة، وكان في حرز من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من عمله (1) » أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين، وهذا يدل على أن من زاد فلا بأس، أو يذكر الله مائتين أو ألف مرة كله خير له مزيد من الأجر والخير، المقصود أن التسبيح لا حد له، والذكر لا حد له يكثر من ذكر الله وتسبيحه في اليوم والليلة ما يسر الله له.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده برقم 3293، ومسلم في كتاب الذكر، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء برقم 2691.(26/92)
39 - حكم الاقتصار في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة (ص) أو (صلعم)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه، أما بعد (1) :
فقد أرسل الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، أرسله بالهدى والرحمة ودين الحق، وسعادة الدنيا والآخرة لمن آمن به وأحبه واتبع سبيله صلى الله عليه وسلم، ولقد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فجزاه الله عن ذلك خير الجزاء وأحسنه وأكمله.
وطاعته وامتثال أمره، واجتناب نهيه، من أهم فرائض الإسلام، وهي المقصود من رسالته. والشهادة له بالرسالة تقتضي محبته واتباعه والصلاة عليه في كل مناسبة وعند ذكره؛ لأن في ذلك أداء لبعض حقه صلى الله عليه وسلم، وشكرا لله على نعمته عليه
__________
(1) نشر في مجلة البحوث الإسلامية العدد (12) ص 7 - 9. ونشر في ج 2 من مجموع الفتاوى لسماحته ص 396.(26/93)
بإرساله صلى الله عليه وسلم.
وفي الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فوائد كثيرة منها: امتثال أمر الله سبحانه وتعالى، والموافقة له في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، والموافقة لملائكته أيضا في ذلك قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1)
ومنها أيضا مضاعفة أجر المصلي عليه، ورجاء إجابة دعائه، وسبب لحصول البركة، ودوام محبته صلى الله عليه وسلم وزيادتها وتضاعفها، وسبب هداية العبد وحياة قلبه، فكلما أكثر الصلاة عليه وذكره استولت محبته على قلبه؛ حتى لا يبقى في قلبه معارضة لشيء من أوامره، ولا شك في شيء مما جاء به.
كما أنه صلوات الله وسلامه عليه رغب في الصلاة عليه بأحاديث كثيرة ثبتت عنه منها ما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا (2) » وعنه رضي الله عنه
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 56
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم 408.(26/94)
أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم (1) » . وقال صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي (2) » .
وبما أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة في الصلوات في التشهد، ومشروعة في الخطب والأدعية والاستغفار، وبعد الأذان، وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند ذكره وفي مواضع أخرى، فهي تتأكد عند كتابة اسمه في كتاب أو مؤلف أو رسالة أو مقال أو نحو ذلك؛ لما تقدم من الأدلة. والمشروع أن تكتب كاملة؛ تحقيقا لما أمرنا الله تعالى به، وليتذكرها القارئ عند مروره عليها، ولا ينبغي عند الكتابة الاقتصار في الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلمة (ص) أو (صلعم) وما أشبهها من الرموز التي قد يستعملها بعض الكتبة والمؤلفين؛ لما في ذلك من مخالفة أمر الله -سبحانه وتعالى- في كتابه العزيز بقوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب زيارة القبور برقم 2042.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنف رجل برقم 3545.
(3) سورة الأحزاب الآية 56(26/95)
مع أنه لا يتم بها المقصود، وتنعدم الأفضلية الموجودة في كتابة (صلى الله عليه وسلم) كاملة. وقد لا ينتبه لها القارئ أو لا يفهم المراد بها، علما بأن الرمز لها قد كرهه أهل العلم وحذروا منه.
فقد قال ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح في النوع الخامس والعشرين من كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده، قال ما نصه:
التاسع: أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكره، ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكرره، فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك فقد حرم حظا عظيما. وقد رأينا لأهل ذلك منامات صالحة، وما يكتبه من ذلك فهو دعاء يثبته لا كلام يرويه فلذلك لا يتقيد فيه بالرواية. ولا يقتصر فيه على ما في الأصل.
وهكذا الأمر في الثناء على الله سبحانه عند ذكر اسمه نحو عز وجل وتبارك وتعالى، وما ضاهى ذلك إلى أن قال: (ثم ليتجنب في إثباتها نقصين: أحدهما أن يكتبها منقوصة صورة(26/96)
رامزا إليها بحرفين أو نحو ذلك، والثاني: أن يكتبها منقوصة معنى بألا يكتب (وسلم) ، وروي عن حمزة الكناني - رحمه الله تعالى - أنه كان يقول: كنت أكتب الحديث، وكنت أكتب عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أكتب (وسلم) ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: ما لك لا تتم الصلاة علي؟ قال: فما كتبت بعد ذلك صلى الله عليه إلا كتبت (وسلم) إلى أن قال ابن الصلاح: قلت ويكره أيضا الاقتصار على قوله (عليه السلام) والله أعلم. انتهى المقصود من كلامه -رحمه الله تعالى- ملخصا.
وقال العلامة السخاوي -رحمه الله تعالى- في كتابه "فتح المغيث شرح ألفية الحديث للعراقي " ما نصه: واجتنب أيها الكاتب (الرمز لها) أي: الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطك، بأن تقتصر منها على حرفين ونحو ذلك فتكون منقوصة -صورة- كما يفعله (الكتاني) والجهلة من أبناء العجم غالبا وعوام الطلبة فيكتبون بدلا من صلى الله عليه وسلم (ص) أو (صم) أو (صلم) أو (صلعم) فذلك لما فيه من نقص الأجر لنقص الكتابة خلاف الأولى.
وقال السيوطي - رحمه الله تعالى - في كتابه (تدريب الراوي(26/97)
في شرح تقريب النواوي) : ويكره الاقتصار على الصلاة أو التسليم هنا وفي كل موضع شرعت فيه الصلاة كما في شرح مسلم وغيره؛ لقوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) إلى أن قال: ويكره الرمز إليهما في الكتابة بحرف أو حرفين كمن يكتب (صلعم) بل يكتبهما بكمالهما. انتهى المقصود من كلامه -رحمه الله تعالى- ملخصا.
هذا ووصيتي لكل مسلم وقارئ وكاتب أن يلتمس الأفضل، ويبحث عما فيه زيادة أجره وثوابه، ويبتعد عما يبطله أو ينقصه. نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا جميعا لما فيه رضاه، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 56(26/98)
40 ـ الدعاء يشرع في كل وقت وليس من شرطه الطهارة
س: هل يجوز الدعاء في غير أوقات الصلاة، والإنسان على غير طهارة، وهو في العمل مثلا، هل يستجاب له في هذه الحالة؟(26/98)
ج: الدعاء يشرع في كل وقت، وليس من شرطه الطهارة، يدعو في جميع الأحوال، سواء كان على طهارة أو على جنابة، أو على حدث أصغر، أو كانت المرأة في الحيض أو في نفاس، الدعاء مطلوب وهكذا الذكر، ومن الذكر: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، يذكر الله على كل حاله حتى المرأة في حيضها ونفاسها، حتى الجنب، قالت عائشة رضي الله عنها: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه (1) » {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (2) والله يقول جل وعلا: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (3)
فالمؤمن مشروع له الذكر في جميع الأحوال، إنما ينهى عن قراءة القرآن خاصة في حالة الجنابة، ويقول سبحانه وتعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4)
والمؤمن مأمور بالذكر دائما، قائما وقاعدا وعلى جنبه، على طهارة إلا حال قراءة القرآن فإنه يمنع في حال الجنابة خاصة.
__________
(1) صحيح مسلم الحيض (373) ، سنن الترمذي الدعوات (3384) ، سنن أبو داود الطهارة (18) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (302) ، مسند أحمد بن حنبل (6/278) .
(2) سورة آل عمران الآية 190
(3) سورة آل عمران الآية 191
(4) سورة الجمعة الآية 10(26/99)
41 - مسألة في الأوراد الشرعية والدعوات الواردة عن النبي وكيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخت: ن. ع. م. س زادها الله من العلم والإيمان وبارك لها في الوقت والعمل آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابك الكريم وصلك الله بحبل الهدى والتوفيق، وجميع ما تضمنه من الأسئلة كان معلوما. . وهذا جوابها (1) :
وأما الأوراد الشرعية من الأذكار والدعوات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالأفضل أن يؤتى بها في طرفي النهار بعد صلاة الفجر وصلاة العصر، وذلك أفضل من قراءة القرآن؛ لأنها عبادة مؤقتة تفوت بفوات وقتها، أما قراءة القرآن فوقتها واسع، ومن اشتغل بقراءة القرآن في طرفي النهار وترك الورد فلا بأس؛ لأنها
__________
(1) نشر الجواب على الأسئلة المذكورة في ج 8 ص 309 - 316 من هذا المجموع.(26/100)
كلها نافلة، والأمر في ذلك واسع، ولا حرج على الحائض والنفساء في أصح قولي العلماء في قراءة القرآن عن ظهر قلب، سواء كان في الورد أو غيره، أما الجنب فلا يقرأ شيئا من القرآن حتى يغتسل؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحجزه شيء عن القرآن إلا الجنابة (1) » ، أما مس المصحف فلا يجوز للحائض والنفساء والجنب، ولا يجوز أيضا للمحدث حدثا أصغر كالريح والنوم حتى يتوضأ الوضوء الشرعي؛ لأحاديث وردت في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما تثويب الورد للغير فالأفضل تركه؛ لعدم الدليل عليه، وهكذا تثويب قراءة القرآن للغير الأفضل تركه، كما تقدم بيان ذلك؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضي الله عنهم -فيما نعلم- ما يدل على تثويب القرآن أو الأذكار للغير، أما الدعاء والصدقات فأمرهما واسع، كما تقدم أيضا الكلام في ذلك.
أما حديث أبي بن كعب رضي الله عنه الذي فيه أنه قال: يا رسول الله، كم أجعل لك من صلاتي؟ إلى آخره، فهو حديث في إسناده ضعف، وعلى فرض صحته فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أهل العلم أن المراد بذلك: الدعاء؛ لأن الدعاء يسمى: صلاة، قالوا: كان أبي قد
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (146) ، سنن النسائي الطهارة (265) ، سنن أبو داود الطهارة (229) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (594) ، مسند أحمد بن حنبل (1/124) .(26/101)
خصص وقتا للدعاء، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: كم يجعل له من ذلك؟ . . . إلى أن قال: أجعل لك صلاتي كلها، المعنى: أجعل دعائي كله صلاة عليك، يعني: في ذلك الوقت الذي خصصه للدعاء، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وما دام الحديث ليس صحيح الإسناد فينبغي أن لا يتكلف في تفسيره، ويكفينا أن نعلم أن الله سبحانه شرع لنا الصلاة والسلام على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1)
وجاءت الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم دالة على مشروعية الإكثار من الصلاة والسلام عليه -عليه الصلاة والسلام- «وأن من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشرا (2) » ، فهذا كله يكفي في بيان شرعية الإكثار من الصلاة والسلام عليه في سائر الأوقات من الليل والنهار خصوصا أمام الدعاء، وبعد الأذان، وفي آخر الصلاة قبل السلام، وكلما مر ذكره صلى الله عليه وسلم.
وأما حديث: «من صلى علي يوم الجمعة مائة مرة جاء
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 56
(2) صحيح مسلم الصلاة (384) ، سنن الترمذي المناقب (3614) ، سنن النسائي الأذان (678) ، سنن أبو داود الصلاة (523) ، مسند أحمد بن حنبل (2/168) .(26/102)
يوم القيامة ومعه نور لو قسم بين الخلق كلهم لوسعهم» فلا نعلم له أصلا، بل هو من كذبالكذابين.
وأما كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: فقد جاء في الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم بيانها، وأقل ذلك أن يقول: اللهم صل وسلم على رسول الله، أو: اللهم صل وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، أو: اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه، أو: صلى الله عليك يا رسول الله، ونحو ذلك، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن كيفية الصلاة عليه، قال: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد (1) » ، وفي لفظ آخر قال: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد (2) » ، وفي لفظ عنه أنه قال لهم لما أخبرهم بكيفية الصلاة، قال: «والسلام كما علمتم (3) » يشير بذلك إلى ما علمهم إياه
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (405) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3220) ، سنن النسائي السهو (1285) ، مسند أحمد بن حنبل (4/119) ، موطأ مالك النداء للصلاة (398) ، سنن الدارمي الصلاة (1343) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3370) ، صحيح مسلم الصلاة (406) ، سنن الترمذي الصلاة (483) ، سنن النسائي السهو (1288) ، سنن أبو داود الصلاة (976) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (904) ، مسند أحمد بن حنبل (4/244) ، سنن الدارمي الصلاة (1342) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: (واتخذا الله إبراهيم خليلا) برقم 3370، ومسلم في كتاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم 405.(26/103)
في التحيات، وهو قوله: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وفيلفظ آخر عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال لهم: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد (1) » .
وهذه الكيفيات المذكورة هي أصح ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام في كيفية الصلاة عليه، وهي كافية عما أحدثه الناس من أنواع الصلاة والسلام عليه - عليه الصلاة والسلام - وهي أفضل مما أحدثوا.
وأما حديث: «من صلى علي في يوم مائة مرة قضى الله له مائة حاجة؛ سبعون منها لآخرته وثلاثون منها لدنياه» فلا نعلم له أصلا، بل هو من كذب الكذابين.
وأسأل الله أن يمنحنا وإياك وسائر المسلمين الفقه في الدين والثبات عليه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يتوفانا جميعا على الإسلام، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم 407.(26/104)
42 ـ ما صحة حديث: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء (1) »
س: سمعت المذيع وكان يتكلم في فضل يوم الجمعة وذلك يوم الجمعة 12 من ربيع الأول وقد أورد حديثا يقول: «فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي قالوا: يا رسول الله كيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت فقال: إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء (2) » رواه الخمسة إلا الترمذي، أفليس هذا يتعارض مع الآية الكريمة التي يقول الله فيها: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} (3) وقوله سبحانه: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} (4) وأنه لما دخل عليه العباس عمه حين مات ومكث ثلاثة أيام قبل أن يدفن
__________
(1) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1085) .
(2) أخرجه النسائي في كتاب الجمعة، باب إكثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، برقم 1374، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب فضل الجمعة وليلة الجمعة، برقم 1047، وابن ماجه في كتاب الصلاة، باب فضل الجمعة، برقم 1085، وأحمد في أول مسند المكثرين، حديث أوس ب
(3) سورة الكهف الآية 110
(4) سورة الكهف الآية 8(26/105)
وكان واضعا يديه على أنفه وقال له: عجلوا بدفن صاحبكم والله إنه ليأسن كما يأسن سائر البشر، وهذا الحديث الذي سمعته موجود في كتاب (نيل الأوطار شرح منتقى الأخيار) والحديث أيضا أخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وذكره ابن أبي حاتم في العلل، وحكي عن أبيه بأنه حديث منكر؛ لأن في إسناده عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وهو منكر الحديث، وقال ابن العربي: إن الحديث لم يثبت. وأسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه؟ (1)
ج: الحديث المذكور معروف عند أهل العلم ولا بأس به عند أهل العلم ولا نكارة في ذلك، فإن الله جل وعلا له أن يخص من يشاء من عباده بما يشاء سبحانه وتعالى فإذا خص الأنبياء بتحريم أجسادهم على الأرض فلا غرابة في ذلك لما لهم لديه من الكرامة.
والصلاة والسلام عليه مشروعة مطلقا، ولو فرضنا أن الجسد قد أكلته الأرض كما تأكل أجساد الناس الآخرين، فإن هذا لا يمنع من الصلاة والسلام عليه، ولا يمنع أيضا من تخصيص
__________
(1) أجاب عنه سماحته بتاريخ 28\9\1414هـ.(26/106)
الجمعة بالمزيد من ذلك؛ لما جاء في الحديث، فإن الصلاة والسلام عليه مشروعان دائما عليه الصلاة والسلام في حياته، وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) اللهم صل وسلم عليه صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدين.
وقال عليه الصلاة والسلام كما رواه مسلم في الصحيح: «من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا (2) » .
وبذلك يعلم أن الصلاة والسلام عليه مشروعان في حياته وبعد وفاته، أما كون جسده يبقى فقد جاء في هذا الحديث وسنده لا بأس به عند أهل العلم، أما قول العباس فلا أعلم إلى يومي هذا صحته، ولم أتتبع أسانيده، ولو فرضنا صحة قول العباس فإنه لا ينافي ما جاء به هذا الحديث من تحريم أجساد الأنبياء على الأرض؛ لأنه قد يعتري الجسد ما يعتريه من التغيير وهو باق لم تأكله الأرض، فإن الله على كل شيء قدير سبحانه وتعالى فإذا وضع في القبر أمكن أن تزول هذه الرائحة على فرض صحة أثر العباس ويبقى الجسد سليما طريا وليس في الشرع ولا في العقل ما يمنع ذلك.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 56
(2) صحيح مسلم الصلاة (408) ، سنن الترمذي الصلاة (485) ، سنن النسائي السهو (1296) ، سنن أبو داود الصلاة (1530) ، مسند أحمد بن حنبل (2/375) .(26/107)
والمقصود أن الصلاة والسلام عليه مشروعان مطلقا سواء بقي الجسد أم لم يبقى الجسد، وكونه تعرض عليه صلاة أمته لا تعلق له بالجسد، وإنما ذلك على الروح وهي في الرفيق الأعلى، فإن روحه باقية، وهكذا الأرواح باقية عند أهل السنة والجماعة، أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكفار في النار، روحه صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين عليه الصلاة والسلام، وأرواح المؤمنين في صفة طيور تعلق في شجر الجنة، وأرواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم ترجع إلى قناديل معلقة تحت العرش كما صحت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله ولي التوفيق.(26/108)
43 ـ
مسألة في الصلاة
والسلام على الأنبياء والرسل
س: الأخ ع. ص. ح. من القاهرة يقول في سؤاله: عندما أقرأ في بعض الكتب الدينية ويأتي ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم يقولون بعد اسمه صلى الله عليه وسلم أو عليه الصلاة والسلام، وعندما يأتي ذكر غيره من الأنبياء أو الرسل، فإنهم يقولون عليه الصلاة والسلام أو عليه السلام، وعندما سألت أحد الإخوة عن ذلك قال: إن" صلى الله عليه وسلم" خاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن "عليه الصلاة والسلام" خاصة بأولي العزم من الرسل، وأن "عليه السلام" خاصة بمن عداهم، وحيث ورد في القرآن الكريم على لسان عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وهو من أولي العزم قوله تعالى: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} (1) فقد كنت في شك من قول هذا الأخ فأرجو الإفادة هل هناك فرق؟ جزاكم الله خيرا (2)
__________
(1) سورة مريم الآية 33
(2) سؤال موجه لسماحته من المجلة العربية، وقد أجاب عنه سماحته بتاريخ 21\9\1419.(26/109)
ج: لا أعلم فرقا في هذا المقام بين جميع الأنبياء والرسل، وقد قال الله جل وعلا في آخر الصافات: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (1) {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} (2) {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) وفق الله الجميع.
__________
(1) سورة الصافات الآية 180
(2) سورة الصافات الآية 181
(3) سورة الصافات الآية 182(26/110)
44 ـ الأدعية المستجابة
والأوقات التي يتحرى فيها المسلم الدعاء
س: ما هو الدعاء الذي أدعو به ليستجاب لي؟ وهل الدعاء كطلب الزواج وغيره جائز في السجود في الفريضة؟ وما هي الأوقات التي يتحرى فيها المسلم الدعاء؟ (1)
ج الله شرع لعباده الدعاء فقال سبحانه وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (2) وقال عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (3)
__________
(1) نشر في ج8 من هذا المجموع ص 386.
(2) سورة غافر الآية 60
(3) سورة البقرة الآية 186(26/110)
والسجود محل للدعاء في الفرض والنفل، وأحرى الأوقات لإجابة الدعاء: آخر الليل، وهكذا السجود في الصلاة فرضا أو نفلا يستجاب فيه الدعاء، وهكذا آخر الصلاة قبل السلام بعد التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا الدعاء يوم الجمعة، حين يجلس الخطيب على المنبر إلى أن تقضى الصلاة، وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس يوم الجمعة. فينبغي لمن أراد أن يدعو أن يتحرى هذه الأوقات، وهكذا ما بين الأذان والإقامة الدعاء فيه لا يرد، ومن أهمها آخر الليل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ (1) » . وفي لفظ آخر فيقول: «هل من داع فيستجاب له؟ هل من سائل فيعطى سؤله؟ هل من تائب فيتاب عليه حتى يطلع الفجر (2) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالي: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) برقم 7494، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل برقم 758
(2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل برقم 758(26/111)
وهذا وقت عظيم ينبغي للمؤمن والمؤمنة أن يكون لهما فيه حظ من التهجد والدعاء والاستغفار. وهذا النزول الإلهي نزول يليق بالله عز وجل لا يشابهه نزول خلقه، فهو ينزل سبحانه نزولا يليق بجلاله لا يعلم كيفيته إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يشابه الخلق في شيء من صفاته، كالاستواء، والرحمة، والغضب، والرضا وغير ذلك؛ لقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) سورة الشورى الآية 11.، ومن ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) سورة طه، الآية 5. . فالاستواء يليق بجلاله سبحانه، ومعناه: العلو والارتفاع فوق العرش، لكنه استواء يليق بالله لا يشابه فيه خلقه ولا يعلم كيفيته إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3) سورة الشورى الآية 11. . وكما قالت أم سلمة رضي الله عنها: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، وإنكاره كفر) . وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك أحد
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة طه الآية 5
(3) سورة الشورى الآية 11(26/112)
التابعين رضي الله عنه لما سئل عن ذلك قال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول التبليغ، وعلينا التصديق) ، ولما سئل الإمام مالك رحمه الله - إمام دار الهجرة في زمانه في القرن الثاني - عن الاستواء قال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) ، ثم قال للسائل: (ما أراك إلا رجل سوء) ، ثم أمر بإخراجه. وهذا الذي قاله الإمام مالك، وأم سلمة، وربيعة رضي الله عنهم، هو قول أهل السنة والجماعة كافة، يقولون في أسماء الله وصفاته: إنها يجب إثباتها لله عز وجل على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى. فالإيمان والإقرار بها واجب، والتكييف منفي لا يعلم كيفيتها إلا الله عز وجل؛ ولهذا يقول سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (1) سورة الإخلاص، الآية 4.، ويقول سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) سورة الشورى الآية 11.، ويقول سبحانه: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3) سورة النحل، الآية 74.، وهو سبحانه يغضب
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 4
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) سورة النحل الآية 74(26/113)
على أهل معصيته والكفر به، ويرضى عن أهل طاعته، ويحب أولياءه، ويبغض أعداءه وهذا الحب والبغض والرضا والغضب وغيرها من صفاته سبحانه، كلها ثابتة له سبحانه على الوجه الذي يليق بجلاله عز وجل، وهو قول أهل السنة والجماعة. فالواجب: التزام هذا القول، والثبات عليه، والرد على من خالفه. ومن أدلة الدعاء في السجود: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم (1) » . وقال صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء (2) » . أخرجهما مسلم في صحيحه. فإذا سألت المرأة زوجا صالحا في السجود أو في آخر الليل، أو مالا حلالا، وكذلك الرجل إذا سأل ربه أن يعطيه زوجة صالحة، أو مالا حلالا، فكل ذلك طيب. والنكاح عبادة، وفيه مصالح كثيرة للرجل والمرأة،
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود برقم 479
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود برقم 482(26/114)
وهكذا بقية الحاجات الخاصة، كأن يقول: اللهم أغنني بفضلك عمن سواك، اللهم أغنني عن سؤال خلقك، اللهم ارزقني ذرية صالحة، ونحو ذلك.(26/115)
45- حكم الدعاء جماعة بعد الصلاة
س: الدعاء جماعة بعد الصلاة في الأيام العادية. ما حكمه إذا استمر عليه البعض من الناس؟ (1) .
ج: هذا من البدع، الإنسان يدعو ربه وحده، ما يحتاج يتجمع مع مجموعة ويدعو بهم واحد. لا. كل واحد إذا فرغ من الصلاة يأتي بالأذكار الشرعية ويدعو بينه وبين ربه، أما يكون لهم إماما يدعو بهم، يرفع يديه ويدعون، ليس له أصل، هذا من المحدثات. والله يهدينا وإخواننا المسلمين.
__________
(1) نشر في جريدة الرياض، العدد 10763 وتاريخ 12\ 8\ 1418 هـ(26/115)
46 ـ أفضل الأدعية
التي يجب على المسلم أن يرددها
س: نختم هذا اللقاء سماحة الشيخ بسؤال وهو: أفضل الأدعية التي يجب على المسلم أن يرددها، سواء في الصلاة أو في غيرها؟ (1)
ج: أفضل الذكر، لا إله إلا الله، أفضل الدعاء لا إله إلا الله، لكن هناك دعوات مخصوصة. وأحسن الدعاء ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار يردد هذا في آخر الصلاة، في سجوده، في أوقاته الأخرى؛ لأنه دعاء جامع، وكذلك: (اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله وأوله وآخره، وعلانيته وسره، اللهم إني أسألك رضاك والجنة وأعوذ بك من سخطك والنار ـ دعوات جامعة ـ اللهم أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
في سجوده يقول: اللهم اغفر لي ذنبي واغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني، اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره، اللهم اغفر لي ولوالدي ولجميع
__________
(1) نشر في جريدة الرياض، العدد 10763 وتاريخ 12\8\1418 هـ.(26/116)
المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء (1) » . والحديث الآخر «وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم (2) » .
فينبغي أن يكثر من الدعوات الطيبة، سؤال الجنة، التعوذ بالله من النار، سؤال العفو: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني، اللهم أصلح قلبي وعملي، اللهم اغفر لي ولوالدي. يتحرى الدعوات المناسبة.
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (482) ، سنن النسائي التطبيق (1137) ، سنن أبو داود الصلاة (875) ، مسند أحمد بن حنبل (2/421) .
(2) صحيح مسلم الصلاة (479) ، سنن النسائي التطبيق (1120) ، سنن أبو داود الصلاة (876) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3899) ، مسند أحمد بن حنبل (1/219) ، سنن الدارمي الصلاة (1325) .(26/117)
47 ـ حكم الدعاء جهرا
س: الأخ أ. ع. ح. ق من سبت العلايا يقول في سؤاله: بعض الناس يجهر بالأدعية جهرا يشوش به على من حوله، فما حكم فعله هذا؟ نرجو التكرم بالإفادة (1) .
ج: السنة الإسرار بالأدعية في الصلاة وغيرها؛ لقول الله
__________
(1) من أسئلة المجلة العربية ونشر في هذا المجموع ج9 ص 397.(26/117)
سبحانه: «ادعوا ربكم تضرعا وخفية (1) » . ولأن ذلك أكمل في الإخلاص، وأجمع للقلب على الدعاء، ولما في ذلك من عدم التشويش على من حوله من المصلين والقراء، إلا إذا كان الدعاء مما يؤمن عليه كدعاء القنوت والاستسقاء، فإن الإمام يجهر به حتى يؤمن المستمعون. والله الموفق.
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (1480) ، مسند أحمد بن حنبل (1/172) .(26/118)
48 ـ من شروط الدعاء (1)
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء: من أعظم شروط الدعاء الثقة بالله والتصديق له ولرسوله، والإيمان بأن الله هو الحق ولا يقول إلا الحق، والإخلاص لله سبحانه والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم مع الإيمان بأن الرسول عليه الصلاة والسلام بلغ الحق وهو الصادق فيما يقول.
__________
(1) نشر في جريدة الرياض بتاريخ 25\12\1416هـ. وفي هذا المجموع ج9 ص 359.(26/118)
وأضاف سماحته: (وأن يأتي بذلك عن إيمان وثقة بالله ورغبة فيما عنده، وأنه سبحانه مدبر الأمور ومصرف الأشياء وأنه قادر على كل شيء سبحانه وتعالى: لا عن شك ولا عن سوء ظن بل عن حسن ظن بالله وثقة به، وأنه متى تخلف المطلوب فلعلة من العلل، فالعبد عليه أن يأتي بالأسباب، الله مسبب الأسباب، وهو الحكيم العليم) .
وقال سماحته: وقد يحصل الدواء ولكن لا يزول الداء لأسباب أخرى جهلها العبد ولله فيها حكم سبحانه وتعالى، وهذا يشمل الدواء الحسي والمعنوي.
الحسي: الذي يقوم به الأطباء من أدوية وعمليات ونحو ذلك.
والمعنوي الذي يحصل بالدعاء والقراءة ونحو ذلك من الأسباب الشرعية.
ومع هذا كله قد يتخلف المطلوب لأسباب كثيرة منها: الغفلة عن الله سبحانه، ومنها: المعاصي ولا سيما أكل الحرام.
واستشهد سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته في الدنيا، وإما أن تدخر له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من الشر مثل ذلك قالوا:(26/119)
يا رسول الله: إذا نكثر قال: الله أكثر (1) » . (2) .
واختتم سماحته إجابته بقوله: وبذلك يعلم المؤمن أن إجابته قد تؤجل إلى الآخرة لأسباب اقتضتها حكمة الله سبحانه، وقد يصرف عنه بأسباب الدعاء شر كثير بدلا من أن يعطى طلبه، والله سبحانه وتعالى هو الحكيم العليم في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره كما قال عز وجل: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (3)
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/18) .
(2) رواه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين، مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه برقم 10749.
(3) سورة يوسف الآية 6(26/120)
49 ـ الأوقات التي تجاب فيها الدعوات
س: ما هي الأوقات التي تجاب فيها الدعوات؟ (1)
ج: أوقات الإجابة عديدة جاء في السنة بيانها منها:
1 ـ ما بين الأذان والإقامة، فقد قال عليه الصلاة والسلام:
__________
(1) من برنامج نور على الدرب شريط رقم 12 ونشر في المجموع ج9 ص 353.(26/120)
«الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة (1) » .
2 ـ منها جوف الليل وآخر الليل، فالليل فيها ساعة لا يرد فيها سائل، أحراها جوف الليل وآخر الليل ـ الثلث الأخير ـ وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له حتى ينفجر الفجر (2) » ... ينبغي للمؤمن والمؤمنة تحري هذه الأوقات والحرص على الدعوة الطيبة الجامعة في وسط الليل وفي آخر الليل وفي أي ساعة من الليل، لكن الثلث الأخير وجوف الليل أحرى بالإجابة مع
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في أن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة برقم 212 وأبو داود في كتاب الصلاة برقم، باب ما جاء في الدعاء بين الأذان والإقامة 521 وأحمد في باقي مسند المكثرين، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه. برقم 11790.
(2) صحيح البخاري التوحيد (7494) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (758) ، سنن الترمذي الصلاة (446) ، سنن أبو داود الصلاة (1315) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) ، مسند أحمد بن حنبل (2/504) ، موطأ مالك النداء للصلاة (496) ، سنن الدارمي الصلاة (1478) .(26/121)
سؤال الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجيب الدعوة مع الإلحاح وتكرار الدعاء، فالإلحاح في ذلك وحسن الظن بالله وعدم اليأس من أعظم أسباب الإجابة، فعلى المرء أن يلح في الدعاء، ويحسن الظن بالله عز وجل، ويعلم أنه حكيم عليم، قد يعجل الإجابة لحكمة، وقد يؤخرها لحكمة، وقد يعطي السائل خيرا مما سأل، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته في الدنيا، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها قالوا: يا رسول الله إذا نكثر؟ قال: الله أكثر (1) » وعليه أن يرجو من ربه الإجابة، ويكثر من توسله بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى مع الحذر من الكسب الحرام، والحرص على الكسب الطيب؛ لأن الكسب الخبيث من أسباب حرمان الإجابة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه برقم 10749.(26/122)
3 ـ السجود، ترجى فيه الإجابة، يقول عليه الصلاة والسلام: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء (1) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «أما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم (2) » أي: حري أن يستجاب لكم، رواه مسلم في صحيحه.
4 ـ حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر للخطبة إلى أن تقضى الصلاة، فهو محل إجابة.
5 ـ آخر كل صلاة قبل السلام يشرع في الدعاء، وهذا الوقت ترجى فيه الإجابة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما علمهم
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود برقم 482 واللفظ له، والنسائي في كتاب التطبيق، باب أقرب ما يكون العبد من الله عز وجل برقم 1137 وأبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء في الركوع والسجود برقم 875 وأحمد في باقي مسند المكثرين برقم 9165
(2) رواه مسلم في كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود برقم 479 واللفظ له، ورواه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الدعاء في الركوع والسجود برقم 876 وأحمد في مسند بني هاشم، بداية مسند عبد الله بن العباس رضي الله عنهما برقم 1903.(26/123)
التشهد قال: «ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو (1) » .
6 ـ آخر نهار الجمعة بعد العصر إلى غروب الشمس هو من أوقات الإجابة في حق من جلس على طهارة ينتظر صلاة المغرب، فينبغي الإكثار من الدعاء بين صلاة العصر إلى غروب الشمس يوم الجمعة، وأن يكون جالسا ينتظر الصلاة؛ لأن المنتظر في حكم المصلي. قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «في يوم الجمعة ساعة لا يسأل الله أحد فيها شيئا وهو قائم يصلي إلا أعطاه الله إياه (2) » وأشار إلى أنها ساعة قليلة، فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يسأل الله فيها شيئا وهو قائم يصلي (3) » قال العلماء: يعني ينتظر الصلاة، فإن المنتظر له حكم المصلي؛ لأن وقت العصر ليس وقت صلاة.
فالحاصل أن المنتظر لصلاة المغرب في حكم المصلي، فينبغي أن يكثر من الدعاء قبل غروب الشمس، إن كان
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد برقم 835.
(2) رواه البخاري في كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة برقم 935.
(3) صحيح البخاري الجمعة (935) ، صحيح مسلم الجمعة (852) ، سنن الترمذي الجمعة (491) ، سنن النسائي الجمعة (1430) ، سنن أبو داود الصلاة (1046) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1137) ، مسند أحمد بن حنبل (2/486) ، موطأ مالك كتاب النداء للصلاة (242) ، سنن الدارمي الصلاة (1569) .(26/124)
في المسجد ففي المسجد، وإن كان امرأة أو مريضا في البيت شرع له أن يفعل ذلك وذلك بأن يتطهر وينتظر صلاة المغرب، هذه الأوقات كلها أوقات إجابة ينبغي فيها تحري الدعاء والإكثار منه مع الإخلاص لله والضراعة والانكسار بين يدي الله والافتقار بين يديه سبحانه وتعالى، والإكثار من الثناء عليه، وأن يبدأ الدعاء بحمد الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإن البداءة بالحمد لله والثناء عليه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب الاستجابة، كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(26/125)
50 ـ حكم قول: أدعو فلا يستجاب لي
س: عندما لا يتحقق لي شيء أغضب وأقول أقوالا في حق نفسي وفي حق الله، مثلا أقول: يا رب لماذا لا تستجيب لي الدعاء. وأقوال أخرى إذا شعر الإنسان أن دعاءه لم يستجب؟
ج: عليك أيها الأخ إذا تأخرت الإجابة أن ترجع إلى نفسك وتحاسبها، فإن الله سبحانه وتعالى حكيم عليم قد يؤخر(26/125)
الإجابة، لحكم بالغة ليكثر دعاؤك ويكثر إبداء حاجتك إلى ربك وتتضرع إليه وتخشع بين يديه، فيحصل لك بهذا من الخير العظيم والفوائد الكثيرة وصلاح ورقة قلبك وهو خير لك من الحاجة، وقد يؤجلها لأسباب أخرى سبحانه وتعالى، وقد يؤجلها لحكمة بالغة، فإذا تأجلت الحاجة فلا تلم ربك ولا تقل لماذا، لماذا يا ربي. ارجع إلى نفسك وانظر فلعل عندك شيئا من الذنوب والمعاصي هي السبب في تأخير الإجابة، ولعل هناك أمرا آخر تأخرت الإجابة من أجله يكون فيه خير لك فأنت لا تتهم ربك، ولكن عليك أن تتهم نفسك وعليك أن تنظر في أعمالك وسيرتك حتى تصلح من شأنك وحتى تستقيم على أمر ربك وحتى تعبده على بصيرة وحتى تمتثل أوامره وحتى تنتهي عن نواهيه وحتى تقف عند حدوده، ثم اعلم أنه سبحانه حكيم عليم قد يؤخر الإجابة لمدة طويلة، كما أخر إجابة يعقوب في رد ابنه يوسف عليه وهو نبي عليه الصلاة والسلام، فقد يؤخر الإجابة لحكمة بالغة وقد يعطيك خيرا مما سألت وقد يصرف عنك من الشر أفضل مما سألت كما جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن(26/126)
تعجل دعوته في الدنيا، وإما أن تدخر له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من الشر مثل ذلك. قالوا: يا رسول الله إذا نكثر؟ قال: الله أكثر (1) » . تبين في الحديث أن الله قد يؤخر الإجابة إلى الآخرة ولا يعجلها في الدنيا لحكمة بالغة؛ لأن ذلك أصلح لعبده وأنفع لعبده، وقد يصرف عنه شرا عظيما خير له من إجابة دعوته وقد يعجلها له. فعليك بحسن الظن بالله وعليك أن تستمر وتلح في الدعاء فإن في الدعاء خيرا لك كثيرا، وعليك أن تتهم نفسك وتنظر في حالك، وأن تستقيم على طاعة ربك، وأن تعلم أن ربك حكيم عليم وقد يؤجلها وقد يعجلها لحكمة، وقد يعطيك خيرا من دعوتك، وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل (2) » فيقول: دعوت ودعوت فلا أراه يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويذهب الدعاء، فلا ينبغي لك أن تستحسر ـ ولا ينبغي لك أن تدع الدعاء. الزم الدعاء وألح على ربك واضرع إليه وحاسب نفسك، واحذر أسباب المنع من المعاصي والسيئات، وتحر أوقات
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/18) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب يستجاب للعبد ما لم يعجل برقم 6340، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل برقم 2735.(26/127)
الإجابة كآخر الليل وبين الأذان والإقامة وفي آخر الصلاة قبل السلام وفي السجود، كل هذه من أسباب الإجابة، وعليك بإحضار قلبك عند الدعوة حتى تلح وحتى تدعو بقلب حاضر، وعليك بالمكسب الطيب فإن كسب الخبيث من أسباب عدم الإجابة.(26/128)
51 ـ دعوة الوالد على الولد
س: رجل له ثلاثة أولاد لا يقصرون في طاعته وبره وهو يدعو عليهم، هل يضرهم دعاؤه؟ (1)
ج: لا ينبغي للمرء أن يدعو على أولاده بل ينبغي له أن يحذر ذلك؛ لأنه قد يوافق ساعة الإجابة، فينبغي له ألا يدعو عليهم، وإذا كانوا صالحين كان الأمر أشد في تحريم الدعاء عليهم، أما إذا كانوا مقصرين فينبغي أيضا ألا يدعو عليهم، بل يدعو لهم بالهداية والصلاح والتوفيق، هكذا ينبغي أن يكون المؤمن، وجاءت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم تحذر المسلم من الدعاء على ولده أو على أهله أو على ماله؛ لئلا
__________
(1) سبق نشره في المجموع ج6 ص 386.(26/128)
يصادف ساعة الإجابة فيضر نفسه أو يضر أهله أو يضر ولده، فينبغي لك أيها السائل أن تحفظ لسانك، وأن تؤكد على من تعلمه يتعاطى هذا الأمر بأن يحفظ لسانه، وأن يتقي الله في ذلك حتى لا يدعو على ولده ولا على غيره من المسلمين، بل يدعو لهم بالخير والسداد والاستقامة.(26/129)
52 ـ مسألة في الدعاء
س: قال محمد بن واسع رحمه الله: كنت أقول صباحا ومساء: اللهم إنك سلطت علينا عدوا بصيرا بعيوبنا مطلعا على عوراتنا يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم، اللهم فأيسه منا كما آيسته من رحمتك، وقنطه منا كما قنطته من عفوك، وباعد بيننا وبينه كما باعدت بينه وبين جنتك. قال محمد بن واسع: فرأيت إبليس في المنام فقال: لا تعلم هذا الدعاء لأحد فقلت: والله لا أمنعه من مسلم! فما رأي سماحتكم بهذا الدعاء؟ وهل يجوز الدعاء به؟ (1)
ج: محمد بن واسع الأزدي البصري من صغار التابعين ومن
__________
(1) أجاب عنه سماحته بتاريخ 18\12\1414هـ.(26/129)
الثقات العباد رحمه الله.. وهذا الدعاء لا بأس به. ولم أقف عليه في ترجمة محمد المذكور في البداية لابن كثير. ويكفي عن ذلك التعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كما قال سبحانه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) وقال سبحانه في سورة النحل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (2) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الشيطان في صلاته وغيرها بقوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وربما قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه ونفخه.. وقد فسر أهل العلم الهمز بالصرع والنفخ بالكبر والنفث بالشعر. يعنون بذلك المذموم. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 200
(2) سورة النحل الآية 98(26/130)
53 ـ حكم الدعاء للفاسقين
س: الأخ ع. م. من الإسكندرية في جمهورية مصر العربية في سؤاله: ما حكم الدعاء للفاسقين خاصة من(26/130)
الأهل والأقارب والأصدقاء علما بأنهم مسلمون ولله الحمد؟ أفتونا مأجورين (1)
ج: الدعاء لهم طيب ومستحب أن الله يهديهم ويوفقهم ويصلح حالهم والدعاء لهم مشروع، قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله: إن دوسا عتت وطغت فادع الله عليهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد دوسا وأت بهم (2) » فهداهم الله وأسلموا فإذا دعي للكفار أو الفساق بالهداية أن الله يمن عليهم بالهداية وبالتوبة فهذا من باب الإحسان، ومن باب المعروف، لكن من ظلم منهم ودعي عليه لظلمه له أن الله يكفيه شره، وأن الله يسلط عليه فهذا لا حرج فيه؛ لأنه ممن ظلم. والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في المجلة العربية جمادى الأولى عام 1413هـ.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم برقم 2937 ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة برقم 2524.(26/131)
54 ـ الاستثناء في الدعاء
س: ما حكم القول: " في الجنة نلتقي إن شاء الله " جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: هذا القول طيب ولا بأس به. نسأل الله أن يجمعنا بإخواننا في الجنة، وأن نلتقي في الجنة، لكن لا يقول: إن شاء الله، فلا يستثني، بل يقول: نسأل الله أن نلتقي في الجنة بفضله، الله يجمعنا في الجنة، فلا يقول: إن شاء الله، ولا يستثني في الدعاء.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1677 في شوال 1419هـ، وفي كتاب فتاوى إسلامية لمحمد المسند ج4 ص173.(26/132)
55 ـ حكم السجع في الدعاء
س: ما حكم السجع في الدعاء؟ والتوسع في وصف الجنة أو النار من أجل ترقيق القلوب؟(26/132)
ج: لا أعلم في هذا شيئا إذا كان ليس فيه تكلف، أما السجع المتكلف فلا ينبغي، لهذا ذم النبي عليه الصلاة والسلام من سجع وقال: «هذا سجع كسجع الكهان (1) » في حديث حمل ابن النابغة الهذلي، لكن إذا كان سجعا غير متكلف فقد وقع في كلام النبي عليه الصلاة والسلام وكلام الأخيار، فالسجع غير المتكلف لا حرج فيه، إذا كان في نصر الحق أو في أمر مباح، وتكرار الدعوات فيما يتعلق بالجنة أو النار وتحريك القلوب، كل ذلك مطلوب شرعا.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب القسامة، باب دية الجنين برقم 1682 ولفظه: '' إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع ''.(26/133)
56 ـ حكم الدعاء على غير وضوء
س: في بعض الليالي أقوم من النوم الساعة الثانية ليلا وأدعو الله بما في نفسي دون أن أتوضأ.. ولم أصل نافلة فهل هذا جائز أم لا بد من الوضوء والصلاة معا؟ (1)
ج: لا حرج في الدعاء ولو على غير وضوء بل ولو كنت
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية لمحمد المسند ج4 ص 175 وفي مجلة الدعوة العدد 1674 بتاريخ 13\9\1419هـ.(26/133)
جنبا؛ لأن الدعاء لا يشترط له الطهارة وهذا من رحمة الله سبحانه؛ لأن العبد محتاج للدعاء في كل وقت ولكن حصوله مع الطهارة والصلاة أقرب إلى الإجابة ولا سيما في السجود؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء (1) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه وبالله التوفيق.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود برقم 482 واللفظ له، والنسائي في كتاب التطبيق، باب أقرب ما يكون العبد من الله عز وجل برقم 1137 وأبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء في الركوع والسجود برقم 875 وأحمد في باقي مسند المكثرين برقم 9165(26/134)
57 ـ معنى: " وهب المسيئين منا للمحسنين "
س: ما معنى هذا الدعاء: وهب المسيئين منا للمحسنين؟ (1)
ج: معناه الطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعفو عن المسيئين من المسلمين بأسباب المحسنين منهم، ولا حرج في ذلك؛ لأن صحبة الأخيار ومجالسهم من أسباب العفو عن المسيء، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل الجليس الصالح كحامل
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية لمحمد المسند ج4 ص 175، وفي مجلة الدعوة العدد 1674 بتاريخ 13\9\1419هـ.(26/134)
المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ومثل الجليس السوء كنافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة (1) » ولكن لا يجوز للمسلم أن يعتمد على مثل هذه الأمور لتكفير سيئاته، بل يجب عليه أن يلزم التوبة دائما من سائر الذنوب، وأن يحاسب نفسه ويجاهدها في الله حتى يؤدي ما أوجب الله عليه ويحذر ما حرم الله عليه، ويرجو مع ذلك من الله سبحانه العفو والغفران، وأن لا يكله إلى نفسه ولا إلى عمله، ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «سددوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أنه لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل (2) » وبالله التوفيق.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الذبح والصيد، باب المسك برقم 5534، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين برقم 2628.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل برقم 6467، ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله برقم 2818.(26/135)
58 ـ دعاء ختم القرآن
س: بعض الناس ينكرون على أئمة المساجد الذين يقرءون ختمة القرآن في نهاية شهر رمضان ويقولون: إنه لم يثبت أن أحدا من السلف فعلها، فما صحة ذلك؟ (1)
ج: لا حرج في ذلك؛ لأنه ثبت عن بعض السلف أنه فعل ذلك، ولأنه دعاء وجد سببه في الصلاة فتعمه أدلة الدعاء في الصلاة كالقنوت في الوتر وفي النوازل، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1658 في 19\5\1419هـ.(26/136)
59 - حكم قراءة الدعاء من الورقة أثناء الصلاة
س: الأخت هـ. م. من الدار البيضاء في المغرب تقول في سؤالها: إنني لا أحفظ من الأدعية إلا القليل فهل يجوز أن أكتب بعض الأدعية في ورقة وأقرأها خارج الصلاة وأثناءها؟ (1)
__________
(1) نشر في المجلة العربية وفي كتاب فتاوى إسلامية من جمع الشيخ محمد المسند ج4 ص 176.(26/136)
ج: لا مانع أن يقرأ الإنسان الدعاء من الورقة إذا كان لا يحفظ وكتب الدعاء في ورقة وقرأه في الأوقات التي يحب أن يدعو فيها مثل آخر الليل أو أثناء الليل أو غيرها من الأوقات، ولكن لو تيسر حفظ ذلك، وأن يقرأه عن حضور قلب وعن خشوع كان ذلك أكمل، أما في الصلاة فالأولى أن يكون عن ظهر قلب، وأن تكون دعوات مختصرة موجزة ولو قرئت من ورقة في التشهد مثلا أو بين السجدتين فلا حرج في ذلك لكن كون الداعي يحفظ الدعاء فإنه يكون أقرب إلى الخشوع. والله ولي التوفيق.(26/137)
60 ـ الدعاء للمتصدق
س: بعض الأشخاص الذين يجتمعون عند الصدقة التي يراد تفريقها عليهم يضعون أيديهم عليها ويدعو أحدهم للمتصدق ويؤمن الباقون بأصوات مرتفعة. فما حكم ذلك؟ (1)
ج: لا ينبغي هذه الكيفية لأنها بدعة، أما الدعاء للمتصدق من غير وضع الأيدي على المال المتصدق به، ومن دون
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج4 ص 176.(26/137)
اجتماع على رفع الأصوات على الكيفية المذكورة فهو مشروع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه (1) » رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب عطية من سأل الله برقم 1672 والنسائي في كتاب الزكاة، باب من سأل بالله عز وجل برقم 2567.(26/138)
61 ـ حكم مسح الوجه بعد الدعاء
س: عن حكم مسح الوجه بعد الدعاء؟ (1)
ج: المسح للوجه لم يرد فيه أحاديث صحيحة وإنما ورد فيه أحاديث لا تخلو من ضعف؛ فلهذا الأرجح والأصح أنه لا يمسح وجهه بيديه. وذكر بعض أهل العلم أنه لا بأس بذلك؛ لأن فيه أحاديث يشد بعضها بعضا وإن كانت ضعيفة، لكن قد يقوي بعضها بعضا فتكون من قبيل الحسن لغيره كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه بلوغ المرام في الباب الأخير. فالمقصود أن المسح ليس فيه أحاديث صحيحة، فلم يفعله النبي
__________
(1) من كتاب فتاوى إسلامية جمع محمد المسند ج4.(26/138)
صلى الله عليه وسلم في صلاة الاستسقاء ولا في غيرها من المواقف التي رفع يديه، كموقفه عند الصفا والمروة وفي عرفات وفي مزدلفة وعند الجمار لم يذكروا أنه مسح وجهه بيديه لما دعا، فدل ذلك على أن الأفضل ترك ذلك، وبالله التوفيق.(26/139)
62 ـ حكم رفع اليدين في الدعاء
س: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء في جميع الأحوال؟ (1)
ج: كان صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في مواضع محدودة وعند الدعاء العارض، وهناك مواضع يدعو فيها، ولم يرفع يديه عليه الصلاة والسلام فقد ثبت أنه رفع يديه في الاستسقاء، لما استسقى للمسلمين يوم الجمعة في الخطبة رفع يديه، وهكذا لما خرج إلى الصحراء وصلى ركعتين وخطب الناس ودعا، رفع يديه عليه الصلاة والسلام وكذلك إذا دعا لأحد رفع يديه عليه الصلاة والسلام، وثبت هذا في أحاديث كثيرة رفع اليدين، وهو من السنة ومن أسباب الاستجابة، ومن
__________
(1) من برنامج نور على الدرب رقم 7 ونشر في المجموع ج9 ص 292.(26/139)
ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله طيب ولا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: وقال سبحانه: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، غذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك (3) » .
فذكر عليه الصلاة والسلام أن من أسباب الاستجابة مد اليدين إلى السماء، ولكن لما أن الداعي تلبس بالحرام من وجوه كثيرة، استبعد عليه الصلاة والسلام أن يستجاب له، بسبب تعاطيه الحرام، فعلم بهذا أن رفع اليدين من أسباب الاستجابة.
وفي الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام: «إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الزكاة، باب قبول الصدق من الكسب الطيب وتربيتها برقم 1015.
(2) سورة البقرة الآية 172 (1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ}
(3) سورة المؤمنون الآية 51 (2) {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}(26/140)
إلى السماء أن يردهما صفرا (1) » أي: خاليتين.
فهذا يدل على شرعية رفع اليدين في الدعاء وأنه من أسباب الاستجابة، لكن ثبت في مواضع أخرى أنه لم يرفع فيها عليه الصلاة والسلام يديه مثل الدعاء بين السجدتين والدعاء في آخر الصلاة قبل السلام، هكذا الدعاء بعد الفرائض الخمس (الظهر ـ والعصر ـ والمغرب ـ والعشاءـ والفجر) ما كان صلى الله عليه وسلم يرفع يديه بعد شيء منها، فالسنة في مثل هذا ألا ترفع الأيدي بل الرفع في هذا بدعة؛ لأنه لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام ولا عن أصحابه رضي الله عنهم، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا خير إلا دل الأمة عليه ولا شر إلا حذرها منه، عليه الصلاة والسلام.
لكن إذا قنت في النوازل شرع له رفع اليدين بعد الركوع في الركعة الأخيرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لما دعا على القبائل التي اعتدت على المسلمين من القراءة؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم دعا بعد الركوع من الركعة الأخيرة على
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الدعوات، باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم برقم 3556 وأبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء برقم 1488 واللفظ له، وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب رفع اليدين في الدعاء برقم 3865.(26/141)
كفار قريش قبل الفتح، وهكذا رفع اليدين في قنوت الوتر. والله ولي التوفيق.(26/142)
63 ـ مسألة في حكم المداومة
على رفع اليدين أثناء الدعاء
س: بين الأذان والإقامة. ما حكم رفع اليدين للدعاء؟ (1)
ج: إذا دعا الإنسان ورفع يديه لا بأس، رفع اليدين من أسباب الإجابة لكن ما يكون على سبيل المداومة تارة وتارة؛ لأنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه بين الأذان والإقامة، لكن جنس الرفع من جنس الدعاء مطلوب، وهو من أسباب الإجابة، وإذا رفعها الإنسان بعض الأحيان بين الأذان والإقامة والأوقات الأخرى يدعو ربه، كله لا بأس به ولكن بعد الفريضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يرفع يديه بعد الفريضة، ولكن بين الأذان والإقامة أو بعد النوافل أو في بعض الأحيان إذا صلى أو رفع يديه ودعا وكل هذا لا بأس به.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1418هـ، الشريط السادس.(26/142)
64 ـ مسألة في رفع اليدين في دعاء خطبة الجمعة
س: أرى بعض الناس يرفع يديه في دعاء خطبة الجمعة والبعض لا يفعل ذلك، كما أن من الناس من يرفع يديه بالدعاء بعد سنة الراتبة، وبعضهم يرفع يديه في دعاء القنوت في الوتر، وبعضهم لا يفعل شيئا من ذلك. أرجو إفادتي جزاكم الله خيرا عن السنة في رفع اليدين في الدعاء؟ (1)
ج: السنة رفع اليدين في الدعاء وهو من أسباب الإجابة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا (2) » أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم. ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال
__________
(1) من كتاب فتاوى إسلامية، إعداد محمد المسند ج 4 ص174.
(2) سنن الترمذي الدعوات (3556) ، سنن أبو داود الصلاة (1488) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3865) ، مسند أحمد بن حنبل (5/438) .(26/143)
سبحانه: وقال: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلي السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك (3) » وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أنه رفع يديه في الدعاء في خطبة الاستسقاء، وعند الجمرة الأولى والثانية في أول أيام التشريق في حجة الوداع، وفي مواضع كثيرة، ولكن كل عبادة وجدت في عهده صلى الله عليه وسلم، ولم يرفع فيها يديه فإنه لا يشرع لنا أن نرفع أيدينا فيها؛ تأسيا به صلى الله عليه وسلم، كخطبة الجمعة، وخطبة العيد والدعاء بين السجدتين، والدعاء في آخر الصلاة، والدعاء أدبار الصلوات الخمس المفروضة؛ لأن ذلك لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم، والمشروع لنا التأسي به صلى الله عليه وسلم في الفعل والترك، كما قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (4)
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1015) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (2/328) ، سنن الدارمي الرقاق (2717) .
(2) سورة البقرة الآية 172 (1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}
(3) سورة المؤمنون الآية 51 (2) {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}
(4) سورة الأحزاب الآية 21(26/144)
الآية. والله ولي التوفيق.(26/145)
65 ـ مسألة في رفع اليدين عند الدعاء
س: هل رفع اليدين في الدعاء مشروع، وخاصة في السفر بالطائرة أو السيارة أو القطار وغيرها؟
ج: رفع الأيدي في الدعاء من أسباب الإجابة في أي مكان يقول صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا (1) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى:، ثم ذكر الرجل
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3556) ، سنن أبو داود الصلاة (1488) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3865) ، مسند أحمد بن حنبل (5/438) .
(2) صحيح مسلم الزكاة (1015) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (2/328) ، سنن الدارمي الرقاق (2717) .
(3) سورة البقرة الآية 172 (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ}(26/145)
يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له (1) » رواه مسلم في صحيحه.
فجعل من أسباب الإجابة رفع اليدين. ومن أسباب المنع وعدم الإجابة: أكل الحرام والتغذي بالحرام. فدل على أن رفع اليدين من أسباب الإجابة، سواء في الطائرة أو في القطار أو في السيارة أو في المركب الفضائية، أو في غير ذلك، إذا دعا ورفع يديه. فهذا من أسباب الإجابة، إلا في المواضع التي لم يرفع فيها النبي صلى الله عليه وسلم فلا نرفع فيها، مثل خطبة الجمعة، فلم يرفع فيها صلى الله عليه وسلم، إلا إذا استسقى فهو يرفع يديه فيها. كذلك بين السجدتين وقبل السلام في آخر التشهد لم يكن يرفع يديه صلى الله عليه وسلم فلا نرفع أيدينا في هذه المواطن التي لم يرفع فيها صلى الله عليه وسلم؛ لأن فعله حجة وتركه حجة. وهكذا بعد السلام من الصلوات الخمس؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بالأذكار الشرعية ولا يرفع يديه، فلا نرفع في ذلك أيدينا اقتداء به صلى الله عليه وسلم، أما المواضع التي رفع صلى الله عليه وسلم فيها يديه فالسنة فيها رفع اليدين تأسيا به صلى الله عليه وسلم؛ ولأن ذلك من أسباب الإجابة، وهكذا المواضع التي يدعو فيها المسلم ربه ولم يرد فيها عن النبي
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 51 (3) {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}(26/146)
صلى الله عليه وسلم رفع ولا ترك فإنا نرفع فيها؛ للأحاديث الدالة على أن الرفع من أسباب الإجابة كما تقدم.(26/147)
66 ـ مسألة في رفع اليدين في الدعاء
س: الأخ: ع. ع. م. من بريدة يقول في سؤاله: سمعت الإمام يقرأ حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الاستسقاء، ويقول الصحابي رضي الله عنه في آخر الحديث: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يرفع يديه إلا في الدعاء للاستسقاء (1) » وسبق أن قرأت أنه كان يرفع يديه صلى الله عليه وسلم في غيره. نرجو البيان. جزاكم الله خيرا (2)
ج: قد رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه في الدعاء مواضع كثيرة، ولكنه في خطبته في صلاة الاستسقاء بالغ في الرفع. والله الموفق.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3565) ، صحيح مسلم صلاة الاستسقاء (895) ، سنن النسائي الاستسقاء (1513) ، سنن أبو داود الصلاة (1170) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1180) ، سنن الدارمي الصلاة (1535) .
(2) سؤال شخصي أجاب عنه سماحته في 18\10\1419هـ.(26/147)
67 ـ حكم مسح الوجه باليدين بعد الدعاء
سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة حفظه الله من كل سوء.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
لدي سؤال أرغب تكرم سماحتكم بالإجابة عليه
والسؤال هو: ما حكم مسح الوجه باليدين بعد الدعاء وخاصة بعد دعاء القنوت وبعد النوافل؟ حفظكم الله وأثابكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1)
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
بعده: حكمه أنه مستحب؛ لما ذكره الحافظ في البلوغ في باب الذكر والدعاء، وهو آخر باب في البلوغ أنه ورد في ذلك عدة أحاديث مجموعها يقضي بأنه حديث حسن، وفق الله الجميع والسلام عليكم.
__________
(1) سؤال شخصي أجاب عنه سماحته بتاريخ 12\9\1419هـ.(26/148)
68 ـ القراءة على المريض
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ب. م. ع. سلمه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 2610 بتاريخ 4\7\1407هـ الذي تذكر فيه ما أصاب والدتك من النسيان بعد إجرائها عملية المرارة، وطلبك أن ندلك على علاج شرعي لما أصابها.
وأفيدك بأن ما حصل على والدتك إنما هو بقضاء الله وقدره، وعلى المسلم أن يرضى بذلك ويصبر ويحتسب ما عند الله من الأجر؛ عملا بقول الله سبحانه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (1) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (2) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (3) وقوله سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما
__________
(1) سورة البقرة الآية 155
(2) سورة البقرة الآية 156
(3) سورة البقرة الآية 157
(4) سورة التغابن الآية 11(26/149)
ابتلاهم فمن رضي فله الرضاء ومن سخط فله السخط (1) » حسنه الترمذي.
ونوصيك بأن تقرأ عليها بفاتحة الكتاب وآية الكرسي، وقل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، وغير ذلك من آيات وسور القرآن العزيز، وتكرار ذلك في كل ليلة في كل صباح ومساء مع الدعاء الصحيح المأثور مثل: " اللهم رب الناس اذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما. وباسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك. تكرر هذين الدعائين ثلاث مرات، وتدعو لها أيضا بما أحببت من الدعاء سوى ذلك، وكونه مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل، كما نوصيك بعرضها على الأطباء المختصين، ولا سيما الذين أجروا لها العملية لعلهم يجدون لها علاجا.
وفق الله الجميع لما فيه رضاه وشفى والدتك مما أصابها ومتع الجميع بالصحة والعافية إنه سميع مجيب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء برقم 2396 وابن ماجه في كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء برقم 4031.(26/150)
69 ـ في القرآن والسنة علاج لجميع الأمراض الحسية والمعنوية (1)
بين سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء، وإدارة البحوث العلمية والإفتاء: أن الله جل وعلا ما أنزل داء إلا وأنزل له شفاء علمه من علم وجهله من جهله. وقال سماحته: إن الله سبحانه وتعالى جعل فيما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة العلاج لجميع ما يشكو منه الناس من أمراض حسية ومعنوية، وقد نفع الله بذلك العلاج، وحصل به من الخير ما لا يحصيه إلا الله عز وجل.
وأوضح سماحته: أن الإنسان قد تعرض له أمور لها أسباب فيحصل من الخوف والذعر ما لا يعرف له سبب بينا. وأكد سماحته: أن الله جعل فيما شرعه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من الخير والأمن والشفاء ما لا يحصيه إلا الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) نشر في جريدة الجزيرة يوم 20\12\1416 هـ. ونشر في هذا المجموع ج9 ص411.(26/151)
وكان سماحته: يرد بذلك على سائل يقول: " زوجتي أصيبت بمرض معين فأصبحت تخاف من كل شيء ولا تستطيع البقاء وحدها، وآخر يقول: أنه يشكو نفس الحالة وذلك أنه لا يستطيع الذهاب إلي المسجد للصلاة مع الجماعة، ويسأل على العلاج حتى لا يلجأ إلى الكهان والمشعوذين ".
ونصح سماحته السائلين وغيرهما: أن يستعملوا ما شرعه الله تعالى من الأوراد الشرعية التي يحصل بها الأمن والطمأنينة وراحة النفس والسلامة من مكائد الشيطان، ومن ذلك كما قال سماحته: قراءة آية الكرسي. وهي قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (1) إلي آخر الآية. ووصف سماحة الشيخ ابن باز آية الكرسي: بأنها أعظم وأفضل آية في كتاب الله عز وجل؛ لما اشتملت عليه من التوحيد والإخلاص لله تعالى وبيان عظمته، وأنه الحي القيوم المالك لكل شيء ولا يعجزه شيء سبحانه وبحمده.
واسترسل سماحته يقول: فإذا قرأ هذه الآية خلف كل صلاة كانت له حرزا من كل شر، وهكذا قرأتها عند النوم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 255(26/152)
واستشهد بما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن «من قرأها عند النوم لا يزال عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح (1) » ودعا سماحته الشخص الخائف إلى قراءة آية الكرسي عند النوم وبعد كل صلاة، وقال: ليطمئن قلبه وسوف لا يري ما يسوؤه إن شاء الله، إذا صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فيما قال واطمأن قلبه لذلك، وأيقن أن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق والصدق الذي لا ريب فيه.
وأكد سماحته: أن الله سبحانه وتعالى شرع أن يقرأ المسلم والمسلمة بعد كل صلاة قل هو الله أحد والمعوذتين وقال سماحته: إن هذا أيضا من أسباب العافية والأمن والشفاء من كل سوء، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن.
وأشار سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز إلى أن السنة أن يقرأ الإنسان هذه السور الثلاث بعد صلاه الفجر وبعد صلاه المغرب ثلاث مرات، وهكذا إذا أوي إلى فراشه يقرؤهن ثلاث مرات؛ لصحة الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك.
ودل سماحته على أن من يحصل به الأمن والعافية
__________
(1) رواه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده برقم 3275.(26/153)
والطمأنينة والسلامة من كل شر أن يستعيذ الإنسان بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثلاث مرات صباحا ومساء «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق (1) » موضحا سماحته: أن الأحاديث جاءت دالة على أنها من أسباب العافية.
ودعا سماحته إلى قراءة «بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم (2) » ثلاث مرات صباحا ومساء، وقال: لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من قالها ثلاث مرات صباحا لم يضره شيء حتى يمسي، ومن قالها مساء لم يضره شيء حتى يصبح.
وأفاد سماحته في إجابته: أن هذه الأذكار والتعوذات من القرآن والسنة كلها من أسباب الحفظ والأمن والسلامة من كل سوء.
