124 - بدع منكرة في الإحداد
لدى بعض المجتمع السوداني
س: الإحداد في مجتمعنا السوداني:
أولا: لزوم المرأة المعتدة افتراشها للأرض طوال المدة المقررة لها.
ثانيا: مواجهة حائط الغرفة.
ثالثا: امتناعها عن الكلام وخاصة عند شروق الشمس وعند الغروب لفترة يطلق عليها النساء (زمن الحضان) .
رابعا: امتناعها عن الاستحمام وغسل الثياب.
فهل هذا من الدين في شيء؟ ولكثرة النساء اللائي يتقيدن بهذه الظاهرة. أرجو من سماحة الشيخ أن يوجه الجميع؟ (1)
الجواب: كل هذا لا أصل له في الشرع؛ لأنه بدعة منكرة، والواجب امتثال أمر الله ورسوله والتقيد بالشرع المطهر والحذر من البدع، وقد دل الشرع المطهر على أن المحادة عليها أن تبقى
__________
(1) سؤال مقدم من سائل من جمهورية السودان العربية، وأجاب عنه سماحته في 9 \ 10 \ 1415هـ.(22/215)
في البيت الذي كانت تسكنه حين مات زوجها مدة أربعة أشهر وعشرا إن كانت غير حبلى؛ لقول الله سبحانه في سورة البقرة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (1) أما إن كانت حبلى فهي تبقى في العدة حتى تضع الحمل؛ لقول الله عز وجل في سورة الطلاق: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2) والواجب عليها ترك الطيب والحلي والملابس الجميلة والكحل والحناء، هذه هي الأشياء التي يجب أن تمتنع منها المحادة، كما جاءت بذلك الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أما ما ذكرته السائلة من كونها تفترش الأرض ولا تجلس على بساط فهذا لا أصل له وهو بدعة باطل، وهكذا استقبالها الحائط بدعة لا أصل له، فتستقبل ما شاءت مثل غيرها من النساء، وهكذا امتناعها عن كلام الناس بدعة لا أصل له، فلها أن تكلم من شاءت في حاجتها مثل غيرها من النساء، تكلم أقاربها، أولادها، تكلم جيرانها، تكلم من استأذن عليها بكلام ليس فيه محظور، لكن لا تخلو بأحد من
__________
(1) سورة البقرة الآية 234
(2) سورة الطلاق الآية 4(22/216)
الرجال غير محارمها كغيرها من النساء، أما الكلام فلا بأس مع محارمها وغيرهم في مصالحها وشئونها على وجه لا ريبة فيه. وكذلك امتناعها عن الكلام في حال الشروق والغروب لفترة يسمونها (زمن الحضان) ، بدعة لا أصل له وليس عليها التزام الصمت عند الشروق والغروب بل تتكلم في جميع الليل وفي جميع النهار، بما شاءت من الذكر وغيره مما أباح الله سبحانه، فهذه الأشياء الأربعة كلها لا أصل لها ولا أساس لها في الشرع المطهر، بل يجب على المسلمة تجنب ذلك وألا تخضع للبدع والخرافات التي أحدثها الناس، وإنما عليها الالتزام بما شرع الله سبحانه من تجنب الملابس الجميلة ومن ترك الطيب والحلي والكحل والحناء؛ لأنها تلفت النظر وتسبب رغبة الرجال فيها، وهكذا ليس لها أن تكحل عينيها ولا أن تستعمل الحناء، لأن هذا يسبب الفتنة بها، مع بقائها في بيت زوجها الذي مات وهي ساكنة فيه إذا تيسر ذلك، أما إذا خرب البيت أو كان مستأجرا ولم يسمح لهم بتأجيره أو كانت وحدها تستوحش وليس عندها أحد فتنتقل لبيت أهلها، كل ذلك لا بأس به. وهكذا خروجها من البيت للحاجة كالمستشفى والمحكمة والسوق لقضاء حاجتها(22/217)
ونحو ذلك. وأما كونها تمتنع عن الاستحمام وغسل الثياب فهذا غلط لا أصل له، فلها أن تستحم متى شاءت بليل أو نهار في أي يوم، في يوم الجمعة وفي غيره، ولها أن تمشط متى شاءت من دون طيب، ولها أن تغسل الثياب، ثيابها أو ثياب أولادها كل هذا لا بأس به. وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل به.(22/218)
125 - متى تبدأ عدة
من فقد زوجها ثم وجد ميتا
س: امرأة فقد زوجها وبعد أسبوع وجد ميتا ويعتقد أنه توفي قبل ثلاثة أيام، فمتى تبدأ عدتها، وهل من تاريخ فقده، أم من التاريخ الذي يظن أنه مات فيه، أم من تاريخ العثور عليه؟ نأمل التكرم بالإجابة (1) .
ج: عليها أن تبتدئ العدة من حين وجد ميتا؛ لأن هذا هو المتيقن، وهي أربعة أشهر وعشر، وعليها الإحداد أيضا إلا أن تكون حاملا فمدتها تنتهي بوضع الحمل، لقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (2)
__________
(1) سؤال مقدم من ع. م. أ. من سبت العلايا، بالمملكة العربية السعودية.
(2) سورة البقرة الآية 234(22/218)
الآية، وقوله عز وجل: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (1) ولما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أفتى سبيعة الأسلمية بخروجها من العدة بوضع الحمل (2) متفق على صحته. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الطلاق الآية 4
(2) أخرجه البخاري برقم (3691) كتاب المغازي ومسلم برقم (2728) كتاب الطلاق.(22/219)
126 - عدة المتوفى عنها
زوجها هل تحسب بالأيام أم بالأشهر
س: بالنسبة لعدة المرأة المتوفى عنها زوجها هل يتم عدها بالأيام أم بالأشهر سواء كان الشهر (29) أو (30) يوما؟ نرجو التكرم بإفتائنا. جزاكم الله خيرا (1) .
ج: عدة المتوفى عنها أربعة أشهر وعشر، إذا كانت غير حامل، بإجماع المسلمين؛ لقول الله عز وجل:
__________
(1) سؤال مقدم من السائلة ف. س. م. من رأس الخيمة بدولة الإمارات العربية المتحدة.(22/219)
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (1) وهي مائة وثلاثون يوما، لكن إذا حفظ أن بعض شهور العدة (29) تسعة وعشرون يوما فإنها تعتد بذلك، كما لو مات الزوج في آخر شعبان، وصار رمضان (29) تسعة وعشرين فإنها تعتد بذلك وهكذا شوال وذو القعدة إذا ثبت أن كل واحد منهما تسعة وعشرون يوما فإنها تعتد بذلك، أما الشهور الأخرى التي لم يثبت لدى المحاكم الشرعية أنها ناقصة فإنها تعتبر كل شهر ثلاثين يوما حتى تكمل عدتها.
أما الحامل فعدتها تنتهي بوضع الحمل سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها؛ لقول الله عز وجل: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2) والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 234
(2) سورة الطلاق الآية 4(22/220)
127 - حكم من مات زوجها
في حادث واستخرج جنينها بعد وفاته
سماحة المفتي العام: ابن باز حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
رجل حصل عليه حادث مروري هو وزوجته، وكانت زوجته حاملا في شهرها الثامن فتوفي الرجل وبقيت المرأة على قيد الحياة، وبعد نقلها إلى المستشفى قرر الأطباء إجراء عملية لإخراج الجنين فتم إخراجه وكانت بنتا ميتة. فهل يكون على هذه المرأة عدة الحداد. وفقكم الله.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
بناء على ما ذكرتم تكون المرأة المذكورة قد انتهت عدتها وإحدادها على زوجها بوضع الحمل؛ لقول الله سبحانه: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (1) وفق الله الجميع. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الطلاق الآية 4(22/221)
128 - حكم من مات زوجها وهي في الحج
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية وفقه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده:
نرجو تفضلكم بالإجابة على هذا السؤال:
س: امرأة سودانية جاءت للحج وقد أدت العمرة في 27 رمضان ولها ولدان يعملان بالمملكة، وقد تبلغت قبل أربعة أيام وهي هنا بالمملكة بأن زوجها في السودان توفي، فهل تؤدي حجها وهي محادة أم تذهب للسودان للإحداد حيث بيتها وماذا ترون بشأنها. جزاكم الله خيرا (1) .
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
عليها أن تحد على زوجها وتكمل حجها، جبر الله مصيبتها وتقبل منا ومنها ومن جميع المسلمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة
__________
(1) سؤال شخصي أجاب عنه سماحته في 6 \ 11 \ 1419 هـ.(22/222)
129 - حكم من وضعت
مولودها ومات زوجها بعد ولادتها
س: امرأة أنجبت في المستشفى، وفي الوقت نفسه حصل لزوجها وهو في الطريق إليها في المستشفى حادث توفي بسببه في نفس الوقت، فهل عليها عدة؟ (1) .
ج: عليها أن تعتد عدة الوفاة وهي أربعة أشهر وعشرا، إذا كان موت زوجها بعد وضعها للحمل، لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (2) الآية. والله الموفق.
__________
(1) من ضمن أسئلة موجهة من المجلة العربية، أجاب عنه سماحته في 28 \ 1 \ 1417 هـ.
(2) سورة البقرة الآية 234(22/223)
130 - مسألة في عدة المتوفى عنها زوجها
حضرة رئيس إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد (1) . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لدي مسألة أود أن تفتوني في حكمها جزاكم الله خيرا.
__________
(1) صدرت من سماحته برقم 902 \ ح وتاريخ 10 \ 8 \ 1405هـ(22/223)
وهي أني امرأة متزوجة منذ ثلاثين سنة من زوجي. ومنذ ما يقارب اثني عشر عاما حصل خلاف بيننا وكان قد تزوج زوجة أخرى فأصبح يعيش معها في بيتها ولا يأتيني في بيتي الذي أعيش فيه مع أولادي. وكان لا ينفق علينا ولا يزورنا. وحصل منذ سبع سنين تقريبا أن سافرت إلى أمريكا لزيارة ولدي الذي كان يدرس هناك عندما ولد طفله الأول، والظاهر كما تبين فيما بعد أنه لم يكن راضيا بسفري، نتيجة لذلك نوى طلاقي ولكنه كتبه في وصية غير شرعية إثر مرض ألم به في ذلك الوقت ولكنه لم يعلم به أحدا. وقد احتفظ بهذه الوصية في خزانته التي اطلعنا عليها بعد وفاته في الأسبوع الفائت، وبعد ذلك بسنتين جاءني إلى منزلي وتقرب مني تقرب الأزواج واختلى بي حيث جلس معي وأولادي مدة أسبوعين. ولكن اختلفنا مرة أخرى. وقد ذهبت إليه بطلب ورقة طلاقي حيث إني سمعت من أقاربه أنه قد طلقني فوعدني بأن يرسلها لي بعد يومين حين يذهب إليه وكيلي. فأرسلت له ولدي الأكبر ولكنه رفض، وكلمته بالتلفون أطلب ورقتي ولكنه أبى وقال إنه لن يكتبها. ولكنه قد ذكر مرارا أمام إخوته وأبنائه من زوجته الأخرى أنه مطلقني وحدث منذ شهرين تقريبا بأن ذهبت إليه ابنتي الكبرى مع(22/224)
إحدى أخواتها وأخيهم إليه يسألونه مصروفا لهم، وسألوه عن وضعي بالنسبة له فقال: إني مطلقة منذ زمن. وقد توفي زوجي الآن في الأسبوع الفائت ولكن قبل وفاته بأسبوعين ذهب إليه أخي الذي هو ولي أمري وتحدث معه في أمور كثيرة ولكنه لم يخبره عن الطلاق. ولا أعلم الآن هل أنا على ذمته أم أني مطلقة حتى أمسك عليه العدة. أفيدوني بذلك كتابة جزاكم الله خيرا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ع. إ. ز.
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى الأخت في الله ع. إ. ز. وفقها الله للخير آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده:
قد فهمت ما ذكرت في السؤال المرفق هل يلزمك الإحداد على زوجك المتوفى في الأسبوع الماضي، والذي أرى أن تحادي عليه احتياطا إلا أن يشهد شاهدان عدلان أنه طلقك قبل وفاته فإنه إذا مضى عليك ثلاثة حيض أو ثلاثة أشهر إن كنت آيسة قبل وفاته فإنه لا حداد عليك. أما الإرث فإلى المحكمة. وفق الله الجميع لما يرضيه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/225)
131 - مدة إحداد الحامل تنتهي بوضع حملها
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ح. م. ن. ف. وفقه الله آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده (1) .
كتابكم المؤرخ 17 \ 6 \ 1394هـ وصل، وصلكم الله بهداه وما به علم. ونفيدكم أن مدة إحداد المرأة الحامل تنتهي بوضع الحمل؛ لقول الله سبحانه في سورة الطلاق في حق المطلقات: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2) الآية، وحكم إحداد المتوفى عنها وهي حامل حكم المطلقة وهي حامل كما نص على ذلك أهل العلم؛ لعموم الآية المذكورة، ولما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفتى سبيعة الأسلمية أن تخرج من إحدادها بوضع حملها؛ لأنها قد خرجت من عدة زوجها المتوفى عنها بوضعها الحمل، وكانت وضعت حملها بعد وفاته بمدة يسيرة. وأسأل الله أن يوفق الجميع للفقه في الدين والثبات عليه. إنه خير مسئول. والسلام عليكم ورحمة الله وبركا ته.
__________
(1) صدرت من سماحته برقم 2608 \ خ بتاريخ 14 \ 9 \ 1394 هـ.
(2) سورة الطلاق الآية 4(22/226)
132 - مسألة في عدة المتوفى عنها زوجها
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ر. م. ج. م. وفقه الله لكل خير آمين (1) .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصل إلي كتابكم الكريم المؤرخ 10 \ 4 \ 1389هـ وصلكم الله بهداه وما تضمنه من السؤال عن الحكم في مسألة المرأة التي توفي زوجها ولم تحاد عليه إلا بعد مضي سنة على وفاته كان معلوما.
والجواب: يلزم المرأة العدة والإحداد بعد وفاة زوجها مباشرة، أربعة أشهر وعشرا إن كانت غير حامل، أما إن كانت حاملا فتلزمها العدة والإحداد إلى وضع الحمل، وإذا لم تعلم وفاة زوجها إلا بعد مضي المدة فليس عليها عدة ولا إحداد؛ ولأن زمنها قد فات، ولا يجوز للمرأة أن تعتبر نفسها في عدة أو إحداد
__________
(1) صدرت من سماحته برقم 823 بتاريخ 7 \ 5 \ 1389 هـ عندما كان نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية.(22/227)
بعد مضي المدة. وإذا كانت جاهلة تعلم ويبين لها حكم الشرع؛ لأن أكثر الناس يجهلون أحكام الشرع. نسأل الله أن يمنحنا وإياكم وسائر المسلمين الفقه في دينه والثبات عليه. إنه خير مسئول.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية(22/228)
133 - الإحداد على غير الزوج
س: قول الفقهاء: إن غير الزوجة يباح لها ترك الزينة وأحسن الثياب لمدة ثلاثة أيام، ما صحة هذا القول؟ (1) .
ج: هذا صحيح، وقد جاء به الحديث الصحيح وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا (2) » . متفق على صحته. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) من ضمن أسئلة موجهة لسماحته من جمعية شقراء.
(2) رواه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار برقم (26214) والبخاري في الجنائز برقم (1280) ومسلم في الطلاق برقم (1486) .(22/228)
134 - حكم الإحداد على الملوك والزعماء (1) .
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد جرت عادة الكثير من الدول الإسلامية في هذا العصر بالأمر بالإحداد على من يموت من الملوك والزعماء لمدة ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر، مع تعطيل الدوائر الحكومية وتنكيس الأعلام. ولا شك أن هذا العمل مخالف للشريعة المحمدية، وفيه تشبه بأعداء الإسلام، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنهى عن الإحداد وتحذر منه إلا في حق الزوجة فإنها تحد على زوجها أربعة أشهر وعشرا، كما جاءت الرخصة عنه - صلى الله عليه وسلم - للمرأة خاصة أن تحد على قريبها ثلاثة أيام فأقل، أما ما سوى ذلك من الإحداد فهو ممنوع شرعا، وليس في الشريعة الكاملة ما يجيزه على ملك أو زعيم أو غيرهما، وقد مات في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنه إبراهيم وبناته الثلاث
__________
(1) نشر في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد التاسع 1404هـ وفي هذا المجموع الجزء الأول ص 411.(22/229)
وأعيان آخرون، فلم يحد عليهم - عليه الصلاة والسلام - وقتل في زمانه أمراء جيش مؤتة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة - رضي الله عنهم - فلم يحد عليهم، ثم توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أشرف الخلق وأفضل الأنبياء وسيد ولد آدم، والمصيبة بموته أعظم المصائب - ولم يحد عليه الصحابة رضي الله عنهم، ثم مات أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو أفضل الصحابة وأشرف الخلق بعد الأنبياء فلم يحدوا عليه، ثم قتل عمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء وبعد أبي بكر الصديق فلم يحدوا عليهم وهكذا مات الصحابة جميعا فلم يحد عليهم التابعون، وهكذا مات أئمة الإسلام وأئمة الهدى من علماء التابعين ومن بعدهم، كسعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين زين العابدين، وابنه محمد بن علي، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، والإمام أبي حنيفة، وصاحبيه، والإمام مالك بن أنس، والأوزاعي، والثوري، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة العلم والهدى، فلم يحد عليهم المسلمون، ولو كان خيرا لكان السلف الصالح إليه أسبق، والخير كله في اتباعهم، والشر كله في مخالفتهم، وقد دلت سنة رسول الله(22/230)
- صلى الله عليه وسلم - التي أسلفنا ذكرها على أن ما فعله سلفنا الصالح من ترك الإحداد على غير الأزواج هو الحق والصواب، وأن ما يفعله الناس اليوم من الإحداد على الملوك والزعماء أمر مخالف للشريعة المطهرة، مع ما يترتب عليه من الأضرار الكثيرة وتعطيل المصالح والتشبه بأعداء الإسلام، وبذلك يعلم أن الواجب على قادة المسلمين وأعيانهم ترك هذا الإحداد والسير على نهج سلفنا الصالح من الصحابة ومن سلك سبيلهم، والواجب على أهل العلم تنبيه الناس على ذلك وإعلامهم به؛ أداء لواجب النصيحة وتعاونا على البر والتقوى ولما أوجب الله سبحانه من النصيحة لله ولكتابه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللأئمة المسلمين وعامتهم رأيت تحرير هذه الكلمة الموجزة.
وأسأل الله عز وجل أن يوفق قادة المسلمين وعامتهم لكل ما فيه رضاه والتمسك بشريعته والحذر مما خالفها، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، إنه سميع الدعاء قريب الإجابة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه.(22/231)
صفحة فارغة(22/232)
كتاب الرضاع(22/233)
صفحة فارغة(22/234)
135 - عدد الرضعات المحرمة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ع. م. ع. وفقه الله لكل خير آمين (1) .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده:
كتابكم المؤرخ 18 \ 7 \ 1392هـ الجوابي لكتابي رقم 78 وتاريخ 12 \ 1 \ 1392هـ وصل، وصلكم الله بهداه واطعت على الورقة المرفقة به الآتي نصها: قررت ض. م. ح. قائلة: كنا قاطنين قرب القويعية، وبعد طلوع شمس يوم جاءتني ب. س. م. بابن أخيها ع. م. فأرضعته حتى روى، يرضع وإذا تعب فك الديس حتى روى، وبعد عصر ذلك اليوم جاءني به والده م. س. فأرضعته حتى روى وكل مرة من المرتين يرضع وإذا تعب أطلق الديس ولا أعلم عن عدد الرضعات التي في الصبح ولا التي في العصر هذا حاصل الأمر الذي وقع مني انتهى بشهادة غ. ب. س. وم. ش. م. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم حرر في 10 \ 5 \ 1392هـ انتهى، وفي ذيل الورقة تصديق فضيلة قاضي عروى الآتي نصه: الحمد لله وحده حضرت لدي المرأة ض. م. ح. فصادقت على جميع إفادتها المحرر أعلاه وهي امرأة ثقة، ولما
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم 1516 في 10 \ 8 \ 1392هـ(22/235)
ذكر جرى الشرح على اعترافها. مما ذكر وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم حرر في 25 \ 5 \ 1392. انتهى. وبناء على ذلك فالذي أرى أنها لا تحل لك؛ لكونها قد ارتضعت من المرأة التي قد أرضعتك رضاعا كثيرا يزيد على أربع مرات حسب شهادة المرضعة ض. وبذلك صارت أختا لك من الرضاعة. وأسأل الله أن يوفق الجميع للفقه في دينه والثبات عليه إنه جواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(22/236)
136 - إذا قل الرضاع
عن خمس رضعات لا يعول عليه
صاحب السماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية الموقر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد (1) .
أعيد لسماحتكم من طيه كامل الأوراق المتعلقة باستفتاء المدعو م. ب. ن. الوارد لنا من سماحتكم برقم 212 في 14 \ 2 \ 1417هـ في رضاع.
وعليه نفيدكم أنه جرى منا بعث كامل الأوراق إلى فضيلة قاضي محكمة القوز بخطابنا رقم 305 \ 1 في 20 \ 2 \ 1417هـ
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم 192 وتاريخ 1 \ 3 \ 1417هـ(22/236)
بطلب إكمال ما تضمنه شرحكم آنف الذكر، فأعادها لنا فضيلته برقم 365 في 24 \ 2 \ 1417هـ المتضمن إكمال ما أشير إليه، وقد أرفق لنا صورة الضبط المرفق المدون فيها ما تم إجراؤه.
آمل الاطلاع على الأوراق وصورة الضبط المرفقة وإجراء ما ترونه لازما نحو إفتاء المذكور. أثابكم الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فبناء على ما أثبته فضيلة الشيخ قاضي محكمة القوز من صفة الرضاع الصادر من جدة زوجة م. ب. ن. واعترافها لديه بأنها لا تحفظ عدد الرضعات، أفتيته بأن نكاحه صحيح وزوجته باقية في عصمته، وأن الرضاع المذكور لا يعول عليه ولا تثبت به أحكام الرضاعة، لأن من شرط الرضاع الذي يحصل به التحريم أن يكون خمس رضعات معلومات أو أكثر في حال كون الطفل في الحولين. فأرجو إشعار الجميع بالفتوى المذكورة، شكر الله سعيكم وضاعف لنا ولكم وللشيخ الأجر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المفتي العام للمملكة العربية السعودية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/237)
137 - لا يحصل التحريم إلا بخمس رضعات
س: لقد رضعت من امرأة ثلاث رضعات كل يوم رضعة واحدة وفي مجالس مختلفة، هل أكون أخا لمن رضعت من أمه أم لا؟ أفيدونا أثابكم الله (1) .
ج: هذه الرضعات الثلاث لا يحصل بها تحريم الرضاع، وإنما يحصل التحريم بخمس رضعات أو أكثر، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان (2) » ، ولما ثبت عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك (3) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه والإمام الترمذي في جامعه وهذا لفظه.
والرضعة هي إمساك الثدي وابتلاع اللبن ولو لم يشبع ولو طالت، فإذا أطلقه فهذه رضعة، فإذا عاد وأمسك الثدي وامتص منه اللبن فهذه رضعة ثانية، وهكذا بشرط أن يكون الطفل في
__________
(1) نشرت في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 3 ص 326.
(2) أخرجه مسلم برقم (2631) كتاب الرضاع، باب في المصة والمصتان، وابن ماجه برقم (1930) كتاب النكاح، باب لا تحرم المصة ولا المصتان. واللفظ له
(3) صحيح مسلم الرضاع (1452) ، سنن النسائي النكاح (3307) ، سنن أبو داود النكاح (2062) ، موطأ مالك الرضاع (1293) ، سنن الدارمي النكاح (2253) .(22/238)
الحولين؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا رضاع إلا في الحولين (1) » .، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الرضاعة من المجاعة (2) » . وبالله التوفيق.
__________
(1) رواه الدارقطني 4 \ 174 باب: ما كان في الحولين
(2) أخرجه البخاري برقم (2453) كتاب الشهادات، باب الشهادات والرضاع المستفيض والموت، ومسلم برقم (2642) كتاب الرضاع، باب إنما الرضاعة من المجاعة.(22/239)
138 - حكم رضاع الطفل بعد الحولين
س: متى يكون الرضاع محرما بالخمس ومتى يكون محرما برضعة واحدة؟ (1) .
ج: الرضاع لا يكون محرما إلا إذا كان خمس رضعات حال كون الطفل في الحولين، أما إذا كان الرضاع أقل من خمس رضعات، أو إذا كان بعد أن تجاوز الطفل الحولين فهذا لا أصل له ولا يعتبر محرما فلا بد من شرطين أولهما:
أن يكون الطفل في الرضاع لم يكمل الحولين. أن تكون
__________
(1) من برنامج نور على الدرب(22/239)
الرضعات خمسا لا أقل. لمجيء الأحاديث الصحيحة بذلك ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا رضاع إلا في الحولين (1) » ، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (2) ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لسهلة بنت سهيل: «أرضعي سالما خمس رضعات تحرمي عليه (3) » ، ولما ثبت في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - قالت كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأمر على ذلك (4) . لم ينسخ ولم يتغير، خمس معلومات ثابتة بشهادة الرجل العدل أو المرأة العدل أو أكثر، فإن كانت المرضعة عدلا واعترفت بخمس رضعات في الحولين قبل منها فلا بد من كونها خمسا ولا بد أن تكون في الحولين، ولا بد أن تكون المدعية لذلك امرأة عدل أو ثقة أو رجلا يشهد على أن المرأة عدل وثقة أو أكثر من ذلك.
__________
(1) موطأ مالك الرضاع (1290) .
(2) سورة البقرة الآية 233
(3) أخرجه أحمد برقم (2447) باقي مسند الأنصار، ومالك في الموطأ برقم (1113) كتاب الرضاع.
(4) أخرجه مسلم برقم (2634) كتاب الرضاع.(22/240)
139 - إذا لم تعلم عدد الرضعات فلا حكم لها
س: لقد رضعت مع فتاة في قريتنا في أثناء غياب أمي عني يوما كاملا ولا أدري كم أبلغ من العمر آنذاك، وعندما كبرت تقول التي أرضعتني لي ولأسرتي أنت لقد أرضعتك على بنتي فلانة، وعندما كبرت تزوجت أخت البنت التي أرضعت معها وهي الصغرى، وحيث إننا في البادية لا نعلم أحكام الرضاع خلال هذه السنوات وقد خلفت بنتا، وعدد الرضعات لا نعلم هل هي أقل من خمس أم أكثر، ولا نعرف التي ثبت فيها التحريم. وجهونا كيف نتصرف الآن جزاكم الله خيرا؟ (1) .
ج: إذا كانت الرضعات لا تعلم فلا حرج عليك وزوجتك حلال والحمد لله، إلا إذا كانت المرضعة موجودة وهي ثقة فاسألوها فإن ذكرت أنها أرضعتك خمس رضعات أو أكثر في الحولين فأنت أخ للبنت التي تزوجتها، لأنها بنت المرضعة، ولا تحل لك، أما إذا كانت المرضعة ميتة ولا تعلم كم أرضعتك، أو غير ثقة، فلا تثقون بها لفسقها أو كذبها، فلا حرج عليك والحمد لله والزواج صحيح.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب(22/241)
140 - جواز زيادة الرضاع
على الحولين عند التراضي
س: ما حكم زيادة الرضاعة عن الحولين؟ وهل صحيح أن الابن الذي يرضع أكثر من الحولين يأتي عاصيا؟ (1) .
ج: الواجب إرضاع الطفل حولين إلا أن يتفق والداه على فطمه قبل تمامها؛ لقول الله عز وجل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (2) إلى أن قال سبحانه: {فَإِنْ أَرَادَا} (3) يعني الوالدين: {فِصَالًا} (4) يعني فطامه: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (5) وتجوز الزيادة إذا دعت إليها الحاجة، أما ما يقال إن الراضع بعد الحولين يأتي عاصيا فلا أعلم له أصلا، بل هو من كذب بعض الناس. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سؤال مقدم من جريدة المسلمون أجاب عنه سماحته في 27 \ 5 \ 1418هـ
(2) سورة البقرة الآية 233
(3) سورة البقرة الآية 233
(4) سورة البقرة الآية 233
(5) سورة البقرة الآية 233(22/242)
141 - الرضاع الشرعي الذي
تترتب عليه أحكام الرضاع
حضرة شيخنا الكريم فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
وردني كتابكم الكريم بخصوص سؤال الأخ ر. س. ر. وقد اتصلت هاتفيا بمن قالت إنها المرضعة المذكورة في سؤاله واستفسرت منها بعد البيان الكامل للمراد، فكان جوابها أنها في واحدة فقط من المرات الثلاث تتحقق من أن الطفل لم ينفصل أثناء الارتضاع عن الثدي، وأما في المرتين الأخريين فهي لا تذكر الأمر الآن على الإطلاق، ولا تدري هل حصل في أثناء أي منهما أنه انفصل عن الثدي ثم عاد إليه أم لم ينفصل، وقد كررت عليها السؤال وكان جوابها واحدا لا يختلف، ونظرا إلى أن هذه الحالة لم تذكر في رسالة فضيلتكم، لذا كتبت هذا وأعطيته لصاحب السؤال ليطلعكم عليه. حفظكم الله ورعاكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محبكم م. س. أ.(22/243)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ م. س. أ. سلمه الله
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده (1) :
يا محب كتابكم الكريم المؤرخ 28 \ 2 \ 1404هـ وصل، وصلكم الله بهداه وفهمت ما أشار إليه فضيلتكم حول رضاع ر. س. ر. من زوجة عمه المدعوة ق. ثلاث رضعات لا تحفظ صفة رضاعه في اثنتين منها.