ودعا سماحته كل مؤمن ومؤمنه الإتيان بها في أوقاتها والمحافظة عليها، وهما مطمئنان وواثقان بربهما سبحانه وتعالى القائم على كل شيء والعالم بكل شيء والقادر على كل شيء، لا إله غيره ولا رب سواه، وبيده التصرف والمنع والضر والنفع، وهو المالك لكل شيء عز وجل.
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) ، سنن الترمذي الدعوات (3437) ، سنن ابن ماجه الطب (3547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/409) ، سنن الدارمي الاستئذان (2680) .
(2) سنن الترمذي الدعوات (3388) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3869) .(26/154)
70 ـ مسألة في الأذكار
س: لي بعض الأوراد من الأذكار والآيات القرآنية أواظب عليها لكي تعم الفائدة، ووجهت زملائي لقرأتها مثلي، هل في ذلك شيء جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: إذا كانت أذكارا شرعية ودعوات شرعية تنصحهم وتوجههم إليها فهذا من التعاون على البر والتقوى، وقد كتب العلماء في ذلك كصاحب الترغيب والترهيب، ورياض الصالحين، وأذكار النووي، والكلم الطيب، والوابل الصيب، ولي أيضا رسالة في الموضوع سميتها: تحفة الأخيار في الأدعية والأذكار، فإذا أخذ الإنسان من هذه الكتب واستفاد مما فيها بعض الدعوات الشرعية والأذكار الشرعية فهو طيب فإذا أوصى إخوانه بذلك ونصحهم فكل ذلك طيب وهو من التواصي بالحق.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب(26/155)
71 ـ كيفية علاج المرض النفسي
س: كان لنا أخ كبير ملتزم بأمور دينه من صلاة وصيام وأداء عمرة، وتلاوة قرآن، والمحافظة على صلاة الجماعة في المسجد، وحضور حلقات الذكر، وفجأة انقلب حاله وأصبح لا يصلي ولا يقرأ القرآن ولا يحضر حلقات الذكر، وأصبح يجلس وحيدا في غرفته حتى إنه لا يذهب إلى عمله. أفيدوني ماذا علي أن أعمل تجاه أخي الأكبر جزاكم الله خيرا (1)
ج: المشروع أن يعالج بالطب النبوي، وبالعلاج الذي يعرفه خواص الأطباء مما لا يخالف الشرع المطهر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء (2) » وقوله صلى الله عليه وسلم «لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله (3) » أخرجه مسلم في صحيحه. وقوله
__________
(1) من أسئلة المجلة العربية ونشر في المجموع ج9 ص410
(2) رواه البخاري في كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا وأنزل له شفاء برقم 5678
(3) رواه مسلم في كتاب السلام، باب لكل داء دواء برقم 2204 وأحمد في باقي مسند المكثرين، مسند جابر بن عبد الله برقم 14187.(26/156)
صلى الله عليه وسلم «عباد الله تداووا ولا تداووا بحرام (1) » ومن الدواء الشرعي القراءة عليه من أهل العلم والإيمان لعل الله ينفعه بذلك.
ومن الأسباب النافعة لهذا وأمثاله: عرضه على الأطباء المختصين من أهل الإيمان والتقوى؛ لعلهم يعرفون سبب مرضه وعلاجه، شفاه الله مما أصابه، وأعانكم على علاجه بما ينفعه، ويكشف الله به مرضه. إنه جواد كريم.
__________
(1) رواه أبو داود في الطب، باب في الأدوية المكروهة برقم 3874.(26/157)
72 ـ علاج صرع الجن للإنسان
س: ما هو المس وما هي أعراضه؟ وكيف يعالج شرعا؟ (1)
ج: المس هو: صرع الجن للإنس، كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (2) وعلاجه بالقرآن الكريم،
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة من المجلة العربية في 19 12 1416 هـ، ونشر في المجموع ج9 ص 414.
(2) سورة البقرة الآية 275(26/157)
وبالأدعية النبوية، وبالوعظ والتذكير، والترغيب والترهيب. والله الموفق.(26/158)
73 ـ حكم علاج السرطان بالقرآن
س: هل التداوي والعلاج بالقرآن يشفي من الأمراض العضوية كالسرطان كما هو يشفي من الأمراض الروحية كالعين والمس وغيرهما؟ وهل لذلك دليل؟ جزاكم الله خيرا (1)
ج: القرآن والدعاء فيهما شفاء من كل سوء بإذن الله، والله سبحانه هو الشافي، والأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (2) وقوله سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (3) «وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى شيئا قرأ في
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1637 في 19 ذي الحجة 1418هـ وفي المجموع ج8 ص364.
(2) سورة فصلت الآية 44
(3) سورة الإسراء الآية 82(26/158)
كفيه عند النوم سورة و (المعوذتين) ثلاث مرات (2) » ، ثم يمسح في كل مرة على ما استطاع من جسده، فيبدأ برأسه ووجهه وصدره في كل مرة عند النوم، كما صح الحديث بذلك عن عائشة رضي الله عنها
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3402) ، سنن أبو داود الأدب (5056) ، مسند أحمد بن حنبل (6/116) .
(2) سورة الإخلاص الآية 1 (1) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}(26/159)
74 ـ يجوز التدواي بالأدوية المباحة شرعا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من إخواننا المسلمين سلك الله بي وبهم سبيل أهل الإيمان، وأعاذني وإياهم من مضلات الفتن ونزغات الشيطان آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فالموجب لهذا هو النصيحة والتذكير؛ عملا بقول الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) وقوله تعالى:
__________
(1) سورة الذاريات الآية 55(26/159)
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة ثلاث مرات، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم (2) » ونظر لكثرة المشعوذين في الآونة الأخيرة ممن يدعون معرفة الطب ويعالجون عن طريق السحر أو الكهانة، وانتشارهم في بعض البلاد واستغلالهم للسذج من الناس ممن يغلب عليهم الجهل رأيت من باب النصيحة لله ولعباده أن أبين ما في ذلك من خطر عظيم على الإسلام والمسلمين؛ لما فيه من التعلق بغير الله تعالى، ومخالفة أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فأقول مستعينا بالله تعالى: يجوز التداوي اتفاقا، وللمسلم أن يذهب إلى دكتور أمراض باطنية أو جراحية أو عصبية أو نحو ذلك؛ ليشخص له مرضه ويعالجه بما يناسبه من الأدوية المباحة شرعا، حسبما يعرفه في علم الطب؛ لأن ذلك من باب الأخذ بالأسباب العادية المباحة، ولا ينافي التوكل على الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان أن الدين النصيحة برقم 55.(26/160)
وقد أنزل الله سبحانه وتعالى الداء وأنزل الدواء وأنزل معه الدواء، عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله، ولكنه سبحانه وتعالى لم يجعل شفاء عباده فيما حرمه عليهم، فلا يجوز للمريض أن يذهب إلى الكهنة ونحوهم ممن يدعون معرفة الغيبيات؛ ليعرف منهم مرضه، كما لا يجوز له أن يصدقهم فيها يخبرونه به، فإنهم يتكلمون رجما بالغيب أو يستحضرون الجن؛ ليستعينوا بهم على ما يريدون، وهؤلاء شأنهم الكفر والضلال؛ لكونهم يدعون أمور الغيب، وقد روى مسلم في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة (1) » وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (2) » رواه أبو داود وخرجه أهل السنن الأربع، وصححه الحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: «من أتى عرافا أو كاهنا وصدقه
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكاهن برقم 2230.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في الكاهن برقم 3904 إلا أنه قال: (فقد برئ) بدل (فقد كفر) .(26/161)
بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (1) » وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (2) » رواه البزار بإسناد جيد. ففي هذه الأحاديث الشريفة النهي عن إتيان العرافين وأمثالهم وسؤالهم وتصديقهم والوعيد على ذلك.
فالواجب على ولاة الأمور وأهل الحسبة وغيرهم ممن لهم قدرة وسلطان إنكار إتيان الكهان والعرافين ونحوهم، ومنع من يتعاطى شيئا من ذلك في الأسواق وغيرهم، والإنكار عليهم أشد الإنكار، والإنكار على من يجيء إليهم، ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور، ولا بكثرة من يأتي إليهم ممن ينتسب إلى العلم فإنهم غير راسخين في العلم، بل من الجهال؛ لما في إتيانهم من المحذور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن إتيانهم وسؤالهم وتصديقهم؛ لما في ذلك من المنكر العظيم والخطر
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/429) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .
(2) أخرجه أحمد في باقي مسند المكثرين برقم 9252 والطبراني في المعجم الكبير ج1 ص162 برقم 355.(26/162)
الجسيم والعواقب الوخيمة، ولأنهم كذبة فجرة.
كما أن في هذه الأحاديث دليلا على كفر الكاهن والساحر؛ لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر؛ ولأنهما لا يتوصلان إلى مقصود هما إلا بخدمة الجن وعبادتهم من دون الله، وذلك كفر بالله وشرك به سبحانه، والمصدق لهم بدعواهم علم الغيب يكون مثلهم، وكل من تلقى هذه الأمور عمن يتعاطاها فقد برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز للمسلم أن يخضع لما يزعمون علاجا، كتمتمتهم بكلام لا يفهم، وكتابة الطلاسم: وهي الحروف المقطعة أو صب الرصاص، ونحو ذلك من الخرافات التي يعلمونها، فإن هذا من الكهانة والتلبيس على الناس، ومن رضي بذلك فقد ساعدهم على باطلهم وكفرهم. كما لا يجوز لأحد المسلمين الذهاب لأحد من الكهان ونحوهم لسؤاله عمن سيتزوج ابنه أو قريبه، أو عما سيكون بين الزوجين وأسرتيهما من المحبة والوفاء، أو العداوة والفراق، ونحو ذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
والسحر من المحرمات الكفرية، كما قال الله عز وجل في شأن الملكين في سورة البقرة:(26/163)
{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (1) نسأل الله العافية والسلامة من السحرة والكهنة وسائر المشعوذين، كما نسأله سبحانه وتعالى أن يقي المسلمين شرهم، وأن يوفق المسلمين للحذر منهم وتنفيذ حكم الله فيهم، حتى يستريح العباد من شرهم وضررهم وأعمالهم الخبيثة، إنه جواد كريم.
وقد شرع الله سبحانه وتعالى لعباده ما يتقون به شر السحر قبل وقوعه، وأوضح لهم سبحانه ما يعالجونه به بعد وقوعه؛ رحمة منه لهم، وإحسانا منه إليهم، وإتماما لنعمته عليهم.
وفيما يلي بيان للأشياء التي يتقى بها خطر السحر قبل وقوعه، والأشياء التي يعالج بها بعد وقوعه من الأمور المباحة شرعا:
__________
(1) سورة البقرة الآية 102(26/164)
أما النوع الأول: وهو الذي يتقى به خطر السحر قبل وقوعه، فأهم ذلك وأنفعه هو التحصن بالأذكار الشرعية، والدعوات والتعوذات المأثورة، ومن ذلك: قراءة آية الكرسي خلف كل صلاة مكتوبة بعد الأذكار المشروعة بعد السلام، ومن ذلك قراءتها عند النوم، وآية الكرسي: هي أعظم آية في القرآن الكريم وهي قوله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (1) ومن ذلك قراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (3) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (4) خلف كل صلاة مكتوبة، وقراءة السور الثلاث (ثلاث مرات) : في أول النهار بعد صلاة الفجر، وفي أول الليل بعد صلاة المغرب.
ومن ذلك قراءة الآيتين من آخر سورة البقرة في أول الليل، وهما قوله تعالى:
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة الإخلاص الآية 1
(3) سورة الفلق الآية 1
(4) سورة الناس الآية 1(26/165)
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (1) {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (2) وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح (3) » وصح عنه أيضا صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه (4) » والمعنى والله أعلم: كفتاه من سوء.
ومن ذلك الإكثار من التعوذ بكلمات الله التامات من شر
__________
(1) سورة البقرة الآية 285
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده برقم 3275.
(4) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة برقم 5010 ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الفاتحة وخواتم سورة البقرة برقم 808.(26/166)
ما خلق، في الليل والنهار، وعند نزول أي منزل في البناء، أو الصحراء، أو الجو أو البحر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك (1) » ومن ذلك: أن يقول المسلم في أول النهار وأول الليل (ثلاث مرات) : «بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم (2) » ؛ لصحة الترغيب في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك سبب للسلامة من كل سوء.
وهذه الأذكار والتعوذات من أعظم الأسباب في اتقاء شر السحر وغيره من الشرور لمن حافظ عليها بصدق وإيمان، وثقة بالله واعتماد عليه، وانشراح صدر لما دلت عليه. وهي أيضا من أعظم السلاح لدفع السحر بعد وقوعه، مع الإكثار من الضراعة إلى الله، وسؤاله سبحانه: أن يكشف الضرر، ويزيل البأس، ومن الأدعية الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في علاج
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشفاء وغيره برقم 2708.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الدعاء، باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى برقم 3388.(26/167)
الأمراض من السحر وغيره، وكان صلى الله عليه وسلم يرقي بها أصحابه: «اللهم رب الناس، أذهب البأس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما (1) » ، ومن ذلك الرقية التي رقى بها جبرائيل النبي الله عليه وسلم وهي قوله: «بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك (2) » وليكرر ذلك ثلاث مرات.
ومن علاج السحر بعد وقوعه أيضا، وهو علاج نافع للرجل إذا حبس من جماع أهله: أن يأخذ سبع ورقات من السدر الأخضر فيدقها بحجر أو نحوه، ويجعلها في إناء ويصب عليه من الماء ما يكفيه للغسيل، ويقرأ فيه (آية الكرسي) ، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (4) {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (5) وآيات السحر التي في سورة الأعراف، من قوله سبحانه وتعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} (6) إلى قوله تعالى:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المرضى، باب دعاء العائد للمريض برقم 5675 ومسلم في كتاب السلام، باب استحباب رقية المريض برقم 2191.
(2) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب الطب والمرض والرقي برقم 2186.
(3) سورة الإخلاص الآية 1
(4) سورة الفلق الآية 1
(5) سورة الناس الآية 1
(6) سورة الأعراف الآية 117(26/168)
{رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} (1) والآيات التي في سورة يونس، من قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} (2) قوله تعالى: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (3) والآيات في سورة طه من قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} (4) إلى قوله تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (5)
وبعد قراءة ما ذكر في الماء يشرب منه بعض الشيء ويغتسل بالباقي، وبذلك يزول الداء إن شاء الله تعالى، وإذا دعت الحاجة لاستعماله أكثر من مرة فلا بأس، حتى يزول الداء بإذن الله تعالى. ومن علاجه أيضا إتلاف ما فعله الساحر من عقد أو غيرها فيما يعتقد أنه من أعمال الساحر. أما علاجه بعمل السحرة ونحوهم مما يتقربون إلى الجن بالذبح أو غيره من القربات، فهذا لا يجوز؛ لأنه من عمل الشيطان، بل هو من الشرك الأكبر، كما لا يجوز علاجه بسؤال الكهنة والعرافين والمشعوذين واستعمال ما يقولوا؛ لأنهم لا يؤمنون، ولأنهم كذبة فجرة
__________
(1) سورة الأعراف الآية 122
(2) سورة يونس الآية 79
(3) سورة يونس الآية 82
(4) سورة طه الآية 65
(5) سورة طه الآية 69(26/169)
يدعون علم الغيب، ويلبسون على الناس، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من إتيانهم وسؤالهم وتصديقهم، كما سبق بيان ذلك. والله سبحانه وتعالى المسئول أن يوفق المسلمين للعافية من كل سوء وأن يحفظ عليهم دينهم ويرزقهم الفقه فيه، والعافية من كل ما يخالف شرعة. وصلى الله عليه وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وأتباعهم بإحسان.(26/170)
57 - مسألة في التداوي قبل وقوع الداء
س: ما هو الحكم في التداوي قبل وقوع الداء كالتطعيم؟
ج: لا بأس بالتداوي إذا خشي وقوع الداء لوجود وباء أو أسباب أخرى يخشى من وقوع الداء بسببها، فلا بأس بتعاطي الدواء لدفع البلاء الذي يخشى منه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من تصبح بسبع تمرات من(26/170)
تمر المدينة لم يضره سحر ولا سم (1) » وهذا من باب دفع البلاء قبل وقوعه، فهكذا إذا خشي من مرض وطعم ضد الوباء الواقع في البلد أو في أي مكان لا بأس ذلك من باب الدفاع كما يعالج المرض النازل، يعالج بالدواء المرض الذي يخشى منه، لكن لا يجوز تعليق التمائم والحجب ضد المرض أو الجن أو العين؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وقد أوضح عليه الصلاة والسلام أن ذلك من الشرك الأصغر، فالواجب الحذر من ذلك.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب فضل تمر المدينة برقم 2047 بلفظ (عجوة) بدل (تمر المدينة) .(26/171)
76 ـ حكم استعمال بخور لطرد الشياطين
س: يقوم بعض الناس باستخدام بخور يباع عند العطارين يسمى (نقض) يدعون أنها تطرد الشياطين (1)
ج: لا أعلم لهذا العمل أصلا شرعيا. والواجب تركه؛ لكونه من الخرافات التي لا أصل لها، وإنما تطرد الشياطين بالإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن والتعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
__________
(1) صدر من مكتب سماحته برقم 237 \ خ في 7 \ 1 \ 1419هـ.(26/171)
«من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك (1) » وقال له رجل: يا رسول الله «ماذا لقيت البارحة من لدغة عقرب، فقال له صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو قلت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك (2) » وقال عليه الصلاة والسلام: «من قال حين يصبح: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم يضره شيء حتى يمسي، ومن قالها حين يمسي لم يضره شيء حتى يصبح (3) »
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) ، سنن الترمذي الدعوات (3437) ، سنن ابن ماجه الطب (3547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/378) ، سنن الدارمي الاستئذان (2680) .
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2709) ، مسند أحمد بن حنبل (2/375) ، موطأ مالك الجامع (1774) .
(3) سنن الترمذي الدعوات (3388) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3869) .(26/172)
77 ـ حكم إحضار أكثر من قارئ للقراءة على المريض
س: ما قولكم فيمن يحضر أكثر من قارئ ليقرأوا على المريض؟ (1)
ج: لا أعلم حرجا في ذلك إذا كان القراء من المعروفين بحسن العقيدة والسيرة. وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم وسائر
__________
(1) سؤال مقدم من صاحب السمو الأمير ع. م. س. أجاب عنه سماحته برقم 237 \ خ في 7 \ 1 \ 1419هـ(26/172)
إخواننا للعلم النافع والعمل به. إنه سميع قريب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(26/173)
78 ـ مسألة في الرقية
سماحة الشيخ: انتشرت بين الطلبة هذه الورقة، مكتوب عليها علاج ضيق الصدر أيام الامتحانات (1) نضع اليد على الصدر ونقرأ الفاتحة ثلاث مرات، يقرأ آية الكرسي ثلاث مرات، يقرأ من قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} (2) من سورة البقرة إلى آخر الآيات، ثلاث مرات، ويقرأ آخر آيتين من سورة الحشر ثلاث مرات، ويقرأ أول عشر آيات من سورة الصافات، آخر آيتين من سورة القلم، سورة الكافرون والصمد والمعوذتين كل واحدة ثلاث مرات، ويقرأ الدعاء: «أذهب البأس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما (3) » سبع مرات والدعاء: «أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيني (4) » لمدة ثلاثة أيام. هذه الدعوات وهذه الأمور هل هي ورادة يا شيخ؟ (5)
__________
(1) تخصيص هذا الدعاء بأيام الامتحانات لا أصل له فهو من البدع
(2) سورة البقرة الآية 285
(3) سنن أبو داود الطب (3883) ، سنن ابن ماجه الطب (3530) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) .
(4) سنن الترمذي الطب (2083) ، سنن أبو داود الجنائز (3106) ، مسند أحمد بن حنبل (1/352) .
(5) نشر في جريدة الرياض العدد 10763 في 12 \ 8 \ 1418هـ.(26/173)
ج: الترتيب ليس على هذا الترتيب، لكن يسأل ربه الشفاء والحمد لله، يسأل ربه، الذي ورد «رب الناس أذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما (1) » يكرر ثلاث مرات: «بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، بسم الله أرقيك (2) » إذا كررها ثلاث مرات لا بأس، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) والمعوذتين، يكررها ثلاث مرات صباحا ومساء وعند النوم، هذا وارد طيب، المقصود أنه يتحرى الوارد فقط أما من كيسه، يرتب أشياء من كيسه، ما عليها دليل. لكن إذا تحرى الوارد بالأدلة الشرعية في كتب الأذكار وكتب الأدعية، فالحمد لله.
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5750) ، صحيح مسلم السلام (2191) ، سنن ابن ماجه الطب (3520) ، مسند أحمد بن حنبل (6/45) .
(2) صحيح مسلم السلام (2186) ، سنن الترمذي الجنائز (972) ، سنن ابن ماجه الطب (3523) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) .
(3) سورة الإخلاص الآية 1(26/174)
79 ـ ما يقال عن قراءة سورة الزلزلة على المريض والحامل
س: توجد امرأة مريضة بمرض نفسي وقال لها الناس: إن المريض إذا أصابه مرض صعب تقرأ سورة الزلزلة عليه، ثم إنه إما أن يشفى وإما أن يموت، وطلبت من يقرأ لها وشربت من القراءة، وبعد فترة حملت وشربت من القراءة فولد الطفل سليما، وبعد فطامه حملت بآخر، وفي الشهر(26/174)
التاسع جاءها المرض مرة أخرى، وشربت من القراءة، ولكن في نفس اليوم ولدت طفلا ميتا، وبعد فترة حملت بواحد آخر وعاودها المرض وشربت من نفس القراءة، وفي الشهر الثامن شربت من القراءة وولدت الولد ميتا، وبعد فترة حملت في شهرها السابع أحست بمرض وشربت منها، وفي الليلة التي بعدها ولدت طفلة حية، وقد سمعت من الناس أن سورة الزلزلة تسقط الأطفال، وفي القراءة حبة سوداء وأن الحبة السوداء تسقط الطفل وهي لا تعلم هذا، فهل يلحقها شيء من الأطفال الذي ماتوا؟
ج: أولا: ما يقول الناس عن سورة الزلزلة أنها تشفي المريض أو يموت وما قالوه أنها تسقط الولد كله لا أصل له بل هو من خرافات العامة الباطلة.
ثانيا: ليس على المرأة المذكورة فدية ولا كفارة؛ لأن عملها ليس سببا لموتها.(26/175)
80 - مسألة في حكم تكرار بعض سور القرآن والأذكار بلا عدد معين
س:
بعض الناس يجعلون الورد (بسم الله الرحمن الرحيم) 786 مرة، ويقرءون الواقعة 42 مرة، وسورة الذاريات 60 مرة، وسورة يس 41 مرة، عند الميت وغيره، ويقرءون في الورد (يا لطيف) 16641 مرة، فهل هذا جائز أم لا؟ (1)
ج:
لا أعلم لهذا العمل أصلا بهذا العدد المعين، بل التعبد بذلك واعتقاد أنه سنة بدعة، وهكذا فعل ذلك على هذا الوجه عند الميت وقت الموت أو بعد الموت، كل ذلك لا أصل له على هذا الوجه، ولكن يشرع للمؤمن الاستكثار من قراءة القرآن ليلا ونهارا، وأن يسمي الله سبحانه عند ابتداء القراءة، وعند الأكل والشرب، وعند دخول المنزل، وعند جماع أهله، وغير ذلك من الشئون التي وردت بها السنة، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر (2) » وهكذا استعمال (يا لطيف، أو يا الله، أو نحو ذلك) بعدد معلوم يعتقد أنه سنة لا أصل لذلك
__________
(1) نشر في مجلة البحوث الإسلامية، العدد 24 عام 1409 هـ
(2) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين برقم 8495.(26/176)
بل هو بدعة، ولكن يشرع الإكثار من الدعاء بلا عدد معين. كقوله: يا لطيف الطف بنا، أو اغفر لنا، أو ارحمنا، أو اهدنا، ونحو ذلك.
وهكذا يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا غفور، يا حكيم، يا عزيز، اعف عنا، وانصرنا، وأصلح قلوبنا وأعمالنا، وما أشبه ذلك؛ لقول الله سبحانه:
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1)
وقوله عز وجل:
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (2)
ولكن بدون تحديد عدد لا يزيد عليه ولا ينقص. إلا ما ورد فيه تحديد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل قول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في كل يوم مائة مرة (3) » ، فهذا ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم، وهكذا قول سبحان الله وبحمده مائة مرة في الصباح والمساء، وهكذا سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين مرة بعد كل صلاة من الفرائض الخمس، الجميع تسع وتسعون بعد كل صلاة ويختم المائة بقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (4) » .
كل هذا قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم، وهكذا كل ما جاء في معناه، وإن قرأ عند المحتضر قبل أن يموت سورة يس
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة البقرة الآية 186
(3) صحيح البخاري بدء الخلق (3293) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2691) ، سنن الترمذي الدعوات (3468) ، سنن ابن ماجه الأدب (3798) ، مسند أحمد بن حنبل (2/375) ، موطأ مالك النداء للصلاة (486) .
(4) صحيح البخاري الأذان (844) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (593، 597) ، سنن النسائي السهو (1341) ، سنن أبو داود الصلاة (1504، 1505) ، مسند أحمد بن حنبل (2/371) ، أول مسند الكوفيين (4/250) ، موطأ مالك النداء للصلاة (488) ، سنن الدارمي الصلاة (1349) .(26/177)
أو غيرها من القرآن فلا بأس؛ لأنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ذلك.
ويستحب تلقينه لا إله إلا الله حتى يختم له بذلك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله (1) » رواه مسلم في صحيحه، والمراد بالموتى هنا المحتضرون في أصح قولي العلماء؛ ولأنهم الذين ينتفعون بالتلقين.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز باب تلقين الموتى لا إله إلا الله برقم 917(26/178)
81 - بيان أوراد شركية وبدعية
سؤال من الأخ ع. م. ح. من اليمن يقول فيه: يوجد في بلادنا أناس متمسكون بأوراد ما أنزل الله بها من سلطان منها ما هو بدعي ومنها ما هو شركي وينسبون ذلك إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، ويقرءون تلك الأوراد في مجالس الذكر أو في المساجد بعد صلاة المغرب زاعمين أنها قربة إلى الله، كقولهم: بحق الله رجال الله أعينونا بعون الله وكونوا عوننا بالله، وكقولهم: يا أقطاب ويا أوتاد ويا أسياد أجيبوا يا ذوي الأمداد فينا واشفعوا لله هذا(26/178)
عبدكم واقف وعلى بابكم عاكف، ومن تقصيره خائف، أغثنا يا رسول الله ومالي غيركم مذهب ومنكم يحصل المطلب وأنتم خير أهل الله بحمزة سيد الشهداء ومن منكم لنا مددا أغثنا يا رسول الله، وكقولهم: اللهم صل على من جعلته سببا لانشقاق أسرارك الجبروتية وانفلاقا لأنوارك الرحمانية فصار نائبا عن الحضرة الربانية وخليفة أسرارك الذاتية، نرجو بيان ما هو بدعة وما هو شرك وهل تصح الصلاة خلف الإمام الذي يدعو بهذا الدعاء؟ (1)
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصبحه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاعلم وفقك الله أن الله سبحانه إنما خلق الخلق وأرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام، ليعبد وحده لا شريك له دون ما سواه كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) والعبادة هي: طاعته سبحانه وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بفعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى الله عنه
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، عندما كان سماحته رئيسا للجامعة.
(2) سورة الذاريات الآية 56(26/179)
ورسوله. عن إيمان بالله ورسوله وإخلاص لله في العمل كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) أي أمر وأوصى بأن يعبد وحده وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (3) {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (4) {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (5) أبان الله سبحانه بهذه الآيات أنه هو المستحق لأن يعبد وحده ويستعان به وحده، وقال عز وجل: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (6) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (7) وقال سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (8) وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (9) والآيات في هذه المعنى كثيرة وكلها تدل على وجوب إفراد الله بالعبادة، ومعلوم أن الدعاء بأنواعه من العبادة، فلا يجوز لأحد من الناس أن يدعو إلا ربه ولا يستعين ولا يستغيث إلا به؛ عملا بهذه الآيات الكريمات وما جاء في معناها. وهذا فيما عدا الأمور العادية والأسباب الحسية التي يقدر عليها المخلوق الحي
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة الفاتحة الآية 2
(3) سورة الفاتحة الآية 3
(4) سورة الفاتحة الآية 4
(5) سورة الفاتحة الآية 5
(6) سورة الزمر الآية 2
(7) سورة الزمر الآية 3
(8) سورة غافر الآية 14
(9) سورة الجن الآية 18(26/180)
الحاضر فإن تلك ليست من العبادة، بل يجوز بالنص والإجماع أن يستعين الإنسان بالإنسان الحي القادر في الأمور العادية التي يقدر عليها. كأن يستعين به أو يستغيث به. في دفع شر ولده أو خادمه أو كلبه وما أشبه ذلك، وكأن يستعين الإنسان بالإنسان الحي الحاضر القادر أو الغائب بواسطة الأسباب الحسية كالمكاتبة ونحوها في بناء بيته أو إصلاح سيارته أو ما أشبه ذلك، ومن هذا الباب قول الله عز وجل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (1) ومن ذلك استغاثة الإنسان بأصحابه في الجهاد والحرب ونحو ذلك. فأما الاستغاثة بالأموات والجن والملائكة والأشجار والأحجار فذلك من الشرك الأكبر وهو من جنس عمل المشركين الأولين مع آلهتهم كالعزى واللات وغيرهما، وهكذا الاستغاثة والاستعانة بمن يعتقد فيهم الولاية من الأحياء فيما لا يقدر عليه إلا الله، كشفاء المرضى وهداية القلوب ودخول الجنة والنجاة من النار وأشباه ذلك، والآيات السابقات وما جاء في معناها من الآيات والأحاديث كلها تدل على وجوب توجيه القلوب إلى الله في جميع الأمور وإخلاص العبادة لله وحده؛ لأن
__________
(1) سورة القصص الآية 15(26/181)
العباد خلقوا لذلك وبه أمروا كما سبق في الآيات، كما في قوله سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (1) وقوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (3) » متفق على صحته وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار (4) » رواه البخاري وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله (5) » وفي لفظ: «فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله (6) » وفي رواية للبخاري: «فادعهم إلى أن
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) سورة البينة الآية 5
(3) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب اسم الفرس والحمار برقم 2856 ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة برقم 30.
(4) أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: '' ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا '' 4497
(5) صحيح البخاري الزكاة (1458) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(6) صحيح البخاري الزكاة (1496) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .(26/182)
يوحدوا الله (1) » وفي صحيح مسلم عن طارق بن أشيم الأشجعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل (2) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهذا التوحيد هو أصل دين الإسلام وهو أساس الملة وهو رأس الأمر وهو أهم الفرائض وهو الحكمة في خلق الثقلين والحكمة في إرسال الرسل جميعا عليهم الصلاة والسلام كما تقدمت الآيات الدالة على ذلك، ومنها قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3) ومن الأدلة على ذلك أيضا قوله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (4) وقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (5)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم برقم 7372 ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام برقم 19.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله برقم 23.
(3) سورة الذاريات الآية 56
(4) سورة النحل الآية 36
(5) سورة الأنبياء الآية 25(26/183)
وقال عز وجل عن نوح وهود وصالح وشعيب عليهم الصلاة والسلام أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (1) وهذه دعوة الرسل جميعا كما دلت على ذلك الآيتان السابقتان.
وقد اعترف أعداء الرسل بأن الرسل أمروهم بإفراد الله بالعبادة وخلع الآلهة المعبودة من دونه كما قال عز وجل في قصة عاداتهم قالوا لهود عليه الصلاة والسلام: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} (2) وقال سبحانه وتعالى عن قريش لما دعاهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى إفراد الله بالعبادة وترك ما يعبدون من دونه. من الملائكة والأولياء والأصنام والأشجار وغير ذلك: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (3) وقال عنهم سبحانه في سورة الصافات: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (4) {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (5) والآيات الدالة
__________
(1) سورة الأعراف الآية 59
(2) سورة الأعراف الآية 70
(3) سورة ص الآية 5
(4) سورة الصافات الآية 35
(5) سورة الصافات الآية 36(26/184)
على هذا المعنى كثيرة ومما ذكرناه من الآيات والأحاديث يتضح لك وفقني الله وإياك للفقه في الدين والبصيرة بحق رب العالمين.
إن هذه الأدعية وأنواع الاستغاثة التي بينتها في سؤالك كلها من أنواع الشرك الأكبر؛ لأنها عبادة لغير الله وطلب لأمور لا يقدر عليها سواه من الأموات والغائبين، وذلك أقبح من شرك الأولين؛ لان الأولين إنما يشركون في حال الرخاء، وإما في حال الشدائد فيخلصون لله العبادة؛ لأنهم يعلمون أنه سبحانه هو القادر على تخليصهم من الشدة دون غيره، كما قال تعالى في كتابه المبين عن أولئك المشركين: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (1) وقال سبحانه وتعالى يخاطبهم في آية أخرى في سورة سبحان: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} (2) فإن قال قائل من هؤلاء المشركين المتأخرين: إنا لا نقصد أن أولئك ينفعون بأنفسهم ويشفون مرضانا بأنفسهم أو يعينونا بأنفسهم أو يضرون عدوا بأنفسهم وإنما نقصد شفاعتهم إلى الله في ذلك.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 65
(2) سورة الإسراء الآية 67(26/185)
فالجواب أن يقال لهم: إن هذا هو مقصد الكفار الأولين ومرادهم، وليس مرادهم أن آلهتهم تخلق أو ترزق أو تنفع أو تضر بنفسها فإن ذلك يبطله ما ذكره الله عنهم في القرآن إنما أرادوا شفاعتهم وجاههم وتقريبهم إلى الله زلفى، كما قال سبحانه وتعالى في سورة يونس عليه الصلاة والسلام: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (1) فرد الله عليهم ذلك بقول سبحانه: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) فأبان سبحانه أنه لا يعلم في السماوات ولا في الأرض شفيعا عنده على الوجه الذي يقصده المشركون وما لا يعلم الله وجوده لا وجود له؛ لأنه سبحانه لا يخفى عليه شيء وقال تعالى في سورة الزمر: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (3) {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (4) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (5) فأبان سبحانه أن العبادة له وحده، وأنه يجب على العباد إخلاصها له جل وعلا؛ لأن أمره للنبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص العبادة له أمر للجميع. ومعني الدين
__________
(1) سورة يونس الآية 18
(2) سورة يونس الآية 18
(3) سورة الزمر الآية 1
(4) سورة الزمر الآية 2
(5) سورة الزمر الآية 3(26/186)
هنا هو العبادة والعبادة هي طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم كما سلف ويدخل فيها الدعاء والاستغاثة والخوف والرجاء والذبح والنذر كما يدخل فيها الصلاة والصوم وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله. ثم قال عز وجل بعد ذلك: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (1) أي يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربنا إلى الله زلفى، فرد الله عليهم بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (2) فأوضح سبحانه في هذه الآية الكريمة أن الكفار ما عبدوا الأولياء من دونه إلا ليقربوهم إلى الله زلفى. وهذا هو مقصد الكفار قديما وحديثا وقد أبطل الله ذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (3) فأوضح سبحانه كذبهم في زعمهم أن آلهتهم تقربهم إلى الله زلفى وكفرهم بما صرفوا لها من العبادة؛ وبذلك يعلم كل من له أدنى تمييز أن الكفار الأولين إنما كان كفرهم باتخاذهم الأنبياء والأولياء والأشجار والأحجار وغير ذلك من المخلوقات شفعاء بينهم وبين الله، واعتقدوا أنهم يقضون حوائجهم من دون
__________
(1) سورة الزمر الآية 3
(2) سورة الزمر الآية 3
(3) سورة الزمر الآية 3(26/187)
إذنه سبحانه ولا رضاه، كما تشفع الوزراء عند الملوك، فقاسوه عز وجل على الملوك والزعماء وقالوا: كما أن من له حاجة إلى الملك والزعيم يشفع إليه بخواصه ووزرائه، فهكذا نحن نتقرب إلى الله بعبادة أنبيائه وأوليائه، وهذا من أبطل الباطل؛ لأنه سبحانه لا شبيه له ولا يقاس بخلقه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لأهل التوحيد، وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وهو أرحم الراحمين لا يخشى أحدا ولا يخافه؛ لأنه سبحانه هو القاهر فوق عباده والمتصرف فيهم كيف يشاء، بخلاف الملوك والزعماء، فإنهم ما يقدرون على كل شيء، ولا يعلمون كل شيء؛ فلذلك يحتاجون إلى من يعينهم على ما قد يعجزون عنه من وزرائهم وخواصهم وجنودهم، كما يحتاجون إلى تبليغهم حاجات من لا يعلمون حاجته؛ ولأن الملوك والزعماء قد يظلمون ويغضبون بغير حق فيحتاجون إلى من يستعطفهم ويسترضيهم من وزرائهم وخواصهم، أما الرب عز وجل فهو سبحانه غني عن جميع خلقة، وهو أرحم بهم من أمهاتهم، وهو الحاكم العدل يضع الأشياء في مواضعها على مقتضى حكمته وعلمه وقدرته، فلا يجوز أن يقاس بخلقه بوجه من الوجوه؛ ولهذا أوضح سبحانه في كتابه أن المشركين قد(26/188)
أقروا بأنه الخالق الرازق المدبر، وأنه الذي يجيب المضطر ويكشف السوء ويحيي ويميت، إلى غير ذلك من أفعاله سبحانه، وإنما الخصومة بين المشركين وبين الرسل في إخلاص العبادة لله وحده، كما قال عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (1) وقال تعالى {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة. وسبق ذكر الآيات الدالة على أن النزاع بين الرسل وبين الأمم إنما هو في إخلاص العبادة لله وحده كقوله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) وما جاء في معناها من الآيات وبين سبحانه في مواضع كثيرة من كتابه الكريم شأن الشفاعة فقال تعالى في سورة البقرة {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (4) وقال في سورة النجم:
__________
(1) سورة الزخرف الآية 87
(2) سورة يونس الآية 31
(3) سورة النحل الآية 36
(4) سورة البقرة الآية 255(26/189)
{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (1) وقال في سورة الأنبياء في وصف الملائكة: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (2) وأخبر عز وجل أنه لا يرضى من عباده الكفر، وإنما يرضى منهم الشكر، والشكر هو: توحيده والعمل بطاعته فقال تعالى في سورة الزمر: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} (3) الآية.
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو قال: من نفسه (4) » وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وأني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله
__________
(1) سورة النجم الآية 26
(2) سورة الأنبياء الآية 28
(3) سورة الزمر الآية 7
(4) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب الحرص على الحديث برقم 99.(26/190)
من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا (1) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وجميع ما ذكرنا من الآيات والأحاديث كله يدل على أن العبادة حق الله وحده، وأنه لا يجوز صرف شيء منها لغير الله لا للأنبياء ولا لغيرهم، وأن الشفاعة ملك الله عز وجل، كما قال سبحانه {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} (2) الآية، ولا يستحقها أحد إلا بعد إذنه للشافع ورضاه عن المشفوع فيه وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد كما سبق. أما المشركون فلا حظ لهم في الشفاعة كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (3) وقال تعالى {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (4) الآية، والظلم عند الإطلاق هو الشرك كما قال تعالى {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (5) وقال تعالى {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (6)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوته لأمته برقم 199.
(2) سورة الزمر الآية 44
(3) سورة المدثر الآية 48
(4) سورة غافر الآية 18
(5) سورة البقرة الآية 254
(6) سورة لقمان الآية 13(26/191)
أما ما ذكرته في السؤال من قول بعض الصوفية في المساجد وغيرها: اللهم صل على من جعلته سببا لانشقاق أسرارك الجبروتية وانفلاقا لأنوارك الرحمانية فصار نائبا عن الحضرة الربانية وخليفة أسرارك الذاتية ... الخ فالجواب: أن يقال أن هذا الكلام وأشباهه من جملة التكلف والتنطع الذي حذر منه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون قالها ثلاثا (2) » . قال الإمام الخطابي رحمه الله: المتنطع المتعمق في الشيء المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم. وقال أبو السعادات ابن الأثير: هم المتعمقون المغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم؛ مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل تعمق قولا وفعلا. وبما ذكره هذان الإمامان وغيرهما من أئمة اللغة يتضح لك ولكل من له أدنى بصيرة أن هذه الكيفية في الصلاة والسلام على نبينا وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من جملة التكلف والتنطع المنهي عنه، والمشروع للمسلم في هذا الباب أن يتحرى الكيفية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في
__________
(1) صحيح مسلم العلم (2670) ، سنن أبو داود السنة (4608) ، مسند أحمد بن حنبل (1/386) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب هلك المتنطعون برقم 2670. (1)(26/192)
صفة الصلاة والسلام عليه وفي ذلك غنية عن غيره، ومن ذلك ما روى البخاري ومسلم في الصحيحين واللفظ للبخاري عن كعب بن عجرة رضي الله عنه «أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا: يا رسول الله أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل ممد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد (1) » وفي الصحيحين عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أنهم «قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد (2) » وفي صحيح مسلم عن أبي
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: '' واتخذ الله إبراهيم خليلا '' برقم 3370 ومسلم في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم 406.
(2) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: '' واتخذ الله إبراهيم خليلا '' برقم 3369 ومسلم في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم 407.(26/193)
مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: «قال بشير بن سعد يا رسول الله أمرنا الله أن نصلى عليك فكيف نصلي عليك؟ فسكت ثم قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما علمتم (1) » .
فهذه الألفاظ وأشباها وغيرها مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هي التي ينبغي للمسلم أن يتعلمها في صلاته وسلامه على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعلم الناس بما يليق أن يستعمل في حقه، كما أنه هو أعلم الناس بما ينبغي أن يستعمل في حق ربه من الألفاظ، أما الألفاظ المتكلفة والمحدثة والألفاظ المحملة لمعنى غير صحيح، كالألفاظ التي ذكرت في السؤال فإنه لا ينبغي استعمالها؛ لما فيها من التكلف، ولكونها قد تفسر بمعان باطلة مع كونها مخالفة للألفاظ التي اختارها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرشد إليها أمته، وهو أعلم الخلق وأنصحهم وأبعدهم عن التكلف، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم. وأرجو أن يكون فيما ذكرناه من الأدلة في بيان حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك،
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (405) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3220) ، سنن النسائي السهو (1285) ، مسند أحمد بن حنبل (5/274) ، موطأ مالك النداء للصلاة (398) ، سنن الدارمي الصلاة (1343) .(26/194)
والفرق بين ما كان عليه المشركون الأولون والمشركون المتأخرون في هذا الباب، وفي بيان كيفية الصلاة المشروعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاية ومقنع لطالب الحق.
أما من لا رغبة له في معرفة الحق فهذا تابع لهواه، وقد قال الله عز وجل: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1) فبين سبحانه في هذه الآية الكريمة أن الناس بالنسبة إلى ما بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق قسمان: أحدهما مستجيب لله ولرسوله، والثاني تابع لهواه، وأخبر سبحانه أنه لا أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله. فنسأل الله عز وجل العافية من اتباع الهوى، كما نسأله سبحانه أن يجعلنا وإياكم وسائر إخواننا من المستجيبين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والمعظمين لشرعه والمحذرين من كل ما يخالف شرعه من البدع والأهواء، إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
__________
(1) سورة القصص الآية 50(26/195)
82 ـ مسألة في الدعاء.
س: حكم من قال: اللهم احشرني مع صاحب النقب؟ (1)
ج: هذا الدعاء لا أعلم له أصلا في الشرع، وإنما يذكر أنه من كلام بعض الأمراء لما رأى بعض الجنود نقب في بعض أسوار العدو نقبا صار سببا للفتح على المسلمين، ومثل هذا لا يكون كلامه شرعا للناس، وإنما المشروع أن يقال: اللهم احشرني في زمرة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أو في زمرة عبادك الصالحين ونحو ذلك، وأسال الله أن يوفقنا وإياكم في دينه والثبات عليه انه خير مسؤول.
دعاء ركوب الدابة
س: الأخ ع. ع. ع. من بريدة يقول في سؤاله سمعت أن هناك دعاءين بصيغتين مختلفتين أحدهما: للركوب على الدابة: والثاني: للسفر فهل هذا صحيح، وما صيغة كل منهما.
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدنية المنورة، عندما كان سماحته رئيسا للجامعة.(26/196)
أفتونا جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: يشرع للمسلم إذا ركب دابته للسفر أن يقول ما كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، وهو «بسم الله والحمد لله ويكبر ثلاثا ويقول: اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم أني أعوذ بك من وعثاء السفر، ومن كآبه المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل (4) » وقد ذكر المفسرون - رحمهم الله - ومنهم الحافظ ابن كثير ما كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم عند السفر حين يركب دابته قوله سبحانه في سورة الزخرف {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} (5) {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} (6) {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} (7)
__________
(1) من أسئلة المجلة العربية وأجاب عنه سماحته بتاريخ 18 \ 2 \ 1418هـ.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره برقم 1342.
(3) سورة الزخرف الآية 13 (2) {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}
(4) سورة الزخرف الآية 14 (3) {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}
(5) سورة الزخرف الآية 12
(6) سورة الزخرف الآية 13
(7) سورة الزخرف الآية 14(26/197)
والله ولي التوفيق.(26/198)
84 - حول دعاء الركوب في المصعد
س: الأخت س. م. أ. من مكة المكرمة تقول في سؤالها: هل يسن أن نقول دعاء الركوب عندما نركب في المصعد الموجود في المباني والذي يصعد بالناس من طابق إلى طابق وهل هناك حصر للحالات التي يقال فيها الدعاء؟ أرشدونا جزاكم الله خيرا (1)
ج: دعاء الركوب إنما يستحب عند ركوب العبد للدابة أو السيارة أو الطائرة أو الباخرة أو غيرها لقصد السفر. أما الركوب العادي في البلد أو في المصعد فلا أعلم في الأدلة الشرعية ما يدل على شرعية قراءة دعاء السفر.
ومعلوم عند أهل العلم أن العبادات كلها توقيفية، لا يشرع منها إلا ما دل عليه الدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع الصحيح، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سؤال من المجلة العربية ونشر في المجموع ج9 ص 306(26/198)
58 ـ حكم السلام بالإشارة باليد
س: ما حكم السلام بالإشارة باليد؟ (1)
ج: لا يجوز السلام بالإشارة، وإنما السنة السلام بالكلام بدءا وردا. أما السلام بالإشارة فلا يجوز؛ لأنه تشبه ببعض الكفرة في ذلك، ولأنه خلاف ما شرعه الله.
لكن لو أشار بيده إلى المسلم عليه ليفهمه السلام، لبعده مع تكلمه بالسلام فلا حرج في ذلك؛ لأنه قد ورد ما يدل عليه، وهكذا لو كان المسلم عليه مشغولا بالصلاة فإنه يرد بالإشارة، كما صحت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) نشر في جريد الرياض العد 10910 بتاريخ 12 \ 1 \ 1419هـ.(26/199)
86 ـ ما يقال عند العطاس
س: هل من عطس أو تثاءب وهو يصلي، يحمد الله أو يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم؟
ج: أما العطاس إذا عطس وهو في الصلاة فإنه يحمد الله، كما جاء به النص عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا عطس(26/199)
يحمد الله ولا يضره ذلك بينه وبين نفسه، أما التثاؤب فلا يقول شيئا وإنما يكظم ما استطاع ويضع يده على فمه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد التعوذ إنما هو من فعل الناس فإن الناس لما عرفوا أن التثاؤب من الشيطان صاروا يتعوذون منه، وإلا فلا نعلم أنه ورد نص عن النبي صلى الله عليه وسلم في شرعية التعوذ عند التثاؤب، وإنما شرع الله عند التثاؤب الكظم ووضع اليد على الفم، ولا يقول هاه فإن الشيطان يضحك منه إذا قالها وإنما الذي عليه أن يضع يده على فمه، ولكن لا يتعوذ؛ لأنه ليس عليه دليل، أما في غير الصلاة فالأمر أوسع. وفق الله الجميع وتقبل من الجميع.(26/200)
87 ـ السنة في وضع اليد
في الصلاة وما يقال بعد الرفع من الركوع
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ب. أ. ع. وفقه الله
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد (1) فقد وصلتني رسالتك المؤرخة في 27 \ 4 \ 1994م. المتضمنة الإفادة عن قراءتك لكتب السلف الصالح ومن ثم السؤال عن بعض الأشياء التي ظهرت لك أثناء القراءة ... وأخبرك بأن السنة وضع اليمين على الشمال على الصدر؛ لحديث وائل بن حجر وقبيصة بن هلب الطائي عن أبيه. وأبعث لك نسخة مما كتبنا في ذلك تعقيبا على الشيخ الألباني.
وأما الجواب عن سؤالك الثاني، فإن المحفوظ من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الرفع من الركوع أربع صفات، إحداها: «ربنا لك الحمد (2) » . والثانية: «ربنا ولك الحمد (3) » . والثالثة: «اللهم ربنا لك الحمد (4) » . والرابعة: «اللهم ربنا ولك الحمد (5) » .
__________
(1) صدر من مكتب سماحته برقم 594 \ 1 في 24 \ 2 \ 1415هـ.
(2) صحيح البخاري الأذان (722) .
(3) صحيح البخاري الأذان (799) ، سنن النسائي الافتتاح (931) ، سنن أبو داود الصلاة (770) ، مسند أحمد بن حنبل (4/340) ، موطأ مالك النداء للصلاة (491) .
(4) صحيح البخاري كتاب الأذان (796) ، صحيح مسلم الصلاة (409) ، سنن أبو داود الصلاة (848) ، مسند أحمد بن حنبل (2/387) .
(5) صحيح البخاري كتاب الأذان (795) ، مسند أحمد بن حنبل (2/452) .(26/201)
وأما عن سؤالك الثالث، فإن الأناشيد فيها تفصيل، فإن كانت سليمة مما يخالف الشرع المطهر فلا بأس بها كسائر الشعر السليم. ولا أذكر أني أفتيت بتحريمها مطلقا. وأسأل الله سبحانه أن يمنحك المزيد من التوفيق والمزيد من العلم النافع والعمل الصالح. وقد عمدت الجهة المختصة لدينا بإرسال نسخة من مجموع فتاوينا ونسخة من بعض الكتب النافعة إليك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية.
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء(26/202)
كتاب الأحاديث الضعيفة(26/203)
صفحة فارغة(26/204)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على
رسول الله وبعد: هذه رسالة مستقلة من
إعداد سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ـ رحمه الله ـ بعنوان:
(التحفة الكريمة في بيان
بعض الأحاديث الموضوعة والسقيمة)(26/205)
صفحة فارغة(26/206)
بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله الذي أكرمنا بدين الإسلام، وجعله أكمل الأديان وحفظ كتابه الكريم بقوله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) ويسر له جهابذة نقادا ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال أهل الزيغ والعدوان، وحفظ علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم بجهود أهل العلم والإيمان، والصدق والإتقان. أوضحوا للأمة صحيح الأحاديث من سقيمها، وحسنها من ضعيفها. وبرزوا في هذا الميدان، ودرسوا أحوال الرجال من نقلة الأخبار، حتى عرفوا الثقات الأثبات، والصادقين من الرواة، من ذوي الحفظ والأمانة، والرواية والدراية، ومن قد يلتبس بهم من المتهمين والكذابين وغيرهم، ممن ساء حفظه، وفحش غلطه للاختلاط أو غيره من الأسباب، فبينوا جميع ذلك نصحا للأمة، وقياما بواجب البلاغ والبيان، فرضي الله عنهم وجزاهم عن عملهم المشكور، وجهادهم العظيم أحسن ما جزى به أهل الإيمان والإحسان، وجعلنا من أتباعهم، والمهتدين بهداهم بمنه وفضله، وهو الكريم المنان.
__________
(1) سورة الحجر الآية 9(26/207)
أما بعد: فهذه رسالة لطيفة، في بيان بعض الأحاديث الموضوعة والضعيفة، قصدت أن أجمع فيها ما تيسر لي؛ وذلك لأكون فيها على بصيرة ولأنتفع بها أولا، ولينتفع بها من شاء الله من الإخوان. ومن الله أستمد المعونة والتوفيق، وأسأله العون على كل ما يرضيه وينفع عباده إنه جواد كريم.
وقد رأيت أن أجمع ما وقفت عليه من الأحاديث الضعيفة والمكذوبة، مرتبا على حروف المعجم أسوة بأهل العلم في ذلك، وتيسيرا لمعرفة الأحاديث المطلوبة.
وهذا أوان الشرع في المقصود، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(26/208)
88 ـ أفضل وأشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة
1 ـ «أفضل الناس عند الله منزلة يوم القيامة إمام عادل رفيق، وشر عباد الله عند الله منزلة يوم القيامة إمام جائر» رواه الطبراني في الأوسط من رواية ابن لهيعة ذكره المنذري في الترغيب. .(26/208)
وابن لهيعة ضعيف، ولا شك أن الإمام العادل الرفيق من أفضل الناس؛ لما في عدله من النفع العظيم، والمصالح الكثيرة للمسلمين وغيرهم.
ولا شك أيضا أن الإمام الجائر من شر الناس؛ لما في جوره وظلمه من المضار الكثيرة على المسلمين.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (1) » ... وبدأ بالإمام العادل.
وفي الصحيحين أيضا عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت، وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة (2) »
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (660) ، صحيح مسلم الزكاة (1031) ، سنن الترمذي الزهد (2391) ، سنن النسائي آداب القضاة (5380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، موطأ مالك الجامع (1777) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب من استرعى رعية فلم ينصح برقم 7150، ومسلم في كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار برقم 142.(26/209)
وفي صحيح مسلم
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله وسلم: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به، اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه (1) » بهذه الأحاديث الصحيحة، يعلم أن الإمام العادل الرفيق من خير الناس، وان الإمام الجائر الغاش للأمة من شر الناس.
وهكذا كل من ولي من أمر الأمة شيئا من أمير قرية، أو مدينة أو وزير أو أي موظف على شيء من أمور المسلمين، له هذا الحكم. فالواجب الحذر والنصح وأداء الأمانة.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضله الإمام العادل وعقوبة الجائر برقم 1828.(26/210)
89 ـ حديث: أخروهن
من حيث أخرهن الله يعني النساء
2 ـ حديث: أخروهن من حيث أخرهن الله.. يعني النساء.
ذكر صاحب كشف الخفاء ص67 جلد أول عن المقاصد، وعن الزركشي، أنه موقوف على ابن مسعود.. أخرجه عبد الرازق والطبراني من طريقه، وليس بمرفوع.. انظر تمامه في الكشف. وله شاهد في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها (1) »
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول برقم 440.(26/211)
90 ـ حديث: أفضل
طعام الدنيا والآخرة اللحم
3 ـ حديث: «أفضل طعام الدنيا والآخرة اللحم (1) »
ضعيف أو موضوع، وقد ذكره في كشف الخفاء ص154 ج1 وقال:
__________
(1) سنن ابن ماجه الأطعمة (3305) .(26/211)
رواه أبو نعيم والعقيلي من طريق عمرو السكسكي عن ربيعة بن كعب رفعه، قال: وعمرو المذكور ضعيف جدا، وقال العقيلي: لا يعرف هذا الحديث إلا به، ولا يصح فيه شيء.
وذكر في الكشف له طرقا أخرى، ونقل عن ابن الجوزي أنه أدخله في الموضوعات فراجع كلامه فيه إن شئت، والله التوفيق.(26/212)
91 ـ حديث: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم".
س4: هل يرى سماحتكم صحة الحديث: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم (1) » ؟
ج: أما الحديث: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم (2) » فهو حديث جيد رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها، ونصه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود (3) » .
__________
(1) سنن أبو داود الحدود (4375) ، مسند أحمد بن حنبل (6/181) .
(2) سنن أبو داود الحدود (4375) ، مسند أحمد بن حنبل (6/181) .
(3) أخرجه أحمد في باقي مسند الأنصار، باقي المسند السابق برقم 24946، وأبو داود في كتاب الحدود، باب في الحد يشفع فيه برقم 4375.(26/212)
92 ـ حديث: فضل على
وسلمان وأبي ذر والمقداد رضي الله عنهم
5 ـ حديث: «إن الله يحب من أصحابي أربعة: عليا وسلمان وأبا ذر والمقداد بن الأسود الكندي (1) » أخرجه الإمام أحمد في المسند في المجلد الخامس، ص351، 356. والترمذي في المجلد الرابع من الطبعة الهندية بشرح المباركفوري صفحة 327 وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من طريق شريك، يعني به شريكا القاضي. وأخرجه ابن ماجه في المجلد الأول صفحة 66، وأخرجه الحاكم صفحة 130 من المجلد الثالث كلهم من طريق شريك القاضي عن أبي ربيعة الإيادي عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكلهم رووه عن شريك عن أبي ربيعة بالعنعنة ما عدا أحمد في إحدى روايتيه، فإن شريكا صرح فيها بأن أبا ربيعة حدثه بذلك. وإسناده ضعيف من أجل أبي ربيعة المذكور فإنه انفرد به وهو منكر الحديث. قاله أبو حاتم الرازي، وصححه الحاكم
__________
(1) سنن الترمذي المناقب (3718) ، سنن ابن ماجه المقدمة (149) ، مسند أحمد بن حنبل (5/351) .(26/213)
وزعم أنه على شرط مسلم، وأنكر الذهبي عليه ذلك. وقال: إن مسلما لم يخرج عن أبي ربيعة المذكور.. انتهى
وكثيرا ما يصحح الحاكم - رحمه الله - أحاديث ضعيفة وموضوعه، فلا ينبغي أن يغتر بتصحيحه، وقد أغرب الحافظ ابن حجر في ترجمة المقداد، فحسن هذا الحديث. وليس ذلك بجيد؛ لضعف إسناده بانفراد أبي ربيعة به، ونكارة متنه؛ وإن هذا الحديث لو كان صحيحا لم يخف على الحفاظ من أصحاب بريدة. وعلى فرض صحته فإنه لا مفهوم له؛ لأن الله جل وعلا يحب جميع صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم وأرضاهم، ويحب كل مؤمن ومؤمنة من سائر الثقلين كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (1) ، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (2) ، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (3) وقوله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} (4) وقول عز وجل:
__________
(1) سورة التوبة الآية 4
(2) سورة آل عمران الآية 146
(3) سورة البقرة الآية 222
(4) سورة التوبة الآية 72(26/214)
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (1) إلى أن قال عز وجل: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة
تنبيه آخر: نقل الحافظ الذهبي كلام أبي حاتم المذكور في شأن أبي ربيعة في الميزان في ترجمة عمر بن ربيعة ص 257 المجلد رقم 2.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 35
(2) سورة الأحزاب الآية 35(26/215)
93 ـ وقت القيام للصلاة عند الإقامة
6 ـ خرج البيهقي في السنن من طريق الحجاج بن فروج الواسطي عن العوام بن حوشب عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كان بلال إذا قال: قد قامت الصلاة. نهض النبي صلى الله عليه وسلم وكبر. وأعله بالحجاج المذكور وذكر أن ابن معين ضعفه. وذكره صاحب الميزان: أعني الحافظ الذهبي رحمه الله. من طريق الحجاج المذكور. وذكر أن ابن معين، والنسائي ضعفاه.. انتهى المقصود.(26/215)
قلت: وفي السند المذكور علة أخرى. وهي الانقطاع بين العوام، وبين عبد الله بن أبي أوفي؛ لأن العوام لم يسمع منه، ولا من غيره من الصحابة رضي الله عنهم، كما يعلم ذلك من تهذيب التهذيب وغيره.
وبذلك يكون الحديث المذكور ضعيفا؛ لعلتين وهما: الانقطاع، وضعف الحجاج. . وقد ذكره كثير من الفقهاء في أول باب صفة الصلاة، محتجين به على استحباب قيام المأموم عند قول المؤذن: قد قامت الصلاة. ولم يعزه كثير منهم إلى أحد ولا حجة فيه لضعفه.
وبذلك يعلم أنه لا تحديد في وقت قيام المأموم للصلاة إذا أخذ المؤذن في الإقامة فهو مخير في القيام في أول الإقامة، أو في أثنائها أو آخرها. وهو قول أكثر أهل العلم، وأما التكبير فلم يكن صلى الله عليه وسلم يكبر تكبيرة الإحرام، إلا بعد الفراغ من الإقامة، وبعد أن يأمر الناس بتسوية الصفوف، وسد الخلل، كما استفاضت بذلك الأحاديث الصحيحة عنه عليه الصلاة والسلام، وذلك يدل على بطلان هذا الحديث، وعدم صحته.. والله ولي التوفيق.(26/216)
94 ـ حديث: إذا كثرت ذنوبك فاسق الماء ...
7 ـ حديث: «إذا كثرت ذنوبك فاسق الماء على الماء. تتناثر ذنوبك» رواه أبو بكر الخطيب البغدادي عن إسحاق بن محمد التمار، وقال: كان لا بأس به. قال: حدثنا هبة الله بهذا، قال الذهبي رحمه الله في الميزان ج4 ص293: وهبة الله هو ابن موسى المزني الموصلي. عرف بابن قتيل لا يعرف. أهـ.
قلت: وبذلك يكون هذا الحديث ضعيفا بهذا الإسناد؛ ولكن يعلم فضل سقي الماء من أدلة أخرى؛ لكون ذلك من أعمال البر والخير. والله ولي التوفيق.(26/217)
95 - حديث "حبك الشيء يعمي ويصم"
8 ـ حديث: «حبك الشيء يعمي ويصم (1) » لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} (2) قال الإمام أحمد: حدثنا عصام بن خالد حدثني أبو بكر بن عبد الله بن
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (5130) ، مسند أحمد بن حنبل (5/194) .
(2) سورة البقرة الآية 93(26/217)
أبي مريم الغساني، عن خالد بن محمد الثقفي عن بلال بن أبي الدرداء عن الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «حبك الشيء يعمي ويصم (1) » رواه أبو داود عن حيوة بن شريح، عن بقية عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به انتهى.
قلت: هذا الحديث المذكور ضعيف؛ لأن في إسناده أبا بكر بن عبد الله بن أبي مريم، وهو ضعيف لا يحتج به. ولكن معناه صحيح نسأل الله العافية.
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (5130) ، مسند أحمد بن حنبل (5/194) .(26/218)
96 ـ حديث: علي رضي الله عنه أنه تصدق بخاتمه وهو راكع
9 ـ حديث: إن قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (1) نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه تصدق بخاتمه وهو راكع. ليس بصحيح ذكره الحافظ ابن كثير في التفسير، وحكم عليه بالضعف؛ لضعف رجال أسانيده، وجهالة بعضهم.. وذكر أنه لم يقل أحد من أهل العلم فيما يعلم بفضل الصدقة حال
__________
(1) سورة المائدة الآية 55(26/218)
الركوع. أهـ. المقصود.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المنهاج المجلد الأول ص 165 الطبعة التي حققها الدكتور محمد رشاد سالم: أن الحديث المذكور موضوع.. وبهذا يعلم أن قوله تعالى: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} (1) معناها وهم خاضعون، ذليلون لله تعالى؛ لأن الركوع والسجود يمثلان غاية الذل لله والاستكانة، فالمؤمن يتصدق وهو خاضع لله، لا متكبر ولا مدل بعمله ولا مراء ولا مسمع..
والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة المائدة الآية 55(26/219)
97 ـ حديث دفن عيسى عليه
السلام مع النبي صلى الله عليه وسلم
بعد نزوله آخر الزمان
10 ـ الأحاديث الواردة في دفن عيسى ابن مريم عليه السلام في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، بعد نزوله آخر الزمان وموته كلها ضعيفة، وهكذا ما روى الترمذي عن عبد الله بن سلام أنه مكتوب في التوراة أن عيسى عليه الصلاة والسلام يدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم ضعيف. انظر ص 81 من المجلد(26/219)
العاشر من تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي، الطبعة المصرية.(26/220)
98 ـ حديث: "عقوبة تارك الصلاة بخمس عشرة عقوبة" ... الخ
11 ـ حديث (عقوبة تارك الصلاة بخمس عشرة عقوبة ... الخ) من الأحاديث الباطلة المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، كما بين ذلك الحفاظ من العلماء رحمهم الله كالحافظ الذهبي في الميزان، والحافظ ابن حجر وغيرهما. قال ابن حجر في كتاب لسان الميزان في ترجمة محمد بن علي بن العباس البغدادي العطار، إنه ركب على أبي بكر بن زياد النيسابوري حديثا باطلا في تارك الصلاة.
وروى عنه محمد بن علي الموازيني شيخ لأبي النرسي زعم المذكور أن ابن زياد أخذه عن الربيع عن الشافعي عن مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: «من تهاون بصلاته عاقبه الله بخمس عشرة خصلة» الحديث. وهو ظاهر البطلان من أحاديث الطرقية. أهـ.