وبناء على ذلك فإن بنوة ر. لا تثبت للمرضعة ق. المذكورة ولا لزوجها ولا تحرم على ر. المذكور بنات المرضعة ق. ولا بنات زوجها من غيرها؛ لعدم ثبوت الرضاع الشرعي الذي يترتب عليه أحكام الرضاع؛ لما ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك (2) » . أخرجه مسلم في صحيحه والترمذي وهذا لفظه. فأرجو إشعار الجميع بالفتوى المذكورة. أثابكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم 142 وتاريخ 7 \ 3 \ 1404هـ
(2) صحيح مسلم الرضاع (1452) ، سنن النسائي النكاح (3307) ، سنن أبو داود النكاح (2062) ، موطأ مالك الرضاع (1293) ، سنن الدارمي النكاح (2253) .(22/244)
142 - أقل من خمس رضعات لا يحرم
فضيلة الشيخ ابن باز حفظه الله
عندي سؤال كما يلي: إنني أبغى أتزوج بنت خالي إلا أن والدتي أرضعتها مع أختي التي ولدت بعدي رضعة واحدة، فهل تجوز أم لا؟ فأرشدونا جزاكم الله خيرا (1) .
فضيلة قاضي محكمة ظهران الجنوب سلمه الله
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده:
يا محب قد أمرت المستفتي س. المذكور بإحضار والدته ومن يعرفها لديكم للتحقق منها عن عدد الرضعات التي أرضعتها البنت المذكورة، فإن كانت أقل من خمس رضعات فلا يخفى على فضيلتكم أنه لا يحرم عليه التزوج بالبنت المذكورة، وإن كان في الواقع إشكال فلا مانع لدي من النظر فيه بعد إثباته ومعرفة عدالة المرأة. فأرجو من فضيلتكم احتساب الأجر في إجراء ما يلزم. أثابكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أجاب عنها سماحته بتاريخ 20 \ 3 \ 1404هـ(22/245)
143 - العمل بالقرائن في الرضاع
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، بناء على خطاب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رقم 2 وتاريخ 4 \ 1 \ 1404هـ والمتضمن إحضار المرأة ش. ض. م. وسؤالها عن مدة الرضاع وعن عدد الرضعات وعن تأكدها من وصول الحليب إلى جوف خ. ر. في كل رضعة، وسؤال العارفين بها عن عدالتها. وكم عدد الرضعات التي أرضعتيها خ. ر. وهل وصل حليبك من (ديسك) ثديك إلي جوف خ. ر. أم لا؟
ج: ذكرت أنني أرضعت خ. ر. مرات كثيرة ولا أستطيع عددها وأردفت قائلة: إن والدة خ. قد مرض ثديها الأيسر وشقوه وعالجوه في ذلك الزمان وبقي خ. عندي أرضعه مع ابني مدة، بعضها في الليل ثم يأخذونه إلى أمه، وبعضها في النهار، ثم يردونه إلى أمه حتى تعافت أمه، ولا أستطيع حصر الشهور والسنين، ولا أعلم عن عدد الرضعات التي أرضعتها خ. ر.، نعم وصل حليبي من (ديسي) ثديي إلى جوف خ. ر. يمسك الثدي حتى يروى، ثم يفك الديس كثير مرات لا أعلم عددها، وبعد ذلك أخرجنا المرأة المذكورة من الجلسة ثم أدخلنا الرجال الذين يعرفونها ويعرفون عدالتها طيلة حياتهم، أحدهما م. ر. ر. وبسؤاله عن(22/246)
هذه المرأة وقال إنها جدتي زوجة جدي ر. م. وذكر أنها دينة وتصوم وتصلي ومشهورة بالصدق مع الناس والشاهد الثاني م. ر. ر. ذكر مثل ما ذكر الشاهد الأول حرفيا. هذا ما وصل إلينا وضبطناه من إجابة المرأة ش. ض. وإجابة الشاهدين م. ر. ر. وم. ر. وعلى ذلك جرى التوقيع. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
قاضي محكمة
الحائط
س. ع. غ.
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة قاضي محكمة الحائط وفقه الله للخير آمين (1) .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده:
يا محب نعيد لفضيلتكم جميع الأوراق المتعلقة بإرضاع ش. ض. لـ خ. ر.
ونفيدكم أن الظاهر من كلامها أنها أرضعته أكثر من خمس رضعات؛ لأن الثدي المشقوق لا يبرأ عادة في اليومين والثلاثة. فأرجو إشعار الجميع بأن نكاح المستفتي خ. المذكور
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم 224 وتاريخ 22 \ 2 \ 1404هـ(22/247)
لابنة عمه غير صحيح، لكونه والحال ما ذكر أصبح عمها من الرضاعة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (1) » . فأرجو إشعار الجميع بذلك شكر الله سعيكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (2451) كتاب الشهادات. ومسلم برقم (2624) كتاب الرضاع.(22/248)
144 - بيان الرضاع الذي يحصل به التحريم
صاحب السماحة الرئيس العام للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
إشارة لخطابكم رقم 70 \ خ في21 \ 1 \ 1404هـ فقد كتبنا لها بحضورها لدينا برقم 334 في 8 \ 2 \ 1404هـ ولكنها منعت من الحضور وكتبت إجابتها في أسفل خطابنا المشار إلى رقمه وتاريخه أعلاه ولكن الكتابة غير واضحة، وقد علمت وفهمت من كتابة ن. ص. أنها تقول ما عندي إلا ما عند أمها وجدتها، وحيث(22/248)
إنهم لم يشهدوا أحدا على إجابتها أرسلنا رجالا يكتبون إجابتها مرة ثانية ويشهدون عليها وفعلا جاءوا بإجابتها على الورقة المرفقة المؤرخة في 10 \ 2 \ 1404هـ وقيدناها لدينا برقم 526 في 11 \ 2 \ 1404هـ وحيث إنها قالت بإجابتها ما عندي غير ما عند أمها وجدتها فقد كتبنا لها برقم 378 في 12 \ 2 \ 1404هـ وطلبنا منهن الإجابة ثم وافونا بالإجابة المرفقة وقيد لدينا برقم 546 في 15 \ 2 \ 1404هـ فإليكم خطابكم رقم 70 \ خ في 21 \ 1 \ 1404هـ وخطابين منا للنساء وإجابتين منهن للاطلاع وإجراء ما يلزم. والله يحفظكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قاضي محكمة الحائط
المكرم فضيلة قاضي محكمة الحائط المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
لقد حضرت أنا م. س. وس. ع. وابنتها م. ع. حسب ما ادعت به ن. ص. حسب رضاع ن. م. ولكن عندما أجرينا السؤال مع جدتها س. ع. وأمها م. ع. اتضح لنا أن جدتها ليس عندها خبر، وأجابت أمها أنها تقول عندما وضعت ابنها كانت ن. ص. موجودة عندها وقالت م. ع. إني في حالة غيبوبة ووضعت ن. ص. الثدي في فمها وتقول م. ع. ليس عندي خبر(22/249)
هل حلب الثدي في فمها أم لا؟
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة قاضي محكمة الحائط وفقه الله للخير آمين (1) . .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده:
يا محب كتابكم الكريم رقم 396 وتاريخ 15 \ 2 \ 1404هـ وصل، وصلكم الله بهداه واطلعت على ما أثبته فضيلتكم حول إرضاع ن. ص. لـ ن. خ. ون. م. وبعد اطلاعي على جواب ن. ص. وعلى جواب م. ع. أم ن. م. وجواب س. ع. جدة ن. م. اتضح من ذلك أنه ليس لديهن شهادة معتبرة بالرضاع المعتبر وبذلك يعلم أنه لا حرج على م. س. المذكور في تزوجه بأم أولاد أخيه ن. م. مع بقاء زوجته الأولى ن. خ. في عصمته؛ لعدم وجود رضاع شرعي يمنع من ذلك، لأن الرضاع الذي يحصل به التحريم في أصح أقوال أهل العلم لا بد أن يكون خمس رضعات معلومات حال كون الرضيع في الحولين كما لا يخفى ولم يثبت شيء من ذلك في هذه القضية. فأرجو إشعار الجميع بذلك. أثابكم الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم 202 وتاريخ 17 \ 2 \ 1404 هـ.(22/250)
145 - لا يثبت التحريم إلا بالرضاع المستوفي لشروطه
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على عبده ورسوله، وبعد:
بناء على شرح سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز المؤرخ في 20 \ 3 \ 1404هـ على السؤال المقدم لسماحته من المواطن س. ح. و. المتضمن أن والدته أرضعت بنتا ويرغب الزواج من هذه البنت، ومما قضى به توجيه سماحته من أخذ أقوال المرضعة، ففي يوم 5 \ 4 \ 1404هـ، حضر لدي أنا قاض ظهران الجنوب حالا حضرت ظ. ح. والدة المستفتي س. ومعها زوجها ح. م. غ. وجرت مسائلة ظ. عن كيفية الرضاع الذي ذكره ابنها س. المذكور وعدده وزمنه فأجابت أنها ذهبت إلى بيت أخيها الشقيق بعدما وضعت زوجة أخيها بنتها ص. م. ح. خ. بعد ولادتها بيوم تقريبا ووجدت البنت تبكي فأعطتها دهنا فلم تقبله فأرضعت ظ. بنت أخيها رضعة واحدة حيث ألقمتها ثديها وتركته في فمها حتى تركته البنت من نفسها ولم تنقلها على الثدي الآخر ولا تعلم عدد المصات التي رضعتها منها ولا كنه اللبن الذي رضعته، ولم ترضعها قبل تلك المرة ولا بعدها، هكذا قررت بحضور زوجها المذكور.(22/251)
صاحب السماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أعيد لمعاليكم شرحكم المؤرخ في 20 \ 3 \ 1404هـ على الاستدعاء المقدم من المواطن س. ح. و. والذي يرغب الزواج من ص. م. ح. والتي رضعت من والدته ظ. ح. خ. وما قضى به توجيهكم الكريم من أخذ أقوال المرأة المرضعة والدة السائل، فقد أخذت أقوالها وأرفقتها لسماحتكم في صورة الضبط المرفقة وبالنسبة لي فلدي من الأمر إشكال للخلاف الذي يعلمه سماحتكم في موضوع الرضاع. آمل الاطلاع والتوجيه بما ترونه مناسبا. أثابكم الله وشكر سعيكم وأمد في عمركم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قاضي ظهران الجنوب
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة قاضي ظهران الجنوب وفقه الله آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده (1) :
كتابكم رقم 386 وتاريخ 6 \ 4 \ 1404 هـ فقد اطلعت
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم 598 وتاريخ 14 \ 5 \ 1404هـ(22/252)
على الضبط المرفق المتضمن بيان اعتراف ظ. ح. م. بأنها لم ترضع ص. م. ح. سوى رضعة واحدة وبذلك أفتيت السائل س. ح. بأن الرضاع المذكور لا يعتبر ولا يثبت به تحريم الرضاع، لعدم استيفائه الشروط المعتبرة. فأرجو إشعار الجميع بذلك. شكر الله سعيكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/253)
146 - إذا أرضعت طفلا فتحرم عليه بناتك من جميع الأزواج
س: أنا أم لثلاث بنات، أنجبت بنتا واحدة من زوجي الأول، وبنتين من زوجي الثاني ولي ولد من الرضاع رضع مع ابنتي الأولى من الزوج الأول. فهل يكون هذا الابن أخا للبنتين اللتين من الزوج الثاني؟ (1) .
جواب: إذا كنت أرضعت الشخص المذكور خمس رضعات أو أكثر حال كونه في الحولين، فإنه بذلك يكون ابنا
__________
(1) هذا السؤال وسؤالان بعده نشرت في جريدة البلاد عدد (15430) وتاريخ 13 \ 6 \ 1419هـ(22/253)
لك ولزوجك الأول وأخا لبناتك من جميع الأزواج سواء كن قبله أم بعده، وأخا لأولاد زوجك الأول منك ومن غيرك؛ لقول الله سبحانه في بيان المحرمات: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (1) ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (2) » متفق على صحته.
__________
(1) سورة النساء الآية 23
(2) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/339) .(22/254)
147 - مسألة في الرضاع
س: تقول سائلة: إن أخاها الذي يصغرها بعامين رضع من زوجة خالها مع ابنها (ابن زوجة خالها) فهل يجوز لها أن تكشف أمام أولاد خالها، أي لا تحتجب أمامهم، وما حكم أخواتها اللاتي يصغرن أخاها الذي رضع من زوجة خالها؟
جواب: إذا ثبت الرضاع المذكور وكان خمس رضعات أو أكثر حال كون الرضيع في الحولين، صار أخوك المرتضع ابنا لخالك من الرضاعة وابنا لزوجته المرضعة من الرضاعة، وصار أولادهما إخوة له وصار إخوان خالك أعماما له وأخواته عمات(22/254)
له، وصار إخوان المرضعة أخوالا له وأخواتها خالات له؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (1) » متفق على صحته.
أما أنت يا أم. ي. فلا تعلق لك بالرضاع المذكور، ولا يجوز لك ولا لأخواتك أن تكشفن لأبناء خالكن بسبب رضاعة أخيكن من زوجة خالكن؛ لأنهم بالنسبة إليكن ليسوا محارم لكن، وفق الله الجميع للفقه في الدين والثبات عليه.
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/339) .(22/255)
148 - مسألة في الرضاع
س: تزوجت في السنة الماضية بابنة عمي، ومشكلتي وإياها أن أمي من الرضاعة والتي أرضعتني مع ابنها الكبير شهدت بأنها أرضعت كذلك زوجتي مع ابنها، ولم تحدد لنا كيفية الرضاع ولا عدد مراته ماذا أفعل والحال ما ذكر؟
جواب: لا تحرم عليك زوجتك حتى تشهد المرأة المذكورة التي أرضعتك، بأنها أرضعتها خمس رضعات أو أكثر، حال كون الرضعية في الحولين، ولا بد مع ذلك من إثبات كونها منه،(22/255)
وننصحك بأن تحضرها عند فضيلة قاضي بلدك حتى يسألها عما لديها من الشهادة، وحتى يكمل اللازم في الموضوع، وفق الله الجميع.(22/256)
149 - لا حرج في الزواج بابنة الخالة من الرضاع (1) .
حضر لدي ش. إ. م. وأفاد رغبته في الزواج من ن. م. د. ولكن نقل له أن هـ. ع. ل. قد أرضعت أمه ف. م. ع. وهـ. ع. المذكورة هي جدة ن. م. المذكورة أم أمها، ولكن هذا الرضاع لم يثبت حيث أحضر لدينا ع. م. ع. وهي خالته وأكبر من أمه بكثير، فأفادت بأنها لا تعرف هذا الرضاع ولا تذكره وأنهم لم يعرفوا هـ. ع. المذكورة إلا بعد أن فطمت ف. م. وولد بعدها أخ لها، فقبله لم يكن بينهما صلة ولا جوار ولا معرفة أصلا وهكذا أيضا أفادتنا جدته ل. ع. م. وهي أم ف. بأنه لا رضاع لابنتها من هـ. ولم يتعرفوا على هـ. إلا بعد أن ولد أخ
__________
(1) أجاب عنها سماحته بتاريخ 22 \ 2 \ 1404هـ(22/256)
لـ ف. م. أصغر منها، وحيث نفت هاتان القريبتان من ف. م. رضاعها، وحيث لم يوجد له مثبت ولم يدع أحد الرضاع الحقيقي المحرم، فإنه لا مانع من زواج أولاد ف. من بنات هـ. من رضاع أو ولادة ولو كانت هـ. مفقودة الآن وكذا ف. م. حيث إن ل. ع. م. هي والدتها هي التي تولت حضانتها وأعرف بمن اتصل بها حتى يثبت الرضاع المتوهم. قال ذلك وكتبه عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين عضو الإفتاء وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا كان الواقع هو ما ذكره الشيخ عبد الله أعلاه فلا حرج على ش. المذكور في تزوج ن. المذكورة حتى ولو ثبت إرضاع هـ. لـ ف.، لأن ش. المذكور يكون ابن خالة ن. لو ثبت الرضاع وتزوج الرجل بابنة خالته من النسب أو الرضاع لا حرج فيه بالنص والإجماع. قاله ممليه الفقير إلى الله تعالى عبد العزيز بن عبد الله بن باز سامحه الله.(22/257)
150 - الرضاع يختص حكمه بالمرتضع دون إخوته
حضر عندي من سمى نفسه ن. ض. وذكر أن أخته غ. س. أرضعت ابنه ج. ن. واستفتاني هل يجوز لبقية أبنائه الذين لم يرضعوا من أخته المذكورة التزوج من بنات بناتها؟ (1)
والجواب: إذا كان الواقع هو ما ذكره السائل فلا حرج في زواج بقية أبنائه من بنات أخته المذكورة وبنات بناتها؛ لأن الرضاع المذكور يختص حكمه بابنه المذكور الذي ارتضع من المذكورة، إذا كان الرضاع خمس رضعات أو أكثر حال كونه في الحولين؛ لأن الأحاديث الصحيحة الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرضاع تدل على ذلك. ولطلبه إثبات الفتوى جرى تحريره، قاله ممليه الفقير إلى الله تعالى عبد العزيز بن عبد الله بن باز سامحه الله.
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم 604 وتاريخ 16 \ 5 \ 1404هـ.(22/258)
151 - أقل من خمس رضعات لا يحصل به التحريم
سماحة والدنا الحبيب الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله وتولاه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أفيد سماحتكم بأنه تقدم إلينا الأخ ع. ع. بسؤال عن رضاع ولما سمعنا سؤاله ذهبنا إلى المرأة المرضعة وسألناها عن الرضاع المسئول عنه فأجابت بالآتي:
أنا جئت والولد وضعته والدته وهو يصرخ وتكلمت مع أمه في شأن إرضاعه فقالت: أنا ما في شيء لبن وأخذته وأرضعته حتى نام، والمرة الثانية في اليوم الثاني ما أنا بمتأكدة منها. وعليه فهل تجوز بنت هذه المرأة للولد للزواج، حيث إنه يخطبها ويطلبون الجواب بأسرع وقت، أثابكم الله وأطال في عمركم على طاعته (1) .
ابنكم الداعي لكم بالخير
س. ع. م.
__________
(1) سؤال شخصي أجاب عنه سماحته بتاريخ 9 \ 3 \ 1404 هـ.(22/259)
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
مثل هذا الرضاع لا يعتمد عليه ولا يحصل به تحريم الرضاع، لأن الرضاع الذي يحصل به التحريم لا بد أن يكون خمس رضعات أو أكثر حال كون الطفل في الحولين؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، (1) » ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا رضاع إلا في الحولين (2) » وفق الله الجميع لما يرضيه، والسلام.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) صحيح مسلم الرضاع (1452) ، سنن النسائي النكاح (3307) ، سنن أبو داود النكاح (2062) ، موطأ مالك الرضاع (1293) ، سنن الدارمي النكاح (2253) .
(2) رواه الدارقطني ج4 \ 174 باب ما كان في الحولين.(22/260)
152 - مسألة في الرضاع
س: أنا شاب أبلغ من العمر 24 سنة، لما أردت خطبة ابنة عمي فاجأني الجميع أني عم لها من الرضاعة، حيث إن أختي الكبرى رضعت مع ابن عمي الذي هو أبو البنت وكذلك هو رضع مع أختي أي من أمي، فهل يجوز لي شرعا الزواج بها أم لا، أتمنى أن تجيبوني بسرعة؛ لأني في حيرة من أمري جزاكم الله خيرا (1)
ج: إذا ثبت أن أباها رضع من أمك خمس رضعات أو أكثر حال كونه في الحولين فإنك بذلك تكون أخا له من الرضاعة، وعما لابنته من الرضاعة، وبذلك يحرم عليك نكاحها، لقول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (2) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاع
__________
(1) سؤال مقدم من السائل أ. ب س. من جمهورية تونس العربية وأجاب عنه سماحته بتاريخ 28 \ 1 \ 1417هـ.
(2) سورة النساء الآية 23(22/261)
ما يحرم من النسب (1) » متفق على صحته. وقد أوضح الله سبحانه في هذه الآية أن بنت الأخ من النسب تحرم على عمها، فهكذا بنت الأخ من الرضاعة تحرم على عمها من الرضاعة، للحديث المذكور بإجماع أهل العلم على ذلك، والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (2451) كتاب الشهادات، ومسلم برقم (2624) كتاب الرضاع.(22/262)
153 - لا يعتد بالرضاع إلا ما كان في الحولين
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد (1) :
فقد اختلف أهل العلم في رضاع الكبير هل يؤثر أم لا؟ والسبب في ذلك أنه ورد في الحديث الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر سهلة بنت سهيل أن ترضع سالما مولى أبي حذيفة وكان كبيرا، وكان مولى لدى زوجها، فلما كبر طلبت من النبي - صلى الله عليه وسلم - الحل
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.(22/262)
لهذا الأمر، فأمرها أن ترضعه خمس رضعات، فاختلف العلماء في ذلك والصحيح من قولي العلماء أن هذا خاص بسالم وبسهلة بنت سهيل وليس عاما للأمة، قاله غالب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقاله جمع غفير من أهل العلم وهذا هو الصواب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام (1) » ولقوله - عليه الصلاة والسلام -: «إنما الرضاعة من المجاعة (2) » رواه الشيخان في الصحيحين، ولقوله أيضا - عليه الصلاة والسلام -: «لا رضاع إلا في الحولين (3) » ، فهذه الأحاديث تدل على أن الرضاع يختص بالحولين ولا يؤثر الرضاع بعد ذلك، وهذا هو الصواب، والله جل وعلا ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه برقم (1936) كتاب النكاح مختصرا.
(2) أخرجه البخاري برقم (2453) كتاب الشهادات ومسلم برقم (2642) كتاب الرضاع.
(3) موطأ مالك الرضاع (1290) .(22/263)
154 - حكم إرضاع الكبير
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله ورعاه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد (1) : تعلمون حفظكم الله حديث سالم مولى أبي حذيفة - رضي الله عنهما -، وكانت أم حذيفة قد ربته في صغره فكان يعتبرها مثل أمه، فلما نزلت آية الحجاب لزمها أن تتحجب منه، فشق ذلك عليهم (سالم وأبي حذيفة وأم حذيفة) فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر سالما أن يشرب من لبن أم حذيفة فيصير بذلك ابنها من الرضاع. والحديث في مسلم.
وقد راجعت كلام أهل العلم في المسألة في كتاب: زاد المعاد، فوجدت أنهم فريقان ووسط: فريق يرى أن الحديث خاص في حق سالم فقط، وفريق يرى عموم الحديث في سالم وغيره، وفريق يتوسط ويرى أن الحديث عام في سالم وغيره بشرط أن تكون حاله مثل حال سالم وأم حذيفة، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -.
__________
(1) سؤال مقدم من الأخ م. م. م. أجاب عنه سماحته بتاريخ 3 \ 5 \ 1415هـ.(22/264)
وإني يا شيخ قد ربتني في صغري امرأة أجنبية عني، وقد شق عليها أن تتحجب عني، فأردت أن أعمل بقول شيخ الإسلام في مسألة سالم فعارضني جمع من أقاربها، وطلبوا فتوى شرعية بخصوص هذه المسألة. لذا أطلب توجيه سماحتكم في هذا الموضوع، وجزاكم الله خيرا.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
نرى أن حديث سالم مولى أبي حذيفة خاص بسالم كما هو قول الجمهور، لصحة الأحاديث الدالة على أنه لا رضاع إلا في الحولين، وهذا هو الذي نفتي به، وأسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/265)
155 - مسألة في الرضاع
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أبعث معروضي هذا مستفتيا أن أختي قد أرضعت بنت خالي رضعتين، واحدة في الصباح وواحدة في الليل، وخالي قد أعطاني بنته برضاها، فسؤالي هل هذه البنت تحل لي زوجة، وشكرا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1)
. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكر فإن البنت المذكورة لا تحرم بالرضعتين المذكورتين؛ لأن الرضاعة التي تحصل بها الحرمة، لا بد أن تكون خمس رضعات أو أكثر حال كون الطفل في الحولين، وفق الله الجميع. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سؤال مقدم من السائل ع. ع. أجاب عنه سماحته بتاريخ 2 \ 6 \ 1419هـ(22/266)
156 - بيان الرضاع الذي يحصل به التحريم
س: أخبرتني أمي أنني رضعت من امرأة أريد الزواج من ابنتها رضعة واحدة، فهل يجوز لي الزواج من هذه الابنة؟ (1)
ج: الرضاعة التي يحصل بها التحريم لا بد أن تكون خمسا أو أكثر حال كون الطفل في الحولين، فإن كانت أقل من ذلك لم يحصل بها التحريم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لسهلة بنت سهيل: «أرضعي سالما خمس رضعات تحرمي عليه (2) » ، ولما ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك (3) » أخرجه مسلم في صحيحه والترمذي في جامعه وهذا لفظه، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا رضاع إلا في الحولين (4) » ، وبالله التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 3 ص 325.
(2) صحيح مسلم الرضاع (1453) ، سنن النسائي النكاح (3323) ، سنن أبو داود كتاب النكاح (2061) ، سنن ابن ماجه كتاب النكاح (1943) ، مسند أحمد بن حنبل (6/228) ، موطأ مالك كتاب الرضاع (1288) ، سنن الدارمي كتاب النكاح (2257) .
(3) صحيح مسلم الرضاع (1452) ، سنن النسائي النكاح (3307) ، سنن أبو داود النكاح (2062) ، موطأ مالك الرضاع (1293) ، سنن الدارمي النكاح (2253) .
(4) موطأ مالك الرضاع (1290) .(22/267)
157 - إذا نسيت الرضاع فالمرجع المحكمة
س: أنا مواطن مصري مقيم بالسعودية، متزوج منذ فترة من ابنة عمتي، ولي منها ثلاثة أولاد، وقد أخبرني والدي وأقاربي مثل عماتي وأم والدي، وجدي- أبي والدي- منذ ثلاث شهور بأني رضعت من عمتي أم زوجتي مع ابنها فترة ثلاثة شهور، وهو متوفى حاليا أي ابن عمتي، وكانت زوجتي أثناء رضاعتي من عمتي عمرها سنتان، وقد أكد لي والدي وأقاربي المذكورين، أكدوا لي حاليا أنني رضعت أنا وأخو زوجتي الأصغر منها فترة ثلاثة شهور من صدر عمتي، وتقول عمتي التي هي أم زوجتي، إنها أرضعتني مرتين فقط، فماذا أصنع وأنا الآن في حيرة من أمري؟ (1)
ج: نرى إحضار المرضعة لدى المحكمة؛ لمعرفة ما لديها من الشهادة، ثم تفتيكم المحكمة بما تراه إن شاء الله، أو تكتب إلي المحكمة وأنا أنظر في ذلك إن شاء الله. وفق الله الجميع.
__________
(1) سؤال مقدم من مواطن مصري مقيم بالسعودية أجاب عنه سماحته بتاريخ 27 \ 3 \ 1419هـ.(22/268)
158 - مسألة في الرضاع
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز سلمه الله تعالى المفتي العام للمملكة ورئيس هيئة كبار العلماء والبحوث العلمية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نرفق لسماحتكم صورة مما تم ضبطه لدينا، بضبط الإنهاءات في موضوع فتوى عن رضاع، ومرفق أيضا معروض المستفتي ب. ض. س. للاطلاع والإفادة عما يترتب على المستفتي، وفقكم الله وسدد خطاكم وأبقاكم ذخرا للإسلام والمسلمين والله يحفظكم. والسلام (1)
رئيس محاكم منطقة تبوك
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
بناء على ما ذكره فضيلتكم في الضبط المرفق من اعتراف
__________
(1) صدرت. برقم 3802 \ 1 \ ف وتاريخ 16 \ 2 \ 1417 هـ.(22/269)
المذكورة ز. لديكم بأنها لا تعلم هل ارتضع خمس رضعات أم لا. أفتيته بأن الرضاع المذكور لا معول عليه ولا تثبت به أحكام الرضاعة، وزوجته باقية في عصمته. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أمر سهيلة بنت سهل أن ترضع سالما مولى أبي حذيفة خمس رضعات (1) » وبذلك تحرم عليه، ولقول عائشة - رضي الله عنها - «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك (2) » . أخرجه مسلم في صحيحه والترمذي في جامعه وهذا لفظه. فأرجو إشعار الجميع بالفتوى المذكورة. شكر الله سعيكم وضاعف أجركم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
__________
(1) أخرجه أحمد برقم (24470) ومالك في الموطأ برقم (1113) كتاب الرضاع.
(2) صحيح مسلم الرضاع (1452) ، سنن النسائي النكاح (3307) ، سنن أبو داود النكاح (2062) ، موطأ مالك الرضاع (1293) ، سنن الدارمي النكاح (2253) .(22/270)
159 - لا يحصل التحريم إلا بخمس رضعات في الحولين
س: امرأة أرضعت بنتا عمرها ستة أيام مرتين في يومين كل مرة ترضعها حتى تروى، وبسؤال المرضعة هل إذا أرضعتها في كل مرة تقطع رضاعها بنحو تنفس أو انتقال من ثدي إلى ثدي أو غير ذلك، فأجابت أنها متأكدة من أنها أشبعت البنت مرتين في يومين ولا تدري هل البنت تستمر في رضاعها إذا أمكست الثدي حتى تشبع أو تقطعه ثم تعود؛ لأن ذلك من سبعة عشر سنة، فهل يحرم هذا الرضاع البنت المذكورة على أبناء المرأة التي أرضعتها أم لا؟ انتهى المقصود (1) .
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر فضيلتكم فالرضاع المذكور لا يحرم البنت المرتضعة على أبناء المرضعة؛ لأن التحريم في أصح الأقوال لا يحصل إلا بخمس رضعات في الحولين؛ لحديث عائشة الصحيح المشهور في ذلك ولحديثها الثاني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تحرم المصة والمصتان (2) »
__________
(1) سؤال أجاب عنه سماحته عندما كان نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية.
(2) صحيح مسلم الرضاع (1450) ، سنن الترمذي الرضاع (1150) ، سنن النسائي النكاح (3310) ، سنن أبو داود النكاح (2063) ، سنن ابن ماجه النكاح (1941) ، مسند أحمد بن حنبل (6/31) ، سنن الدارمي النكاح (2251) .(22/271)
وفي لفظ: «لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان (1) » أخرجهما مسلم في صحيحه، والأصل عدم وجود الخمس وقد شكت المرضعة فيما زاد على الرضعتين والأصل عدم الزيادة، ولكن ترك تزوج أبناء المرضعة بالبنت المذكورة أحسن وأحوط عملا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه (2) » الحديث، وبالحديث الآخر: «والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس (3) » والحديث الثالث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (4) » فإذا رأيتم إحضار الخاطب والمشورة عليه بالترك فهو أحسن، سدد الله نظركم وبارك في مساعيكم، والله يتولاكم، والسلام.
__________
(1) صحيح مسلم الرضاع (1451) ، سنن النسائي النكاح (3308) ، سنن ابن ماجه النكاح (1940) ، مسند أحمد بن حنبل (6/339) ، سنن الدارمي النكاح (2252) .
(2) أخرجه البخاري برقم (50) كتاب الإيمان، ومسلم برقم (2996) كتاب المساقات.
(3) أخرجه مسلم برقم (4632) كتاب البر والصلة والآداب
(4) أخرجه الترمذي برقم (2442) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع والنسائي برقم (5615) كتاب الأشربة.(22/272)
160 - صفة الرضعات المحرمة
س: نرجو الإفادة عن رجل أرضعته جدته أم أبيه بعد انقطاع الحمل والولادة عنها بثمان سنوات فدرت عليه، هل يعتبر الرضاع المذكور، وهل تحرم عليه به بنات عمته أخت أبيه لأب التي هي من امرأة غير جدته المذكورة (1) .
ج: إذا كانت درت عليه لبنا وكان الرضاع المذكور شرعيا وهو خمس رضعات حال كون الرضيع في الحولين، وصفة الرضعة الواحدة هي أن يمسك الرضيع الثدي ويمتص اللبن ثم يتركه، فإذا عاد وأمسكه ثانية وامتص اللبن وتركه صارت رضعة ثانية، وهكذا حتى يكمل الخمس، فإن الرجل المذكور قد صار أخا لأولاد جدته المذكورة من جده وغيره من أزواجها وأخا لأولاد جده من جدته المذكورة وغيرها من زوجاته، وبذلك فإنه لا يحل له الزواج ببنات عمته المذكورة؛ لأنه صار بهذا الرضاع خالا لهن من الرضاعة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (2) » .
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(2) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/339) .(22/273)
161 - حدود التحريم في الرضاع
س: هناك امرأتان الأولى عندها ولد، والثانية عندها بنت، والحاصل أنهم تراضعوا فمن من إخوان المتراضعين يحل للثاني؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا (1) .
ج: إذا أرضعت امرأة طفلا خمس رضعات معلومات في الحولين أو أكثر من الخمس، صار الرضيع ولدا لها ولزوجها صاحب اللبن، وصار جميع أولاد المرأة من زوجها صاحب اللبن ومن غيره إخوة لهذا الرضيع، وصار أولاد الزوج صاحب اللبن من المرضعة وغيرها إخوة للرضيع، فصار إخوتها أخوالا له وإخوة الزوج صاحب اللبن أعماما له، وصار أبو المرأة جدا للرضيع وأمها جدة للرضيع، وصار أبو الزوج صاحب اللبن جدا للرضيع وأمه جدة للرضيع، لقول الله جل وعلا في المحرمات من سورة النساء: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (2) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (3) » ، ولقوله - عليه الصلاة والسلام -: «لا رضاع إلا في
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 3 ص 141.
(2) سورة النساء الآية 23
(3) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/339) .(22/274)
الحولين (1) » ، ولما ثبت في صحيح مسلم - رحمه الله - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك (2) » . أخرجه الترمذي بهذا اللفظ وأصله في صحيح مسلم.
__________
(1) موطأ مالك الرضاع (1290) .
(2) صحيح مسلم الرضاع (1452) ، سنن النسائي النكاح (3307) ، سنن أبو داود النكاح (2062) ، موطأ مالك الرضاع (1293) ، سنن الدارمي النكاح (2253) .(22/275)
162 - حكم الزواج ببنات الخالة من الرضاع
س: أفيد سماحتكم أن والدتي كانت متزوجة من رجل قبل والدي، وأنجبت منه ولدا، وأرضعت مع هذا الولد أختا لها، ودامت الرضاعة حوالي أسبوع، ثم انفصلت والدتي عن هذا الرجل وأخذها والدي، فهل يجوز لنا نحن أبناء الرجل الثاني أن نتزوج من بنات خالتنا التي رضعت من أمنا أم لا؟ (1)
ج: لا يجوز لكم أن تتزوجوا من بنات خالتكم المذكورة؛ لأنها بالرضاع المذكور صارت أختا لكم.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 3 ص 142.(22/275)
163 - لا تتزوج أختها من الرضاع حتى تخرج من العدة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ن. م. ح. وفقه الله لكل خير آمين (1)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصل إلي كتابكم المؤرخ 30 \ 11 \ 1389هـ وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من الإفادة أنك كنت متزوجا بامرأة ثم طلقتها، وتريد أن تتزوج امرأة قد رضعت من أم مطلقتك، وأن مطلقتك حبلى، وسؤالك عن جواز زواجك بالمرأة المذكورة كان معلوما.
والجواب: لا مانع من تزوجك بها بعد أن تضع مطلقتك حملها، أما قبل ذلك فلا يجوز أن تتزوج أختها من النسب أو الرضاع، لأنها لا تزال في عدة منك حتى تضع الحمل، وفق الله الجميع للفقه في دينه والثبات عليه، إنه خير مسئول. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) صدرت من سماحته برقم 2548 بتاريخ 16 \ 12 \ 1389هـ.(22/276)
164 - مسألة في الرضاع
فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد (1) :
لقد توفت أمي وأنا ابن أربعين يوما، وكان لجدي ثلاث زوجات، وقد أعطى إحداهن جملا مقابل إرضاعها لي وتربيتي مع أبنائها، وقد فعلت وصارت أما لي حتى ماتت وأبناؤها إخوة لي وفي نفس الوقت أعمامي؛ لأنهم أبناء جدي وحدث أن أحد أعمامي الذين لم يكونوا من المرأة التي رضعت منها جاء له ابنة وقد زوجني إياها، وأنجبت منها طفلا، وفجأة سمعت من رجال العلم أن زوجتي محرمة علي وأنها ابنة أخي، علما أن والدها لم يكن ابنا للمرأة التي رضعت منها بل إنه ابن امرأة ثانية من زوجات جدي، وحين ما بلغني فتوى العلماء توقفت عن زوجتي وتوجهت إلى الله ثم إليكم، أرجو إفتائي لأكون على بصيرة من أمري، وإذا كانت محرمة علي، فهل لها حقوق، وهل لها طلاق أو بدون طلاق، وهل علي
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته بتاريخ 24 \ 10 \ 1398هـ.(22/277)
كفارة، أرجو من فضيلتكم تنوير بصيرتي. علما أن مسألة الرضاع ثابتة حيث إني يتيم، وقد أخذتني امرأة جدي بالأجرة وأجرتها في ذلك قعود أي ابن ناقة. هذا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
إذا كان الواقع هو ما ذكرت فإن جميع أعمامك من المرأة المذكورة وغيرها صاروا إخوة لك من الرضاع وبذلك صارت زوجتك ابنة أخيك، ويكون نكاحك لها باطلا وليس عليك كفارة ولا غيرها إذا كنت اجتنبتها من حين علمت الرضاع، أما ولدك فهو ولد شرعي منسوب إليك؛ لأنك اتصلت بها على أنها زوجتك قبل أن تعلم الرضاع، وعليك أن تكتب لها صكا عند المحكمة تعتمد عليه إذا أراد وليها تزويجها وعليها العدة بثلاث حيضات من حين اعتزلتها. وفق الله الجميع للفقه في دينه والثبات عليه، إنه جواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(22/278)
165 - التربية بدون رضاع لا توجب المحرمية
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ح. أ. ح. ق. سلمه الله
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد (1) :
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 513 وتاريخ 5 \ 2 \ 1407هـ الذي تسأل فيه عن جملة من الأسئلة.
أما البنت التي رباها والدكم منذ صغرها فإنكم لا تكونون بذلك محارم لها، ولا يجوز لكم أن تقبلوها، ويلزمها الحجاب عنكم، إلا إذا كانت رضعت من أمكم أو من زوجة لأبيكم أو من أي أخت من أخواتكم خمس رضعات فأكثر في الحولين، وكذلك إذا كنتم رضعتم من أمها خمس رضعات فأكثر أو أرضعتكم أنتم وإياها امرأة أخرى خمس رضعات فأكثر في الحولين، فإنها تصير أختا لكم من الرضاع، يجوز لكم أن تسلموا عليها، وتكونون محارم لها في غير عقد النكاح.
__________
(1) أجاب عنه سماحته بتاريخ 27 \ 3 \ 1407هـ.(22/279)
166 - مسألة في الرضاع
س: فضيلة الشيخ ما حكم من قامت بتربية أخي زوجها وهو صغير بعد وفاة أمه، ولكنها لم ترضعه، فقط قامت بتربيته وهو الآن كبر ويناديها أمي، فهل يكون لها محرما ويجوز أن تكشف أمامه، مع أن أكثر الناس يعرفون أنه ابنها وقليل الذي يعرف أنه أخو زوجها؟ أفتونا جزاكم الله خيرا (1) .
ج: إذا ربت المرأة صبيا أجنبيا منها، كأخي زوجها وابن عمها وغيرهما، فإنه لا يكون محرما لها بمجرد التربية، ويجب عليها أن تحتجب منه إذا بلغ الحلم، ولا يجوز لها أن تخلو به؛ لعموم الأدلة الشرعية في ذلك والله الموفق.
__________
(1) صدرت بتاريخ 2 \ 3 \ 1419 هـ(22/280)
167 - حدود التعامل مع الإخوة من الرضاعة
س: ما هي حدود التعامل مع الإخوة من الرضاعة الذكور والإناث، فهل مثلا أخي من الرضاعة له أن يسافر مع أخته من الرضاعة أو يبقى معها في بيت واحد، أو يقبلها كما يقبل أخته من النسب، أرجو توضيح ذلك، وما هي الاستثناءات التي لا يجوز فعلها من الإخوة من الرضاعة؟ (1)
ج: الرضاعة كالنسب، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب (2) » فأخته من الرضاعة كأخته من النسب، فلا بأس أن يخلو بها، ولا بأس أن يسافر بها، ولا بأس أن يصافحها، ولا بأس أن يقبلها، لكن يكون التقبيل ليس من الفم هذا هو الأولى، يكون مع الرأس، أو مع الخد كما كان الصديق يقبل ابنته عائشة مع خدها، فالحاصل أنه مثل النسب سواء، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب (3) » ، لكن ليس الرضاعة مثل النسب في صلة الرحم،
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.
(2) حديث أخرجه البخاري برقم 2451، كتاب الشهادات ومسلم برقم 2624 كتاب الرضاع.
(3) صحيح البخاري تفسير القرآن (4796) ، صحيح مسلم الرضاع (1445) ، سنن النسائي النكاح (3313) .(22/281)
فالرحم يختص بالأقارب، وإنما هذا في المحرمية والخلوة، لا في النفقة، ولا في صلة الرحم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4796) ، صحيح مسلم الرضاع (1445) ، سنن النسائي النكاح (3313) .(22/282)
168 - الرضاع يختص بالرضيع
س: أختان متزوجتان، للأولى عدة أطفال، والثانية كذلك، الأولى أرضعت بنتا لأختها رضعات مشبعات كثيرة، والثانية أرضعت ولدا لأختها رضعات مشبعات كثيرة، فما الحرمة الحاصلة بين أبناء وبنات هاتين الأختين؟ (1)
ج: الرضاع يختص بالرضيع دون إخوته، فيكون ابنا لمرضعته ولزوجها، وأخا لأولادها من الذكور والإناث دون إخوته الذين لم يرتضعوا منها، فإنهم لا يكونون أولادا لها؛ لكونها أرضعت أخاهم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (2) » ولا بد أن يكون الرضاع خمس رضعات أو أكثر حال كون الطفل في الحولين، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا رضاع إلا في الحولين (3) » ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الرضاعة من
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1619 في 27 \ 7 \ 1418هـ.
(2) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/339) .
(3) موطأ مالك الرضاع (1290) .(22/282)
المجاعة (1) » ، ولقول عائشة - رضي الله عنها -: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك (2) » أخرجه مسلم في صحيحه، والترمذي في جامعه، وهذا لفظه، والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2647) ، صحيح مسلم الرضاع (1455) ، سنن النسائي النكاح (3312) ، سنن أبو داود النكاح (2058) ، سنن ابن ماجه النكاح (1945) ، سنن الدارمي النكاح (2256) .
(2) صحيح مسلم الرضاع (1452) ، سنن النسائي النكاح (3307) ، سنن أبو داود النكاح (2062) ، موطأ مالك الرضاع (1293) ، سنن الدارمي النكاح (2253) .(22/283)
169 - الرضاع لا يتعدى الرضيع إلى إخوته من النسب
س: ف. رضع مع م. من أم م. رضاعا تاما، ولأن المذكور ف. له أخت أكبر منه، هل يكون م. محرما لها أم لا؟ وإذا كان الجواب بلا، فهل يجوز أن يتزوجها م. أم لا؟ أرجو الإفادة (1) .
ج: الرضاع المذكور يختص بـ. ف. المذكور إذا كان ارتضع من أم م. خمس رضعات أو أكثر حال كونه في الحولين، ويكون بذلك أخا لأولادها من الذكور والإناث، أما إخوته من الذكور والإناث فلا تعلق لهم بالرضاع المذكور، ولا يكونون إخوة للمذكور م.، ويجوز م. أن يتزوج أخت ف. إذا لم يكن بينهما رضاعة أخرى، ولا قرابة تحرم ذلك، وبالله التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، من جمع محمد المسند، ج 3 ص 338.(22/283)
170 - إذا رضعت فتاة من امرأة حرم عليها جميع أولادها
س: أفيدكم أني رضعت من امرأة مع ولد، ولها ولد أكبر منه، ويقولون لي إنه لا يحل لك السلام على الابن الأكبر ويحل لك السلام على الأصغر؟ (1)
ج: يحل لك السلام على جميع أولاد المرضعة قبلك وبعدك؛ لأنهم جميعا يعتبرون إخوانك من الرضاعة، لأن المرضعة تعتبر أمك من الرضاعة وجميع أولادها يعتبرون إخوة لك من الرضاعة صغارهم وكبارهم إذا كان الرضاع خمس رضاعات فأكثر في الحولين. وفق الله الجميع لما يرضيه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة الإرشاد
__________
(1) سؤال من الأخت م. ع. ق، أجاب عليه سماحته برقم 1318 \ 1 في 15\5\1410 هـ.(22/284)
171 - الرضاع المذكور لا يمنع الزواج
فضيلة المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله.
أفيدكم بأن والدي قد تزوج من ثلاث نساء وقد رزق منهن بنين وبنات، ومن بينهم أخي ع. ح.، وقد أردت تزويج ولدين من أولادي على بنتين من بنات أخي المذكور، وقد واجهتنا عقبة وهي أن امرأة أخي المذكور قد أرضعت اثنين من إخواني، فهل هذا الرضاع يمنع الزواج أم لا؟ وجزاكم الله ألف خير (1) .
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده: الرضاع المذكور لا يمنع تزويج ابنيك من بنات عمهما ع. ح. وفق الله الجميع. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سؤال مقدم من س. ح. ع. أجاب عنه سماحته في 9 \ 12 \ 1419هـ.(22/285)
172 - حكم رضاع المزح والعبث
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله ورعاه
السلام عليكم ووحمة الله وبركاته، وبعد:
طلب منا مركز هيئة الشعف الإجابة على سؤال في الرضاع وصورته:
(1) رجل كبير رضع من زوجته مزحا ثم قيل له إنه لا يجوز.
(2) امرأة رضعت من نفسها من أجل أن يطلقها زوجها.
نرجو من سماحتكم الإجابة على هذا السؤال وتكون الفتوى خطية لتعم الفائدة وجزاكم الله خيرا
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
هذا الرضاع لا يترتب عليه تحريم ولا شيء من أحكام الرضاعة، بل هو عبث لا ينبغي فعله، وإنما الرضاعة الشرعية التي يحصل بها التحريم وترتبت عليهما أحكام الرضاع، هي الرضاعة التي تحصل من الطفل حال كونه في الحولين قبل أن يفطم؛ لقول(22/286)
النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا رضاع إلا في الحولين (1) » وفق الله الجميع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة
__________
(1) موطأ مالك الرضاع (1290) .(22/287)
173 - رضاع أخت الخطيبة من أخت الزوج لا يحرمها
س: أنا شاب عمري 21 سنة قررت الزواج من إحدى الفتيات، وبعد الخطبة تبين لي أن أختي التي تكبرني قد أرضعتني، وأرضعت أخا وأخت خطيبتي الأكبر منها سنا فهل أتزوج تلك الفتاة؟ (1)
ج: إذا كان الواقع هو ما جاء في السؤال فلا حرج عليك في نكاح المرأة المذكورة، لأن رضاع أختك لأخيها وأختها لا يحرمها عليك والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في جريدة المسلمون العدد 711في 28 \ 5 \ 1419هـ(22/287)
174 - الرضيع لا يكون ابنا للزوجة الثانية التي لم ترضعه
س: فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: أريد السؤال عن:
أن أخي متزوج من امرأتين، زوجته الأولى أرضعت أخي الأصغر مع ابنها أكثر من خمس رضعات، وسؤالي هل يصير ابنا لزوجة أخي الثانية التي لم ترضعه أم أنها تتحجب عنه حيث إنه يبلغ الآن 14 عاما، وهل إذا كبر أخي هذا وتزوج تكشف زوجته لأخي الذي صار له أبا من الرضاعة، أم أنها تحتجب عنه وجزاكم الله خيرا.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده: (1)
بناء على ما ذكرتم من الرضاعة يكون الرضيع المذكور ابنا التي أرضعته، وابنا لزوجها، أما الزوجة الثانية فليس هو ابنا لها، ولكنه ابن لزوجها ومحرم لها، لكونها زوجة أبيه من الرضاعة،
__________
(1) أجاب عنه سماحته بتاريخ 28 \ 6 \ 1419هـ.(22/288)
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب (1) » وفق الله الجميع لما يرضيه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4796) ، صحيح مسلم الرضاع (1445) ، سنن النسائي النكاح (3313) .(22/289)
175 - الرضاع المشكوك في عدده لا يحصل به التحريم
س: تزوجت في السنة الماضية بابنة عمي، ومشكلتي وإياها أن أمي من الرضاعة والتي أرضعتني مع ابنها الكبير، شهدت بأنها أرضعت كذلك زوجتي مع ابنها، ولم تحدد لنا كيفية الرضاع، ولا عدد مراته، ماذا أفعل والحال ما ذكر؟
ج: لا تحرم عليك زوجتك حتى تشهد المرأة المذكورة التي أرضعتك بأنها أرضعتها خمس رضعات أو أكثر حال كون الرضيعة(22/289)
في الحولين، ولا بد مع ذلك من إثبات كونها ثقة، وننصحك بأن تحضرها عند فضيلة قاضي بلدك حتى يسألها عن ما لديها من الشهادة، وحتى يكمل اللازم في الموضوع، وفق الله الجميع.(22/290)
176 - يجوز لإخوتك الزواج من أخواتك من الرضاعة
س: أنا شاب رضعت مع أكبر بنات خالي، وقد جاء بعدها أخوات أخريات، وهي الآن قد تزوجت، هل يجوز لي أو لأحد من إخواني التقدم لطلب يد أحد أخواتها؟ (1)
ج: إذا كان رضاعك أيها السائل من زوجة خالك خمس رضعات أو أكثر حال كونك في الحولين، فجميع بنات خالك يكن أخوات لك وليس لك أن تتزوج منهن أحدا، أما إخوتك الذين لم يرضعوا من زوجة خالك فليس عليهم حرج أن يتزوجوا من بنات خالك إذا كان بنات خالك لم يرضعن من أم إخوتك ولا من زوجة أبيكم ولا من أخواتكم. والخلاصة أنه لا حرج على
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، من جمع محمد المسند ج 3 ص 344.(22/290)
إخوتك أن يتزوجوا من بنات خالهم إذا لم يكن بينهم رضاعة تمنع ذلك، أما رضاعك أيها السائل من زوجة خالك فإنه يختص بك ولا يوجب تحريم بنات خالك على إخوتك، والله ولي التوفيق.(22/291)
177 - لا يجوز لك نكاح من رضعت من امرأة قد رضعت منها
س: أريد أن أتزوج إحدى الفتيات، ولكن هناك مشكلة أريد أن أعرف حكم الشرع فيها وهي: أنني رضعت مع ابن إحدى الأسر، وهذه البنت رضعت مع بنت هذه الأسرة أيضا، أي إنها رضعت مع أخت الأخ الذي رضعت معه، مع العلم أنني لم أرضع مع إحدى أخوات هذه الفتاة، وهي لم ترضع من أمي، فهل يحق لي أن أتزوجها؟ (1)
ج: إذا كنت رضعت من امرأة (زينب مثلا) وهي رضعت منها أيضا مع ولد آخر أو مع بنت أخرى تكون أختا لك، ولو أنها قبلك أو بعدك، إذا كان الرضاع كاملا تاما خمس رضعات أو أكثر في الحولين.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 3 ص 329.(22/291)
178 - حكم من تزوجت رجلا قد رضعت من أمه مع أخيه الصغير
س: أنا شابة تزوجت من ابن عمتي منذ حوالي 4 سنوات، وقبل زواجي منه سألنا أحد العلماء بوطني، هل زواجي منه حلال أم لا؛ لأني رضعت من أمه مع أخيه الصغير والذي يقاربني سنا، وفارق السن بيني وبين زوجي خمسة عشر عاما، وهذا هو فارق السن بينه وبين أخيه، ومما قاله لنا ذلك العالم أنت حلال عليه، وقد تم الزواج على الوجه المطلوب، وبعد مضي سنتين من زواجنا، كانت ندوة علمية في أحد البرامج التلفزيونية بالمغرب، وأفتى العلماء بالتحريم، وأصبحت أنا وزوجي في حيرة من أمرنا. المرجو منكم أن تفيدونا، هل هذا الزواج حلال أم حرام؟ وهل أعتبر أختا لزوجي من الرضاعة أم أختا لأخيه الذي شاركته فيها فقط؟ (1)
ج: إذا كان رضاعك من أم زوجك خمس رضعات أو أكثر حال كونك في الحولين فأنت أخته من الرضاعة، ولو كان
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، من جمع محمد، المسند ج 3 ص330.(22/292)
رضاعك مع أخيه الصغير، لإجماع المسلمين، والذي أفتاك بأنك حل له قد غلط في ذلك غلطا عظيما وأفتى بغير علم، وقد قال الله سبحانه في كتابه العظيم في بيان المحرمات من سورة النساء: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} (1) إلى أن قال سبحانه: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (2) وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب (3) » .
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفق الله الجميع للفقه في الدين والثبات عليه.
__________
(1) سورة النساء الآية 23
(2) سورة النساء الآية 23
(3) صحيح البخاري تفسير القرآن (4796) ، صحيح مسلم الرضاع (1445) ، سنن النسائي النكاح (3313) .(22/293)
179 - مسألة في الرضاع
س: والدي عنده امرأة غير والدتي ولتلك المرأة أولاد من أبي، ولنا خالة هي أخت والدتي قد أرضعتني وإخوتي من أمي وهي لها أولاد ذكور وإناث، والسؤال: هل يجوز لإخواني من أبي الجلوس والحديث مع بنات خالتي بدون حجاب؟ مع العلم أن إخواني من أبي لم تتم لهم رضاعة من خالتي التي هي أخت أمي، فهل يصير أبناء وبنات خالتي أخوة لنا جميعا؟ (1)
ج: لا يجوز لإخوتك الذين لم يرضعوا من خالتك أن يعتبروا أنفسهم محارم لبنات خالتك، لأنهم لم يرضعوا منها، وإنما محارم بنات خالتك هم الذين رضعوا منها رضاعا تاما وهو خمس رضعات أو أكثر حال كونهم في الحولين، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا رضاع إلا في الحولين (2) » ولما ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي النبي - صلى
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، من جمع محمد المسند، ج 3 ص 332.
(2) موطأ مالك الرضاع (1290) .(22/294)
الله عليه وسلم -، والأمر على ذلك (1) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه والترمذي في جامعه وهذا لفظه.
ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (2) » . متفق عليه.
__________
(1) صحيح مسلم الرضاع (1452) ، سنن النسائي النكاح (3307) ، سنن أبو داود النكاح (2062) ، موطأ مالك الرضاع (1293) ، سنن الدارمي النكاح (2253) .
(2) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/339) .(22/295)
180 - لبن الرضاع منشؤه الزوجان
وليست المرأة فقط
س: طفل تربى في بيت عمه، ورضع من زوجة عمه الأولى، وبعد فترة تزوج عمه من زوجة ثانية وأنجبت منه طفلة، فهل يجوز لهذا الطفل (عندما يكبر) أن يتزوج من بنت عمه من الزوجة التي لم يرضع منها؟ (1)
ج: إذا كان الطفل المذكور ارتضع من زوجة عمه خمس رضعات أو أكثر حال كونه في الحولين، فإنه يكون بذلك ابن عمه من الرضاع ويكون جميع أولاد عمه من جميع زوجاته إخوة له من الرضاع ذكورهم وإناثهم.
وبذلك تعلم أنه يحرم على الطفل المذكور نكاح الابنة
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، من جمع محمد المسند، ج 3 ص 333.(22/295)
المذكورة؛ لكونها أخته من أبيه من الرضاع، إذا كان الواقع ما ذكرنا، وقد قال الله سبحانه في كتابه المبين لما ذكر المحرمات: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (1)
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاع مما يحرم من النسب (2) » . متفق على صحته.
__________
(1) سورة النساء الآية 23
(2) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/275) .(22/296)
181 - بنت ابن عمتك الذي رضع مع أختك محرمة عليك
س: لي ابن عمة وله بنت، وابن عمتي هذا رضع مع أختي الكبيرة التي تكبرني، فهل يحل لي الزواج من ابنته، أم هي محرمة علي لكون أبيها رضع مع أختي الكبيرة، وأن أباها أخ لي؟ (1)
ج: إذا كان الواقع ما ذكره السائل وكان الرضيع المذكور قد ارتضع من أم السائل خمس رضعات أو أكثر حال كونه في الحولين فإنه لا يحل للسائل نكاح ابنته؛ لأنه والحال ما ذكر صار عمها من الرضاع، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، من جمع محمد المسند، ج 3 ص 334.(22/296)
أنه قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (1) » . وقال - عليه الصلاة والسلام -: «لا رضاع إلا في الحولين (2) » . وقالت عائشة - رضي الله عنها -: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأمر على ذلك (3) » . أخرجه مسلم في صحيحه والترمذي وهذا لفظه، والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/339) .
(2) موطأ مالك الرضاع (1290) .
(3) صحيح مسلم الرضاع (1452) ، سنن النسائي النكاح (3307) ، سنن أبو داود النكاح (2062) ، موطأ مالك الرضاع (1293) ، سنن الدارمي النكاح (2253) .(22/297)
182 - إذا رضعت من امرأة صارت أما لك وزوجها أبا لك
س: إنني شاب أريد الزواج من كريمة رجل، ولكن المشكلة أنني راضع من زوجة الرجل مع بنت، ولقد توفيت البنت التي رضعت معها، وبعدها زوجة الرجل أنجبت بنتا هل يجوز لي أن أتزوج البنت هذه أم لا؟ أفتوني جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: إذا كانت زوجة الرجل الذي ترغب في الزواج من ابنته قد أرضعتك خمس رضعات أو أكثر حال كونك في الحولين فإنها تكون أمك من الرضاعة، ويكون زوجها أباك من الرضاع، وتكون
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، من جمع محمد المسند، ج 3 ص 337.(22/297)
بناتهما أخوات لك لا يحل لك الزواج بشيء منهن، لقول الله سبحانه في سورة النساء لما ذكر المحرمات: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (1) ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاع مما يحرم من النسب (2) » . وقد ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأمر على ذلك (3) » . أخرجه مسلم في صحيحه والترمذي وهذا لفظه، وفي المسألة أحاديث أخرى.
أما إن كانت الرضعات أقل من خمس أو كنت حين رضعت فوق الحولين فإن الرضاع المذكور لا يحصل به التحريم ولا تكون المرضعة أما لك، ولا زوجها أبا لك، ولا تحرم عليك بناتهما بهذا الرضاع في أصح أقوال أهل العلم للحديث المذكور، وأحاديث أخرى منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا رضاع إلا في الحولين (4) » . وقوله، عليه الصلاة والسلام: «لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان (5) » . في أحاديث أخرى ذكرها أهل العلم. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة النساء الآية 23
(2) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/275) .
(3) صحيح مسلم الرضاع (1452) ، سنن النسائي النكاح (3307) ، سنن أبو داود النكاح (2062) ، موطأ مالك الرضاع (1293) ، سنن الدارمي النكاح (2253) .
(4) موطأ مالك الرضاع (1290) .
(5) صحيح مسلم الرضاع (1451) ، سنن النسائي النكاح (3308) ، سنن ابن ماجه النكاح (1940) ، مسند أحمد بن حنبل (6/339) ، سنن الدارمي النكاح (2252) .(22/298)
183 - عمات أخواتك من الرضاع محرمات عليك
س: لي أخوات من الرضاع ولهن عمات، هل عمات أخواتي من الرضاع عمات لي أم لا؟ وهل يحرمن علي مثل ما يحرمن علي بالنسب؟ أفيدونا أفادكم الله؟ (1)
ج: إذا كنت أخا لهن من الأب أو من الأبوين من الرضاعة فعماتهن عمات لك لأنهن أخوات أبيك من الرضاعة، فلا يجوز لك نكاحهن كالعمات من النسب، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (2) » . إلا أن يكن عمات لأخواتك من أب لهن من الرضاع وليس أبا لك، لأنهن ارتضعن من امرأة لم ترتضع منها، فإنهن يكن أجنبيات منك ولا حرج في نكاحك إحداهن، لأنهن لسن عمات لك وإنما هن عمات لأخواتك، لكونهن أخوات لأبيهن من الرضاع غير أبيك. وبالله التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، من جمع محمد المسند، ج 3 ص 337.