فكيف يرضى مؤمن لنفسه بترويج حديث موضوع، وقد(26/220)
صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من روى عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين (1) » خرجه مسلم في صحيحه. وفيما جاء عن الله وعن رسوله في شأن الصلاة وعقوبة تاركها ما يكفي ويشفي، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (2) وقال تعالى عن أهل النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (3) {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (4) الآيات؟
فذكر سبحانه من صفاتهم التي دخلوا بسببها النار: ترك الصلاة، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (5) {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (6) {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} (7) {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (8)
وقال صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت (9) »
__________
(1) أخرجه مسلم في المقدمة، باب وجوب الرواية عن الثقات برقم 1.
(2) سورة النساء الآية 103
(3) سورة المدثر الآية 42
(4) سورة المدثر الآية 43
(5) سورة الماعون الآية 4
(6) سورة الماعون الآية 5
(7) سورة الماعون الآية 6
(8) سورة الماعون الآية 7
(9) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب بني الإسلام على خمس برقم 8، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، برقم 16.(26/221)
وقال صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » والآيات والأحاديث الصحيحة في هذا كثيرة معلومة.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة برقم 2621، والنسائي في كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة برقم 463، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيه، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة برقم 1079.(26/222)
99 ـ حديث "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي". . .
12 ـ حديث التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم موضوع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى ج1 ص319: " وروي بعض الجهال عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم» .
وهذا الحديث كذب ليس فيه شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث.(26/222)
100 ـ حديث: يا علي ليلة أسري
بي إلى السماء رأيت نساء من أمتي في عذاب شديد
13 ـ حديث عن علي رضي الله عنه قال: «دخلت أنا وفاطمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يبكي بكاء شديدا، فقلت: فداك أبي وأمي يا رسول، ما الذي أبكاك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا علي ليلة أسري بي إلى السماء، رأيت نساء من أمتي في عذاب شديد فأنكرت شأنهن، لما رأيت شدة عذابهن، رأيت امرأة معلقة بشعرها يغلي دماغ رأسها، ورأيت امرأة معلقة بلسانها والحميم يصب في حلقها، ورأيت امرأة معلقة بثدييها، ورأيت امرأة تأكل لحم جسدها، والنار توقد من تحتها، ورأيت امرأة قد شدت رجلاها إلى يديها، وقد سلط عليها الحيات والعقارب. ورأيت امرأة صماء عمياء خرساء في تابوت من نار يخرج دماغ رأسها من منخرها وبدنها، فتقطع من الجذام والبرص، ورأيت امرأة تقطع لحم جسدها من مقدمتها ومؤخرتها بمقارض من نار، ورأيت امرأة تحرق وجهها ويديها، وهي تأكل أمعاءها، ورأيت امرأة رأسها رأس خنزير(26/223)
وبدنها بدن الحمار، وعليها ألف ألف لون من العذاب، ورأيت امرأة على صورة الكلب والنار تدخل من دبرها وتخرج من فيها، والملائكة يضربون رأسها وبدنها بمقامع من نار. فقالت فاطمة رضي الله عنها: حبي وقرة عيني، أخبرني ما كان عملهن وسيرتهن حتى وضع الله عليهن هذا العذاب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا ابنتي: أما المعلقة بشعرها فإنها كانت لا تغطي شعرها من الرجال، وأما المعلقة بلسانها فإنها كانت تؤذي زوجها، وأما المعلقة بثدييها فإنها كانت تمتنع من فراش زوجها، وأما المعلقة برجليها فإنها كانت تخرج من بيتها بغير إذن زوجها، وأما التي كانت تأكل جسدها فإنها كانت تزين بدنها للناس، وأما التي شدت يداها إلى رجليها وسلط عليها الحيات والعقارب فإنها كانت قذرة الوضوء، قذرة الثياب، وكانت لا تغتسل من الجنابة والحيض، ولا تتنظف، وكانت تستهين بالصلاة. وأما العمياء الصماء الخرساء، فإنها كانت تلد من الزني، فتعلقه في عنق زوجها، وأما التي كانت يقرض لحمها بالمقارض، فإنها كانت تعرض نفسها على الرجال، وأما التي كانت تحرق وجهها وبدنها، وهي تأكل أمعاءها فإنها كانت قوادة، وأما التي كانت رأسها رأس خنزير، وبدنها بدن الحمار، فإنها كانت نمامة.(26/224)
كذابة وأما التي كانت على صورة الكلب والنار تدخل في دبرها، وتخرج من فيها. فإنها كانت قينة (مغنية) نواحة حاسرة» . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل لامرأة أغضبت زوجها وطوبي لامرأة رضي عنها زوجها» . انتهي..
هذا خبر مكذوب، ومتنه منكر، وبعد البحث التام لم نجد إلا أن بعض الناس عزاه إلى كتاب: بحار الأنوار.. وبمراجعه إيضاح المكنون، ذيل كتاب كشف الظنون وجدنا في حرف الباء، أن الكتاب المذكور من مؤلفات بعض الشيعة، وهو محمد بن باقر بن محمد التقي الشهير بالمجلسي الشيعي المتوفى عام 1111 هـ. كذا في الكتاب المذكور، وقد ذكر في البطاقة الموجهة إلى المتضمنة السؤال عن هذا الحديث، أن صاحب البحار ذكره في الجزء 18ص 351، وقد حدثني من لا أتهم عن بعض من له عناية بكتب الشيعة، أن هذا الكتاب أعني: بحار الأنوار، مملوء من الأحاديث المكذوبة الموضوعة.. والله ولي التوفيق أ. هـ.(26/225)
101 ـ حديث: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت
المحيض لم يصلح أن يري منها إلا هذا....
14 ـ حديث الرخصة للمرأة في كشف وجهها وكفيها لغير محارمها.. ضعيف جدا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي ومؤمل بن الفضل الحراني، قال: حدثنا الوليد عن سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن دريك، عن عائشة رضي الله عنها، أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لا يصلح أن يري منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه.
قال أبو داود: هو مرسل وكذا قال أبو حاتم الرازي. قلت هذا الحديث ضعيف جدا، ولا تقوم به حجة للعلة المذكورة، وهي انقطاع بين خالد وعائشة وهو مراد أبي داود وأبي حاتم بقولهما مرسل، ولضعف سعيد بن بشير، وتدليس قتادة وقد عنعن.
وبذلك يتضح أن هذا الحديث بهذا الإسناد في غاية الضعف والسقوط؛ لهذه العلل الثلاث، ولو صح لكان محمولا.(26/226)
على ما كانت عليه الحال، قبل نزول آية الحجاب، وهناك عله خامسة وهي نكارة متنه فإنه لا يظن بأسماء رضي الله عنها مع تقواها وإيمانها أن تدخل على النبي صلى الله عليه وسلم في ثياب رقاق لا تستر عورتها. والله ولي التوفيق.(26/227)
102 ـ حديث احتجاب المرأة عن الأعمى
15 ـ حديث: الاحتجاب عن الأعمى: ضعيف شاذ. . وهو ما روى أبو داود والترمذي من حديث الزهري عن نبهان مولى أم سلمة، حدثته أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة قالت: «فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه، وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احتجبن منه فقلت يا رسول الله أليس هو أعمي لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو عمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه (1) » ؟ ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قلت في تحسين الترمذي وتصحيحه لهذا الحديث نظر، لأن نبهان ليس مشهورا بالحفظ والعدالة، وإن وثقة ابن حبان.
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2778) ، سنن أبو داود اللباس (4112) .(26/227)
كما في تهذيب التهذيب.
والصواب أنه ضعيف شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة الدالة على عدم وجوب الحجاب عن الأعمى كحديث فاطمة بنت قيس المخرج في صحيح مسلم، وحديث «إنما جعل الاستئذان من أجل النظر (1) » المخرج في الصحيحين. والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري الاستئذان (6241) ، صحيح مسلم الآداب (2156) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2709) ، سنن النسائي القسامة (4859) ، مسند أحمد بن حنبل (5/330) ، سنن الدارمي الديات (2384) .(26/228)
103 ـ حديث: «أنا مدينة العلم وعلي بابها (1) »
16 ـ حديث: «أنا مدينة العلم وعلي بابها (2) » . قال العجلوني في كشف الخفاء، وهذا حديث مضطرب غير ثابت كما قاله الدارقطني في العلل، وقال الترمذي: منكر، وقال البخاري: ليس له وجه صحيح. ونقل الخطيب البغدادي عن يحيى بن معين أنه قال: إنه كذب لا أصل له.
وذكره ابن الجوزي في الموضوعات، ووافقه الذهبي وغيره، وقال أبو زرعة كم خلق افتضحوا فيه. وقال أبو حاتم ويحيى بن سعيد: لا أصل له، وقال ابن دقيق العيد: لم يثبتوه. وروى الديلمي بلا إسناد عن ابن مسعود ورفعه: أنا مدنية العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها.
__________
(1) سنن الترمذي المناقب (3723) .
(2) سنن الترمذي المناقب (3723) .(26/228)
روي أيضا عن أنس مرفوعا: أنا مدنية العلم وعلي بابها ومعاوية حلقتها. قال في المقاصد: وبالجملة فكلها ضعيفة وألفاظ أكثرها ركيكة. وقال النجم: كلها ضعيفة واهية. قلت: بل هي موضوعة بلا شك. والله ولي التوفيق.(26/229)
104 ـ حديث: صلاة التسبيح.
17 ـ حديث صلاة التسبيح موضوع.
في سنن أبي داود الجزء الثاني ص 29ـ30: باب صلاة التسبيح، وعند ابن ماجه ج1 ص 419.
حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري، ثنا موسى بن عبد العزيز، ثنا الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب: «يا عباس يا عماه ألا أعطيك، ألا أمنحك، ألا أحبوك، ألا أفعل بك، عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر الله لك ذنبك، أوله وآخره، قديمه وحديثه، خطأه وعمده، صغيره وكبيره، سره وعلانيته، عشر خصال: أن تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة. فإذا فرغت من القراءة في(26/229)
أول ركعة وأنت قائم قلت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله وأكبر خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشرا، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشرا، ثم تهوي ساجدا فتقولها وأنت ساجد عشرا. ثم ترفع رأسك فتقولها عشرا، ثم تسجد فتقولها عشرا ثم ترفع راسك من السجود فتقولها عشرا فذلك فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك في أربع ركعات، إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة. فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة. فإن لم تفعل ففي عمرك مرة (1) » . اهـ.
هذا الحديث ذكر ابن الجوزي رحمه الله أنه موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وضعفه الترمذي والعقيلي، وقال الحافظ ابن حجر في التخليص ما نصه: والحق أن طرقه كلها ضعيفة، وإن كان حديث ابن عباس يقرب من شرط الحسن، إلا أنه شاذ لشدة الفردية فيه، وعدم المتابع والشاهد من وجه معتبر. ومخالفة هيئتها لهيئة باقي الصلوات. وموسى بن عبد العزيز وإن كان صادقا صالحا فلا يحتمل فيه هذا التفرد. وقد ضعفها ابن تيمية والمزي. وتوقف الذهبي.
حكاه ابن عبد الهادي عنهم في أحكامه، وقد اختلف كلام
__________
(1) سنن أبو داود كتاب الصلاة (1297) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1387) .(26/230)
الشيخ محيي الدين النووي، فوهاها في شرح المهذب فقال: حديثها ضعيف. وفي استحبابها عندي نظر؛ لأن فيها تغييرا لهيئة الصلاة المعروفة، فينبغي ألا تفعل. ليس حديثها بثابت. انتهى.(26/231)
105 - حديث: كيف أنتم إذا غدي عليكم بجفنة ...
18 ـ حديث: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم إذا غدي عليكم بجفنة، وريح عليكم بأخرى؟ قالوا: يا رسول الله: إنا يومئذ لخير؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنتم اليوم خير (1) » . رواه أبو يعلى وفيه من لم أعرفهم. انظر مجمع الزوائد ج1 ص267.
__________
(1) ذكره الهيثمي في كتابه مجمع الزوائد ج10 ص 237(26/231)
106 ـ حديث: «إذا مشت أمتي المطيطاء»
19 ـ حديث مشي المطيطا..
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم تسلط بعضهم على بعض (1) » رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن.
وفي رواية: «إذا مشت أمتي المطيطياء وخدمها أبناء فارس والروم سلط شرارها على خيارها (2) » حديث حسن. وانظر كتاب إتحاف الجماعة للشيح حمود بن عبد الله التويجري فقد خرجهما مع أحاديث أخرى.
__________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط، ج1 ص 48 برقم 132.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء عن النهي عن سب الريح برقم 2261.(26/232)
107 ـ حديث «سب أصحابي ذنب لا يغفر»
20 ـ حديث: «سب أصحاب ذنب لا يغفر» : لا يصح،(26/232)
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى ج3 ص 290 ما نصه بعد كلام سبق: كما أن طائفة أخرى زعموا أن من سب الصحابة لا يقبل الله توبته وإن تاب ... رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سب أصحابي ذنب لا يغفر» . وهذا الحديث كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب المسلمين المعتمدة، وهو مخالف للقرآن الكريم؛ لأن الله جل وعلا قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) هذا في حق من لم يتب.
وقال في حق التائبين: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (2)
فثبت بالكتاب من الله سبحانه، وبالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل من تاب تاب الله عليه.
ومعلوم أن من سب الرسول من الكفار المحاربين وقال:
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة الزمر الآية 53(26/233)
هو ساحر أو شاعر أو مجنون أو مفتر، وتاب تاب الله عليه، وقد كان طائفة يسبون النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الحرب ثم أسلموا، وحسن إسلامهم، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم منهم.
منهم أبو سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح. انتهى.
ويؤيد ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله أن الشرك هو أعظم الذنوب، ومن تاب منه تاب الله عليه بنص الآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة وإجماع أهل العلم.
وسب الصحابة رضي الله عنهم دون ذلك. فمن تاب منهم توبة نصوحا تاب الله عليه من باب أولى.. والله ولي التوفيق.(26/234)
108 ـ حديث «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»
21 ـ حديث: يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» . هذا كلام ليس بحديث بل هو من كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقيل: من كلام سهل بن عبد الله التستري حسب ما ذكره العجلوني في كشف الخفاء.(26/234)
109 ـ حديث إن الله تعالى لا يقبل صلاه رجل مسبل إزاره
22 ـ الحديث الذي أخرجه أبو داود برقم (638) ج1 ص 172، ورقم (4086) ج4 ص 57 عن موسى بن إسماعيل عن أبان عن يحيى عن أبي جعفر عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بينما رجل يصلي مسبلا إزاره إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فتوضأ. فذهب فتوضأ ثم جاء. فقال له: اذهب فتوضأ. فذهب فتوضأ ثم جاء. فقال له رجل: يا رسول الله ما لك أمرته أن يتوضأ ثم سكت عنه؟! . فقال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله تعالى لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره (1) » .
قال النووي في رياض الصالحين: رواه أبو داود على شرط مسلم.
قلت: هذا وهم من النووي رحمه الله فليس إسناده على شرط مسلم، بل هو ضعيف لعلتين:
إحداهما: أنه من رواية أبي جعفر غير منسوب وهو مجهول.
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (638) .(26/235)
والعلة الثانية: أنه من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي جعفر المذكور بالعنعنة، ويحيى مدلس، والمدلس إذ لم يصرح بالسماع لم يحتج به، إلا ما كان في الصحيحين.
ولو صح فمعناه التغليظ والتشديد، ليحذر العود إلى الإسبال. أما صلاته فصحيحة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمره بإعادتها، وإنما أمره بإعادة الوضوء، ونفي القبول في الصلاة لا يلزم منه بطلان الصلاة في جميع موارده؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة (1) » رواه مسلم في صحيحه.
وقد حكى النووي الإجماع أنه لا يؤمر بالإعادة، وإنما فاته الثواب للزجر والتحذير. وله نظائر في أحاديث أخرى. ويدل على أن نفي القبول في حديث المسبل، لا يلزم منه بطلان الصلاة؛ لأن الرسول صلى الله عليه سلم لم يأمره بالإعادة. وهكذا في حديث ابن مسعود لم يأمره بالإعادة.
فدل ذلك على أن مراده صلى الله عليه وسلم بأمره بإعادة
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان رقم 2230.(26/236)
الوضوء هو الزجر والتحذير.. ولعل وضوءه يخفف عنه الإثم. وهذا كله على تقدير صحة الحديث المذكور.
وقد يستدل بنفي القبول على عدم الصحة، لعدم وجود ما يقتضي خلاف ذلك، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاه أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ (1) » متفق عليه.
وحديث ابن مسعود المشار إليه أنفا خرجه أبو داود برقم (637) ج1 ص 172 بإسناد صحيح، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله في حل ولا حرام (2) » .. ثم ذكر أبو داود رحمه الله أنه رواه جماعة موقوفا على ابن مسعود. انتهى.
وهذا الموقوف له حكم الرفع؛ لأنه لا يقال من جهة الرأي، كما يعلم ذلك من كلام أهل العلم في أصول الفقه.. ومصطلح الحديث.. وبالله التوفيق.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب لا يقبل صلاه بغير طهور برقم 6954، مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة برقم 225.
(2) سنن أبو داود الصلاة (637) .(26/237)
110 ـ حديث:
إن أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش ...
23 ـ حديث: «إن أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش، رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته (1) » أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في المسند مجلد واحد ص 367 من طريق عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف لاختلاطه، فيكون هذا الحديث ضعيفا بهذا السند.
وفي السند أيضا أبو محمد الراوي؛ للحديث المذكور عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصرح بسماعه منه عليه الصلاة والسلام. فيحتمل أن يكون مرسلا، والمرسل لا يحتج به إلا أن يكون له شواهد تدل على صحته أو حسنه، إن لم يثبت سماع أبي محمد المذكور من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر في السند أنه من أصحاب ابن مسعود ... والله ولي التوفيق.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/397) .(26/238)
111 ـ حديث:
تعشوا ولو بكف من حشف ...
24 ـ حديث: «تعشوا ولو بكف من حشف، فإن ترك العشاء مهرمة (1) » خرجه الترمذي في جامعه رحمه الله حيث قال: حدثنا يحيى بن موسى حدثنا محمد بن يعلى الكوفي، حدثنا عنبسة بن عبد الرحمن القرشي، عن عبد الملك بن علاق عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فذكره. ثم قال رحمه الله: هذا حديث منكر لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وعنبسة يضعف في الحديث. وعبد الملك بن علاق مجهول ... انتهى كلامه رحمه الله.
وقال الحافظ في التقريب: محمد بن يعلى السلمي أبو ليلى الكوفي لقبة زنبور، ضعيف من التاسعة.
وقال الحافظ أيضا في عنبسة بن عبد الرحمن المذكور: متروك رماه أبو حاتم بالوضع من الثامنة، وقال الحافظ أيضا في عبد الملك بن علاق المذكور: مجهول من الخامسة.
وبهذا يتضح أن هذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف جدا، ويحتمل أنه موضوع والحمل فيه على عنبسة.
__________
(1) سنن الترمذي الأطعمة (1856) .(26/239)
أما شيخ الإمام الترمذي، وهو يحيى بن موسى فثقة معروف، روى له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي كما في التقريب. وقال العجلوني في كشف الخفاء، بعد ما عزاه للترمذي. وذكر أن فيه ضعيفا ومجهولا ما نصه: " ورواه أبو نعيم عن أنس بلفظ: «لا تدعوا عشاء الليل، ولو بكف من حشف، فإن تركة مهرمة (1) » ورواه ابن ماجه عن جابر مرفوعا بلفظ: «لا تدعوا العشاء ولو بكف من تمر، فإن تركه مهرمة (2) » ورواه في اللآلئ معزوا لابن ماجه عن جابر بلفظ: «لا تتركوا العشاء ولو على كف تمر، فإن تركه يهرم (3) » .
قال: وفي سنده إبراهيم بن عبد السلام ضعيف يسرق الحديث، وقال في المقاصد: وحكم عليه الصنعاني.
__________
(1) سنن ابن ماجه الأطعمة (3355) .
(2) سنن ابن ماجه الأطعمة (3355) .
(3) سنن ابن ماجه الأطعمة (3355) .(26/240)
112 ـ حديث:
اطلبوا العلم ولو في الصين
25 ـ حديث: «اطلبوا العلم ولو في الصين» جمهور أهل العلم بالحديث قد حكموا على هذا الحديث بأنه ضعيف من جميع طرقه، وقد بسط الكلام في ذلك الشيخ إسماعيل بن(26/240)
محمد العجلوني رحمه الله في كتابه (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من لأحاديث على ألسنه الناس) في حرف الهمزة مع الطاء، وعزاه إلى البيهقي والخطيب البغدادي وابن عبد البر والديلمي وغيرهم، عن أنس رضي الله عنه، وجزم بضعفه، ونقل عن الحافظ ابن حبان صاحب الصحيح: أنه باطل، كما نقل عن ابن الجوزي أنه ذكره في موضوعات، ونقل عن المزي أن له طرقا كثيرة، ربما يصل بمجموعها إلى الحسن، وعن الذهبي أنه روي من عده طرق واهية، وبعضها صالح.
وبهذا يتضح لطالب العلم حكم هذا الحديث، وأنه من الأحاديث الضعيفة عند جمهور أهل العلم. وقد حكم عليه ابن حبان بأنه باطل، وابن الجوزي بأنه موضوع.
أما قول الحافظ المزي رحمه الله: إن له طرقا ربما يصل بمجموعها إلى الحسن، فليس بجيد في هذا المقام؛ لأن كثرة الطرق المشتملة على الكذابين والمتهمين بالوضع وأشباههم، لا ترفع الحديث إلى الحسن.
وأما قول الحافظ الذهبي رحمه الله: إن بعض طرقه صالح، فيحتاج إلى بيان هذا الطريق الصالح حتى ينظر في رجاله، والجرح في هذا المقام مقدم على التعديل، والتضعيف(26/241)
مقدم على التصحيح، حتى يتضح من الأسانيد وجه التصحيح، وذلك بأن يكون الرواة كلهم عدولا ضابطين، مع اتصال السند وعدم الشذوذ، والعلة القادحة. كما نبه عليه أهل العلم في كتب المصطلح والأصول. ولو صح لم يكن فيه حجة على فضل الصين وأهلها؛ لأن المقصود من هذا اللفظ: «اطلبوا العلم ولو بالصين» ولو صح: الحث على طلب العلم ولو بعد المكان غاية البعد؛ لأن طلب العلم من أهم المهمات؛ لما يترتب عليه من صلاح أمر الدنيا والآخرة، في حق من عمل به، وليس المقصود ذات الصين.
ولكن لما كانت الصين بعيدة بالنسبة إلى أرض العرب، مثل بها النبي صلى الله عليه وسلم لو صح الخبر. وهذا بين واضح لمن تأمل المقام.. والله ولي التوفيق.(26/242)
113 ـ حديث: إذا فعلت أمتي
خمس عشرة خصلة حل بها البلاء
26 ـ روى الترمذي في آخر جامعه في كتاب الفتن، عن علي رضي الله عنه ما نصه: حدثنا صالح بن عبد الله الترمذي حدثنا الفرج بن فضالة: أبو فضلة الشامي عن يحيى بن سعيد، عن(26/242)
محمد بن عمر بن علي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة، حل بها البلاء. فقيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: إذا كان المغنم دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وبر صديقه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور، ولبس الحرير، واتخذت القينات والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء أو خسفا ومسخا (1) » قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث علي بن أبي طالب، إلا من هذا الوجه، ولا نعلم أحدا رواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري غير الفرج بن فضالة، والفرج بن فضالة قد تكلم فيه بعض أهل الحديث وضعفه من قبل حفظه، وقد رواه عنه وكيع وغير واحد من الأئمة.. اهـ.
وهو بهذا السند ضعيف لعلتين: إحداهما: ضعف فرج المذكور كما ذكر المؤلف، وقد جزم الحافظ في التقريب بضعفه، ونقل في تهذيب التهذيب ضعفه
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف برقم 2210.(26/243)
عن جماعة من الأئمة، ونقل عن البرقاني أنه سأل الدارقطني رحمه الله عن حديثه هذا، فقال: باطل.
والعلة الثانية: انقطاعه؛ لأن محمد بن عمر بن علي رحمه الله لم يسمع من جده علي رضي الله عنه، ولم يدرك زمانه كما يعلم ذلك من تهذيب التهذيب والتقريب. والله ولي التوفيق.(26/244)
114 ـ حديث: إذا اتخذ الفيء
دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما ...
27 ـ وقد أخرجه الترمذي رحمه الله من طريق أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه حيث قال في جامعه بعد روايته حديث علي المذكور: حدثنا علي بن حجر، حدثنا محمد بن يزيد الواسطي، عن المستلم بن سعيد، عن رميح الجذامي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله وسلم: «إذا اتخذ الفيء دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته، وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد،(26/244)
وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها. فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع (1) » قال أبو عيسى: وفي الباب عن علي، وهذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. انتهى كلامه رحمه الله. ومراده بقوله: وفي الباب عن علي هو الحديث السابق.
وهذا الحديث أعني حديث أبي هريرة ضعيف جدا؛ لأن رميحا الجذامي مجهول، كما في التقريب وتهذيب التهذيب، ويقال له: الحزامي بالميم المهمله، والزاي، ولا يتوجه الحكم على الحديث بالحسن لغيره؛ لكونه جاء من طريقين؛ لأن ضعف كل واحد منهما شديد فلا يصلح الحكم على متنهما بالحسن؛ لما عرف في الأصول وعلم مصطلح الحديث؛ ولهذا لم يحسن الترمذي واحدا منهما للعلة المذكورة والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2211) .(26/245)
115 ـ حديث: «السخي قريب من الله قريب من الجنة (1) » ...
28 ـ روى الترمذي: حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا سعيد بن محمد الوراق، عن يحيى بن سعيد عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السخي قريب من الله، قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد من النار. والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار. ولجاهل سخي أحب إلى الله تعالى من عابد بخيل (2) » .
قلت: ذكر الحافظ في التقريب ضعف سعيد المذكور، ونقل في تهذيب التهذيب من أئمة الحديث تضعيف سعيد المذكور، وعن الدارقطني أنه متروك، وشذ ابن حبان فذكره في الثقات، وهو متساهل فلا يعول على توثيقه.
__________
(1) سنن الترمذي البر والصلة (1961) .
(2) سنن الترمذي البر والصلة (1961) .(26/246)
116 ـ حديث من دخل السوق فقال:
لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك ...
29 ـ خرج الترمذي في جامعه ج9 ص 386 في الطبعة المصرية طبعة المكتبة السلفية في المدينة رقم الحديث (3488، 3489) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحي عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة (1) » ، وقال: هذا حديث غريب. وقد روى عمرو بن دينار وهو قهرمان آل الزبير عن سالم بن عبد الله هذا الحديث نحوه، ثم ساقه مسنده مثل الأول، لكن قال فيه بدل «ورفع له ألف ألف درجة (2) » ما نصه: «وبنى له بيتا في الجنة (3) » وهذا الحديث ضعيف من الطريقين جميعا؛ أما الطريق الأول ففيه أزهر بن سنان وهو ضعيف، كما في التقريب، ورمز له بعلامة الترمذي، وقال في تهذيب التهذيب
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا دخل السوق برقم 3428.
(2) سنن الترمذي الدعوات (3428) ، سنن الدارمي الاستئذان (2692) .
(3) سنن الترمذي الدعوات (3429) ، سنن ابن ماجه التجارات (2235) ، مسند أحمد بن حنبل (1/47) .(26/247)
عن ابن معين: ليس بشيء، ونقل عن أبي غالب الأزدي عن علي بن المديني أنه ضعفه جدا بسبب حديثه هذا، ونقل عن الساجي أن فيه ضعفا، وعن ابن شاهين أنه ذكره في الضعفاء، ونقل عن المروذي عن أحمد أنه لينه، وذكر أنه روى حديثا منكرا في الطلاق، أما ابن عدي فنقل عنه الحافظ في تهذيب التهذيب ما نصه: أحاديثه صالحه ليست بالمنكرة جدا، وأرجو أن لا يكون به بأس. اهـ.
وبما ذكرنا يعلم أن غالب الأئمة ضعفوه، والقاعدة أن الجرح مقدم على التعديل، وفي هذا السند علة أخرى، وهي أن أزهر رواه عن محمد بن واسع، وفي سماعه منه نظر، كما يعلم ذلك من تهذيب التهذيب.
أما السند الثاني ففيه عمرو بن دينار البصري قهرمان آل الزبير، وهو ضعيف جدا وهو أضعف من أزهر المذكور، وقد ذكر الحافظ في تهذيب التهذيب ما يدل على إجماع أئمة الحديث على ضعفه، وقد جزم في التقريب بضعفه، ورمز له بعلامة الترمذي وابن ماجه؛ وبذلك يعلم ضعف هذا الحديث من الطريقين جميعا، ومما يقوي ضعفه غرابة متنه ونكارته؛ لأن من قواعد أئمة الحديث أن الثواب العظيم على العمل اليسير يدل على ضعف الحديث، ولا شك أن ما ذكر في المتن غريب جدا من حيث الكمية فيما يعطى من الحسنات(26/248)
ويمحى من السيئات ويرفع من الدرجات، ولكن هذا التضعيف والنكارة في المتن لا يمنع من شرعية الذكر في الأسواق؛ لأنها محل غفلة فالذكر فيها له فضل عظيم، وفيه تنبيه للغافلين ليتأسو بالذاكر فيذكروا الله. والله ولي التوفيق.(26/249)
117 ـ حديث: من اغتسل
يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام ...
جميع الأحاديث الواردة في الاغتسال يوم عاشوراء والكحل والخضاب وغير ذلك مما يفعله أهل السنة يوم عاشوراء ضد الشيعة فهو موضوع ما عدا الصيام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى ج4 ص513 ما نصه: (وقوم من المتسننة رووا ورويت لهم أحاديث موضوعة بنوا عليها ما جعلوه شعارا في هذا اليوم - يعني يوم عاشوراء - يعارضون به شعار ذلك القوم -يعني الرافضة - فقابلوا باطلا بباطل وردوا بدعة ببدعة، وإن كانت إحداهما -يعني بدعة الرافضة - أعظم في الفساد وأعون لأهل الإلحاد مثل: الحديث الطويل الذي روي فيه: «من اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام، ومن اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد(26/249)
ذلك العام» وأمثال ذلك من الخضاب يوم عاشوراء والمصافحة فيه ونحو ذلك، فإن هذا الحديث ونحوه كذب مختلق باتفاق من يعرف علم الحديث، وإن كان قد ذكره بعض أهل الحديث، وقال: إنه صحيح وإسناده على شرط الصحيح، فهذا من الغلط الذي لا ريب فيه كما هو مبين في غير هذا الموضع، ولم يستحب أحد من أئمة المسلمين الاغتسال يوم عاشوراء ولا الكحل فيه والخضاب وأمثال ذلك ولا ذكره أحد من علماء المسلمين الذين يقتدى بهم ويرجع إليهم في معرفة ما أمر الله به ونهى عنه، ولا فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله عنهم، ولا ذكر مثل هذا الحديث في شيء من الدواوين التي صنفها علماء الحديث لا في المسندات كمسند أحمد وإسحاق وأحمد بن منيع الحميدي والدالاني (1) وأبي يعلى الموصلي وأمثالها، ولا في المصنفات على الأبواب كالصحاح والسنن، ولا في الكتب المصنفة الجامعة للمسند والآثار مثل موطأ مالك ووكيع وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأمثالها
__________
(1) كذا في الأصل ولعله الدولابي.(26/250)
انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه (لطائف المعارف) عند الكلام على صوم عاشوراء ما نصه:
وكل ما روي في فضل الاكتحال في يوم عاشوراء والاختضاب والاغتسال فيه فموضوع لا يصح، وأما الصدقة فيه فقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «من صام عاشوراء فكأنما صام السنة، ومن تصدق فيه كان كصدقة السنة» أخرجه أبو موسى المديني.
وأما التوسعة فيه على العيال، فقال حرب: سألت أحمد عن الحديث الذي جاء «من وسع على أهله يوم عاشوراء» فلم يره شيئا. وقال ابن منصور: قلت لأحمد: هل سمعت في الحديث «من وسع على أهله يوم عاشوراء أوسع الله عليه سائر السنة» فقال: نعم. رواه سفيان بن عينية عن جعفر الأحمر، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، وكان من أفضل أهل زمانه أنه بلغه أنه «من وسع على عياله يوم عاشوراء أوسع الله عليه سائر السنة» قال ابن عينية جربناه منذ خمسين سنة أو ستين سنة فما رأينا إلا خيرا، وقول حرب: إن أحمد لم يره شيئا إنما أراد به الحديث الذي يروى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا(26/251)
يصح إسناده.
وقد روي من وجوه متعددة لا يصح منها شيء، وممن روى ذلك محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وقال العقيلي: هو غير محفوظ، وقد روي عن عمر من قوله وفي إسناده مجهول لا يعرف، وأما اتخاذه مأتما كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين رضي الله عنه فيه، فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا، وهو يحسب أنه يحسن صنعا، ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتما فكيف بمن دونهم ... اهـ. كلامه رحمه الله.
وبما ذكرنا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن رجب رحمهما الله يعلم أن الأحاديث الواردة في تخصيص يوم عاشوراء بالاكتحال أو الاغتسال أو الاختضاب موضوعة، وهكذا أحاديث التوسعة على العيال كلها غير صحيحة، وأما ما نقله إبراهيم بن محمد المنتشر وهو من صغار التابعين عن غيره ولم يسمه، وهكذا عمل سفيان بن عينية الإمام المشهور فلا يجوز الاحتجاج بذلك على شرعية التوسعة على العيال؛ لأن الحجة في الكتاب والسنة لا في عمل التابعين ومن بعدهم؛ وبذلك يعتبر أمر التوسعة على العيال يوم عاشوراء بدعة غير مشروعة؛ لقول(26/252)
النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » خرجه مسلم في صحيحه وعلقه البخاري جازما به، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.
وأما الصدقة فيه: ففيها حديث عبد الله بن عمرو المذكور آنفا في كلام الحافظ ابن رجب وهو موقوف عليه، رواه عنه أبو موسى المديني، ولم يتكلم الحافظ ابن رجب رحمه الله على سنده والغالب على أفراد أبي موسى المديني الضعف وعدم الصحة فلا يشرع الأخذ به إلا بعد صحة سنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ومتى صح عنه وهو حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال من جهة الرأي. وأما اتخاذ يوم عاشوراء مأتما فهو من البدع المنكرة التي أحدثها الرافضة، وخالفوا بها أهل السنة والجماعة، وما درج عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز التشبه بهم في ذلك والله المستعان.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم 1718.
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(26/253)
118 ـ حديث: من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ...
31 ـ حديث «من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي (1) » خرجه الإمام أحمد في مسند عثمان رقم (519) بتحقيق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله. قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد، وجدت في كتاب أبي حدثنا محمد بن بشر حدثني عبد الله بن عبد الله بن الأسود عن حصين بن عمر عن مخارق بن عبد الله بن جابر الأحمسي عن طارق بن شهاب عن عثمان بن عفان مرفوعا فذكره.
ورواه الترمذي في المناقب في فضل العرب ج10 ص 429 الطبعة المصرية بشرح تحفة الأحوذي من طريق حصين المذكور، وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حصين بن عمر الأحمس عن مخارق وليس حصين عند أهل الحديث بذاك القوي ... اهـ.
وقال العلامة أحمد شاكر رحمه الله في حاشيته على هذا الحديث: إسناده ضعيف، وحصين بن عمر الأحمس ضعيف جدا رماه أحمد بالكذب، وقال البخاري والساجي وأبو زرعة
__________
(1) سنن الترمذي المناقب (3928) ، مسند أحمد بن حنبل (1/72) .(26/254)
منكر الحديث. اهـ. ملخصا.
وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب تضعيفه عن جماعة من أئمة الحديث، وبعضهم رماه بالكذب، وشذ العجلي فوثقه وقال الحافظ في التقريب: متروك من الثامنة؛ وبذلك يعلم أن هذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف جدا أو موضوع. والله ولي التوفيق.(26/255)
119 ـ حديث: «الصبحة تمنع الرزق (1) »
32 ـ حديث «الصبحة تمنع الرزق (2) » ضعيف خرجه عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند عثمان رقم (530) بتحقيق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله وهذا سنده: قال عبد الله بن أحمد حدثنا أبو إبراهيم الترجماني حدثنا إسماعيل بن عياش عن ابن أبي فروة عن محمد بن يوسف عن عمرو بن عثمان بن عفان عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصبحة تمنع الرزق (3) » .
ثم رواه عبد الله بسند آخر رقم (533) وهذه نصه: قال عبد الله بن أحمد: حدثني يحيى بن عثمان يعني الحربي أبو زكريا
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/73) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/73) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/73) .(26/255)
حدثنا إسماعيل بن عياش عن رجل قد سماه عن محمد بن يوسف عن عمرو بن عثمان بن عفان عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصبحة تمنع الرزق (1) » .
قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تحت السند الأول: إسناده ضعيف جدا، ابن أبي فروة إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة قال البخاري في التاريخ الكبير 1\1\396 " مديني تركوه " ثم قال: نهى ابن حنبل عن حديثه، وفي التهذيب عن أحمد لا تحل عندي الرواية عنه، ورماه بعضهم بالكذب، واتهمه أهل المدينة في دينه، وقال ابن معين: بنو أبي الصاد وضمها نوم الغداة، وفي اللسان: وفي الحديث أنه نهى عن الصبحة، وهي النوم أول النهار؛ لأنه وقت الذكر، ثم وقت طلب الكسب. وقال الشيخ أحمد شاكر أيضا: والحديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير رقم (5129) ونسبه أيضا لابن عدي في الكامل، والبيهقي في الشعب أيضا من حديث أنس، ورمز له بالصحة وهو خطأ؛ لأن أسانيده تدور على ابن أبي فروة؛ وبذلك تعقبه المناوي في الشرح الكبير ج4 ص 232، وقد استدركه قاضي الملك المدراسي في ذيل القول المسدد (65\67) وأطال القول فيه
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/73) .(26/256)
وتكلف في بعض ما قال، حتى لقد قال في ابن أبي فروة تكلموا فيه لكن لم يتهم بالكذب، وهذا غير جيد، فإن إسحاق اتهم بالكذب، كما نقلناه آنفا. ثم قال الشيخ أحمد تحت السند الثاني (533) إسناده ضعيف جدا وهو مكرر (530) ، وقد سبق الكلام عليه مفصلا، وقد زاده ضعفا إبهام الرجل الذي روى عنه إسماعيل بن عياش، وهو إسحاق بن أبي فروة وهو علة الحديث.. اهـ.
المقصود من كلام الشيخ أحمد شاكر رحمه الله، والأمر كما قال فالحديث المذكور ضعيف جدا، من الطريقتين جميعا، وقد جزم الحافظ في التقريب بأن إسحاق المذكور متروك الحديث، وذلك يدل على اقتناعه رحمه الله بأنه متهم بالكذب، ويزيده ضعفا أنه من رواية إسماعيل بن عياش عن إسحاق المذكور وهو مدني، ورواية إسماعيل المذكور عن غير الشاميين ضعيفة لا يحتج بها، كما يعلم ذلك من التهذيب والتقريب وغيرهما. والله ولي التوفيق.(26/257)
120 ـ حديث: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا (1) »
33 ـ روى عبد الله ابن الإمام أحمد أنه وجد بخط أبيه، وأبو داود وابن ماجه والنسائي في عمل اليوم والليلة، عن الوليد بن مسلم قال: أخبرني الحكم بن مصعب المخزومي أنه سمع محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب (2) » .
وأخرجه الحاكم من طريق الوليد المذكور عن الحكم بن مصعب المذكور قال أبو حاتم الرازي: الحكم مجهول وتناقض ابن حبان رحمه الله فذكره في الثقات والضعفاء، وجزم الحافظ في التقريب، قاله أبو حاتم، فقال فيه ما نصه: الحكم بن مصعب المخزومي الدمشقي مجهول من السابعة، ورمز له بعلامة أبي داود والنسائي وابن ماجه، أما الحاكم فصححه، واعترض عليه الذهبي بقوله: الحكم فيه جهالة، وذكره البخاري في التاريخ الكبير، وذكر أنه روى عن محمد بن علي، وروى عنه الوليد بن مسلم، وسكت فلم يوثقه ولم يجرحه، وجزم الشيخ العلامة أحمد شاكر في
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (1518) ، سنن ابن ماجه الأدب (3819) .
(2) سنن أبو داود الصلاة (1518) ، سنن ابن ماجه الأدب (3819) .(26/258)
حاشيته على المسند بأنه صحيح بناء على سكوت البخاري عنه، وهو دليل عند الشيخ أحمد على ثقته عند البخاري، وهذا فيه نظر إلا أن يثبت بالنص أو الاستقراء ما يدل على أن البخاري أراد ذلك، ومن تأمل حاشية العلامة أحمد شاكر اتضح له منها تساهله في التصحيح لكثير من الأسانيد التي فيها بعض الضعفاء كابن لهيعة وعلي بن زيد بن جدعان وأمثالهما، والله يغفر له ويشكر له سعيه، ويتجاوز له عما زل به قلمه أو أخطأ فيه اجتهاده إنه سميع قريب.
وعلى كل حال فالحديث المذكور يصلح ذكره في الترغيب والترهيب؛ لكثرة شواهده الدالة على فضل الاستغفار، ولأن أكثر أئمة الحديث قد سهلوا في رواية الضعيف في باب الترغيب والترهيب لكن يروى بصيغة التمريض كيروى، ويذكر، ونحوهما لا بصيغة الجزم، قال الحافظ العراقي في ألفيته، رحمه الله:
وإن ترد نقلا لواه أو لما ... يشك فيه لا بإسنادهما
فأت بتمريض كيروى واجزم ... بنقل ما صح كقال فاعلم
وسهلوا في غير موضوع رووا ... من غير تبيين لضعف ورأوا
بيانه في الحكم والعقائد ... عن ابن مهدي وغير واحد
تكميل: وقع في بعض روايات هذا الحديث (من لزم الاستغفار، وفي بعضها من أكثر الاستغفار) والمعنى متقارب.(26/259)
121 ـ حديث: «يا علي أسبغ الوضوء وإن شق عليك ولا تأكل الصدقة (1) » . . .
34 ـ روى الإمام الحافظ عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه عفا الله عنهما عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له: «يا علي أسبغ الوضوء وإن شق عليك، ولا تأكل الصدقة، ولا تنز الحمير على الخيل، ولا تجالس أصحاب النجوم (2) » اهـ. ج2 ص 28 رقم (582) وهذا سنده، قال عبد الله ابن الإمام أحمد حدثني محمد بن أبي بكر المقدسي حدثنا هارون بن مسلم حدثنا القاسم بن عبد الرحمن عن محمد بن علي عن أبيه عن علي فذكره: قال الشيخ العلامة أحمد شاكر في تعليقه عليه: إسناده ضعيف؛ لأن علي بن الحسين لم يدرك جده عليا رضي الله عنه. وهو كما قال، وفي سنده أيضا هارون بن مسلم قال فيه أبو حاتم. فيه لين ويعرف هارون المذكور بصاحب الحناء، ووثقه الحاكم وابن حبان كما في تهذيب التهذيب لكن لمتنه شواهد تدل على صحته.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/78) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/78) .(26/260)
122 ـ حديث: «إذا أكل أحدكم طعاما فليقل: اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه (1) » . . .
35 ـ روى أبو داود قال: حدثنا مسدد قال أخبرنا حماد، يعني ابن زيد، وحدثنا موسى بن إسماعيل قال: أخبرنا حماد - يعني ابن سلمة - عن علي بن زيد عن عمر بن حرملة «عن ابن عباس قال: كنت في بيت ميمونة، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه خالد بن الوليد فجاءوا بضبين مشويين على ثمامتين فنتبزق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال خالد: إخالك تقذره يا رسول الله. قال: أجل، ثم أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن فشرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أكل أحدكم طعاما فليقل: اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه، وإذا سقي لبنا فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء يجزي من الطعام والشراب إلا اللبن (2) » قال أبو داود: هذا لفظ مسدد.
وهذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف من أجل علي بن زيد بن جدعان؛ لأنه ضعيف عند جمهور أهل العلم. قال الحافظ في التقريب: ضعيف في الرابعة.
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3455) ، سنن ابن ماجه الأطعمة (3322) .
(2) سنن الترمذي الدعوات (3455) ، سنن أبو داود الأشربة (3730) ، مسند أحمد بن حنبل (1/225) .(26/261)
وقال في تهذيب التهذيب عن ابن سعد: فيه ضعف ولا يحتج به. وعن صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه: ليس بالقوي.
وعن حنبل عن أحمد: ضعيف الحديث.
وعن معاوية بن صالح عن يحيى: ضعيف. وعن عثمان الدارمي عن يحيى: ليس بذلك القوي.
وعن ابن أبي خيثمة عن يحيى: ضعيف في كل شيء.
وفي رواية أخرى عنه: ليس بذاك، وفي رواية الدوري: ليس بحجة وقال مرة: ليس بشيء، وعن الجوزجاني: واهي الحديث ضعيف، وفيه ميل عن القصد لا يحتج به.
وعن أبي زرعة: ليس بقوي. وعن أبي حازم ليس بقوي يكتب حديثه ولا يحتج به، وعن النسائي: ضعيف، وعن ابن خزيمة: لا أحتج به لسوء حفظه، وعن ابن عدي لم أر أحدا من البصريين وغيرهم امتنع من الرواية عنه، وكان يغلو في التشيع ومع ضعفه يكتب حديثه.
وعن الحاكم أبي أحمد: ليس بالمتين عندهم. ونقل عن آخرين غير هؤلاء تضعيفه، ونقل عن جماعة قليلة توثيقه، والصواب أنه ضعيف كما قال الأكثر؛ لأن الجرح(26/262)
مقدم على التعديل عند أهل الحديث.
فإن كان الجرح من الأكثر تأكد ذلك وتعين، ولم يلتفت إلى التوثيق. ومن تأمل رواياته عرف ضعفه وسوء حفظه.
وفي سند الحديث علة أخرى؛ وهي أنه من رواية علي المذكور عن عمر بن حرملة، وعمر هذا مجهول كما في التقريب.
وقال الحافظ في تهذيب التهذيب قال أبو زرعة: لا أعرفه إلا في هذا الحديث، يعني حديث الضب وهو الحديث المذكور هنا. ونقل الحافظ عن ابن حبان تويثقه.
وجزم الحافظ رحمه الله في التقريب بأنه مجهول يدل على عدم التفاته لتويثق ابن حيان، والله ولي التوفيق.(26/263)
123 ـ حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة
36 ـ حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة ضعيف أو موضوع.
قال النووي رحمه الله في شرح المهذب ج8 ص 330 ما نصه: وأما الحديث الذي ذكره في عق النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه فرواه البيهقي بإسناده عن عبد الله بن محرر بالحاء المهملة والراء المكررة عن قتادة عن أنس بأن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة وهذا حديث باطل.
قال البيهقي: هو حديث منكر. وروى البيهقي بإسناده عن عبد الرزاق، قال: إنما تركوا عبد الله بن محرر بسبب هذا الحديث. قال البيهقي: وقد روي هذا الحديث من وجه آخر عن قتادة، ومن وجه آخر عن أنس ليس بشيء فهو حديث باطل وعبد الله بن محرر ضعيف متفق على ضعفه، قال الحافظ: هو متروك، والله تعالى أعلم.
وقال ابن قدامة في المغني ج8 ص 646 ما نصه: وإن لم يعق عنه أصلا فبلغ الغلام وكسب فلا عقيقة عليه، وسئل أحمد عن هذه المسألة، فقال: ذلك على الوالد؛ يعني لا(26/264)
يعق عن نفسه؛ لأن السنة في حق غيره. وقال عطاء والحسن: يعق عن نفسه؛ لأنها مشروعة عنه ولأنه مرتهن بها فينبغي أن يشرع له فكاك نفسه، ولنا أنها مشروعة في حق الوالد فلا يفعلها غيره، كالأجنبي كصدقة الفطر. اهـ.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في (تحفة المودود في أحكام المولود) ما نصه: (الفصل التاسع عشر: حكم من لم يعق عنه أبواه هل يعق عن نفسه إذا بلغ، قال الخلال: باب ما يستحب لمن لم يعق عنه صغيرا أن يعق عن نفسه كبيرا، ثم ذكر من مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي قال: سألت أحمد عن الرجل يخبره والده أنه لم يعق عنه، هل يعق عن نفسه؟ قال: ذلك على الأب.
ومن مسائل الميموني قال: قلت لأبي عبد الله: إن لم يعق عنه هل يعق عنه كبيرا؟ فذكر شيئا يروى عن الكبير ضعفه، ورأيته يستحسن إن لم يعق عنه صغيرا أن يعق عنه كبيرا. وقال: إن فعله إنسان لم أكرهه، قال: وأخبرني عبد الملك في موضع آخر أنه قال لأبي عبد الله: فيعق عنه كبيرا، قال: لم أسمع في الكبير شيئا، قلت: أبوه معسر ثم أيسر فأراد ألا يدع ابنه حتى يعق عنه، قال: لا أدري ولم أسمع في الكبير شيئا، ثم قال لي: ومن فعله فحسن(26/265)
ومن الناس من يوجبه.
والقول الأول أظهر وهو أنه يستحب أن يعق عن نفسه؛ لأن العقيقة سنة مؤكدة، وقد تركها والده فشرع له أن يقوم بها إذا استطاع؛ ذلك لعموم الأحاديث ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: «كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى (1) » أخرجه الإمام أحمد، وأصحاب السنن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه بإسناد صحيح، ومنها: حديث أم كرز الكعبية عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه أمر أن يعق عن الغلام بشاتين وعن الأنثى شاة (2) » أخرجه الخمسة، وخرج الترمذي وصحح مثله عن عائشة، وهذا لم يوجه إلى الأب فيعم
__________
(1) أخرجه أحمد في أول مسند البصريين، ومن حديث سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم برقم 19676، والترمذي في كتاب الأضاحي، باب العقيقة بشاة برقم 1522، وابن ماجه في كتاب الذبائح، باب العقيقة برقم 3165.
(2) أخرجه أحمد في باقي مسند الأنصار، باقي المسند السابق برقم 25603 والترمذي في كتاب الأضاحي، باب ما جاء في العقيقة برقم 1516 وأبو داود في كتاب الضحايا، باب في العقيقة برقم 2834، وابن ماجه في كتاب الذبائح، باب في العقيقة برقم 3163.(26/266)
الولد والأم وغيرهما من أقارب المولود. قال الحافظ في التقريب: بمهملات، الجزري: القاضي متروك الحديث من السابعة.
ويتلخص من ذلك أقوال ثلاثة:
أحدها: أنه يستحب أن يعق عن نفسه؛ لأن العقيقة مؤكدة وهو مرتهن بها.
الثاني: لا عقيقة عليه ولا يشرع له العق عن نفسه؛ لأنها سنة في حق أبيه فقط.
الثالث: لا حرج عليه أن يعق عن نفسه وليس ذلك بمستحب؛ لأن الأحاديث إنما جاءت موجهة إلى الوالد، ولكن لا مانع من أن يعق عن نفسه؛ أخذا بالحيطة، ولأنها قربة إلى الله سبحانه وإحسان إلى المولود، وفك لرهانه فكانت مشروعة في حقه وحق أمه عنه وغيرهما من أقاربه. والله ولي التوفيق) .(26/267)
124 ـ حديث: «من عمر ميسرة المسجد كتب له كفلان من الأجر (1) » . . .
37 ـ حديث رقم (993) في سنن ابن ماجه.
حدثنا محمد بن أبي الحسن أبو جعفر قال: حدثنا عمرو ابن عثمان الكلابي قال: حدثنا عبيد الله بن عمرو الرقي عن الليث بن أبي سليم عن نافع «عن ابن عمر قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن ميسرة المسجد تعطلت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من عمر ميسرة المسجد كتب له كفلان من الأجر (2) » .
قال في مصباح الزجاجة: هذا إسناد ضعيف؛ لضعف ليث بن أبي سليم، وهو كما قال من أجل ليث المذكور، وهو مخالف للأحاديث الصحيحة الدالة على فضل ميامن الصفوف. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1007) .
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقام الصلاة، باب فضل ميمنة الصف برقم 1007.(26/268)
125 ـ حديث: «اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك»
38 ـ حديث ابن مسعود «اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك» . لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، نقل الزيلعي في نصب الراية ص 272 ج 4: (عن البيهقي رحمه الله أنه رواه في كتاب الدعوات الكبير، من طريق عامر بن خداش، قال: حدثنا عمر بن هارون البلخي عن ابن جريح عن داود بن أبي عاصم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اثنتا عشر ركعة تصليهن من ليل أو نهار، وتتشهد بين كل ركعتين، فإذا تشهدت في آخر صلاتك فأثن على الله عز وجل، وصل على النبي صلى الله عليه وسلم، واقرأ وأنت ساجد فاتحة الكتاب سبع مرات وآية الكرسي سبع مرات، وقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات، ثم قل: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك واسمك الأعظم وكلماتك التامة، ثم سل حاجتك، ثم ارفع رأسك ثم سلم يمينا وشمالا ولا تعلموها السفهاء فإنهم يدعون بها فيستجاب» .(26/269)
ثم قال: ورواه ابن الجوزي في كتاب الموضوعات من طريق أبي عبد الله الحاكم حدثنا محمد بن القاسم بن عبد الرحمن العتكي، حدثنا محمد بن أشرس، حدثنا عامر بن خداش به سندا ومتنا قال ابن الجوزي: هذا الحديث موضوع بلا شك، وإسناده مخبط كما ترى وفي إسناده عمر بن هارون، قال ابن معين فيه: كذاب، وقال ابن حبان: يروي عن الثقات المعضلات ويدعي شيوخا لم يرهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن القراءة في السجود، انتهى ما ذكره الزيلعي، وما نقله عن ابن الجوزي رحمة الله عليهما جميعا؛ وبذلك يعلم أن الحديث المذكور من الأحاديث الموضوعة، ولفظ (المعاقد) لفظ مجمل ومحتمل، فلا يجوز التوسل به، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ص 50 من القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة: أن أبا حنيفة رحمه الله كره التوسل بمعاقد العز من العرش. انتهى.
وأما التوسل برحمة الله واسمه الأعظم وكلماته التامة فهو توسل شرعي قد دل عليه القرآن الكريم والسنة المطهرة في قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180(26/270)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك (1) » رواه مسلم في صحيحه من حديث خولة بنت حكيم رضي الله عنها.
وهكذا التوسل بتوحيد الله والإيمان به وبالإعمال الصالحات كل ذلك قد جاءت به السنة الصحيحة كحديث أصحاب الغار وهو مخرج في الصحيحين، وكحديث عائشة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في سجوده بقوله: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك (2) » خرجه مسلم في صحيحه. ومن المنكرات في هذا الخبر الموضوع: الأمر بقراءة الفاتحة وآية الكرسي في السجود، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث علي وابن عباس رضي الله عنهما النهي عن ذلك، خرجه مسلم في صحيحه عنهما. والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، برقم 2708.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود برقم 486.(26/271)
126 ـ حديث: «إذا تزوج أحدكم فكان ليلة البناء فليصل ركعتين» . . .
39 ـ حديث سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوج أحدكم فكان ليلة البناء فليصل ركعتين، وليأمرها فلتصل خلفه فإن الله جاعل في البيت خيرا» .
ذكره الحافظ الذهبي في الميزان ص 464 ج1 في ترجمة حجاج بن فروخ الواسطي وقال ما نصه: هذا حديث منكر جدا. وذكر أن ابن معين والنسائي ضعفا حجاجا المذكور انتهى كلام الذهبي.
وقال الحافظ في اللسان ما نصه: قال العقيلي ص 177 ج1 رواه عبد الرزاق عن ابن جريح قال: حدثت أن سلمان قال: فذكر نحوه انتهى المقصود.
قال الحافظ في اللسان أيضا في ترجمة حجاج المذكور بعد كلام العقيلي المذكور آنفا قال أبو حاتم شيخ مجهول، وذكره ابن حبان في الثقات، وذكره الساجي في الضعفاء. وقال ابن الجارود في الضعفاء: ليس بشيء انتهى كلامه؛ وبهذا يعلم ضعف(26/272)
حديث سلمان المذكور؛ لضعف الحجاج، ولجهالة في رواية عبد الرزاق؛ لأن ابن جريح لم يذكر من حدثه، أما توثيق ابن حبان فلا يعول عليه؛ لكونه معروفا بالتساهل في ذلك.(26/273)
127 ـ حديث: «إذا طنت أذن أحدكم فليذكرني» . . .
40 ـ حديث: «إذا طنت أذن أحدكم» . . . .
قال ابن علان في الفتوحات الربانية شرح الأذكار النواوية ج6 ص 198: قال السخاوي في القول البديع: رواه الطبراني وابن عدي وابن السني في اليوم والليلة، والخرائطي في المكارم، وأبو موسى المديني وابن بشكوال، وسنده ضعيف.
وفي رواية بعضهم: «إذا طنت أذن أحدكم فليذكرني، وليصل علي، وليقل: ذكر الله من ذكرني بخير» . قلت: وهي رواية ابن السني. قال السخاوي: وقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه. ومن طريقه أبو اليمن بن عساكر وذلك عجيب؛ لأن إسناده غريب كما صرح به أبو اليمن وغيره.
وفي ثبوته نظر. وقد قال أبو جعفر العقيلي: إنه ليس له(26/273)
أصل.. اهـ.
وأخرجه ابن أبي عاصم أيضا، كما نقله القسطلاني في مسالك الخفاء: قال ابن حجر الهيتمي في الدر المنظور. الحديث أخرجه جميع بسند ضعيف.
وإخراج ابن خزيمة له في صحيحه متعجب منه فإن إسناده غريب، بل قال العقيلي: ليس له أصل. اهـ.(26/274)
128 ـ حديث: «أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر ... في الصلاة (1) »
41 ـ حديث: «أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن شماله في الصلاة (2) » (3) أخرجه أبو داود في الصلاة في باب الرجل يتطوع في مكانه الذي صلى فيه وهذا سنده ج1 ص 264.
حدثنا مسدد أخبرنا حماد وعبد الوارث عن ليث عن الحجاج بن عبيد عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي هريرة
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (1006) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1427) ، مسند أحمد بن حنبل (2/425) .
(2) سنن أبو داود الصلاة (1006) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1427) ، مسند أحمد بن حنبل (2/425) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الرجل يتطوع في مكانه الذي صلى فيه المكتوبة برقم 1006.(26/274)
رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث. وهذا الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده الحجاج بن عبيد مجهول كما في التقريب، وقال أبو حاتم: مجهول. وفي إسناده أيضا إبراهيم بن إسماعيل وهو أيضا مجهول الحال، كما في التقريب؛ وبهذا يتضح ضعف الحديث المذكور.(26/275)
129 ـ حديث: «إن حسنات الصبي لوالديه أو أحدهما»
42 ـ ذكر ابن مفلح في الفروع ج1 ص 291 ما نصه: ولأحمد وغيره بإسناد ضعيف عن أنس مرفوعا: «إن حسنات الصبي لوالديه أو أحدهما» . وذكره ابن الجوزي في الموضوعات.(26/275)
130 ـ حديث: «عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين وختنهما (1) » . . .
43 ـ نقلا عن البيهقي: ج8 ص 324. كتاب الأشربة والحد فيها باب السلطان يكره على الاختتان أو الصبي. وسيد المملوك يأمران به وما ورد في الختان:
أخبرنا أبو سعيد الماليني أنبأنا أبو أحمد بن عدي الحافظ حدثنا الحسن بن سفيان حدثني محمد بن المتوكل حدثنا الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد المكي عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: «عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين وختنهما لسبعة أيام (2) » . اهـ.
هذا السند ضعيف لأمرين: أحدهما: أنه من رواية الشاميين عن زهير هذا، وروايتهم عنه غير مستقيمة، كما في التقريب.
والثاني: عنعنة الوليد وهو كثير التدليس والتسوية. وفيه علة ثالثة وهي: أن محمد بن المتوكل الراوي عن الوليد ذو أوهام كثيرة فيخشى أن هذا منها.
__________
(1) سنن النسائي العقيقة (4213) ، مسند أحمد بن حنبل (5/361) .
(2) سنن النسائي العقيقة (4213) ، مسند أحمد بن حنبل (5/361) .(26/276)
وفيه علة رابعة وهي: أن الختان في السابع غير معروف في شيء من الأحاديث الصحيحة المروية في شأن الحسن والحسين والعقيقة عنهما ولا في غير ذلك فيما نعلم، وإنما المعروف في السنة الختان بعد الكبر على عادة العرب، كما قال ابن عباس لما سئل عن سنه حين مات النبي صلى الله عليه وسلم قال: توفي رسول الله وأنا مختون، وكانت سنه إذ ذاك حول الاحتلام.(26/277)
131 ـ حديث عائشة رضي الله عنها أنها أمت نسوة في المكتوبة فقامت بينهن
44 ـ روي عن عائشة أنها أمت نسوة في المكتوبة فقامت بينهن وسطا.
قلت: أخرجه الحاكم في المستدرك عن عبد الله بن إدريس عن ليث عن عطاء عن عائشة أنها كانت تؤذن وتقيم وتؤم النساء فتقوم وسطهن. انتهى، وسكت عنه.
انظر نصب الراية ج2 ص 30 قلت: هذا السند ضعيف؛ لأن فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. ولأن ذكر الأذان فيه منكر؛ لأنه ليس للنساء أن يؤذن، ولا أن يقمن، وإنما ذلك من(26/277)
خصائص الرجال.
ولهذا لم تذكر هذه الزيادة في الروايات الأخرى التي ذكرها المؤلف ولا الروايات التي ذكرها الحافظ في التلخيص. والله ولي التوفيق.(26/278)
132 ـ حديث «صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عند قبر الخليل وقبر موسى عليهما السلام»
45 ـ حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المدينة وعند قبر موسى وعند قبر الخليل في ليلة الإسراء كذب موضوع. ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في 27 من مجموع الفتاوى ص 9. وقد قال ابن كثير في تفسيره في روايته لحديث شداد بن أوس الطويل نقلا عن الترمذي: هكذا رواه البيهقي من طريقين عن أبي إسماعيل الترمذي، ثم بعد تمامه قال: هذا إسناد صحيح ولم يأت فيه أنه صلى عند قبر موسى بل جاء فيه، ثم بلغنا أرضا قال: انزل ثم قال: صل فصليت ثم ركبنا فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت بمدين عند شجرة موسى، ثم انطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها، ثم بلغنا أرضا بدت لنا(26/278)
قصورا فقال: انزل. فنزلت، فقال: صل، فصليت، ثم ركبنا، فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت ببطن لحم حيث ولد عيسى المسيح ابن مريم، ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني، فأتى قبلة المسجد فربط فيه دابته، ودخلنا المسجد من باب تميل فيه الشمس والقمر، فصليت من المسجد حيث شاء الله الحديث ... تفسير ابن كثير ج3 ص 14.(26/279)
133 ـ حديث: «كان الله ولم يكن شيء غيره (1) »
46 ـ حديث: «كان الله ولم يكن شيء غيره (2) » حديث صحيح رواه البخاري رحمه الله.
أخرجه البخاري رحمه الله في كتاب (بدء الخلق ص 286 ج6) في الفتح بلفظ: «كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض (3) » وأخرجه البخاري رحمه في (كتاب التوحيد ص 403 ج13) في الفتح بلفظ: «كان الله ولم يكن شيء قلبه وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3192) .
(2) صحيح البخاري بدء الخلق (3192) .
(3) صحيح البخاري بدء الخلق (3192) .(26/279)
وكتب في الذكر كل شيء (1) » وأما الزيادة التي زادها بعض الملحدين في هذا الحديث وهي «وهو الآن على ما عليه كان» فهي زيادة باطلة موضوعة لا أصل لها لا في شيء من الروايات نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى ج2 ص 272. قال رحمه الله: وهذه الزيادة وهي قوله: «وهو الآن على ما عليه كان» كذب مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتفق أهل العلم على أنه موضوع مختلق، وليس هو في شيء من دواوين الحديث لا كبارها ولا صغارها، ولا رواه أحد من أهل العلم بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مجهول، وإنما تكلم بهذه الكلمة بعض متأخري متكلمة الجهمية، وتلقاها منهم هؤلاء الذين وصلوا إلى آخر التجهم وهو التعطيل والإلحاد، إلى أن قال رحمه الله: وهذه الزيادة الإلحادية وهي قولهم: «وهو الآن على ما عليه كان» قصد بها المتكلمة المتجهمة نفي الصفات التي وصف الله بها نفسه من استوائه على العرش ونزوله إلى السماء الدنيا وغير ذلك..اهـ. المقصود.
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7418) .(26/280)
134 ـ حديث: «من قرأ عشر مرات بنى الله له بيتا في الجنة (2) » . . .
74 ـ حديث: «من قرأ عشر مرات بنى الله له بيتا في الجنة (4) » . ضعيف.
وقد رواه الإمام أحمد وهذا سنده ج3 ص437. حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة قال، وحدثنا يحيى بن غيلان، حدثنا رشدين، حدثنا زبان بن فائد الحبراني عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه معاذ ابن أنس الجهني صاحب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ حتى يختمها عشر مرات بنى الله له قصرا في الجنة فقال عمر بن الخطاب: إذا أستكثر يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكثر وأطيب (6) » . وهذا الإسناد ضعيف لضعف ابن لهيعة ورشدين بن سعد وزبان بن فائد. وقال في مجمع الزوائد ما لفظه ج7 ص145 عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ عشر مرات بنى الله له بيتا في الجنة فقال عمر بن الخطاب: إذا نستكثر
__________
(1) سنن الدارمي فضائل القرآن (3429) .
(2) سورة الإخلاص الآية 1 (1) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
(3) سنن الدارمي فضائل القرآن (3429) .
(4) سورة الإخلاص الآية 1 (3) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
(5) مسند أحمد بن حنبل (3/437) .
(6) سورة الإخلاص الآية 1 (5) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
(7) سنن الدارمي فضائل القرآن (3429) .(26/281)
يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكثر وأطيب (1) » . رواه الطبراني وأحمد وقال: عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل عن أبيه والظاهر أنها سقطت، وفي إسناده رشدين بن سعد وزبان كلاهما ضعيف وفيهما توثيق لين. انتهى.
قلت: والحديث مداره على زبان بن فائد، وقد سبق أنه ضعيف كما في التقريب، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة زبان المذكور: قال أحمد: أحاديثه مناكير، وقال ابن معين: شيخ ضعيف، وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا، يتفرد عن سهل بن معاذ بنسخة عنده مناكير، وقال أبو حاتم: شيخ صالح، وقال: عنده مناكر. انتهى ملخصا.
وبذلك يعلم أن هذا الحديث ضعيف جدا لتضعيف الأئمة المذكورين لزبان، وينبغي أن يعلم أن هذه السورة عظيمة وفضلها كبير، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنها تعدل ثلث القرآن (2) » وصح في فضلها أحاديث كثيرة.
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1 (7) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (812) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2900) ، سنن ابن ماجه الأدب (3787) ، مسند أحمد بن حنبل (2/429) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3432) .(26/282)
135 ـ حديث: «من حج أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت (1) »
48 ـ حديث الحارث بن عبد الله بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حج أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت (2) » ضعيف.
خرجه الإمام أحمد والترمذي بإسناد ضعيف؛ لأن في إسناده عبد الرحمن بن البيلماني وهو ضعيف، كما في التقريب، وقال العلامة المباركفوري في تحفة الأحوذي ج2 ص118 ما نصه: وليست هذه الزيادة بمحفوظة يعني قوله أو أعتمر وهو كما قال، وإنما المحفوظ قوله صلى الله عليه وسلم للحجاج: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (3) » وكانوا يتفرقون في كل وجه، خرجه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وأخرجه الشيخان عنه بلفظ: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم
__________
(1) سنن الترمذي الحج (946) ، سنن أبو داود المناسك (2004) ، مسند أحمد بن حنبل (3/417) .
(2) سنن الترمذي الحج (946) ، سنن أبو داود المناسك (2004) ، مسند أحمد بن حنبل (3/417) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1327.(26/283)
بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (1) » ومن تأمل الأحاديث الواردة في هذا الباب اتضح له أن العمرة لا يجب لها وداع؛ لأنها مشروعة في جميع العام، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر المتمتعين بالعمرة بالوداع، إذا أرادوا الخروج من مكة لما حلقوا صبيحة الرابعة من ذي الحجة في حجة الوداع، وقياس العمرة على الحج ليس بوجيه لعدم مساواة الفرع للأصل.
أما الحديث المذكور فضعيف؛ لأنه من طريق عبد الرحمن بن البيلماني، وهو ضعيف كما سبق عند التقريب. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: قال أبو حاتم: لين وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني: ضعيف لا تقوم به حجة، وقال الأزدي: منكر الحديث يروي عن ابن عمر بواطيل، وقال صالح جزرة: حديثه منكر وبهذا يعلم أن حديثه لا يعول عليه، ولا يحتج به؛ لتضعيف الأئمة المذكورين له. أما توثيق ابن حبان له فلا يعول عليه؛ كما عرف من تساهله رحمه الله؛ ولأن الجرح مقدم على التعديل إذا صدر مبينا من إمام عارف بأسبابه، وإذا كان الجارحون أكثر كما هنا صار الضعف أشد. والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب طواف الوداع برقم 1755، ومسلم في كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1328.(26/284)
136 ـ حديث: " من صلى في مسجدي هذا أربعين صلاة لا تفوته صلاة دخل الجنة "
س: أفيدونا ـ جذاكم الله خيرا ـ عن صحة هذا الحديث: «من صلى في مسجدي هذا أربعين صلاة لا تفوته صلاة دخل الجنة» ؟ (1)
ج: بسم الله والحمد لله.. هذا الحديث ضعيف وقد جاء فيه: «من صلى في مسجدي أربعين صلاة لا تفوته التكبيرة الأولى كتب له براءة من النار وبراءة من العذاب وبراءة من النفاق» ، وهو حديث ليس بصحيح، وإن صححه بعضهم فهو حديث ضعيف، لكن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها خير عظيم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام (2) » .
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة بتاريخ 12\ 6\1414 هـ.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة برقم 1190، ومسلم في كتاب الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة برقم 1395.(26/285)
فالصلاة في المسجد النبوي مضاعفة، لكن هذا اللفظ الذي فيه براءة من النار والعذاب والنفاق ليس بصحيح.(26/286)
137 ـ حديث: «من طاف بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه (1) » . . .
حدثنا سفيان بن وكيع أخبرنا يحيى بن اليمان عن شريك عن أبي إسحاق عن عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من طاف بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه (2) » قال: وفي الباب عن أنس وابن عمر.
قال أبو عيسى: حديث ابن عباس حديث غريب سألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: إنما يروى هذا عن ابن عباس ضعيف؛ لأن في إسناده سفيان بن وكيع وهو لا يحتج به بسبب ما فعله وراقه كما في التهذيب.
__________
(1) سنن الترمذي الحج (866) .
(2) سنن الترمذي الحج (866) .(26/286)
138 ـ حديث: فضل الاستغفار عند النوم
قال الترمذي رضي الله عنه: حدثنا صالح بن عبد الله أخبرنا أبو معاوية عن الوصافي عن عطية عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يأوي إلى فراشه: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات غفر الله له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر، وإن كانت عدد ورق الشجر، وإن كانت عدد رمل عالج، وإن كانت عدد أيام الدنيا (1) » .
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث عبيد الله بن الوليد الوصافي. انتهى من جامع الترمذي بشرح حديث رقم 3406 ج9.
قلت: هذا الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده عبيد الله بن الوليد الوصافي وهو ضعيف، كما في التقريب؛ ولأن في إسناده أيضا عطية بن سعد العوفي وهو صدوق يخطئ كثيرا وكان شيعيا مدلسا، كما في التقريب ثم متنه منكر، ولو صح لكان ذلك في حق من أتى بهذا الاستغفار تائبا توبة نصوحا؛ لأن التوبة النصوح يمحو الله بها الذنوب كلها. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3397) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .(26/287)
139 ـ حديث: «ركعتان بسواك خير من سبعين ركعة بدون سواك»
س: ما معنى حديث: «ركعتان بسواك خير من سبعين ركعة بدون سواك» ؟ (1)
ج: السواك سنة وطاعة عند الصلاة أو عند الوضوء؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب (2) » خرجه النسائي بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة (3) » متفق على صحته، وفي لفظ: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء (4) » خرجه الإمام النسائي بإسناد صحيح، أما حديث: «صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بلا سواك» فهو حديث
__________
(1) سؤال من برنامج نور على الدرب
(2) أخرجه النسائي في كتاب الطهارة، باب الترغيب في السواك برقم 5.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة برقم 887، ومسلم في كتاب الطهارة باب السواك برقم 252.
(4) أخرجه أحمد في باقي مسند المكثرين، باقي المسند السابق برقم 25808.(26/288)
ضعيف ليس بصحيح، وفي الأحاديث الصحيحة ما يغني عنه والحمد لله.(26/289)
140 ـ حديث: «لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث (1) »
حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث (2) » ضعيف من جميع طرقه كما نبه على ذلك الخطابي وغيره، ومما يدل على ضعفه أيضا ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل وهي معترضة بين يديه والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (694) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (959) .
(2) سنن أبو داود الصلاة (694) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (959) .(26/289)
141 ـ أثر عمر رضي الله عنه في أن الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تصلي على نبيك
أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تصلي على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم (1) » .
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (486) .(26/289)
هكذا رواه الترمذي رحمه الله موقوفا، ورواه الإسماعيلي بلفظ: ذكر لنا أن الدعاء يكون بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم، وهو موقوف ذكر ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه: جلاء الأفهام ص 135 الطبعة المنبرية الصادرة عام 1357هـ.
قلت: وفي السندين جميعا أبو قرة الأسدي وهو من رجال البادية مجهول، كما في التقريب وهو الراوي له عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه..؛ وبذلك يعتبر هذا الأثر ضعيفا من أجل جهالة أبي قرة.. والله أعلم.(26/290)
142 ـ حديث: «من عمر مياسر الصفوف فله أجران»
س: أقيمت صلاة العشاء واكتمل الجانب الأيمن من الصف الأول والجانب الأيسر فيه قليل في الناس، فقلنا: اعدلوا الصف من اليسار، فقال أحد المصلين: اليمين أفضل، لكن أحد الناس عقب عليه وجاء بحديث: «من عمر مياسر الصفوف(26/290)
فله أجران» أفتونا ما هو الصواب في هذه المسألة؟ (1)
ج: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن يمين كل صف أفضل من يساره، ولا يشرع أن يقال للناس: اعدلوا الصف، ولا حرج أن يكون يمين الصف أكثر، حرصا على تحصيل الفضل.
أما ما ذكره بعض الحاضرين من حديث: «من عمر مياسر الصفوف فله أجران (2) » فهو حديث ضعيف خرجه ابن ماجه بإسناد ضعيف.
__________
(1) نشر في كتاب الدعوة ج1 ص60، ونشر في المجموع ج12 ص 207.
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب فضل ميمنة الصف برقم 1007.(26/291)
143 ـ حديث «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد»
س: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» هل هو حديث صحيح أم قول مأثور، وهو قول فيه تشدد فالدين يسر وليس بعسر فما قول سماحتكم؟ (1)
__________
(1) نشر في كتاب الدعوة لسماحته ج2 ص 104، وفي كتاب فتاوى إسلامية جمع محمد المسند ج4 ص 105.(26/291)
ج: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» هذا اللفظ رواه الإمام أحمد والدارقطني والحاكم والطبراني والديلمي كلهم بأسانيد ضعيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ليس له إسناد ثابت وإن اشتهر بين الناس فهو حديث ضعيف عند أهل العلم، وعلى فرض صحته فمعناه محمول على أنه لا صلاة كاملة لجار المسجد إلا في المسجد؛ لأن الأحاديث الصحيحة قد دلت على صحة صلاة المنفرد، لكن مع الإثم إن لم يكن له عذر شرعي؛ لأن الصلاة في المسجد مع جماعة المسلمين واجبة؛ لأحاديث أخرى غير الحديث المسئول عنه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر (1) » خرجه ابن ماجه والدارقطني وابن حبان والحاكم، وإسناده على شرط مسلم، «ولقوله صلى الله عليه وسلم للأعمى الذي استأذنه أن يصلي في بيته، واعتذر بأنه ليس له قائد يقوده إلى المسجد هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم. قال: فأجب (2) » . (3) خرجه مسلم في صحيحه.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب المساجد والجماعات، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة برقم 793.
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (653) ، سنن النسائي الإمامة (850) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب وجوب إتيان المسجد على من سمع النداء برقم 653.(26/292)
144 ـ حديث: «نتر الذكر عند البول»
عن عيسى بن يزيد عن أبيه رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات (1) » رواه ابن ماجه بسند ضعيف، قاله الحافظ في البلوغ (2) .
قلت: وأخرجه أحمد وهو ضعيف، كما قال الحافظ؛ لأن عيسى وأباه مجهولان، قاله ابن معين، وجزم بذلك الحافظ في التقريب، ومما يدل على ضعفه أن هذا العمل يسبب الوسوسة والإصابة بالسلس، فالواجب ترك ذلك.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب الاستبراء بعد البول برقم 326.
(2) أجاب عنه سماحته بتاريخ 2\7\1413هـ.(26/293)
145 ـ حديث: «اقرءوا على موتاكم سورة يس (1) »
س: هل قراءة سورة يس عند الاحتضار جائزة؟ (2)
ج: قراءة سورة يس عند الاحتضار جاءت في حديث معقل ابن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا على موتاكم
__________
(1) سنن أبو داود الجنائز (3121) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1448) ، مسند أحمد بن حنبل (5/26) .
(2) من ضمن مذكرة لسماحته جمع فيها فوائد في مختلف العلوم.(26/293)
يس (1) » صححه الشيخ الألباني وجماعة، وظنوا أن إسناده جيد، وأنه من رواية أبي عثمان النهدي عن معقل بن يسار، وضعفه آخرون وقالوا: إن الراوي له ليس هو أبو عثمان النهدي ولكنه شخص آخر مجهول، فالحديث المعروف فيه أنه ضعيف لجهالة أبي عثمان، فلا يستحب قراءتها على الموتى، والذي استحبها ظن أن الحديث صحيح فاستحبها، لكن قراءة القرآن عند المريض أمر طيب، ولعل الله ينفعه بذلك، أما تخصيص سورة يس فالأصل أن الحديث ضعيف، فتخصيصها ليس له وجه.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب القراءة عند الموت برقم 3121، وابن ماجه في كتاب ما جاء في الجنائز، باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا حضر برقم 1448.(26/294)
146 ـ حديث " لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس. . . " الحديث
س: ما درجة صحة هذا الحديث: «لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة..إلا بمكة.. إلا بمكة» . . .؟ (1) .
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، جمع محمد المسند ج4 ص 120.(26/294)
ج: هذا الحديث بهذه الزيادة «إلا بمكة (1) » ضعيف.
أما الأصل الحديث فهو ثابت في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس (2) » لكن هذا العموم يستثنى منه الصلاة ذات السبب في أصح قولي العلماء، كصلاة الكسوف وصلاة الطواف وتحية المسجد فإن هذه الصلوات يشرع فعلها ولو في وقت النهي؛ لأحاديث صحيحة وردت في ذلك تدل على استثنائها من العموم والله ولي التوفيق.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/165) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب لا تتحرى الصلاة قبل غروب الشمس برقم 588، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها برقم 826.(26/295)
147 ـ الكلام على أثر: «إن من صلى لله أربع ركعات ثم دعا الله فإنه يستجاب له» . . .
س: ما حكم استدلال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه " الجواب الكافي " يقول: من قال: إن من صلى لله أربع(26/295)
ركعات ثم دعا الله فإنه يستجاب له سواء كان مكروبا أو غير مكروب أخذا من قصة الصحابي الأنصاري التاجر الذي هجم عليه اللص؟ (1)
ج: ما وقفت على هذا الكلام الذي فيه أربع ركعات، وأما خبر اللص فخبر فيه ضعف. ولكن دعاء الله والتضرع إليه من أسباب الإجابة بنص القرآن، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (2) وقال سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (3) فنص القرآن وعد الله الدائم بالاستجابة، فعلى المؤمن أن يدعو الله ويجتهد في الدعاء، وأن يقبل على الله بقلبه سواء كان بعد صلاة أو في غير صلاة، متى أقبل على الله واجتهد في الدعاء، وتجنب أسباب الحرمان من أكل الحرام والمعاصي فهو حري بالإجابة، لكن قد يمنع الإنسان الإجابة لأسباب عديدة؛ إما لأنه أصر على معاص، أو لأنه يستعمل الكسب الحرام، أو لأنه يدعو بقلب غافل معرض أو لأسباب أخرى، فالدعاء له موانع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، شريط رقم 10.
(2) سورة البقرة الآية 186
(3) سورة غافر الآية 60(26/296)
عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته في الدنيا، وإما أن تدخر له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من الشر مثل ذلك. قالوا: يا رسول الله إذن نكثر؟ قال: الله أكثر (1) » .
فالله سبحانه قد يعجلها وقد يؤخرها لحكمة بالغة، وقد يعطيه خيرا منها أو أكثر منها، قد يصرف عنه من الشر ما هو خير له من إعطائه دعوته، قد يحرم الإجابة في ذنوبه وأعماله السيئة، بإصراره على المعاصي بأكله الحرام، بغفلته عن الله ... إلى غير ذلك، الأسباب كثيرة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ج6 ص 22 برقم 2917.(26/297)
148 ـ حديث: «من قرأ بعض سور القرآن عدة مرات لم يتفلت منه»
س: يقول السائل: سمعت من بعض الناس أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله إن القرآن ليتفلت مني، فأوصاه عليه السلام بقراءة بعض السور القرآنية، كل سورة لعدة مرات، ففعل فلم يتفلت منه القرآن فهل هذا صحيح،(26/297)
ما هي هذه السور إذا كان الأمر كذلك؛ لأنني أعاني من هذه المشكلة، وهي تفلت القرآن مني عندما أنتقل بالحفظ من سورة إلى أخرى، وجهوني جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: ليس ذلك بصحيح ولا بمحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم، ولكن يستحب للمؤمن أن يجتهد في تلاوة القرآن وتكراره حتى يستقر، ويسأل ربه أن يعينه على ذلك، فيقول: اللهم أعني على حفظ كتابك، اللهم يسر لي حفظ كتابك، يرجع إلى الله ويسأله العون ويجتهد في الإكثار من التلاوة في الأوقات المناسبة التي فيها راحته، في أول النهار آو في الليل أو في غير ذلك من الأوقات التي يرى أنه مستريح فيها؛ وبذلك يعينه الله، والله يقول جل وعلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (3) فاستعن بربك واسأله العون والتوفيق وأبشر بالخير.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 4(26/298)
149 ـ حديث: (السبعة الذين لا يكلمهم الله ... منهم ناكح يده)
س: أنا شاب أبلغ من العمر أربعة وعشرين عاما تقريبا، أفعل العادة السرية وأنا ليس عندي قدرة على الزواج، وكلما عزمت على التوبة عن هذه الفعلة رجعت إليها مرة ثانية، ونحن قد وقعنا فريسة لهذه الفعلة الخبيثة، من فضلكم أوضحوا لنا هذا الأمر. وهل هي محرمة أم ماذا؟ وهل الحديث الذي يقول: (سبعة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم) ... إلخ الحديث، ومنهم الناكح ليده فهل هذا صحيح نرجو التوضيح جزاكم الله خيرا؟
ج: العادة السرية منكر، لا تجوز، وأن الواجب على المسلم تركها والتوبة إلى الله منها؛ لأنها خلاف قوله جل وعلا: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (1) {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (2) {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (3) ولما ذكر أهل العلم والأطباء عنها من مضار كثيرة
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 5
(2) سورة المؤمنون الآية 6
(3) سورة المؤمنون الآية 7(26/299)
يجب توقيها، والله حرم على المؤمن ما يضره في دينه وديناه، أما الحديث الذي فيه السبعة الذين منهم ناكح يده فهو ضعيف غير صحيح عند أهل العلم.(26/300)
150 ـ حديث: «اختلاف أمتي رحمة»
س: ما مدى صحة حديث: «اختلاف أمتي رحمة» ؟
ج: ليس بصحيح هذا من كلام بعض السلف من كلام القاسم بن محمد في اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أظنه إلا رحمة، وليس بحديث.(26/300)
151 ـ حديث: «إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة (1) »
حديث: «حد يعمل في الأرض (2) » ... .
روى النسائي في سننه الصغرى (8\68) فقال: أخبرنا سويد بن نصر، قال: أنبأنا عبد الله عن عيسى بن يزيد. قال: حدثني جرير
__________
(1) سنن النسائي قطع السارق (4905) ، سنن ابن ماجه الحدود (2538) ، مسند أحمد بن حنبل (2/402) .
(2) سنن النسائي قطع السارق (4904) ، سنن ابن ماجه الحدود (2538) ، مسند أحمد بن حنبل (2/402) .(26/300)
ابن يزيد أنه سمع أبا زرعة بن عمرو بن جرير يحدث أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حد يعمل في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا ثلاثين صباحا (1) » أخبرنا عمرو بن زرارة، قال: أنبأنا إسماعيل، قال: حدثنا يونس بن عبيد عن جرير بن يزيد عن أبي زرعة قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: «إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة (2) » اهـ.
وروى الإمام أحمد في مسنده (2\362) فقال: حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا زكريا بن عدي أخبرنا ابن المبارك عن عيسى بن يزيد عن جرير بن يزيد عن أبي زرعة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حد يقام في الأرض خير للناس من أن يمطروا ثلاثين أو أربعين صباحا (3) » ثم قال في (2\402) : حدثنا عبد الله حدثني أبي، ثنا عتاب، ثنا عبد الله. قال: أخبرنا عيسى بن يزيد قال: حدثني جرير بن يزيد، أنه سمع أبا زرعة ابن عمرو بن جرير يحدث أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حد يعمل في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا ثلاثين صباحا (4) » ، وقال ابن ماجه: (2\848) : حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد بن مسلم، ثنا سعيد بن سنان، عن أبي الزاهرية عن أبي شجرة كثير
__________
(1) سنن النسائي قطع السارق (4904) ، سنن ابن ماجه الحدود (2538) ، مسند أحمد بن حنبل (2/402) .
(2) سنن النسائي قطع السارق (4905) ، سنن ابن ماجه الحدود (2538) ، مسند أحمد بن حنبل (2/402) .
(3) سنن النسائي قطع السارق (4904) ، سنن ابن ماجه الحدود (2538) ، مسند أحمد بن حنبل (2/362) .
(4) سنن النسائي قطع السارق (4904) ، سنن ابن ماجه الحدود (2538) ، مسند أحمد بن حنبل (2/402) .(26/301)
ابن مرة، عن ابن عمر رضي الله عنهما. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إقامة حد من حدود الله خير من مطر أربعين ليلة في بلاد الله عز وجل (1) » قال في الزوائد: في إسناده: سعيد بن سنان ضعفه ابن معين وغيره.
وقال الدارقطني: يضع الحديث، حدثنا عمرو بن رافع، ثنا عبد الله بن المبارك أنبأنا عيسى بن يزيد (أظنه عن جرير بن يزيد) عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا (2) » .
وقال في مجمع الزوائد (6\263) : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم من إمام عادل خير من عبادة ستين سنة، وحد يقام في الأرض بحقه أزكى من مطر أربعين صباحا (3) » . رواه الطبراني في الأوسط وقال: لا يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد، وفيه زريق بن السخت ولم أعرفه.
وفي إسناد أبي هريرة في جميع طرقه المذكورة جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي وهو ضعيف، كما في التقريب. وفي إسناد حديث ابن عمر: سعيد بن سنان وهو ضعيف، كما
__________
(1) سنن ابن ماجه الحدود (2537) .
(2) سنن النسائي قطع السارق (4904) ، سنن ابن ماجه الحدود (2538) ، مسند أحمد بن حنبل (2/402) .
(3) سنن النسائي قطع السارق (4904) ، سنن ابن ماجه الحدود (2538) .(26/302)
قال الهيثمي، وقال الحافظ في التقريب: متروك، ورماه الدارقطني وغيره بالوضع.. اهـ.(26/303)
152 ـ حديث: «من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ (1) »
س: سؤال من: س. ص. ـ من الرياض يقول: ما صحة حديث: «من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ (2) » ... ، وهل الأمر على الوجوب أم على الاستحباب، ولماذا؟ (3)
ج: الحديث المذكور ضعيف، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى ما يدل على استحباب الغسل من تغسيل الميت.
أما حمله فلم يصح في الوضوء منه شيء، ولا يستحب الوضوء من حمله؛ لعدم الدليل على ذلك.
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (993) ، سنن أبو داود الجنائز (3161) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1463) ، مسند أحمد بن حنبل (2/272) .
(2) سنن الترمذي الجنائز (993) ، سنن أبو داود الجنائز (3161) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1463) ، مسند أحمد بن حنبل (2/272) .
(3) نشر في مجلة الدعوة في العدد 1557 بتاريخ 22\4\1417 هـ، وفي هذا المجموع ج10 ص 180.(26/303)
153 ـ إيراد الحديث الضعيف في المواعظ والرقائق
س: ما رأي فضيلة الشيخ في إيراد الحديث الضعيف في المواعظ والرقائق؟
ج: لا حرج في ذلك فقد ذكر العلماء أنه لا بأس بذكر الحديث الضعيف في المواعظ والكتب، على سبيل الاستشهاد والتذكير، لا على سبيل الاعتماد، لكن مع صيغة التمريض.. فلا يجزم عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالأحاديث الصحيحة.
وإذا كان الحديث ضعيفا يقول: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو يذكر أو روي عن الرسول.. أو ذكر عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد يستفاد من الضعيف في الترغيب والترهيب.. هكذا ذكر جمهور أهل العلم هذا المعنى، وذكر هذا الحافظ العراقي رحمه الله في كتابه المعرف بالألفية حيث قال:
وسهلوا في غير موضوع رووا ... من غير تبيين لضعف ورأوا
بيانه في الحكم والعقائد ... عن ابن مهدي وغير واحد
وإن ترد نقلا لواه أو لما ... يشك فيه لا بإسناد هما
فأت بتمريض كيروى واجزم ... بنقل ما صح كقال.. فاعلم(26/304)
ومعنى سهلوا يعني: تسامحوا في رواية الضعيف، من غير بيان ضعفه، إذا كان فيه وعظ وترغيب وترهيب.
أما ما يوافق الأحاديث الصحيحة في الأحكام كالحلال والحرام والواجب والسنة، فهذا لا يحتج فيه إلا بالصحيح.(26/305)
154 ـ أخلاق طلاب العلم مع علمائهم
س: صدر من بعض طلبة العلم كتيب ينقد فيه الحافظ ابن حجر في الفتح فما رأيكم في هذا.. وهل عند سماحتكم وقت لإكمال تحقيق هذا الكتاب العظيم.. جزاكم الله خيرا؟
ج: ما أعرف هذا الكتاب ولم أقف عليه، فيما أعتقد.... والحافظ ابن حجر رحمه الله وغيره من أهل العلم ليس معصوما عن الخطأ، ولم يعصم أي واحد منهم.. ولقد كتبت على الفتح بعض الشيء، من أوله إلى كتاب الحج، ولاحظت عليه بعض الشيء، من أوله إلى كتاب الحج، ولاحظت عليه بعض الملاحظات رحمه الله.
فالمقصود أنه ليس معصوما، ولم يعصم من هو أكبر منه، فإذا ظهر الحق، فالحق هو ضالة المؤمن، فإذا قام الدليل على مسألة من المسائل، وجب الأخذ بما قام عليه الدليل من كتاب(26/305)
الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن خالف إماما كبيرا، أكبر من الحافظ ابن حجر، بل وإن خالف بعض الصحابة، فالله يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) ولم يقل سبحانه: ردوه إلى فلان أو فلان، بل قال: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) وقال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (3)
لكن لا بد من التثبت واحترام أهل العلم، والتأدب معهم.. فإذا وجد المرء قولا ضعيفا عن أحد الأئمة أو العلماء أو المحدثين المعتبرين، فإن ذلك لا ينقص من قدرهم، وعليه أن يحترم أهل العلم، والتأدب معهم، ويتكلم بالكلام الطيب، ولا يسبهم ولا يحتقرهم، ولكن يبين الحق بالدليل مع دعائه للعالم، والترحم عليه، وسؤال الله أن يعفو عنه.
هكذا يجب أن تكون أخلاق أهل العلم مع أهل العلم: يقدرون أهل العلم لمكانتهم، ويعرفون لهم قدرهم ومحلهم وفضلهم.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة الشورى الآية 10(26/306)
ولكن لا يمنعهم هذا من أن ينبهوا على الخطأ إذا وجدوا خطأ ظاهرا، سواء كان من العلماء المتقدمين أو المتأخرين، ولم يزل أهل العلم يرد بعضهم على بعض إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، يقول الإمام مالك رحمه الله: ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر.. يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يعني عن النبي صلى الله عليه وسلم يذهبون إلى رأي سفيان، يعني الثوري.. وسفيان رحمه الله: إمام عظيم.. ومع هذا أنكر أحمد على من يترك الحديث، ويذهب إلى رأيه، ثم قرأ الإمام أحمد رحمه الله قول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1)
وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس، وإذا جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، فعلى العين والرأس، وإذا جاء عن
__________
(1) سورة النور الآية 63(26/307)
التابعين فنحن رجال وهم رجال.
وكلام أهل العلم في هذا الباب كثير.. وبالله التوفيق (1) .
__________
(1) هذان السؤالان ضمن أسئلة محاضرة سماحة الشيخ بمسجد الراجحي بالرياض في شهر ذي القعدة من عام 1411 هـ(26/308)
س: هل نأخذ بالأحاديث الضعيفة والأحاديث الموضوعة في العبادة؟
ج: أما الأحاديث الموضوعة فلا يجوز ذكرها، ولا الاستدلال بها إلا على سبيل التنبيه على كذبها والتحذير منها.
أما الأحاديث الضعيفة فلا بأس بذكرها في الترغيب والترهيب، ولكن لا يحتج بها، والاستغناء عنها بالأحاديث الصحيحة أولى وأفضل.(26/308)
155 ـ أنواع الحديث الضعيف
س: كم أنواع الحديث الضعيف؟
ج: الضعيف من الحديث له أنواع؛ قسمها الحافظ ابن حبان إلى أنواع كثيرة وذكر أنها: تسعة وأربعون نوعا، ولكن في(26/308)
الحقيقة تنقسم إلى قسمين: ضعيف يعتبر به حسن عند الترمذي وجماعة، وضعيف لا يعتبر به ولا تقوم به الحجة لشدة ضعفه، وذلك بأن يكون فيه متهم بالكذب، أو من هو فاحش الغلط، أو لأن فيه انقطاعا أو إرسالا ولا متابع له ولا شاهد أو ما أشبه ذلك.
والحسن في اصطلاح أبي عيسى الترمذي رحمه الله هو: ما خف الضبط في رواته وجاء من طريقتين فأكثر، وليس فيه من هو متهم بالكذب وليس شاذا ولا منقطعا ولا معلولا بعلة قادحة، فهذا يحتج به كالصحيح عند أهل العلم.
وكان الأولون يقسمون الحديث إلي قسمين: صحيح وضعيف، ويدخل الحسن في الصحيح، ثم رأى الترمذي وجماعة بعد ذلك تقسيمه إلي الأقسام الثلاث: صحيح، وضعيف، وحسن، فصار الحسن عندهم ما خف الضبط في رواته إذا استقامت الأحوال الأخرى من عدالة واتصال وعدم شذوذ وعلة، فهذا يحتج به وهو خير من الآراء والقياس، كما قاله الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه.
والحديث الضعيف المتماسك يصلح للاحتجاج وهو خير من الآراء البشرية؛ لأنه متصل السند غير معلل ولا شاذ، إلا إن رواته أو بعضهم ليس بكامل الحفظ، بل عندهم في الحفظ نقص، وليسوا بفاحشي الغلط لكن لهم أوهام وأخطاء.(26/309)
156 ـ حديث: «من جلس بعد صلاة الصبح يذكر الله حتى تطلع الشمس (1) » ...
س: حديث: «من جلس بعد صلاة الصبح يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة (2) » ؟
ج: هذا الحديث له طرق لا بأس بها، فيعتبر بذلك من باب الحسن لغيره، وتستحب هذه الصلاة بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، أي بعد ثلث أو ربع ساعة تقريبا من طلوعها.
__________
(1) سنن الترمذي الجمعة (586) .
(2) سنن الترمذي الجمعة (586) .(26/310)
157 ـ حديث: «من زراني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا» . . .
س: سائل يسأل عن صحة حديث: «من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا شهيدا يوم القيامة» ؟(26/310)
ج: هذا الحديث رواه ابن أبي الدنيا عن طريق أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، وفي إسناده سليمان بن زيد الكعبي وهو ضعيف الحديث، ورواه أبو داود الطيالسي عن طريق عمر وفي إسناده مجهول، هذا وقد وردت أحاديث صحيحة في الحث على زيارة القبور عامة للعبرة والاتعاظ والدعاء للميت، أما الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة فكلها ضعيفة بل قيل: إنها موضوعة، فمن رغب في زيارة القبور أو زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، زيارة شرعية للعبرة والاتعاظ والدعاء للأموات، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والترضي عن صاحبيه دون أن يشد الرحال أو ينشئ سفرا لذلك، فزيارته مشروعة ويرجى له فيها الأجر، ومن شد لها الرحال أو أنشأ لها سفرا أو زار يرجو البركة والانتفاع به أو جعل لزيارته مواعيد خاصة، فزيارته مبتدعة لم يصح فيها نص ولم تعرف عن سلف هذه الأمة، بل وردت النصوص بالنهي لحديث: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد..(26/311)
الأقصى (1) » رواه البخاري ومسلم، وحديث: «لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم (2) » رواه محمد بن عبد الواحد المقدسي في (المختارة) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة برقم 1189، ومسلم في كتاب الحد، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد برقم 1397.
(2) رواه المقدسي في الأحاديث المختارة ج2 ص 49 برقم 428.(26/312)
كتاب الأحاديث الموضوعة(26/313)
صفحة فارغة(26/314)
158 ـ التحذير من الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، والتنبيه على بعض الأحاديث الموضوعة
فقد ثبت في الصحيحين عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار (1) » ، وفيهما أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (2) » ، وفيها أيضا عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه مرفوعا: «إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (3) » وفي صحيح
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم برقم 106، ومسلم في المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم 1.
(2) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم برقم 107، ومسلم في المقدمة باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم 3.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما يكره من النياحة على الميت برقم 1291، ومسلم في المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم 4.(26/315)
مسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين (1) » ، وقد ضبط قوله: " يرى " بالضم والفتح، فعلى الضم يكون معناه يظن وعلى الفتح يكون معناه يعلم، كما نبه عليه النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم.
وهذه الأحاديث تدل على تحريم الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وتحريم رواية ما يعلم أو يظن أنه كذب على النبي صلى الله عليه وسلم إلا مع التنبيه عليه، وقد جاء في هذا المعنى أحاديث كثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على شدة الوعيد في حق من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وإن الكذب عليه من الكبائر العظيمة، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى كفر من تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الأكثر من أهل العلم على خلاف ذلك إلا أن يستحله، فإن استحله كفر بالإجماع، وعلى كل تقدير فالكذب عليه صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر لعظم ما يترتب عليه من المفاسد الكثيرة، وما صاحبه عن الكفر ببعيد، أسأل الله العافية والسلامة.
__________
(1) أخرجه مسلم في المقدمة، باب وجوب الرواية عن الثقات برقم 1.(26/316)
وقد صرح أهل العلم رحمهم الله تعالى بأنه لا تجوز رواية الحديث الموضوع، إلا مقرونا ببيان حاله، فإن كان ضعيفا وليس بموضوع لم يجز الجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، ولكن يروى بصيغة التمريض كـ (يروى) عن النبي صلى الله عليه وسلم أو يذكر ونحو ذلك.
وإنما قال ذلك أهل العلم حذرا من الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ورواية ما يخشى أنه كذب، وفي هذه الأيام عرض علي بعض طلبة العلم نبذة مشتملة على حديث مطول في الإسراء والمعراج في أربعين صحيفة قد نسبها جامعها إلى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولما قرأتها وتدبرت ما فيها تحققت أنها مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى ابن عباس وليس فيها من الأحاديث الصحيحة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا الشيء اليسير أراد واضعها أن يروج بذلك باطله، وأن يشبه بذلك على ضعفاء البصيرة كالعامة والمنتسبين إلى العلم بدون تحقيق وعناية، وأحاديث الإسراء والمعراج محفوظة بحمد الله تعالى ليس فيها ما يدل على صحة ما افتراه هذا الواضع في هذه النبذة، وكل من تدبرها(26/317)
من أهل البصيرة والعلم بأسلوب كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وأحاديثه الصحيحة الثابتة في قصة المعراج والإسراء يعلم قطعا أنها موضوعة ليس فيها كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم المعروف إلا الشيء اليسير.
والنبذة المذكورة قد طبعت على نفقة المكتبة العربية ببغداد لصاحبها سلمان نعمان الأعظمي، وإنني لآسف كثيرا لصاحب هذه المكتبة كيف استساغ طبع هذه النبذة وتغرير المسلمين بها، ولم ينبه على بطلان ما فيها؛ طاعة لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ونصحا للمسلمين؟ وإنها لمصيبة عظيمة ونكبة كبيرة للمسلمين من هذا وأمثاله ممن ينتسب إلى العلم، ونشره بدون تمحص وعناية، وتمييز بين الغث والسمين والصحيح والسقيم، وما يصلح نشره وما لا يصلح نشره، والواجب على المتصدي لنشر العلم من أهل المكاتب وغيرهم التحري والتثبت والحذر من نشر ما يضر المسلمين من حيث يظن أنه ينفعهم.
وقد عمت البلوى بنشر الكتب والصحف المشتملة على الخرافات وأحاديث الموضوعة والمقالات الضارة والصور الفاتنة، فالواجب على أهل العلم التحذير من ذلك وإنكاره والتنبيه(26/318)
على ما يعثرون عليه من ذلك؛ ليكون المسلمون على بصيرة، وليسلموا من دسائس أهل الأغراض السيئة المشغوفين بنشر كل ما يشوه سمعة الإسلام ويصد عن الحق ويقتل الفضيلة ويحيي الرذيلة، كبتهم الله وأعاذ المسلمين من شرهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ثم إني بعد الاطلاع على هذه النبذة رأيت الحافظ الذهبي رحمه الله في كتابه: (الميزان ص230 من المجلد الرابع في ترجمة ميسرة بن عبد ربه الفارسي التراس على أنه الواضع لهذا الحديث: وهذا نص كلامه: (ميسرة بن عبد ربه الفارسي ثم البصري التراس الأكال، قال ابن أبي حاتم: ميسرة بن عبد ربه هو التراس روى عن ليث بن أبي سليم وابن جريج وجماعة، قال محمد بن عيسى الطباع: قلت لميسرة بن عبد ربه: من أين جئت بهذه الأحاديث؟ من قرأ كذا كان له كذا، قال: وضعته أرغب الناس، قال ابن حبان: كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات ويضع الحديث، وهو صاحب حديث فضائل القرآن الطويل، وقال أبو داود: أقر بوضع الحديث، وقال الدارقطني: متروك، وقال أبو حاتم: كان يفتعل الحديث، روى(26/319)
في فضل قزوين والثغور، وقال أبو زرعة: وضع في فضل قزوين أربعين حديثا وكان يقول: إني أحتسب في ذلك، وقال البخاري: ميسرة بن عبد ربه يرمى بالكذب، وقال داود بن المحبر: ثنا ميسرة بن عبد ربه عن موسى بن عبيدة عن الزهري عن أنس مرفوعا «من كانت له سجية من عقل وغريزة يقين لم تضره ذنوبه، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: لأنه كلما أخطأ لم يلبث أن يتوب» ، وقال ابن حبان: روى ميسرة بن عبد ربه عن عمر بن سليمان الدمشقي عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا: «لما أسري بي إلى السماء الدنيا رأيت فيها ديكا له زغب أخضر وريش أبيض ورجلاه في التخوم ورأسه عند العرش» ، وذكر حديثا في المعراج نحو عشرين ورقة، رواه حميد بن زنجويه، عن محمد بن أبي خداش الموصلي، عن علي بن قتيبة عن ميسرة بن عبد ربه فذكره ... ) اهـ. المقصود منه.
وهذا الذي ذكره الحافظ الذهبي رحمه الله في ترجمة ميسرة المذكور نقلا عن ابن حبان رحمه الله دليل ظاهر على أن ميسرة المذكور هو الواضع لهذا الحديث المطول، عامله الله بما يستحق؛ وبهذا يعلم القراء أن هذه النبذة يتعين إتلافها(26/320)
وإراحة المسلمين منها؛ لأن وجودها منكر ظاهر تجب إزالته ولوجوب البيان والنصح للمسلمين، حررنا هذه الكلمة في 21 \ 12 \ 1370 هـ.
أملاه الفقير إلى عفو ربه
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
قاضي الخرج(26/321)
159 ـ الكلام على حديث
خالد بن الوليد في سؤاله للنبي عليه الصلاة والسلام عن بضع وعشرين مسألة
س: ما رأيكم في الحديث المنسوب عن خالد بن الوليد، وتشتمل على بضع وعشرين سؤالا، ويوزع على الناس لترقيق القلوب وهذا نصه:
عن خالد بن الوليد قال: «جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله: جئت أسألك عما يغنيني في الدنيا والآخرة، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم سل عما بدا لك، قال: أريد أن أكون أعلم الناس؟ فقال صلى الله عليه(26/321)
وسلم: اتق الله تكن أعلم الناس، قال: أريد أن أكون أغنى الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم: كن قانعا تكن أغنى الناس، قال: أحب أن أكون أخص الناس إلى الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: أكثر ذكر الله تكن أخص الناس إلى الله، قال: أحب أن يكمل إيماني؟ قال صلى الله عليه وسلم: حسن خلقك يكمل إيمانك، قال: أحب أن أكون من المحسنين؟ قال صلى الله عليه وسلم: اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: أحب أن أكون من المطيعين؟ قال صلى الله عليه وسلم: أد فرائض الله تكن من المطيعين، قال: أحب أن ألقى الله نقيا من الذنوب؟ قال صلى الله عليه وسلم: اغتسل من الجنابة متطهرا تلقى الله نقيا من الذنوب، قال: أحب أن أحشر يوم القيامة في النور؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا تظلم نفسك ولا تظلم الناس تحشر يوم القيامة في النور، قال: أحب أن يرحمني ربي يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: ارحم نفسك وارحم خلق الله، يرحمك ربك يوم القيامة. قال: أحب أن تقل ذنوبي؟ قال صلى الله عليه وسلم: أكثر من الاستغفار تقل ذنوبك، قال: أحب أن أكون أكرم الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا تشك(26/322)
في أمرك شيئا تكن من أكرم الناس، قال: أحب أن أكون أقوى الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم: توكل على الله تكن أقوى الناس، قال: أحب أن يوسع الله علي في الرزق؟ قال صلى الله عليه وسلم: أدم على الطهارة يوسع الله عليك في الرزق، قال: أحب أن أكون من أحباب الله ورسوله؟ قال صلى الله عليه وسلم: أحبب أمة الله ورسوله تكن من أحبابهما، قال: أحب أن أكون آمنا من سخط الله يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا تغضب على أحد من خلق الله تكن آمنا من سخط الله يوم القيامة، قال أحب أن تستجاب دعوتي؟ قال صلى الله عليه وسلم: اجتنب أكل الحرام تستجب دعوتك، قال: أحب أن لا يفضحني ربي يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: احفظ فرجك من الزنا كيلا يفضحك ربك بين الناس، قال: أحب أن يسترني ربي يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: استر عيوب إخوانك يسترك الله يوم القيامة ـ قال: ما الذي ينجيني من الذنوب أو قال من الخطايا؟ قال صلى الله عليه وسلم: الدموع والخضوع والأمراض، قال: أي حسنة أعظم عند الله تعالى؟ قال صلى الله عليه وسلم: حسن الخلق والتواضع(26/323)
والصبر على البلاء، قال: أي سيئة أعظم عند الله تعالى؟ قال صلى الله عليه وسلم: سوء الخلق والشح المطاع، قال: ما الذي يسكن غضب الرب في الدنيا والآخرة؟ قال صلى الله عليه وسلم: الصدقة الخفية وصلة الرحم، قال: ما الذي يطفئ نار جهنم يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: الصبر في الدنيا على البلاء والمصائب» .
قال الإمام المستغفري: ما رأيت حديثا أجمع وأشمل لمحاسن الدين أنفع من هذا الحديث جمع فأوعى، رواه الإمام أحمد بن حنبل (1) .
ج: هذا الحديث جاء في (كنز العمال) باختلاف عما جاء هنا ونصه: كما جاء في الجزء 16 من كتاب (كنز العمال) تحت الرقم 44154 قال الشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى: وجدت بخط الشيخ شمس الدين بن القماح في مجموع له عن أبي العباس المستغفري، قال: قصدت مصر أريد طلب العلم من الإمام أبي حامد المصري والتمست منه حديث خالد بن الوليد فأمرني بصوم سنة، ثم عاودته في ذلك فأخبرني بإسناده عن مشائخه إلى خالد بن الوليد قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه
__________
(1) أجاب عليه سماحته بتاريخ 4 \ 1413هـ.(26/324)
وسلم فقال: إني سائلك عما في الدنيا والآخرة، فقال له: سل عما بدا لك، قال: يا نبي الله أحب أن أكون أعلم الناس، قال: اتق الله تكن أعلم الناس، فقال: أحب أن أكون أغنى الناس، فقال: كن قنعا تكن أغنى الناس، قال: أحب أن أكون خير الناس، فقال: خير الناس من ينفع الناس فكن نافعا لهم. فقال: أحب أن أكون أعدل الناس، قال: أحب للناس ما تحب لنفسك تكن أعدل الناس، قال: أحب أن أكون أخص الناس إلى الله تعالى، قال: أكثر ذكر الله تكن أخص العباد إلى الله تعالى، قال: أحب أن أكون من المحسنين، قال: اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: أحب أن يكمل إيماني، قال: حسن خلقك يكمل إيمانك، فقال أحب أن أكون من المطيعين قال: أد فرائض الله تكن مطيعا، فقال: أحب أن ألقى الله نقيا من الذنوب، قال: اغتسل من الجنابة متطهرا تلق الله يوم القيامة وما عليك ذنب، قال: أحب أن أحشر يوم القيامة في النور، قال: لا تظلم أحدا تحشر يوم القيامة في النور، قال: أحب أن يرحمني ربي، قال: ارحم نفسك وارحم خلق الله يرحمك الله، قال: أحب أن تقل ذنوبي، قال: استغفر الله تقل ذنوبك، قال: أحب أن أكون أكرم الناس، قال: لا تشكون الله إلى الخلق تكن أكرم الناس، فقال: أحب أن يوسع علي في الرزق، قال: دم على الطهارة يوسع عليك في الرزق، قال: أحب أن أكون من(26/325)
أحباب الله ورسوله، قال: أحب ما أحب الله ورسوله وأبغض ما أبغض الله ورسوله، قال: أحب أن أكون آمنا من سخط الله، قال: لا تغضب على أحد تأمن من غضب الله وسخطه، قال: أحب أن تستجاب دعوتي، قال: اجتنب الحرام تستجب دعوتك، قال: أحب أن لا يفضحني الله على رءوس الأشهاد، قال: احفظ فرجك كيلا تفتضح على رءوس الأشهاد، قال: أحب أن يستر الله علي عيوبي، قال: استر عيوب إخوانك يستر الله عليك عيوبك، قال: ما الذي يسكن غضب الرحمن؟ قال: إخفاء الصدقة وصلة الرحم، قال: ما الذي يطفئ نار جهنم، قال: الصوم» ، من كتاب كنز العمال ص 127 ـ 129.
والحديث المذكور موضوع ورواته مجاهيل، وكأن واضعه جمع متنه من الأحاديث الصحيحة ومن بعض كلام أهل العلم وبعض ألفاظه منكرة لا توافق الأدلة الشرعية، ولا ريب أن العمدة فيما ذكره في هذا الحديث هو ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، أما هذا المتن فلا يعتمد عليه ولا يحتج به؛ لأنه ليس له إسناد صحيح، والله ولي التوفيق.(26/326)
160 ـ ما صحة حديث: «لولا محمد ما خلقتك»
س: ما رأي سماحتكم في حديث «لولا محمد ما خلقتك» وهو في البداية والنهاية لابن كثير ج2 ص 348، رواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد إلا غفرت لي، فقال الله: يا آدم كيف عرفت محمدا ولم أخلقه بعد؟ فقال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا ـ لا إله إلا الله محمد رسول الله ـ فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي، وإذ قد سألتني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك» ، قال البيهقي: تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف والله أعلم؟ (1)
__________
(1) أجاب عليه سماحته بتاريخ 14 / 5 / 1414 هـ.(26/327)
ج: قلت: هذا الحديث موضوع كما أوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأن الله سبحانه إنما خلق الجن والإنس ليعبد وحده لا شريك له، ومن جملة الإنس آدم عليه الصلاة والسلام، والله ولي التوفيق.(26/328)
161 ـ نشرة تتضمن أحاديث مكذوبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد (1) :
فقد اطلعت على نشر ة مصدرة بما نصه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علي لا تنم إلا أن تأتي بخمسة أشياء وهي قراءة القرآن كله، والتصدق بأربعة آلاف درهم، وزيارة الكعبة، وحفظ مكانك في الجنة، وإرضاء الخصوم، قال علي: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تعلم أنك: إذا قرأت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) ثلاث مرات فقد قرأت القرآن كله وإذا قرأت الفاتحة أربع مرات فقد تصدقت بأربعة
__________
(1) أجاب عنها سماحته بتاريخ 25 / 1 / 1414 هـ.
(2) سورة الإخلاص الآية 1(26/328)
آلاف درهم، وإذا قلت: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات فقد زرت الكعبة، وإذا قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عشر مرات فقد حفظت مكانك في الجنة، وإذا قلت: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه عشر مرات فقد أرضيت الخصوم» ؛ ولكون ما تضمنته هذه النشرة لم يرد في كتاب من كتب الحديث المعتمدة، بل هو من الأحاديث الموضوعة المكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد نص أهل العلم ـ رحمهم الله تعالى ـ على أن الوصايا المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوصى بها عليا، وكل ما صدر بياء النداء من الرسول لعلي كلها موضوعة، ما عدا قوله عليه الصلاة والسلام: «يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي (1) » ، وممن نص على ذلك الشيخ ملا علي القاري في كتاب: (الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة) المعروف بالموضوعات الكبرى، والشيخ إسماعيل العجلوني في كتابه: (كشف الخفا ومزيل الألباس) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة تبوك برقم 4416.(26/329)
ولذلك فإني أحذر إخواني المسلمين من الاغترار بهذا الحديث وأمثاله من الأخبار الموضوعة أو العمل على طبعها أو نشرها بين المسلمين لما في ذلك من تضليل العامة والتلبيس عليهم والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وعد المتعمد له بالوعيد العظيم، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إن كذبا علي ليس ككذب على غيري، من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (1) » وقال: «من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين (2) » .
وفي الأخبار الصحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم المدونة في كتاب الحديث المعتمدة من الصحاح والسنن والمسانيد غنية لمن وفقه الله إلى الخير عن اللجوء إلى أخبار الكذابين والوضاعين، أسأل الله أن يرزق الجميع العلم النافع والعمل الصالح ويجنب الجميع طرق الضلال والانحراف إنه سميع قريب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1291) ، صحيح مسلم مقدمة (4) ، مسند أحمد بن حنبل (4/252) .
(2) صحيح مسلم مقدمة (1) ، سنن الترمذي العلم (2662) ، سنن ابن ماجه المقدمة (41) ، مسند أحمد بن حنبل (4/252) .(26/330)
162 ـ حديث في الأخذ من اللحية
حديث رواه الترمذي رحمه الله «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها» .
هذا الحديث باطل عند أهل العلم لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تشبث به بعض الناس وهو خبر لا يصح؛ لأن في إسناده عمر بن هارون البلخي وهو متهم بالكذب، فلا يجوز للمؤمن أن يتعلق بهذا الحديث الباطل، ولا أن يترخص بما يقوله بعض أهل العلم أو يفعله من تخفيف اللحية أو أخذ ما زاد عن القبضة؛ لأن ذلك مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بإعفاء اللحى وتوقيرها وإرخائها وقص الشوارب وإخفائها، كما جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وكما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ لأن السنة حاكمة على الجميع والله سبحانه يقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (1) ويقول سبحانه:
__________
(1) سورة النساء الآية 80(26/331)
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (1) ويقول سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) والله ولي التوفيق.
س: قرأت في كتاب: (درة الناصحين في الوعظ والإرشاد) من علماء القرن التاسع الهجري اسمه عثمان بن حسن بن أحمد الخوبري قرأت ما نصه:
عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال: (إن الله تعالى نظر إلى جوهرة فصارت حمراء، ثم نظر إليها ثانية فذابت وارتعدت من هيبة ربها، ثم نظر إليها ثالثة فصارت ماء، ثم نظر إليها رابعة فجمد نصفها، فخلق من النصف العرش، ومن النصف الماء، ثم تركه على حاله، ومن ثم يرتعد إلى يوم القيامة، وعن علي رضي الله عنه: إن الذين يحملون العرش أربعة ملائكة لكل ملك أربعة وجوه أقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة مسيرة خمسمائة عام، أرجو الإفادة؟ (3)
__________
(1) سورة النور الآية 54
(2) سورة النور الآية 63
(3) أجاب عنه سماحته في 14\ 9\1412هـ.(26/332)
ج: هذا الكتاب لا يعتمد عليه، وهو يشتمل على أحاديث موضوعة وأحاديث ضعيفة لا يعتمد عليها، ومنها هذان الحديثان فإنهما لا أصل لهما، بل هما حديثان موضوعان مكذوبان على النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي أن يعتمد على هذا الكتاب وما أشبهه من الكتب التي تجمع الغث والسمين، والموضوع والضعيف، فإن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم قد قدمها العلماء من أئمة السنة، وبينوا صحيحها من سقيمها، فينبغي للمؤمن أن يعتني بالكتب الجيدة المفيدة مثل: الصحيحين، وكتب السنن الأربع، ومنتقى الأخبار لابن تيمية، ورياض الصالحين للنووي، وبلوغ المرام للحافظ ابن حجر، وعمدة الحديث للحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي، ونصب الراية للزيلعي، وتلخيص الحبير للحافظ ابن حجر وأمثالها من الكتب المفيدة المعتبرة عند أهل العلم.(26/333)
163 ـ رد على أخبار باطلة ومكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم
س: ذات يوم في مسجدنا خطب علينا أحد مدعي العلم بعد أن صلى بنا صلاة الظهر، بدأ الحديث قائلا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما توفيت زوجته خديجة ذبح عليها ناقة وأقام عليها الفراش لمدة ثلاثة أيام وقال: إن ذلك جاء في حديث رواه قتادة الصحابي، ثم ساق حديثا آخر رفض روايه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا شجرة وعلي ساقها وفاطمة فروعها والحسن والحسين ثمارها، ثم أورد حديثا آخر قال فيه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادفه يوما بأحد جبال مكة رجل يهودي، فقال له: ألم تؤمن بي قال اليهودي: لا أومن بك، فقال له: ادع تلك الشجرة، فقال: إن محمدا يدعوك فجاءت إليه تظله بأغصانها وتجر جذورها، فقال لها من أنا؟ قالت: إنك محمد رسول الله، فنطق اليهودي بالشهادتين بعد مشاهدة هذه المعجزة، ثم صعدت الشجرة إلى السماوات وطافت حول العرش والكرسي واللوح والقلم(26/334)
وطلبت من الله الإذن بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أيها اليهودي: قبل كفي وقدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ساق قصة أخرى فقال: إن عثمان بن عفان رضي الله عنه وجد رجلا يطوف بالكعبة، فقال له إنك زان، فقال له: كيف عرفت ذلك؟ قال: عرفته في عينيك، فقال الرجل: أنا لم أزن ولكن نظرت إلى يهودية، فقال الرجل لعثمان رضي الله عنه: وهل عرفت ذلك بالوحي؟ قال: لا، ولكنها فراسة المؤمن، ولما طلبناه بالأدلة كاد أنصاره أن يفتكوا بنا.
نرجو معرفة رأي الشرع فيما قاله هذا الرجل وعن هذه القصص التي جعلها موعظة يعظ بها الناس مفضلا إياها على سواها من المواعظ المفيدة والنافعة، جزاكم الله خيرا؟ (1)
جـ: هذه الأخبار التي ذكرها هذا الواعظ كلها باطلة وكلها مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم وكلها لا أصل لها، فلم يفعل عزاء لما توفيت خديجة رضي الله عنها، ولم يذبح ناقة، ولم يدع الناس إلى عزاء، كما يفعل بعض الناس اليوم، كل هذا لا أصل له. رضي الله عن خديجة وأرضاها فقد كان يدعو لها كثيرا، وكان في بعض الأحيان يذبح الشاة ويوزعها على صديقاتها من
__________
(1) نشر في هذا المجموع ج 6 ص 357(26/335)
باب الهدية والإحسان ليدعو لها ويحسنوا إليها بدعائهم.
أما أنه فعل عزاء لما ماتت وذبح ناقة أو نحو ذلك فهذا كله لا أصل له وكله كذب، وهكذا قوله: أنا شجرة وعلى ساقها إلي آخره، كل هذا باطل ولا أصل له وليس بصحيح، وهكذا ما ذكر من اليهودي وعن الشجرة التي نطقت، وقالت: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله أنطقها وأنها عرجت إلي السماء وطافت حول العرش، كل هذا لا أصل له وكله باطل وكله كذب من كذب المفترين المجرمين. وهكذا ما يروي عن عثمان أنه قال لرجل: إنك زان وعرف هذا من عينيه كله باطل ولا أساس له من الصحة، وقتادة ليس بصحابي بل هو تابعي.
فالمقصود أن هذه الأخبار الأربعة كلها باطلة ولا صحة لها، لكن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث أخرى أنه دعى بعض الشجر فجاء وهو من علامات النبوة، كان ذات يوم أراد أن يقضي حاجة له فدعاء شجرتين فجاءتا والتأمتا وجلس بينهما حتى قضي حاجته ثم رجعت كل واحدة إلى محلها وجاء نحو هذا من أحاديث أخرى أنه دعا بعض الشجر فجاء إليه وكان هذا من آيات النبوة ومن دلائل صدقه صلى الله عليه وسلم، لكن هذا غير ذلك الخبر(26/336)
الذي ذكره هذا المفتري. على أنها كلمت، وأنها قالت: أنت محمد وإنما أجابت دعوته لما دعاها عليه الصلاة والسلام وأما أنها تكلمت وقالت: أنت محمد أو أشهد أن محمد رسول الله، أو أنها عرجت إلي السماء وطافت حول العرش فكل هذا لا أصل له وكله باطل. فينبغي التحرز من هؤلاء الوضاعين، وينبغي للواعظ إذا وعظ أن يتقي الله، وأن يذكرالناس بما ينفعهم في دينهم من الأحاديث الصحيحة ومن آيات القرآن الكريم فيذكر الناس بكتاب الله عز وجل ويعظهم بذكر الآيات التي فيها وعظهم وتذكيرهم بما ينفعهم وبما يتعلق بما أوجب الله وبما حرم الله عليهم، ويذكر لهم الأحاديث الصحيحة التي رواها البخاري أو رواها مسلم أو رواها أهل السنن أو غيرهم من أهل الكتب المعتمدة بالأسانيد الصحيحة، فهذا طالب العلم إذا وعظ إخوانه يجب أن يتحرى الأحاديث الصحيحة، يذكر الآيات التي فيها وعظ للناس وتذكير لهم يما ينفعهم، أما أن ينظر في الأخبار الموضوعة والمكذوبة التي لا زمام لها ولا خطام فلا يجوز له ذلك، ولا ينبغي أن يتكلم بها ولا ينبغي أن يعظ الناس بها، بل يجب الحذر منها والابتعاد عنها، لما فيها من الغدر والكذب،(26/337)
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين (1) » وقال عليه الصلاة والسلام: «من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار (2) » والأحاديث في هذا الباب كثيرة. فلا يجوز للمؤمن أن يحدث بأحاديث يعلم أنها كذب أو يغلب على ظنه أنها كذب، بل عليه أن يجتنبها، إلا إذا أراد التتبيين والإيضاح أنها باطلة فلا حرج في ذلك؛ ليبين بطلانها وأنها مكذوبة؛ لأن الأمر خطير وجدير بالعناية فليس الكذب عليه صلى الله وسلم مثل الكذب على غيره، وإن كان الكذب كله محرما، إلا ما استثناه الشرع المطهر، لكن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من الكذب على غيره ومن أعظم الكبائر ومن أعظم المعاصي والسيئات، نسأل الله السلامة.
__________
(1) أخرجه مسلم في المقدمة، باب وجوب الرواية عن الثقات برقم 1.
(2) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم برقم 109.(26/338)
164 ـ الكلام على حديث
موضوع حول صيحة تحدث في رمضان
بسم الله والحمد لله، وصلى الله وسلم على رسوله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد (1) :
فقد بلغني أن بعض الجهال يوزع نشرة مشتملة على حديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم يتضمن هذا الحديث المكذوب ما نصه: عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان صيحة في رمضان، فإنه يكون معمعة في شوال، وتميز القبائل في ذي القعدة، وتسفك الدماء في ذي الحجة والمحرم، وما المحرم؟ يقولها ثلاث مرات ـ هيهات هيهات يقتل الناس فيه هرجا هرجا، قلنا: وما الصحيحة يا رسول الله؟ قال: هذه في النصف من رمضان ليلة الجمعة فتكون هذه توقظ النائم، وتقعد القائم، وتخرج العواتق من خدورهن في ليلة جمعة، في سنة كثيرة الزلازل والبرد، فإذا وافق شهر رمضان في تلك السنة ليلة الجمعة، فإذا صليتم الفجر من يوم الجمعة في النصف من رمضان فادخلوا بيوتكم، وأغلقوا
__________
(1) صدرت هذه الكلمة من سماحته في تاريخ 12\ 9\1414هـ ونشرت في الصحف المحلية.(26/339)
أبوابكم، سدوا كواكم ودثروا أنفسكم، وسدوا آذانكم، فإذا أحسستم بالصحيحة فخروا لله سجدا وقولوا: سبحان القدوس، سبحان القدوس، ربنا القدوس، فإنه من فعل ذلك نجا ومن لم يفعل هلك» .
فهذا الحديث لا أساس له من الصحة، بل هو باطل وكذب، وقد مر على المسلمين أعوام كثيرة صادفت فيها ليلة الجمعة ليلة النصف من رمضان فلم تقع فيها بحمد الله ما ذكره هذا الكذب من الصحيحة وغيرها مما ذكر، وبذلك يعلم كل من يطلع على هذه الكلمة أنه لا يجوز تروج هذا الحديث الباطل، بل يجب تمزيق ذلك وإتلافه والتنبيه على بطلانه، ومعلوم أنه يجب على كل مسلم أن يتقي الله في جميع الأوقات، وأن يحذر ما نهى الله عنه حتى يتم أجله، كما قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (1) والمراد باليقين: الموت، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة
__________
(1) سورة الحجر الآية 99
(2) سورة آل عمران الآية 102(26/340)
الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن (1) » ، والآيات والأحاديث في وجوب لزوم التقوى والاستقامة على الحق والحذر من كل ما نهى الله عنه في جميع الأوقات في رمضان وفي غيره كثيرة معلومة، وفق الله المسلمين لما يرضيه، ومنحهم الفقه في الدين، وأعاذنا وإياهم من مضلات الفتن ومن شر دعاة الباطل إنه جواد كريم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) أخرجه أحمد في مسند الأنصار رضي الله عنهم، حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه برقم 20847.(26/341)
165 ـ ما صحة حديث: «إن الشيطان يلعب بالميت»
س: يروى حديث: «أن الشياطين تلعب بالميت» هل هذا صحيح؟ (1)
ج: هذا باطل ولا أصل له فيما نعلم من الشرع المطهر.
__________
(1) نشر في كتاب أحكام الجنائز إصدار الجمعية الخيرية بشقراء ص29، 30.(26/341)
166 ـ ما صحة حديث: "من صلى علي يوم الجمعة مئتي مرة غفر الله ذنبه مئتي عام "
س: قرأت في أحد الكتب الدينية حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه ما معناه: " أنه من صلى علي يوم الجمعة مائتي مرة غفر الله له ذنبه مئتي عام، " فما درجة صحة هذا الحديث، وكيف تكون المغفرة مائتي عام مع أن الإنسان قد لا يعيش إلى هذه السنة؟ (1)
ج: هذا الخبر لا صحة له، بل هو موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصل له ـ عامل الله واضعه بما يستحق ـ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حث على الصلاة وقال: «من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا (2) » ، وقد قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3)
__________
(1) من برنامج نور على الدرب شريط 517.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم 408.
(3) سورة الأحزاب الآية 56(26/342)
فيستحب لكل مؤمن ومؤمنة الإكثار من الصلاة والسلام عليه في كل وقت للآية المذكور والحديث المذكور، والله ولي التوفيق.(26/343)
167 ـ ما صحة حديث: "من صلى علي في يوم ألف مرة لم يمت حتى يبشر بالجنة"
س: ما صحة هذا الحديث: "من صلى علي في يوم ألف مرة لم يمت حتى يبشر بالجنة " (1) ؟
ج: لا أعلم لهذا الحديث أصلا، وفي القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة كفاية وغنية عنه، ومنها قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) وقوله صلى الله عليه وسلم لما سألوه كيفية الصلاة عليه؟ قال: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما
__________
(1) نشر في جريدة المسلمون العدد (711) السبت 28 جمادى الأولى عام 1419هـ.