(2) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/339) .(22/299)
184 - بيان المحرمات بالرضاع
س: الرضاع يحرم الزواج من المرتضعين، لكن هل يمنع الزواج من جميع الإخوة من الجهتين؟ نرجو الإيضاح جزاكم الله خيرا (1) .
ج: إذا ارتضع إنسان من امرأة رضاعا شرعيا يحصل به التحريم وهو أن يكون خمس رضعات أو أكثر حال كون الرضيع في الحولين فإنها تحرم عليه المرضعة وأمهاتها وأخواتها وعماتها وخالاتها وبناتها وبنات بنيها وبنات بناتها وإن نزلن سواء كن من زوج أو أزواج، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (2) » .
لكن لا يحرم على إخوته الذين لم يرتضعوا من المرأة التي أرضعته نكاح بناتها، لأنها ليست أما لهم، لكونها لم ترضعهم وإنما أرضعت أخاهم، ولا يحرم على أبنائها نكاح أخوات المرتضع منها، لأنهن لسن بنات لها، ولسن أخوات لأبنائها لعدم الرضاعة، وجميع ما ذكرنا يتضح من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (3) » . متفق على صحته، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، من جمع محمد المسند، ج 3 ص 340.
(2) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/339) .
(3) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/339) .(22/300)
185 - جميع أولاد مرضعتك إخوة لك من جميع أزواجها
س: رضعت من امرأة مع أحد أبنائها، ثم توفي زوجها فأكملت العدة وتزوجت من رجل آخر، وأنجبت منه أبناء، فهل أبناؤها من الرجل الأخير إخوان لي؟ (1) .
ج: إذا كان الواقع كما ذكر في السؤال وكنت قد رضعت منها خمس رضعات أو أكثر حال كونك في الحولين فأولادها من الزوج الأول إخوة لك من أبيك وأمك من الرضاعة، وأولادها من الزوج الثاني إخوة لك من الأم فقط من الرضاعة، لقول الله سبحانه لما ذكر المحرمات في سورة النساء في قوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} (2) ثم قال بعد ذلك: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (3) ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (4) » . متفق على صحته.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، من جمع محمد المسند، ج 3 ص 341.
(2) سورة النساء الآية 23
(3) سورة النساء الآية 23
(4) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/339) .(22/301)
186 - من رضعت من أمك تكون أختا لك ولجميع إخوتك
س: لي بنت عم أرغب الزواج بها، لكن اتضح لي أنها رضعت مع أخي الذي هو أصغر من الأخ الذي يليني، وقد رضعت أكثر من خمس رضعات وهو كذلك، فما حكم الدين في هذا الموضوع هل تحل لي أما لا؟ (1)
ج: إذا كانت البنت المذكورة رضعت من أمك خمس رضعات أو أكثر حال كونها في الحولين، فإنها تكون أختا لك ولجميع إخوتك من أبيك وأمك إذا كان رضاعها حال كون أمك مع أبيك، فإن كانت تحت زوج آخر غير أبيك فهي تكون أختا لك من أمك من الرضاع ولجميع أولادها من جميع أزواجها، لقول الله سبحانه في بيان المحرمات من سورة النساء: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (2) ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب (3) » . متفق على صحته.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 3 ص 326.
(2) سورة النساء الآية 23
(3) صحيح البخاري تفسير القرآن (4796) ، صحيح مسلم الرضاع (1445) ، سنن النسائي النكاح (3313) .(22/302)
187 - حكم من رضعت من امرأة لم تتزوج
س: زوجتي رضعت وهي صغيرة من خالتي لمدة سنتين وخالتها في ذلك الوقت غير متزوجة وهي بنت بكر، ثم تزوجت هذه الخالة وأصبحت أما لعشرة، هل تعتبر الخالة أما من الرضاعة لزوجتي؟ إذا كان الجواب بنعم هل تتحجب زوجتي عن أبناء خالتها لأنها أمها من الرضاعة، وبنات الخالة هل يتحجبن على أخوات زوجتي أو لا؟ (1)
ج: الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه وبعد: فإذا كانت خالتك درت عليها لبنا واضحا وأرضعتها فإنها تكون أما لها أما لزوجتك إذا كانت درت عليها لبنا ولو كانت ما تزوجت إذا كانت أرضعتها في الحولين الأولين من عمرها خمس رضعات فأكثر، فإنها تكون أما لها وتكون زوجتك أختا لأبناء خالتك أختا لجميع أولادها ذكورهم وإناثهم، لأنها صارت أما من الرضاعة فأولادها إخوة لزوجتك جميعهم.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407 هـ الشريط رقم 7.(22/303)
188 - إذا توفيت الرضيعة انتهى حكمها معها
س: زوجة أخي أرضعت لي بنتا وتوفيت البنت، وبعد ذلك رزقت بأولاد أنا وأخي هل يصح الزواج بينهم؟ (1)
ج: ما دام أن الرضيعة ماتت ذهب حكمها معها والباقون على حالهم مباح لأولادك أن يتزوجوا من بنات أخيك إذا لم يحصل رضاع، أما التي رضعت وماتت انتهى حكمها معها.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1415هـ الشريط رقم 49 \ 6.(22/304)
189 - أخوك الذي رضع من زوجتك أنت أبوه وزوجته محرم لك
س: أخي من الأب رضع من زوجتي رضاعا كاملا أكثر من سنة، فهل يجوز لي أن أسلم على زوجة هذا الأخ؟ (1)
ج: بسم الله والحمد لله. هذا الأخ يكون أخاك وابنك من الرضاع حين أرضعته زوجتك خمس رضعات أو أكثر في الحولين، فهو أخوك من النسب وابنك من الرضاع وزوجته محرم لك؛ لأنك أبوه من الرضاع، والسلام على زوجة ابنك لا حرج فيه، لأنك محرم لها.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة بتاريخ 7 \ 1 \ 1415هـ.(22/304)
190 - أولاد أبيك من الرضاع من زوجته الثانية التي لم ترضع منها إخوة لك
س: رضعت من امرأة ثم تزوج زوجها من أخرى، وأنجبت زوجته أبناء، فهل هم إخوة لي؟ (1)
ج: إذا كان الرضاع خمس رضعات فأكثر وكان اللبن منسوبا للزوج لكونها أنجبت منه فهم إخوة لك من أبيك وأمك من الرضاع، وأما أولاده من الزوجة الثانية فهم إخوة لك من أبيك من الرضاع.
والرضعة هي أن يمسك الطفل الثدي ويمص اللبن حتى يصل إلى جوفه ثم يترك الثدي لأي سبب من الأسباب ثم يعود ويمص الثدي حتى يصل اللبن إلى جوفه، ثم يترك الرضاع ثم يعود وهكذا حتى يكمل الخمس أو أكثر سواء كان ذلك في مجلس أو مجالس، وسواء كان ذلك في يوم أو أيام بشرط أن يكون ذلك حال كون الطفل في الحولين، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا رضاع إلا في الحولين (2) » . ولقوله - صلى الله عليه وسلم -، لسهلة بنت سهيل: «أرضعي سالما خمس رضعات تحرمي عليه (3) »
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند، ج 3 ص 323.
(2) موطأ مالك الرضاع (1290) .
(3) صحيح مسلم الرضاع (1453) ، سنن النسائي النكاح (3323) ، سنن أبو داود كتاب النكاح (2061) ، سنن ابن ماجه كتاب النكاح (1943) ، مسند أحمد بن حنبل (6/228) ، موطأ مالك كتاب الرضاع (1288) ، سنن الدارمي كتاب النكاح (2257) .(22/305)
ولما ثبت في صحيح مسلم وجامع الترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأمر على ذلك (1) » . وهذا لفظ رواية الترمذي. وفق الله الجميع لما يرضيه.
__________
(1) صحيح مسلم الرضاع (1452) ، سنن النسائي النكاح (3307) ، سنن أبو داود النكاح (2062) ، موطأ مالك الرضاع (1293) ، سنن الدارمي النكاح (2253) .(22/306)
191 - الرضاع من الجدة
س: ابني رضع من جدته لأمه وطبعا صار أخا من الرضاعة لخالاته وأخواله، فهل يجوز له أن يتزوج من بنات خالاته أو بنات أخواله؟ (1)
ج: إذا كان الطفل المذكور ارتضع من جدته لأمه خمس رضعات أو أكثر حال كونه في الحولين صار بذلك أخا لأخواله وخالاته وعما لأولاد أخواله وخالا لأولاد خالاته فلا يجوز له أن يتزوج من بنات أخواله، لأنه صار عما لهن من الرضاع ولا من بنات خالاته لأنه صار خالا لهن من الرضاع ما تناسلوا. وبالله التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند، ج 3 ص 323.(22/306)
192 - من رضع مع أخت زوجتك فهو خال لأبنائك وبناتك
س: لي زوجة ولي منها ثماني بنات، ولها أخت أصغر منها بخمس عشرة سنة وقد رضع من أمها شخص فصار أخا لها، ولكن مشكلتي أن بناتي يقلن إنه خالهن من الرضاع ويكشفن له الحجاب، وأنا أنهاهن عن ذلك وهن يرفضن، فأرجو الإفادة جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: إذا كان الرجل المذكور قد ارتضع من أم زوجتك أو من زوجة أبيها حال كونها في عصمة أبيها خمس رضعات أو أكثر حال كونه في الحولين، فإنه يكون خالا لبناتك من الرضاعة، ويحل لهن الكشف له كسائر المحارم والخلوة به. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (2) » . متفق على صحته، وهذا ما لم تكن هناك ريبة تمنع من الخلوة بإحداهن.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند، ج 3 ص 324.
(2) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/339) .(22/307)
193 - والد أخيك من الرضاع ليس محرما لك
س: أختي الصغرى رضعت من أختي الكبرى مع ولدها وابني رضع من أختي الكبرى أيضا، فهل يجوز لوالد ابني- أي زوجي- أن يكون محرما لأختي الصغرى والكبرى وبالتالي يكشفان له؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: ليس لأختيك الصغرى والكبرى الكشف لزوجك من أجل رضاع ابنكما من أختك الكبرى، وإنما يكون زوج أختك الذي أرضعت ابنك من لبنها أبا له من الرضاع ومحرما لزوجة هذا الولد لكونها زوجة ابنه من الرضاع، بشرط أن يكون الرضاع خمس رضعات أو أكثر في الحولين لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (2) » متفق على صحته.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند، ج 3 ص 324.
(2) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/339) .(22/308)
باب نفقة الأقارب(22/309)
صفحة فارغة(22/310)
194 - حكم أخذ المرأة من مال زوجها دون إذنه
س: زوجي لا يعطيني مصروفا، لا أنا ولا أبنائي، ونحن نأخذ من عنده أحيانا بدون علمه، فهل علينا ذنب؟ (1)
ج: يجوز للمرأة أن تأخذ من مال زوجها بغير علمه ما تحتاج إليه هي وأولادها القاصرون بالمعروف، من غير إسراف، ولا تبذير، إذا كان لا يعطيها كفايتها، لما ثبت في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - «أن هند بنت عتبة - رضي الله عنها - قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان لا يعطيني ما يكفيني، ويكفي بني، فقال - صلى الله عليه وسلم -: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك (2) » والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في جريدة العالم الإسلامي الصادرة عن رابطة العالم الإسلامي بتاريخ 13 \ 7 \ 1419 هـ.
(2) أخرجه البخاري برقم 2059 كتاب بالبيوع، باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم، ومسلم برقم 3233 كتاب الأقضية، باب قضية هند.(22/311)
195 - إذا امتنع الأب من النفقة فالأم تنفق على أولادها من مال زوجها دون علمه
س: إذا امتنع الأب من النفقة على الابن، فهل للأم أن تعطيه من زكاة مالها أم لا؟ وفقكم الله. (1)
ج: الواجب على الأب أن ينفق على ابنه، إذا كان الابن ليس له أسباب، وليس عنده قدرة، فإذا لم ينفق الزوج، فالزوجة تنفق على أولادها من مال الأب، ولو من غير علمه، «قالت هند بنت عتبة: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، هل علي من جناح إذا أخذت من ماله من غير علمه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا حرج، خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك (2) » .
فإذا كان الأب بخيلا، فإن الزوجة تأخذ من ماله بغير علمه ما يكفيها ويكفي أولادها، أما الابن الذي عنده قوة وقدرة على
__________
(1) سؤال شخصي أجاب عنه سماحته بتاريخ 4 \ 6 \ 1419هـ
(2) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6641) ، صحيح مسلم الأقضية (1714) ، سنن النسائي آداب القضاة (5420) ، سنن أبو داود البيوع (3533) ، سنن ابن ماجه التجارات (2293) ، مسند أحمد بن حنبل (6/225) ، سنن الدارمي النكاح (2259) .(22/312)
العمل، أو عنده مال يكفيه، فإنه ينفق على نفسه من ماله، وليس على أبيه شيء، أما إذا كان فقيرا ليس عنده أسباب، فالواجب على أبيه أن ينفق عليه، وعلى أمه أن تنفق من مال أبيه، إذا كان شحيحا، ولو من غير علمه.(22/313)
196 - الأب البخيل يؤخذ من ماله بالمعروف
س: هل يجوز للأولاد أن يأخذوا من مال أبيهم دون علمه؟ (1)
ج: ليس للأولاد أن يأخذوا من مال أبيهم من غير علمه إلا ما تدعو له الحاجة المعروفة لأمثالهم إذا بخل بذلك، وكانوا عاجزين عن النفقة على أنفسهم من أموالهم، ولم ينفق عليهم النفقة الواجبة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان بن حرب - رضي الله عنهما - لما اشتكت إليه - صلى الله عليه وسلم - قائلة «إن أبا سفيان لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذته من ماله بغير علمه (2) » فأجابها - صلى الله
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1540 في 22 \ 12 \ 1416هـ.
(2) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6641) ، صحيح مسلم الأقضية (1714) ، سنن النسائي آداب القضاة (5420) ، سنن أبو داود البيوع (3533) ، سنن ابن ماجه التجارات (2293) ، مسند أحمد بن حنبل (6/225) ، سنن الدارمي النكاح (2259) .(22/313)
عليه وسلم - بقوله: «خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك (1) » متفق على صحته. ومعنى بالمعروف، يعني الشيء المتعارف في نفقة مثلهم، من غير إسراف ولا تبذير.
__________
(1) حديث أخرجه البخاري برقم 2059 كتاب البيوع، ومسلم برقم 3233، كتاب الأقضية.(22/314)
197 - ليس للزوجة الاعتراض على زوجها فيما يأخذه من أبنائه
س: لي قريب أصيب بعدة أمراض مزمنة، ولا يستطيع العمل، وعنده أولاد، منهم أربعة يعملون، ويساعدون والدهم في معيشته، إلا أن زوجته تقول لزوجها: لا يحق لك أن تأخذ من الأولاد شيئا، وأن نفقتها تجب على الزوج، وتطلب من زوجها الخروج بدون إذنه، وتعمل ما تشاء، وسبق لها أن طلبت الطلاق، وقالت لزوجها (إنه محرم عليها كما تحرم أمه عليه) (1)
ج: الواجب على الزوجة المذكورة السمع والطاعة
__________
(1) نشر في مجلة البحوث الإسلامية العدد 24 لعام 1409هـ.(22/314)
لزوجها في المعروف، وليس لها الخروج إلا بإذنه، إذا كان قائما بحقها من نفقة وكسوة، وليس لها الاعتراض عليه فيما يأخذه من أبنائه. أما تحريمها له فعليها في ذلك كفارة يمين، مع التوبة إلى الله سبحانه، وكفارة اليمين إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، لكل واحد نصف صاع من قوت البلد من تمر، أو أرز، وغيرهما، أو كسوة تجزئه في الصلاة. أما طلبها الطلاق فهذا ينظر في سببه، والنظر في ذلك يكون للمحكمة، وفيما تراه المحكمة الكفاية إن شاء الله، وفق الله الجميع لما يرضيه، والسلام.(22/315)
صفحة فارغة(22/316)
باب الحضانة(22/317)
صفحة فارغة(22/318)
198 - الأولى بالحضانة
س: هل من فقد من أهل الحضانة يتولى من بعده ما يتولى مطلقا؟
الجواب: نعم إذا فقد مستحق الحضانة أو قام به مانع قام من يليه من أهل الحضانة في المرتبة مقامه وتولى ما يتولى، صرح بذلك بعض الفقهاء، قال في الشرح الكبير فصل، فإن كان الأب معدوما أو من غير أهل الحضانة وحضر غيره من العصبات كالأخ والعم وابنه قام مقام الأب فيخير الإمام بينه وبين أمه؛ لأن عليا - رضي الله عنه - خير عمارة الخرمي بين أمه وعمه، لأنه عصبته فأشبه الأب، وكذلك إن كانت الأم معدومة أو من غير أهل الحضانة فحضنته الجدة، خير الغلام بينها وبين أبيه أو من يقوم مقامه من العصبات، فإن كان الأبوان معدومين، أو من غير أهل الحضانة فسلم إلى امرأة كأخته، أو عمته، أو خالته قامت مقام(22/319)
أمه في التخيير بينها وبين عصباته للمعنى المذكور في الأبوين انتهى. وذكر في شرح الإقناع والمنتهى نحو ما ذكر الشارح رحمهم الله.(22/320)
199 - حكم إرغام البنت الرشيدة بالعيش أو السفر مع أحد من محارمها
س: هل إذا أراد بعض أهل الحضانة كالعم السفر بالأنثى الرشيدة قبل الزواج وهي عند محارمها من ذوي الأرحام وأبت تجبر على ذلك؟
الجواب: إذا كانت البنت رشيدة جاز لها المقام عند من شاءت من محارمها ولا يلزمها السفر مع العم ولا غيره من محارمها والحالة هذه إلا باختيارها، لأنها بالغة رشيدة، فصار الأمر إليها في ذلك وهذا واضح في كلام كثير من الفقهاء - رحمهم الله -، وإنما الخلاف في غير الرشيدة. والله أعلم.(22/320)
200 - حكم التصرف في مال اليتيم
س: إذا كان عند رجل يتيم، وله مال، والرجل قائم بمصالح اليتيم، فهل يجوز له التصرف في ماله، مع العلم أن رأس مال اليتيم محفوظ، وسيرجع إليه؟ (1) .
ج: قد أمر الله سبحانه وتعالى بالإصلاح لليتامى، ونهى عن قربان أموالهم إلا بالتي هي أحسن، فقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (2) وقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (3) فالواجب على ولي اليتيم أن يعمل بمقتضى هاتين الآيتين، وذلك هو الإصلاح في أموال اليتامى، وبذل الجهد في تنميتها، وتكثيرها، وحفظها، إما بالتجارة فيها، أو بدفعها إلى ثقة يتجر فيها بجزء مشاع من الربح، كالنصف ونحوه، حسب المتعارف عليه في بلد المعاملة، وإذا تبرع بجميع الربح لليتيم فذلك خير وأفضل، أما تصرف ولي اليتيم في أموال اليتيم في مصلحة الولي، وقضاء حاجاته،
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند، ج 4 ص 351
(2) سورة البقرة الآية 220
(3) سورة الأنعام الآية 152(22/321)
وتنمية تجارته، ونحو ذلك، فالظاهر أن ذلك لا يجوز، لأن ذلك ليس من الإصلاح لليتيم، وليس من قربانها بالتي هي أحسن، أما إذا أنفقها ليحفظها لليتيم، بنية القرض، لكونه يخاف عليها إذا بقيت من التلف، أو السرقة، ونحو ذلك، ولم يجد ثقة يعمل في مال اليتيم، فهذا والحالة هذه، يعتبر من الإصلاح، والحفظ لمال اليتيم، إذا كان الولي مليئا، ليس على مال اليتيم خطر في بقائه في ذمته، والخلاصة أن الواجب على ولي اليتيم هو عمل الأصلح لليتيم، والله سبحانه هو الذي يعلم المفسد من المصلح، يجازي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ونسأله أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه.(22/322)
201 - حضانة الأولاد متعلقة بالمحكمة
س: طلقت زوجتي، وعندي منها بنت وولد، وأخذت أنا الولد، والبنت موجودة عندها، فمتى يحق لي أخذ الأولاد؟ (1) .
ج: هذا الموضوع يتعلق بالمحكمة، وفيما تراه المحكمة الكفاية إن شاء الله. وفق الله الجميع.
__________
(1) صدرت من سماحته بتاريخ 23 \ 3 \ 1419هـ(22/322)
202 - حضانة اليتيم
س: يتيم توفي أهله وقمنا برعايته وحفظه، وحيث له أعمام، ومن يريد الخير، ويعطونه فلوسا، وممكن تدخل علينا مع العلم بأن الذي يدخل عليه أكثر من ذلك، ونعتبره واحدا من عيالنا، أفيدونا عن ذلك، جزاكم الله خيرا (1) .
ج: لا حرج عليكم في أخذ ما يدفع إليه من الصدقات، إذا كانت مثل نفقتكم عليه، أو أقل، أما ما زاد على ذلك فعليكم أن تحفظوه له. وأبشروا بالأجر الجزيل على حضانته، والإحسان إليه.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 872، صفر 1403هـ. وفي جريدة الرياض العدد 10917، وتاريخ 19 \ 1 \ 1419 هـ(22/323)
صفحة فارغة(22/324)
كتاب الجنايات(22/325)
صفحة فارغة(22/326)
203 - الأصل براءة الذمة
س: امرأة نامت وبجوارها طفلتها، وبعد اليقظة وجدتها ميتة، فماذا عليها؟ (1) .
الجواب: إذا كانت لم تتيقن أنها ماتت بسببها فليس عليها شيء؛ لأن الأصل براءة الذمة من الواجبات، ولا يجوز أن تشغل إلا بحجة لا شك فيها، أما إن تيقنت موتها بسببها فعليها الدية والكفارة، لأن هذا القتل في حكم الخطأ، والواجب في ذلك عتق رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، أما الإطعام فليس له دخل في كفارة القتل.
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة(22/327)
204 - تجب الكفارة والدية في القتل الخطأ على المتسبب بالموت
س: زوجتي توفي طفلها، وكان يلعب مع إخوانه، ورجع عليه راعي سيارة ودهسه وهو واحد من الجماعة، وتقول: أسأل الشيخ هل عليها شيء؟ (1) .
ج: لا شيء عليها، وإنما على الذي دهسه.
__________
(1) من فتاوى أسئلة الحج لعام 1407هـ الشريط الخامس(22/327)
205 - حكم من تسببت في قتل جنينها
س: أنا لدي عدد من الأبناء والبنات ولله الحمد وحملت بعد ذلك، ولا كنت أرغب في ذلك الحمل؛ لأنني مسئولة عن بيت كبير، بالإضافة إلى تربية المواشي، ولا أحد يساعدني، فرغبت أن أسقطه، وكنت أضغط ببطني على الجدار، وبعد مضي خمسة أشهر تقريبا على ذلك الحمل سقط مني، وبعد معاينته اتضح لي بأن ليس فيه حياة أبدا، وإنما عبارة عن لحمة ميتة، ولم يتخلق فيه إلا شيء بسيط من الجمجمة. علما بأنني لم أحس أبدا بأنه تحرك في بطني أثناء الحمل. وأسألك يا شيخ حفظك الله ما هي الفتوى في ذلك؟ جزاكم الله عني خير الجزاء. والسلام عليكم (1) .
ج: وعليكم السلام: إذا كان الواقع هو ما ذكرت فليس عليك إلا التوبة إلى الله سبحانه والندم، وفق الله الجميع والسلام.
__________
(1) استفتاء شخصي من السائلة ح. ص. ق. أجاب عليه سماحته في 22 \ 5 \ 1419هـ(22/328)
206 - حكم من شربت شرابا وتسبب في سقوط جنينها
س: لقد كانت زوجتي حاملا في شهرها الخامس، وحدث لها ألم بالظهر، ووصفت لها إحدى أقاربها أن تشرب الخل، ليزيل الألم وبعد شراب الخل نزل الجنين في الحال، فهل على زوجتي إثم. وإذا كان عليها، فما الحكم، أم أن الإثم على من وصفت لها هذه الوصفة؟ (1) .
الجواب: يسأل الأطباء المختصون عن هذا الشيء، فإذا كانوا يرون أن شرب الخل يسقط الجنين، فهذا حكمه حكم القتل خطأ، فعليها الدية والكفارة، وهي مخطئة حينما أخذت الوصف بغير معرفة طبيب مؤتمن، وأما إن كان لا يضر الجنين بمعرفة الأطباء المختصين، فإنه لا يكون عليها شيء؛ لأنه قدر من الله بدون سبب منها.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة- العدد 1566 في 26 جمادى الآخرة 1417 هـ(22/329)
207 - حرمة دم المسلم وماله
س: السائل يرجو شرح هذا الحديث، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله (1) » (2) .
ج: هذا الحديث صحيح رواه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله (3) » .
وهذا على ظاهره، فإن من أتى بالشهادتين وهو لا يأتي بها قبل ذلك، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، فإنه يعتبر مسلما
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .
(2) من برنامج نور على الدرب
(3) أخرجه البخاري برقم (24) كتاب الإيمان. ومسلم برقم (33) كتاب الإيمان(22/330)
حرام الدم والمال، إلا بحق الإسلام يعني: إلا بما يوجبه الإسلام عليه بعد ذلك، كأن يزني فيقام عليه حد الزنا، إن كان بكرا فبالجلد والتغريب، وإن كان ثيبا فبالرجم الذي ينهي حياته، وهكذا بقية أمور الإسلام، يطالب بها هذا الذي أسلم، وشهد هذه الشهادة وأقام الصلاة وآتى الزكاة، فيطالب بحقوق الإسلام وهو معصوم الدم والمال، إلا أن يأتي بناقض من نواقض الإسلام، أو بشيء يوجب الحد عليه، وهكذا قوله في الحديث الآخر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله (1) » .
هذا الحديث مثل ذلك الحديث من أتى بالتوحيد والإيمان بالرسالة فقد دخل في الإسلام، ثم يطالب بحق الإسلام، فيطالب بالصلاة والزكاة والصيام والحج، وغير ذلك، فإن أدى ما أوجب الله عليه فهو مسلم حقا، وإن امتنع عن شيء أخذ بحق الله فيه وأجبر وألزم بحقوق الله التي أوجبها على عباده، وهذا هو الواجب على جميع من دخل في دين الإسلام أن يلتزم بحق الإسلام فإن لم يلتزم أخذ بحق الإسلام.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2946) ، صحيح مسلم الإيمان (21) ، سنن الترمذي الإيمان (2606) ، سنن النسائي تحريم الدم (3971) ، سنن أبو داود الجهاد (2640) ، سنن ابن ماجه الفتن (3928) ، مسند أحمد بن حنبل (1/11) .(22/331)
208 - هل القتل العمد يجب فيه عتق رقبة
سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز
حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أتقدم إلى سماحتكم بهذا السؤال وأرجو من الله ثم منكم الإجابة عليه - حفظكم الله - وهو كما يلي:
حيث إن والدي كان قبل أكثر من مائة عام يعمل، وحصل أن بدويا قتل ابن عمه ثم قام والدي مع ابن عمه الثاني في الترصد له، وقام والدي بقتل هذا البدوي الذي قتل ابن عمه. وبعد أن حضر والدي الموت منذ أكثر من ستين سنة من الآن، اعترف والدي لنا ولإخوتي بهذا الأمر الذي وقع، وأمر أبناءه بإخراج مائة ريال فرنسي لإعتاق رقبة عنه، ولكن ضاع الأمر بين إخوتي، ولا أعلم أنهم أخرجوا ذلك المبلغ أم لا؟ وبعد ذلك كان حجة أحدهم أن المبلغ لا يكفي لإعتاق رقبة، فأرجو من الله ثم منكم التوجيه، لكي لا يلحق ذمة والدي شيء. حفظكم الله ورعاكم.(22/332)
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
إذا كان الواقع هو ما ذكر في السؤال فالقتل المذكور يعتبر عمدا، ولا يجب فيه عتق رقبة، وإنما ذلك في قتل الخطأ وشبه العمد، فإذا رأيت أن تعتقي عنه تبرعا منك ففي ذلك أجر عظيم لك ولأبيك، ونوصيك بكثرة الدعاء لوالدك والصدقة عنه؛ لأن الجريمة عظيمة، نسأل الله أن يعفو عنه وعن كل مسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1) .
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) إجابة لاستفتاء شخصي من الأخت ل. س. ك(22/333)
209 - ما يجب في قتل شبه العمد
س: أمرتني والدتي بعدم طبخ نوع معين من الأعشاب، وأردفت قائلة: إذا طبخت هذه الأعشاب ممكن تسبب لي الوفاة لعدم قدرتي على رائحتها، علما أن هذه الأعشاب مشروعة ومباحة، وبالفعل بعد أن تعشيت أنا ووالدتي من تلك(22/333)
الأعشاب توفيت والدتي بعدها بعدة ساعات، فهل أنا آثمة في ذلك؟ وهل لي يد في وفاتها؟ وهل علي ذنب في ذلك؟ أفيدوني أفادكم الله.
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكرت في السؤال فقد أثمت؛ لأن ذلك من العقوق، والإساءة إليها، وعليك ذنب في ذلك ما دمت تعلمين أن أمك تتأذى به، وأنها نصحتك ونهتك، فأنت مجرمة في هذا العمل عاصية قاطعة للرحم عاقة لوالدتك، وعليك الدية؛ لأن هذا العمل الذي فعلت يعتبر من القتل شبه العمد، وعليك أيضا الكفارة وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن عجزت فصومي شهرين متتابعين ستين يوما، مع التوبة إلى الله عز وجل. نسأل الله لنا ولك قبول التوبة والتوفيق لكل خير.(22/334)
210 - الأصل فيما يقع من المكلف من الجنايات
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ أ. ن. غ. وفقه الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده:
يا محب وصل إلي كتابكم الكريم رقم 920 \ 2 \ 1 وتاريخ 7 \ 11 \ 1389هـ وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من الإفادة عن كثرة قضايا القتل عندكم، وأن قسما منها يدعي أولياء القتيل أنها عمد، ويطالبون بالقصاص، وينكر المدعي عليه أن القتل وقع عمدا، ويعترف بوفاة القتيل بسببه عن طريق الخطأ، ولا توجد بينة تنفي أو تثبت ذلك، وأن بعض الورثة يعفو عن القصاص، ويطالب بالدية، بذلك يسقط عنه القصاص لو ثبت عليه قتل العمد، ويطالب بقية الورثة بدية العمد أو يحلف لهم عن عدم وقوع العمد، ورغبتكم في الإفادة عما إذا كان لهم ذلك كان معلوما (1) .