(2) سورة الأحزاب الآية 56(26/343)
باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد (1) » ، والآية المذكورة عامة، هكذا الحديث المذكور وما جاء في معناه عام في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في الصلاة وخارجها.. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا (2) » وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان، والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم 405.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم برقم 483.(26/344)
168 ـ ما صحة حديث: "إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا بأهل القبور "
س: يقول بعض الناس إن الطلب من الميت في القبر جائز بدليل " إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا بأهل القبور " فهل هذا الحديث صحيح أم لا؟(26/344)
ج: هذا الحديث من الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نبه على ذلك غير واحد من أهل العلم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه حيث قال رحمه الله في (مجموع الفتاوى) ج1 ص 356 بعد ما ذكره ما نصه: (هذا الحديث كذب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء بذلك، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة) انتهى كلامه رحمه الله.
وهذا المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مضاد لما جاء به الكتاب والسنة من وجوب إخلاص العبادة لله وحده وتحريم الإشراك به، ولا ريب أن دعاء الأموات والاستغاثة بهم والفزع إليهم في النائبات والكروب من أعظم الشرك بالله عز وجل، كما أن دعاءهم في الرخاء شرك بالله سبحانه.
وقد كان المشركون الأولون إذا اشتدت بهم الكروب أخلصوا لله العبادة، وإذا زالت الشدائد أشركوا بالله، كما قال الله عز وجل: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (1) والآيات في هذا المعنى كثيرة، أما المشركون المتأخرون فشركهم دائم في الرخاء
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 65(26/345)
والشدة بل يزداد شركهم في الشدة، والعياذ بالله، وذلك يبين أن كفرهم أعظم وأشد من كفر الأولين من هذه الناحية، وقد قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (1)
وقال سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (2) وقال عز وجل: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (3) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (4) وقال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (5) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (6) وهذه الآية تعم جميع من يعبد من دون الله من الأنبياء والصالحين وغيرهم، وقد أوضح سبحانه أن دعاء المشركين لهم شرك به سبحانه كما بين أن ذلك كفر به سبحانه في قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (7)
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سورة غافر الآية 14
(3) سورة الزمر الآية 2
(4) سورة الزمر الآية 3
(5) سورة فاطر الآية 13
(6) سورة فاطر الآية 14
(7) سورة المؤمنون الآية 117(26/346)
والآيات الدالة على وجوب إخلاص العبادة لله وحده وتوجيه الدعاء إليه دون كل ما سواه، وعلى تحريم عبادة غيره سبحانه من الأموات والأصنام والأشجار والأحجار ونحو ذلك كثيرة جدا يعلمها من تدبر كتاب الله وقصد الاهتداء به، وقد جاء في الأحاديث الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الشرك والتحذير منه ما يوافق ما ذكرنا من الآيات الكريمات، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.(26/347)
169 ـ ما صحة حديث " من كان اسمه محمدا فلا تضربه ... "
س: قرأت حديثا فما مدى صحته؟ وهو: " من كان اسمه محمدا فلا تضربه ولا تشتمه " (1) .
ج: هذا الحديث مكذوب وموضوع على الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس لذلك أصل في السنة المطهرة، وهكذا قول من قال: من سمى محمدا فإنه له ذمة محمد ويوشك أن
__________
(1) من برنامج نور على الدرب ونشر في هذا المجموع ج6 ص 370.(26/347)
يدخله بذلك الجنة، وهكذا من قال: من كان اسمه محمدا فإن بيته يكون كذا وكذا، فكل هذه الأخبار لا أساس لها من الصحة، فالاعتبار باتباع محمد، وليس باسمه صلى الله عليه وسلم، فكم ممن سمي محمدا وهو خبيث؛ لأنه لم يتبع محمدا ولم ينقد لشريعته، فالأسماء لا تطهر الناس، وإنما تطهرهم أعمالهم الصالحة وتقواهم لله جل وعلا، فمن تسمى بأحمد أو بمحمد أو بأبي القاسم وهو كافر أو فاسق لم ينفعه ذلك، بل الواجب على العبد أن يتقي الله ويعمل بطاعة الله ويلتزم بشريعة الله التي بعث بها نبيه محمدا، فهذا هو الذي ينفعه، وهو طريق النجاة والسلامة، أما مجرد الأسماء من دون عمل بالشرع المطهر فلا يتعلق به نجاة ولا عقاب، ولقد أخطأ البوصيري في بردته حيث قال:
فإن لي ذمة منه بتسميتي ... محمدا وهو أوفى بالخلق بالذمم
وأخطأ خطأ أكبر من ذلك بقوله:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
فجعل هذا المسكين لياذه في الآخرة بالرسول صلى الله عليه وسلم دون الله عز وجل، وذكر أنه هالك إن لم يأخذ بيده،(26/348)
ونسي الله سبحانه الذي بيده الضر والنفع والعطاء والمنع وهو الذي ينجي أولياءه وأهل طاعته، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم هو مالك الدنيا والآخرة، وأنها بعض جوده، وجعله يعلم الغيب، وأن من علومه ما في اللوح والقلم، وهذا كفر صريح وغلو ليس فوقه غلو، ونسأل الله العافية والسلامة.
فإن كان مات على ذلك ولم يتب فقد مات على أقبح الكفر والضلال، فالواجب على كل مسلم أن يحذر هذا الغلو، وألا يغتر بالبردة وصاحبها. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.(26/349)
170 ـ ما صحة حديث: " تعلموا السحر ولا تعملوا به "
س2: ما صحة حديث سمعته عن النبي صلى الله عليه وسلم: " تعلموا السحر ولا تعملوا به "؟ (1)
ج: هذا الحديث باطل لا أصل له، ولا يجوز تعلم السحر والعمل به، وذلك منكر بل كفر وضلال، وقد بين الله إنكاره للسحر في كتابه الكريم في قوله تعالى:
__________
(1) من برنامج نور على الدرب ونشر في المجموع ج6 ص 317.(26/349)
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا} (1) {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (2) فأوضح سبحانه في هذه الآيات: أن السحر كفر وأنه تعليم الشياطين، وقد ذمهم الله على ذلك وهم أعداؤنا، ثم بين أن تعليم السحر كفر؛ وأنه يضر ولا ينفع، فالواجب الحذر منه؛ لأن تعليم السحر كله كفر، ولهذا أخبر عن الملكين أنهما لا يعلمان الناس حتى يقولا للمتعلم: إنما نحن فتنة فلا تكفر، ثم قال: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (3) فعلم أنه كفر وضلال، وأن السحرة لا يضرون أحد إلا بإذن الله، والمراد بذلك إذنه سبحانه الكوني القدري لا الشرعي الديني؛ لأنه سبحانه لم يشرعه، ولم يأذن فيه شرعا بل حرمه ونهى عنه، وبين أنه كفر ومن تعليم الشياطين،
__________
(1) سورة البقرة الآية 102
(2) سورة البقرة الآية 103
(3) سورة البقرة الآية 102(26/350)
كما أوضح سبحانه أن من اشتراه أي: اعتاضه وتعلمه ليس له في الآخرة من خلاق؛ أي من حظ ولا نصيب، وهذا وعيد عظيم، ثم قال سبحانه: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (1) والمعنى باعوا أنفسهم للشياطين بهذا السحر، ثم قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (2) فدل ذلك على أن تعلم السحر والعمل به ضد الإيمان والتقوى ومناف لهما، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) سورة البقرة الآية 102
(2) سورة البقرة الآية 103(26/351)
171 ـ حكم كل ما صدر بياء النداء من الرسول صلى الله عليه وسلم
إلى علي رضي الله عنه
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي سلمه الله.
سلام عليكم ورحمة وبركاته، وبعد (1) :
أشفع لمعاليكم نشرة صادرة من الرابطة أرسلها بعض
__________
(1) خطاب من سماحته ـ رحمه الله ـ إلى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بتاريخ 1407هـ.(26/351)
الناصحين ذكر فيها خبر موضوع عن علي رضي الله عنه.
وأفيد معاليكم بأن العلماء رحمهم الله تعالى: (نصوا على أن الوصايا المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أوصى بها عليا وكل ما صدر بياء النداء من الرسول لعلي كلها موضوعة، ما عدا قوله عليه والصلاة والسلام «يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي (1) » ، ممن نص على ذلك ملا علي القاري في كتاب: (الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة) المعروف بالموضوعات الكبرى طبعة دار الأمانة ص 393 وفي صفحة 405 من نفس الكتاب، وكذلك الشيخ إسماعيل العجلوني في كتابه: (كشف الخفاء ومزيل الألباس) جزء 2 ص 406 طبعة دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
والحديث الذي تضمنته هذه النشرة ذكره المنذري في الترغيب والترهيب، والذهبي في الكبائر ولم يعزواه لأحد، وبعد مراجعتنا للأحاديث الصحيحة الواردة في الإسراء لم نجده فيها بهذا النص ولم يرو علي شيئا منها.
فعليه نرجو من معاليكم التأكيد على المسئولين في الرابطة أن لا ينشروا شيئا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في المجلة وأخبار العالم الإسلامي وغيرها إلا بعد التأكد من صحته.
__________
(1) صحيح البخاري كتاب المغازي (4416) ، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة (2404) ، سنن الترمذي كتاب المناقب (3724) ، سنن ابن ماجه المقدمة (121) ، مسند أحمد بن حنبل (1/185) .(26/352)
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه وأعانكم على كل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(26/353)
172 - ما صحة حديث: "اثنتا عشر ركعة تصليها من الليل والنهار"
س: سائلة تقول: إنها معذبة.. لها سؤال لقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اثنتا عشر ركعة تصليها من الليل وتتشهد بين كل ركعتين، فإذا تشهدت في آخر صلاتك فأثن على الله عز وجل وصل الله على النبي صلى الله عليه وسلم، واقرأ وأنت ساجد فاتحة الكتاب سبع مرات، وآية الكرسي سبع مرات، وقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات، ثم قل: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك واسمك الأعظم وجدك(26/353)
الأعلى وكلماتك التامة، ثم سل حاجتك، ثم ارفع رأسك ثم سلم يمينا وشمالا ولا تعلموها السفهاء فإنهم يدعون بها فيجابون» رواه الحاكم، وقال: قال: أحمد بن حرب قد جربته فوجدته حقا، وقال إبراهيم بن علي الديبلي: قد جربته فوجدته حقا، وقال أبو زكريا: قد جربته فوجدته حقا، قال الحاكم: قد جربته فوجده حقا، تفرد به عامر بن خداش وهوة ثقة مأمون، قال المصنف عامر: هذا شيخنا أبو الحسين هو نيسابوري صاحب مناكير، وقد تفرد به عمر بن هارون البلخي وهو متروك منهم أثنى عليه ابن مهدي وحده فيما أعلم انتهى، والسؤال هل هذا الحديث صحيح فإني معذبة للشك فيه؟ (1)
ج: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين أما بعد: فإن هذا الحديث ليس بصحيح بل هو موضوع ومكذوب على الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد نبهنا على ذلك من مدة طويلة، وكان صاحب كتاب (الدعاء المستجاب) قد ذكره في كتابه وهو كتاب لا يجوز الاعتماد عليه وصاحبه ليس من أهل العلم؛ ولهذا نبهنا على هذا من مدة طويلة، وبينا أن هذا الكتاب لا يجوز الاعتماد عليه
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، الشريط رقم 842.(26/354)
وأن هذا الحديث موضوع، وقد كتبنا ما أتم الله في ذلك ... فيجب تنبيه القراء على كذب هذا الخبر وعلى عدم الاعتماد على هذا الكتاب وهو كتاب الدعاء المستجاب، لما فيه من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ولا ينبغي لأحد أن يظن أن هذا الحديث صحيح، بل هو مكذوب وليس بصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه «نهى عن القراءة في الركوع والسجود (1) » ، وهذا فيه قراءة في الركوع والسجود، وعمر بن هارون الراوي كذاب لا يعتمد على روايته، وهكذا من قبله عامر بن خداش، والمقصود: أن الحديث موضوع مكذوب لا يعتمد عليه، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صلى ثنتي عشر ركعة بنى الله له بيتا في الجنة ـ ثم بينها في رواية الترمذي رحمه الله قال: ـ أربعا قبل الظهر وثنتين بعدها وثنتين بعد المغرب وثنتين بعد العشاء وثنتين قبل صلاة الصبح (2) » ، وهذه الرواتب التي كان يحافظ عليها النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حافظ عليها بنى الله له بيتا في الجنة: يصلى أربعا قبل الظهر بتسليمتين، وثنتين بعدها، وثنتين بعد المغرب، وثنتين
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (480) ، سنن الترمذي اللباس (1737) ، مسند أحمد بن حنبل (1/114) ، موطأ مالك النداء للصلاة (177) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدها برقم 728 والترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة برقم 414.(26/355)
بعد صلاة العشاء، وثنتين قبل صلاة الصبح، هؤلاء الركعات هي التي شرعها الله عز وجل، ورتب عليها ما رتب من الخير العظيم، أما هذه الركعات التي جاءت في حديث عمر بن هارون عند الحاكم فقد عرفت أيتها السائلة أنه حديث موضوع مكذوب، ولا ينبغي لك أن تكوني معذبة، بل كوني مطمئنة، اتقي الله وراقبي الله واعملي بشرع الله، ودعي عنك الوساوس والتعلق بالأحاديث الموضوعة والمكذوبة والضعيفة، ففي ما شرع الله كفاية وغنية، أما ما ابتدعه الناس وما كذبه بعض الناس فيجب الحذر منه والتمسك بالدين ليس بعذاب، بل التمسك بالدين هو الراحة وهو الطمأنينة وهو الخير العظيم المعجل وفي الآخرة أعظم وأعظم؛ لأن الراحة في الآخرة هي أكبر وهي الفوز العظيم، فلا ينبغي أن تكوني معذبة، بل كوني مطمئنة، وكوني مرتاحة بفعل ما شرع الله وترك ما حرم الله والإكثار من ذكر الله وتسبيحه وتهليله واستغفاره والتوبة إليه، وأبشري بالخير ودعي عنك الوساوس والتحرج الذي يوقعك في التعذيب والتعب، ولكن اشرحي صدرك لدين الله وتمسكي بشرع الله، وأكثري من قراءة القرآن ومن ذكر الله وتسبيحه وتحميده واستغفاره والتوبة إليه، واعملي بما شرع الله من العبادات، وأبشري بالخير وأبشري بالراحة والسعادة في الدنيا والآخرة والسعادة والراحة في الآخرة أكبر، رزقني الله وإياك الاستقامة والبصيرة في الدين مع حسن الختام.(26/356)
173 - ما صحة حديث (من تهاون بالصلاة عاقبه الله بخمس عشرة عقوبة..) .
س: الأخ: خ. ن. ن - من الرياض أرسل إلينا رسالة ومعها نسخة من ورقة توزع بين الناس، وتتضمن حديثا منسوبا للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (من تهاون بالصلاة عاقبه الله بخمس عشرة عقوبة) إلى آخر ما جاء في الورقة، ويسأل عن صحة ذلك الحديث (1)
ج: هذا الحديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، لا أساس له من الصحة، كما بين ذلك الحافظ الذهبي رحمه الله في (الميزان) ، والحافظ ابن حجر في (لسان الميزان) ، فينبغي لمن وجد هذه الورقة أن يحرقها، وينبه من وجده يوزعها؛ دفاعا عن النبي صلى الله عليه وسلم من كذب الكذابين.
وفيما ورد في القرآن العظيم والسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيم شأن الصلاة والتحذير من التهاون بها ووعيد من فعل ذلك ما يشفي ويكفي، ويغني عن
__________
(1) سبق نشرها في هذا المجموع ج 10 ص 277 ونشرت في مجلة الدعوة في العدد (929) بتاريخ 12 \ 5 \ 1404 هـ.(26/357)
كذب الكذابين، مثل قوله سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (1) وقوله سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (2) وقوله سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (3) {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (4) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (5) » خرجه الإمام أحمد، وأهل السنن بإسناد صحيح، وقوله صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (6) » أخرجه مسلم في صحيحه.
وقوله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الصلاة يوما بين
__________
(1) سورة البقرة الآية 238
(2) سورة مريم الآية 59
(3) سورة الماعون الآية 4
(4) سورة الماعون الآية 5
(5) أخرجه أحمد في باقي مسند الأنصار، حديث بريدة الأسلمي برقم 22428، والترمذي في كتاب الإيمان باب ما جاء في ترك الصلاة برقم 2621، والنسائي في كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة برقم 463، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها برقم 1079.
(6) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب إطلاق الكفر على من ترك الصلاة برقم 82.(26/358)
أصحابه: «من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف (1) » رواه الإمام أحمد بإسناد حسن.
قال بعض العلماء في شرح هذا الحديث: وإنما يحشر يوم القيامة من ضيع الصلاة مع هؤلاء الكفرة؛ لأنه إن ضيعها بسبب الرئاسة شابه فرعون، ومن ضيعها بسبب الوزارة والوظائف الأخرى شابه هامان وزير فرعون، فيحشر معه يوم القيامة إلى النار، ومن ضيعها بسبب المال والشهوات شابه قارون الذي خسف الله به وبداره الأرض، بسبب استكباره عن اتباع الحق، من أجل ماله الكثير واتباعه الشهوات فيحشر معه إلى النار، وإن ضيعها بسبب التجارة وأنواع المعاملات شابه أبي بن خلف - تاجر أهل مكة - من الكفرة، فيحشر معه يوم القيامة إلى النار.
نسأل الله العافية من حالهم وحال أمثالهم.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/169) ، سنن الدارمي الرقاق (2721) .(26/359)
174 - التنبيه على بطلان نشرتين يتداولهما الناس حول حديث مرفوع فيمن تهاون بالصلاة.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد اطلعت على نشرة بعنوان: عقوبة تارك الصلاة جاء فيها ما نصه: (روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تهاون في الصلاة عاقبه الله بخمس عشرة عقوبة "، ثم عددها، وجاء في آخرها: (كل من يتفضل بقراءة هذه النسخة الرجاء نسخها وتوزيعها على المسلمين جميعا، ثم قال: (الفاتحة لفاعل الخير) ، كما اطلعت على نشرة أخرى صدرت بثلاث آيات من القرآن الكريم التي أولها قوله سبحانه: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (1) ثم ذكر بعدها: أنها تجلب الخير بعد أربعة أيام، وطلب إرسال خمس وعشرين نسخة منها إلى من هو في حاجة،
__________
(1) سورة الزمر الآية 66(26/360)
وأتبع ذلك بذكر عقوبات يزعم وقوعها بمن أهملها.
وحيث إن هاتين النشرتين من الباطل والمنكرات رأيت التنبيه على ذلك؛ حتى لا يغتر بهما من تخفى عليهم أحكام الشرع المطهر، فأقول وبالله التوفيق:
لا شك أن هذه الطريقة من الأمور المبتدعة في الدين، ومن القول على الله بلا علم، وقد بين الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: أن ذلك من أعظم الذنوب فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1)
فليتق الله عبد يسلك هذه الطريقة المنكرة، وينسب إلى الله تعالى العقوبات وتعيين الجزاءات على الأعمال إنما هو من علم الغيب، ولا علم لأحد به إلا من طريق الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرد في الكتاب والسنة شيء من ذلك البتة.
أما الحديث الذي نسبه صاحب النشرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقوبة تارك الصلاة، وأنه يعاقب بخمس
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33(26/361)
عشرة عقوبة ... إلخ، فإنه من الأحاديث الباطلة المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم كما بين ذلك الحفاظ من العلماء رحمهم الله؛ كالحافظ الذهبي في الميزان رحمه الله، والحافظ ابن حجر رحمه الله وغيرهما.
قال الحافظ ابن حجر في كتابه (لسان الميزان) في ترجمة محمد بن علي بن العباس البغدادي العطار: أنه ركب على أبي بكر بن زياد النيسابوري حديثا باطلا في تارك الصلاة، روى عنه محمد بن علي الموازيني شيخ لأبي النرسي، زعم المذكور: أن ابن زياد أخذه عن الربيع، عن الشافعي، عن مالك، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه ورفعه: «من تهاون بصلاته عاقبه الله بخمس عشرة خصلة» . . . الحديث، وهو ظاهر البطلان من أحاديث الطرقية. اهـ.
وقد أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى ببطلان ذلك الحديث بتاريخ 10 \ 6 \ 1401هـ، فكيف يرضى عاقل لنفسه بترويج حديث موضوع، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من روى عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين (1) » ، وإن فيما جاء عن الله وعن رسوله في شأن الصلاة وعقوبة تاركها ما يكفي ويشفي، قال
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2662) ، سنن ابن ماجه المقدمة (40) ، مسند أحمد بن حنبل (1/113) .(26/362)
تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (1) وقال تعالى عن أهل النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (2) {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (3) الآيات، فذكر من صفاتهم: ترك الصلاة، وقال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (4) {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (5) {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} (6) {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (7) وقال صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإتياء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت (8) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر (9) » ، والآيات والأحاديث الصحيحة في هذا كثيرة معلومة.
وأما النشرة الثانية التي صدرت بالآيات التي أولها قوله سبحانه: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (10) وذكر كاتبها: أن من وزعها يحصل له كذا من الخير، ومن أهملها يعاقب بكذا من العقاب فإنها من أبطل الباطل، وأعظم الكذب،
__________
(1) سورة النساء الآية 103
(2) سورة المدثر الآية 42
(3) سورة المدثر الآية 43
(4) سورة الماعون الآية 4
(5) سورة الماعون الآية 5
(6) سورة الماعون الآية 6
(7) سورة الماعون الآية 7
(8) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/93) .
(9) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(10) سورة الزمر الآية 66(26/363)
وإنها من أعمال الجهلة والمبتدعة الذين يريدون إشعال العامة بالحكايات والخرافات والأقاويل الباطلة، ويصرفونهم عن الحق الواضح البين الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله، وأن ما يحدث للناس من خير أو شر هو من الله سبحانه، وهو العالم به وحده، وقال سبحانه: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (1) ولم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من كتب ثلاث آيات، أو أكثر منها يكون له كذا، ومن تركها يصيبه كذا، وادعاء هذا كذب وبهتان، إذا علم هذا، فإنه لا يجوز كتابة النشرتين، ولا توزيعها، ولا المشاركة في ترويجها بأي وجه من الوجوه، وعلى من سبق له شيء من ذلك أن يتوب إلى الله سبحانه، ويندم على ما حصل منه، ويعزم على عدم العودة إلى ذلك مطلقا.
__________
(1) سورة النمل الآية 65(26/364)
175 ـ ما صحة حديث:
" التمس لأخيك سبعين عذرا "
سائل يقول: ما صحة هذا الحديث " التمس لأخيك سبعين عذرا "؟ (1)
ج: لا أعلم له أصلا، والمشروع للمؤمن أن يحترم أخاه إذا اعتذر إليه ويقبل عذره إذا أمكن ذلك، ويحسن به الظن حيث أمكن ذلك حرصا على سلامة القلوب من البغضاء ورغبة في جمع الكلمة والتعاون على الخير، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: " لا تظن بكلمة صدرت من أخيك شرا وأنت تجد لها في الخير محملا ".
__________
(1) نشر في جريدة المسلمون العدد 530 في تاريخ 30 \ 1 \ 1415هـ.(26/365)
176 ـ رد على ما كتبه أحد الكتاب في حق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد (1) :
فقد اطلعت على القصة التي نقلها الكاتب من تاريخ ابن جرير الطبري رحمه الله عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال ما نصه:
(فاتبعته فدخل دارا ثم دخل حجرة، فاستأذنت وسلمت فأذن لي فدخلت عليه، فإذا هو جالس على مسح (بساط) متكئ على وسادتين من أدم محشوتين ليفا فنبذ إلى بإحداهما فجلست عليها، وإذا بهو في صفة فيها بيت عليه ستير، فقال: يا أم كلثوم غداءنا فأخرجت إليه خبزة بزيت في عرضها ملح لم يدق، فقال: يا أم كلثوم ألا تخرجين إلينا تأكلين معنا من هذا، قالت: إني أسمع عندك حس رجل قال: نعم ولا أراه من أهل البلد، قالت: لو أردت أن أخرج إلى الرجال لكسوتني كما كسى ابن جعفر امرأته، وكما كسى الزبير امرأته، وكما كسى طلحة امرأته، قال: أو ما
__________
(1) نشر في مجلة اليمامة العدد 684 وتاريخ 20 \ 3 \ 1402هـ.(26/366)
يكفيك أن يقال أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وامرأة أمير المؤمنين عمر، فقال: كل فلو كانت راضية لأطعمتك أطيب من هذا) اهـ.
وهذه القصة باطلة لا تثبت رواية ولا دراية، أما الرواية فلأن مدارها على جماعة من الضعفاء وبعضهم متهم بالكذب، وتنتهي القصة إلى مبهم لا يعرف من هو ولا تعرف حاله وهو الذي رواها عن عمر؛ وبذلك يعلم بطلانها من حيث الرواية.
وأما من حديث الدراية فمن وجوه:
1 ـ شذوذها ومخالفتها كما هو معلوم من سيرة عمر رضي الله عنه وشدته في الحجاب وغيرته العظيمة وحرصه على أن يحجب النبي صلى الله عليه وسلم نساءه حتى أنزل الله آية الحجاب.
2 ـ مخالفتها لأحكام الإسلام التي لا تخفى على عمر ولا غيره من أهل العلم، وقد دل القرآن والسنة النبوية على وجوب الاحتجاب وتحريم الاختلاط بين الرجال والنساء على وجه يسبب الفتنة ودواعيها.
3 ـ ما في متنها من النكارة الشديدة التي تتضح لكل من تأملها، وبكل حال فالقصة موضوعة على عمر بلا شك؛ للتشويه(26/367)
من سمعته أو للدعوة إلى الفساد بسفور النساء للرجال الأجانب واختلاطهن بهم أو المقاصد أخرى سيئة، نسأل الله العافية.
ولقد أحسن الشيخ أبو تراب الظاهري والشيخ محمد أحمد حساني والدكتور هاشم بكر حبشي فيما كتبوه في رد هذه القصة، وبيان بطلانها، وأنه لا يصح مثلها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جزاهم الله خيرا وضاعف مثوبتهم وزادنا وإياهم علما وتوفيقا وجعلنا وإياكم وسائر إخواننا من أنصار الحق.
وللمشاركة في بيان الحق وإبطال الباطل رأيت تحرير هذه الكلمة الموجزة؛ ليزداد القراء علما ببطلان هذه القصة وأنها في غاية السقوط للوجوه السالف ذكرها وغيرها، والله المسئول أن يهدينا جميعا إلى سواء السبيل، وأن يعيذنا وسائر إخواننا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم نبينا محمد.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(26/368)
177 ـ ما صحة حديث:
«يوم صومكم يوم نحركم»
س: الأخ و. ع. ح. من الرياض يقول في سؤاله هناك قول يتردد على ألسنة بعض الناس وهو (يوم صومكم يوم نحركم) وبعضهم يقول: إنه أثر فهل هذا صحيح يا سماحة الوالد نرجو الإفادة، وفقكم الله وأطال عمركم على طاعته؟ (1)
ج: لا أعلم له أصلا شرعيا، ولا أعلم أنه ورد في ذلك حديث يعتمد عليه، والله الموفق.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة من المجلة العربية وأجاب عنه سماحته في 19 \ 12 \ 1415هـ.(26/369)
178 ـ ما صحة حديث: "من زار أهل بيتي بعد وفاتي كتبت له سبعون حجة "
س: زيارة القبور أمثال الإمام علي رضي الله عنه والحسين والعباس وغيرهم، وهل الزيارة إليهم تعدل سبعين(26/369)
حجة من بيت الله الحرام؟ وهل قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من زار أهل بيتي بعد وفاتي كتبت له سبعون حجة» ؟ نرجو أن تفيدونا جزاكم الله خيرا؟ (1) .
ج: زيارة القبور سنة وفيها عظة وذكرى، وإذا كانت القبور من المسلمين دعا لهم.. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يزور القبور ويدعو للموتى، وكذا أصحابه رضي الله عنهم، ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (2) » ، «وكان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية (3) » ، وفي حديث عائشة: «يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين (4) » .
__________
(1) من برنامج نور على الدرب شريط رقم 8 ونشر في هذا المجموع ج9 ص283.
(2) رواه ابن ماجه في الجنائز، باب ما جاء في زيارة القبور برقم 1569.
(3) رواه مسلم في الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم 975، وابن ماجه في الجنائز، باب فيما يقال إذا دخل المقابر برقم 1547.
(4) رواه النسائي في كتاب الجنائز، باب الأمر بالاستغفار للمؤمنين برقم 2037.(26/370)
وفي حديث ابن عباس: «يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن في الأثر (1) » ، فالدعاء لهم بهذا وأشباهه كله طيب، وفي الزيارة ذكرى وعظة؛ ليستعد المؤمن لما نزل بهم وهو الموت، فإنه سوف ينزل به ما نزل بهم، فليعد العدة ويجتهد في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ويبتعد عما حرم الله ورسوله من سائر المعاصي ويلزم التوبة عما سلف من التقصير، هكذا يستفيد المؤمن من الزيارة.. أما ما ذكرت من زيارة القبور لعلي رضي الله عنه والحسن والحسين أو غيرهم أنها تعدل سبعين حجة ـ فهذا باطل ومكذوب على الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له أصل، وليست الزيارة لقبر النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الجميع تعدل حجة، الزيارة لها حالها وفضلها لكن لا تعدل حجة، فكيف بزيارة غيره عليه الصلاة والسلام؟ هذا من الكذب، وهكذا قولهم: «من زار أهل بيتي بعد وفاتي كتب له سبعون حجة» كل هذا لا أصل له وكله باطل، وكله مما كذبه الكذابون، فيجب على المؤمن الحذر من هذه الأشياء الموضوعة المكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الجنائز، باب ما يقول الرجل إذا دخل المقابر 1053.(26/371)
وإنما تسن الزيارة للقبور سواء كانت قبور أهل البيت أو من غيرهم من المسلمين، يزورهم ويدعو لهم ويترحم عليهم وينصرف.
أما إن كانت القبور للكفار فإن زيارتها للعظة والذكرى من دون أن يدعو لهم، كما زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه ونهاه ربه سبحانه أن يستغفر لها، زارها للعظة والذكرى ولم يستغفر لها، وهكذا القبور الأخرى ـ قبور الكفرة ـ إذا زارها المؤمن للعظة والذكرى فلا بأس، ولكن لا يسلم عليهم ولا يستغفر لهم؛ لأنهم ليسوا أهلا لذلك.(26/372)
179 ـ ما صحة حديث:
" من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني "
أرجو الإفادة عن صحة الأحاديث الآتية: (1)
الأول: «من حج ولم يزرني فقد جفاني» .
الثاني: «من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي» .
الثالث: «من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من إعداد محمد المسند ج4 ص 100.(26/372)
شهيدا يوم القيامة» ؛ لأنها وردت في بعض الكتب وحصل منها إشكال، واختلف فيها على رأيين أحدهما: يؤيد هذه الأحاديث، والثاني: لا يؤيدها.
ج: أما الحديث الأول: فقد رواه ابن عدي والدارقطني من طريق عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: «من حج ولم يزرني فقد جفاني» وهو حديث ضعيف، بل قيل عنه: إنه موضوع أي: مكذوب، وذلك أن في سنده محمد بن النعمان بن شبل الباهلي عن أبيه وكلاهما ضعيف جدا، وقال الدارقطني: الطعن في هذا الحديث على ابن النعمان لا على النعمان، وروى هذا الحديث البزار أيضا، وفي إسناده إبراهيم الغفاري وهو ضعيف، ورواه البيهقي عن عمر، وقال: إسناده مجهول.
أما الحديث الثاني: فقد أخرجه الدارقطني عن رجل من آل حاطب عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، وفي إسناده الرجل المجهول، ورواه أبو يعلى في مسنده، وابن عدي في كاملة، وفي إسناده حفص بن داود، وهو ضعيف الحديث.
أما الحديث الثالث: فقد رواه ابن أبي الدنيا عن طريق(26/373)
أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ وفي إسناده سليمان بن زيد الكعبي وهو ضعيف الحديث، ورواه أبو داود الطيالسي من طريق عمر، وفي إسناده مجهول.
هذا وقد وردت أحاديث صحيحة للعبرة والاتعاظ والدعاء للميت، أما الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم خاصة فكلها ضعيفة، بل قيل: إنها موضوعة.
فمن رغب في زيارة القبور أو في زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم زيارة شرعية للعبرة والاتعاظ والدعاء للميت والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والترضي عن صاحبيه دون أن يشد الرحال، أو ينشئ سفرا لذلك فزيارته مشروعة، ويرجى له فيها الأجر.
ومن شد لها الرحال أو أنشأ لها سفرا فذلك لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم (1) » رواه محمد بن عبد الواحد المقدسي في المختارة، والله أعلم.
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (2042) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) .(26/374)
180 ـ ما صحة حديث: "الغناء زاد الراكب "
س: سمعت كلاما لا أدري أهو حديث أم ماذا «الغناء زاد الراكب» بينوا لنا جزاكم الله خيرا؟
ج: ليس بحديث بل هو كلام باطل، والغناء هو رقية الشيطان، وهو في الحقيقة من لهو الحديث الذي نهى الله عنه وحذر منه وذم أهله في قوله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (1) وهو مما يصد عن سبيل الله ومما يشغل القلوب عن التلذذ بقراءة كلام الله وسماعه.
أما الشعر باللغة العربية واللحون العربية فلا بأس به إذا كان يشتمل على ما يرضي الله وينفع عباده، وهكذا كل شعر في الدعوة إلى الله وفي الترغيب إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والترهيب من مساوئ الأخلاق وسيئ الأعمال باللحون العربية والشعر العربي لا بلحون الغناء، فهذا لا بأس به كما قال
__________
(1) سورة لقمان الآية 6(26/375)
النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من الشعر حكمة (1) » ، وقد سمع شعر كعب بن زهير وشعر عبد الله بن رواحة وشعر كعب بن مالك وحسان بن ثابت رضي الله عنهم.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأدب، باب الشعر برقم 2844.(26/376)
181 ـ ما حكم صلاة التسابيح
س: الأخ ف. ك. من (أبو ظبي) من الإمارات العربية المتحدة يقول في سؤاله: قرأت فتوى لسماحتكم قبل مدة في المجلة العربية أن الحديث الوارد عن صلاة التسابيح غير صحيح وأنها لا تجوز، وبعد مدة وقع نظري علي حديث في سنن ابن ماجه عن أبي رافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: يا عم ألا أحبوك، ألا أنفعك، ألا أصلك، إلخ الحديث، وقد صححه الشيخ محمد بن ناصر الألباني، وقد ورد في المشكاة وفي صحيح الترغيب، أرجو التكرم من سماحتكم بإزالة اللبس (1) .
__________
(1) من أسئلة المجلة العربية.(26/376)
ج: الصواب أنه موضوع، كما صرح بذلك العلامة ابن الجوزي في الموضوعات، وضعفه الترمذي والعقيلي، وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص: الحق أن طرقه كلها ضعيفة، وضعفه شيخ الإسلام ابن تيمية والمزي، والحق أنه موضوع كما قدمنا، وكما صرح بذلك ابن الجوزي في الموضوعات، لضعف أسانيده ونكارة متنه ومخالفته للأحاديث الصحيحة المتواترة في بيان صفة الصلاة الشرعية، والله ولي التوفيق.(26/377)
182 ـ ما صحة حديث: "من عصاني وهو يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني "
س: إذا كان ينبغي للمسلم ألا ينسب قولا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ما صحت وثبتت نسبته إليه، أفلا يكون الأمر أولى وألزم عندما يكون قولا منسوبا لله عز وجل؟ وماذا عن هذه العبارة وأمثالها المصدرة عن الله سبحانه: «ومن عصاني وهو يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني» أفيدونا مشكورين؟ والسلام.
ج: لا يجوز لأي أحد أن ينسب إلى الله أو إلى رسوله صلى الله عليه وسلم إلا ما علم صحته، فإن شك في ذلك(26/377)
فالواجب ألا يجزم، بل يقول: روي عن الله سبحانه أنه قال: أو يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: وهكذا ما أشبه هذه الصيغة من صيغ التمريض التي ليس فيها جزم عن الله، ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد صرح أهل العلم بذلك، ومن ذلك هذا الأثر الذي ذكرتم المنسوب إلى الله عز وجل أنه قال: «من عصاني وهو يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني» ، وهذا الأثر لا نعلم له أصلا، وإنما هو مشهور في كتب الوعظ والتذكير، وعلى ألسنة بعض الوعاظ والمذكرين ولا يجوز الجزم به عن الله عز وجل، وإنما الواجب أن يحكى بصيغة التمريض آنفا وأشباهها، وفق الله المسلمين لكل ما فيه رضاه.(26/378)
183 ـ ما صحة حديث: " ما رفع مسلم منزله فوق سبعة أذرع إلا قيل له: إلى أين يا فاسق "
س: ما صحة حديث: " ما رفع مسلم منزله فوق سبعة أذرع إلا قيل له إلي أين يا فاسق "؟(26/378)
ج: هذا ليس بحديث ولعله من قول بعض السلف، ولكن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر التطاول في البنيان من أشراط الساعة، ولكن ليس فيه النهي عن ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك من أشراط الساعة أن تلد الأمة ربتها، والمراد بذلك التسري حتى تلد الأمة ربتها يعني سيدتها، وفي لفظ آخر ربها سمي بذلك، لأن ولد سيدها سيد لها في المعنى، ومعلوم أن التسري جائز ولو كانت كثرته من أشراط الساعة، ولا يمنع ذلك كونه من أشراط الساعة، وقد تسرى النبي صلى الله عليه وسلم جاريته مارية، فولدت له ابنه إبراهيم، وهكذا الصحابة رضي الله عنهم تسروا، وهكذا من بعدهم من السلف الصالح، والله ولي التوفيق.(26/379)
184 ـ حديث: "لا ربا بين المسلم والحربي"
حديث: «لا ربا بين المسلم والحربي» ، ذكره العيني في البناية على الهداية، وقال: غريب ليس له أصل مسند، ونقل عنه المبسوط أنه مروي عن مكحول مرسلا. أ. هـ.(26/379)
185 ـ حديث: "أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش "
حديث: " أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش " قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره لآخر سورة الفاتحة: لا أصل له، وقال العجلوني في كشف الخفاء ج1 ص 200 ما نصه: قال في اللآلئ معناه صحيح، ولكن لا أصل له كما قال ابن كثير وغيره من الحافظ وأورده أصحاب الغريب.. ولا يعرف له إسناد.(26/380)
186 ـ حديث: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد".
حديث: «فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد» أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.. وفي إسناده روح بن جناح وهو ضعيف كما في التقريب.(26/380)
187 ـ حديث: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"
حديث: «رجعنا من الجهاد الأصغر، إلي الجهاد الأكبر» رواه البيهقي بسند ضعيف، قاله الحافظ العراقي في شرح الإحياء، نقله عنه العجلوني في كشف الخفاء، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: هو كلام إبراهيم بن أبي عبلة وليس بحديث، نقله أيضا العجلوني عن الحافظ في الكشف، وهذا ملخص ما ذكره العجلوني، وفي رواية البيهقي: قالوا وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد القلب، ورواه الخطيب البغدادي بلفظ: رجعنا من الجهاد الأصغر إلي الجهاد الأكبر، قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه، وقد روياه جميعا عن جابر وكذا في كشف الخفاء، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى ج11 ص 197: أما الحديث الذي يرويه بعضهم أنه قال في عزوة تبوك: «رجعنا من الجهاد الأصغر، إلى الجهاد الأكبر» ، فلا أصل له، ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله.(26/381)
188 ـ حديث:
"لعن الله الناظر والمنظور إليه"
عن الحسن مرسلا قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله الناظر والمنظور إليه» رواه البيهقي في شعب الإيمان: قلت: مرسلات الحسن ضعيفة، ولا نعلم لهذا المتن أصلا يعضده ... ثم رأيت في كشف الخفاء للعجلوني رحمه الله ص 408 نسبة هذا الحديث إلى وضع إسحاق الملطي عامله الله بما يستحق.
انتهى الجزء السادس والعشرون ويليه بمشيئة الله تعالى الجزء السابع والعشرون ويحتوي على كتاب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(26/382)
صفحة فارغة(27/1)
صفحة فارغة(27/2)
بسم الله الرحمن الرحيم(27/3)
تنويه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فيلاحظ القارئ أن هذا الجزء من كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته اشتمل على عدد من المقالات والأسئلة التي سبق نشرها في الأجزاء الخاصة بالعقيدة وما في حكمها، وقد أعيد ترتيبها وفاء لتوجيهه رحمه الله، وتم طبعها مرة أخرى في هذا الجزء على النحو التالي:
أولا: كانت توجيهات سماحة الشيخ - رحمه الله - بوضع كل كلمة بعد ذلك فيما يناسبها من أبواب الفقه وكذلك السؤال وجوابه وينبه على مكانها السابق من الكتاب.
ثانيا: أن هذه الأسئلة كانت جزءا من محاضرات، ورأى سماحته - رحمه الله - وضعها كما كانت مع الأسئلة والإجابات عليها؛ لأن الشريط قد يكون طرح للتداول.
ثالثا: في هذا الجزء تم إعادة ترتيب تلك المقالات والأسئلة وترقيم الآيات وتخريج الأحاديث الواردة فيها، حسب موقعها الملائم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(27/4)
صفحة فارغة(27/5)
صفحة فارغة(27/6)
1 - لا سبيل إلى معرفة العبادة
إلا بالدعوة إلى الله تعالى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: (1) .
إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليعبدوه، وأرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام للأمر بذلك، ولا سبيل إلى معرفة هذه العبادة إلا بالدعوة إلى الله والتعليم والتوجيه والإرشاد، حتى يفهم المكلف هذه العبادة، التي خلق لها، يقول الله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (3) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (4) ويقول سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (5) ويقول عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (6)
__________
(1) محاضرة ألقاها سماحته في إحدى الجمعيات الخيرية بدولة الكويت عبر الهاتف في تاريخ 10 \ 10 \ 1416هـ.
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة الذاريات الآية 57
(4) سورة الذاريات الآية 58
(5) سورة النحل الآية 36
(6) سورة الأنبياء الآية 25(27/7)
فهو سبحانه خلق الخلق ليعبدوه، من جن وإنس وهذه العبادة هي دين الإسلام، هي توحيد الله، هي طاعته واتباع أوامره وترك نواهيه، والوقوف عند حدوده، هذه العبادة التي خلق الناس لها: جنهم وإنسهم، عربا وعجما، خلقوا ليعبدوا الله بتوحيده، والإخلاص له وتوجيه القلوب إليه، خوفا ورجاء ومحبة وتعظيما وإخلاصا، مع أداء ما أوجب وترك ما حرم، مع العناية بكل ما شرع الله، والحذر من كل ما نهى الله عنه، مع الوقوف عند حدود الله، هذه هي العبادة وهذا هو دين الإسلام، وهذا هو الإيمان وهذا هو الهدى، الذي قال الله فيه جل وعلا: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (1) وهو البر، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (2) وقال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (3) وقال سبحانه: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} (4) وهو التقوى، كما قال جل وعلا: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (5) وقال
__________
(1) سورة النجم الآية 23
(2) سورة البقرة الآية 189
(3) سورة الانفطار الآية 13
(4) سورة المطففين الآية 18
(5) سورة النساء الآية 131(27/8)
تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (2) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (3) فالعبادة التي خلقنا لها هي توحيد الله، هي تقوى الله، هي الإيمان بالله ورسله، هي البر والهدى، هي طاعة الله ورسوله، هي الاستقامة على دين الله قولا وعملا وعقيدة، هذه العبادة، سماها الله إيمانا وسماها إسلاما: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (4) وسماها إيمانا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} (5) وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (6) وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (7)
__________
(1) سورة النساء الآية 1
(2) سورة الحج الآية 1
(3) سورة آل عمران الآية 102
(4) سورة آل عمران الآية 19
(5) سورة النساء الآية 136
(6) سورة الأنفال الآية 2
(7) سورة التوبة الآية 71(27/9)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة (1) » وفي اللفظ الآخر: «بضع وستون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق (2) » فسمى دينه إيمانا وسماه إسلاما، وسماه تقوى، وسماه هدى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (3) وسماها برا، {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (4) وقال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (5) وقال سبحانه: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (6) الآية، ثم قال في آخرها: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (7) هذا دين الله، فالواجب على الدعاة إلى الله جميعا، أن يوضحوا للناس هذه العقيدة، وأن يشرحوا لهم العبادة التي خلقوا لها، وأنها توحيد الله وطاعته واتباع
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (35) ، سنن الترمذي الإيمان (2614) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5005) ، سنن أبو داود السنة (4676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (57) ، مسند أحمد بن حنبل (2/414) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها.
(3) سورة النجم الآية 23
(4) سورة الانفطار الآية 13
(5) سورة البقرة الآية 189
(6) سورة البقرة الآية 177
(7) سورة البقرة الآية 177(27/10)
شريعته، وطاعة أوامره وترك نواهيه، والوقوف عند حدوده، هذه العبادة التي خلقوا لها، فيجب أن يعلموها، وأن توضح لهم، والناس في أشد الحاجة، في أشد الضرورة، أن يعرفوا هذه العبادة التي خلقوا لها، وفضل الدعوة عظيم، هي طريق الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومنهج الرسل، فيكفي شرفا للداعي أن يكون نهج منهج الرسل، وسار في طريقهم، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) وسيدهم وإمامهم وأفضلهم وخاتمهم، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل الدعاة، وخير الدعاة، عليه الصلاة والسلام، بعثه الله إلى الناس كافة إلى الجن والإنس، يدعوهم إلى الله يدعوهم إلى توحيد الله وطاعته، يدعوهم إلى أداء فرائض الله، وترك محارم الله، يدعوهم إلى الإيمان بالله ورسوله، يدعوهم إلى الوقوف عند حدود الله، هذه دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، أن يلتزم المؤمن في توحيد الله وطاعته، وأن يحذر الشرك به ومعصيته: سواء كان ذكرا، أو أنثى، جنيا أو إنسيا عربيا أو عجميا، الواجب عليه أن يتقي الله بالإخلاص له، واتباع شريعته، وتعظيم أمره ونهيه، وترك ما نهى عنه من الشرك وما دونه، قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2)
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الزمر الآية 65(27/11)
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) وقال جل وعلا: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) وقال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (3) وقال سبحانه {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (4)
فالواجب على جميع الدعاة، أن يوضحوا للناس هذا الأمر، وأن يعتنوا به غاية العناية؛ لأن العباد في أشد الضرورة إلى ذلك، سواء كانوا عربا أو عجما، ذكورا أو إناثا جنا أو إنسا، كلهم في أشد الحاجة، بل أشد الضرورة إلى أن يعرفوا العبادة، التي خلقوا لها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (5) وقال سبحانه:
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة الأنعام الآية 88
(3) سورة لقمان الآية 13
(4) سورة التوبة الآية 17
(5) سورة البقرة الآية 21(27/12)
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وقال سبحانه {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) ويقول جل وعلا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) فيجب أن توضح هذه العبادة، ما معنى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (4) ما معنى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (5) ما معنى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (6) الإمام يعلم جماعته في المسجد، المدرس يعلم الطلبة، والرجل يعلم أهل بيته، الداعي إلى الله في كل مكان يعلم الناس بالمذياع من طريق الشريط، أو من طريق التلفاز من جميع الطرق ممكن، يعلم إخوانه المسلمين ذكورهم وإناثهم، جنهم وإنسهم يعلمهم هذه العبادة، يوضح لهم حقيقتها ويدعوهم إلى الالتزام بها، والإخلاص لله في كل أعمالهم، والحذر من الشرك دقيقه وجليله، صغيره وكبيره ويحثهم على ترك ما نهى الله عنه من سائر المعاصي كالزنا،
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة الفاتحة الآية 5
(4) سورة الفاتحة الآية 5
(5) سورة الذاريات الآية 56
(6) سورة النحل الآية 36(27/13)
والسرقة والظلم وعقوق الوالدين، أو أحدهما وقطيعة الرحم والربا، وقذف المحصنات الغافلات وأكل مال اليتامى والغيبة والنميمة، إلى غير ذلك مما نهى الله عنه، هذا هو واجب المسلمين هذا هو واجب العلماء، وهم خلفاء الرسل، فالواجب عليهم أن يتأسوا بالرسل في الدعوة إلى الله، وأن يصبروا على ذلك، كما قال جل وعلا: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (1) وقال جل وعلا في سورة لقمان يعظ ابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} (2) وقال سبحانه {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (3) وقال سبحانه يخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (4)
فعلى العلماء أينما كانوا في كل مكان أن يصبروا على الدعوة إلى الله لشدة حاجة الناس إلى ذلك، العلماء هم خلفاء الرسل، هم
__________
(1) سورة النحل الآية 127
(2) سورة لقمان الآية 17
(3) سورة الزمر الآية 10
(4) سورة الأحقاف الآية 35(27/14)
الدعاة إلى الله، هم الهداة إلى الدين، ذكورا وإناثا، عربا أو عجما جنا أو إنسا، يجب أن يعلموا الناس يجب أن يصبروا وأن يوضحوا للناس حقيقة العبادة بالأدلة الشرعية؛ لأن الكثير من الناس لا يفهمها ولا يعرف حقيقة الدين، ولهذا تعلقوا بالقبور فعبدوا الموتى واستغاثوا بهم، ونذروا لهم يظنون أن هذا هو الدين، وأن هذا شرع الله، وأنه يحبه سبحانه؛ لجهلهم وضلالهم، وعدم بصيرتهم. فالواجب على أهل العلم أن ينبهوهم ويوضحوا لهم، وأن التعلق بالأموات أو الاستغاثة بالأموات، أو النذر للأموات أو للأصنام أو للجن ونحو ذلك، هذا هو الشرك الأكبر، هذا هو دين المشركين، هذا هو دين عباد الأوثان، التعلق على الأموات، والاستغاثة بهم أو النذر لهم، أو الذبح لهم أو خوفهم ورجائهم أو نحو ذلك، هذا هو دين المشركين، قال الله عنهم سبحانه أنهم قالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (1) وقال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (2) فيستغيثون
__________
(1) سورة الزمر الآية 3
(2) سورة يونس الآية 18(27/15)
بهم، وينذرون لهم، ويذبحون لهم ويخافونهم، ويرجونهم؛ لأنهم بزعمهم يشفعون لهم عند الله، ويقربون من الله، ما قالوا إنهم يخلقون ويرزقون، يعلمون أن الله هو الخلاق الرزاق، قريش وغيرها من المشركين يعرفون أن الله هو الخلاق الرزاق،، المحيي المميت المدبر، لكنهم عبدوا ما عبدوا وغيرهم من الأنبياء والصالحين، والجن وغير ذلك عبدوهم ليقربوهم من الله، وليشفعوا لهم، كما قال سبحانه {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} (1) قال جل وعلا: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (2) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (3) يعني يقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (4) سماهم كفرة كذبة، كذبة في قولهم إنهم يقربونهم من الله زلفى، وسماهم كفرة بشركهم بالله، وبعبادتهم للأصنام والأوثان، وتعلقهم عليهم، والله سبحانه يقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (5)
__________
(1) سورة يونس الآية 18
(2) سورة الزمر الآية 2
(3) سورة الزمر الآية 3
(4) سورة الزمر الآية 3
(5) سورة الإسراء الآية 23(27/16)
وقال {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (1) ويقول سبحانه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) فالعبادة حق الله وحده، ليس لأحد فيها نصيب لا الرسل ولا غيرهم، والدعوة إلى الله هي دين الرسل هي منهج الرسل {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) ويقول {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (4) وقد بعثهم الله عليهم الصلاة والسلام للناس من أولهم نوح إلى آخرهم محمد، يدعون الناس إلى توحيد الله وإلى طاعة الله، وقبل ذلك أبونا آدم أرسله الله إلى ذريته، يدعوهم ويعلمهم ويرشدهم عليه الصلاة والسلام، قال ابن عباس: كان الناس على الإسلام عشرة قرون، قبل مبعث نوح عليه السلام، ما وقع الشرك إلا في قوم نوح، فما وقع الشرك في قوم نوح، بسبب الغلو في ود وسواع، ويغوث، ويعوق ونسر
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة النحل الآية 36
(4) سورة الأنبياء الآية 25(27/17)
وأشباههم وعبدوهم وتعلقوا عليهم، أرسل الله نوحا عليه الصلاة والسلام، يدعوهم إلى توحيد الله وطاعة الله، وترك الشرك بالله في ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، وغيرهم فاستمروا في طغيانهم وكفرهم وضلالهم، وهو يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما، ومع ذلك لم يؤمن به إلا قليل، وأصروا واستكبروا واستمروا في كفرهم، وضلالهم حتى أمر الله نوحا فصنع السفينة وركب من أراد الله نجاته، ثم قال جل وعلا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (1) {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} (2) لم ينج إلا أصحاب السفينة، والبقية هلكوا بشركهم وكفرهم، بسبب الغرق: الماء من تحتهم ومن فوقهم، ثم بعث الله بعده هودا، ثم صالحا وشعيبا ولوطا وإبراهيم وهكذا تتابع الأنبياء كلهم، يدعون الناس إلى توحيد الله وإلى طاعة الله، ويحذرون الناس من الشرك بالله، فأصاب قومهم ما أصابهم، من أنواع العقوبات، فأصاب الله عادا بالريح العقيم، وثمود بالصيحة والرجفة وقوم لوط بالخسف والعياذ بالله، وقوم شعيب بالرجفة
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 14
(2) سورة العنكبوت الآية 15(27/18)
والصيحة وغير ذلك مما أصاب أعداء الله، فالواجب على الدعاة إلى الله، أن يعظموا هذا الأمر وأن يحققوا الدعوة إلى الله بكل ما يستطيعون، وأن يتأسوا بالرسل عليهم الصلاة والسلام في ذلك، قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) وقال جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) فالواجب اتباع الرسل في هذا الأمر العظيم، وفي غيره والصبر على ذلك والحذر من العنف والشدة، التي قد تنفر الناس، فالداعي إلى الله يتحرى الأسلوب الحسن، والعبارات الواضحة، ويحذر من العنف والشدة؛ لأن ذلك ينفر ويغلق الباب على المدعو، فالواجب الرفق، وتحري الأسلوب الحسن، حتى ينشرح صدر المدعو ويقبل الحق إلا من ظلم، من ظلم له جزاء آخر، قال الله سبحانه وتعالى {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (3) فمن ظلم وقابل
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة العنكبوت الآية 46(27/19)
الداعي بالظلم، فحينئذ له جواب آخر، لكن الداعي يتحرى الأسلوب الحسن، يتحرى الرفق ويحذر التعرض لأعراض العلماء وثلب العلماء، والتنفير منهم؛ لأن هذا يفرق ولا يجمع، يسبب الشحناء، فالواجب على الداعي إلى الله، أن يرغب الناس في العلم، في حضور دعوة علماء السنة، ويدعوهم إلى القبول منهم، ويحذر التنفير من أهل العلم المعروفين بالعقيدة الصحيحة، والدعوة إلى الله عز وجل، وكل واحد له أخطاء، ما أحد يسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون (1) » ، وهكذا قول العلماء، قال مالك رحمه الله، ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر، يعني الرسول صلى الله عليه وسلم، فكل عالم له أخطاء، فالواجب أن ينبه على أخطائه بالأسلوب الحسن، ولكن ما ينفر منه وهو من أهل السنة، بل يوجه إلى الخير، ويعلم الخير، وينصح بالرفق في دعوته إلى الله، عز وجل وينبه على خطئه، ويدعى الناس إلى أن
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب منه برقم 2499، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر التوبة برقم 4251، وأحمد في المسند باقي مسند المكثرين، باقي المسند السابق برقم 12637.(27/20)
يطلبوا من العلم، ويتفقهوا عليه مادام من أهل السنة والجماعة، فالخطأ لا يوجب التنفير منه، ولكن ينبه على الخطأ الذي وقع منه فكل إنسان له أخطاء، ولكن الاعتبار بما غلب عليه، وبما عرف عنه من العقيدة الطيبة، فالواجب على الدعاة إلى الله أن يتصبروا، وأن يرفقوا وأن لا يعجلوا من أمورهم، وأن يتحروا الحق وأن يحذروا التنفير من أهل العلم، وأن يحذروا أسباب الشحناء والعداوة، بل عليهم أن يحرصوا على كل أسباب الاجتماع بين أهل العلم وأهل السنة والجماعة في دعوتهم إلى الله وترغيبهم للناس في الخير، حتى يكثروا الدعاة إلى الله وحتى ينتشروا، وحتى يرغب الناس في الدعوة والأخذ عنهم فإذا سمعوا هذا ينفر من هذا وهذا ينفر من هذا ضاعت الدعوة، وساءت الظنون.
فالواجب على علماء السنة التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والرفق فيما بينهم، والحرص على إزالة أسباب الفرقة والاختلاف، والتفاهم في الأخطاء والغلط، كل واحد يخطئ لا بد من التفاهم بين الجميع بالمكاتبة أو بالاجتماع أو بالهاتف، حتى تزول الفرقة حتى تزول الوحشة، وحتى يجتمع الجميع على الحق والدعوة إليه، في مساجدهم وفي بيوتهم، وفي مجتمعاتهم، فالواجب التعاون على البر والتقوى، والتناسي عما قد(27/21)
يقع من زلة وهفوة، من ذا الذي يسلم، المهم أن تكون الدعوة سلفية، على طريق الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وأتباعهم بإحسان، معتمدا على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام لا على الأهواء ولكن على كتاب الله وسنة رسوله ولا على التقليد لفلان وفلان، يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) ويقول سبحانه {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (2) هذا هو الواجب على الجميع، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر (3) » فالداعي إلى الله والعالم الموجه إلى الخير، إذا أخطأ له أجر الاجتهاد، وإذا أصاب له أجران، ما دام على الطريقة
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ برقم7352، ومسلم في كتاب الأقضية، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ برقم1716.(27/22)
السلفية، طريقة أهل السنة، مادام موحدا قاصدا للخير، فقد يغلط فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، المهم أن تكون أصوله مستقيمة، وأن يكون على الطريق السوي على طريق سلف الأمة، تابعا لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأئمة الإسلام، يريد تفهيم الناس الخير، يريد توجههم إلى طاعة الله ورسوله، يريد كفهم عن محارم الله، يريد كفهم عن البدع التي انتشرت بين الناس، وليس بشرط أن يكون معصوما، العصمة للرسل فيما يبلغون عن الله، لكن يجتهد ويحرص على طلب الحق بالأدلة الشرعية، ومن صدق في ذلك وأخلص لله، وفقه الله وأعانه، فمن علم الله من قلبه الصدق والإخلاص، وأنه يريد الحق فالله سبحانه يعينه ويسدده، فالواجب على كل داعية وعلى كل عالم أن يخلص لله وأن يكون هدفه الحق، قصده الحق، قصده توجيه الناس إلى الخير، ليس له قصد آخر من رياء أو سمعة أو طلب حمد الناس، أو غير هذا، إنما يقصد بدعوته إلى الله، وتعليم الناس، يقصد وجه الله، يقصد إخراجهم من الظلمات إلى النور، يريد إخراجهم من أسباب الهلاك، إلى أسباب السعادة، يريد إبلاغ رسالة الله ودعوة الله، فمن صدق مع الله وأخلص لله وفقه الله، وأعانه وبارك في جهوده وهدى به الأمة، وجعل له لسان صدق(27/23)
في العالمين بسبب صدقه وإخلاصه، فأوصيكم أيها الأخوة مرة أخرى، أوصيكم بتقوى الله، وأوصيكم بالتعاون على البر والتقوى، وأوصيكم بطيب الكلام، والحرص على طيب الكلام، على الأسلوب الحسن، وعلى الرفق في الدعوة وحسن الظن بإخوانكم أهل السنة وعدم نشر ما يشوه سمعتهم، من أغلاط بل عالجوها بالطرق القيمة بالمحادثة بينكم بالاتصال الهاتفي، بالزيارة بالمكاتبة الطيبة حتى تزول الوحشة وحتى يتضح الحق وحتى يزول الخطأ والهدف هو طاعة الله ورسوله، الهدف هو الدعوة إلى سبيل الله، الهدف هو هداية الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، كما قال الله عز وجل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (1) وقال تعالى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) وقوله سبحانه {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) والله المسئول بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن يجعلنا
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 1
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة فصلت الآية 33(27/24)
وإياكم من دعاة الهدى، ومن أنصار الحق، وأن يمنحنا وإياكم الفقه في دينه، والثبات عليه وأن يعيذنا جميعا وسائر إخواننا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وأن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يفقههم في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم، ويصلح قادتهم، ونوصيكم أيضا بنصيحة ولاة الأمور في كل مكان بتقوى الله وطاعة الله وتحكيم شريعة الله، وأوصي نفسي وجميع العلماء والدعاة، أوصيكم بأن يوصوا أمراء المسلمين، وحكام المسلمين بالنصائح الشفهية، والنصائح الكتابية بتحكيم شريعة الله، والتحاكم إليها والحذر من كل قانون يخالفها.
فالواجب على جميع ولاة أمر المسلمين أن يحكموا شرع الله، وأن يقيموا دين الله في بلادهم، وبين شعوبهم كما قال الله عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (1) وقال جل وعلا: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) وقال تعالى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) وقال
__________
(1) سورة المائدة الآية 49
(2) سورة المائدة الآية 50
(3) سورة النساء الآية 65(27/25)
سبحانه {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3) فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله، ورآه جائزا أو حسنا، أو أحسن من حكم الله فهو كافر عند جميع المسلمين مرتد عن الإسلام، أما من حكم بغير ما أنزل الله لشهوة أو رشوة أو أسباب أخرى، وهو يعلم أنه مخطئ أنه غلطان فهذا كفر دون كفر، ومعصية كبيرة، كما قال ابن عباس وغيره في جمع من التابعين وغيرهم، كما هو قول جمهور أهل العلم، المقصود أن هذا فيه التفصيل. فالواجب على جميع أمراء المسلمين، وعلى علماء المسلمين التعاون في هذا الأمر، الواجب تحكيم شريعة الله، والتحاكم إليها والحذر من كل ما يخالفها وأن يوصى الناس بذلك، وأن يلزموا بذلك، هذا هو الواجب على جميع أمراء المسلمين، والواجب على جميع علماء المسلمين أن ينصحوهم، وأن يوجهوهم إلى الخير، وأن يقوم الأمراء بتحكيم شريعة الله، ومنع ما يخالف شريعة الله في جميع الأحوال في الدعاوى والخصومات المالية، وفي النكاح والطلاق، وفي جميع
__________
(1) سورة المائدة الآية 44
(2) سورة المائدة الآية 45
(3) سورة المائدة الآية 47(27/26)
شئون المسلمين، في البيع والشراء وفي كل شيء، يجب تحكيم شرع الله في كل شيء، في العبادات والمعاملات والمنازعات، والخصومات وفي النكاح والطلاق، وفي كل شيء يجب أن ينفذ حكم الله في كل شيء؛ لأن الله يقول {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (1) ويقول سبحانه {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) هذا هو الواجب على جميع المسلمين، وعلى حكامهم وأمرائهم وعلى علمائهم عليهم التعاون في هذا والتواصي بهذا أين ما كانوا.
نسأل الله أن يوفق علماء المسلمين، وأمراء المسلمين في كل مكان، ونسأل الله أن يوفقهم لما يرضيه، وأن يمنحهم الهداية والفقه في الدين وأن يعينهم على تحكيم شريعة الله في كل شيء وأن يصلح لهم البطانة، وأن يوفق جميع المسلمين لقبول الحق، وإيثاره والرضا به على ما سواه إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
__________
(1) سورة المائدة الآية 49
(2) سورة المائدة الآية 50(27/27)
2 - فضل الدعوة إلى الله تعالى
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فإني أشكر للمسئولين في الرابطة ما تكرموا به من تقديم الدعوة إلي للمشاركة في موسم الرابطة الثقافي لهذا العام 1391 هـ.
وأسأل الله عز وجل أن ينفع المسلمين بهذا الموسم، وأن يكلل جهود القائمين عليه بالنجاح، وأن يجزل لهم المثوبة، إنه خير مسئول.
وقد رأى المسئولون في الرابطة أن تكون المحاضرة في أثر(27/28)
الدعوة في انتشار الإسلام. وقد أجبتهم إلى ذلك، ورأيت أن يكون العنوان ما سمعتم وهو فضل الدعوة. ومن هذا يعلم أن هذه المحاضرة ذات شقين: أحدهما يتعلق بفضل الدعوة، والثاني: يتعلق بأثرها في انتشار الإسلام.
أما ما يتعلق بفضل الدعوة، فكل من له أدنى إلمام بالعلم، يعرف أن الدعوة شأنها عظيم وأنها مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام، والرسل عليهم الصلاة والسلام هم الأئمة في هذا الشأن، وهم الأئمة في الدعوة، وهي وظيفتهم؛ لأن الله جل وعلا بعثهم دعاة للحق، وهداة للخلق عليهم الصلاة والسلام، فكفى الدعوة شرفا، وكفاها منزلة عظيمة أن تكون وظيفة الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة. قال الله تعالى في كتابه المبين: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) فبين سبحانه وتعالى أن الرسل جميعا بعثوا لهذا الأمر العظيم للدعوة إلى عبادة الله وحده، واجتناب الطاغوت.
والمعنى أنهم بعثوا لدعوة الناس إلى إفراد الله بالعبادة، وتخصيصه بها، دون كل ما سواه، وتحرير الناس من عبادة الطاغوت، إلى عبادة الله وحده.
__________
(1) سورة النحل الآية 36(27/29)
والطاغوت كل ما عبد من دون الله من شجر وحجر، أما ما عبد من دون الله من الأنبياء والصالحين والملائكة فليس المعبود منهم طاغوتا، ولكن الطاغوت هو الشيطان الذي دعا إلى ذلك وزين ذلك، وإلا فالرسل والصالحون يبرءون إلى الله عز وجل من عبادة من عبدهم.
فالطاغوت كل ما عبد من دون الله من الجمادات، ومن العقلاء الذين يرضون بذلك كفرعون وأشباهه، أما من لا يرضى بذلك فالطاغوت هو الشيطان الذي دعا إلى عبادته وزينها.
وقال عز وجل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (1) فبين سبحانه وتعالى أن الرسل بعثوا مبشرين ومنذرين، مبشرين من أطاعهم بالنصر والتأييد والجنة والكرامة، ومنذرين من عصاهم بالخيبة والندامة والنار.
وفي بعثهم إقامة الحجة، وقطع المعذرة، حتى لا يقول قائل ما جاءنا من بشير ولا نذير، فالله سبحانه وتعالى بعث الرسل إقامة للحجة، وقطعا للمعذرة، وهداية للخلق، وبيانا للحق، وإرشادا للعباد إلى أسباب النجاة، وتحذيرا لهم من أسباب
__________
(1) سورة النساء الآية 165(27/30)
الهلاك عليهم الصلاة والسلام فهم خير الناس وأصلح الناس، وأنفع الناس للناس، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (1) {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (2) فأخبر سبحانه أنه بعث هذا الرسول الكريم محمدا عليه الصلاة والسلام شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله - فعلم بذلك أن وظيفة الدعوة إلى الله هي تبليغ الناس الحق، وإرشادهم إليه، وتحذيرهم مما يخالفه ويضاده. وهكذا أتباعهم إلى يوم القيامة. مهمتهم الدعوة إلى الله وإرشاد الناس إلى ما خلقوا له، وتحذيرهم من أسباب الهلاك، كما قال عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) فأمر الله نبيه أن يبلغ الناس أن سبيله التي هو عليها الدعوة إلى الله عز وجل، وهكذا أتباعه هم على ذلك. والمعنى قل يا محمد، أو قل يا أيها الرسول للناس: هذه سبيلي أنا ومن اتبعني. فعلم بذلك أن الرسل وأتباعهم هم أهل الدعوة، وهم أهل البصائر، فمن دعا على غير بصيرة فليس من أتباعهم، ومن أهمل الدعوة فليس من أتباعهم، وإنما أتباعهم
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 45
(2) سورة الأحزاب الآية 46
(3) سورة يوسف الآية 108(27/31)
على الحقيقة هم الدعاة إلى الله على بصيرة، يعني أتباعهم الكمل الصادقين الذين دعوا إلى الله على بصيرة، ولم يقصروا في ذلك، وعملوا بما يدعون إليه، وكل ما حصل من تقصير في الدعوة، أو في البصيرة كان نقصا في الاتباع، ونقصا في الإيمان وضعفا فيه، فالواجب على الداعية إلى الله عز وجل، أن يكون ذا بصيرة، أي ذا علم، فالدعوة على جهل لا تجوز أبدا؛ لأن الداعية إلى الله على جهل يضر ولا ينفع، ويخرب ولا يعمر، ويضل ولا يهدي، فالواجب على الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى التأسي بالرسل بالصبر والعلم والنشاط في الدعوة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (1) فالدعوة إلى الله عز وجل هي سبيل الرسل وطريقهم عليهم الصلاة والسلام، وفي ذلك غاية الشرف والفضل للدعاة أتباع الرسل، المقتدين بهم السائرين على منهاجهم عليهم الصلاة والسلام، ومن شرط ذلك أن يكون الداعية على بصيرة وعلم وبينة، بما يدعو إليه، ومما يحذر منه حتى لا يضر الناس، وحتى لا يدعو إلى ضلالة وهو لا يدري، أو يدعو إلى باطل وترك حق وهو لا يدري، حتى يكون على بينة ليعرف ما يدعو إليه، وما يدعو إلى تركه، وقال عز وجل:
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(27/32)
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) هذا الأمر العظيم، وإن كان موجها إلى الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، فهو أمر للأمة جميعا وإن خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم فهو الأصل والأساس، وهو القدوة عليه الصلاة والسلام، ولكنه مع ذلك موجه للأمة جميعا؛ لأن القاعدة الشرعية أن أمته تابعة له في الأمر والنهي إلا ما دل الدليل على أنه خاص به عليه الصلاة والسلام، فالدعوة إلى الله فرض على الجميع، وواجب على الجميع، قال الله جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (2) فعلى المسلمين أن يتأسوا بنبيهم عليه الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله، والتوجيه إليه، وإرشاد العباد إلى أسباب النجاة، وتحذيرهم من أسباب الهلاك، وفي هذه الآية العظيمة بيان كيفية الدعوة وأسلوبها، ونظامها وما ينبغي للداعي أن يكون عليه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} (3) قال جماعة من علماء التفسير: معنى ذلك: الآيات والأحاديث: يعني ادع إلى الله بآيات الله وبسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، لما
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة الأحزاب الآية 21
(3) سورة النحل الآية 125(27/33)
فيها من الحكمة، ولما فيها من الفقه والردع والبيان والإيضاح، والكلمة الحكيمة هي التي فيها الردع عن الباطل، والتوجيه إلى الخير، وفيها الإقناع والتوجيه إلى ما فيه السعادة.
فالداعي إلى الله جل وعلا، ينبغي له أن يتحرى في دعوته ما يقنع المدعو، ويوضح الحق، ويردعه عما يضره، بالأسلوب الحسن الطيب، اللين الرقيق، ولهذا قال بعده: {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (1) فليكن الداعي ذا حكمة، وذا موعظة حسنة، عند الحاجة إليها، فهو يوضح الحق ويبينه، ويرشد إليه بالآيات والأحاديث الواضحة البينة الصحيحة، حتى لا يبقى شبهة للمدعو.
ومن الحكمة إيضاح المعنى وبيانه بالأساليب المؤثرة التي يفهمها المدعو وبلغته التي يفهمها حتى لا تبقى عنده شبهة، وحتى لا يخفى عليه الحق بسبب عدم البيان، أو بسبب عدم إقناعه بلغته، أو بسبب تعارض بعض الأدلة، وعدم بيان المرجح، فإذا كان هناك ما يوجب الموعظة وعظ وذكر بالآيات الزواجر، والأحاديث التي فيها الترغيب والترهيب، حتى ينتبه المدعو ويرق قلبه، وينقاد للحق، فالمقام قد يحتاج فيه المدعو إلى موعظة وترغيب وترهيب على حسب حاله، وقد يكون مستعدا لقبول الحق، فعند أقل تنبيه يقبل الحق، وتكفيه الحكمة، وقد يكون عنده
__________
(1) سورة النحل الآية 125(27/34)
بعض التمنع وبعض الإعراض فيحتاج إلى موعظة وإلى توجيه، وإلى ذكر آيات الزجر والترغيب، وأحاديث الزجر والترغيب والترهيب حتى يلين قلبه، ويقبل الحق.
وقد يكون عنده شبه فيحتاج إلى جدال بالتي هي أحسن، حتى تزاح الشبهة، ويتضح الحق ولهذا قال جل وعلا: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1)
فإذا كان المدعو عنده بعض الشبه، فعليك أيها الداعي أن توضح الحق بدلائله، وأن تزيح الشبهة بالدلائل التي تزيحها، حتى يبقى معك المدعو على أمر بين واضح، وليكن هذا بالتي هي أحسن لأن العنف والشدة قد يضيعان الفائدة، وقد يقسو قلب المدعو بسبب ذلك ويحصل له به الإعراض والتكبر عن القبول فعليك بالرفق والجدال بالتي هي أحسن حتى يقبل منك الحق، وحتى لا تضيع الفرصة، وتذهب الفائدة سدى، بسبب العنف والشدة، مادام صاحبك يريد منك الحق، ولم يظلم ولم يتعد، أما عند الظلم والتعدي فله نهج آخر، وسبيل آخر، كما قال جل وعلا: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (2)
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة العنكبوت الآية 46(27/35)
فإذا كان أهل الكتاب يجادلون بالتي هي أحسن، فالمسلمون من باب أولى أن يجادلوا بالتي هي أحسن، لكن من ظلم ينتقل معه إلى شيء آخر، فقد يستحق الظالم الزجر، والتوبيخ، وقد يستحق التأديب والسجن، إلى غير ذلك على حسب ظلمه.
والآيات في فضل الدعوة، والحث عليها كثيرة، ولكن من أهم ذلك وأوضحه ما بينا، ومن هذا قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) ففي هذه الآية الكريمة بيان أنه لا أحسن قولا ممن دعا إلى الله، وفي ذلك غاية الحث على الدعوة، وغاية التحريض عليها، إذا كان لا أحسن قولا، ممن دعا إلى الله، فحقيق بالمؤمن، وحقيق بطالب العلم أن يبادر ويسارع إلى هذا المقام العظيم، مقام الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو الدعوة إلى الله والإرشاد إلى دينه الحق، وهذه الطائفة رأسها وأئمتها الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهم أحسن الناس قولا، وهم أئمة الهدى والدعوة، وهم أولى الناس بالدخول في هذه الآية
__________
(1) سورة فصلت الآية 33(27/36)
الكريمة؛ لأنهم القدوة والأساس في الدعوة إلى الله عز وجل عليهم الصلاة والسلام.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) هذه الآية العظيمة تبين لنا أن الداعي إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون ذا عمل صالح يدعو إلى الله بلسانه، ويدعو إلى الله بأفعاله أيضا، ولهذا قال بعده {وَعَمِلَ صَالِحًا} (2) فالداعي إلى الله عز وجل يكون داعية باللسان، وداعية بالعمل، ولا أحسن قولا من هذا الصنف من الناس، هم الدعاة إلى الله بأقوالهم الطيبة، وهم يوجهون الناس بالأقوال والأعمال، فصاروا قدوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم وسيرتهم.
وهكذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام، دعاة إلى الله بالأقوال والأعمال والسيرة، وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة أكثر مما ينتفعون بالأقوال ولا سيما العامة وأرباب العلوم القاصرة فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها، فالداعي إلى الله عز وجل من أهم المهمات في حقه أن يكون ذا سيرة حسنة وذا عمل صالح وذا خلق فاضل حتى يقتدى بأفعاله وأقواله وسيرته.
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة فصلت الآية 33(27/37)
{وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) يعني الداعي يصرح بما هو عليه ويبين أنه على المنهج الأسمى، على الحق، يقول هذا معتزا به فرحا به مغتبطا به لا مرائيا ولا مفاخرا ولكنه مبين للحق يقول إني على صراط مستقيم، أنا من المسلمين. لست نصرانيا ولا يهوديا ولا وثنيا ولكنني مسلم حنيف أدعو إلى الله على بصيرة أدعو إلى ديني أدعو إلى الحق، ويقول هذا عن اغتباط وعن سرور وعن اعتراف صادق وعن إيمان بما يدعو إليه حتى يعلم المدعوون أنه على بينة وأنه على طريق واضح ومنهج صحيح وأنه إذا دعا إلى الإسلام فإنه يدعو إليه وهو من أهله، ليس يدعو إليه وهو من غير أهله بل هو يدعو إليه وهو عليه آخذ به ملتزم به. وكثير من الدعاة قد يدعون إلى شيء وهم على خلافه، لكن دعوا إليه إما لمال أخذوه وإما رياء وإما لأسباب أخرى لكن الداعي الصادق إلى الله يدعوا إلى الإسلام لأنه دينه ولأنه الحق الذي لا يجوز غيره، ولأنه سبيل النجاة وسبيل العزة والكرامة ولأنه دين الله الذي لا يرضى سواه سجانه وتعالى.
فهذه الآية العظيمة فيها الحث والتحريض على الدعوة إلى الله عز وجل وبيان منزلة الدعاة وأنهم أحسن الناس قولا إذا صدقوا في قولهم وعملوا الصالحات، وهم أحسن الناس قولا ولا أحد أحسن منهم قولا أبدا وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم
__________
(1) سورة فصلت الآية 33(27/38)
أتباعهم على بصيرة إلى يوم القيامة.(27/39)
ومن الدعاة إلى الله الداخلين في هذه الآية المؤذنون فإنهم دعاة إلى الله ينادون على رءوس الأشهاد بتكبير الله وتعظيمه والشهادة له بالوحدانية ولنبيه بالرسالة عليه الصلاة والسلام، فهم من الدعاة إلى الله وهم داخلون في هذه الآية الكريمة.
ومما صح في السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في شأن الدعوة وفضلها قوله عليه الصلاة والسلام لما بعث عليا رضي الله عنه إلى خيبر قال «ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (1) » متفق عليه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
أقسم عليه الصلاة والسلام وهو الصادق، وإن لم يقسم، أن هداية رجل واحد على يد علي رضي الله عنه خير له من حمر النعم فدل ذلك على أن الدعوة إلى الله شأنها عظيم وأنها منزلة عظمى. وفي هذا بيان أن المقصود من الدعوة والجهاد ليس قتل الناس ولا أخذ أموالهم ولكن المقصود هدايتهم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس برقم 2942، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه برقم 2406.(27/39)
وإنقاذهم مما هم فيه من الباطل وإخراجهم من الظلمات إلى النور وانتشالهم من وهدة الضلالة وأوحال الرذيلة إلى عز الهدى وشرف التقوى. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (1) » .
وفيه من الفوائد حث الغزاة وأئمة الغزو على التريث وعدم العجلة في القتال وأن يجتهدوا في الدعوة وإرشاد المدعوين وتنبيههم على أسباب النجاة لعلهم يرجعون ويجيبون الداعي، ولعلهم يتركون القتال ويدخلون في دين الله سبحانه وتعالى، فليس مقصود المسلمين ولا مقصود الإسلام والجهاد القتل وسبي النساء والذرية والأموال، وإنما المقصود من ذلك هداية الناس وإرشادهم إلى الحق الذي خلقوا له كما سبق، فإذا امتنعوا وأصروا ولم يقبلوا الحق بعد ذلك فالجهاد يفر إليه عند الحاجة أما إذا كفت الدعوة وقبلوا الحق فلا حاجة إلى الجهاد، وإنما يصار إليه عند امتناع المدعو وعدم قبوله الحق فعند هذا شرع الله الجهاد بالسلاح لقمع المبطلين وإزاحتهم عن طريق الدعوة، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور وفتح الطريق أمام الدعوة إلى الله عز وجل حتى ينتشر الإسلام في أرض الله. وفيه من الفوائد أيضا الدلالة على أن هداية واحد خير من حمر النعم، يعني: أن الهداية لواحد
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4210) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .(27/40)
من الكفار على يدك أيها الداعي أو أيها الأمير فيه خير عظيم وفضل كبير. قال بعض الأئمة: معنى ذلك: خير من الدنيا وما عليها لأن الدنيا زائلة والآخرة باقية فخيرها ولو كان قليلا خير من الدنيا وما عليها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها (1) » .
وإنما ذكر صلى الله عليه وسلم حمر النعم لأن حمر النعم، أنفس أموال العرب وأرفعها عندهم فمثل بها، وإلا فالمقصود أن هداية رجل واحد أو أكثر من ذلك خير من الدنيا وحطامها الزائل الفاني. .
وقال عليه الصلاة والسلام: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (2) » أخرجه مسلم في الصحيح وهو يدل على أن من دعا إلى الخير وأرشد إليه كان له مثل أجر فاعله، وهذه فضيلة عظيمة للدعوة وشرف عظيم للدعاة أن الله سبحانه وتعالى يعطيهم مثل أجور من هداه الله على أيديهم. فيا له من خير ويا له من فضل ويا لها من منزلة. يا أخي تدعو إلى ربك
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة برقم 3250.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله برقم 1893.(27/41)
وإلى دينك وإلى اتباع نبيك عليه الصلاة والسلام ويحصل لك مثل أجور من هداه الله على يديك هذه مزية عظيمة وفضل كبير، وفي ذلك حث وتحريض للدعاة على الدعوة والصبر عليها إذا كنت تحصل بذلك على مثل أجور من هداه الله على يدك، فحقيق بك أن تشمر وأن تسارع إلى الدعوة وأن تصبر عليها وفي هذا خير عظيم، وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم أيضا في الصحيح: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا (1) » وهذا أيضا فضل عظيم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه (2) » وهذا مثل ما تقدم في حديث: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (3) » .
وهذه الأحاديث وما جاء في معناها فيها الحث والتحريض على الدعوة وبيان فضلها وأنها في منزلة عظيمة من الإسلام وأنها وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وقد بعث الله تعالى الرسل جميعا دعاة لله عز وجل ومبشرين بدينه ومنذرين من عصاه فحقيق بك أيها المؤمن أن تسير على منهاجهم الصالح، وأن تستمر على طريقهم الواضح بالدعوة إلى الله والتبشير بدينه، والتحذير من خلافه، وإنما يتم
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة برقم 2674.
(2) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(3) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .(27/42)
هذا الفضل ويحصل هذا الخير ويتضاعف، بالصبر والإخلاص والصدق، فمن ضعف صبره أو ضعف صدقه أو ضعف إخلاصه لا يستقيم مع هذا الأمر العظيم ولا يحصل به المطلوب كما ينبغي، فالمقام يحتاج إلى إخلاص فالمرائي ينهار ولا يثبت عند الشدائد ويحتاج إلى صبر، فذو الملل وذو الكسل لا يحصل به المقصود على التمام فالمقام يحتاج إلى إخلاص وإلى صدق وإلى صبر، كما قال سبحانه وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (1) وكما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (2) وقال عز وجل: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (3) فلا بد من الصدق كما قال عز وجل: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} (4) ولا بد من الصبر كما قال جل وعلا: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (5) وكما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (6)
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة التوبة الآية 119
(3) سورة الأنفال الآية 46
(4) سورة المائدة الآية 119
(5) سورة الأنفال الآية 46
(6) سورة السجدة الآية 24(27/43)
فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين - فالدعاة إلى الله عز وجل إذا صبروا وصدقوا وكانت دعوتهم على علم وعلى بصيرة، صاروا أئمة للناس يقتدى بهم في الشدة والرخاء، والعسر واليسر، كما سبق في قوله تعالى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (1) فعليك يا عبد الله بالصبر على دعوتك وإيمانك وعملك الصالح وعليك باليقين في أعمالك، كن على بصيرة، تعلم وتفقه وتثقف في الدين وكن على بينة في أمورك حتى تكون دعوتك عن صبر وعن يقين، وبهذا تكون إماما يقتدى به، وتكون إماما وقدوة وأسوة صالحة في أعمالك الطيبة وسيرتك الحسنة، وبهذا ينتهي الكلام على فضل الدعوة وهو الشق الأول.
أما الشق الثاني: وهو أثرها في انتشار الإسلام، فنقول: إن الله جل وعلا بعث الرسل كما سبق عليهم الصلاة والسلام دعاة للحق وهداة للخلق ولم يبلغنا أن الرسل الأولين كانوا يجاهدون على دعوتهم، وإنما ذكر الله الجهاد بعد بعث موسى عليه الصلاة والسلام.
ومن وقت آدم إلى نزول التوراة، كان الرسل دعاة فقط
__________
(1) سورة السجدة الآية 24(27/44)
ليس هناك جهاد فانتشر الإسلام بالدعوة والبيان والكتب المنزلة من السماء فكان الرسل عليهم الصلاة والسلام يدعون إلى الله وينذرون الناس فانتشر دينهم وإسلامهم بالدعوة من عهد آدم إلى أن بعث الله موسى عليه الصلاة والسلام.
والإسلام هو دين الله، قال جل وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) فهو دين الله لجميع المرسلين وجميع الأمم كما قال سبحانه وتعالى عن نوح: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) وهو أول الرسل وقال عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: «كان بين آدم ونوح عليهما الصلاة والسلام عشرة قرون كلهم على الإسلام حتى وقع الشرك في قوم نوح» وقال جل وعلا في قصة إبراهيم وإسماعيل وهما يعمران الكعبة: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (3) فطلبا أن يكونا مسلمين، وقال في قصة يوسف: {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (4) وقال في قصة
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19
(2) سورة يونس الآية 72
(3) سورة البقرة الآية 128
(4) سورة يوسف الآية 101(27/45)
موسى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (1) وقال عن بلقيس: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) فالدين عند الله هو الإسلام، ولكن الله بعث محمدا عليه الصلاة والسلام بأكمله وأتمه، بعثه بالإسلام وبشريعة كاملة في الإسلام، فالذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم هو أكمل الدين وأتمه، بعثه بالإسلام الذي هو دين الله وبعثه بشريعة كاملة صالحة لجميع الزمان والمكان حتى تقوم الساعة، أما ما بعث الله به الأنبياء الماضين فهو دين الإسلام ولكن بشرائع خاصة لأقوامهم خاصة، شرائع خاصة لأقوامهم، كل رسول بعثه الله إلى قومه بشريعة خاصة والدين هو الإسلام، وهو توحيد الله كما قال سبحانه وتعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) فكل أمة بعث إليها رسول ليدعوهم إلى الإسلام، والاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، فكل رسول بعثه الله بهذا الإسلام وهو دين الله وتوحيده بإفراده بالعبادة، وترك عبادة ما سواه وبعث معه شريعة خاصة تلائم
__________
(1) سورة يونس الآية 84
(2) سورة النمل الآية 44
(3) سورة النحل الآية 36(27/46)
زمانه وتناسب وقته وقومه حتى ختم الله جل وعلا الشرائع والنبوات ببعث محمد عليه الصلاة والسلام وبشريعة كاملة ودين شامل ونظام عام لجميع الأمة في حاضرها وقت نزول القرآن وفي مستقبلها إلى يوم القيامة. وجعله دينا شاملا لجميع الشئون؛ شئون الدين والدنيا، شئون العبادة وشئون المعاملة، وشئون الأحوال الشخصية وشئون الجنايات، وغير ذلك في جميع الأمور جعله دينا شاملا منظما لجميع مصالح العباد، منظما لجميع ما يحتاجون إليه في شئونهم العاجلة والآجلة مفصلا لكل ما يتطلبه العاقل وتقتضيه الحاجة. وبهذا يعلم أن انتشار الإسلام في عهد آدم وما بعده وعهد نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب وهو إسرائيل ويوسف عليهم الصلاة والسلام جميعا والأنبياء بعدهم كان بالدعوة: انتشر الإسلام بالدعوة وظهر بالدعوة. كان الرسل يدعون وهكذا أنصارهم وأتباعهم يدعون إلى الله جل وعلا.
فانتشر الإسلام في أممهم بالدعوة لا بالجهاد ولا بالسيف فلم يذكر الله في كتابه العزيز عن أولئك أنهم جاهدوا بالسيف وإنما دعوا إلى الله وأنذروا الناس وبشروهم فقبل الدعوة من هداه الله وأباها من سبقت له الشقاوة نعوذ بالله من ذلك.
وكانت الأمم قبل موسى عليه الصلاة والسلام إذا عاندوا(27/47)
الرسول وأبوا اتباعه جاءهم العذاب فأهلكوا عن آخرهم إلا من آمن بالله. فآدم عليه الصلاة والسلام ومن كان في زمانه من ذريته إلى عهد نوح كانوا على الإسلام والهدى ولا يلزم من ذلك أن لا يكون فيهم معصية، فقد عصى قابيل وقتل أخاه هابيل بغير حق ولكنهما كانا على الإسلام. ثم زين الشيطان لقوم نوح الغلو في الصالحين في قالب المحبة لهم ودعاهم إلى تصوير صورهم ونصبها في مجالسهم، ثم بعد ذلك زين لمن بعدهم التعلق بها وعبادتها حتى وقع الشرك في قوم نوح بسبب الغلو في الصالحين وتصوير الصور والابتداع في الدين، ولهذا حذر الرسول عليه الصلاة والسلام من الصور وحذر من البدع لأن البدع هي وسائل الشرك نسأل الله العافية. ولما أخبرته أم حبيبة وأم سلمة بالكنيسة التي رأتها في الحبشة وما فيها من الصور، قال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله (1) » .
فأخبر عليه الصلاة والسلام أنهم شرار الخلق بسبب غلوهم في صالحيهم باتخاذ المساجد على قبورهم وتصوير الصور عليها، وهكذا وقع في قوم نوح، فالإسلام انتشر بالدعوة
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة في البيعة برقم 434.(27/48)
فلما أبى قوم نوح إلا العناد والشرك ولم يستجيبوا لداعيهم نوح عليه الصلاة والسلام ألف سنة إلا خمسين عاما أرسل الله عليهم الطوفان فأهلكهم عن آخرهم بالغرق إلا من كان مع نوح في السفينة، نسأل الله العافية.
وقوم هود هلكوا بريح عقيم وقوم صالح بالرجفة والصيحة حتى هلكوا عن آخرهم، هكذا عاقب الله كثيرا من الأمم بأنواع من العقوبات بسبب كفرهم وضلالهم وامتناعهم عن قبول الدعوة الإسلامية. ثم شرع الجهاد في عهد موسى عليه الصلاة والسلام لنصر الحق وقمع الباطل، ثم شرع الله الجهاد على يد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل، ونبينا عليه الصلاة والسلام لما بعثه الله مكث في مكة بضعة عشر عاما يدعو إلى الله عز وجل ولم يكن هناك جهاد بالسيف ولكنه الدعوة والتبشير بالإسلام. وقد أنكر قومه دعوته وآذوه وآذوا أصحابه ولكنه صبر على ذلك عليه الصلاة والسلام وكان مستترا بها أولا ثم أمره الله بالصدع فأظهر الدعوة وصبر على الأذى وهكذا أصحابه. وكان من السابقين إلى ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه سبق إلى الإسلام والدعوة وخديجة رضي الله عنها وعلي رضي الله عنه وزيد بن حارثة هؤلاء الأربعة هم السابقون إلى الإسلام والدعوة، ثم تابعهم الناس، وكان(27/49)
الصديق رضي الله عنه شريفا في قومه معظما مألوفا ذا معروف وإحسان وذا تجارة ومال وذا خلق كريم، فكان يدعو إلى الله سرا ويبشر بالإسلام حتى أسلم على يديه جم غفير منهم عثمان رضي الله عنه والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله رضي الله عن الجميع. وأسلم جم غفير في مكة بالدعوة لا بقهر ولا بجهاد ولكن بالدعوة والتوجيه وقراءة القرآن وشرح محاسن الإسلام، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو ويقرأ عليهم القرآن ويبين لهم ما أشكل عليهم فيتقبلون الحق ويرضون به ويدخلون في دين الله جل وعلا.(27/50)
ثم انتشر الإسلام والدعوة إليه في القبائل والبادية والقرى المجاورة لمكة بسبب الدعوة، وبسبب ما يسمعونه من الصحابة الذين أسلموا وأجابوا النبي عليه الصلاة والسلام، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج كل عام يطلب منهم أن يجيبوه وأن يؤووه وأن ينصروه حتى يبلغ رسالة ربه عليه الصلاة والسلام فلم يقدر الله سبحانه ذلك إلا للأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، فأجابه الأنصار واجتمعوا به عند الجمرة في المرة الأولى وكانوا ستة دعاهم إلى الإسلام فأجابوا وقبلوا الحق وصاروا رسلا إلى قومهم فذهبوا إلى(27/50)
المدينة ودعوا إلى الله عز وجل، وبشروا بالإسلام فأجاب إلى الإسلام منهم بشر كثير ثم قدم منهم في السنة الثانية اثنا عشر منهم الستة الأقدمون ومن جملتهم أسعد بن زرارة رضي الله عنه وجماعة كانوا من الخزرج سوى اثنين من الأوس وقيل ثلاثة، فاجتمعوا به عليه الصلاة والسلام أيضا في وسط أيام التشريق وتلا عليهم القرآن وبايعوه على الإسلام ثم رجعوا إلى بلادهم فدعوا إلى الله عز وجل وانتشر الإسلام في بيوت الأنصار إلا قليلا منهم ودخل في دين الله جم غفير من الأنصار، ثم تنازعوا على أن يطلبوا من النبي على أن يهاجر إليهم وأن ينقذوه من حال المشركين وأذاهم.
وكان قد بعث إليهم عليه الصلاة والسلام مصعب بن عمير بعد البيعة الأولى فكان يعلم ويرشد في المدينة، فكان يعلم الناس ويرشدهم وأسلم على يديه جماعة كثيرة وانتشر الإسلام بسبب ذلك، ومن جملة من أسلم على يديه سيد الأوس سعد بن معاذ، والسيد الثاني من الأوس أسيد بن الحضير، وبسبب إسلامهما انتشر الإسلام في الأوس، وبسبب إسلام أسعد بن زرارة هو وسعد ابن عبادة وجماعة من الخزرج انتشر الإسلام في الخزرج وظهر دين الله هناك ثم قدموا في السنة الثالثة قدم منهم سبعون رجلا(27/51)
من الأنصار، وقيل ثلاثة وسبعون وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام والنصرة والإيواء، وتم ذلك بحضرة عمه العباس رضي الله عنه، ثم شرع المسلمون في الهجرة إلى المدينة بإذنه عليه الصلاة والسلام، ثم هاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وقام بالدعوة إلى الله هناك ونشر الإسلام، وهكذا المسلمون الذين أسلموا من الحاضرة والبادية نشروا الإسلام بالدعوة ومن جملتهم أبو ذر الغفاري وعمرو بن عبسة السلمي وغيرهما.
ثم شرع الله الجهاد على أطوار ثلاثة: أولا أذن فيه، ثم أمروا أن يقاتلوا من قاتلهم ويكفوا عمن كف عنهم، ثم شرع الله الجهاد العام طلبا ودفاعا، وهذه الأطوار باقية على حسب ضعف المسلمين وقوتهم فإذا قوي المسلمون وجب عليهم الجهاد طلبا ودفاعا وإذا ضعفوا عن ذلك وجب عليهم الدفاع وسقط عنهم الطلب حتى يقدروا ويستطيعوا.
والمقصود من الجهاد كما تقدم هو نشر الإسلام وإخراج الناس من الظلمات إلى النور وإزاحة العقبات من طريق الدعوة والقضاء على العناصر الفاسدة التي تمنع الدعوة وتحول بين الدعاة إلى الله وتبيين مقاصدهم الطيبة، ولهذا شرع الله الجهاد لإزاحة العراقيل عن طريق الدعوة ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور وانتشالهم من الباطل إلى(27/52)
الحق والهدى وإخراجهم من ظلم الأديان وضيق الدنيا إلى سعة الإسلام وعدل الإسلام، ومضى على ذلك نبي الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام وأتباعهم بإحسان حتى ظهر دين الله وانتشر الحق بالدعوة الصحيحة الإسلامية وبالجهاد الذي يناصرها ويؤيدها إذا وقف في طريقها أحد، حتى أزاحوا الروم عن الشام واستولوا على مملكة الفرس وانتشر الإسلام في اليمن وغيره من أنحاء الجزيرة العربية بسبب الدعوة إلى الله والجهاد الصادق في سبيل الله، وأزيحت العقبات عن طريق الدعوة. وبهذا يعلم أن انتشار الإسلام بالدعوة كان هو الأساس وهو الأصل، وأما الجهاد بالسيف فكان منقذا للحق وقامعا للفساد عند وجود المعارضين الواقفين في طريق الدعوة.
وبالجهاد والدعوة فتحت الفتوحات بسبب أن أكثر الخلق لا يقبل الدعوة بمجردها لمخالفتها لهواه ولما في نفسه من حب للشهوات المحرمة ورياسته الفاسدة الظالمة، فجاء الجهاد يقمع هؤلاء ويزيحهم عن مناصبهم التي كانوا فيها عقبة كأداء في طريق الدعوة، فالجهاد مناصر للدعوة ومحقق لمقاصدها ومعين للدعاة على أداء واجبهم،
والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى على حالين:(27/53)
إحداهما - فرض عين والثانية فرض كفاية، فهي فرض عين عند عدم وجود من يقوم باللازم كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا كنت في بلد أو قبيلة أو منطقة من المناطق ليس فيها من يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وأنت عندك علم فإنه يجب عليك عينا أن تقوم بالدعوة وترشد الناس إلى حق الله وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر. أما إذا وجد من يقوم بالدعوة ويبلغ الناس ويرشدهم فإنها تكون في حق الباقين العارفين بالشرع سنة لا فرضا. وهكذا الجهاد كله فرض كفاية عند وجود من يكفي فيسقط الجهاد والأمر والنهي والدعوة عن الباقين ويكون في حقهم سنة مؤكدة، وعند عدم وجود من يكفي يتعين الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عليك حسب طاقتك وحسب إمكانك كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وقال جل وعلا: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) وقد قام الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بالدعوة والجهاد بعد نبيهم عليه الصلاة والسلام قياما عظيما، فأبو موسى ومعاذ وعلي بعثوا إلى اليمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) سورة البقرة الآية 286(27/54)
فقاموا بالدعوة هناك ثم رجع معاذ في عهد الصديق ورجع علي وأبو موسى في حجة الوداع، فقام خلفاؤهم بالدعوة هناك ونشر الإسلام.
وقام الصحابة الذين سافروا إلى العراق والشام بالدعوة إلى الله هناك ونشر الإسلام، ثم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قاموا بالدعوة والجهاد والتعليم والتفقيه في الشام والعراق واليمن ومصر وغير ذلك وفي شرق وشمال أفريقيا ثم لم تزل الدعوة تنتشر في أفريقيا كلها، وفي الشرق كله حتى ظهرت الدعوة وانتشرت في أقصى المغرب والمشرق.
وفي وقتنا هذا ضعف أمر الجهاد لما تغير المسلمون وتفرقوا وصارت القوة والسلاح بيد عدونا وصار المسلمون الآن إلا من شاء الله لا يهتمون إلا بمناصبهم وشهواتهم العاجلة وحظهم العاجل ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فلم يبق في هذه العصور إلا الدعوة إلى الله عز وجل والتوجيه إليه، وقد انتشر الإسلام بالدعوة في هذه العصور في أماكن كثيرة في أفريقيا شرقها وغربها ووسطها وفي أوروبا وفي أمريكا وفي اليابان وفي كوريا وفي غير ذلك من أنحاء آسيا، وكل هذا بسبب الدعوة إلى الله بعضها على أيدي التجار وبعضها على(27/55)
أيدي من قام بالدعوة وسافر لأجلها وتخصص لها. وبهذا يعلم طالب العلم ومن آتاه الله بصيرة أن الدعوة إلى الله عز وجل من أهم المهمات وأن واجبها اليوم عظيم لأن الجهاد اليوم مفقود في غالب المعمورة والناس في أشد الحاجة إلى الدعاة والمرشدين على ضوء الكتاب والسنة، فالواجب على أهل العلم أينما كانوا أن يبلغوا دعوة الله وأن يصبروا على ذلك وأن تكون دعوتهم نابعة من كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة عليه الصلاة والسلام وعلى طريق الرسول وأصحابه ومنهج السلف الصالح رضي الله عنهم، وأهم من ذلك الدعوة إلى توحيد الله وتخليص القلوب من الشرك والخرافات والبدع لأن الناس ابتلوا بالبدع والخرافات إلا من رحم الله، فيجب على الداعية أن يهتم بتنقية العقيدة وتخليصها مما شابها من خرافات وبدع وشركيات، كما يقوم بنشر الإسلام بجميع أحكامه وأخلاقه والطريق إلى ذلك وتفقيه الناس في القرآن والسنة، فالقرآن هو الأصل الأصيل في دعوة الناس إلى الخير ثم السنة بعد ذلك تفسر القرآن وتدل عليه وتعبر عنه وتوضح معناه وتبينه، وخلق النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يتأسى المسلمون به ويقتدوا به عليه الصلاة والسلام.
قال الله جل(27/56)
وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) قالت عائشة رضي الله عنها: كان خلقه القرآن فالداعية إلى الله ينبغي له أن يهتم بالقرآن الكريم وأن يعنى به تلاوة وتدبرا وقراءة على الناس وتوجيها لهم إليه حتى يدرسوه ويتعلموه ويعملوا به، وهكذا السنة يعلمهم إياها ويبشرهم بها ويحثهم عليها ويوضح سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه حتى يسيروا على طريقهم الصالح وعلى نهجهم الطيب، وهذا هو الطريق والسبيل إلى نشر الإسلام وتخليص الناس من الشرك والخرافات والبدع وهو دعوتهم إلى الله وإرشادهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن على ضوء الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والطريقة السلفية التي سار عليها رسول الله عليه الصلاة والسلام، وسار عليها أصحابه الكرام وأتباعهم بإحسان.
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعا لما فيه رضاه، وأن يهدينا صراطه المستقيم وأن يمن علينا وعلى المسلمين جميعا بسلوك طريق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وطريق أصحابه والثبات عليه والدعوة إليه والذب عنه والتحذير من خلافه، كما
__________
(1) سورة القلم الآية 4(27/57)
نسأله سبحانه أن يصلح ولاة أمر المسلمين وأن يمن عليهم بالتوفيق والهداية وأن يجمعهم وشعوبهم على الحق والهدى وأن ينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل وأن يقيم بهم علم الجهاد لنصر دين الله، الجهاد الصالح الشرعي حتى يكونوا دعاة إلى الله ومرشدين إليه سبحانه وتعالى إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.(27/58)
3 - الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة (1)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه، أرسله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على طريقته في الدعوة إلى
__________
(1) نشرت هذه الكلمة في مجلة البحوث الإسلامية، العدد الرابع عام 1398 هـ ص6 - 25.(27/58)
سبيله، وصبروا على ذلك وجاهدوا فيه حتى أظهر الله بهم دينه، وأعلى كلمته ولو كره المشركون، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الجن والإنس ليعبد وحده لا شريك له وليعظم أمره ونهيه وليعرف بأسمائه وصفاته، كما قال عز وجل {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وقال عز وجل {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) وقال عز وجل {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (3) فبين سبحانه أنه خلق الخلق ليعبد، ويعظم، ويطاع أمره ونهيه؛ لأن العبادة هي توحيده وطاعته مع تعظيم أوامره ونواهيه، وبين عز وجل أيضا أنه خلق السماوات والأرض، وما بينهما ليعلم أنه على كل شيء قدير، وأنه أحاط بكل شيء علما.
فعلم بذلك أن من الحكمة في إيجاد الخليقة أن يعرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأنه على كل شيء قدير، وأنه العالم
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة الطلاق الآية 12(27/59)
بكل شيء جل وعلا، كما أن من الحكمة في خلقهم وإيجادهم أن يعبدوه ويعظموه ويقدسوه ويخضعوا لعظمته، إذ العبادة هي الخضوع لله جل وعلا والتذلل له، وسميت الوظائف التي أمر الله بها المكلفين من أوامر وترك نواه عبادة؛ لأنها تؤدي بالخضوع والتذلل لله عز وجل.
ثم لما كانت العبادة لا يمكن أن تستقل بتفاصيلها العقول، كما أنه لا يمكن أن تعرف بها الأحكام من الأوامر والنواهي على التفصيل، أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل، وأنزل الكتب لبيان أمر الأمر الذي خلق الله من أجله الخلق، ولإيضاحه وتفصيله للناس حتى يعبدوا الله على بصيرة، وحتى ينتهوا عما نهاهم عنه على بصيرة، فالرسل عليهم الصلاة والسلام هم هداة الخلق، وهم أئمة الهدى ودعاة الثقلين جميعا إلى طاعة الله وعبادته، فالله سبحانه أكرم العباد بهم ورحمهم بإرسالهم إليهم، وأوضح على أيديهم الطريق السوي والصراط المستقيم حتى يكون الناس على بينة من أمرهم، وحتى لا يقولوا: ما ندري ما أراده الله منا، ما جاءنا من بشير ولا نذير، فقطع الله المعذرة، وأقام الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب، كما قال جل وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1)
__________
(1) سورة النحل الآية 36(27/60)
وقال سبحانه {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (1) وقال عز وجل {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (2) الآية، وقال سبحانه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (3) الآية، فبين سبحانه أنه أرسل الرسل وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس بالحق والقسط، وليوضح للناس ما اختلفوا فيه من الشرائع والعقائد من توحيد الله وشريعته عز وجل، فإن قوله سبحانه وتعالى {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (4) يعني على الحق لم يختلفوا من عهد آدم عليه الصلاة والسلام إلى عهد نوح.. كان الناس على الهدى، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة من السلف والخلف، ثم وقع الشرك في قوم نوح، فاختلفوا فيما بينهم، واختلفوا فيما يجب عليهم من حق الله، فلما وقع الشرك والاختلاف أرسل الله نوحا
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 25
(2) سورة الحديد الآية 25
(3) سورة البقرة الآية 213
(4) سورة البقرة الآية 213(27/61)
عليه الصلاة والسلام، وبعده الرسل كما قال عز وجل {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (1) وقال تعالى {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2) فالله أنزل الكتاب ليبين حكم الله فيما اختلف فيه الناس، وليبين شرعه فيما جهله الناس، وليأمر الناس بالتزام شرع الله والوقوف عند حدوده، وينهي الناس عما يضرهم في العاجل والآجل، وقد ختم الرسل جل وعلا بأفضلهم وإمامهم وبسيدهم نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله عليه وعليهم من ربهم أفضل الصلاة والتسليم، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، ودعا إلى الله سرا وجهرا، وأوذي في الله أشد الأذى، ولكنه صبر على ذلك، كما صبر من قبله الرسل عليهم الصلاة والسلام، صبر كما صبروا، وبلغ كما بلغوا، ولكنه أوذي أكثر وصبر أكثر، وقام بأعباء الرسالة أكمل قيام عليه وعليهم الصلاة والسلام، مكث ثلاثا وعشرين سنة يبلغ رسالات الله ويدعو إليه، وينشر أحكامه،
__________
(1) سورة النساء الآية 163
(2) سورة النحل الآية 64(27/62)
منها ثلاث عشرة سنة في أم القرى مكة المكرمة أولا بالسر، ثم بالجهر صدع بالحق، وأوذي وصبر على الدعوة وعلى أذى الناس، مع أنهم يعرفون صدقه وأمانته ويعرفون فضله ونسبه ومكانته، ولكنه الهوى والحسد والعناد من الأكابر، والجهل والتقليد من العامة، فالأكابر جحدوا واستكبروا وحسدوا، والعامة قلدوا واتبعوا وأساءوا، فأوذي بسبب ذلك أشد الأذى عليه الصلاة والسلام.
ويدلنا على أن الأكابر قد عرفوا الحق وعاندوا قوله سبحانه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (1) فبين سبحانه أنهم لا يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يعلمون صدقه وأمانته في الباطن، وكانوا يسمونه الأمين قبل أن يوحى إليه عليه الصلاة والسلام ولكنهم جحدوا الحق حسدا وبغيا عليه الصلاة والسلام لكنه عليه الصلاة والسلام لم يبال بذلك ولم يكترث به، بل صبر واحتسب وسار في الطريق، ولم يزل داعيا إلى الله جل وعلا، صابرا على الأذى، مجاهدا بالدعوة، كافا عن الأذى، متحملا له، صافحا عما يصدر منهم حسب الإمكان، حتى اشتد الأمر، وعزموا على
__________
(1) سورة الأنعام الآية 33(27/63)
قتله عليه الصلاة والسلام، فعند ذلك أذن الله له بالخروج إلى المدينة، فهاجر إليها عليه الصلاة والسلام، وصارت عاصمة الإسلام الأولى، وظهر فيها دين الله، وصار للمسلمين بها دولة وقوة، واستمر عليه الصلاة والسلام في الدعوة وإيضاح الحق، وشرع في الجهاد بالسيف، وأرسل الرسل يدعون الناس إلى الخير والهدى، ويشرحون لهم دعوة نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام وبعث السرايا، وغزا الغزوات المعروفة حتى أظهر الله دينه على يديه وحتى أكمل به الدين، وأتم عليه وعلى أمته النعمة، ثم توفي عليه الصلاة والسلام بعد ما أكمل الله به الدين، وبلغ البلاغ المبين عليه الصلاة والسلام فتحمل أصحابه من بعده الأمانة، وساروا على الطريق، فدعوا إلى الله عز وجل، وانتشروا في أرجاء المعمورة دعاة للحق ومجاهدين في سبيل الله عز وجل لا يخشون في الله لومة لائم {يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} (1) جل وعلا، فانتشروا في الأرض غزاة مجاهدين ودعاة مهتدين وصالحين مصلحين، ينشرون دين الله، ويعلمون الناس شريعته ويوضحون لهم العقيدة التي بعث الله بها الرسل، وهي إخلاص العبادة لله وحده، وترك عبادة ما سواه من الأشجار والأحجار والأصنام وغير ذلك، فلا يدعى إلا الله
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 39(27/64)
وحده، ولا يستغاث إلا به ولا يحكم إلا شرعه ولا يصلى إلا له، ولا ينذر إلا له، إلى غير ذلك من العبادات، وأوضحوا للناس أن العبادة حق الله، وتلوا عليهم ما ورد في ذلك من الآيات، مثل قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (1) ، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) ، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) ، {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (4) ، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (5) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (6) وصبروا على ذلك صبرا عظيما، وجاهدوا في الله جهادا كبيرا رضي الله عنهم وأرضاهم، وتبعهم على ذلك أئمة الهدى من التابعين وأتباع التابعين من العرب وغير العرب، ساروا في هذه السبيل، سبيل الدعوة إلى الله عز وجل، وتحملوا أعباءها، وأدوا الأمانة، مع الصدق والصبر والإخلاص في الجهاد في سبيل الله وقتال من خرج عن دينه وصد عن سبيله ولم يؤد الجزية التي فرضها الله إذا كان من أهلها، فهم حملة الدعوة
__________
(1) سورة البقرة الآية 21
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة الفاتحة الآية 5
(4) سورة الجن الآية 18
(5) سورة الأنعام الآية 162
(6) سورة الأنعام الآية 163(27/65)
وأئمة الهدى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا أتباع الصحابة من التابعين وأتباع التابعين وأئمة الهدى ساروا على هذا الطريق كما تقدم وصبروا في ذلك وانتشر دين الله وعلت كلمته على أيدي الصحابة ومن تبعهم من أهل العلم والإيمان من العرب والعجم من هذه الجزيرة جنوبها وشمالها ومن غير الجزيرة ومن سائر أرجاء الدنيا ممن كتب الله له السعادة ودخل في دين الله وشارك في الدعوة والجهاد وصبر على ذلك، وصارت لهم السيادة والقيادة والأمانة في الدين؛ بسبب صبرهم وإيمانهم وجهادهم في سبيل الله عز وجل، وصدق فيهم قوله سبحانه فيما ذكر في بني إسرائيل {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (1)
صدق هذا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيمن سار على سبيلهم، صاروا أئمة وهداة ودعاة للحق وأعلاما يقتدى بهم بسبب صبرهم وإيقانهم، فإن بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين فأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وأتباعه بإحسان إلى يومنا هذا هم الأئمة وهم الهداة وهم القادة في سبيل الحق؛ وبذلك يتضح لكل طالب علم أن الدعوة إلى الله من أهم
__________
(1) سورة السجدة الآية 24(27/66)
المهمات وأن الأمة في كل زمان ومكان في أشد الحوجة إليها، بل في أشد الضرورة إلى ذلك..
ويتلخص الكلام في الدعوة إلى الله عز وجل في أمور:
الأمر الأول: حكمها وفضلها.
الأمر الثاني: كيفية أدائها وأساليبها.
الأمر الثالث: بيان الأمر الذي يدعى إليه.
الأمر الرابع: بيان الأخلاق والصفات التي ينبغي للدعاة أن يتخلقوا بها وأن يسيروا عليها، فنقول وبالله المستعان وعليه التكلان وهو المعين والموفق لعباده سبحانه وتعالى.
الأمر الأول: بيان حكم الدعوة إلى الله عز وجل وبيان فضلها:
أما حكمها، فقد دلت الأدلة من الكتاب السنة على وجوب الدعوة إلى الله عز وجل، وأنها من الفرائض، والأدلة في ذلك كثيرة، منها قوله سبحانه {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) ومنها قوله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2) سورة النحل الآية 125(27/67)
ومنها قوله عز وجل:
{وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) ومنها قوله سبحانه {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (2) فبين سبحانه أن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هم الدعاة إلى الله وهم أهل البصائر، والواجب كما هو معلوم هو اتباعه والسير على منهاجه عليه الصلاة والسلام كما قال تعالى:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (3) وصرح العلماء أن الدعوة إلى الله عز وجل فرض كفاية بالنسبة إلى الأقطار التي يقوم فيها الدعاة، فإن كل قطر وكل إقليم يحتاج إلى الدعوة وإلى النشاط فيها فهي فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط عن الباقين ذلك الواجب وصارت الدعوة في حق الباقين سنة مؤكدة وعملا صالحا جليلا.
__________
(1) سورة القصص الآية 87
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة الأحزاب الآية 21(27/68)
وإذا لم يقم أهل الإقليم أو أهل القطر المعين بالدعوة على التمام صار الإثم عاما وصار الواجب على الجميع، وعلى كل إنسان أن يقوم بالدعوة حسب طاقته وإمكانه، أما بالنظر إلى عموم البلاد فالواجب أن يوجد طائفة منتصبة تقوم بالدعوة إلى الله جل وعلا في أرجاء المعمورة تبلغ رسالات الله وتبين أمر الله عز وجل بالطرق الممكنة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث الدعاة وأرسل الكتب إلى الناس وإلى الملوك والرؤساء ودعاهم إلى الله عز وجل.
وفي وقتنا اليوم قد يسر الله عز وجل أمر الدعوة أكثر بطرق لم تحصل لمن قبلنا، فأمور الدعوة اليوم متيسرة أكثر من طرق كثيرة، وإقامة الحجة على الناس اليوم ممكنة بطرق متنوعة عن طريق الإذاعة، عن طريق التلفزة، عن طريق الصحافة، من طرق شتى، فالواجب على أهل العلم، والإيمان وعلى خلفاء الرسول أن يقوموا بهذا الواجب وأن يتكاتفوا فيه وأن يبلغوا رسالات الله إلى عباد الله ولا يخشوا في الله لومة لائم ولا يحابوا في ذلك كبيرا ولا صغيرا ولا غنيا ولا فقيرا، بل يبلغون أمر الله إلى عباد الله كما أنزل الله وكما شرع الله، وقد يكون ذلك فرض عين إذا كنت في مكان ليس فيه من يؤدي ذلك سواك، كالأمر بالمعروف والنهي(27/69)
عن المنكر فإنه يكون فرض عين، ويكون فرض كفاية، فإذا كنت في مكان ليس فيه من يقوى على هذا الأمر ويبلغ أمر الله سواك، فالواجب عليك أنت أن تقوم بذلك، فأما إذا وجد من يقوم بالدعوة والتبليغ والأمر والنهي غيرك فإنه يكون حينئذ في حقك سنة، وإذا بادرت إليه وحرصت عليه كنت بذلك منافسا في جميع الخيرات ومسابقا إلى الطاعات، ومما احتج به على أنها فرض كفاية قوله جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} (1) الآية.
قال الحافظ ابن كثير عند هذه الآية وجماعة؛ ما معناه:
ولتكن منكم أمة منتصبة لهذا الأمر العظيم تدعوا إلى الله وتنشر دينه وتبلغ أمره سبحانه وتعالى، ومعلوم أيضا أن الرسول عليه الصلاة والسلام دعا إلى الله وقام بأمر الله في مكة حسب طاقته، وقام الصحابة كذلك رضي الله عنهم وأرضاهم بذلك حسب طاقتهم، ثم لما هاجروا قاموا بالدعوة أكثر وأبلغ، ولما انتشروا في البلاد بعد وفاته عليه الصلاة والسلام قاموا بذلك أيضا رضي الله عنهم وأرضاهم كل على قدر طاقته وعلى قدر علمه، فعند قلة الدعاة، وعند كثرة المنكرات، وعند غلبة الجهل، كحالنا اليوم تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته، وإذا
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104(27/70)
كان في محل محدود كقرية ومدينة ونحو ذلك ووجد فيها من تولى هذا الأمر وقام به وبلغ أمر الله كفى وصار التبليغ في حق غيره سنة؛ لأنه قد أقيمت الحجة على يد غيره ونفذ أمر الله على يد سواه.
ولكن بالنسبة إلى بقية أرض الله، وإلى بقية الناس يجب على العلماء حسب طاقتهم وعلى ولاة الأمر حسب طاقتهم أن يبلغوا أمر الله بكل ما يستطيعون، وهذا فرض عين عليهم على حسب الطاقة والقدرة.
وبهذا يعلم من كونها فرض عين، وكونها فرض كفاية أمر نسبي يختلف، فقد تكون الدعوة فرض عين بالنسبة إلى أقوام وإلى أشخاص، وسنة بالنسبة إلى أشخاص وإلى أقوام؛ لأنه وجد في محلهم وفي مكانهم من قام بالأمر وكفى عنهم.
أما بالنسبة إلى ولاة الأمور ومن لهم القدرة الواسعة، فعليهم من الواجب أكثر، وعليهم أن يبلغوا الدعوة ما استطاعوا من الأقطار حسب الإمكان بالطرق الممكنة وباللغات الحية التي ينطق بها الناس، يجب أن يبلغوا أمر الله بتلك اللغات حتى يصل دين الله إلى كل أحد باللغة التي يعرفها، باللغة العربية وبغيرها، فإن الأمر الآن ممكن وميسور بالطرق التي تقدم بيانها، طرق الإذاعة(27/71)
والتلفزة والصحافة وغير ذلك من الطرق التي تيسرت اليوم ولم تتيسر في السابق، كما أنه يجب على الخطباء في الاحتفالات وفي الجمع وفي غير ذلك أن يبلغوا ما استطاعوا من أمر الله عز وجل، وأن ينشروا دين الله حسب طاقتهم وحسب علمهم؛ ونظرا إلى انتشار الدعوة إلى المبادئ الهدامة وإلى الإلحاد وإنكار رب العباد وإنكار الرسالات وإنكار الآخرة، وانتشار الدعوة النصرانية في كثير من البلدان وغير ذلك من الدعوات المضللة، نظرا إلى هذا، فإن الدعوة إلى الله عز وجل اليوم أصبحت فرضا عاما وواجبا عاما على جميع العلماء وعلى جميع الحكام الذين يدينون بالإسلام، فرض عليه أن يبلغوا دين الله حسب الطاقة والإمكان بالكتابة والخطابة والإذاعة وبكل وسيلة استطاعوا، وألا يتقاعسوا عن ذلك أو يتكلوا على يزيد أو عمرو، فإن الحاجة بل الضرورة ماسة اليوم إلى التعاون والاشتراك والتكاتف في هذا الأمر العظيم أكثر مما كان قبل ذلك؛ لأن أعداء الله قد تكاتفوا وتعاونوا بكل وسيلة للصد عن سبيل الله والتشكيك في دينه ودعوة الناس إلى ما يخرجهم من دين الله عز وجل، فوجب على أهل الإسلام أن يقابلوا هذا النشاط المضل وهذا النشاط الملحد بنشاط إسلامي وبدعوة إسلامية على شتى المستويات وبجميع(27/72)
الوسائل وبجميع الطرق الممكنة، وهذا من باب أداء ما أوجب الله على عباده من الدعوة إلى سبيله.
فضل الدعوة:
وقد ورد في فضل الدعوة والدعاة آيات وأحاديث كثيرة، كما أنه ورد في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم الدعاة أحاديث لا تخفى على أهل العلم، ومن ذلك قوله جل وعلا: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) فهذه الآية الكريمة فيها التنويه بالدعاة والثناء عليهم وأنه لا أحد أحسن قولا منهم وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم أتباعهم على حسب مراتبهم في الدعوة والعلم والفضل، فأنت يا عبد الله يكفيك شرفا أن تكون من أتباع الرسل ومن المنتظمين في هذه الآية الكريمة {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) المعنى: لا أحد أحسن قولا منه؛ لكونه دعا إلى الله وأرشد إليه وعمل بما يدعو إليه، يعني: دعا إلى الحق وعمل به، وأنكر الباطل وحذر منه وتركه، ومع ذلك صرح بما هو عليه لم يخجل، بل قال: إنني من المسلمين، مغتبطا وفرحا بما من الله به عليه، ليس كمن
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة فصلت الآية 33(27/73)
يستنكف عن ذلك أو يكره أن ينطق بأنه مسلم أو بأنه يدعو إلى الإسلام لمراعاة فلان أو مجاملة فلان ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل المؤمن الداعي إلى الله؛ القوي الإيمان، البصير بأمر الله يصرح بحق الله، وينشط في الدعوة إلى الله، ويعمل بما يدعو إليه ويحذر ما ينهى عنه، فيكون من أسرع الناس إلى ما يدعو إليه، ومن أبعد الناس عن كل ما ينهى عنه، ومع ذلك يصرح بأنه مسلم وبأنه يدعو إلى الإسلام ويغتبط بذلك ويفرح به، كما قال عز وجل {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (1) فالفرح برحمة الله فرح الاغتباط فرح السرور أمر مشروع، أما الفرح المنهي عنه فهو فرح الكبر والمرح هذا هو المنهي عنه، كما قال عز وجل في قصة قارون {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (2) هذا فرح الكبر والتعالي على الناس والتعاظم، وهذا هو الذي ينهى عنه ... أما فرح الاغتباط والسرور بدين الله والفرح بهداية الله والاستبشار بذلك والتصريح بذلك ليعلم، فأمر مشروع وممدوح ومحمود، فهذه الآية الكريمة من أوضح الآيات في الدلالة على فضل الدعوة وأنها من أهم القربات ومن
__________
(1) سورة يونس الآية 58
(2) سورة القصص الآية 76(27/74)
أفضل الطاعات، وأن أهلها في غاية الشرف وفي أرفع مكانة، وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام وأكملهم في ذلك خاتمهم وإمامهم وسيدهم نبينا محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام ومن ذلك قوله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) فبين سبحانه أن الرسول يدعو على بصيرة وأن أتباعه كذلك، فهذا فضل الدعوة، وأن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هم الدعاة إلى سبيله على بصيرة، والبصيرة هي العلم بما يدعو إليه وما ينهي عنه، وفي هذا شرف لهم وتفضيل، وقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (2) » رواه مسلم في الصحيح، وقال عليه الصلاة والسلام: «من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (3) » أخرجه مسلم أيضا، وهذا يدل على فضل الدعوة إلى الله عز وجل، وصح عنه عليه السلام أنه قال لعلي رضي الله
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره برقم1893.
(3) أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة برقم 2674.(27/75)
عنه وأرضاه: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (1) » متفق على صحته. وهذا أيضا يدلنا على فضل الدعوة إلى الله وما فيها من الخير العظيم وأن الداعي إلى الله جل وعلا يعطي مثل أجور من هداه الله على يديه ولو كانوا آلاف الملايين، تعطى أيها الداعية مثل أجورهم، فهنيئا لك أيها الداعية إلى الله بهذا الخير العظيم، وبهذا يتضح أيضا أن الرسول عليه الصلاة والسلام يعطى مثل أجور أتباعه، فيا لها من نعمة عظيمة يعطى نبينا عليه الصلاة والسلام مثل أجور أتباعه إلى يوم القيامة، لأنه بلغهم رسالة الله ودلهم على الخير عليه الصلاة والسلام وهكذا الرسل يعطون مثل أجور أتباعهم عليهم الصلاة والسلام وأنت كذلك أيها الداعية في كل زمان تعطى مثل أجور أتباعك والقابلين لدعوتك، فاغتنم هذا الخير العظيم وسارع إليه.
كيفية الدعوة:
أما كيفية الدعوة وأسلوبها فقد بينها الله عز وجل في كتابه الكريم وفيما جاء في سنة نبيه عليه الصلاة والسلام ومن أوضح
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس برقم 2942، ومسلم في كتاب فضل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه برقم 2406.(27/76)
ذلك قوله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) فأوضح سبحانه الكيفية التي ينبغي أن يتصف بها الداعية ويسلكها يبدأ أولا بالحكمة، والمراد بها الأدلة المقنعة الواضحة الكاشفة للحق والداحضة للباطل؛ ولهذا قال بعض المفسرين: المعنى بالقرآن؛ لأنه الحكمة العظيمة؛ لأن فيه البيان والإيضاح للحق بأكمل وجه، وقال بعضهم: معناه بالأدلة من الكتاب والسنة، وبكل حال فالحكمة كلمة عظيمة معناها الدعوة إلى الله بالعلم والبصيرة والأدلة الواضحة المقنعة الكاشفة للحق والمبينة له، وهي كلمة مشتركة تطلق على معان كثيرة، تطلق على النبوة، وعلى العلم والفقه في الدين، وعلى العقل والورع وعلى أشياء أخرى وهي في الأصل، كما قال الشوكاني رحمه الله، الأمر الذي يمنع عن السفه، هذه هي الحكمة، والمعنى: أن كل كلمة، وكل مقالة تردعك عن السفه، وتزجرك في الباطل فهي حكمة، وهكذا كل مقال واضح صريح صحيح في نفسه فهو حكمة، فالآيات القرآنية أولى بأن تسمى حكمة، وهكذا السنة الصحيحة أولى بأن تسمى حكمة بعد كتاب الله، وقد سماها الله حكمة في كتابه العظيم
__________
(1) سورة النحل الآية 125(27/77)
كما في قوله جل وعلا: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (1) يعني السنة، وكما في قوله سبحانه {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (2) الآية، فالأدلة الواضحة تسمى حكمة، والكلام الواضح المصيب للحق يسمى حكمة كما تقدم، ومن ذلك حكمة التي تكون في فم الفرس وهي بفتح الحاء والكاف سميت بذلك؛ لأنها تمنع الفرس من المضي في السير إذا جذبها صاحبها بهذه الحكمة.