والجواب: لا يخفى على مثلكم أن الأصل فيما يقع من المكلف من الجنايات هو أنه فعل ذلك عمدا، وإذا ادعى خلاف
__________
(1) صدر من سماحته بتاريخ 25 \ 3 \ 1390هـ(22/335)
ذلك فعليه البينة التي تدل على صدق دعواه، ولو فتح هذا الباب لكل جان يدعي الخطأ لحصل بذلك شر كثير وفساد كبير؛ وبهذا يتضح لفضيلتكم أن القول في مثل هذا الأمر هو قول الورثة، إلا أن يقيم الجاني بينة تدل على صدق دعواه، أو توجد قرائن تشهد له بذلك، أما إذا عفا بعض الورثة، فإنه يسقط القصاص بذلك، كما ذكر فضيلتكم، وكما نص عليه أهل العلم، ويكون للورثة دية العمد ما لم يثبت كون القتل خطأ، أو توجد قرائن تدل على ذلك، أو يرضى المكلفون من الورثة بيمين القاتل على أنه خطأ لا عمد، والصحيح أن القاتل في مثل هذا يحلف؛ لأنه حق آدمي فوجب أن يحلف عليه المدعى عليه إذا طلب المدعي ذلك، لعموم حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «لو يعطى الناس بدعواهم (1) » . . .، هذا ما ظهر لي في هذه المسألة ولكثرة المشاغل، وما في المسألة من الإشكال تأخر الجواب، وقد راجعت بعض المراجع المهمة فلم أجد ما يزيل الإشكال، فإن وجدتم شيئا فأرجو الإفادة به، وأسأل الله سبحانه أن يوفقنا جميعا للفقه في دينه والثبات عليه إنه جواد كريم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (4187) كتاب تفسير القرآن، ومسلم برقم (3228) كتاب الأقضية(22/336)
211 - كفارة موت زوجتك
تتوقف على حالك مع سيارتك
س: قدر الله سبحانه وتعالى علي بحادث انقلاب سيارة كنت أقودها بنفسي، وكانت عائلتي معي في السيارة، وتوفيت زوجتي على أثر انقلاب السيارة، وأنا حدثت لي كسور بليغة، أرجو إفتائي هل علي كفارة صيام أو صدقة، أو خلاف ذلك، لقاء وفاة زوجتي في هذا الحادث؟ (1) .
ج: إذا كنت ما فرطت في سيرك، ولا في شيء من متطلبات سيارتك، وأن الحادث حصل، ووضع سيارتك وصحتك عادي، فلا شيء عليك، لعدم ثبوت تسببك في الحادث، وأما إن كان الواقع تسبب عن شيء مما ذكر فعليك الكفارة، وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم تجد فصيام شهرين متتابعين لقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (2)
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، لمحمد المسند ج 3 ص 358 وفي جريدة المدينة في 1 \ 3 \ 1415هـ
(2) سورة النساء الآية 92(22/337)
إلى قوله-: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (1) ولا يجزئ في ذلك الإطعام، وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة النساء الآية 92(22/338)
212 - الكفارات لا تتوزع
س: وقع حادث اصطدام بين سيارتين، وكان في السيارة المقابلة شخصان توفي أحدهما، ونسبة الخطأ حسب تقرير الشرطة والمرور على صاحب السيارة الأولى 30 بالمائة، وعلى صاحب السيارة الأخرى 70 بالمائة، فبالنسبة للكفارة هل يصوم صاحب السيارة الأولى شهرين كاملين أم حسب نسبة الخطأ كما هو الحال في الدية؟ (1) .
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 3 ص360(22/338)
ج: إذا اشترك اثنان فأكثر، في قتل الخطأ، فعلى كل واحد كفارة مستقلة؛ لأن الكفارات لا تتوزع كما نص عليه أهل العلم.(22/339)
213 - مسألة في قتل الخطأ
س: امرأة لها ابن، عمره سنتان وخرج من المنزل إلى الشارع، فصدمته سيارة أحد أقاربه من غير قصد، فهل يلزم أمه شيء، علما أنها بعد هذه الحادثة متألمة من ذلك الحادث جدا؟ (1)
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكرت في السؤال فليس على أم الطفل شيء، وإنما الدية والكفارة على الذي دهس الطفل، نسأل الله أن يعوض والديه خيرا ويجبر مصيبتها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 3 ص 361.(22/339)
214 - حكم من مات في تصادم سيارته
بسيارة أخرى وكان الخطأ عليه
س: وقع لوالدي وكان يقود سيارة تصادم مع سيارة أخرى، وقد توفي سائق السيارة الأخرى (رحمه الله) ، وقرر المرور بأن نسبة الخطأ كاملة على المتوفى، وقد سمح أهل المتوفى بالدية جزاهم الله خيرا، وأسأل الآن: هل على والدي كفارة صيام شهرين متتابعين أم لا؟ (1)
ج: إذا كان الواقع هو كما ذكرته أيها السائل فليس على أبيك كفارة؛ لأن الخطأ من غيره عليه فلا يسمى قاتلا، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 3 ص 356(22/340)
215 - مسألة في قتل الخطأ
إلى فضيلة الشيخ المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يا فضيلة الشيخ لقد جاء علي أنا وأسرتي حادث في يوم(22/340)
الاثنين الموافق 23 \ 3 \ 1415 هـ مساء على طريق خميس مشيط، وأنا قادم من أحد رفيدة، وعندما أنا متجه من مساري أنا وأسرتي، وفجأة وقع الحادث المروري بيني أنا وشخص آخر كان يقود سيارة، وكان في الاتجاه الثاني في المسار الثاني، وبعد ذلك انقلب في مساري الذي أنا متجه عليه، ثم قطع الجزيرة التي بين الخطين وهو في حالة انقلاب، ثم صدمني أنا وأسرتي ونحن في مسارنا، وقد توفي الشخص بعد ذلك، وقد قرر المرور بعد مشاهدة الحادث أن الخطأ على المتوفى 100% وقد تنازل أهله مني شرعا وتنازلت عنه شرعا، فهل علي صيام حيث أنه لم يكن لي أي ذنب في وقوع الحادث؟ وجزاكم الله خيرا.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
إذا كان الواقع هو ما ذكرت فليس عليك كفارة، وأسأل الله أن يعفو عن الجميع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1) .
مفتي عام المملكة العربية السعودية
__________
(1) استفتاء شخصي من م. م. س. ق. وأجاب عنه سماحته في 24 \ 5 \ 1415هـ(22/341)
216 - بيان الواجب في قتل الخطأ وشبه العمد
س: رجل عليه كفارة قتل الخطأ، وعزم على صيام شهرين متتابعين وصام أربعة أيام منها، وذكر له عتق رقبة وأعتقها، وعند ذلك توقف عن الصيام، فهل عليه شيء في ذلك؟ جزاكم الله خيرا (1) .
ج: الواجب في قتل الخطأ وشبه العمد هو إعتاق رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين لقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (2) - إلى أن قال سبحانه-: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (3)
وإذا شرع في الصيام ثم وجد رقبة فأعتقها كفاه ذلك، ولا شيء عليه، وليس عليه إتمام في الصيام، والله ولي التوفيق.
__________
(1) استفتاء شخصي من خ. م. ن. من الرياض أجاب عليه سماحته في 29 \ 2 \ 1419 هـ.
(2) سورة النساء الآية 92
(3) سورة النساء الآية 92(22/342)
217 - ما معنى تحرير رقبة
س: تحرير الرقبة أصبح موضع إشكال لبعض الناس، فهم لا يعلمون معناه ربما لأنهم لم يروا ذلك على الطبيعة، وهنا أخ يسأل عن تحرير الرقبة خاصة، وإننا نسمع عن كثير من الكفارات تقول بتحرير رقبة، ولا ندري ما هي الرقبة؟ هل هي إنسان محكوم عليه بالقتل ثم يعفى عنه؟ أو أنه من الحيوانات؟ (1) .
ج: تحرير الرقبة المراد به: عتق المملوك من الذكور والإناث، فقد شرع الله سبحانه وتعالى لعباده إذا جاهدوا أعداء الإسلام وغلبوهم أن تكون ذرياتهم ونساؤهم أرقاء مماليك للمسلمين، يستخدمونهم، وينتفعون بهم، ويبيعونهم، ويتصرفون فيهم، وكذلك الأسرى إذا أسروا منهم أسرى، وولي الأمر له الخيار، إن شاء قتل الأسرى، وإن شاء أعتق الأسرى إذا رأى مصلحة في ذلك أطلقهم، وإن شاء استرقهم فجعلهم غنيمة، وإن شاء قتلهم إذا رأى مصلحة في القتل، وإن شاء يفدي بهم، إذا كان عند الكفار أسرى للمسلمين، فيأخذ من المشركين الأسرى، المسلمين، ويعطيهم أسراهم أي تبادل الأسرى، أو يأخذ منهم
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 3 ص 365(22/343)
أموالا لفك أسراهم، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فقد كان عنده صلى الله عليه وسلم أسرى، قتل بعضهم، وفدى بعضهم، وكان من جملتهم النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط فقتلهما بعد انتهاء الوقعة، والبقية فدى بهم وأمر المسلمين أن يفدوا بهم، ويأخذوا الفدو من المشركين في مقابل ترك أسراهم، ومنهم من عفا عنه عليه الصلاة والسلام، فالعفو جائز لولي الأمر إذا رأى مصلحة، وجائز له القتل إذا رأى مصلحة، وجائز له الاسترقاق إذا رأى مصلحة، وجائز له الفدو.
هذه هي الرقاب المملوكة التي يملكها المسلمون عند غلبتهم لعدوهم، هؤلاء يكونون أرقاء للمسلمين، وبعد ذلك يكون لصاحب المسترق الخيار إن شاء استخدمه بحاجاته، وإن شاء باعه، وانتفع بثمنه، وإن شاء أعتقه لوجه الله عز وجل وهو عمل تطوعي، أو أعتقه بكفارة ككفارة القتل، أو كفارة الوطء في رمضان، أو كفارة الظهار، أو كفارة اليمين، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أي امرئ مسلم أعتق امرءا مسلما أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار (1) » (2) .
__________
(1) صحيح البخاري كفارات الأيمان (6715) ، صحيح مسلم العتق (1509) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1541) ، مسند أحمد بن حنبل (2/420) .
(2) أخرجه البخاري برقم (2333) كتاب العتق، ومسلم برقم (2776) كتاب العتق(22/344)
218 - مجموعة أسئلة في الجنايات والكفارات
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخت في الله ع. أ. وفقها الله وزادها من العلم والإيمان آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد (1) :
فقد وصلني كتابك المؤرخ في 7 \ 4 \ 1994م وصلك الله بهداه وجعلنا وإياك من عباده الصالحين، وحزبه المفلحين، وقد سرني وصول الكتب إليك فالحمد لله، وما تضمنه من الأسئلة كان معلوما، وإليك جوابها:
س1: امرأة في المستشفى بنتها مريضة مرضا خطيرا، وهي لها نصف رئة فقط، والنصف الآخر تلاشى، ورجلاها منتفختان ومغمضة العينين، وذهبت أمها إلى فناء المستشفى لتحضر لها ملابسها لمدة خمس دقائق، فعندما رجعت وجدتها سقطت على الأرض من فوق السرير، وبعد عشر دقائق من السقوط ماتت. فأمها تقول: هل أنا لي ذنب عليها أم ماذا تفعل؟
__________
(1) صدرت هذه الأجوبة برقم 1553 \ 1 في 25 \ 12 \ 1414هـ.(22/345)
ج: ليس على والدة الميتة المريضة شيء؛ لأنها لم تفعل ما يسبب موتها والأصل براءة الذمة.(22/346)
س2: امرأة قتلت قطة بدون قصد، وهي تسأل هل هي مذنبة في قتلها، وهي تبحث وتريد الإجابة، هل روحها تلزمها، وماذا تفعل هذه المرأة؟
ج: لا حرج على من قتلت القطة إذا كانت لم تتعمد ذلك، أما إن كانت قد تعمدت ذلك من دون سبب يوجب ذلك، فعليها التوبة إلى الله من ذلك، أما إن كانت قتلتها لأذاها، وعدم السلامة من شرها إلا بذلك العمل، فليس عليها حرج.(22/346)
س3: امرأة تضع الحمل، ولم يجدوا القابلة، وقالوا لامرأة كانت عندها بأن تقابلها، وهي لا تعرف وتقدمت وسقط الطفل وحده، وأخذته هذه المرأة ودفأته، وكان هذا في فصل الشتاء، وكانت الولادة في البيت، وبعد أسبوع قال لهم الطبيب: عنده برد ومات، فهذه المرأة تسأل هل عليها شيء وماذا تفعل؟
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكر في السؤال فليس على القابلة شيء؛ لأنها فعلت ما ترى فيه المصلحة من التدفئة، والأصل براءة الذمة.(22/346)
س4: إذا دهس رجل شخصا بسيارته دون قصد فمات فماذا عليه؟
ج: إذا كان الموت بسبب حادث السيارة حصل عن سرعة أو نوم أو نحو ذلك، فعلى السائق الدية والكفارة، وتكون الدية على العاقلة وهم العصبة.
أما إذا كان الحادث ليس للسائق فيه تسبب بوجه من الوجوه فلا ضمان عليه، كما لو عثرت الدابة بصاحبها ورديفه وسقط الرديف ومات وليس للسائق سبب في عثرتها، ومتى وجد نزاع بين صاحب السيارة وورثة الميت فالمرجع في ذلك المحكمة الشرعية.(22/347)
س5: امرأة تضع الحمل، وذهب زوجها لإحضار القابلة في الليل وهي وحدها في البيت، فوضعت الحمل فوجدها وهي تنظر إلى الولد، ولكن هي خائفة إذا حملت الولد تموت؛ لأن المشيمة لم تسقط وبعد خمس دقائق مات الولد في السحور وهذه المرأة تسأل هل تلزمها روحه أم لا؟
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكر في السؤال فليس على المرأة والدة الطفل شيء، لكونها لم تفعل ما يسبب موته.(22/347)
س6: المرأة التي ترقد على ابنها فيموت، هل تلزمها روحه، وماذا تفعل؟
ج: إذا كان موته بأسباب رقودها عليه فعليها الكفارة والدية على العصبة لقول الله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (1) الآية، والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة
__________
(1) سورة النساء الآية 92(22/348)
219 - كسر عظم الميت لا يوجب القصاص
س: هل يوجب كسر عظم الميت القصاص؟ (1)
ج: لا يوجب القصاص، وإنما القصاص بين الأحياء بشروطه.
__________
(1) نشر في كتاب أحكام الجنائز من إعداد الجمعية الخيرية بشقراء(22/348)
220 - تشريح الميت
س: لاحظت أنه يوجد في كلية الطب في القاهرة مكان لتشريح الإنسان مجموعة من الأموات، رجال ونساء وأطفال في المشرحة، لتشريح وتقطيع أجزائهم وذلك للعلم العملي، فهل يجوز مثل ذلك شرعا للضرورة، وخصوصا تشريح الرجل لأجزاء المرأة، والمرأة لأجزاء الرجل، وهل يجوز تقطيع أجزاء وأعضاء الإنسان؟ (1)
ج: إذا كان الميت معصوما في حياته سواء كان مسلما أو كافرا، وسواء كان رجلا أو امرأة، فإنه لا يجوز تشريحه، لما في ذلك من الإساءة إليه وانتهاك حرمته، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كسر عظم الميت ككسره حيا (2) » ، أما إذا كان غير معصوم كالمرتد والحربي
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة العدد الثالث- السنة السابعة عام 1395هـ
(2) أخرجه أبو داود برقم (2792) كتاب الجنائز، وابن ماجه برقم (1605) كتاب: ما جاء في الجنائز باب النهي عن كسر عظام الميت، وأحمد برقم (23172) .(22/349)
فلا أعلم حرجا في تشريحه للمصلحة الطبية، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
رئيس الجامعة الإسلامية(22/350)
كتاب الديات(22/351)
صفحة فارغة(22/352)
221 - ما يلزم في قتل الخطأ
صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد (1) :
نرجو من سماحتكم الإجابة على هذه المسألة وفقكم الله، امرأة قتلت ابنتها، وماتت وهي فقيرة، وأوصت ابنتها أن تكفر عنها، إن قدرها الله، وقد ماتت الموصى إليها، ولم تكفر؛ لأنها فقيرة، وأوصت إلى ابنتها أن تكفر عنها إن قدرها الله.
وهذه الأخيرة تسأل هل يلزمها شيء علما بأنه لا يوجد من ورثة المقتولة أحد، ولم تترك أمها ولا جدتها شيئا من التركة، ولا تعلم هل القتل عمد أو خطأ، ولكن الظاهر أنه خطأ، والسائلة فقيرة، وفقكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:.
يستحب للبنت المذكورة أن تصوم عن جدتها شهرين إذا كان غالب الظن أن القتل كان خطأ، لا عمدا لقول النبي صلى
__________
(1) سؤال مقدم من السائل ع. أ. ض. أجاب عنه سماحته بتاريخ 22 \ 11 \ 1398 هـ(22/353)
الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه (1) » متفق عليه، وثبت عنه عليه السلام «أن امرأة قالت له: يا رسول الله إن أمي ماتت، وعليها صوم رمضان أفأصوم عنها فقال: صومي عن أمك (2) » أخرجه أحمد (3) بإسناد حسن، فإن لم يتيسر لها الصيام أطعمت ستين مسكينا، لكل مسكين نصف صاع من قوت البلد، من تمر، أو غيره، وهذا في حق الميت، أما القاتل الحي فلا يجزئه إلا العتق، فإن لم يستطع صام شهرين متتابعين ولا يجزئه الإطعام.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم 1816 كتاب الصوم ومسلم برقم 1935.
(2) صحيح البخاري الصوم (1953) ، صحيح مسلم الصيام (1148) ، سنن الترمذي الصوم (716) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3816) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3310) ، سنن ابن ماجه الصيام (1758) ، مسند أحمد بن حنبل (1/224) ، سنن الدارمي الصوم (1768) .
(3) أخرجه أحمد برقم 21954، 21976، 21893.(22/354)
222 - مسألة في الديات
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ع. ع. ق، وفقه الله آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده (1) :
كتابكم المؤرخ 19 \ 2 \ 1394هـ وصل، وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من الإفادة أنه حصل لك حادث، على أثره
__________
(1) صدرت من سماحته برقم 3230 في 21 \ 11 \ 1394هـ.(22/354)
توفي رجل، وحكم عليك فضيلة قاضي الثقبة بالدية، وصيام شهرين متتابعين، وأنك لا تستطيع الصيام؛ لأنك عسكري، وسكنك وأكلك مع العساكر الآخرين بصورة جماعية إلى آخر ما ذكرت، ورغبتك في الفتوى كان معلوما.
والجواب: لا يقوم مقام العتق أو الصيام شيء من الكفارات في هذه المسألة، بل الواجب عليك العتق إن وجدت، فإن لم تستطع فالصيام، ولا بأس بتأخيره حتى تستطع ذلك، أما الإطعام فلا دخل له في كفارة القتل، وأسأل- الله أن يسهل أمرك، وأن يبري ذمتك، وأن يعيننا وإياك على كل خير، إنه خير مسئول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تنبيه: قلت في مستهل كتابك ما نصه: (مستفسرا من سعادتكم عما حكم به القدر عليه) وهذا خطأ؛ لأن القدر ليس هو الذي يحكم على الإنسان، وإنما مرد الأمور لله وحده، وهو الذي يقدر الأقدار، فتنبه لذلك، والأحسن أن تقول في مثل هذا (عما قدره الله علي) .(22/355)
223 - من فقد عقله ووجد ميتا هل على أهله كفارة؟
س: أصيبت والدتي بمرض النسيان، وعالجناها ولم نخرج بنتيجة، فمضى عليها أربع سنوات، وهي بهذه الحالة، ولم تصم أياما من رمضان، مرة تأكل فيه بسبب النسيان، رغم أن صحتها جيدة، ثم توفيت على إثر حادث، خرجت من البيت بغير إذن منا، وتاهت، وبعد البحث عنها، وجدناها قد صدمها صاحب سيارة صغير في السن، وهرب، وتركها، وتوفيت، ماذا أفعل في الأيام التي تركتها، ولم تصمها، وهل نتنازل عن ديتها للمتسبب، رغم أنه غني، أم آخذ الدية، وأتصدق بها على المستحقين؟ (1)
ج: إذا كان عقلها قد تغير، وذاكرتها قد تغيرت، لا تضبط شيئا فقد اختل عقلها ولا عليها شيء؛ إذا كان عقلها قد اختل، لم تعد تضبط الأمور، فليس عليها شيء، وليس عليكم الصيام
__________
(1) من أسئلة حج عام 1406هـ الشريط الثالث(22/356)
عنها، أما الدية فينبغي أن تأخذوا الدية، وهي حلال لكم وإرث لكم فتأخذون الدية، وتتصرفون فيها كسائر أموالكم، تأكلونها، أو تتصدقون بها، أو تفعلون بها أشياء أخرى مما أباح الله.(22/357)
224 - حكم من مات بانقلاب سيارته وهو مطارد من الجهات الأمنية
سماحة الوالد الشيخ \ عبد العزيز بن باز سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نحن ثلاثة أفراد، من إدارة مكافحة المخدرات، وكنا نؤدي عملنا في مركز للتفتيش على خط الجنوب بالاشتراك مع مجموعة من زملائنا في الشرطة والمرور، وجاءت إلينا سيارة بها شخصان، وطلبنا منهم الوقوف ولكن سائقها استمر في سيره ولم يقف، وقمنا نحن الثلاثة بمتابعة هذه السيارة، بأمر من رئيسنا المباشر، وامتدت المتابعة قرابة خمسة وخمسين كيلو، ونحن نسير خلف هذه السيارة وهي على مرأى منا، وبلغنا الجهات الأمنية على الطريق لاستيقاف السيارة، إلا أن السائق انحرف نحو منطقة أخرى يقال لها: تربه في خط مزفلت أيضا، ومضينا في(22/357)
متابعته ووقع عليه حادث أثناء متابعتنا له، حيث انقلبت السيارة بعد نزولها عن الخط المسفلت، وتوفي السائق في الحال، وتوفي الراكب بعد محاولة إسعافه عند وصوله للمستشفى، مع ملاحظة أننا لم نحتك بسيارتنا بالمذكورين، وتقرير المرور أفاد بأن الانقلاب بسبب انحراف السيارة عن الأسفلت وعودتها مرة أخرى للأسفلت، وقد صدر تقرير بحق السائق مفاده: أنه وجد وفي دمه الكحول، وقد انتهى التحقيق في المعاملة وحفظت الأوراق منذ فترة ولم يصدر بحقنا شيء من مقام المرجع، نأمل التكرم من سماحتكم بإفتائنا نحن الثلاثة عما إذا كان علينا كفارة؟ وهل تكون علينا فرادى على كل منا كفارة أم كفارة واحدة؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته والله يحفظكم.
ج: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
إذا كان الواقع كما ذكرتم فلا كفارة عليكم؛ لأنكم إنما عملتم ما يلزمكم عمله لمصلحة المسلمين وحفظ الأمن، وفق الله الجميع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء(22/358)
225 - مسألة في قتل الخطأ
س: كنت أقود سيارة فصادفت في طريقي سيارة سائرة في الطريق المعد لسيري، فنبهت قائدها بالمنبه وبالنور فلم ينتبه، واتضح لي أنه نائم فاضطررت إلى الخروج عن الطريق فانقلبت سيارتي وتوفي على أثر ذلك والدي وابنة عمي هل تجب علي الكفارة؟ (1)
ج: الذي يظهر لي من الشرع المطهر عدم وجوب الكفارة عليك، إذا كان الذي حملك على الخروج من الطريق هو قصد إنقاذ نفسك وإنقاذ الركاب من خطر السيارة المقبلة الذي هو أكبر من خطر الخروج، أما إرثك من والدك فذلك راجع للمحكمة إن نازعك الورثة.
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة(22/359)
226 - من قتل شخصا
خطأ فتلزمه الدية والكفارة معا
س: صدمت أحد المارة بالسيارة وتوفي ثم حكمت المحكمة بالكويت بدفع الدية فقط فهل علي صيام شهرين أو(22/359)
هل يجوز أن أتصدق؟ وهل المحكمة مسئولة عن الفتوى وأنا بريء أم يلزمني شيء آخر؟ (1)
ج: عليك كفارة، المحكمة عليها أن توضح أن عليك الدية والكفارة، لكن إذا تركت التوضيح تكون مقصرة غالطة ما ينبغي لها التساهل، وإذا تساهلت المحكمة أو نسيت فليس لك أن تتساهل أنت بل متى قتلته خطأ فعليك الدية والكفارة.
__________
(1) من أسئلة الحج، الشريط الثاني(22/360)
227 - الكفارة تبقى في ذمتك حتى تستطيع
سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أبعث رسالتي هذه إلى سماحتكم وفيها أفيدكم أنني رجل ذهبت لأداء صلاة الفجر في بيت الله الحرام، وبعد انتهائي من صلاة الفجر، عدت إلى سيارتي ووجدتها راجعة إلى الخلف، ونتج عن رجوع السيارة وفاة رجل وامرأة، وحكم علي أحد المشايخ بالمحكمة المستعجلة بصيام أربعة أشهر أو إعتاق رقبتين وحيث إنني رجل أعاني من مرض السكر- أجاركم الله من(22/360)
هذا المرض الخبيث- وعندما أصوم أشعر بجوع ودوخة ورعشة في جسمي مما يجبرني على الإفطار، وإذا لم أقم بالإفطار قد ينتج ذلك دوخة بسبب الجوع، وإني رجل متقاعد من السلك العسكري براتب 1500 ريال، وأنه لا يكفي مصروف أسرتي، وإنني أعول أسرة كبيرة مكونة من اثني عشر فردا، وعلي ديون كثيرة مبلغ وقدره 360000 ألف ريال ثلاثمائة وستون ألف ريال وهو بسبب سكن لي ولأطفالي.
لذا نرجو من سماحتكم إفتائي في هذا الموضوع الذي أصبحت حيران فيه حيث إنني لا أتحمل الصيام أو القيام بدفع إعتاق الرقبتين أرجو من سماحتكم إرشادي في هذا الموضوع، والله يحفظكم ويرعاكم (1) .
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
يقول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) ويقول سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (3) والكفارة تكون دينا
__________
(1) سؤال شخصي من السائل ر. م. م. من مكة المكرمة
(2) سورة التغابن الآية 16
(3) سورة البقرة الآية 286(22/361)
في الذمة حتى تستطيع العتق أو الصيام، يسر الله أمرك وأوفى عنك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء(22/362)
228 - الترتيب في كفارة قتل الخطأ
س: أنا شاب وقع لي حادث وتوفي شخص- رحمه الله - أريد فضيلة الشيخ أن أعرف كفارة ذلك علما بأن نسبة الحادث 50% ولا أستطيع الصيام جزاكم الله خيرا (1) .
ج: الإنسان إذا قتل خطأ عليه كفارة لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (2) وإذا كان الواقع عليك 50% فأنت قد قتلت فعليك كفارة وهي عتق رقبة مؤمنة، ومن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين أي ستين يوما، سواء بدأ من أول الشهر أو من آخر الشهر ستين يوما متتابعة، ومن لم يستطع يبقى في ذمته معلقا، حتى يستطيع هذا أو
__________
(1) من أسئلة حج عام 1418هـ
(2) سورة النساء الآية 92(22/362)
هذا، إذا كان عاجزا عن العتق تبقى الكفارة معلقة متى تيسر له هذا أو هذا.(22/363)
229 - لا إطعام في كفارة قتل الخطأ
سماحة المفتي العام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قدر الله بعد عيد الأضحى وأنا كنت أقود سيارتي، وفجأة خرج ولد صغير وارتطم بالسيارة من الجهة اليمنى، وتوفي على أثر ذلك، وصارت نسبة الخطأ علي أنا 30% وعليه هو سبعون بالمائة، وقد تنازل والد الطفل، وسؤالي يا فضيلة الشيخ أنني لا أستطيع صيام شهرين متتابعين فما هو رأيك؟ هل أطعم أم أصوم حيث إن حالتي الصحية لا تسمح؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده (1) :
عليك أن تصوم شهرين متتابعين ستين يوما إذا استطعت ذلك، أما الإطعام فلا يجزئك في هذا المقام، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أجاب عنه سماحته بتاريخ 3 \ 5 \ 1418هـ.(22/363)
230 - مسألة في كفارة قتل الخطأ
س: الأخ م. ش. من الرياض يقول في سؤاله: وقع حادث تصادم بين سيارتي وسيارة أحد المواطنين في شهر رجب الماضي 1418 هـ نتج عنه وفاة والدتي رحمها الله بعد وصولها إلى المستشفى بقليل، وقد قرر المرور نسبة الخطأ 75% على المواطن الذي تسبب في الحادث و25% علي بحجة السرعة، وقد تنازلت أنا وإخوتي وأخواتي عن المواطن لوجه الله وسؤالي هو:
1 - هل علي صيام شهرين متتابعين نتيجة وفاة الوالدة معي، علما بأني أبلغ من العمر 46 عاما ومصاب بمرض السكر، وسوف أجد صعوبة في الصيام.
2 - إذا كان علي صيام فمتى يبتدئ الصيام هل يكون من أول الشهر أو يجوز أن أصوم من وسطه أو أي يوم منه ثم أكمل الشهرين؟ (1)
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من (المجلة العربية) ، أجاب عنه سماحته في تاريخ 22 \ 2 \ 1419هـ(22/364)
أثابكم الله وحفظكم.
ج: على كل منكما كفارة القتل خطأ وهي عتق رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، وإذا صام ستين يوما متتابعة كفى، سواء بدأ من أول الشهر أو من وسطه، والله ولي التوفيق.(22/365)
231 - مسألة في كفارة قتل الخطأ
إلى سماحة الوالد عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
س: كنت أقود سيارتي ومعي أربعة أشخاص داخل السيارة، وصار علي حادث تصادم مع سيارة أخرى، ثم توفي واحد من الأشخاص الذين كانوا معي في السيارة أثناء الحادث، وقد سمحوا أهل المتوفى عنه، مع العلم أن الخطأ كان مشتركا بين السيارتين حسب تقرير المرور.
هل علي صيام شهرين متتابعين في حالة القتل الخطأ مع العلم أنني أحد رجال الأمن، وأعمل بقوات الطوارئ الخاصة، والعمل شديد جدا، ولا يسمح لي بالإجازة لمدة شهرين،(22/365)
وعندنا تدريب عسكري كل صباح، حيث لا أتمكن من الصيام لمدة شهرين، أرجو إفتائي، والله يحفظكم ويرعاكم.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده (1) :
إذا كان الخطأ مشتركا كما ذكرتم في السؤال فعليكم الكفارة، وهي عتق رقبة مؤمنة، وإن لم تستطع فصيام شهرين متتابعين ستين يوما، وتبقى الكفارة بذمتك حتى تستطيع العتق، أو الصيام، يسر الله أمرك، وأبرأ ذمتك والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء
__________
(1) أجاب عنه سماحته برقم 1951 \ خ في 25 \ 8 \ 1415هـ.(22/366)
232 - حكم من نامت عن طفلتها
بعد أن بكت كثيرا ثم توفيت بعد ذلك
س: لدي طفلة رضيعة وضعتها أمها في فراشها، وذهبت للأطفال الآخرين، وجلست عندهم حتى ناموا، وغلبها النوم هي فنامت معهم وعند مجيئي واستيقاظها وجدت أن الطفلة قد(22/366)
بكت كثيرا، وظهر أثر البكاء عليها فرقدت في المستشفى عدة أيام، وتوفيت بسبب ذلك.
السؤال: هل على الأم كفارة؟ وما هي أثابكم الله؟ (1)
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكره السائل فليس على أم الطفلة شيء لكونها لم تفعل ما يسبب موتها، وبالله التوفيق.
__________
(1) من كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند، ج 3 ص 362(22/367)
233 - العمل بالاحتياط عند
الاشتباه حرصا على براءة الذمة
س: كانت والدتي تعمل بالمزرعة وذلك قبل ثلاثين عاما، وبعد يوم شاق متعب أوت ليلا، وعند النوم وهي ترضع لها طفلة تبلغ من العمر ثلاثة أشهر نامت وبجانبها طفلتها، وعند الصباح الباكر وجدت طفلتها قد توفيت، علما بأنها لا تعلم ما سبب موتها هل انقلبت عليها أثناء النوم أم مالت عليها والثدي في فمها لا تعلم عن أسباب موتها، فماذا على الأم؟ (1)
__________
(1) من كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند، ج 3(22/367)
ج: الاحتياط لها، أن تكمل صيامها ستين يوما متتابعين؛ لأن الظاهر من الحال أنها ماتت بسببها إذا لم تعلم سببا آخر، ومن القواعد الشرعية العمل بالاحتياط عند الاشتباه حرصا على براءة الذمة من حق الله وحق عباده، أعانها الله على الإكمال.(22/368)
234 - مسألة في قتل الخطأ
س: أسأل عن حادث مررت به قبل سنة ونصف وهو: كنت أحب والدي، ولكن أصبح بيني وبينه ظروف عائلية، ورغم الظروف فأنا أحبه ويحبني ولكن الظروف جعلتني ووالدي دائما على خلاف مستمر يوميا، وذات يوم مرض والدي ودخل المستشفى، وبعد خروجه منه أخبر الطبيب أمي بأنه لا يطلع على أي مشكلة؛ لأنها تؤثر على شعوره فيموت، ولأنه لا يتحمل أي صدمة ومرت ثلاثة أشهر على خروجه وأمي لم تخبرنا بذلك، فصادفت مشكلة بيني وبينه جعلته ينزعج مني وحدثت له صدمة في نفس اليوم من بعض المشكلات الأخرى، ثم أدخل المستشفى ومات، والآن أسأل هل أنا متسببة في ذلك؟ وماذا يلزمني شرعا؟ (1)
__________
(1) من كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند، ج 3 ص 363.(22/368)
ج: لا يلزمك شيء؛ لأنك لم تتعمدي إيذاءه ولم تعلمي عن المشكلات التي نصح بألا يتعرض لها فأنت إن شاء الله لا حرج عليك، والمشكلات تقع بين الناس دائما، ولا يمكن التحرز منها، فأنت في هذا مثل غيرك من الناس لا شيء عليك إن شاء الله، ولا يكون عليك في هذا لا فدية ولا كفارة؛ لأن هذه أمور عادية بين الناس تقع بين الوالد وابنه، وبين الأخ وأخيه، وبين الرجل وزوجته فلا يكون في هذا شيء إن شاء الله.(22/369)
235 - إذا اجتنب المرء ما يضره ووقع الضرر لا يسمى تفريطا
س: لي طفل بلغ من العمر خمس سنوات، وفي ذات يوم كان هو وأمه عند جيراننا، فتركته أمه معي في البيت، ثم خرجت لعملي، وذهبت وأبلغت والدته بأنه في البيت، وفي أثناء ذلك ذهب إلى الفرن ليأخذ بعض الخبز وانقلب عليه الفرن فمات، فهل علي من كفارة من صيام أو شيء غير ذلك أو على والدته؟ (1)
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407هـ، الشريط السابع.(22/369)
ج: نرجو ألا يكون عليكما شيء؛ لأن هذا شيء عادي يقع من الناس ولا يسمى تفريطا، هكذا يحصل عند أهل النخيل وأهل المزارع قد يتركون الولد يذهب إلى الساقي ويسبح فيه أو في البركة، فيموت بسبب ذلك، هذه أمور عادية، ما فيها حيلة يعفى عنها إن شاء الله.(22/370)
236 - مسألة في الديات
س: لدي طفل، وله خمسة شهور من عمره، وقد أخذته أمه معها في الليل، وأصبح متوفى ولم يدر ما سبب ذلك، ويجوز أنه توفي من أمه بحيث أنها لما صحت من النوم وهو تحت الكتفين وهي نائمة؟ (1)
ج: إذا كانت لا تعلم بذلك فليس عليها شيء يعني إذا كانت لا تعلم أسباب موته فليس عليها شيء، أما إن كانت نامت عليه رصته بثديها أو بصدرها أو بغطاء ثقيل فعليها الدية والكفارة؛ الدية على العاقلة والكفارة عليها.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407هـ، الشريط العاشر(22/370)
237 - حكم من يعتقد أن
قراءة سورة الزلزلة سبب في سقوط الجنين
س: يوجد امرأة مريضة بمرض نفسي، وقال لها الناس: إن المريض إذا أصابه مرض صعب تقرأ سورة الزلزلة عليه، ثم إنه إما أن يشفى وإما أن يموت، وطلبت من يقرأ لها وشربت من القراءة، وبعد فترة حملت وشربت من القراءة فولد الطفل سليما، وبعد فطامه حملت بآخر، وفي الشهر التاسع جاءها المرض مرة أخرى وشربت من القراءة، ولكن في نفس اليوم ولدت طفلا ميتا، وبعد فترة حملت بواحد آخر، وعاودها المرض وشربت من نفس القراءة، وفي الشهر الثامن شربت من القراءة، وولدت الولد ميتا، وبعد فترة حملت في شهرها السابع أحست بمرض وشربت منها، وفي الليلة التي بعدها ولدت طفلة حية، وقد سمعت من الناس أن سورة الزلزلة تسقط الأطفال، وفي القراءة حبة سوداء، وأن الحبة السوداء تسقط الطفل، وهي لا تعلم هذا فهل يلحقها شيء من الأطفال الذين ماتوا؟(22/371)
ج: أولا: ما يقول الناس عن سورة الزلزلة أنها تشفي المريض أو يموت، وما قالوه إنها تسقط الولد كله لا أصل له، بل هو من خرافات العامة الباطلة.
ثانيا: ليس على المرأة المذكورة فدية ولا كفارة؛ لأن عملها ليس سببا لموتهما.(22/372)
238 - مسألة في قتل الخطأ
س: امرأة لديها طفل خديج، ابن 7 شهور، وفي اليوم السابع من عمره كانت ترضعه ثم نامت، ولما أصبحت وجدت أن ابنها قد مات وفارق الحياة، أفيدونا أثابكم الله ماذا يلزمها شرعا؟ (1)
ج: إذا كان الواقع كما ذكر في السؤال فلا شيء على أمه لكونها لم تتسبب في موته، والله الموفق.
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد 1660 بتاريخ 4 جمادى الآخرة 419 / 1 هـ(22/372)
239 - من قتل خطأ فالدية
والكفارة تبقى في ذمته حتى يستطيع
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة قاضي محكمة البرك سلمه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد (1) :
فأشير إلى كتابكم رقم 1058 وتاريخ 16 \ 9 \ 1407هـ ومشفوعاته الخاصة باستفتاء أ. إ. م. بشأن اصطدام ابن عمه لابن أخته ووفاته بسبب الصدمة.
أفيدكم بأن الشخص الذي تسبب في وفاة الطفل يجب عليه كفارة قتل الخطأ، وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين لقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (2) إلى قوله سبحانه: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (3) فإذا كان عاجزا عن الرقبة والصيام، فتبقى في ذمته حتى يستطيع، فإن مات وهو عاجز عنها، شرع لبعض ورثته
__________
(1) صدر من مكتب سماحته برقم 3396 \ ب في 24 \ 12 \ 1407هـ.
(2) سورة النساء الآية 92
(3) سورة النساء الآية 92(22/373)
أن يعتق عنه إن أمكن، أو يصوم عنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه (1) » ، متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.
وفق الله الجميع لما فيه رضاه، وأعانكم على كل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب 41، برقم 1851، ومسلم في كتاب الصوم، باب قضاء الصوم على الميت برقم 1147.(22/374)
240 - حكم من شكت
أنها تسببت في موت طفلها
س: تقول السائلة عن نفسها إنها وضعت طفلها خلال أربعين يوما، ووضعته في فراشها وغطته عن البرد، فلما جاءت إليه وجدته ميتا، وصامت خمسة عشر يوما، وسأل زوجها الشيخ قال: ما عليها شيء، فقطعت الصوم فماذا ترون أثابكم الله في ذلك؟ (1)
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407هـ.(22/374)
ج: إذا كان الذي سألتم من أهل العلم كالقضاة الذين عندهم علم إن شاء الله، ففي ما رآه الكفاية، فإن كانت سألت من لا يعرفون بعلمهم فتسأل إن كانت غطته بشيء ثقيل، بدون حائل يرفعه عنه، مثل كرسي أو غيره، مثل ما يفعله الناس يضعون أشياء ترفع اللحاف عن الصغير، إذا كان جعلت المطرحة أو الكمبل الثقيل عليه يرص وجهه، فهي قاتلة وعليها عتق رقبة مؤمنة وإن لم تستطع تصوم شهرين متتابعين ستين يوما، والخمسة عشر يوما التي صامتها تذهب عليها، ما تنفع؛ لأنها انقطعت، أما إن كانت إنما جعلت عليه شيئا يدفيه لكنه مرفوع على أعواد أو على كرسي أو على سرج مرفوع عنه فليس عليها شيء.(22/375)
241 - حكم من كان عليه
صيام شهرين متتابعين فأفطر بينهما
س: علي كفارة صوم شهرين متتابعين، وقد صمتهما ولله الحمد، ولكني صمت الشهر الأول كاملا ثم أفطرت يومين، ثم أكملت الصيام، وقبل إنهاء الشهر أصابني مرض لمدة ثلاثة أيام فأفطرت، وقضيتها بعد ذلك، وقد قال لي بعض الناس: إنه لا بد(22/375)
لك أن تصوم مرة أخرى شهرين متتابعين دون إفطار بينهما، أرشدوني ماذا أعمل الآن؟ (1)
ج: إذا كان إفطارك لعذر شرعي كالمرض، ثم بادرت بإكمال الشهرين بعد زواله فلا إعادة عليك وصومك صحيح، أما إذا كان إفطارك عن غير عذر شرعي فعليك أن تعيد صيام الشهرين متتابعين ستين يوما كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث.
ولا يجزئ أقل من ستين إلا إذا ثبت نقص الشهر بالبينة الشرعية، وبالله التوفيق.
__________
(1) من كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 2 ص 164.(22/376)
242 - حكم من شرع في
صيام كفارة الخطأ ثم وجد عتق رقبة
س: رجل عليه كفارة قتل نفسا، وبعد أن شرع في الصيام وصام أربعة أيام ذكر له عن وجود رقبة لإعتاقها فتوقف عن الصيام، ثم قام بعتق الرقبة، فهل عليه في ذلك شيء حيث ترك الصيام بعد عقده؟ جزاكم الله خيرا (1)
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1663 في 25 جمادى الآخر 1419هـ(22/376)
ج: هذا هو الواجب عليه، ولا حرج عليه في ذلك؛ لأن العتق مقدم على الصيام مع المقدرة لقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (1) الآية.
__________
(1) سورة المجادلة الآية 3(22/377)
صفحة فارغة(22/378)
كتاب الحدود(22/379)
صفحة فارغة(22/380)
243 - حادث التفجير في الرياض جريمة عظيمة..
وفساد في الأرض وظلم كبير
(أكد سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - مفتي عام المملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء، وإدارة البحوث العلمية والإفتاء- أن حادث التفجير الذي وقع في مدينة الرياض يوم الاثنين الماضي حادث أثيم، ومنكر عظيم، وظلم كبير، ترتب عليه إزهاق نفوس، وفساد في الأرض، وجراحة للآمنين، وتخريب بيوت ودور وسيارات وغير ذلك.
وأكد سماحته أن من قاموا بذلك العمل قد امتلأت نفوسهم الخبيثة بالحقد والحسد، والشر والفساد، وعدم الإيمان بالله ورسوله.
وأوصى سماحته كل من يعلم خبرا من أولئك المجرمين أن يبلغ عنهم؛ لأن هذا من باب التعاون على دفع الإثم والعدوان، وعلى تمكين العدالة من مجازاة أولئك الظالمين.
جاء ذلك في إجابة سماحته على سؤال لـ (المدينة) حول جزاء من يستهدف ترويع أمن الناس الآمنين، كما حدث في(22/381)
حادث التفجير بالرياض الذي قام به مجرمون تسببوا في ترويع الآمنين، وقتل الأبرياء، وتخويف عباد الله جل وعلا وهذا نصه) (1)
لا شك أن هذا الحادث أثيم، ومنكر عظيم، يترتب عليه فساد عظيم، وشرور كثيرة، وظلم كبير، ولا شك أن هذا الحادث إنما يقوم به من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، لا تجد من يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانا صحيحا يعمل هذا العمل الإجرامي الخبيث الذي حصل به الضرر العظيم، والفساد الكبير، إنما يفعل هذا الحادث وأشباهه نفوس خبيثة، مملوءة من الحقد والحسد والشر والفساد وعدم الإيمان بالله ورسوله، نسأل الله العافية والسلامة، ونسأل الله أن يعين ولاة الأمور على كل ما فيه العثور على هؤلاء والانتقام منهم؛ لأن جريمتهم عظيمة، وفسادهم كبير، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كيف يقدم مؤمن أو مسلم على جريمة عظيمة يترتب عليها ظلم كثير، وفساد عظيم وإزهاق نفوس، وجراحة آخرين بغير حق، كل هذا من الفساد العظيم، وجريمة عظيمة، فنسأل الله أن يعثرهم ويسلط عليهم ويمكن منهم، ونسأل الله أن يخيبهم ويخيب أنصارهم، ونسأل الله أن يوفق ولاة الأمر للعثور عليهم والانتقام منهم ومجازاتهم على هذا الحدث الخبيث، وهذا الإجرام العظيم.
__________
(1) نشرت في جريدة المدينة في 25\5\1416هـ، وفي المجموع ج9 ص 253.(22/382)
وإني أوصي وأحرض كل من يعلم خبرا عن هؤلاء أن يبلغ الجهات المختصة، على كل من علم عن أحوالهم وعلم عنهم أن يبلغ عنهم؛ لأن هذا من باب التعاون على دفع الإثم والعدوان، وعلى سلامة الناس من الشر والإثم والعدوان، وعلى تمكين العدالة من مجازاة هؤلاء الظالمين الذين قال الله فيهم وأشباههم سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1)
إذا كان من تعرض للناس بأخذ خمسة ريالات أو عشرة ريالات أو مائة ريال مفسدا في الأرض، فكيف من يتعرض بسفك الدماء وإهلاك الحرث والنسل وظلم الناس، فهذه جريمة عظيمة وفساد كبير.
التعرض للناس بأخذ أموالهم أو في الطرقات أو في الأسواق جريمة ومنكر عظيم، لكن مثل هذا التفجير ترتب عليه إزهاق نفوس وقتل نفوس، وفساد في الأرض وجراحة للآمنين وتخريب بيوت ودور وسيارات وغير ذلك، فلا شك أن هذا من أعظم الجرائم ومن أعظم الفساد في الأرض، وأصحابه أحق بالجزاء بالقتل والتقطيع بما فعلوا من جريمة عظيمة. نسأل الله أن يخيب مسعاهم
__________
(1) سورة المائدة الآية 33(22/383)
وأن يعثرهم وأن يسلط عليهم وعلى أمثالهم وأن يكفينا شرهم، وشر أمثالهم وأن يسلط عليهم وأن يجعل تدبيرهم تدميرا لهم، وتدميرا لأمثالهم إنه جل وعلا جواد كريم، ونسأل الله أن يوفق الدولة للعثور عليهم ومجازاتهم بما يستحقون. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
244 - نصيحة هامة ونداء عاجل إلى زعماء
وعقلاء اليمن والمتقاتلين
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى زعماء بلاد اليمن وقادتها، وإلى جميع عقلائهم والمقاتلين من شطري اليمن.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأذكركم الله سبحانه وتعالى في شعب اليمن كافة، وأذكركم الله في الضعفاء الذين لا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم أو يدافعوا عنها من النساء والصبيان والشيوخ والمرضى والجرحى، أذكركم الله في الحرث والنسل أن تكونوا سبب هلاكه ودماره، وسبب سفك مزيد من الدماء بلا هوادة، وتدمير البيوت(22/384)
وإلقاء قذائف الدمار التي لا تبقي ولا تذر، فأين حلومكم! وأين حكمتكم! وأين الرحمة بالأطفال الرضع، والشيوخ الركع، والنساء والعجزة! لا تشمتوا بأنفسكم أعداء الإسلام، ولا تدمروا بلادكم ومقدراتها بأيديكم، ولا تملؤوا البيوت والقلوب بالأحقاد، احقنوا الدماء وأبقوا على بقية الأواصر والأرحام وأخوة الإسلام، ولا تطيعوا أمر المسرفين، عودوا إلى كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وارجعوا فيما شجر بينكم إلى كتاب ربكم تفلحوا، فقد قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) وقال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2)
أيها الزعماء: إنني أذكركم الله سبحانه وتعالى في عباده، فلا تقودوهم إلى عداوات قاتلة، وقطيعة رحم فاجعة، وجراح عميقة، أعيذكم بالله أن تتمادوا في هذه الحرب الطاحنة فيصدق عليكم قول الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (3) أو يكون أحد فيكم ممن قال الله
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) سورة محمد الآية 22(22/385)
فيهم: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (1)
اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، وكفوا عن الأعمال العشوائية التي أنتم أول من فجع ويفجع بها، فهي فساد عظيم، وقد نهى الله عن تطلب الفساد فقال: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (2) وقال جل من قائل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} (3) فاذكروا نعمة الله عليكم، وانتفعوا بقوله تبارك وتعالى: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (4)
أيها القادة: تذكروا ما أوقع الخلاف والتخريب والقتال في بعض البلاد الإسلامية التي تعرفونها قريبا منكم، كم حصل فيها من دمار شامل وعداوات مستحكمة وخراب عام ولا يزالون في اضطراب، نسأل الله أن يهديهم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 205
(2) سورة القصص الآية 77
(3) سورة يونس الآية 81
(4) سورة الأعراف الآية 74(22/386)
فعليكم أن تدفعوا أخطار هذه الحرب رحمة بأمتكم، وحفاظا على مصالحها، ولن يتم ذلك إلا بالرجوع إلى الحق والهدى، وهو في كتاب الله، أين الرحمة والعقل! ألا تنزلون مشاكلكم على شريعة الله! ألا تعودون إلى البحث والتفاهم والإبقاء على البقية من الأمة ومصالحها! إنني أعيذكم بالله من التمادي في ركوب هذه الطريق الوعرة، إنها الحرب التي نارها لا تبقي ولا تذر، فلا تستمروا في تهييجها؛ فإن وقودها الرجال والنساء والأطفال والحرث وسائر مقدرات الأمة، كما رأيتم ذلك بأنفسكم.
إن هذه الكلمة نصيحة مشفق عليكم يحزنه استمرار القتال بينكم، ويقلقه هدم المنازل على من فيها، فإن هذا أمر منكر مستنكر لو كان من أعدائكم في الدين، فكيف إذا كان ذلك بين من قبلتهم واحدة وكتابهم واحد ونبيهم صلى الله عليه وسلم واحد؟! ألا تأخذون بالرفق فإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وإن الله يحب أهل الرحمة ويرحمهم، كما قال النبي الكريم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء (1) » .
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم 4290 كتاب الآداب والترمذي برقم 1847، كتاب البر والصلة.(22/387)
وقال عليه السلام: «من لا يرحم لا يرحم (1) » ، والله سبحانه قد حث على الصلح ومدحه، فقال سبحانه: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (2) وقال جل وعلا: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (3) وقال جل من قائل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (4)
هذه نصيحة مشفق يؤلمه ما يقع بين المسلمين من محنة وفتن، ويسوؤه ما حل بينهم من عداوات وحروب.
وأسأل الله أن ينفعكم بها، وأن يوفقكم لتلافي أخطار هذه الحروب وإيقافها، إنه سبحانه قريب مجيب. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
ورئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
__________
(1) أخرجه البخاري يرقم 6829 كتاب التوحيد، ومسلم برقم 1531 كتاب الجنائز.
(2) سورة النساء الآية 128
(3) سورة النساء الآية 114
(4) سورة الأنفال الآية 1(22/388)
245 - ملاحظات على بعض ما كتبه
الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق في كتابه
(وجوب تطبيق الحدود الشرعية)
قلتم في كتابكم: (وجوب تطبيق الحدود الشرعية) ص 26 ما نصه:
3 - إزالة أسباب الجريمة قبل إيقاع العقاب: وبعيدا عن التعصب والجهل نقول: لا يجوز بتاتا أن نوقع العقوبة الشرعية قبل إزالة أسباب الجريمة، والإعذار إلى الجانح والجاني، فقد يكون في ظل الاحتكار والظلم، وضياع التكافل الاجتماعي، ووجود الأثرة، وحب النفس.
وقلتم أيضا: قد يكون في ظل مجتمع هكذا عذر لمن يلجأ إلى السرقة، ومن انحرفت نحو الزنا والبغاء لتعول ولدا، أو أما عجوزا، أو أبا مريضا، وأظن أنه من السذاجة والجهل أيضا أن نعاقب الزاني ونحن نسمح بكل ألوان الفسق والفجور، والدعوة إلى الخناء، ولذلك فليس من العقل والحكمة أبدا أن تطبق الحدود الشرعية الخاصة بالجرائم دون إزالة حقيقية لأسباب هذه الجرائم.. إلى آخر ما ذكرتم ص 27.(22/389)
فأقول: إن هذا الكلام بعيد عن الصواب، مخالف للحق، ولا أعلم به قائلا من أهل العلم إلا ما روي عن عمر رضي الله عنه من التوقف عن إقامة حد السرقة في عام الرمادة، وهذا إن صح عنه فهو محل اجتهاد ونظر، والنصوص من الكتاب والسنة صريحة في وجوب إقامة الحد الشرعي على من ثبت عليه ما يوجبه.
فالواجب عليكم الرجوع عن هذا الكلام، وإعلان ذلك في الصحف المحلية في الكويت والسعودية، وفي مؤلف خاص يتضمن رجوعكم عن كل ما أخطأتم فيه، ولا يخفى أن الحق قديم، كما قال عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم، فالرجوع إليه خير من التمادي في الباطل، وفقنا الله وإياكم لما فيه رضاه، وأعاذنا جميعا من أسباب سخطه (1) .
__________
(1) هذه ملاحظة نبه عليها سماحته ونشرت في المجموع ج 8 ص 240 - 245.(22/390)
246 - الدليل على قتل المرتد عن الإسلام
س: سمعت في أحد البرامج الإذاعية في مقابلة مع أحد الأشخاص، بأنه لا يوجد أي دليل في القرآن الكريم، أو حديث شريف، أو فتوى دينية بإجازة قتل المرتد عن الإسلام، أرجو إفادتي عن صحة هذا؟ (1)
ج: قد دل القرآن الكريم والسنة المطهرة، على قتل المرتد إذا لم يتب في قوله سبحانه في سورة التوبة: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) فدلت هذه الآية الكريمة على أن من لم يتب لا يخلى سبيله.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من بدل دينه فاقتلوه (3) » ، وفي الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه أنه قال لمرتد رآه عند أبي
__________
(1) من أسئلة المجلة العربية في 3 \ 6 \ 1416هـ، ونشر في المجموع ج 9 ص 303.
(2) سورة التوبة الآية 5
(3) رواه البخاري في الجهاد والسير برقم 2794 واللفظ له، والترمذي في الحدود برقم 1378.(22/391)
موسى الأشعري في اليمن: " لا أنزل- يعني من دابته- حتى يقتل. قضاء الله ورسوله " (1) .
والأدلة في هذا كثيرة، وقد أوضحها أهل العلم في باب حكم المرتد في جميع المذاهب الأربعة، فمن أحب أن يعلمها فليراجع الباب المذكور.
فمن أنكر ذلك فهو جاهل أو ضال لا يجوز الالتفات إلى قوله، بل يجب أن ينصح ويعلم، لعله يهتدي، والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه البخاري في المغازي برقم 3996، والنسائي في كتاب تحريم الدم برقم 3998.(22/392)
247 - الواجب من الجميع التعاون
مع الدولة والمحاكم في محاربة المخدرات
س: ما تعليق سماحتكم على ظاهرة المخدرات التي بدأت تنتشر في المجتمعات الإسلامية، وكيف يستطيع المواطن المشاركة في محاربة هذه الظاهرة؟ (1)
ج: المخدرات داء عضال وشرها عظيم، وعواقبها وخيمة، وقد بذلت الحكومة- وفقها الله- في محاربتها جهودا كبيرة،
__________
(1) نشر في مجلة البحوث الإسلامية العدد (14) 1405هـ.(22/392)
وبذلت المحاكم في ذلك ما يلزم شرعا من العقوبات الرادعة، والواجب على أفراد الشعب التعاون مع الدولة ومع المحاكم في محاربة جميع المخدرات بالنصيحة والتوجيه الإسلامي والتحذير بالقول والعمل، وأن يبدأ كل واحد بنفسه فيحاربها قولا وعملا بصدق وإخلاص، وأن ينصح إخوانه في ذلك، ويبين لهم أضرارها العظيمة وعواقبها السيئة عملا بقول الله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وقوله عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) ونسأل الله لنا ولجميع المسلمين الهداية والتوفيق والعافية من كل ما يغضبه سبحانه.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(22/393)
248 - كلمة في التحذير من القمار
وشرب المسكر وبيوع الغرر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، أما بعد (1) :
فإن الله سبحانه أحل لعباده الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمعاملات، لحاجة العباد إليها وعظيم نفعها وسلامتها من
__________
(1) صدرت من سماحته بتاريخ 8 \ 1 \ 1408هـ.(22/393)
الضرر، وحرم عليهم عز وجل جميع الخبائث من المطاعم والمشارب والملابس والمعاملات لعظم ضررها وعدم نفعها، أو قلته في نجب المضرة الغالبة، قال تعالى في سورة المائدة: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (1) وقال تعالى في السورة المذكورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (3) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (4) وقال تعالى في سورة الأعراف في وصف نبينا وسيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (5) أوضح الله سبحانه في هذه الآيات أنه أحل
__________
(1) سورة المائدة الآية 4
(2) سورة المائدة الآية 90
(3) سورة المائدة الآية 91
(4) سورة المائدة الآية 92
(5) سورة الأعراف الآية 157(22/394)
لعباده الطيبات وحرم عليهم الخبائث، وبين سبحانه: أن من جملة الخبائث الخمر لعظم مضرتها وسلبها العقول وجلبها الشحناء والعداوة بين المتعاطين لها وغيرهم، وصدها عن ذكر الله وعن الصلاة، فهي: أم الخبائث ووسيلة الرذائل، وهي من أقبح الكبائر وأعظم الجرائم، وقد أوعد الله من مات عليها أن يسقيه من طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار، نستجير بالله من ذلك.
ومن جملة الخبائث الكسبية الميسر وهو: القمار، وما ذاك إلا لما يترتب عليه من الأضرار العظيمة التي منها سلب الثروات وأكل المال بغير حق، وجلب الشحناء والعداوة، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
وكثير من الناس اليوم يتعاطى الميسر، ولا يبالي بما قاله الله ورسوله في تحريمه والنهي عنه، ولا بما يترتب عليه من المفاسد والأضرار؛ وذلك لما جبلت عليه القلوب من الجشع والطمع والحرص على استحصال المال بكل وسيلة، ولو كان في ذلك غضب الله وعقابه، بل ولو كان في ذلك ذهاب ماله وتلف نفسه في العاقبة، إلا من شاء الله من العباد، وما ذاك إلا لسكر القلوب بحب المال والحرص عليه ونسيان ما يترتب على وسائله المحرمة: كالقمار وبيع الغرر من العواقب الوخيمة في الدنيا والآخرة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن بيع الغرر (1) » .