فالحكمة كلمة تمنع من سمعها من المضي في الباطل وتدعوه إلى الأخذ بالحق والثأر به والوقوف عند الحد الذي حده الله عز وجل، فعلى الداعية إلى الله عز وجل أن يدعو بالحكمة ويبدأ بها ويعتني بها ويعنى بها، فإذا كان المدعو عنده بعض الجفاء والاعتراض فدعوته بالموعظة الحسنة بالآيات والأحاديث التي فيها الوعظ والترغيب، فإن كان عنده شبهة جادلته بالتي هي أحسن، ولا تغلظ عليه، بل تصبر عليه ولا تعجل ولا تعنف، بل تجتهد في كشف الشبهة وإيضاح الأدلة بالأسلوب الحسن، هكذا ينبغي لك أيها الداعية أن تتحمل وتصبر ولا تشدد
__________
(1) سورة البقرة الآية 151
(2) سورة البقرة الآية 269(27/78)
لأن هذا أقرب إلى الانتفاع بالحق وقبوله وتأثر المدعو، وصبره على المجادلة والمناقشة، وقد أمر الله جل وعلا موسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون أن يقولا له قولا لينا وهو أطغى الطغاة، قال الله جل وعلا في أمره لموسى وهارون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (1) وقال الله سبحانه في نبيه محمد عليه الصلاة والسلام {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2) الآية، فعلم بذلك أن الأسلوب الحكيم والطريق المستقيم في الدعوة أن يكون الداعي حكيما في الدعوة بصيرا بأسلوبها لا يعجل، ولا يعنف، بل يدعو بالحكمة وهي المقال الواضح المصيب للحق من الآيات والأحاديث، وبالموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، هذا هو الأسلوب الذي ينبغي لك في الدعوة إلى الله عز وجل، أما الدعوة بالجهل فهذا يضر ولا ينفع، كما يأتي بيان ذلك إن شاء الله عند ذكر أخلاق الدعاة؛ لأن الدعوة مع الجهل بالأدلة قول على الله بغير علم، وهكذا الدعوة بالعنف والشدة ضررها أكثر، وإنما الواجب والمشروع هو الأخذ بما بينه عز وجل في
__________
(1) سورة طه الآية 44
(2) سورة آل عمران الآية 159(27/79)
آية النحل؛ وهي قوله سبحانه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} (1) الآية. إلا إذا ظهر من المدعو العناد والظلم فلا مانع من الإغلاظ عليه كما قال الله سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (2) الآية، وقال تعالى {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (3)
أما الشيء الذي يدعى إليه ويجب على الدعاة أن يوضحوه للناس كما أوضحه الرسل عليهم الصلاة والسلام فهو الدعوة إلى صراط الله المستقيم وهو الإسلام وهو دين الله الحق، هذا هو محل الدعوة كما قال سبحانه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} (4) فسبيل الله جل وعلا هو الإسلام والصراط المستقيم وهو دين الله الذي بعث به نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام هذا هو الذي تجب الدعوة إليه، لا إلى مذهب فلان ولا إلى رأي فلان، ولكن إلى دين الله، الصراط المستقيم الذي بعث الله به نبيه وخليله محمدا عليه الصلاة والسلام وهو ما دل عليه القرآن العظيم والسنة المطهرة الثابتة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وعلى رأس
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة التوبة الآية 73
(3) سورة العنكبوت الآية 46
(4) سورة النحل الآية 125(27/80)
ذلك الدعوة إلى العقيدة الصحيحة إلى الإخلاص لله وتوحيده بالعبادة والإيمان به وبرسله والإيمان باليوم الآخر، وبكل ما أخبر الله به ورسوله، هذا هو أساس الصراط المستقيم وهو الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ومعنى ذلك: الدعوة إلى توحيد الله والإخلاص له والإيمان به وبرسله عليهم الصلاة والسلام ويدخل في ذلك الدعوة إلى الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسله مما كان وما يكون من أمر الآخرة وأمر آخر الزمان وغير ذلك ويدخل في ذلك أيضا الدعوة إلى ما أوجب الله من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت إلى غير ذلك، ويدخل أيضا في ذلك الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ بما شرع الله في الطهارة والصلاة والمعاملات والنكاح والطلاق والجنايات والنفقات والحرب والسلم وفي كل شيء؛ لأن دين الله عز وجل دين شامل يشمل مصالح العباد في المعاش والمعاد، ويشمل كل ما يحتاج إليه الناس في أمر دينهم ودنياهم، ويدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وينهى عن سفاسف الأخلاق وعن سيء الأعمال، فهو عبادة وقيادة، يكون عابدا ويكون قائدا للجيش، عبادة وحكم، يكون عابدا مصليا صائما، ويكون حاكما(27/81)
بشرع الله منفذا لأحكامه عز وجل، عبادة وجهادا، يدعو إلى الله ويجاهد في سبيل الله من خرج عن دين الله، مصحف وسيف، يتأمل القرآن ويتدبره وينفذ أحاكمه بالقوة ولو بالسيف إذا دعت الحاجة إليه، سياسة واجتماع، فهو يدعو إلى الأخلاق الفاضلة والأخوة الإيمانية، والجمع بين المسلمين والتأليف بينهم، كما قال جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) فدين الله يدعو إلى الاجتماع وإلى السياسة الصالحة الحكيمة التي تجمع ولا تفرق، تؤلف ولا تباعد، تدعو إلى صفاء القلوب واحترام الأخوة الإسلامية والتعاون على البر والتقوى والنصح لله ولعباده، وهو أيضا يدعو إلى أداء الأمانة والحكم بالشريعة وترك الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل، كما قال سبحانه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (2) وهو أيضا سياسة واقتصاد، كما أنه سياسة وعبادة وجهاد، فهو يدعو إلى الاقتصاد الشرعي المتوسط، ليس رأسماليا غاشما ظالما لا يبالي بالمحرمات ويجمع المال بكل وسيلة وبكل طريق، وليس اقتصادا شيوعيا إلحاديا لا يحترم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة النساء الآية 58(27/82)
أموال الناس ولا يبالي بالضغط عليهم وظلمهم والعدوان عليهم، فليس لهذا ولا هذا، بل هو وسط بين الاقتصادين ووسط بين الطريقين وحق بين الباطلين، فالغرب عظموا المال وغلوا في حبه وفي جمعه حتى جمعوه بكل وسيلة، وسلكوا فيه ما حرم الله عز وجل، والشرق من الملحدين من السوفييت ومن سلك سبيلهم لم يحترموا أموال العباد، بل أخذوها واستحلوها ولم يبالوا بما فعلوا في ذلك، بل استعبدوا العباد واضطهدوا الشعوب وكفروا بالله وأنكروا الأديان؛ وقالوا لا إله والحياة مادة، فلم يبالوا بهذا المال، ولم يكترثوا بأخذه بغير حله، ولم يكترثوا بوسائل الإبادة والاستعباد على الأموال والحيلولة بين الناس وبين ما فطرهم الله عليه من الكسب والانتفاع، والاستفادة من قدراتهم ومن عقولهم وما أعطاهم الله من الأدوات، فلا هذا ولا هذا.
فالإسلام جاء ليحفظ المال واكتسابه بالطرق الشرعية البعيدة عن الظلم والغشم والربا وظلم الناس والتعدي عليهم، كما جاء باحترام الملك الفردي والجماعي، فهو وسط بين النظامين وبين الاقتصادين وبين الطريقين الغاشمين، فأباح المال ودعا إليه ودعا إلى اكتسابه بالطرق الحكيمة من غير أن يشغل كاسبه عن طاعة الله ورسوله وعن أداء ما أوجب الله عليه؛ ولهذا قال عز(27/83)
وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1) وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (2) » وقال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا (3) » وقال عليه الصلاة والسلام: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف بها وجهه خير له من سؤال الناس أعطوه أو منعوه (4) » «وسئل صلى الله عليه وسلم أي الكسب أطيب؟ فقال: عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور (5) » وقال عليه الصلاة والسلام: «ما أكل أحد طعاما أفضل من أن يأكل من عمل يده وكان نبي الله داود يأكل من
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه برقم 2564
(3) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: رب مبلغ، برقم 67، ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال برقم 1679.
(4) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الاستعفاف من المسألة برقم1471.
(5) أخرجه الإمام أحمد في مسند الشاميين، باب حديث رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه برقم 16814.(27/84)
عمل يده (1) » فهذا يبين لنا أن نظام الإسلام في المال نظام متوسط، لا مع رأس المال الغاشم من الغرب وأتباعه، ولا مع الشيوعيين الملحدين الذين استباحوا الأموال وأهدروا حرمات أهلها، ولم يبالوا بها واستعبدوا الشعوب وقضوا عليها واستحلوا ما حرم الله منها، فلك أن تكسب المال وتطلبه بالطرق الشرعية وأنت أولى بمالك وبكسبك بالطريقة التي شرعها الله وأباحها جل وعلا، والإسلام أيضا يدعو إلى الأخوة الإيمانية وإلى النصح لله ولعباده وإلى احترام المسلم لأخيه، لا غل ولا حسد ولا غش ولا خيانة ولا غير ذلك من الأخلاق الذميمة، كما قال جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (2) وقال جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (3) وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله (4) » الحديث، فالمسلم أخو المسلم يجب عليه احترامه وعدم احتقاره
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده برقم 2072.
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة الحجرات الآية 10
(4) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه برقم 2564.(27/85)
ويجب عليه إنصافه وإعطائه حقه من كل الوجوه التي شرعها الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (1) » وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن مرآة أخيه المؤمن (2) » فأنت يا أخي مرآة أخيك وأنت لبنة من البناء الذي قام عليه بنيان الأخوة الإيمانية، فاتق الله في حق أخيك واعرف حقه وعامله بالحق والنصح والصدق، وعليك أن تأخذ الإسلام كله ولا تأخذ جانبا دون جانب، لا تأخذ العقيدة وتدع الأحكام والأعمال، ولا تأخذ الأعمال والأحكام وتدع العقيدة، بل خذ الإسلام كله، خذه عقيدة وعملا وعبادة وجهادا واجتماعا وسياسة واقتصادا وغير ذلك، خذه من كل الوجوه كما قال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (3) قال جماعة من السلف معنى ذلك: ادخلوا في السلم جميعه يعني
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضا برقم 6027، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم برقم 2585.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب النصيحة والحياطة برقم 4918.
(3) سورة البقرة الآية 208(27/86)
في الإسلام، يقال للإسلام سلم؛ لأنه طريق السلامة وطريق النجاة في الدنيا والآخرة فهو سلم وإسلام، فالإسلام يدعو إلى السلم، يدعو إلى حقن الدماء بما شرع من الحدود والقصاص والجهاد الشرعي الصادق فهو سلم وإسلام وأمن وإيمان؛ ولهذا قال جل وعلا {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} (1) أي ادخلوا في جميع شعب الإيمان، لا تأخذوا بعضها وتدعوا بعضا، عليكم أن تأخذوا بالإسلام كله، ولا تتبعوا خطوات الشيطان يعني المعاصي التي حرمها الله عز وجل، فإن الشيطان يدعو إلى المعاصي وإلى ترك دين الله كله، فهو أعدى عدو؛ ولهذا يجب على المسلم أن يتمسك بالإسلام كله وأن يدين بالإسلام كله وأن يعتصم بحبل الله عز وجل وأن يحذر أسباب الفرقة والاختلاف في جميع الأحوال، فعليك أن تحكم شرع الله في العبادات وفي المعاملات وفي النكاح وفي الطلاق وفي النفقات وفي الرضاع وفي السلم والحرب ومع العدو والصديق وفي الجنايات وفي كل شيء، دين الله يجب أن يحكم في كل شيء، وإياك أن توالي أخاك؛ لأنه وافقك في كذا وتعادي الآخر؛ لأنه خالفك في رأي أو في مسألة، فليس هذا من الإنصاف فالصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل، ومع ذلك لم يؤثر ذلك في الصفاء بينهم والموالاة
__________
(1) سورة البقرة الآية 208(27/87)
والمحبة رضي الله عنهم وأرضاهم، فالمؤمن يعمل بشرع الله ويدين بالحق ويقدمه على كل أحد بالدليل، ولكن لا يحمله ذلك على ظلم أخيه وعدم إنصافه إذا خالفه في الرأي في مسائل الاجتهاد التي قد يخفى دليلها، وهكذا في المسائل التي قد يختلف في تأويل النص فيها فإنه قد يعذر، فعليك أن تنصح له وأن تحب له الخير ولا يحملك ذلك على العداء والانشقاق وتمكين العدو منك ومن أخيك، ولا حول ولا قوة إلا بالله، الإسلام دين العدالة ودين الحكم بالحق والإحسان، دين المساواة إلا فيما استثنى الله عز وجل، ففيه الدعوة إلى كل خير، وفيه الدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والإنصاف والعدالة والبعد عن كل خلق ذميم، قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (2)
__________
(1) سورة النحل الآية 90
(2) سورة الحجرات الآية 13(27/88)
والخلاصة أن الواجب على الداعية الإسلامي أن يدعو إلى الإسلام كله ولا يفرق بين الناس، وألا يكون متعصبا لمذهب دون مذهب أو لقبيلة دون قبيلة أو لشيخه أو لرئيسه أو غير ذلك، بل الواجب أن يكون هدفه إثبات الحق وإيضاحه واستقامة الناس عليه وإن خالف رأي فلان أو فلان أو فلان، ولما نشأ في الناس من يتعصب للمذاهب ويقول: إن مذهب فلان أولى من مذهب فلان، جاءت الفرقة والاختلاف حتى آل ببعض الناس هذا الأمر إلى ألا يصلي مع من هو من على غير مذهبه، فلا يصلي الشافعي خلف الحنفي ولا الحنفي خلف المالكي ولا خلف الحنبلي، هكذا وقع من بعض المتطرفين المتعصبين، وهذا من البلاء ومن اتباع خطوات الشيطان، فالأئمة أئمة هدى، الشافعي ومالك وأحمد، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه، وأشباههم كلهم أئمة هدى ودعاة حق، دعوا الناس إلى دين الله وأرشدوهم إلى الحق، ووقع هناك مسائل بينهم اختلفوا فيها؛ لخفاء الدليل على بعضهم، فهم بين مجتهد مصيب له أجران وبين مجتهد أخطأ الحق فله أجر واحد، فعليك أن تعرف لهم قدرهم وفضلهم وأن تترحم عليهم وأن تعرف أنهم أئمة الإسلام ودعاة الهدى، ولكن لا يحملك ذلك على التعصب والتقليد الأعمى، فتقول:(27/89)
مذهب فلان أولى بالحق بكل حال، أو مذهب فلان أولى بالحق لكل حال لا يخطئ لا هذا غلط.
عليك أن تأخذ بالحق وأن تتبع الحق إذا ظهر دليله ولو خالف فلانا وفلانا، وعليك ألا تتعصب وتقلد تقليدا أعمى، بل تعرف للأئمة فضلهم وقدرهم، ولكن مع ذلك تحتاط لنفسك ودينك فتأخذ بالحق وترشد إليه وترضى به إذا طلب منك وتخاف الله وتراقبه جل وعلا وتنصف من نفسك، مع إيمانك بأن الحق واحد وأن المجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطئوا فلهم أجر واحد أعني مجتهدي أهل السنة، أهل العلم والإيمان والهدى كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما المقصود من الدعوة والهدف منها:
فالمقصود والهدف: إخراج الناس من الظلمات إلى النور وإرشادهم إلى الحق حتى يأخذوا به وينجوا من النار وينجوا من غضب الله، وإخراج الكافر من ظلمة الكفر إلى النور والهدى وإخراج الجاهل من ظلام الجهل إلى نور العلم، والعاصي من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة، هذا هو المقصود من الدعوة كما قال جل وعلا: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 257(27/90)
فالرسل بعثوا ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ودعاة الحق كذلك يقومون بالدعوة وينشطون لها؛ لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ولإنقاذهم من النار ومن طاعة الشيطان ولإنقاذهم من طاعة الهوى إلى طاعة الله ورسوله.. أما أخلاق الدعاة وصفاتهم التي ينبغي أن يكونوا عليها، فقد أوضحها الله جل وعلا في آيات كثيرة، منها: الإخلاص، فيجب على الداعية أن يكون مخلصا لله عز وجل لا يريد رياء ولا سمعة ولا ثناء الناس ولا حمدهم، إنما يدعو إلى الله يريد وجهه عز وجل، كما قال سبحانه {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} (1) وقال عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} (2) فعليك أن تخلص لله عز وجل، هذا أهم الأخلاق، هذا أعظم الصفات أن تكون في دعوتك تريد وجه الله والدار الآخرة.
الأمر الثاني: أن تكون على بينة في دعوتك أي على علم، لا تكن جاهلا بما تدعو إليه {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (3)
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة فصلت الآية 33
(3) سورة يوسف الآية 108(27/91)
فلا بد من العلم، فالعلم فريضة، فإياك أن تدعو على جهالة وإياك أن تتكلم فيما لا تعلم، فالجاهل يهدم ولا يبني ويفسد ولا يصلح، فاتق الله يا عبد الله، إياك أن تقول على الله بغير علم، ولا تدعو إلى شيء إلا بعد العلم به والبصيرة بما قاله الله ورسوله، فلا بد من بصيرة وهي العلم، فعلى طالب العلم وعلى الداعية أن يتبصر فيما يدعو إليه وأن ينظر فيما يدعو إليه ودليله، فإن ظهر له الحق وعرفه ودعا إلى ذلك سواء كان ذلك فعلا أو تركا فيدعو إلى الفعل إذا كان طاعة لله ورسوله، ويدعو إلى ترك ما نهى الله عنه ورسوله على بينة وبصيرة.
الأمر الثالث: من الأخلاق التي ينبغي لك أن تكون عليها أيها الداعية أن تكون حليما في دعوتك رفيقا فيها متحملا صبورا، كما فعل الرسل عليهم الصلاة والسلام، إياك والعجلة، إياك والعنف والشدة، عليك بالصبر عليك بالحلم عليك بالرفق في دعوتك، وقد سبق لك بعض الدليل على ذلك، كقوله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1)
__________
(1) سورة النحل الآية 125(27/92)
وقوله سبحانه {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (1) الآية، وقوله جل وعلا في قصة موسى وهارون: فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه (2) » فعليك يا عبد الله أن ترفق في دعوتك ولا تشق على الناس ولا تنفرهم من الدين ولا تنفرهم بغلظتك ولا بجهلك ولا بأسلوبك العنيف المؤذي الضار، عليك أن تكون حليما صبورا سلس القياد لين الكلام طيب الكلام حتى تؤثر في قلب أخيك وحتى تؤثر في قلب المدعو وحتى يأنس لدعوتك ويلين لها ويتأثر بها ويثني عليك بها ويشكرك عليها، أما العنف فهو منفر لا مقرب ومفرق لا جامع..ومن الأخلاق والأوصاف التي ينبغي، بل يجب أن يكون عليها الداعية: العمل بدعوته وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه، ليس
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر برقم 1828.(27/93)
ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه أو ينهي عنه ثم يرتكبه، هذه حال الخاسرين نعوذ بالله من ذلك، أما المؤمنون الرابحون، فهم دعاة الحق يعملون به، وينشطون فيه، ويسارعون إليه، ويبتعدون عما ينهون عنه، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2) وقال سبحانه موبخا اليهود على أمرهم الناس بالبر ونسيان أنفسهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (3) وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون له: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فيقول: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه (4) » هذه حال من دعا إلى الله وأمر بالمعروف
__________
(1) سورة الصف الآية 2
(2) سورة الصف الآية 3
(3) سورة البقرة الآية 44
(4) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة برقم 3267، ومسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب من يأمر بالمعروف ولا يفعله برقم 2989.(27/94)
ونهى عن المنكر، ثم خالف قوله فعله وفعله قوله نعوذ بالله من ذلك، فمن أهم أخلاق وأعظمها في حق الداعية: أن يعمل بما يدعو إليه، وأن ينتهي عما ينهي عنه، وأن يكون ذا خلق فاضل وسيرة حميدة وصبر ومصابرة وإخلاص في دعوته واجتهاد فيما يوصل الخير إلى الناس وفيما يبعدهم من الباطل، ومع ذلك يدعو لهم بالهداية، هذا من الأخلاق الفاضلة أن يدعو لهم بالهداية ويقول للمدعو: هداك الله، وفقك الله لقبول الحق، أعانك الله على قبول الحق، تدعوه وترشده وتصبر على الأذى، ومع ذلك تدعو له بالهداية، قال النبي عليه الصلاة والسلام لما قيل عن دوس أنهم عصوا، قال: «اللهم اهد دوسا وائت بهم (1) » تدعو له بالهداية والتوفيق بقبول الحق وتصبر وتصابر في ذلك ولا تقنط ولا تيأس ولا تقل إلا خيرا، ولا تعنف ولا تقل كلاما سيئا ينفر من الحق، ولكن من ظلم وتعدى له شأن آخر، كما قال الله جل وعلا: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم برقم 2937، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة برقم 2524.
(2) سورة العنكبوت الآية 46(27/95)
فالظلم الذي يقابل الدعوة بالشر والعناد والأذى له حكم آخر؛ في الإمكان تأديبه على ذلك بالسجن أو غيره، ويكون تأديبه على ذلك حسب مراتب الظلم، لكن مادام كافا عن الأذى فعليك أن تصبر عليه وتحتسب وتجادله بالتي هي أحسن وتصفح عما يتعلق بشخصك من بعض الأذى كما صبر الرسل وأتباعهم بإحسان.
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعا لحسن الدعوة إليه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه والثبات عليه، ويجعلنا من الهداة المهتدين والصالحين المصلحين، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.(27/96)
واجب المسلمين تجاه دينهم ودنياهم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (3) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (4) أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة الأحزاب الآية 70
(4) سورة الأحزاب الآية 71(27/97)
يوفقنا جميعا لما يرضيه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأشكره سبحانه على ما من به من العمل في سبيل الله. وفي طاعته جل وعلا، والتواصي بالحق، وأسأله جل وعلا أن يعيننا جميعا على ما فيه رضاه، ويعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. أما عن الفتاوى واستنباطها من كتاب الله؟ ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقول: إن هذا هو الواجب على أهل العلم، وهو الذي نفعله ونهدف إليه، ونحرص على تطبيق فتاوانا عليه، ولكنني لست معصوما، فقد يقع الخطأ مني، ومن غيري من أهل العلم، ولكني لا آلو جهدا في تطبيق ما يصدر مني على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا آلو جهدا في استنباط ما دل عليه كتاب الله. وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما يصدر مني، من قليل أو كثير. هذا هو جهدي، وأسأل الله أن يجعل ذلك موفقا ومصيبا للحق.
وأما ما يتعلق بسؤال أهل العلم، والاستفتاء منهم، فهذا أمر معلوم قد شرعه الله لعباده فإن الله جل وعلا أمر بسؤال أهل العلم، وأسأل الله أن يجعلنا وسائر إخواننا من أهل العلم النافع، والعمل الصالح. فقال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1)
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 7(27/98)
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوم أفتوا بغير علم: «ألا سألوا إذ لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال (1) » . فالواجب على طالب العلم، وعلى كل مسلم أشكل عليه أمر من أمور دينه أن يسأل عنه، ذوي الاختصاص من أهل العلم، وأن يتبصر، وأن لا يقدم على أي عمل بجهل يقوده إلى الضلال. فعلى المسلمين أن يسألوا، وعلى أهل العلم أن يبينوا. فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وهم خلفاء الرسل في بيان الحق، والدعوة إليه، والإفتاء به. وعلى جميع المسلمين أن يسألوا عما أشكل عليهم. وأن يستفتوا أهل العلم.
وأهل العلم هم علماء الكتاب والسنة، وهم الذين يرجعون في فتاواهم إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. هؤلاء هم أهل العلم وليس أهل العلم من يقلد الرجال ولا يبالي بالكتاب والسنة، إنما العلماء هم الذين يعظمون كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويرجعون إليهما في كل شيء، هؤلاء هم أهل العلم.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم، برقم 336.(27/99)
وعلى طالب العلم أن يتأسى بهم، ويجتهد في سلوك طريقهم، وعلى عامة المسلمين أن يسألوهم عما أشكل عليهم في أمر دينهم ودنياهم، لأن الله جل وعلا بعث الرسل لإصلاح أمر الدين والدنيا جميعا، ولا سيما خاتمهم وإمامهم، وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله بعثه للناس عامة للجن والإنس، وجعل رسالته عامة، وفيها صلاح أمر الدنيا والآخرة، وفيها صلاح العباد والبلاد في كل شيء، فيها خلاصهم من كل شر، وفيها صلاحهم فيما يتعلق بدنياهم، وأمر معاشهم، وفيها صلاحهم فيما يتعلق بطاعة ربهم وعبادته، وأداء حقه، وترك ما نهى عنه، وفيها صلاحهم في كل ما يقربهم من الله، ويباعدهم من غضبه، سبحانه وتعالى، وفيها صلاحهم بتوجيه العباد وإرشادهم إلى ما ينفعهم، ويهديهم إلى الطريق السوي، ويبعدهم عن طريق النار، وطريق الهلاك والدمار. فالمسلمون عليهم واجبات تتعلق بدينهم، وبالاستقامة عليه كما شرع الله، وكما أمرهم الله. فإن الله خلقهم ليعبدوه، وأرسل الرسل بذلك، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وهذه هي العبادة التي أمرهم الله بها، في قوله
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56(27/100)
سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) وفي قوله سبحانه وبحمده: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (2) وفي قوله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (3) وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (4) وفي قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (5)
والله بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، كما بعث الرسل قبله، بعثه بالدعوة إلى هذه العبادة، وللدعوة إلى هذا الدين، بعثه إلى الثقلين الجن والإنس رحمة للعالمين، كما قال سبحانه وبحمده: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (6) بعثه معلما ومرشدا وهاديا إلى طريق النجاة، معلما لهم كل ما فيه صلاحهم ونجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وجعله خاتم
__________
(1) سورة البقرة الآية 21
(2) سورة النساء الآية 36
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة النحل الآية 36
(5) سورة الأنبياء الآية 25
(6) سورة الأنبياء الآية 107(27/101)
الأنبياء. ليس بعده نبي ولا رسول، ومن ادعى النبوة بعده فهو كاذب كافر، بإجماع أهل العلم والإيمان، فمن ادعى أنه نبي أو أنه أوحي إليه بشيء كالقاديانية فهو كافر بالله، ضال مضل، مرتد عن دين الإسلام، إذا كان يدعي الإسلام، فهو صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، كما قال جل وعلا: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1)
وقد تواترت عنه عليه الصلاة والسلام الأحاديث الصحيحة، بأنه خاتم الأنبياء، لا نبي بعده، فالواجب على جميع الثقلين اتباعه، والاستقامة على دينه، والتفقه في ذلك، والسير على ذلك حتى الموت، وهذه العبادة التي خلقوا لها، لا بد أن يتفقهوا فيها، ولا بد أن يعرفوها بالأدلة من الكتاب والسنة، فهم خلقوا ليعبدوا الله، وتفسير هذه العبادة يؤخذ عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد فسرها الله في كتابه العظيم، وفسرها نبينا عليه الصلاة والسلام، فأصلها توحيد الله والإخلاص له، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2)
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 40
(2) سورة البينة الآية 5(27/102)
هذا أصل هذه العبادة، فأصلها توحيد الله وتخصيصه بالعبادة قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (1) وبهذا أنزلت الكتب جميعها من الله سبحانه وتعالى، لبيان هذه العبادة، كما قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (2) {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} (3)
فالكتب المنزلة من السماء، وآخرها القرآن، كلها تدعو إلى توحيد الله والإخلاص له، وطاعة أوامره، وترك نواهيه.
والرسل كلهم جميعا كذلك يدعون إلى توحيد الله وطاعة أوامره، وترك نواهيه، واتباع شريعته والحذر مما نهى عنه سبحانه وتعالى.
فعلى جميع المكلفين من إنس وجن، وعرب وعجم، ورجال ونساء، عليهم جميعا أن يعبدوا الله وحده وأن ينقادوا لما جاء به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قولا وعملا، فعلا وتركا. فأصل الدين وأساسه هو شهادة أن لا إله ألا الله. وأن محمدا رسول الله.
وهذا هو أصل هذه العبادة وأساسها، أن يعبد الله وحده،
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 25
(2) سورة هود الآية 1
(3) سورة هود الآية 2(27/103)
دون كل ما سواه: بالدعاء والرجاء والخوف، والنذر والذبح، وسائر العبادات، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (1) وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) وقال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (3) وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (5) وقال سبحانه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (6) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (7)
فالعبادة حق الله لا تصلح لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا لصنم ولا لجن ولا لوثن، ولا غير ذلك، بل هو حق الله عليك أن تعبده وحده بدعائك ورجائك، وخوفك وذبحك ونذرك وصلاتك، وصومك وحجك وصدقاتك، وغير ذلك، لأنه سبحانه هو المعبود بالحق، وما سواه معبود بالباطل، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (8)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة الأنعام الآية 162
(5) سورة الأنعام الآية 163
(6) سورة الكوثر الآية 1
(7) سورة الكوثر الآية 2
(8) سورة الحج الآية 62(27/104)
وكان العرب وغيرهم من الأمم، إلا من رحم الله، وهم قليل حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا على الشرك بالله، منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء. ومنهم من يعبد الأصنام المنحوتة على صورة فلان وفلان، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، ومنهم من يعبد القبور، ومنهم من يعبد النجوم، ويستغيث بها، وينذر لها إلى غير ذلك.
فبعث الله هذا النبي العظيم، صلى الله عليه وسلم، يدعوهم إلى توحيد الله، وينذرهم من هذا الشرك الوخيم، فقام بذلك أكمل قيام عليه الصلاة والسلام. ودعا إلى الله وأرشد إلى دينه جل وعلا، الذي رضيه للناس، وعلم الناس توحيد الله.(27/105)
مكث صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة، يدعو فيها إلى توحيد الله والإخلاص لله، وترك عبادة ما سواه جل وعلا.
ويعد مضي عشر سنين فرض الله عليه الصلوات الخمس، قبل أن يهاجر أسري به إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السماء، وتجاوز السماوات السبع جميعا، ورفع إلى مستوى فوق ذلك عليه الصلاة والسلام، وكلمه الله جل وعلا، وأوحى إليه الصلوات الخمس، فنزل بها عليه الصلاة والسلام، وعلمها الناس، وقام بها المسلمون في مكة، ثم هاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة(27/105)
وفرض الله عليه بقية أمور الدين من زكاة وصيام وحج وغير ذلك.
فالواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس، والعرب والعجم، والذكور والإناث، والحكام والمحكومين، والأغنياء والفقراء، الواجب عليهم جميعا في وقته، وبعد وقته، وفي وقتنا هذا وإلى يوم القيامة، الواجب على الجميع أن يعبدوا الله وحده، وأن ينقادوا لشرعه، وأن يتبعوا ما جاء به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قولا وعملا، وعقيدة.
هذا واجب الجميع نحو دينهم، يجب عليهم أن يعبدوا الله ويطيعوا أوامره ويتركوا نواهيه، فالعبادة هي طاعة الأوامر إخلاصا لله ومحبة له وتعظيما له، من صلاة وزكاة وحج، وبر بالوالدين، وصلة للرحم، وجهاد في سبيل الله بالنفس والمال، وصدق في الحديث، وغير هذا مع ترك كل ما حرم الله من الشرك بالله، وهو أعظم الذنوب، فالشرك الذي هو صرف العبادة، أو بعضها لغير الله أعظم الذنوب، وهو الشرك الأكبر: كدعاء الملائكة أو الأنبياء، أو الجن أو أصحاب القبور فيستغيث بهم " أو ينذر لهم، أو يذبح لهم، وهذا ينافي قول لا إله إلا الله. فإن قول لا إله إلا الله، معناها لا معبود بحق إلا الله، وهي كلمة التوحيد، وهي أصل الدين وأساس الملة، فدعاء الأموات والأصنام وغيرهم،(27/106)
والاستغاثة بهم، والنذر لهم ينقض هذه الكلمة وينافيها. وهو الشرك الأكبر، والذي يأتي الأموات ويدعوهم، ويستغيث بهم، وينذر لهم أو يسألهم النصر على الأعداء، أو شفاء المرضى، أو يدعو الملائكة أو الرسل، أو يدعو الجن ويستغيث بهم، أو ينذر لهم ويذبح لهم، كل هذا من الشرك بالله، وكل هذا يناقض قول: لا إله إلا الله، ويخالف قوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) ويناقض قوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2)
وبهذا يعلم كل مسلم أن ما يفعله بعض الجهال عند بعض القبور، فيأتي إلى القبر، ويقول يا سيدي فلان اشف مرضي، أو انصرني على عدوي، أو أنت تعلم ما نحن فيه انصرنا، أو ما أشبه ذلك.
هذا من الشرك الأكبر، وهذا هو دين الجاهلية، نسأل الله السلامة والعافية.
ولا بد أيضا مع توحيد الله، والإخلاص له، والحذر من الكفر به، لا بد من الشهادة بأن محمدا رسول الله. هاتان الشهادتان هما أصل الدين، وأساس الملة. فعلى كل مكلف أن يؤمن بأن محمدا رسول الله، هو عبده ورسوله إلى الثقلين الإنس والجن، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي العربي
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) سورة البينة الآية 5(27/107)
المكي ثم المدني، أرسله الله حقا إلى جميع الثقلين يجب الإيمان به بالقلب واللسان والعمل، فيؤمن المكلف بأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي، هو رسول الله حقا إلى جميع الناس، وهو خاتم الأنبياء، إيمانا صادقا، لا نفاق فيه، ويحققه بالعمل بطاعة الأوامر، وترك النواهي، بطاعة أوامر الله من صلاة وزكاة، وصوم وحج وغير ذلك، وترك محارم الله من الشرك بالله، والزنا والسرقة، وشرب المسكرات، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، إلى غير ذلك مما حرم الله، تحقق هاتين الشهادتين يا عبد الله، بطاعة الأوامر، وترك النواهي هذا حق الله عليك أيها العبد، أما حق الرسول عليك، فعليك أن تعبد الله وحده بطاعة الأوامر، وترك النواهي والإيمان بأنه ربك، وإلهك الحق، وأنه إله الجميع، وأنه سبحانه خالق الكون. ومصرف أحوال الجميع، وأنه ذو الأسماء الحسنى، والصفات العلا، كل هذا داخل في الإيمان بالله وحده، فهو سبحانه رب الجميع وخالقهم ومصرف أحوال العباد فهو سبحانه: الخلاق الرزاق مدبر الأمور، مصرف الأشياء، ليس للعباد خالق سواه، ولا مدبر سواه، فهو النافع الضار، المانع المعطي، الخالق لكل شيء، القادر على كل شيء، الرزاق للعباد، بيده تصريف الأمور(27/108)
كلها، سبحانه وتعالى.
وهذا يسمى توحيد الربوبية، وهو وحده لا يدخل في الإسلام، بل لا بد مع ذلك من الإيمان بأنه هو المستحق للعبادة، فلا يستحقها سواه، وهذا هو معنى لا إله إلا الله. أي لا معبود حق إلا الله. وهذا هو توحيد العبادة، وهو تخصيصه سبحانه بالعبادة، وإفراده بها من دعاء وخوف، ورجاء وتوكل، وصلاة وصوم. وغير ذلك، مع الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات، وهو الإيمان بأنه سبحانه هو الكامل في ذاته، وأسمائه وصفاته وأفعاله، له الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته، لا شريك له، ولا شبيه له، ولا كفؤ له سبحانه وتعالى. وهذا هو توحيد الأسماء والصفات كما تقدم. قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (5)
فعلى جميع المكلفين من الثقلين، الإيمان بأسماء الله وصفاته الواردة في القرآن الكريم، كالعزيز الحكيم، والسميع والبصير، والخلاق والرزاق، والرحمن الرحيم، إلى غير ذلك من أسمائه
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2
(3) سورة الإخلاص الآية 3
(4) سورة الإخلاص الآية 4
(5) سورة الشورى الآية 11(27/109)
وصفاته سبحانه وتعالى، وعلى الجميع أيضا الإيمان بما ثبت في السنة، سنة النبي صلى الله عليه وسلم، من أسماء الله " وصفاته، ثم إمرارها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تمثيل ولا تأويل، ولا زيادة ولا نقصان، بل نؤمن بها ونقرها ونمرها كما جاءت "، لا نحرف ولا نغير، ولا نزيد ولا ننقص، ولا نؤول شيئا من صفات الله، بل هي حق كلها يجب إثباتها لله، على الوجه اللائق بالله، مع الإيمان القطعي بأنه سبحانه لا يشبه خلقه في شيء من صفاته جل وعلا، كما أنه لا يشبههم في ذاته، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، وهو الذي أجمعت عليه الرسل، ونزلت به الكتب، التي أعظمها وأكملها القرآن الكريم، وهو الحق لا ريب فيه، فعليك يا عبد الله أن تؤمن به. وأن تعض عليه بالنواجذ ولا بد مع هذا كله، من الإيمان بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم واتباعه، مع الإيمان بجميع المرسلين، ولا بد أن تؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله، من الملائكة والكتب، وأمر الجنة والنار، والبعث والنشور، والحساب والجزاء، وعذاب القبر ونعيمه، والإيمان بالقدر خيره وشره.
لا بد من الإيمان بهذا كله من جميع المكلفين من الرجال(27/110)
والنساء، والأحرار والعبيد، والعرب والعجم، والأغنياء والفقراء، والحكام والمحكومين، والجن والإنس، على الجميع الإيمان بكل ما أخبر الله به، ورسوله.
هذا واجبهم نحو دينهم، وواجب عليهم جميعا أن يؤمنوا بكل ما أخبر الله به ورسوله مما كان في الدنيا من الرسل الماضين من آدم ومن بعده من الرسل، وما جاءوا به من الهدى، وأن الله جل وعلا بعثهم لدعوة الناس إلى الخير والهدى والتوحيد، وأنهم بلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة عليهم الصلاة والسلام، ولا بد من الإيمان أيضا بكل ما مضى من أخبار الماضين، مما جرى على قوم نوح وعاد وثمود، وغيرهم ممن قص الله علينا أخبارهم.
فعليك يا عبد الله أن تؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله. في كتابه العزيز، وفيما جاءت به سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا بد من هذا الإيمان، ومن ذلك الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، كما تقدم فإن القبر إما روضة من رياض الجنة للمؤمن، أو حفرة من حفر النار للكافر.
أما العاصي فهو على خطر، وقد يناله في قبره ما شاء الله من العذاب، إلا من رحم الله، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر على قبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، أما أحدهما فكان يمشي(27/111)
بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من البول (1) » . الحديث. ومعنى لا يستتر من البول، أي لا يتنزه منه كما جاء ذلك في رواية أخرى. فعذبا في قبريهما بهاتين المعصيتين، وهذا عذاب معجل.
وهذا الحديث يبين لنا أن أمر المعاصي خطير، وأن الواجب على المؤمن أن يستقيم على دين الله، قولا وعملا وعقيدة، وأن يحافظ على ما أوجب الله عليه، وأن يحذر ما نهى الله عنه سبحانه وتعالى، وأن يؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما يتعلق بأحوال القبر، وأحوال الناس في قبورهم، فالقبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار. والميت أول ما يوضع في قبره يسأله ملكان عن ربه، وعن دينه وعن نبيه. فالمؤمن يثبته الله فيقول: ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي، لأنه كان ثابتا في الدنيا على الحق، قبل أن يموت، فكان بصيرا بدينه، ثابتا عليه، فلهذا يثبته الله في القبر، وأما الكافر والمنافق إذا سئل فإنه يقول: هاه هاه، لا أدري سمعت
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله، برقم 216، ومسلم في كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء، برقم 292.(27/112)
الناس يقولون شيئا فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الإنسان ولو سمعه الإنسان لصعق. وهكذا يحاسبهم الله، ويجازيهم بأعمالهم.
فالناس يبعثون ويجازون بأعمالهم بعد قيام الساعة، وقد دل الكتاب والسنة على أن إسرافيل عليه السلام، ينفخ في الصور، فيموت الناس الموجودون، ثم ينفخ فيه نفخة أخرى بعد ذلك، فيبعثهم الله، ويقومون من قبورهم، ومن كل مكان من البحار وغيرها، ويجمعهم الله ويجازيهم بأعمالهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. هذا حق لا ريب فيه، فلا بد من الإيمان بهذا كله، والإعداد له العدة الصالحة، بتوحيد الله وطاعته، واتباع شريعته، والحذر من معصيته سبحانه وتعالى ثم بعد هذا المحشر والقيام بين يدي رب العالمين، ومجازاة الناس بأعمالهم، جنهم وإنسهم ينصب الله الموازين، ويزن بها أعمال العباد، فهذا يرجح ميزانه وهو السعيد، وهذا يخف ميزانه وهو الهالك، وهذا يعطى كتابه بيمينه وهو السعيد، وهذا يعطى كتابه بشماله وهو الشقي، نسأل الله السلامة والعافية.
فهذا المقام العظيم. وهذا الأمر الجلل، لا بد من أن نستحضره، وأن نعد له عدته، فيوم القيامة يوم عظيم، وهو يوم الأهوال والشدائد، ومقداره خمسون ألف سنة، كما قال تعالى في كتابه(27/113)
الكريم: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (1) {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} (2) {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا} (3) {وَنَرَاهُ قَرِيبًا} (4)
فلا بد من الإعداد لهذا اليوم، والإيمان بأنه حق.
فعليك يا عبد الله أن تعد له العدة الصالحة، بتوحيد الله وطاعته، واتباع شريعته، وتعظيم أمره، واجتناب نهيه، والتعاون على البر والتقوى مع إخوانك المسلمين، والتواصي بالحق والصبر عليه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الضال، وتعليم الجاهل، إلى غير ذلك من وجوه الخير والنصح.
فعليك يا عبد الله، وعليك يا أمة الله، العناية بهذا الأمر والإعداد له، وعلى الجميع أن يتقوا الله، ويطيعوا أمره، ويتواصوا بالحق والصبر عليه، وأن يعلموا الجاهل، ويرشدوا الضال، وينصحوا لله، ولعباده، وأن يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، كما قال تعالى في كتابه العظيم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (5) ويقول سبحانه وبحمده:
__________
(1) سورة المعارج الآية 4
(2) سورة المعارج الآية 5
(3) سورة المعارج الآية 6
(4) سورة المعارج الآية 7
(5) سورة التوبة الآية 71(27/114)
{وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) ويقول سبحانه وتعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4)
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3
(4) سورة المائدة الآية 2(27/115)
والمؤمنون يرون ربهم يوم القيامة رؤية حقيقية، يكلمهم سبحانه، ويريهم وجهه الكريم. هذه عقيدة أهل السنة والجماعة: أجمع أهل السنة والجماعة، على أن الله سبحانه يراه المؤمنون يوم القيامة، يريهم وجهه الكريم جل وعلا، ويحجب عنه الكفار، كما قال سبحانه وتعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (1)
فالمؤمنون يرونه سبحانه، والكفار محجوبون عنه، هذه الرؤية العظيمة آمن بها أهل السنة والجماعة، وأجمعوا عليها. وهكذا في الجنة يراه المؤمنون، وذلك أعلى نعيمهم، كما قال عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (2) فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل، مع ما يزيدهم الله به من الخير والنعيم
__________
(1) سورة المطففين الآية 15
(2) سورة يونس الآية 26(27/115)
المقيم، الذي فوق ما يخطر ببالهم.
وقال عز وجل: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (1) {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} (2) {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} (3) وقال سبحانه وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} (4) {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (5) فالمؤمنون يرون الله سبحانه في القيامة، وفي الجنة رؤية عظيمة حقيقية. لكن من دون إحاطة لأنه سبحانه أجل وأعظم من أن تحيط به الأبصار من خلقه، كما قال تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (6) والمعنى أنها لا تحيط به، لأن الإدراك أخص والرؤية أعم، كما قال تعالى في قصة موسى وفرعون: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} (7) فأوضح سبحانه، أن الترائي غير الإدراك وقال جمع من السلف. في تفسير الآية المذكورة، منهم عائشة رضي الله عنها: إن المراد أنهم لا يرونه في الدنيا.
وعلى كلا القولين، فليس فيها حجة لمن أنكر الرؤية من أهل البدع لأن الآيات القرآنية الأخرى، التي سبق بيانها مع الأحاديث
__________
(1) سورة المطففين الآية 22
(2) سورة المطففين الآية 23
(3) سورة المطففين الآية 24
(4) سورة القيامة الآية 22
(5) سورة القيامة الآية 23
(6) سورة الأنعام الآية 103
(7) سورة الشعراء الآية 61(27/116)
الصحيحة المتواترة كلها قد دلت على إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وفي الجنة.
وأجمع على ذلك الصحابة رضي الله عنهم، وأتباعهم من أهل السنة وشذت الجهمية والمعتزلة والأباضية فأنكروها، وقولهم من أبطل الباطل، ومن أضل الضلال، نسأل الله العافية والسلامة مما ابتلاهم به، ونسأل الله لنا وللموجودين منهم الهداية والرجوع إلى الحق.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل (1) » فيرونه سبحانه وتعالى، رؤية حقيقية وذلك أعلى نعيمهم، وأحب شيء إليهم، جعلنا الله وإياكم منهم.
وقد أجمع أهل الحق من أهل السنة والجماعة على هذه الرؤية، كما تقدم، وقد حكى ذلك عنهم أبو الحسن الأشعري في كتابه: مقالات الإسلاميين، وحكى ذلك شيخ الإسلام ابن
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه، برقم 181.(27/117)
تيمية رحمه الله، وذكر إجماع أهل السنة على ذلك. وذكر أن جمهور أهل السنة يكفرون من أنكر هذه الرؤية.
فجمهور أهل السنة والجماعة، يرون أن من أنكر هذه الرؤية فهو كافر، نسأل الله السلامة والعافية.
أما في الدنيا فإنه سبحانه لا يرى فيها، فالرؤية نعيم عظيم، والدنيا ليست دار نعيم، ولكنها دار ابتلاء وامتحان، ودار عمل. فلهذا ادخر الله سبحانه رؤيته، ادخرها لعباده في الدار الآخرة. حتى النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في الدنيا عند جمهور العلماء، كما سئل عن ذلك فقال: «رأيت نورا (1) » فلم ير عليه الصلاة والسلام ربه يقظة.
وقال عليه الصلاة والسلام: «اعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت (2) » أخرجه مسلم في صحيحه. فليس أحد يرى ربه في الدنيا أبدا، لا الأنبياء ولا غيرهم، وإنما يرى في الآخرة سبحانه وتعالى.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب في قوله عليه السلام: '' نور أنى أراه ''، برقم 178.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، برقم 2931.(27/118)
فعلى المسلم أن يؤمن بهذا. وبكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الجنة حق والنار حق، وأن أهل الإيمان يدخلون الجنة، ويرون ربهم سبحانه في القيامة، وفي الجنة، كما يشاء سبحانه، وأن الكفار يصيرون إلى النار مخلدين فيها، نعوذ بالله من ذلك. وأنهم عن ربهم محجوبون لا يرونه سبحانه وتعالى لا في القيامة ولا في غيرها. بل هم عن الله محجوبون لكفرهم وضلالهم.
وأما العاصي فهو على خطر، لكنه مآله إلى الجنة وإن دخل النار بسبب معصيته فإنه لا يخلد فيها، بل يخرج منها فيصير إلى الجنة، كما تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه أهل السنة، خلافا للخوارج ومن تابعهم.
وأما المسلم الموحد العاصي فهو على خطر من دخول النار بمعاصيه، ومن تعذيبه في القبر بمعاصيه كما تقدم. ولكنه مصيره إلى الجنة بعد ذلك وإن دخل النار، وإن جرى عليه بعض العذاب.
فأهل السنة والجماعة مجمعون على أن العصاة لا يخلدون في النار، خلافا للخوارج والمعتزلة، ومن سار على نهجهم. فأهل السنة والجماعة مجمعون على أن العاصي الموحد، المؤمن لا يخلد في النار، بل هو تحت مشيئة الله كما قال الله سبحانه:(27/119)
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) الآية فإن شاء الله عفا عنه ودخل مع إخوانه في الجنة، من أول وهلة، وإن لم يعف عنه صار إلى النار، وعذب فيها على قدر معاصيه، ثم بعد التعذيب والتطهير يصير إلى الجنة كما تواترت بذلك الأحاديث. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هكذا قال أهل السنة والجماعة، وقد يعذب العاصي في قبره، وقد يعذب في النار، لأنه مات على الزنى، أو على شرب الخمر، أو على عقوق الوالدين، أو على الربا، أو على غير ذلك من الكبائر إن لم يعف الله عنه، وقد أخبر الله سبحانه في الآية السابقة، أن الشرك لا يغفر لمن مات عليه، كما أخبر الله سبحانه في آية أخرى، أن من مات عليه فله النار، والعياذ بالله، مخلدا فيها. لا يغفر له. كما قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) وقال سبحانه: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (3)
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة الأنعام الآية 88
(3) سورة التوبة الآية 17(27/120)
وأما العاصي فهو تحت مشيئة الله، إن شاء ربنا غفر له، وعفا عنه، فضلا منه وجودا، وكرما بسبب أعماله الصالحة، أو بشفاعة الشفعاء، أو بمجرد فضله وإحسانه بدون شفاعة أحد، أو بأسباب أخرى من أعمال صالحة تكون سببا لعفو الله، إلى غير ذلك من الأسباب هذا إذا لم يتب.
أما من تاب فإن الله جل وعلا يلحقه بإخوانه المؤمنين، من أول وهلة فضلا منه وإحسانا. ومن تمام حق الله عليك يا عبد الله في هذه الدار أن تعتني بصلاتك، وتحافظ عليها في جماعة مع إخوانك المسلمين، وأن تبتعد عن مشابهة المنافقين المتكاسلين عنها، الذين ذمهم الله في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (1) .
__________
(1) سورة النساء الآية 142(27/121)
ومن حق الله عليك أن تؤدي الزكاة، زكاة مالك بكل عناية، طيبة بها نفسك، وأن تصوم رمضان كما أمرك الله، وأن تحج البيت مرة واحدة في العمر، لأن الله سبحانه أوجب عليك ذلك، مع الاستطاعة، وأن تؤدي ما أوجب الله عليك من بر والديك، وصلة أرحامك، وصدق الحديث، وأداء الأمانة والجهاد(27/121)
في سبيل الله، إذا تيسر ذلك بالنفس وبالمال وباللسان.
وأنتم الآن عندكم جهاد. جهاد إخوانكم الأفغان للشرك بالله والشيوعية، هؤلاء الإخوان المجاهدون لهم حق عليكم أن تساعدوهم بالنفس والمال واللسان، فهم مجاهدون للشرك والإلحاد والشيوعية، فنوصيكم جميعا بمساعدتهم بالنفس والمال واللسان، ومن قال: إنه لا يساعد إلا فلانا منهم، أو فلانا فقد غلط وأخطأ، بل الواجب أن يساعد الجميع حتى يفتح الله عليهم، ويمكنهم من عدوهم، ومن جملتهم الشيخ جميل الرحمن، وفقهم الله جميعا، ونصرهم على عدوهم. فكلهم مستحقون للمساعدة، وكلهم يجب أن يساعد، وكلهم بحمد الله على جهاد شرعي. وجهاد إسلامي.
وما قد يقع من بعضهم من الخطأ والغلط يعالج بالتي هي أحسن، فكل بني آدم خطاء، فإذا وقع الخطأ والغلط من بعض القادة أو غيرهم، ينبه إلى خطئه، وليس أحد منهم معصوما، بل يجب أن يبين له ما قد أخطأ فيه، ويوجه إلى الخير، ويجب أن يعان الجميع على البر والتقوى، وأن يجاهد مع الجميع بالنفس والمال واللسان، لأن جهادهم جهاد عظيم، وجهاد شرعي لأكفر دولة، وأخبثها. ومكاتب هيئة استقبال التبرعات موجودة في الرياض وغيرها، كلها تستقبل المساعدة للمجاهدين بأمر خادم الحرمين(27/122)
الشريفين وفقه الله.
وهكذا إخواننا في فلسطين لهم حق على جميع الدول الإسلامية وأغنياء المسلمين أن يساعدوهم في جهادهم، وأن يقوموا حتى يتخلصوا من عدو الله اليهود.
فاليهود شرهم عظيم، وبلاؤهم كبير، وقد آذوا إخواننا المسلمين في فلسطين، فالواجب على الدول الإسلامية، وعلى جميع المسلمين القادرين، أن يساعدوهم في جهاد أعداء الله من اليهود، حتى يحكم الله بينهم وبين المسلمين، وهو خير الحاكمين، وذلك بنصر الله لهم على اليهود، وإخراجهم من بلاد المسلمين، أو الصلح بينهم وبين دولة فلسطين. صلحا ينفع المسلمين، ويحصل به(27/123)
للفلسطينيين، إقامة دولتهم، وقرارهم في بلادهم، وسلامتهم من الأذى والظلم، فيجب على الدول الإسلامية أن تقوم بهذا الأمر حسب الطاقة والإمكان.
وأما بقاؤهم في حرب مع اليهود، وفي أذى عظيم، وضرر كبير على رجالهم ونسائهم وأطفالهم، فهذا لا يسوغ شرعا، بل يجب على الدول الإسلامية والأغنياء والمسئولين من المسلمين أن يبذلوا جهودهم ووسعهم في جهاد أعداء الله اليهود، أو فيما يتيسر من الصلح، إن لم يتيسر الجهاد، صلحا عادلا، يحصل به للفلسطينيين إقامة دولتهم على أرضهم، وسلامتهم من الأذى من عدو الله اليهود، مثلما صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة. وأهل مكة ذلك الوقت أكثر من اليهود لأن المشركين الوثنيين أكفر من أهل الكتاب، فقد أباح الله طعام أهل الكتاب، والمحصنات من نسائهم، ولم يبح طعام الكفار من المشركين، ولا نساءهم وصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس. ويكف بعضهم عن بعض، وكان في هذا الصلح خير عظيم للمسلمين، وإن كان فيه غضاضة عليهم بعض الشيء، لكن رضيه النبي صلى الله عليه وسلم للمصلحة العامة.
فإذا لم يتيسر الاستيلاء على الكفرة، والقضاء عليهم، فالصلح جائز لمصلحة المسلمين، وأمنهم وإعطائهم بعض حقوقهم.
وهذا أمر مطلوب، وقد علم في الأصول المعتبرة، أن ما لا يدرك كله، لا يترك جله، ولهذا صالحهم صلى الله عليه وسلم عشر سنين، على وضع الحرب. وصبر على بعض الغضاضة في ذلك، لمصلحة المسلمين وأمنهم، حتى يتصلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحتى يسمعوا القرآن.
ولهذا كان صلحا عظيما، وفتحا مبينا، نفع الله به، وصار الناس يتصلون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالصحابة ودخل(27/124)
بسبب هذا الصلح جمع غفير، وأمم كثيرة في الإسلام، دخلوا في دين الله، وتركوا الكفر بالله عز وجل، فعلى جميع المسلمين أيضا، أن يتعاونوا على البر والتقوى، ويتواصوا بالحق والصبر عليه، ويتعلموا دينهم ويتفقهوا فيه، حتى يكونوا على بصيرة بجهادهم، وسلمهم وصلحهم وحربهم.(27/125)
هكذا يجب على المسلمين أن يتعلموا فالإنسان ما خلق عالما، بل خلق جاهلا قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) فالواجب على الجميع من الرجال والنساء التعلم والتفقه في الدين، من طريق المكاتبة، ومن طريق سماع المقالات العلمية في إذاعة القرآن الكريم، وغيرها، ومن برنامج نور على الدرب، فهو برنامج مفيد عظيم. وهو يذاع كل ليلة مرتين في نداء الإسلام، وفي إذاعة القرآن الكريم، وهذا البرنامج له فائدته العظيمة، وكذلك سماع المواعظ والمحاضرات التي تذاع في إذاعة القرآن الكريم وغيرها. وكذا العناية بخطب الجمعة، والاستفادة منها ومن المحاضرات والندوات التي يقوم بها العلماء، وحضور حلقات العلم والاستفادة منها.
__________
(1) سورة النحل الآية 78(27/125)
وهذا واجب على الجميع، على الرجال والنساء أن يتعلموا ويتفقهوا في دينهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1) » . فخيار الناس أهل القرآن الذين يتعلمونه ويعلمونه الناس ويعملون به.
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » وهذا يدل على أن الذي لا يتفقه في الدين، ما أراد الله به خيرا. نسأل الله العافية.
فالواجب التعلم والتفقه في الدين، على الرجال والنساء، قال عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (3) » .
فأوصيكم جميعا أيها الأخوة من الرجال والنساء، وأوصي جميع من تبلغه هذه الكلمة أن يتقي الله، وأن يتعلم ويتفقه في
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، برقم 5027.
(2) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقه في الدين، برقم 71 ومسلم في كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، برقم 1037.
(3) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، برقم 2699.(27/126)
الدين، وأن يعتني بكتاب الله القرآن الكريم، وأن يكثر من تلاوته، ويحفظ ما تيسر منه، فإنه كتاب الله، فيه الهدى والنور، كما قال الله سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (2) ويقول سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3)
ويقول جل وعلا: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (4)
ويقول سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (5) فالوصية للجميع العناية بالقرآن الكريم، والإكثار من تلاوته، وتدبر معانيه، والسؤال عما أشكل عليك، وإذا كنت طالب علم، وهكذا المرأة إذا كانت طالبة علم، فعلى كل منهما أن يطالع ويراجع كتب التفسير فيما أشكل عليه، كتفسير ابن كثير، والبغوي وغيرهما من كتب التفسير المعروفة التي تذكر الأدلة.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة فصلت الآية 44
(3) سورة الأنعام الآية 155
(4) سورة النحل الآية 89
(5) سورة ص الآية 29(27/127)
فعلى طالب العلم من الرجال والنساء. أن يتأمل ويتدبر ويتفقه ويتعلم، وهكذا العامة عليهم أن يسألوا، ويسمعوا خطب الجمعة والمحاضرات، والندوات ونور على الدرب، الذي يسره الله في كل ليلة، ففيه سؤالات وأجوبة مهمة تفيد من يسمعها إذا قصد الفائدة.
أما التهاون والإعراض فهذا من عمل الكفار. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} (1) وقال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} (2) فالواجب التعلم والتفقه في الدين، وسؤال أهل العلم عما أشكل. وهذا كتاب الله بين أيدينا فيه الهدى والنور. وهكذا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بين أيدينا، تدل على الحق وترشد إليه، وتبين ما قد يخفى من كتاب الله عز وجل، كما قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (3)
والعلماء موجودون بحمد الله، نسأل الله أن يبارك فيهم،
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 3
(2) سورة الكهف الآية 57
(3) سورة النحل الآية 44(27/128)
ويعينهم على أداء الواجب، ويكثرهم ويمنحهم التوفيق، ويوفقهم لكل خير، ويعينهم على ما ينفع الأمة في دينها ودنياها إنه جواد كريم.
وقد أخذ الله الميثاق بذلك، وعلى الناس أن يتعلموا ويتبصروا، ويسألوا ولا يستحيوا من طلب العلم، فإن الله لا يستحي من الحق، فأم سليم امرأة أبي طلحة رضي الله عنها قالت والناس يسمعون: «يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق. فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم إذا هي رأت الماء (1) » ، يعني المني.
فإذا احتلم الرجل أو المرأة في النوم في الليل أو النهار فعليهما الغسل إذا رأيا المني. فإذا لم يريا المني فلا غسل عليها.
وهكذا إذا قبل زوجته، أو نظر إليها، أو تفكر وأنزل المني عليه الغسل، وهكذا المرأة إذا قبلت زوجها، أو نظرت إليه أو تفكرت، ثم أنزلت المني فعليها الغسل.
فالتعلم والتفقه في الدين من أهم الواجبات. ولا سيما في
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب إذا احتلمت المرأة، برقم 282، ومسلم في كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، برقم 313.(27/129)
عصرنا هذا عصر الغربة وقلة العلم والعلماء.
فالواجب التعلم والتفقه في الدين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » متفق على صحته.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقه في الدين، برقم 71 ومسلم في كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، برقم 1037.(27/130)
ومما يبشر بالخير أن في كل مكان بحمد الله، يقظة عظيمة، وصحوة ظاهرة، ورغبة في التعلم والتفقه في الدين، في هذه البلاد وفي أوروبا وفي أمريكا وفي آسيا وفي أفريقيا. ففي كل بحمد الله حركة إسلامية، أو نشاط إسلامي، نسأل الله أن يسدد رأيهم، وأن يعينهم على كل خير، ونسأل الله أن يصلح القائمين على كل نشاط إسلامي، كما نسأله تعالى أن يمنحهم القادة الصالحين، والعلماء الموفقين، حتى يقودوا هذه الحركات الطيبة إلى الهدى وإلى الأمام، على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى.
وعلى كل منا أن يعتني بهذا الأمر، ويساهم فيه بقدر طاقته في تعليم الناس وتوجيههم إلى الخير بالرفق والحكمة والأسلوب الحسن والإخلاص لله سبحانه وتعالى، وعلى كل منا أن ينصح لله ولعباده عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة. قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » رواه مسلم في صحيحه.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم 55.(27/130)
فكل واحد منا من الرجال والنساء عليه النصيحة لله، ولعباده، ومن النصيحة لله وللعباد تعليم الجاهل، وإرشاد الضال، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بالحكمة والكلام الطيب، والأسلوب الحسن، لا بالعنف والشدة، إلا من ظلم كما قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (1)
والظالم المعتدي له شأن آخر من جهة ولاة الأمور، لكن أنت أيها الناصح تدعو إلى الله بالتي هي أحسن، فتعلم وتوجه، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، بالحكمة والكلام الطيب، وبالأسلوب الحسن، عملا بالآية السابقة، وبقوله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وقوله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (3) الآية.
ومن النصيحة لله ولعباده الدعاء لولاة أمور المسلمين، وحكامهم بالتوفيق والهداية والصلاح في النية والعمل، وأن يمنحهم الله البطانة الصالحة، التي تعينهم على الخير، وتذكرهم به.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 46
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة آل عمران الآية 159(27/131)
وهذا حق على كل مسلم في كل مكان، في هذه البلاد وفي غيرها، الدعوة لولاة الأمر بالتوفيق والهداية، وحسن الاستقامة، وصلاح البطانة، وأن يعينهم الله على كل خير، وأن يسدد خطاهم ويمنحهم التوفيق لما فيه صلاح العباد والبلاد.
فكل مسلم يدعو لولاة أمور المسلمين بأن يصلحهم الله وأن يردهم للصواب، وأن يهديهم. لما يرضيه سبحانه هكذا يجب عليك يا عبد الله أن تدعو لولاة الأمور، بأن يهديهم الله ويردهم للصواب، إذا كانوا على غير الهدى، تدعو الله لهم بالهداية والصلاح، حتى يستقيموا على أمر الله، وحتى يحكموا شريعة الله ففي تحكيم شريعة الله صلاح الجميع في كل مكان، وفي تحكيم شريعة الله، واتباع كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، صلاح الدنيا والآخرة، لأن الله إذا عرف من عبده نية صالحة وعزيمة صادقة، سدد رأيه وأعانه على كل عمل يرضيه، في أي مكان لأن في اتباع الشريعة، وتعظيم أمر الله ورسوله صلاح أمر الدنيا والآخرة.
فكل مسلم في دولته عليه أن يسأل الله لها التوفيق والهداية، وينصح لها، ويعينها على الخير، ويسأل الله لها التوفيق والسداد، ولا يسأم ولا يضعف عليه أن يستعمل الحكمة(27/132)
والأسلوب الحسن، والكلام الطيب، لعل الله يجعله مباركا في دعوته ونصيحته، فيكون سببا لهداية من أراد الله له الهداية، من أمير أو حاكم أو غيرهما، ممن له شأن في الأمة، لأن هداية المسئول وهداية من له شأن في الأمة، ينفع الله بها العباد والبلاد ويقتدي به الكثير من الأمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (1) » . وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي رضي الله عنه لما بعثه إلى خيبر لدعوة اليهود: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (2) » . .
وهذه نعمة عظيمة، لا تتم إلا بالصدق والإخلاص والصبر، والحذر من الأسلوب الشديد العنيف، الذي ينفر الناس من الحق، ويسبب الفتن والشرور، بل على الداعي إلى الله، والناصح لدين الله أن يتحرى الأساليب المناسبة التي تعين على قبول الحق، وعلى الرضا به وتنفيذه، وعلى المسلم أيضا أن يجتهد فيما يصلح دنياه، كما يجتهد في صلاح دينه، وصلاح أهل بيته، فأهل البيت لهم حق عليك كبير، بأن تجتهد في إصلاحهم وتوجيههم إلى الخير، لقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (3)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله برقم 1893.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس برقم 2942، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه برقم 2406.
(3) سورة التحريم الآية 6(27/133)
فعليك أن تجتهد في إصلاح أهل بيتك، وهم زوجتك وأولادك الذكور والإناث، وإخوانك فجميع أهل البيت تجتهد في تعليمهم وتوجيههم وإرشادهم وتحذيرهم مما حرم الله، لأنك مسئول عنهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع ومسئول عن رعيته، الرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته (1) » ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (2) » .
فعلينا أن نجتهد في صلاحهم، من جهة الإخلاص لله في جميع الأعمال، والصدق في متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإيمان به، ومن جهة الصلاة وغيرها مما أمر الله به سبحانه، ومن جهة البعد عن محارم الله.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، برقم 893، ومسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، برقم 1829.
(2) صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2409) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .(27/134)
فعلى كل واحد من الرجال والنساء النصح في أداء ما يجب عليه، المرأة عليها أن تجتهد. والرجل كذلك، إذ صلاح البيوت من أهم الأمور، قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (1) وقال سبحانه عن نبيه إسماعيل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (2) {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (3)
فينبغي التأسي بالأنبياء والأخيار، والعناية بأهل البيت، لا تغفل عنهم يا عبد الله، من زوجة أو أم، أو أب أو جد، أو جدة أو إخوة، أو أولاد. عليك أن تجتهد في صلاحهم، وأن تأمر بنيك وبناتك بالصلاة لسبع، وتضربهم عليها لعشر ضربا خفيفا يعينهم على طاعة الله، ويعودهم أداء الصلاة في وقتها حتى يستقيموا على دين الله ويعرفوا الحق كما صحت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكل واحد منا عليه ذلك الدور، وكل امرأة عليها ذلك، فعلى المرأة والرجل جميعا التعاون على البر والتقوى في صلاح البيوت،
__________
(1) سورة طه الآية 132
(2) سورة مريم الآية 54
(3) سورة مريم الآية 55(27/135)
وتحذير الأولاد مما يضرهم، فيعلمون ما أوجب الله عليهم ذكورا وإناثا، وينهون عما حرم الله عليهم، كالتخلف عن الصلوات، وشرب المسكر، وتعاطي المخدرات والتدخين، وحلق اللحى أو تقصيرها، وإسبال الثياب، والنميمة والغيبة، وسماع الأغاني والملاهي، وغير ذلك من المعاصي.
هذا مما يجب عليك نحو ولدك وأختك، وغيرهما من أهل البيت.
فالتعاون واجب على البر والتقوى، لأن الله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1)
ويقول سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4)
هؤلاء الرابحون من الرجال والنساء في سابق الزمان، وفي الزمان الحاضر، وفيما يأتي من الزمان، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله إيمانا صادقا، ثم نفذوا الإيمان وحققوه بالأعمال الصالحة، بفعل ما أوجب الله، وترك ما حرم الله، ثم تواصوا بالحق، فدعوا إلى الله، وعلموا الناس وأرشدوهم وتواصوا بالصبر.