__________
(1) صحيح مسلم البيوع (1513) ، سنن الترمذي البيوع (1230) ، سنن النسائي البيوع (4518) ، سنن أبو داود البيوع (3376) ، سنن ابن ماجه التجارات (2194) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، سنن الدارمي البيوع (2563) .(22/395)
ومن المعاملة الداخلة في القمار وفي بيع الغرر: ما حدث في هذا العصر من وضع بعض الشركات والتجار جوائز خفية في بعض السلع التي يراد بيعها، طمعا في استنزاف ثروات المسلمين وترغيبا لهم في شراء السلع المشتملة على الجوائز بأغلى من ثمنها المعتاد، والاستكثار من تلك السلع رجاء الظفر بتلك الجوائز، ولا ريب أن هذه المعاملات من الميسر، ومن بيع الغرر؛ لأن المشتري يبذل ماله الكثير رجاء مال مجهول، لا يدري هل يظفر به أم لا؟ وهذا من الميسر وبيع الغرر الذي حذر الله ورسوله منه، وهكذا بيع البطاقات ذوات الأرقام ليفوز مشتريها ببعض الجوائز إذا حصل على الرقم المطلوب، ولا شك أن هذا العمل من الميسر الذي حرمه الله لما فيه من المخاطرة وأكل الأموال بالباطل، فاتقوا الله أيها المسلمون، واحذروا هذه المعاملات المحرمة وحذروا منها إخوانكم، واحرصوا على حفظ أموالكم، وعدم صرفها إلا فيما تتحققون منفعته وسلامته مما يخالف شرع الله، وإياكم أن تساعدوا أعداءكم، وأرباب الجشع من التجار والشركات بما يسلب أموالكم، ويغضب الله عليكم، ويجب على الحكومة- وفقها الله لكل خير- أن تمنع هذه المعاملات، وأن تمنع ورود هذه السلع المشتملة على الجوائز التي توقع(22/396)
الناس في القمار، وتسلب الأموال، وتضر المجتمع، نسأل الله أن يوفق الحكومة والمسلمين لما فيه صلاح البلاد والعباد، وأن يهدينا وتجارنا وشركاتنا وسائر المسلمين لما يرضي الله ويقرب لديه وينفع المسلمين، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(22/397)
249 - جريمة الزنا والخلاص من آثاره
س: ماذا يجب على من وقع في جريمة الزنا للخلاص من آثار فعلته تلك؟ (1)
ج: الزنا من أعظم الحرام، وأكبر الكبائر، وقد توعد الله المشركين، والقتلة بغير حق، والزناة، بمضاعفة العذاب يوم القيامة والخلود فيه صاغرين مهانين لعظم جريمتهم، وقبح فعلهم، كما قال الله سبحانه:
__________
(1) نشر السؤال مع جوابه في جريدة الجزيرة بعددها 7223 في 8 \ 1 \ 1413هـ، وفي المجموع ج9 ص 442.(22/397)
{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (1) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (2) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} (3) فعلى من وقع في شيء من ذلك التوبة إلى الله سبحانه وتعالى التوبة النصوح، وإتباع ذلك بالإيمان الصادق، والعمل الصالح، وتكون التوبة نصوحا إذا ما أقلع التائب من الذنب، وندم على ما مضى من ذلك، وعزم عزما صادقا على أن لا يعود في ذلك، خوفا من الله سبحانه، وتعظيما له، ورجاء ثوابه، وحذر عقابه، قال الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (4) فالواجب على كل مسلم ومسلمة أن يحذر هذه الفاحشة العظيمة، ووسائلها غاية الحذر، وأن يبادر بالتوبة الصادقة مما سلف من ذلك، والله يتوب على التائبين الصادقين ويغفر لهم.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 68
(2) سورة الفرقان الآية 69
(3) سورة الفرقان الآية 70
(4) سورة طه الآية 82(22/398)
250 - هل يشترط في الراجم شروط
س: حكمت إحدى المحاكم الشرعية في مدينة تعز بالجمهورية العربية اليمنية برجم امرأة بسبب الزنا، فكان بعض الناس يتردد بالرجم، وحجتهم أنهم يقولون: إنه يتوجب على الراجم شروط: أن يكون الراجم بدون خطيئة، وكلام كثير قيل في هذا، أفيدونا عن ذلك؟ جزاكم الله خيرا (1) .
ج: لقد سرني كثيرا حكم المحكمة بتعز برجم الزانية المحصنة، لما في ذلك من إقامة حد الله الذي أهملته غالب الدول الإسلامية، فجزى الله المحكمة خيرا، ووفق حكومة اليمن وسائر الحكومات الإسلامية للحكم بشريعة الله بين عباده في الحدود وغيرها، ولا شك أن في حكمهم بشريعة الله صلاح أمرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وينبغي للمسلمين التعاون في هذا، ومن شارك في رجم الزاني المحصن فهو مأجور، ولا ينبغي لأحد التحرج في ذلك إذا صدر الحكم الشرعي بالرجم، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة برجم ماعز الأسلمي واليهوديين
__________
(1) من كتاب فتاوى إسلامية جمع محمد المسند ج 3 ص 369.(22/399)
والغامدية، وغيرهم، فبادر الصحابة إلى ذلك رضي الله عنهم، ووفق المسلمين السير على منهاجهم في الحدود وغيرها.
ولا يشترط في المشارك في الرجم أن يكون معصوما أو سليما من السيئات؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشترط ذلك، ولا يجوز لأحد من الناس أن يشترط شرطا لا دليل عليه من كتاب الله سبحانه ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والله الموفق.(22/400)
251 - هل الزاني تحرم عليه امرأته
س: إذا ارتكب رجل الزنا وهو متزوج هل تحرم عليه زوجته، وكذلك المرأة؟ (1)
ج: لا يحرم كل منهما على الآخر، وعليهما جميعا التوبة إلى الله سبحانه وتعالى التوبة النصوح، وإتباع ذلك بالإيمان الصادق والعمل الصالح، وإنما تكون التوبة نصوحا إذا أقلع التائب عن الذنب، وندم على ما مضى من ذلك، وعزم عزما صادقا على أن لا يعود في ذلك، خوفا من الله سبحانه وتعظيما له، ورجاء ثوابه، وحذر عقابه، قال الله سبحانه
__________
(1) كتاب فتاوى إسلامية جمع محمد المسند ج 3 ص 371.(22/400)
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (2) وقال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) والزنا من أعظم الحرام وأكبر الكبائر، وقد توعد الله المشركين والقتلة بغير حق، والزناة بمضاعفة العذاب يوم القيامة، والخلود فيه، صاغرين مهانين، لعظم جريمتهم وقبح فعلهم، كما قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (4) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (5) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} (6) الآية.
فالواجب على كل مسلم ومسلمة أن يحذر هذه الفاحشة العظيمة، ووسائلها، غاية الحذر، وأن يبادر بالتوبة الصادقة مما سلف من ذلك، والله سبحانه يتوب على التائبين الصادقين، ويغفر لهم والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة طه الآية 82
(2) سورة التحريم الآية 8
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة الفرقان الآية 68
(5) سورة الفرقان الآية 69
(6) سورة الفرقان الآية 70(22/401)
252 - حكم من زنى بامرأة ثم حملت
وعقد عليها الزواج بعد ذلك
س: سائل يقول: رجل تزوج امرأة بدون عقد نكاح وبدون أي شهود بعد أن تحقق من أنها حامل في ثلاثة أشهر، فعمل عقد النكاح ثم ولدت، ثم حملت للمرة الثانية وهي حامل، طلقها طلقة واحدة، ثم بعد أسبوع طلقها بثلاث، وسأل رجلا ليس بعالم قال له: ليس عليك شيء، استمر بزوجتك، فكيف حال الولد الأول، وكيف طلاقها بالثلاث، وبعد طلاق الثلاث استمرت الحياة الزوجية، ومعها الآن ثلاثة أطفال؟ (1)
ج: إذا كان فعله الأول بغير عقد فهو- نسأل الله العافية- زنا صريح، والزنا ولده لا يلحق الزاني بل يتبع المرأة، وعليه الحد الشرعي حد الزنا إن كان محصنا يرجم حتى يموت، وإن كان بكرا يجلد مائة ويغرب عاما، وعليه أن يراجع المحكمة في بلده حتى يفهموه ويعلموه ما يلزم، نسأل الله لنا وله الهداية.
__________
(1) سؤال موجه إلى سماحته بعد الدرس الذي ألقاه بالمسجد الحرام في 1418هـ.(22/402)
253 - ما حكم من يرمي زوجته بالزنا
س: ما رأي فضيلتكم بمن رمى زوجته بالزنا وهي بريئة منه، بمجرد أنه لم ير الدم في ليلة الزواج، وهي تعيش معه معذبة بألفاظه وشكه، هل تفارقه أو بماذا تنصحونها؟ (1)
ج: إذا رماها بالزنا تطالبه بحد القذف ليجلد ثمانين جلدة، تطلب من المحكمة أن يقام عليه الحد ثمانين جلدة، إلا أن تعفو وتصفح ويهديه الله ويترك الكلام البذيء فلا بأس، وإلا لها المطالبة بأن يجلد ثمانين جلدة، إلا أن يثبت الزنا بأربعة شهود أو يلاعن أمام المحكمة، وإذا أرادت الفرقة فلا بأس، إذا كان يعيبها ويؤذيها ويتهمها، لها أن تطلب الطلاق ولو تعطيه بعض المال، ويفارقها وتستريح منه.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1418 هـ.(22/403)
254 - ما حكم من ابتلي بالفاحشة
س: أنا شاب أبلغ من العمر أربعة وعشرين عاما تقريبا أفعل العادة السرية، وأنا ليس عندي قدرة على الزواج، وكلما عزمت على التوبة عن هذه الفعلة رجعت إليها مرة ثانية، ونحن قد وقعنا فريسة لهذه الفعلة الخبيثة، من فضلكم أوضحوا لنا هذا الأمر، وهل هي محرمة أم ماذا، وهل الحديث الذي يقول سبعة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ... إلخ الحديث، ومنهم: الناكح ليده، هل هذا صحيح نرجو التوضيح جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: العادة السرية منكر لا تجوز، وإن الواجب على المسلم تركها والتوبة إلى الله منها؛ لأنها خلاف قوله جل وعلا: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (2) {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (3) {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (4) ولما ذكر أهل العلم والأطباء عنها من مضار كثيرة يجب توقيها، والله حرم على المؤمن ما يضره في دينه ودنياه، أما الحديث الذي فيه السبعة الذين منهم ناكح يده فهو ضعيف غير صحيح عند أهل العلم.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1406هـ
(2) سورة المؤمنون الآية 5
(3) سورة المؤمنون الآية 6
(4) سورة المؤمنون الآية 7(22/404)
255 - المال المسروق يرد لصاحبه
س: فضيلة الشيخ هنا من يقول: عندما كنت صغيرا في الرابعة عشرة من عمري، كان يزور والدي (رحمه الله) قريب له من دولة أخرى، وكنت أقوم بسرقة بعض نقوده من عملة بلاده، وأقوم بصرفها من مؤسسات الصرافة، ثم أتصرف بها، ولكني بعدما كبرت ندمت على عملي غاية الندم، فعزمت على التوبة، ولكن ماذا يلزمني، هل أعيد ما سرقت من نقود إلى صاحبها؟ أم يجوز لي أن أتصدق بها في وجوه الخير، وأنوي ثوابها إليه؟ مع العلم أنه لا يزال على قيد الحياة (1) .
ج: يجب عليك أن تردها إلى صاحبها بأي طريق يوصلها إليه، وليس لك التصرف فيها، وبالله التوفيق.
__________
(1) نشرت في جريدة البلاد العدد 15293 وتاريخ 23 \ 1 \ 1419هـ(22/405)
256 - حكم المال المسروق إذا جهل صاحبه
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم مدير إدارة الشئون الدينية بمعسكرات الحرس الوطني بخشم العان سلمه الله سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد (1) :
فأشير إلى كتابكم رقم 8 وتاريخ 1 \ 3 \ 1407 ومشفوعه الاستفتاء المقدم من أحد أفراد الحرس الوطني بشأن السخلة التي أخذها بعدما ولدتها أمها، وأخفاها هو وأمه عن صاحبها الذي جاء يسأل عنها.. إلخ.
وأفيدكم بأن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء درست السؤال، ورأت أن الواجب على الشخص المذكور ووالدته التوبة إلى الله سبحانه مما وقع منهما، ثم الصدقة بالغنم أو قيمتهن، إذا لم يعرف صاحب العنز ولا ورثته، ولهما أن يأخذا قدر نفقتهما على العنز ونسلها، حسب التحري والاجتهاد، وفق الله الجميع لما فيه رضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية الإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) صدرت من سماحته برقم 1696 \ 2 في 16 \ 6 \ 1407هـ.(22/406)
257 - حكم من سرقت حذاؤه فأخذ بديلا عنه
س: كثير ما تسرق الحذاء الزنوبة فأجد مكانها أو شبهها فهل يجوز لي أخذها أفتوني مأجورين؟ (1)
ج: الأحوط ترك ذلك؛ لأنه قد يكون الذي أخذ زنوبتك غير صاحب الزنوبة الموجودة، ومثل ذلك النعال كذلك، أما إذا كانت متشابهة- نعال متشابهة- وأخذت نعالك، وبقي ما يشبهها، فهذا القول بجواز الأخذ قول قريب؛ لأن التشابه علة، أما إذا كانت غير متشابهة، فهذا لا ينبغي أخذها؛ لأنه قد يكون الذي أخذها غير صاحبها فالحل أن الترك هو الأحوط.
__________
(1) من أسئلة الحج، الشريط الثاني(22/407)
258 - يجوز الضرب الخفيف للتأديب
س: لنا أخت مريضة وأحيانا نضربها ضربا خفيفا، لكننا نتألم نفسيا من ذلك، فهل علينا في ذلك شيء؟ (1)
ج: الواجب عليكم مراعاة حالها، وعدم فعل ما يزيد مرضها، وإذا كانت لا تتحمل الضرب لم يجز لكم الضرب، وأما إن كان المرض خفيفا، وهي تخطئ، وتعمل بعض الأشياء التي تستحق عليها التأديب الخفيف فلا بأس.
لكن يجب أن تراعوا حالها، فإن كان الضرب يضرها فلا تضربوها، أما إذا كانت لا يضرها هذا الضرب الذي تعملونه معها؛ لأن مرضها خفيف، والحاجة ماسة إلى تأديبها، حتى ترتدع عما لا ينبغي فلا حرج في ذلك.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، شريط رقم 12، ونشر في المجموع ج 9 ص 342.(22/408)
259 - حكم من فعل العادة السرية وعمل قوم لوط ووطء البهيمة
س: ما حكم من يمارس العادة السرية بدعوى الخوف من الوقوع في الزنا؟ وما حكم فعل عمل قوم لوط؟ وما حكم وطء البهيمة؟ وما هي الحدود الواجبة عليهم؟ (1)
ج: يحرم على المسلم أن يتعاطى العادة السرية، وهي الاستمناء لقول الله عز وجل في صفة المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (2) {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (3) {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (4) أما عمل قوم لوط فهو اللواط، وهو إتيان الذكور، وذلك من أكبر الكبائر، وقد ذم الله قوم لوط في آيات كثيرة، على هذا المنكر العظيم، وأخبر سبحانه: أن ذلك فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، وعذبهم الله عليها، وعلى كفرهم وضلالهم ومنكراتهم
__________
(1) صدرت من سماحته بتاريخ 6 \ 3 \ 1419هـ.
(2) سورة المؤمنون الآية 5
(3) سورة المؤمنون الآية 6
(4) سورة المؤمنون الآية 7(22/409)
العظيمة بما بينه الله في كتابه من خسف بلادهم، ورميهم بالحجارة.. نسأل الله لنا ولجميع المسلمين العافية من فعلهم ومما أصابهم.
وحكم اللوطي القتل سواء كان بكرا أو ثيبا بعد ثبوت ذلك لدى المحكمة الشرعية، ويتولى ذلك ولي أمر المسلمين أو نائبه.
ويحرم وطء البهيمة ويجب تعزير من فعل ذلك إذا ثبت ذلك لدى المحكمة والتعزير يرجع فيه إلى المحكمة الشرعية، وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أنه يقتل، والصواب أنه يكفي في ذلك التعزير بما يراه الحاكم الشرعي؛ لأن الحديث بقتله ليس بصحيح، والله ولي التوفيق.(22/410)
260 - الدواء الشرعي لمن ابتلي بالمعصية
س: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا شاب في 21 سنة من العمر قد ابتليت باللواط (شذوذ جنس) منذ كان عمري 8 سنوات حيث كان أبي مشغولا عن تربيتي، وإني الآن أعيش الحسرة والندم على فعلي هذا إلى درجة أنني أفكر في الانتحار والعياذ بالله، والذي يزيد علي هذا ألما وعذابا أن أهلي يريدون مني أن أتزوج، فأرجو من سماحتكم أن ترشدني إلى الطريق الصحيح، والعلاج الناجع لمشكلتي، حتى أتخلص من حياة العذاب التي أحياها وجزاكم الله عني كل خير.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده (1) :
أسأل الله أن يمن عليك بالعافية مما ذكرت، ولا شك أن ما ذكرته جريمة عظيمة، ولكن دواءها ميسر بحمد الله وهو: البدار بالتوبة النصوح، وذلك بالندم على ما مضى، والإقلاع من هذه الجريمة، والعزم الصادق على عدم العودة إليها، مع صحبة الأخيار والبعد
__________
(1) صدرت من سماحته بتاريخ 22 \ 7 \ 1411هـ.(22/411)
عن الأشرار، والمبادرة بالزواج وأبشر بالخير والفلاح والعاقبة الحميدة إذا صدقت في التوبة لقول الله سبحانه وتعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) وقوله عز وجل في سورة التحريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (2) الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «التوبة تهدم ما كان قبلها (3) » ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (4) » ، وفقك الله وأصلح قلبك وعملك ومنحك التوبة النصوح وصحبة الأخيار، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة التحريم الآية 8
(3) أخرجه أحمد برقم (17145) كتاب مسند الشاميين بلفظ: إن الإسلام يجب ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبله.
(4) أخرجه ابن ماجه برقم 4240، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة(22/412)
261 - يكفيك التوبة والحذر من العود
إلى عملك السيئ
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمدا صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
فإنني لا أكتب لمفتي السعودية فقط، ولكن أكتب لكل المسلمين الصادقين والمذنبين، وأنا من المذنبين، ووقعت في أكبر معصية تدنس الشرف، وتخزي الجبين، وقد جربت الأمرين في الدنيا، فلا أريد أن تدور علي الدوائر في الآخرة.
شيخنا الموقر لقد وقعت في كبيرة اللواط ومن يومها قلبي يتأجج نارا لا تتركني لكلمة التوبة، فكلمة التوبة معناها كبير، وعندي لا يخلصني إلا إقامة الحد والضرب بالسيف، لترتاح تلك الروح الدنسة المعذبة، تحقيقا واقتداء بالصحابية التي أقام عليها الرسول صلى الله عليه وسلم الحد.
لا أريد أن أدخل في أمور السفسطة التي ليس لها معنى، ولكن أتجه إلى القلب الرحيم أبا للمسلمين على وجه الأرض الآن أن تسمح لي لإدخالي إلى السعودية ولو مكبلا وإقامة(22/413)
الحد علي.
لقد بعثت لأحد المشايخ، وقال لي: تب إلى الله ولا تيئس من رحمة الله، وأنا لست يائسا من رحمة الله قدر ما أنا متخاذل من الوقوف بين يدي الله في هذه المعصية بالذات، وعملت عمرة منذ سنة، وقابلت مفتي الحرم، وقال لي: من تاب تاب الله عليه.. إنني تائب، ويختلجني في الباطن قاذورات، لا آمن أن أقابل الله بها.
أرجوك يا شيخنا إنني أريد أن أجود بروحي إلى الله عسى أن ينظر لي يوم القيامة راضيا عني، وثقتي بالله كبيرة، كما أن أهلي من صوالح الناس وأنا خزيتهم، وإن كان هذا الأمر لا يهم بجوار عفو ورضى الله، أرجو أن لا تردني، فإنني بين نارين، وأنا أمانة بيدك، قد أبلغتك أمري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده (1) :
يكفيك التوبة إلى الله سبحانه والحذر من العود إلى عملك السيئ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «التوبة تجب ما قبلها» وقوله صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا
__________
(1) صدرت من سماحته بتاريخ 14 \ 3 \ 1419هـ.(22/414)
ذنب له (1) » وقد قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} (2) فاتق الله واصدق في التوبة واحذر مجالسة الأشرار، وأبشر بالعاقبة الحميدة، والسلامة من شر ما فعلت.. وفقنا الله وإياك للتوبة النصوح، والعافية من كل سوء، إنه جواد كريم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .
(2) سورة الشورى الآية 25(22/415)
262 - تقام الحدود في مكة والمدينة
س: هل تقام الحدود في مكة؟
ج: تقام الحدود في مكة والمدينة؛ لأن صاحب الحد انتهك حرمتهما، مثل الزاني، والسارق. (1) .
__________
(1) من أسئلة دروس شرح بلوغ المرام كتاب الحج.(22/415)
263 - هل التوبة تكفر الكبائر
س: ارتكبت كبيرة من الكبائر فهل تكفي التوبة والاستغفار فيها؟ (1) .
ج: التوبة النصوح يكفر الله بها جميع الذنوب حتى الشرك لقول الله سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وقوله عز وجل في سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (3) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (4) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (5)
فأخبر سبحانه في هاتين الآيتين أن المشرك والقاتل بغير حق والزاني يلقى أثاما، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه
__________
(1) صدرت من سماحته بتاريخ 27 \ 5 \ 1419 هـ.
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة الفرقان الآية 68
(4) سورة الفرقان الآية 69
(5) سورة الفرقان الآية 70(22/416)
مهانا، إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «التوبة تجب ما قبلها» ، وقال عليه الصلاة والسلام: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (1) » وشروط التوبة النصوح التي يكفر الله بها الخطايا ثلاثة: الأول: الندم على ما وقع منه من السيئات والمعاصي، والثاني: تركها والإقلاع منها خوفا من الله سبحانه وتعظيما له، والثالث: العزم الصادق ألا يعود فيها.. وهناك شرط رابع لصحة التوبة إذا كان الذنب يتعلق بالمخلوق كالقتل والضرب وأخذ المال ونحو ذلك: وهو إعطاؤه حقه أو استحلاله من ذلك، نسأل الله أن يوفقنا والمسلمين جميعا للتوبة النصوح من جميع الذنوب إنه جواد كريم.
__________
(1) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .(22/417)
264 - هل يلزمني بعد التوبة الإخبار عن المعاصي
س: عملي أوقعني في أخطاء ومعاصي مع النساء ما دون الزنا، وكذبت مخافة الفضيحة، فهل يلزمني بعد توبتي الإخبار(22/417)
عن الحقيقة؟ (1) .
ج: التوبة كافية، الإنسان يستتر بستر الله مع التوبة وعدم إفشاء ما وقع منه من المعاصي والسيئات، ومن تاب تاب الله عليه، الواجب عليك التوبة إلى الله، والحذر من أسباب الشر، والحذر من وسائل الزنا، والحذر من كل ما حرم الله، وإذا ألم العبد بشيء من المعاصي فليتب إلى الله وليستغفر الله، ولا يبدي صفحته، ولا ينشر سوأته، ولا يفضح نفسه.
انتهى الجزء الثاني والعشرون ويليه
بمشيئة الله تعالى الجزء الثالث والعشرون
وأوله كتاب الأطعمة
__________
(1) صدر من سماحته بعد درس في المسجد الحرام في 26 \ 12 \ 1418هـ.(22/418)
صفحة فارغة(23/1)
صفحة فارغة(23/2)
بسم الله الرحمن الرحيم(23/3)
صفحة فارغة(23/4)
كتاب الأطعمة(23/5)
صفحة فارغة(23/6)
1 - الأصل حل ذبائح أهل الكتاب
إلا إذا علم الواقع من ذبائحهم
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم الشيخ س. ن. ذ. وفقه الله لكل خير آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابكم الكريم المتضمن الأسئلة الأربعة، وصلكم الله بهداه ومنحني وإياكم وسائر المسلمين الفقه في دينه، والثبات عليه وهذا نصها وجوابها:
السؤال الأول: ذكرتم أنكم أحجمتم عن أكل اللحوم بأنواعها لاعتقادكم بأنها لا تذبح على الطريقة الإسلامية ولا على طريقة أهل الكتاب اليهود والنصارى أي لا يذكر اسم الله عليها وتسألني هل أكلها حلال أم حرام؟ (1) .
والجواب: قال الله سبحانه: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (2) الآية.
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة واكتفي بالسؤال الأول فقط دون غيره لعلاقته بالكتاب.
(2) سورة المائدة الآية 5(23/7)
هذه الآية أوضحت لنا أن طعام أهل الكتاب مباح لنا وهم اليهود والنصارى، إلا إذا علمنا أنهم ذبحوا الحيوان المباح على غير الوجه الشرعي، كأن يذبحوه بالخنق أو الكهرباء أو ضرب الرأس ونحو ذلك، فإنه بذلك يكون منخنقا، أو موقوذا فيحرم علينا كما تحرم علينا المنخنقة والموقوذة التي ذبحها مسلم على هذا الوجه، أما إذا لم نعلم الواقع فذبيحتهم حل لنا عملا بالآية الكريمة وإليكم جوابا قد صدر منا بالموضوع للاستفادة منه.
أما كونهم لا يذكرون اسم الله على الذبيحة فهذا من جملة جهلهم فلا يمنع حل ذبيحتهم، كالمسلم إذا نسي التسمية أو جهل حكمها عند الذبح؛ لقول الله سبحانه: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (1) وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما تلا هذه الآية قال: «قال الله: قد فعلت (2) » . وقال تعالى في سورة الأحزاب: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله وضع عن أمتي
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) أخرجه مسلم برقم (180) كتاب الإيمان.
(3) سورة الأحزاب الآية 5(23/8)
الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (1) » خرجه ابن ماجه (2) والحاكم وفي إسناده ضعف ولكن شواهده كثيرة.
__________
(1) سنن ابن ماجه الطلاق (2045) .
(2) أخرجه ابن ماجه برقم (2535) كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي.(23/9)
2 - الأصل في طعام أهل الكتاب الحل
س: ما حكم ما أعلن في مؤتمر عقد في أمريكا ومن ضمن توصياته التنبيه على بعض المنتجات لأنها تحوي لحم الخنزير. ومن تلكم المنتجات صابون ومعجون وجبن. . . الخ مع رجاء التوجيه. وهل لديكم علم عن هذا المؤتمر، وعن تلكم المنتجات؟ .
ج: قد وجه إلينا أسئلة عن هذه الأشياء التي ذكرها السائل من المنتجات وما حصل في هذا المؤتمر، وأحيل إلى الجهات المختصة هنا في المملكة فذكرت أنه لم يرد إلى المملكة شيء من(23/9)
ذلك، ولم يثبت لدينا شيء في ذلك يخالف ما ذكرته الجهات المختصة في المملكة، مما يدعى أنه من لحم الخنزير، أو من شحمه، فيما يرد إلى هذه المملكة من طعام أهل الكتاب. والأصل الحل حتى يثبت ما يخالف ذلك؛ لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (1) والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 172(23/10)
3 - حكم أكل ذبائح النصارى
س: هل يحل أكل ذبائح النصارى في زمننا الحاضر؟ علما بتعدد طرق الذبح لديهم كاستخدام الماكينات والمواد المخدرة في عملية الذبح؟ .
ج: يجوز أكل ذبائحهم ما لم يعلم أنها ذبحت بغير الوجه الشرعي؛ لأن الأصل حلها كذبيحة المسلم، لقول الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 5(23/10)
4 - حكم شحم الخنزير
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم الشيخ ف. ت. زاده الله من العلم النافع والإيمان آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد (1) :
فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ في 5 \ 11 \ 1387 هـ وصلكم الله بهداه وما تضمنه من السؤال كان معلوما.
وقد تضمن خطابكم المذكور السؤال عن حكم شحم الخنزير وذكرتم أنه بلغكم عن بعض علماء العصر حل ذلك.
فالجواب عن ذلك: أن الذي عليه الأئمة الأربعة وعامة أهل العلم هو تحريم شحمه تبعا للحمه، وحكاه الإمام القرطبي والعلامة الشوكاني: إجماع الأمة الإسلامية؛ لأنه إذا نص على تحريم الأشرف فالأدنى أولى بالتحريم، ولأن الشحم تابع للحم عند الإطلاق فيعمه النهي والتحريم، ولأنه متصل به اتصال خلقه فيحصل به من الضرر ما يحصل بملاصقه وهو اللحم، ولأنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على تحريم الخنزير بجميع أجزائه والسنة تفسر القرآن وتوضح
__________
(1) أجاب عنه سماحته عندما كان نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية.(23/11)
معناه، ولم يخالف في هذا أحد فيما نعلم، ولو فرضنا وجود خلاف لبعض الناس فهو خلاف شاذ مخالف للأدلة والإجماع الذي قبله فلا يلتفت إليه. ومما ورد من السنة في ذلك ما رواه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الفتح فقال: إن الله ورسوله حرم عليكم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (1) » . . الحديث. فجعل الخنزير قرين الخمر والميتة ولم يستثن شحمه، بل أطلق تحريم بيعه كما أطلق تحريم بيع الخمر والميتة، وذلك نص ظاهر في تحريمه كله والأحاديث في ذلك كثيرة. وقد كتبنا جوابا في حكمة تحريم الخنزير نرسل لكم نسخا منه مع نسختين من كتابين آخرين في الموضوع للاطلاع عليه، والله المسئول أن يوفقنا جميعا للفقه في دينه والنصح له ولعباده والدعوة إليه على بصيرة، إنه جواد كريم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2236) ، صحيح مسلم المساقاة (1581) ، سنن الترمذي البيوع (1297) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4256) ، سنن أبو داود البيوع (3486) ، سنن ابن ماجه التجارات (2167) ، مسند أحمد بن حنبل (3/324) .(23/12)
5 - حكم أكل اللحوم التي
تباع في أسواق الدول غير الإسلامية
س: ما حكم أكل اللحوم التي تباع في أسواق الدول غير الإسلامية، وهل هي حلال أم حرام؟ (1) .