هؤلاء هم الناجون، وهم الرابحون وهم السعداء في
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(27/136)
الدنيا والآخرة، وهكذا قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (1) يعني أنهم أحبة فيما بينهم، لا يغتاب بعضهم بعضا، ولا ينم بعضهم على بعض، ولا يخونه في الأمانة، ولا يؤذيه ولا يظلمه، ولا يشهد عليه بالزور، إلى غير ذلك من الأعمال والأقوال، التي تنافي الولاية والمحبة.
فهم إخوة أحباب. متعاونون على كل خير ثم قال سبحانه وبحمده: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) والمعنى أنهم لا يسكتون عن إنكار المنكر، ولا يداهنون بل كل منهم يأمر أخاه بالمعروف، وينهاه عن المنكر، بالكلام الطيب والأسلوب الحسن، ثم قال سبحانه: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (3)
هكذا المؤمنون الصادقون والمؤمنات الصادقات، هذا شأنهم، يستقيمون على دين الله، ويتباعدون عن محارم الله، ويقفون عند حدود الله، ويرشدون الناس إلى الخير، وينصحونهم بعبارات حسنة، وأسلوب جيد، مع الإخلاص لله، والصبر والمصابرة.
وهكذا المؤمن يسعى في أمور دنياه، لا يكون كلا على الناس، يكتسب الكسب الحلال، ويبيع ويشتري، ويفعل كل ما
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة التوبة الآية 71(27/137)
يصلح أمر دنياه، فيتخذ المزرعة، كما كان الأنصار رضي الله عنهم، ويبيع ويشتري كما كان المهاجرون رضي الله عنهم، لا يكون عالة على الآخرين يسألهم ويشق عليهم، بل يجتهد في أن يغنيه الله عن الناس يتعاطى الأسباب المشروعة، والكسب الحلال، ويجتهد في طلب الرزق بالطرق المباحة والشرعية، من بيع وشراء، وزراعة وحرفة أخرى مباحة، كالحدادة والنجارة والخرازة والخياطة، أو يشتغل عند الناس في مزارعهم وفي بنائهم، وفي غير ذلك من الأعمال المباحة، فيستخدم هذا الجسم الذي أنعم الله عليه به في طاعة الله ورسوله، وفي كسب الحلال الذي يغنيه الله به عن الناس، ويشرع له أن يتعاطى الأدوية المباحة، التي يعينه الله بها على بقاء صحته وسلامة جوارحه.(27/138)
الخلاصة: أن المشروع للمسلم أن يفعل الأسباب المباحة التي تنفعه في دنياه وأخراه، وفي صحة بدنه، وفي كسب الحلال، وترك الحرام، وفي الاستغناء عن الناس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير (1) » . ثم قال صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجزن، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء
__________
(1) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه المقدمة (79) ، مسند أحمد بن حنبل (2/370) .(27/138)
فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه.
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده (2) » . رواه البخاري في الصحيح. وسئل صلى الله عليه وسلم: «أي الكسب أطيب؟ فقال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور (3) » أخرجه البزار وصححه الحاكم.
فأنت يا عبد الله اجتهد في طلب الرزق، واكتسب الحلال واستغن عن الحاجة إلى الناس، وسؤالهم وعليك بالكسب الحلال، الطيب البعيد عن الغش والخيانة والكذب، واكتسب المباح بالصدق وأداء الأمانة سواء كان ذلك في بيع وشراء أو تجارة أو حدادة أو خرازة أو كتابة أو بناء أو غير ذلك من الأعمال المباحة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب القدر، باب الأمر بالقوة وترك الضجر، برقم 2664.
(2) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده، برقم 2072.
(3) أخرجه البزار في مسنده ج9 ص183 برقم 3731.(27/139)
محقت بركة بيعهما (1) » متفق على صحته.
أسأل الله بأسمائه الحسنى أن يوفقنا وسائر المسلمين لما يرضيه، وأن يرزق الجميع الاستقامة على الحق، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا في كل مكان، وأن يولي عليهم خيارهم، وأن يوفق ولاة أمر المسلمين لكل ما فيه رضاه، ولكل ما فيه صلاح العباد والبلاد، وأن يعينهم على كل خير، وأن يصلح لهم البطانة، ويجعلهم هداة مهتدين، صالحين مصلحين، وأن يوفقهم لتحكيم شريعة الله في عباده، وإلزام الشعوب بها، وأن يعيذهم من نزغات الشيطان، ومضلات الفتن إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يوفق المسلمين في كل مكان للفقه في الدين، والاستقامة عليه، والتعاون على البر والتقوى، وأن يعيننا وإخواننا المسلمين على كل ما فيه رضاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
س1: أنا أحب الدعوة إلى الله ومتحمس لها، ولكن ليس عندي أسلوب حسن، فهل يكفي في ذلك اختياري شريطا
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب إذا بين البيعان ولم يكتما، برقم 2079، ومسلم في كتاب البيوع، باب الصدق في البيع، برقم 1532.(27/140)
لأحد العلماء والدعاة وإهداؤه لأقاربي والمسلمين عامة؟
ج: نعم الشريط إذا كان من عالم معروف بحسن العقيدة وسعة العلم، إذا أهديته إلى إخوانك فقد أحسنت، ولك مثل أجره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه. أما أنت فلا مانع من أن تتكلم بما تعلم من الحق بالأسلوب الحسن، مثل حث الناس على الصلاة في الجماعة، وأداء الزكاة وتحذيرهم من الغيبة والنميمة، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم وما حرم الله من الفواحش؛ لأن هذه الأمور وأمثالها معلومة للمسلمين من العلماء وغيرهم.
س2: نريد من سماحتكم تشجيع الدعاة وطلبة العلم على إقامة الدروس والمحاضرات في كافة أنحاء البلاد، حيث لوحظ الجفاء في بعض المناطق، وقلة الدعاة وتكاسل طلبة
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .(27/141)
العلم وإحجامهم عن الدروس والمحاضرات، مما يسبب انتشار الجهل وعدم العلم بالسنة، وانتشار الشركيات والبدع حفظكم الله؟
ج: لا شك أن الواجب على العلماء أينما كانوا أن ينشروا الحق، وينشروا السنة ويعلموا الناس، وأن لا يتقاعسوا عن ذلك، بل يجب على أهل العلم أن ينشروا الحق بالدروس في المساجد التي حولهم وإن كانوا غير أئمة فيها. وفي خطب الجمعة من أئمة الجوامع يجب على كل واحد أن يعتني بخطبة الجمعة، ويتحرى حاجة الناس وهكذا المحاضرات والندوات يجب على القائمين بها أن يتحروا حاجة الناس ويبينوا لهم ما قد يخفى عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وتعليم الجاهل بالرفق والحكمة. ومتى سكت العلماء ولم ينصحوا ولم يرشدوا الناس تكلم الجهال فضلوا وأضلوا، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا(27/142)
فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا (1) » رواه الإمام البخاري في صحيحه. فنسأل الله السلامة من كل سوء لنا ولإخواننا المسلمين.
وبما ذكرنا يعلم أن الواجب على أهل العلم أينما كانوا في القرى والمدن وفي القبائل وفي هذه البلاد وفي كل مكان أن يعلموا الناس وأن يرشدوهم بما قال الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما أشكل عليهم في ذلك وجب عليهم أن يراجعوا الكتاب والسنة ويراجعوا كلام أهل العلم.
فالعالم يتعلم إلى أن يموت ويتعلم ليعلم ما أشكل عليه، ويراجع كلام أهل العلم بالأدلة حتى يفتي الناس ويعلمهم على بصيرة، وحتى يدعو إلى الله على بصيرة.
فالإنسان في حاجة إلى العلم إلى أن يموت ولو كان من الصحابة رضي الله عنهم، فكل إنسان محتاج إلى طلب العلم والتفقه في الدين ليعلم ويتعلم، فيراجع القرآن الكريم ويتدبره ويراجع الأحاديث الصحيحة وشروحها، ويراجع كلام أهل العلم حتى يستفيد، ويتضح له ما أشكل عليه، ويعلم للناس مما علمه الله، سواء كان في بيته أو في المدرسة أو في المعهد أو في الجامعة أو في
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم برقم 100.(27/143)
المساجد التي حوله أو في السيارة أو في الطائرة أو في أي مكان، أو في المقبرة إذا حضر عند الدفن، ولم ينقض القبر بأن جلسوا ينتظرون، يذكرهم بالله كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل.
والمقصود أن العالم ينتهز الفرصة في كل مكان مناسب واجتماع مناسب، ولا يضيع الفرصة، بل ينتهزها ليذكر ويعلم بالكلام الطيب والأسلوب الحسن والتثبت والحذر من القول على الله بغير علم. والله ولي التوفيق.
س: نال بعض العلمانيين من الدعاة، ومن بعض طلبة العلم، وتكلموا في مسائل الشريعة وهم ليسوا من أهلها، وقد انتشر هذا الأمر بين عامة المسلمين، فاختلط عليهم الأمر. ونريد من سماحتكم تبيين ما في هذه القضية، والله يرعاكم؟
جـ: يجب على المسلم أن يحتاط لدينه، وألا يأخذ الفتوى ممن هب ودب، لا مكتوبة ولا مذاعة، ولا من أي طريق لا يتثبت منه. سواء كان القائل علمانيا أو غير علماني، لا بد من التثبت في الفتوى، لأنه ليس كل من أفتى يكون أهلا للفتوى.. فلا بد من التثبت.
والمقصود أن المؤمن يحتاط لدينه فلا يعجل في الأمور، ولا يأخذ(27/144)
الفتوى من غير أهلها، بل يتثبت حتى يقف على الصواب، ويسأل أهل العلم المعروفين بالاستقامة، وفضل العلم حتى يحتاط لدينه، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) وأهل الذكر هم أهل العلم بالكتاب والسنة، فلا يسأل من يتهم في دينه، أو لا يعرف علمه، أو يعرف بأنه منحرف عن جادة أهل السنة.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 7(27/145)
س: إن هداية الناس ثمرة لانتشار العلم الشرعي بين الناس، ولكن من الملاحظ أن الباطل أكثر انتشارا عبر الصحافة، وكافة وسائل الإعلام ومناهج التدريس، فما موقف الدعاة والعلماء من هذا؟
جـ: هذه واقعة منتشرة في الزمان كله، وحكمة أرادها الله سبحانه كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (1) ويقول سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (2)
لكن هذا يختلف: ففي بلاد يكثر، وفى بلاد يقل، وفي قبيلة
__________
(1) سورة يوسف الآية 103
(2) سورة الأنعام الآية 116(27/145)
يكثر، وفي قبيلة يقل، وأما بالنسبة إلى الدنيا فأكثر الخلق على غير الهدى. ولكن هذا يتفاوت بالنسبة إلى بعض الدول، وبعض البلاد، وبعض القرى، وبعض القبائل. فالواجب على أهل العلم أن ينشطوا، وألا يكون أهل الباطل أنشط منهم. بل يجب أن يكونوا أنشط من أهل الباطل، في إظهار الحق والدعوة إليه. أينما كانوا: في الطريق وفي السيارة، وفي الطائرة وفي المركبة الفضائية، وفي بيته وفى أي مكان. عليهم أن ينكروا المنكر بالتي هي أحسن. ويعلموا بالتي هي أحسن، بالأسلوب الطيب. والرفق واللين، يقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) ويقول سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (3) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (4) » .
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله برقم 1893.
(4) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، برقم 2594.(27/146)
فلا يجوز لأهل العلم السكوت وترك الكلام للفاجر والمبتدع والجاهل، فإن هذا غلط عظيم، ومن أسباب انتشار الشر والبدع، واختفاء الخير وقلته وخفاء السنة.
فالواجب على أهل العلم أن يتكلموا بالحق، ويدعوا إليه، وأن ينكروا الباطل ويحذروا منه، ويجب أن يكون ذلك عن علم وبصيرة، كما قال الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (1) وذلك بعد العناية بأسباب تحصيل العلم، من الدراسة على أهل العلم وسؤالهم عما أشكل، وحضور حلقات العلم والإكثار من تلاوة القرآن الكريم وتدبره، ومراجعة الأحاديث الصحيحة، حتى تستفيد وتنشر العلم كما أخذته عن أهله بالدليل، مع الإخلاص والنية الصالحة والتواضع، ويجب أن تحرص على نشر العلم بكل نشاط وقوة، وإلا يكون أهل الباطل أنشط في باطلهم، وأن تحرص على نفع المسلمين في دينهم ودنياهم. وهذا واجب العلماء شيوخا وشبابا أينما كانوا، بأن ينشروا الحق بالأدلة الشرعية، ويرغبوا الناس فيه، وينفروهم من
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(27/147)
الباطل ويحذروهم منه، عملا بقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4)
هكذا يكون أهل العلم، أينما كانوا يدعون إلى الله، ويرشدون إلى الخير، وينصحون لله ولعباده وبالرفق فيما يأمرون به، وفيما ينهون عنه، وفيما يدعون إليه، حتى تنجح دعوتهم، ويفوز الجميع بالعاقبة الحميدة، والسلامة من كيد الأعداء ... والله المستعان.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(27/148)
5 - الدعوة إلى الله وأسلوبها المشروع (1)
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله قائد الغر المحجلين وإمام الدعاة إلى رب العالمين، نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد، فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوة في الله وأبناء كرام في هذا المكان المبارك في مكة المكرمة وفي رحاب البيت العتيق للتناصح والتواصي بالدعوة إلى الله عز وجل وبيان ثمراتها وفوائدها وأسلوبها، أسأل الله جل وعلا أن يجعله لقاء مباركا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم، وأن يرزقهم جميعا الفقه في الدين والاستقامة عليه إنه جل وعلا جواد كريم، ثم أشكر القائمين على جامعة أم القرى وعلى رأسهم الأخ الكريم معالي
__________
(1) محاضرة ألقاها سماحته في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، ونشرت في المجموع ج6 ص515.(27/149)
الدكتور: راشد بن راجح مدير هذه الجامعة على دعوته لي لهذا اللقاء، وأسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يبارك في جهود الجميع ويكللها بالصلاح والنجاح، وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن وطوارق المحن إنه سميع قريب.
أيها الإخوة في الله عنوان هذه المحاضرة: الدعوة إلى الله سبحانه وأسلوبها المشروع. الدعوة إلى الله شأنها عظيم، وهي من أهم الفروض والواجبات على المسلمين عموما وعلى العلماء بصفة خاصة، وهي منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهم الأئمة فيها عليهم الصلاة والسلام، فالدعوة إلى الله طريق الرسل وطريق أتباعهم إلى يوم القيامة، والحاجة إليها بل الضرورة معلومة، فالأمة كلها من أولها إلى آخرها بحاجة شديدة، بل في ضرورة إلى الدعوة إلى الله، والتبصير في دين الله، والترغيب في التفقه فيه والاستقامة عليه، والتحذير مما يضاده أو يضاد كماله الواجب أو ينقص ثواب أهله ويضعف إيمانهم.
فالواجب على أهل العلم بشريعة الله أينما كانوا أن يقوموا بمهمة الدعوة؛ لأن الناس في أشد الضرورة إلى ذلك في مشارق الأرض ومغاربها، ونحن في غربة من الإسلام وقلة من علماء الحق، وكثرة من أهل الجهل والباطل والشر والفساد، فالواجب(27/150)
على أهل العلم بالله وبدينه أن يشمروا عن ساعد الجد، وأن يستقيموا على الدعوة وأن يصبروا عليها يرجون ما عند الله من المثوبة ويخشون مغبة التأخر عن ذلك والتكاسل عنه، والله سبحانه وتعالى أوجب على العلماء أن يبينوا، وأوجب على العامة أن يقبلوا الحق وأن يستفيدوا من العلماء وأن يقبلوا النصيحة، يقول الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1)
فأحسن الناس قولا من دعا إلى الله وأرشد إليه وعلم العباد دينهم وفقههم فيه، وصبر على ذلك وعمل بدعوته، ولم يخالف قوله فعله ولا فعله قوله، هؤلاء هم أحسن الناس قولا، وهم أصلح الناس وأنفع الناس للناس وهم الرسل الكرام والأنبياء وأتباعهم من علماء الحق.
فالواجب على كل عالم وطالب علم أن يقوم بهذا العمل حسب طاقته وعلمه وقد يتعين عليه إذا لم يكن في البلد أو في القبيلة أو في المكان الذي وقع فيه المنكر غيره فإنه يجب عليه عينا أن يقول الحق وأن يدعو إليه، وعند وجود غيره يكون فرض كفاية إذا قام به البعض كفى وإن سكتوا عنه أثموا جميعا، فالواجب على أهل
__________
(1) سورة فصلت الآية 33(27/151)
العلم بالله وبدينه أن ينصحوا لله ولعباده، وأن يقوموا بواجب الدعوة في بيوتهم ومع أهليهم وفي مساجدهم وفي طرقاتهم وفي بقية أنحاء قريتهم وبلادهم وفي مراكبهم من طائرة أو سيارة أو قطار أو غير ذلك.
فالدعوة مطلوبة في كل مكان أينما كنت والحاجة ماسة إليها أينما كنت، فالناس في الطائرة محتاجون، وفي السيارة محتاجون، وفي القطار محتاجون، وفي السفينة محتاجون إلى غير ذلك، وأهلك كذلك يلزمك أن تعنى بهم أولا كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (1) وقال عز وجل لنبيه وخليله محمد عليه الصلاة والسلام: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (2) وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (3) {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (4) فالواجب على طالب العلم أن يعنى بأهله ووالديه وأولاده وإخوانه إلى غير ذلك يعلمهم ويرشدهم
__________
(1) سورة التحريم الآية 6
(2) سورة طه الآية 132
(3) سورة مريم الآية 54
(4) سورة مريم الآية 55(27/152)
ويدعوهم إلى الله ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر كما قال عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) ثم قال سبحانه: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) يعني من كان بهذه الصفة فهو المفلح على الحقيقة على الكمال، وقد أمر الله بالدعوة في آيات ورغب فيها سبحانه كما في قوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} (3) الآية، وقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (4) وأخبر سبحانه أن الدعوة إلى الله على بصيرة هي سبيل النبي صلى الله عليه وسلم، وهي سبيل أتباعه من أهل العلم كما قال الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (5)
فالواجب علينا جميعا أن نعنى بهذه المهمة أينما كنا، والواجب على أهل العلم كما تقدم أن يعنوا بها غاية العناية،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2) سورة آل عمران الآية 104
(3) سورة فصلت الآية 33
(4) سورة النحل الآية 125
(5) سورة يوسف الآية 108(27/153)
ولا سيما عند شدة الضرورة إليها في هذا العصر فإن عصرنا يعتبر عصر غربة للإسلام لقلة العلم والعلماء بالسنة والكتاب ولغلبة الجهل، وكثرة الشرور والمعاصي وأنواع الكفر والضلال والإلحاد، فالواجب حينئذ يتأكد على العلماء في الدعوة إلى الله وإرشاد الناس إلى ما خلقوا له من توحيد الله وطاعته وأداء واجبه وترك معصيته.
يقول سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1)
ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) ويقول عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) وهذه العبادة تحتاج إلى بيان، وهذه العبادة هي التي خلقنا لها، وأمرنا بها، وبعثت الرسل عليهم الصلاة والسلام لبيانها وللدعوة إليها، فلا بد من بيانها للناس من أهل العلم، وهي الإسلام والهدى وهي الإيمان والبر والتقوى، هذه هي العبادة التي خلقنا لها أن نطيع الله ونطيع رسوله صلى الله عليه وسلم في الأوامر والنواهي، وأن نخصه بالعبادة دون كل ما سواه، وهذه الطاعة تسمى عبادة؛ لأنك تؤديها بذل وخضوع لله، والعبادة ذل وخضوع لله عز وجل وانكسار بين يديه بطاعة أوامره وترك نواهيه، وأصلها
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة النحل الآية 36(27/154)
وأساسها توحيده، والإخلاص له، وتخصيصه بالعبادة وحده دون كل ما سواه، والإيمان برسله عليهم الصلاة والسلام وعلى رأسهم خاتمهم وإمامهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ثم فعل ما أوجب الله من بقية الأوامر وترك ما نهى الله عنه، هذه هي العبادة، وهذه هي التقوى، وهذه هي الإسلام الذي قال الله فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) وهي الإيمان أيضا الذي قال الله فيه جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (2) وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة (3) » الحديث، «أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق (4) » .
وهذا هو الإيمان وهو الهدى وهو الإسلام وهو العبادة التي خلقنا لها وهو البر، فهي ألفاظ متقاربة المعنى، معناها طاعة الله ورسوله والاستقامة على دين الله، فمن استقام على دين الله فقد اتقى، ومن استقام على دين الله فقد آمن به، ومن استقام على دين الله فقد أخذ بالإسلام، وأخذ بالهدى كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (5) ومن
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19
(2) سورة النساء الآية 136
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، برقم 35.
(4) صحيح البخاري الإيمان (9) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (35) ، سنن الترمذي الإيمان (2614) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5005) ، سنن أبو داود السنة (4676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (57) ، مسند أحمد بن حنبل (2/379) .
(5) سورة النجم الآية 23(27/155)
استقام على دين الله فهو على البر الذي قال فيه سبحانه: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (1) الآية، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (2) وقال سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (3) فالدعوة إليه سبحانه هي دعوة إلى البر وإلى التقى وإلى الإيمان وإلى الإسلام وإلى الهدى.
فعليك أيها العالم بالله وبدينه أن تنبه إلى هذا الأمر، وأن تشرحه للناس، وتوضح لهم حقيقة دينهم، ما هو الإسلام؟ ما هو الإيمان؟ ما هو البر؟ ما هو التقوى؟ هو طاعة الله ورسوله، هو العبادة التي خلقنا لها، سماها الله إسلاما وسماها إيمانا وسماها هدى في قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (4) وسماها برا في قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (5) ، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (6) ، {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (7) إلى غير ذلك. وسماها الله إسلاما
__________
(1) سورة البقرة الآية 177
(2) سورة البقرة الآية 189
(3) سورة الانفطار الآية 13
(4) سورة النجم الآية 23
(5) سورة البقرة الآية 189
(6) سورة البقرة الآية 177
(7) سورة الانفطار الآية 13(27/156)
في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2)
فالدعوة إلى الله جل وعلا دعوة إلى هذا الأمر، دعوة إلى عبادة الله التي خلقنا لها، دعوة إلى الاستقامة على ذلك، دعوة إلى طاعة الله ورسوله، دعوة إلى الإسلام، دعوة إلى البر، دعوة إلى الإيمان، والمعنى أنك تدعو الناس إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له، وطاعة أوامره وترك نواهيه، وهذا الذي تدعو إليه يسمى إسلاما ويسمى عبادة، ويسمى تقوى، ويسمى طاعة الله ورسوله، ويسمى برا ويسمى هدى ويسمى صلاحا وإصلاحا كلها أسماء متقاربة المعنى.
فعلى الدعاة إلى الله وهم العلماء أن يبسطوا للناس هذا الأمر، وأن يشرحوه، وأن يوضحوه، أينما كانوا مشافهة؛ في خطب الجمعة وفي الدروس، وفي المواعظ العامة، وفي المناسبات التي تحصل بينهم، يبينون للناس هذه الأمور ويوضحونها للناس، وينتهزون الفرص في كل مناسبة؛ لأن الضرورة تدعو إلى ذلك
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19
(2) سورة آل عمران الآية 85(27/157)
والحاجة الشديدة تدعو إلى ذلك لقلة العلم والعلماء وكثرة الحاجة والضرورة إلى البيان، وهكذا يكون التعليم والتوجيه من طريق المكاتبات، ومن طريق المؤلفات، ومن طريق الإذاعة ووسائل الإعلام، ومن طريق المكالمات الهاتفية، لا يتأخر العالم عن أي طريق يبلغ فيه العلم تارة بالكتب، وتارة بالخطب في الجمع وفي الأعياد وغيرها، وتارة بتأليف الرسائل التي تنفع الناس.
فالواجب أن يكون وقت العالم معمورا بالدعوة والخير وأن لا يشغله شاغل عن دعوة الناس وتعريفهم بدين الله، أن تكون أوقاته معمورة بطاعة الله، والدعوة إلى سبيله والصبر على ذلك كما صبر الرسل عليهم الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) فمن أراد من أهل العلم أن يكون من أتباعه على الحقيقة فعليه بالدعوة إلى الله على بصيرة حتى يكون من أتباعه على الحقيقة، ينفع الناس وينفع نفسه، ثم له بذلك مثل أجورهم ولو كانوا ملايين، هذه نعمة عظيمة وفائدة كبيرة، لك يا عبد الله الداعي إلى الله، لك مثل أجور من هداه على يديك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (2) » وهذا
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله برقم 1893.(27/158)
أمر عظيم من دعا إلى خير فله مثل أجر فاعله، دعوت كافرا فأسلم يكون لك مثل أجره، دعوت مبتدعا فترك البدعة يكون لك مثل أجره، دعوت إنسانا يتعامل بالربا فأطاعك يكون لك مثل أجره، دعوت إنسانا يتعاطى المسكر فأجابك يكون لك مثل أجره، دعوت إنسانا عاقا لوالديه فأطاعك وبر والديه يكون لك مثل أجره، دعوت إنسانا يغتاب الناس فترك الغيبة يكون لك مثل أجره، وهكذا. . هذا خير عظيم «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (1) » . والحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (2) » وهذا الحديث من أصح الأحاديث، وقد رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فأنت يا عبد الله إن دعوت إلى خير فلك مثل أجور المهتدين على يديك، وإن دعوت إلى شر فعليك مثل أوزارهم وآثامهم، نسأل الله العافية، وفي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي لما بعثه لخيبر: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة برقم 2674.(27/159)
النعم (1) » وهذه الفائدة العظيمة، واحد من اليهود يهديه الله على يده خير له من حمر النعم، وأنت كذلك ذهبت إلى قرية من القرى أو مدينة من المدن أو قبيلة من القبائل فدعوتهم إلى الله، وهدى الله على يديك واحدا خير لك من حمر النعم، والمقصود خير من الدنيا وما عليها، وهكذا لو كنت في بلاد فيها كفار فدعوتهم وهداهم الله على يديك لك مثل أجورهم، ولك بكل واحد خير من حمر النعم، وهنا كفار يوجدون من العمال فإذا تيسر للعالم الذهاب إليهم ودعوتهم فهداهم الله على يديه أو هدى بعضهم يكون له مثل أجورهم، فالدعوة إلى الله في كل مكان لها ثمراتها العظيمة مع الكفار ومع العصاة ومع غيرهم، قد يكون غير عاص لكن عنده كسل، وعدم نشاط فإذا سمع دعوتك زاد نشاطه في الخير ومسابقته إلى الطاعات فيكون لك مثل أجره.
أما أسلوب الدعوة فبينه الرب جل وعلا وهو الدعوة بالحكمة أي بالعلم والبصيرة، بالرفق واللين لا بالشدة والغلظة هذا هو الأسلوب الشرعي في الدعوة إلا من ظلم، فمن ظلم يعامل بما يستحق لكن من يتقبل الدعوة ويصغي إليها، أو ترجو أن يتقبلها لأنه لم يعارضك ولم يظلمك فارفق به. يقول جل
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس برقم 2942، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه برقم 2406.(27/160)
وعلا في كتابه العظيم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) فالحكمة هي العلم، قال الله قال رسوله، والموعظة الحسنة الترغيب والترهيب تبين ما في طاعة الله من الخير العظيم، وما في الدخول في الإسلام من الخير العظيم وما عليه إذا استكبر ولم يقبل الحق إلى غير ذلك، أما الجدال بالتي هي أحسن فمعناه بيان الأدلة من غير عنف عند وجود الشبهة لإزالتها وكشفها، فعند المجادلة تجادل بالتي هي أحسن وتصبر وتتحمل كما في الآية الأخرى يقول سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (2)
فالظالمون لهم شأن آخر، لكن ما دمت تستطيع الجدال بالتي هي أحسن وهو يتقبل أو ينصت أو يتكلم بأمر لا يعد فيه ظالما ولا معتديا فاصبر وتحمل بالموعظة والأدلة الشرعية والجدال الحسن، يقول الله سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (3) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «البر حسن الخلق (4) » .
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة العنكبوت الآية 46
(3) سورة البقرة الآية 83
(4) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والأدب، باب تفسير البر والإثم برقم 2553.(27/161)
وقد أثنى الله على النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الدعوة فقال جل وعلا: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (1) ونبينا أكمل الناس في دعوته، وأكمل الناس في إيمانه، لو كان فظا غليظ القلب لانفض الناس من حوله وتركوه فكيف أنت، فعليك أن تصبر وعليك أن تتحمل ولا تعجل بسب أو كلام سيئ أو غلظة، وعليك باللين والرحمة والرفق. ولما بعث الله موسى وهارون لفرعون ماذا قال لهما، قال سبحانه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (2) فأنت كذلك لعل صاحبك يتذكر أو يخشى، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به، اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه (3) » وهذا وعد عظيم في الرفق ووعيد عظيم في المشقة، ويقول عليه الصلاة والسلام: «من يحرم الرفق يحرم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2) سورة طه الآية 44
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر برقم 1828.(27/162)
الخير كله (1) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالرفق فإنه لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (2) » .
فالواجب على الداعي إلى الله أن يتحمل، وأن يستعمل الأسلوب الحسن الرفيق اللين في دعوته للمسلمين والكفار جميعا، لا بد من الرفق مع المسلم ومع الكافر ومع الأمير وغيره ولا سيما الأمراء والرؤساء والأعيان، فإنهم يحتاجون إلى المزيد من الرفق والأسلوب الحسن لعلهم يقبلون الحق ويؤثرونه على ما سواه، وهكذا من تأصلت في نفسه البدعة أو المعصية ومضى عليه فيها السنون يحتاج إلى صبر حتى تقتلع البدعة وحتى تزال بالأدلة، وحتى يتبين له شر المعصية وعواقبها الوخيمة، فيقبل منك الحق ويدع المعصية.
فالأسلوب الحسن من أعظم الوسائل لقبول الحق، والأسلوب السيئ العنيف من أخطر الوسائل في رد الحق وعدم قبوله وإثارة القلاقل والظلم والعدوان والمضاربات.
ويلحق بهذا
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق برقم 2592، وأبو داود في كتاب الأدب، باب في الرفق برقم 4809.
(2) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق برقم 2592، وأبو داود في كتاب الأدب، باب في الرفق برقم 4809.(27/163)
الباب ما قد يفعله بعض الناس من المظاهرات التي قد تسبب شرا عظيما على الدعاة، فالمسيرات في الشوارع والهتافات والمظاهرات ليست هي الطريق للإصلاح والدعوة، فالطريق الصحيح بالزيارة والمكاتبة التي هي أحسن، فتنصح الرئيس والأمير وشيخ القبيلة بهذا الطريق لا بالعنف والمظاهرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاث عشرة سنة لم يستعمل المظاهرات ولا المسيرات ولم يهدد الناس بتخريب أموالهم واغتيالهم.
ولا شك أن هذا الأسلوب يضر الدعوة والدعاة، ويمنع انتشارها ويحمل الرؤساء والكبار على معاداتها ومضادتها بكل ممكن فهم يريدون الخير بهذا الأسلوب لكن يحصل به ضده، فكون الداعي إلى الله يسلك مسلك الرسل وأتباعهم ولو طالت المدة أولى به من عمل يضر الدعوة ويضايقها، أو يقضي عليها ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالنصيحة مني لكل داع إلى الله أن يستعمل الرفق في كلامه، وفي خطبته، وفي مكاتباته، وفي جميع تصرفاته حول الدعوة، يحرص على الرفق مع كل أحد إلا من ظلم، وليس هناك طريق أصلح للدعوة من طريق الرسل فهم القدوة، وهم الأئمة، وقد صبروا، صبر نوح على قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وصبر هود، وصبر صالح، وصبر شعيب، وصبر(27/164)
إبراهيم، وصبر لوط، وهكذا غيرهم من الرسل ثم أهلك الله أقوامهم بذنوبهم وأنجى الله الأنبياء وأتباعهم.
فلك أيها الداعية أسوة في هؤلاء الأنبياء والأخيار، ولك أسوة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي صبر في مكة وصبر في المدينة على وجود اليهود عنده والمنافقين ومن لم يسلم من الأوس والخزرج حتى هداهم الله، وحتى يسر الله إخراج اليهود، وحتى مات المنافقون بغيظهم، فأنت لك أسوة بهؤلاء الأخيار فاصبر وصابر واستعمل الرفق ودع عنك العنف، ودع كل سبب يضيق على الدعوة ويضرها ويضر أهلها. واذكر قوله تعالى يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (1) الآية.
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح وحسن الدعوة إليه، وأن يوفق علماءنا جميعا في كل مكان، ودعاة الحق في كل مكان للعلم النافع والبصيرة، والسير على المنهج الذي سار عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام في الدعوة إليه وإبلاغ الناس دينه، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 35(27/165)
عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(27/166)
6 - الدعوة إلى الله وأثرها في المجتمع
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فلقد رفع الله شأن الدعاة إليه وأبلغ في الثناء عليهم، حيث يقول سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) ولا ريب أن هذا الثناء يحفز الهمم ويلهب الشعور ويخفف عبء الدعوة ويدعو إلى الانطلاق في سبيلها بكل نشاط وقوة. وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن البصري - رحمه الله - أنه تلى هذه الآية الكريمة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} (2) الآية. فقال: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة فصلت الآية 33(27/166)
إلى الله أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحا في إجابته، وقال إنني من المسلمين. هذا خليفة الله. انتهى.
ولا ريب أن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - هم سادة الناس في الدعوة وهم أولى الناس بهذه الصفات الجليلة التي ذكرها الحسن - رحمه الله - وأولاهم بذلك وأحقهم به على التمام والكمال؛ إمامهم وسيدهم وأفضلهم وخاتمهم نبينا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب - صلى الله عليه وسلم - الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة وصبر على الدعوة إلى ربه أتم صبر وأكمله، حتى أظهر الله به الدين وأتم به النعمة ودخل الناس بسبب دعوته في دين الله أفواجا. ثم سار أصحابه الكرام بعده على هذا السبيل العظيم والصراط المستقيم فصدقوا الدعوة ونشروا لواء الإسلام في غالب المعمورة، لكمال صدقهم وعظيم جهادهم وصبرهم على الدعوة والجهاد صبرا لا يعتريه ضعف أو فتور، وتحقيقهم الدعوة والجهاد بالعمل في جميع الأحوال، فضربوا بذلك للناس بعد الرسل أروع الأمثال وأصدقها في الدعوة والجهاد والعلم النافع والعمل الصالح، وبذلك انتصروا على أعدائهم وبلغوا مرادهم وحازوا قصب السبق في كل ميدان.
وهم أولى الناس بعد(27/167)
الرسل بالثناء والصفات السالفة التي ذكرها الحسن، وكل من سار على سبيلهم وصبر على الدعوة إلى الله، وبذل فيها وسعه فله نصيبه من هذا الثناء الجزيل الذي دلت عليه الآية الكريمة والصفات الحميدة التي وصف بها الحسن الدعاة إلى الحق، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (1) » ، وقال - عليه الصلاة والسلام -: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا (2) » خرجهما مسلم في صحيحه.
وقال لعلي - رضي الله عنه - لما بعثه إلى خيبر: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (3) » متفق على صحته.
وفي هذه الأحاديث وما جاء في معناها تنبيه للدعاة إلى الله والمجاهدين في سبيله على أن المقصود من الجهاد والدعوة إلى الله سبحانه هو هداية البشر وإخراجهم من الظلمات إلى النور وانتشالهم من وهدة الشرك وعبادة الخلق إلى عز الإيمان ورفعة الإسلام وعبادة الإله الحق الواحد الأحد الذي لا تصلح العبادة لغيره، ولا
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله برقم 1893.
(2) أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة برقم 2674.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس برقم 2942، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه برقم 2406.(27/168)
يستحقها سواه سبحانه وتعالى، وليس المقصود من الدعوة والجهاد هو سفك الدماء وأخذ المال واسترقاق النساء والذرية وإنما يجيء ذلك بالعرض لا بالقصد الأول، وذلك عند امتناع الكفار من قبول الحق وإصرارهم على الكفر وعدم إذعانهم للصغار وبذل الجزية حيث قبلت منهم فعند ذلك شرع الله للمسلمين قتالهم واغتنام أموالهم واسترقاق نسائهم وذرياتهم، ليستعينوا بهم على طاعة الله ويعلموهم شرع الله، وينقذوهم من موجبات العذاب والشقاء ويريحوا أهل الإسلام من كيد المقاتلة وعدوانهم ووقوفهم حجر عثرة في طريق انتشار الإسلام ووصوله إلى القلوب والشعوب، ولا ريب أن هذا من أعظم محاسن الإسلام التي يشهد له بها أهل الإنصاف والبصيرة من أبنائه وأعدائه، وذلك من رحمة الله الحكيم العليم الذي جعل هذا الدين الإسلامي دين رحمة وإحسان وعدل ومساواة يصلح لكل زمان ومكان ويفوق كل قانون ونظام.
ولو جمعت عقول البشر كلهم وتعاضدوا على أن يأتوا بمثله أو أحسن منه لم يستطيعوا إلى ذلك من سبيل، فسبحان الذي شرعه ما أحكمه وأعدله، وما أعلمه بمصالح عباده، وما أبعد تعاليمه من السفه والعبث وما أقربها من العقول الصحيحة والفطر السليمة.(27/169)
فيا أيها الأخ المسلم، ويا أيها العاقل الراغب في الحق تدبر كتاب ربك وسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - وادرس ما دل عليه من التعاليم القويمة والأحكام الرشيدة والأخلاق الفاضلة تجد ما يشفي قلبك ويروي غلتك ويشرح صدرك ويهديك إلى سواء السبيل.
ونسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، ويفقههم في الدين، وينصر بهم الحق، وأن يوفق ولاة أمرهم لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد، وأن يعينهم على القيام بالدعوة إليه على بصيرة إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(27/170)
7 - مراتب الدعوة إلى الله تعالى
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فإن الدعوة إلى الله تعالى من أهم الواجبات الإسلامية، وهي سبيل الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة، وقد أمر الله بها في كتابه الكريم(27/170)
وأثنى على أهلها غاية الثناء، فقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) فانظر أيها القارئ الكريم، كيف أمر الله سبحانه في الآية الأولى بالدعوة إليه، وأوضح مراتب الدعوة حتى يكون الداعي في هذا السبيل العظيم على بصيرة، وما ذاك إلا لأن المدعوين أصناف كثيرة وطبقات مختلفة.
فمنهم الراغب في الخير ولكنه غافل قليل البصيرة فيحتاج إلى دعوته بحكمة: وهي تفهيمه الحق وإرشاده إليه وتنبيهه على ما فيه من المصلحة العاجلة والآجلة، فعند ذلك يقبل الدعوة وينتبه من غفلته وجهله ويبادر إلى الحق، ومنهم المعرض عن الحق المشتغل بغيره فمثل هذا يحتاج إلى الموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والتنبيه على ما في التمسك بالحق من المصالح العاجلة والآجلة وعلى ما في خلافه من الشقاء والفساد وسيئ العواقب، ولعله بهذا يجيب إلى الحق ويترك ما هو عليه من
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة فصلت الآية 33(27/171)
الباطل.
ولا ريب أن هذا المقام مقام عظيم يحتاج الداعي فيه إلى مزيد من الصبر والحلم والرفق بالمدعو تأسيا بإمام الدعاة وسيدهم وهو محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، الطبقة الثالثة من الناس من له شبهة قد حالت بينه وبين فهم الحق والانقياد له فهذا يحتاج إلى مناقشة وجدال بالتي هي أحسن حتى يفهم الحق وتنزاح عنه الشبهة. ومثل هذا يجب على الداعي أن يرفق به أكثر من الذين قبله وأن يصبر على مناقشة واقتلاع جذور الشبهة من قلبه، وذلك بإيضاح الأدلة الدالة على الحق وتنويعها وشرحها شرحا وافيا جليا على حسب لغة المدعو وعرفه، إذ ليس كل أحد يفهم اللغة العربية فهما جيدا، وإن كان من أهل العلم فإنه قد يدخل عليه من لغته وعادته وعادة قومه ما يلبس عليه المعنى الذي أراده الشارع فيحصل بذلك خطأ كبير وقول على الله ورسوله بغير علم.
ولا يخفى على من له أدنى بصيرة ما يترتب على ذلك من الفساد الكبير في الدنيا والآخرة. ومن هنا يعلم الداعي إلى الله تعالى أنه في حاجة شديدة إلى الفقه في الدين، والبصيرة بأحكام الشريعة، والمعرفة بلغة المدعوين وعرفهم، وذلك يوجب عليه التوسع في فهم الكتاب والسنة،(27/172)
والعناية بمعرفة ما أراد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والعناية أيضا بدراسة اللغة العربية وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من حين بعثه الله إلى أن قبضه إليه دراسة وافية حتى يتمكن بذلك من إرشاد الأمة إلى ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أخلاق وأعمال، وعلى حسب اجتهاده وعمله وصبره يكون حظه من الثناء الحسن الذي أثنى الله به على الدعاة إليه في الآية المتقدمة وهي قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} (1) الآية.
وهذه الآيه الكريمة تفيد أن الدعاة إلى الله عز وجل هم أحسن الناس قولا إذا حققوا قولهم بالعمل الصالح، والتزموا الإسلام عن إيمان ومحبة وفرح بهذه النعمة العظيمة، وبذلك يتأثر الناس بدعوتهم وينتفعون بها ويحبونهم عليها، بخلاف الدعاة الذين يقولون ما لا يفعلون فإنهم لا حظ لهم من هذا الثناء العاطر، ولا أثر لدعوتهم في المجتمع، وإنما نصيبهم في هذه الدعوة المقت من الله سبحانه والسب من الناس والإعراض عنهم والتنفير من دعوتهم، قال الله تعالى:
__________
(1) سورة فصلت الآية 33(27/173)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2) وقال الله موبخا لليهود: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (3) فأرشد سبحانه في هذه الآية إلى أن مخالفة الداعي لما يقول أمر يخالف العقل كما أنه يخالف الشرع، فكيف يرضى بذلك من له دين أو عقل.
اللهم اهدنا لما فيه رضاك واجعلنا من الذين يهدون بالحق وبه يعملون، إنك أكرم مسئول وخير مجيب.
__________
(1) سورة الصف الآية 2
(2) سورة الصف الآية 3
(3) سورة البقرة الآية 44(27/174)
8 - نصيحة عامة للمسلمين
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من إخواننا المسلمين سلك الله بي وبهم سبيل عباده المؤمنين، ووفقني وإياهم للتمسك بالحق والفقه في الدين، وأعاذني وإياهم من طريق المغضوب عليهم والضالين، آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:(27/174)
فالموجب لهذا هو النصيحة والتذكير عملا بقوله سبحانه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (3) » وقوله عليه السلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه (4) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر (5) » إذا عرف ذلك فلا يخفى عليكم ما قد أصاب المسلمين من
__________
(1) سورة الذاريات الآية 55
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم 55.
(4) أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب نصر المظلوم برقم 2446 ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم برقم 2585.
(5) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم برقم 6011، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم برقم 2586.(27/175)
الغفلة والإعراض عما خلقوا له، وإقبال أكثرهم على عمارة الدنيا والتمتع بشهواتها وإشغال الأوقات بوسائل الحياة فيها ونسيان الآخرة والاستعداد لها حتى أفضى بهم ذلك إلى ما قد وقع من التفرق والاختلاف والشحناء والتباغض والموالاة والمعاداة لأجل الدنيا وحظوظها العاجلة وعدم رفع الرأس بأمر الآخرة والتزود لها، فنتج عن ذلك أنواع من الشرور منها مرض القلوب وموت الكثير منها؛ لأن حياة القلوب وصحتها بذكر الله والاستعداد للقائه والاستقامة على أمره وخشيته ومحبته والخوف منه والرغبة فيما عنده، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (1) وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (3) فحياة القلوب وصحتها ونورها
__________
(1) سورة الأنفال الآية 24
(2) سورة الشورى الآية 52
(3) سورة الأنعام الآية 122(27/176)
وإشراقها وقوتها وثباتها على حسب إيمانها بالله ومحبتها له وشوقها إلى لقائه وطاعتها له ولرسوله، وموتها ومرضها وظلمتها وحيرتها على حسب جهلها بالله وبحقه وبعدها عن طاعته وطاعة رسوله وإعراضها عن ذكره وتلاوة كتابه. وبسبب ذلك يستولي الشيطان على القلوب فيعدها ويمنيها ويبذر فيها البذور الضارة التي تقضي على حياتها ونورها وتبعدها من كل خير وتسوقها إلى كل شر كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (1) {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (2) وقال تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (3) وقال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} (4) وقال تعالى: {وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} (5) فالواجب علينا جميعا هو التوبة إلى الله سبحانه والإنابة إليه، وعمارة القلوب بمحبته وخشيته وخوفه ورجائه والشوق إليه والإقبال على طاعته وطاعة رسوله،
__________
(1) سورة الزخرف الآية 36
(2) سورة الزخرف الآية 37
(3) سورة الحج الآية 53
(4) سورة البقرة الآية 268
(5) سورة الإسراء الآية 64(27/177)
والحب في ذلك والبغض فيه وموالاة المؤمنين ومحبتهم ومساعدتهم على الحق وبغض الكافرين والمنافقين ومعاداتهم والحذر من خداعهم ومكرهم والركون إليهم ومد النظر إلى ما متعوا به من زهرة الدنيا الزائلة عن قريب، قال الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} (1) {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (2) {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} (3) {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (4) {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (5) وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (6) وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (7) وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (8)
__________
(1) سورة الزمر الآية 54
(2) سورة الزمر الآية 55
(3) سورة الزمر الآية 56
(4) سورة الزمر الآية 57
(5) سورة الزمر الآية 58
(6) سورة النور الآية 52
(7) سورة الأنبياء الآية 90
(8) سورة الفتح الآية 29(27/178)
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله (1) » ، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان (2) » ، ومتى أناب العباد إلى ربهم وتابوا إليه من سالف ذنوبهم واستقاموا على طاعته وطاعة رسوله، جمع الله قلوبهم وشملهم على الهدى ونصرهم على الأعداء وأعطاهم ما يحبون وصرف عنهم ما يكرهون وجعل لهم العزة والكرامة في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3) وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (4) ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (5) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (6) وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (7) وقال تعالى:
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد ج4 ص286 برقم 18547.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب منه برقم 2521.
(3) سورة محمد الآية 7
(4) سورة الطلاق الآية 4
(5) سورة الطلاق الآية 2
(6) سورة الطلاق الآية 3
(7) سورة المنافقون الآية 8(27/179)
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2) والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وإني أنصحكم وأوصيكم ونفسي بأمور:
الأمر الأول: النظر والتفكر في الأمر الذي خلقنا لأجله قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} (3) وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (4) {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (5) وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} (6) أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى، ولا شك أن كل مسلم يعلم أنه لم يخلق عبثا بل خلق لعبادة الله وحده وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (7)
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة الحج الآية 41
(3) سورة سبأ الآية 46
(4) سورة آل عمران الآية 190
(5) سورة آل عمران الآية 191
(6) سورة القيامة الآية 36
(7) سورة الذاريات الآية 56(27/180)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) وقد أمر الله سبحانه جميع الثقلين بما خلقهم لأجله وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان ذلك والدعوة إليه، ثم قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} (2) وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) وقال سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (4) وقال تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (5) فالواجب على من نصح نفسه أن يهتم بالأمر الذي خلق لأجله أعظم اهتمام وأن يقدمه على كل شيء، وأن يحذر من إيثار الدنيا على الآخرة وتقديم الهوى على الهدى وطاعة النفس والشيطان على طاعة الملك الرحمن، وقد حذر الله عباده من ذلك
__________
(1) سورة البقرة الآية 21
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة النحل الآية 36
(4) سورة النساء الآية 36
(5) سورة إبراهيم الآية 52(27/181)
أشد تحذير فقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} (1) {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (2) {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (3) {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} (4) {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (5)
الأمر الثاني: في الأمور التي أوصيكم ونفسي بها هو الإقبال على تلاوة القرآن العظيم والإكثار منها ليلا ونهارا مع التدبر والتفكر والتعقل لمعانيه العظيمة المطهرة للقلوب المحذرة من متابعة الهوى والشيطان، فإن الله سبحانه أنزل القرآن هداية وموعظة وبشيرا ونذيرا ومعلما ومرشدا ورحمة لجميع العباد، فمن تمسك به واهتدى بهداه فهو السعيد الناجي ومن أعرض عنه فهو الشقي الهالك. قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (6) وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (7) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (8) وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (9)
__________
(1) سورة النازعات الآية 37
(2) سورة النازعات الآية 38
(3) سورة النازعات الآية 39
(4) سورة النازعات الآية 40
(5) سورة النازعات الآية 41
(6) سورة الإسراء الآية 9
(7) سورة الأنعام الآية 19
(8) سورة يونس الآية 57
(9) سورة فصلت الآية 44(27/182)
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به (1) » فحث على كتاب الله ورغب فيه، وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: «إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به كتاب الله (2) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (3) » وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان أو العقيق فيأتي بناقتين كوماوين في غير إثم أو قطع رحم؟ فقالوا: كلنا يا رسول الله نحب ذلك، قال:
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه برقم 2408، والدارمي في كتاب فضائل القرآن، باب من قرأ القرآن برقم 3316.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم برقم 1218.
(3) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه برقم 5027، والترمذي في كتاب فضائل القرآن باب ما جاء في تعليم القرآن 2907، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب في ثواب قراءة القرآن برقم 1452.(27/183)
أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين في كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل (1) » . وكل هذه الأحاديث أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والآيات والأحاديث في فضل القرآن والترغيب في تلاوته وتعلمه وتعليمه كثيرة معلومة. والمقصود من التلاوة هو التدبر والتعقل للمعاني ثم العمل بمقتضى ذلك كما قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (2) وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) فبادروا - رحمكم الله - إلى تلاوة كتاب ربكم وتدبر معانيه وعمارة الأوقات والمجالس بذلك. والقرآن الكريم هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم الذي من تمسك به وصل إلى الله وإلى دار كرامته ومن أعرض عنه شقي في الدنيا والآخرة. واحذروا - رحمكم الله - ما
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتفهمه برقم 803، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب في ثواب قراءة القرآن برقم 1456.
(2) سورة محمد الآية 24
(3) سورة ص الآية 29(27/184)
يصدكم عن كتاب الله ويشغلكم عن ذكره من الصحف والمجلات وما أشبهها من الكتب التي ضررها أكثر من نفعها. وما دعته الحاجة إلى مطالعة شيء من ذلك فليجعل لذلك وقتا مخصوصا، وليقتصر على قدر الحاجة وليجعل لتلاوة كتاب الله وسماعه ممن يتلوه وقتا مخصوصا يستمع فيه كلام ربه، ويداوي بذلك أمراض قلبه ويستعين به على طاعة خالقه ومربيه المالك للضر والنفع والعطاء والمنع لا إله غيره ولا رب سواه.
ومما ينبغي الحذر منه حضور مجالس اللهو والغناء وسماع الإذاعات الضارة ومجالس القيل والقال والخوض في أعراض الناس. وأشد من ذلك وأضر حضور مجالس السينما وأشباهها ومشاهدة الأفلام الخليعة الممرضة للقلوب الصادة عن ذكر الله وتلاوة كتابه، الباعثة على اعتناق الأخلاق الرذيلة وهجر الأخلاق الحميدة، إنها والله من أشد آلات اللهو ضررا وأعظمها قبحا وأخبثها عاقبة فاحذروها - رحمكم الله - واحذروا مجالسة أهلها والرضى بعملهم القبيح. ومن دعا الناس إليها فعليه إثمها ومثل آثام من ضل بها، وهكذا كل من دعا إلى باطل أو زهد في حق يكون عليه إثم ذلك ومثل آثام من تبعه على ذلك. وقد صح(27/185)
بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونسأل الله أن يهدينا وجميع المسلمين صراطه المستقيم إنه سميع قريب.(27/186)
الأمر الثالث: من الأمور هو تعظيم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والرغبة في سماعها والحرص على حضور مجالس الذكر التي يتلى فيها كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن السنة هي شقيقة القرآن وهي المفسرة لمعانيه والموضحة لأحكامه الدالة على تفاصيل ما شرعه الله لعباده. فيجب على كل مسلم أن يعظم أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأن يحرص على حفظ وفهم ما تيسر منها، وينبغي له أن يكثر من مجالسة أهلها فإنهم هم القوم لا يشقى بهم جليسهم وقد قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (1) وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قيل: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر (3) » .
__________
(1) سورة النساء الآية 80
(2) سورة الحشر الآية 7
(3) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه برقم 12114.(27/186)
قال أهل العلم حلق الذكر هي المجالس التي يتلى فيها كتاب الله وأحاديث رسوله عليه السلام ويبين فيها ما أحل الله لعباده وما حرمه عليهم وما يتصل بذلك من تفاصيل أحكام الشريعة وبيان أنواعها ومتعلقاتها. فاغتنموا - رحمكم الله - حضور مجالس الذكر وعظموا القرآن والأحاديث واعملوا بما تستفيدون منها واسألوا عما أشكل عليكم لتعرفوا الحق بدليله فتعملوا به وتعرفوا الباطل بدليله فتحذروه وتكونوا بذلك من الفقهاء في الدين. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله في من عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه (3) » . والله
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا برقم 71، ومسلم في كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة برقم 1037.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على جور برقم 2697، ومسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة برقم 1718.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن برقم 2699.(27/187)
المسئول أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه وأن يمن على الجميع بالفقه في الدين والقيام بحق رب العالمين وأن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يعيذنا وإياكم من مضلات الفتن ومكائد الشيطان إنه سميع الدعاء قريب الإجابة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(27/188)
وجوب التعاون على البر والتقوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد وآله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد:
فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء لإخوة في الله وأبناء كرام للتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والتناصح في الله عز وجل. ثم أشكر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية على دعوتها لي للمشاركة بهذه المحاضرة. كما أشكر الأخ الكريم الشيخ محمد بن عبد الرزاق الدرويش على دعوته لي لهذا اللقاء، وأسأله عز وجل أن يبارك في جهود الجميع، وأن يجعله لقاءا مباركا، وأن(27/188)
ينفعنا به جميعا ويجعله عونا لنا على طاعته والتمسك بدينه والنصح له ولعباده إنه خير مسئول.
ثم عنوان الكلمة التي أتحدث إليكم بمضمونها هي كلمة التعاون على البر والتقوى، وإنها كلمة جامعة تجمع الخير كله وأنتم والحمد لله ممن يهتمون ويعملون لتحقيق هذا الهدف، وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالتعاون على البر والتقوى ونهاهم عن التعاون على الإثم والعدوان حيث قال سبحانه وتعالى في سورة المائدة {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1)
فجدير بكل مسلم وكل مسلمة في أنحاء الدنيا أن يحفظوا هذا العمل وأن يعنوا به كثيرا؛ لأن ذلك يترتب عليه بتوفيق الله صلاح المجتمع وتعاونه على الخير وابتعاده عن الشر وإحساسه بالمسئولية ووقوفه عند الحد الذي ينبغي أن يقف عنده، وقد جاء في هذا المعنى نصوص كثيرة منها قوله عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) فهذه السورة العظيمة
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(27/189)
القصيرة اشتملت على معان عظيمة من جملتها التواصي بالحق وهو التعاون على البر والتقوى - والرابحون السعداء في كل زمان وفي كل مكان هم الذين حققوا هذه الصفات الأربع التي دلت عليها هذه السورة، وهم الناجون من جميع أنواع الخسران.
فينبغي لكل مسلم أن يحققها وأن يلزمها وأن يدعو إليها وهي الإيمان بالله ورسوله إيمانا صادقا يتضمن الإخلاص لله في العبادة وتصديق أخباره سبحانه، ويتضمن الشهادة له بالوحدانية ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة وتصديق أخباره عليه الصلاة والسلام، كما يتضمن العمل الصالح، فإن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية عند أهل السنة والجماعة؛ فالإيمان الصادق يتضمن قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، وعمل القلب بمحبة الله والإخلاص له وخوفه ورجاءه والشوق إليه ومحبة الخير للمسلمين مثل دعائهم إليه كما يتضمن العمل الصالح بالجوارح وهو قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعاصي كما تقدم.
ثم يتضمن أمرا ثالثا وهو التواصي بالحق وهو داخل في العمل الصالح وداخل في الإيمان، ولكن نبه الله عليه فأفرده بالذكر بيانا لعظم شأنه، فإن التواصي له شأن عظيم وهو التعاون على البر والتقوى والتناصح في الله وإرشاد العباد إلى ما ينفعهم ونهيهم عما يضرهم، وكذا(27/190)
يدخل في الإيمان أيضا الأمر الرابع وهو التواصي بالصبر. فاشتملت هذه السورة العظيمة على جميع أنواع الخير وأصوله وأسباب السعادة.
فالتعاون على البر والتقوى معناه التعاون على تحقيق الإيمان قولا وعملا وعقيدة، فالبر والتقوى عند اقترانهما يدلان على أداء الفرائض وترك المحارم، فالبر هو أداء الفرائض واكتساب الخير والمسارعة إليه وتحقيقه، والتقوى ترك المحارم ونبذ الشر، وعند إفراد أحدهما عن الآخر يشمل الدين كله. فالبر عند الإطلاق هو الدين كله والتقوى عند الإطلاق هي الدين كله كما قال عز وجل {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (1) إلى قوله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (2) وقال تعالى في آيه أخرى {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (3)
والتعاون على البر والتقوى هو تعاون على تحقيق ما أمر الله به ورسوله قولا وعملا وعقيدة وعلى ترك ما حرم الله ورسوله قولا وعملا وعقيدة، وكل إنسان محتاج إلى هذا التعاون أيما كان ذكرا كان أو أنثى، حيث تحصل له السعادة العاجلة
__________
(1) سورة البقرة الآية 177
(2) سورة البقرة الآية 177
(3) سورة البقرة الآية 189(27/191)
والآجلة بهذا التعاون والنجاة في الدنيا والآخرة والسلامة من جميع أنواع الهلاك والفساد، وعلى حسب صدق العبد في ذلك وإخلاصه يكون حظه من هذا الربح، وعلى حسب تساهله في ذلك يكون نصيبه من الخسران، فالكل بالكل والحصة بالحصة، فمن لم يقم بهذه الأمور الأربعة علما وعملا فاته الخير كله ونزل به الخسران كله، ومن فاته شيء من ذلك ناله من الخسران بقدر ما فاته من تحقيق هذه الأمور الأربعة.
ولا ريب أن أهل العلم أولى الناس بتحقيق هذه الأمور وذلك بالتعاون على البر والتقوى عن إيمان وصدق وإخلاص وصبر ومصابرة؛ لأن العامة قد لا يستطيعون ذلك لعدم فقههم وعلمهم، ولا يستطيعون إلا الشيء اليسير من ذلك على حسب علمهم، ولكن أهل العلم لهم القدرة على ذلك أكثر من غيرهم وكلما زاد العلم بالله وبرسوله وبدينه زاد الواجب وزادت المسئولية.
وفي هذا المعنى يقول عز وجل {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) الآية، فكون بعضهم أولياء بعض يقتضي التناصح
__________
(1) سورة التوبة الآية 71(27/192)
والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه والحذر من كل ما يخالف هذه الولاية ويضعفها. فالمؤمن ولي أخيه وولي أخته في الله والمؤمنة كذلك ولية أختها في الله وولية أخيها في الله، وهذا واجب على الجميع، وعلى كل منهم أن يدل أخاه على الخير وينصح له ويحذره من كل شر وبذلك تتحقق الولاية منك لأخيك بالتعاون معه على البر والتقوى والنصيحة له في كل شيء تعلم أنه من الخير وتكره له كل شيء تعلم أنه من الشر، وتعينه على الخير وعلى ترك الشر وتفرح بحصوله على الخير ويحزنك أن يقع في الشر لأنه أخوك.
ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (1) » متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه، ويقول عليه الصلاة والسلام «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه (2) » متفق عليه، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام أيضا «مثل المؤمنين في
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه برقم 13، ومسلم في كتاب الإيمان باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه برقم 45.
(2) أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب نصر المظلوم برقم 2446 ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم برقم 2585.(27/193)
توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (1) » متفق عليه.
فهذه الأحاديث الثلاثة وما جاء في معناها أصول عظيمة في وجوب محبتك لأخيك كل خير وكراهتك له كل شر ونصيحتك له أينما كان وأنه وليك وأنت وليه كما قال سبحانه {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (2) وفي هذا المعنى أيضا ما رواه مسلم في صحيحه من حديث تميم الداري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (3) » وفي هذا الحديث العظيم إخبار النبي عليه الصلاة والسلام أن الدين كله النصيحة، والنصح هو الإخلاص في الشيء وعدم الغش والخيانة فيه.
فالمسلم لعظم ولايته لأخيه ومحبته لأخيه ينصح له ويوجهه إلى كل ما ينفعه ويراه خالصا لا شائبة فيه ولا غش فيه.
ومن ذلك قول العرب: ذهب ناصح يعني سليما من الغش،
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم برقم 6011، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم برقم 2586.
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم 55.(27/194)
ويقال عسل ناصح، أي: سليم من الغش والشمع. وفي هذا المعنى أيضا ما رواه الشيخان من حديث «جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: " بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (1) » .
فالواجب على العلماء وطلبة العلم إدراك هذا المعنى والعمل به بصفة أخص من غيرهم؛ لعلمهم وفضلهم وكونهم خلفاء الرسل في بيان الحق والدعوة إليه والنصح لله ولعباده فإنه لا يستوي من يعلم ومن لا يعلم كما قال عز وجل {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) وأنصح الناس للناس هم الرسل عليهم الصلاة والسلام والأنبياء ثم بعدهم العلماء، فهم ورثة الأنبياء وهم خلفاؤهم في الخير والنصح والدعوة إلى الله والصبر على الأذى والتحمل.
ومن الولاية والنصح: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا قال الله عز وجل في الآية السابقة
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين برقم 57.
(2) سورة الزمر الآية 9(27/195)
{وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) ومن ذلك الدعوة إلى الخير والإرشاد إليه وتعليم الجاهل وإرشاد الضال إلى طريق الصواب كما قال عز وجل {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) فليس هناك أحد أحسن قولا ممن دعا إلى الله وقرن ذلك بالعمل الصالح، ويقول عز وجل {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) وقد بين سبحانه في موضع آخر أنه لا بد من العلم؛ لأن الداعي إلى الله لا بد أن يكون على علم حتى لا يضر نفسه ولا يضر الناس، كما قال سبحانه وتعالى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (4)
فالداعي إلى الله والدال على الخير يجب أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه وفيما ينهي عنه. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الداعي إلى الله له مثل أجور من هداه الله على يديه، وهذا خير عظيم، يقول عليه الصلاة والسلام: «من
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2) سورة فصلت الآية 33
(3) سورة النحل الآية 125
(4) سورة يوسف الآية 108(27/196)
دل على خير له مثل أجر فاعله (1) » خرجه مسلم في صحيحه ويقول عليه الصلاة والسلام: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلال كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (2) » رواه مسلم أيضا.
وفي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه لما بعثه إلى خيبر أدعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليه من حق الله تعالى فيه، ثم قال له: فوالله لأن يهدي بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (3) » وهذا خير عظيم، والمعنى أن ذلك خير من الدنيا كلها، لكن لما كانت العرب تعظم الإبل الحمر وتراها أفضل أموالها مثل بها عليه الصلاة والسلام.
فأنتم أيها الإخوة والأبناء في حاجة شديدة إلى الإخلاص في هذا الأمر والنشاط فيه والصبر عليه لهذه النصوص التي سمعتم
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله برقم 1893.
(2) أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة برقم 2674.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس برقم 2942، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه برقم 2406.(27/197)
وغيرها مع الصدق والتحري في الخير والعناية بالأسلوب الحسن والتواضع واستحضار أن العبد على خطر عظيم، فهو يدعو إلى الله وينشر الخير وينصح ويعين على البر والتقوى مع التواضع وعدم التكبر وعدم العجب، ولا يرى نفسه أبدا إلا على خطر ويحثها على كل خير ويراقبها ويحذر من شرها ولا يعجب بعمله ولا يمن به ولا يتكبر بذلك ولا يفخر على الناس، بل يرى أن المنة لله عليه في ذلك، كما قال سبحانه وتعالى {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1)
فالتعاون على البر والتقوى والتناصح يقتضي الدعوة إلى الخير والإعانة عليه، فهو أيضا يقتضي التحذير من الشر وعدم التعاون مع أهل الشر، فلا تعين أخاك على ما يغضب الله عليه، ولا تعينه على أي معصية بل تنصح له في تركها وتحذره من شرورها، وهذا من البر والتقوى. وإذا أعنته على المعصية وسهلت له سبيلها كنت ممن تعاون معه على الإثم والعدوان، سواء كانت المعصية عملية أو قولية كالتهاون بالصلاة
__________
(1) سورة الحجرات الآية 17(27/198)