ج: قد أجمع علماء الإسلام على تحريم ذبائح المشركين من عباد الأوثان ومنكري الأديان ونحوهم من جميع أصناف الكفار غير اليهود والنصارى والمجوس، وأجمعوا على إباحة ذبيحة أهل الكتاب من اليهود والنصارى واختلفوا في ذبيحة المجوس عباد النار، فذهب الأئمة الأربعة والأكثرون إلى تحريمها إلحاقا للمجوس بعباد الأوثان وسائر صنوف الكفار من غير أهل الكتاب، وذهب بعض أهل العلم إلى حل ذبيحتهم إلحاقا لهم بأهل الكتاب وهذا قول ضعيف جدا بل باطل، والصواب ما عليه جمهور أهل العلم من تحريم ذبيحة المجوس كذبيحة سائر المشركين؛ لأنهم من جنسهم فيما عدا الجزية وإنما شابه المجوس أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم فقط، والحجة في ذلك قول الله سبحانه في كتابه الكريم في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (2)
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(2) سورة المائدة الآية 5(23/13)
فصرح سبحانه بأن طعام أهل الكتاب حل لنا وطعامهم ذبائحهم كما قاله ابن عباس وغيره من أهل العلم، ومفهوم الآية أن طعام غير أهل الكتاب من الكفار حرام علينا، وبذلك قال أهل العلم قاطبة إلا ما عرفت من الخلاف الشاذ الضعيف في ذبيحة المجوس.
إذا علم هذا فاللحوم التي تباع في أسواق الدول غير الإسلامية إن علم أنها من ذبائح أهل الكتاب فهي حل للمسلمين، إذا لم يعلم أنها ذبحت على غير الوجه الشرعي، إذ الأصل حلها بالنص القرآني فلا يعدل عن ذلك إلا بأمر متحقق يقتضي تحريمها، أما إن كانت اللحوم من ذبائح بقية الكفار فهي حرام على المسلمين ولا يجوز لهم أكلها بالنص والإجماع ولا تكفي التسمية عليها عند غسلها ولا عند أكلها، أما ما قد يتعلق به من قال ذلك فهو وارد في شأن أناس من المسلمين كانوا حديثي عهد بالكفر، فسأل بعض الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا: «يا رسول الله إن قوما حديثي عهد بالكفر يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ (1) »
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .(23/14)
رواه البخاري (1) . من حديث عائشة رضي الله عنها وبذلك يصلح أنه لا شبهة لمن استباح اللحوم التي تجلب في الأسواق من ذبح الكفار غير أهل الكتاب بالتسمية عليها؛ لأن حديث عائشة المذكور وارد في المسلمين لا في الكفار فزالت الشبهة؛ لأن أمر المسلم يحمل على السداد والاستقامة ما لم يعلم منه خلاف ذلك ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أمر هؤلاء الذين سألوه بالتسمية عند الأكل من باب الحيطة وقصد إبطال وساوس الشيطان، لا لأن ذلك يبيح ما كان محرما من ذبائحهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما كون المسلم في تلك الدول غير الإسلامية يشق عليه تحصيل اللحم المذبوح على الوجه الشرعي ويمل من أكل لحم الدجاج ونحوه فهذا ونحوه لا يسوغ له أكل اللحوم المحرمة ولا يجعله في حكم المضطر بإجماع المسلمين. فينبغي التنبيه لهذا الأمر والحذر من التساهل الذي لا وجه له. هذا ما ظهر لي في هذه المسألة التي عمت بها البلوى، وأسأل الله أن يوفق المسلمين لما فيه صلاح دينهم ودنياهم وأن يعمر قلوبهم بخشيته وتعظيم حرماته والحذر مما يخالف شرعه.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (5083) كتاب الذبائح والصيد، باب: ذبيحة الأعراب ونحوهم(23/15)
6 - حكم ذبائح أهل الكتاب إذا عرفت طريقة ذبحهم
س: نجد لحوما كثيرة مذبوحة ومستوردة من بلاد غير إسلامية هل نأكل منها ولا نفكر في عملية الذكاة؟ (1) .
ج: إذا كانت اللحوم من بلاد أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فلا بأس؛ لأن الله تعالى أباح لنا طعامهم، وطعامهم ذبائحهم، فلا مانع من أن نأكل منها إذا لم نعلم ما يمنع من ذلك، فأما إذا علمنا أنها ذبحت خنقا أو ضربا في الرءوس بالمطارق ونحوها أو المسدسات أو صرعا بالكهرباء فلا نأكل منها، وقد بلغني عن كثير من الدعاة أن كثيرا من المجازر تذبح على غير الطريقة الشرعية في أمريكا وفي أوروبا فإذا احتاط المؤمن ولم يأكل من هذه اللحوم كان ذلك أحسن وأسلم؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2) » . وقوله صلى الله عليه وسلم: «من اتقى
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.
(2) أخرجه الترمذي برقم (2442) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، والنسائي برقم (5615) كتاب الأشربة.(23/16)
الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه (1) » .
فالمؤمن عليه أن يحتاط في شرابه وطعامه فإذا اشترى الحيوان حيا من الدجاج أو من الغنم وذبحها بنفسه يكون ذلك أولى وأحسن أو اشتراه من جزارين معروفين بالذبح على الطريقة الشرعية يكون هذا خيرا له وأحوط له.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (50) كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، ومسلم برقم (2996) كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات.(23/17)
7 - حكم الدجاج المستورد
س: ما حكم لحم الدجاج الذي يأتي من الخارج مذبوحا ومصبرا؟ .
ج: إذا كان الدجاج الذي يذبح في الخارج وغيره من اللحوم التي ترد مصبرة يرد من بلاد أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فهو حلال؛ لأن طعام أهل الكتاب حل لنا بنص القرآن الكريم ما لم يعلم سبب يحرمه مثل كونه مما أهل لغير الله أو ذبح(23/17)
بغير قطع الرأس، أما إن كان ذلك يرد من بلاد المجوس أو الشيوعيين والاشتراكيين أو غيرهم من الوثنيين فهو حرام لا يجوز أكله.(23/18)
8 - حكم الدجاج المجمد
س: ما حكم اللحوم المستوردة من الخارج وكذلك الدجاج المثلج الذي لا نعلم عن ذبحها حيث إن بعض العلماء لا يؤيدون شراءها؟ .
ج: إذا كانت اللحوم المذكورة مستوردة من بلاد أهل الكتاب حل أكلها ما لم تعلم ما يدل على حرمتها؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (1) الآية.
وكون بعض المجازر في بعض بلاد أهل الكتاب تذبح ذبحا
__________
(1) سورة المائدة الآية 5(23/18)
غير شرعي لا يوجب ذلك تحريم الذبائح المستوردة من بلاد أهل الكتاب حتى تعلم أن تلك الذبيحة المعينة من المجزرة التي تذبح ذبحا غير شرعي؛ لأن الأصل الحل والسلامة حتى تعلم ما يقتضي خلاف ذلك.(23/19)
9 - حكم اللحوم المستوردة
من البلاد الشيوعية والمجوسية والوثنية
س: ما حكم الشرع في اللحوم المجففة والدجاج الدانمركي المجفف؟ (1) .
ج: اللحوم التي ترد من بلاد أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى حلال إذا لم يعلم أنها ذبحت بطريقة غير شرعية كالخنق والضرب وما إلى ذلك، ولأن طعام أهل الكتاب حل لنا، لقول الله تعالى في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (2) أما اللحوم التي ترد من
__________
(1) سؤال أجاب عنه سماحته بتاريخ 5 \ 8 \ 1418 هـ.
(2) سورة المائدة الآية 5(23/19)
البلاد الشيوعية أو الاشتراكية أو المجوسية أو الوثنية فهي محرمة؛ لأنهم ليسوا أهل الكتاب وليس لهم حكم المسلمين.(23/20)
10 - حكم اللحوم المجهولة في بلاد الكفار
س: يباع هنا في أمريكا لحوم مثلجة ومبردة ولا ندري من ذبحها ولا كيف ذبحت، فهل نأكل منها؟ (1) .
ج: إذا كانت المنطقة التي فيها اللحوم المذكورة ليس فيها إلا أهل الكتاب من اليهود والنصارى فذبيحتهم حلال، ولو لم تعلم كيف ذبحوها؛ لأن الأصل حل ذبائحهم، لقول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (2) الآية، فإن كان في المنطقة غيرهم من الكفار فلا تأكل، لاشتباه الحلال بالحرام، وهكذا إن علمت أن الذين يبيعون هذه اللحوم يذبحون على غير الوجه الشرعي كالخنق والصعق فلا تأكل سواء كان الذابح مسلما أو كافرا؛ لقول الله عز وجل:
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 3 ص 418.
(2) سورة المائدة الآية 5(23/20)
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (1) الآية. وفق الله المسلمين للفقه في الدين إنه سميع قريب.
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(23/21)
11 - الأصل في الأجبان
وغيرها من الأطعمة الحل
س: بعض الأجبان يدخل في صناعتها بما يعرف بمنفحة العجل وهي أجبان مستوردة فما حكمها؟ (1) .
ج: الأصل الحل من الأجبان الموجودة بين المسلمين حتى يعلم أن فيها شيئا نجسا وإلا فالأصل حلها فيما يجلب من بلادنا فالأصل فيه الحل، إلا أن يعلم يقينا أن فيه ما يحرمه.
__________
(1) سؤال موجه لسماحته في حج عام 1415 هـ الشريط 49 \ 9.(23/21)
12 - الحكمة في تحريم لحم الخنزير
س: ما الحكمة في تحريم لحم الخنزير، أرجو الإفادة؟ (1) .
ج: قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (2) والرجس: هو النجس الخبيث، وهو الحكمة في تحريم لحم الخنزير، ولهذا استباحه الكفار من النصارى وغيرهم لخبثهم؛ لأن حكمة الله سبحانه وتعالى اقتضت أن الخبيثين للخبيثات والخبيثات للخبيثين.
__________
(1) نشر في جريدة عكاظ العدد 10877 وتاريخ 7 \ 1 \ 1417 هـ.
(2) سورة الأنعام الآية 145(23/22)
13 - لحم الخنزير وشحمه حرام
س: يقول سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} (1) الآية، هل أفهم من ذلك أن غير لحم الخنزير حلال، كدهنه وشحمه مثلا؟ ثم إذا كان شحمه ودهنه حراما فما هو تفسير قوله تعالى: {وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} (2) ولم يقل والخنزير؟ (3) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 3 ص 392.(23/22)
ج: قد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم الخنزير كله لحمه وشحمه، واحتجوا بهذه الآية الكريمة وما جاء في معناها. وقالوا: إنما حرم لخبثه، والخبث يعم اللحم والشحم، لكن الله سبحانه ذكر اللحم، لأنه المقصود والباقي تبع، واحتجوا على ذلك أيضا بما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الفتح: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (1) » . فنص على الخنزير ولم يذكر اللحم فدل ذلك على تعميم التحريم.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (2082) كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام، ومسلم برقم (2960) كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام.(23/23)
14 - حكم دهن الخنزير (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد اطلعت أخيرا على كلمة بعنوان " الخنزير ودهنه " بقلم ع. ع. قال فيها وفقه الله: (قضية تشغل بال كل مسلم
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 3 ص 393.(23/23)
يتوجه إلى أوربا وأمريكا لأي غرض وهو كيف يتسنى له أن يعرف الطعام الذي يقدم له أو يشتريه يجب أن يكون خاليا من دهن الخنزير الذي يستخدم بكثرة في المجتمعات الغربية كيف يضمن أن ما يأكله هو حسب الشريعة الإسلامية والسنة المحمدية) . وقال: (إذا ماذا يمكن أن تتصرف الأغلبية في هذه الظروف هذا سؤال يهم عددا كبيرا ممن تضطرهم الظروف إلى الحياة في المجتمعات الغربية سواء للعمل أو التعليم، ونتوجه بهذا السؤال إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس هيئة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ليريح الكثيرين من أبنائنا المبتعثين إلى الخارج والذين كثرت تساؤلاتهم حول هذا الموضوع حتى أن البعض ذهب إلى أن حالتهم هذه حالة ضرورة وأن الضرورات تبيح المحظورات. أم أن ذلك أمر لا تبيحه الشريعة الإسلامية وأن هناك حلولا أخرى غير النزول على حكم الضرورة) .
وإني أشكر للأخ الكاتب اهتمامه بهذه المشكلة وبحثه عن حلها وأود أن أجيب عن تساؤله في كلمة موجزة وأسأل الله أن ينفع بها فأقول:(23/24)
أولا: لا شك أن الطالب المبتعث إلى الخارج يواجه مشكلات عديدة في مطعمه ومشربه ودخوله وخروجه وأدائه للعبادات التي افترضها الله عليه، وهو فوق ذلك محفوف بمخاطر عظيمة، إذ يتعرض الشاب للفتن ودعاة الضلال وأرباب المجون وجنود المنظمات الغربية والشرقية ولا عاصم من ذلك إلا من رحم الله، ولهذا فلا ينبغي للطالب المسلم أن يترك الدراسة في بلده ويسافر إلى الخارج فيعرض نفسه لهذه الأخطار العظيمة والفتن الكبيرة.
أما إذا اضطرت البلاد إلى سفر أناس معينين لدراسة علوم خاصة لا توجد في المملكة ولا غيرها من بلاد المسلمين، فعند ذلك ينبغي أن يختار طائفة من أرباب العقل والدين والفهم لأحكام الإسلام ثم يتلقون تلك العلوم في أماكن وجودها مع الحيطة والحذر وشدة المراقبة والمتابعة وبعد نهاية هذه الدراسة يعودون فورا إلى بلادهم.
ثانيا: إن الله سبحانه وتعالى عليم بأحوال عباده خبير بما ينفعهم وما يضرهم وقد أنزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم شريعة الإسلام التي جاءت بكل خير وحذرت من كل شر، وأنه سبحانه حرم المحرمات للضرر الموجود فيها على العباد مما علموه وما لم يعلموه، وإن من تلك المحرمات لحم الخنزير الذي(23/25)
قد دل على تحريمه الكتاب والسنة وإجماع علماء المسلمين، قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} (1) وقال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} (2) وفي الحديث المتفق عليه: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (3) » . فدل القرآن والسنة على تحريم لحم الخنزير، وعلى ذلك أجمع العلماء. قال بعض العلماء رحمهم الله تعالى: (وأما الخنزير فقد أجمعت الأمة على تحريم جميع أجزائه) ا. هـ. والله تعالى إنما حرم الخبائث لحكم عظيمة يعلمها هو وإن خفيت على غيره ولو اتضح لبعض الخلق بعض الأسرار والحكم من تحريم الله لبعض الأشياء، فإن ما يخفى عليهم أكثر والحكمة في تحريم الخنزير والله أعلم: ما يتصف به من القذارة التي تصاحبها الأضرار والأمراض المادية والمعنوية ولذلك أشهى غذائه القاذورات والنجاسات وهو ضار في جميع الأقاليم، ولا سيما الحارة كما ثبت بالتجربة، وأكل لحمه من أسباب وجود الدودة الوحيدة القتالة. ويقال: إن له تأثيرا سيئا في العفة والغيرة، ويشهد لهذه حال أهل البلاد الذين يأكلونه. وقد وصل الطب الحديث
__________
(1) سورة البقرة الآية 173
(2) سورة الأنعام الآية 145
(3) صحيح البخاري البيوع (2236) ، صحيح مسلم المساقاة (1581) ، سنن الترمذي البيوع (1297) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4256) ، سنن أبو داود البيوع (3486) ، سنن ابن ماجه التجارات (2167) ، مسند أحمد بن حنبل (3/324) .(23/26)
إلى كثير من الحقائق التي تثبت إصابة كثير من متناولي لحم الخنزير بأمراض يتعذر علاجها ومع أن الطب الحديث المتطور توصل إلى تشخيص أضرار أكل لحم الخنزير فقد يكون ما خفي فيه من الأضرار ولم يصل إليه الطب أضعاف أضعافها.
ثالثا: إن للأكل من الحلال والطيب من المطاعم أثرا عظيما في صفاء القلب واستجابة الدعاء وقبول العبادة كما أن الأكل من الحرام يمنع قبولها، قال تعالى عن اليهود {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (2) أي الحرام، ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه وأنى يستجيب له؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس: إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: وقال تعالى: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب يا رب
__________
(1) سورة المائدة الآية 41
(2) سورة المائدة الآية 42
(3) أخرجه مسلم برقم (1686) كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من المكسب الطيب وتربيتها.
(4) سورة المؤمنون الآية 51 (3) {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}(23/27)
ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له (1) » .
رابعا: إذا علم ما تقدم فإن الواجب على المسلم أن يتقي الله سبحانه وتعالى ويكف عن المحرمات وأن لا يضع نفسه موضعا لا يستطيع فيه أن يطيع الله ويلتزم أحكامه ولا ينبغي للمسلم أن يضع نفسه هذا الموضع ثم يلتفت إلى العلماء ويقول: أريد حلا من الإسلام لهذه المشكلة، ذلك أن المشكلة إنما تحل بأخذ رأي الإسلام في جميع جوانبها، أما إهمال جانب أو التساهل فيه ومحاولة الأخذ بجانب واحد فقط فإنه لا يجدي شيئا.
خامسا: لا يجوز للطالب المبتعث أن يأكل شيئا من لحم الخنزير، أما الحلول الأخرى التي يطلبها صاحب الكلمة المشار إليها فإنها بالإضافة إلى ما تقدم تنبعث من تقوى الله سبحانه وهو يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (3) ويرى الشاهد ما لا يرى الغائب، وما أرخص الدهون في بلاد المسلمين ويستطيع المبتعث نقل حاجته معه منها
__________
(1) سورة البقرة الآية 172 (4) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 3(23/28)
أو أن ترسل إليه، أو أن تجتمع جماعة من المبتعثين ويهيئوا لأنفسهم المآكل المناسبة المباحة شرعا كالأسماك ونحوها، ولو احتاج الأمر أن يذبحوا لأنفسهم وما يحصل في ذلك من المشقة ينبغي تحمله في سبيل مرضاة الله وعدم الوقوع فيما حرم.
وختاما أكرر شكري للأخ عصام عبد البديع الذي طرح هذه المشكلة، وأسأل الله أن يوفق أبناء المسلمين لطاعة ربهم والتزام شريعته والعمل بأحكامه والحذر من مكائد أعدائه إنه سميع قريب وهو سبحانه الهادي إلى سواء السبيل. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(23/29)
15 - تحريم ذبائح الوثنيين والاشتراكيين والملاحدة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم معالي وزير التجارة وفقه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد (1) .
يا محب لقد علمت منذ أيام بواسطة كثير من الإخوان أنه يوجد في أسواق المدينة ضمن لحوم الدجاج الواردة من البلاد الخارجية إلى المملكة نوع مكتوب عليه البلاد البلغارية والبلاد اليوغسلافية. وغير خاف على معاليكم أن بلغاريا ويوغسلافيا كلاهما بلاد اشتراكية، والاشتراكيون ذبائحهم محرمة من جنس ذبح المجوس وعبدة الأوثان، بل ذبائحهم أشد حرمة، لكونهم أعظم كفرا بسبب إلحادهم وإنكارهم الباري عز وجل ورسوله إلى غير ذلك من أنواع كفرهم، ولو سموا الله عند الذبح أو ذبحوا كما يذبح المسلمون فإن ذلك كله لا يخرج ذبيحتهم من كونها محرمة بإجماع أهل العلم، فأرجو من معاليكم تعميد الجهات المختصة
__________
(1) خطاب موجه من سماحته إلى وزير التجارة رقم (1999) وتاريخ 29 \ 11 \ 1388 هـ.(23/30)
بمنع توريد ذبائحهم حماية للمسلمين من أكل الحرام، وإنما أباح الله للمسلمين من ذبح الكفر ذبيحة أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى إذا لم نعلم أنهم ذبحوها ذبحا يحرمها كالخنق وما في حكمه؛ لقول الله سبحانه: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (1) الآية. وطعامهم هو الذبائح كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من أهل العلم. وأسأل الله أن يوفق معاليكم لكل خير وأن يسدد خطاكم ويحمي بجهودكم شريعته إنه جواد كريم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
__________
(1) سورة المائدة الآية 5(23/31)
16 - مسألة في حكم
اللحوم المستوردة من بلاد وثنية
س: هل يجوز أكل اللحوم المستوردة من الدول التي لا تدين غالبيتها بالإسلام أو النصرانية أو اليهودية كالهند واليابان والصين أو غيرها؟ (1) .
ج: إذا كانت اللحوم واردة من بلاد وثنية أو شيوعية فإنها لا يحل أكلها، لأن ذبائحهم محرمة وإنما أباح الله للمسلمين طعام أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى في قوله عز وجل: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (2) الآية.
وهذا ما لم يعلم المسلم أنها ذبحت على غير الوجه الشرعي، كالخنق والصعق ونحوهما، فإن علم ذلك لم تحل له ذبيحتهم؟ لقول الله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (3) الآية.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جع محمد المسند ج 3 ص 405.
(2) سورة المائدة الآية 5
(3) سورة المائدة الآية 3(23/32)
17 - ذبائح الكفار من غير أهل الكتاب
س: إنني طالب صومالي أدرس في الصين وأواجه صعوبات كثيرة في الطعام عامة واللحوم بصفة خاصة والمشكلات هي:
أ- أنني أسمع قبل مجيئي للصين أن الحيوانات التي ذبحها الملحدون أو بالأحرى قتلوها لا يجوز للمسلم أكلها، وعندنا في الجامعة مطعم صغير للمسلمين وتوجد فيه لحوم، غير أني لست على يقين أنها مذبوحة على الطريقة الإسلامية ومتشكك في ذلك مع العلم أن زملائي غير مشككين مثلي ويأكلون منها، أهم على حق أم يأكلون حراما؟ .
ج: لا يجوز أكل ذبائح الكفار غير أهل الكتاب من اليهود والنصارى سواء كانوا مجوسا أو وثنيين أو شيوعيين أو غيرهم من أنواع الكفار، ولا ما خالط ذبائحهم من المرق وغيره؛ لأن الله سبحانه لم يبح لنا من أطعمة الكفار إلا طعام أهل الكتاب في(23/33)
قوله عز وجل: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (1) الآية من سورة المائدة، وطعامهم هو ذبائحهم كما قال ابن عباس وغيره، أما الفواكه ونحوها فلا حرج فيها؛ لأنها غير داخلة في الطعام المحرم، أما طعام المسلمين فهو حل للمسلمين وغيرهم إذا كانوا مسلمين حقا لا يعبدون إلا الله ولا يدعون معه غيره من الأنبياء والأولياء وأصحاب القبور وغيرهم مما يعبده الكفرة.
__________
(1) سورة المائدة الآية 5(23/34)
18 - حكم أكل الضبع
س: بعض الإخوة يحللون أكل الضبع ويقولون: إن سماحتكم قد أجاز أكلها فنرجو إفادتنا في ذلك جزاكم الله خيرا؟ (1) .
ج: النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنها صيد (2) » . فالضبع صيد بنص الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407 أهـ.
(2) أخرجه الترمذي برقم (1713) كتاب الأطعمة، باب ما جاء في أكل الضبع، وأبو داود برقم (1860) كتاب المناسك، باب ما جاء في جزاء الضبع، والنسائي برقم (4249) كتاب الصيد والذبائح، باب الضبع.(23/34)
ولله فيها حكم، فالذين يعرفون لحمها وجربوه يقولون: فيه فوائد كثيرة لأمراض كثيرة، والمقصود أنها حل وإذا ذبحها ونظفها وألقى ما في بطنها وطبخها فإنها حل كسائر أنواع الصيد.(23/35)
19 - حكم النيص
س: ما حكم أكل حيوان النيص المعروف؟ .
ج: قد اختلف العلماء رحمهم الله في حكمه فمنهم من أحله ومنهم من حرمه، وأصح القولين أنه حلال؛ لأن الأصل في الحيوانات الحل فلا يحرم منها إلا ما حرمه الشرع ولم يرد في الشرع ما يدل على تحريم هذا الحيوان وهو يتغذى بالنبات كالأرنب والغزال وليس من ذوات الناب المفترسة، فلم يبق وجه لتحريمه، والحيوان المذكور نوع من القنافذ ويسمى الدلدل ويعلو جلده شوك طويل وقد سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن القنفذ فقرأ قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} (1) الآية.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 145(23/35)
فقال شيخ عنده: إن أبا هريرة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه خبيث من الخبائث» فقال ابن عمر: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك، فهو كما قاله (1) .
فاتضح من كلامه رضي الله عنه أنه لا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في شأن القنفذ شيئا، كما اتضح من كلامه أيضا عدم تصديقه الشيخ المذكور، والحديث المذكور ضعفه البيهقي وغيره من أهل العلم بجهالة الشيخ المذكور فعلم مما ذكرنا صحة القول بحله وضعف القول بتحريمه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) أخرجه أحمد برقم (8597) باقي مسند المكثرين.(23/36)
20 - حكم أكل الميتة
س: سائل يسأل عن جواز أكل الميتة في صحراء خالية، وقد انقطع الأكل من الطعام فقط منذ مدة طويلة، مع العلم أن معه الماء الكافي لوصوله إلى مناطق مأهولة؟(23/36)
ج: إذا اضطر إلى ذلك وخاف على نفسه الموت إن لم يأكل جاز له ذلك؛ لقوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(23/37)
21 - حكم أكل المسلم مع الكافر
س: هل إذا أكل المسلم مع نصراني أو غيره من الكفرة أو شرب معه يعتبر ذلك حراما؟ وإذا كان ذلك حراما فما نقول في قول الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (1) ؟
__________
(1) سورة المائدة الآية 5(23/37)
ج: ليس الأكل مع الكافر حراما إذا دعت الحاجة إلى ذلك أو لمصلحة شرعية، لكن لا تتخذهم أصحابا فتأكل معهم من غير سبب شرعي أو مصلحة شرعية ولا تؤانسهم، وتضحك معهم، ولكن إذا دعت إلى ذلك حاجة كالأكل مع الضيف أو ليدعوهم إلى الله ويرشدهم إلى الحق أو لأسباب أخرى شرعية فلا بأس.
وإباحة طعام أهل الكتاب لنا لا تقتضي اتخاذهم أصحابا وجلساء ولا تقتضي مشاركتهم في الأكل والشرب من دون حاجة ولا مصلحة شرعية، والله ولي التوفيق.(23/38)
22 - حكم الأكل مع من لا يصلي (1)
س: هل آكل مع رجل لا يصلي:
ج: لا حرج في ذلك إذا دعت الحاجة إليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع اليهود ومن مائدة اليهود لكن مع بغضهم في الله وعداوتهم وعدم محبتهم وعدم موالاتهم.
__________
(1) نشر في المجموع ج 6 ص 198.(23/38)
23 - حكم الدسم الذي في الأيدي والأواني
س: هل يجوز لصاحب البيت أو العمارة أن يجعل لبيته بيارة واحدة جميع التغسيل يذهب إليها بما في ذلك تغسيل أواني الطعام وتغسيل اليدين بعد الانتهاء من الأكل؟ (1) .
ج: لا حرج في جعل بيارة لغسل الأواني والأيدي من الطعام مع الفضولات الأخرى؛ لأن الدسم في الأيدي والأواني ليس بطعام، أما الخبز واللحوم وأنواع الأطعمة فلا يجوز طرحها في البيارات بل يجب دفعها إلى من يحتاج إليها أو وضعها في مكان بارز لا يمتهن، رجاء أن يأخذها من يحتاجها إلى دوابه، أو يأكلها بعض الدواب والطيور، ولا يجوز وضعها في القمامة ولا في المواضع القذرة ولا في الطريق، لما في ذلك من الامتهان لها ولما في وضعها في الطريق من الامتهان وإيذاء من يسلك الطريق.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 3 ص 456.(23/39)
24 - حكم وضع بقايا الطعام في النفايات واستخدام الجرائد سفرة للأكل
س: هل يجوز استخدام الجرائد كسفر للأكل عليها، وإذا كان لا يجوز فما العمل فيها بعد قراءتها؟ .
س 2: بالنسبة لبقايا الطعام يضعه بعض الناس في كرتون ونحوه ويوضع في الشارع لتأكله البهائم ولكن يأتي عمال النظافة ويضعونه مع بقية النفايات، والسؤال: هل يجوز وضع الطعام مع النفايات الأخرى؟
ج1: لا يجوز استعمال الجرائد سفرة للأكل عليها ولا جعلها ملفا للحوائج ولا امتهانها بسائر أنواع الامتهان إذا كان فيها شيء من الآيات القرآنية أو من ذكر الله عز وجل، والواجب إذا كان الحال ما ذكرنا حفظها في محل مناسب أو إحراقها أو دفنها في أرض طيبة.(23/40)
ج2: الواجب تسليمه لمن يأكله من الفقراء إن وجد، فإن لم يوجد من يأكله من الفقراء وجب جعله في مكان بعيد عن الامتهان حتى تأكله البهائم، فإن لم يتيسر ذلك وجب حفظه في كراتين أو أكياس باغة أو غيرها، وعلى البلديات في كل بلد أن تعمد المسئولين لديها أن يضعوه في أماكن نظيفة حتى تأكله البهائم أو يأخذه بعض الناس لبهائمه صيانة للطعام عن الإهانة والإضاعة.(23/41)
25 - حكم شرب الدخان والشيشة؟ (1)
س: ما حكم شرب الدخان والشيشة؟
ج: حكم ذلك أنها من المحرمات، لما فيها من الخبث والأضرار الكثيرة، فالله سبحانه إنما أباح لعباده الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، كما قال جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (2) وقال سبحانه في وصف نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (3)
__________
(1) نشر في مجموع الفتاوى لسماحته ج 8 ص 98.
(2) سورة المائدة الآية 4
(3) سورة الأعراف الآية 157(23/41)
فجميع أنواع التدخين ليست من الطيبات، بل كلها من الخبائث، لما فيها من الأضرار الكثيرة، فليست من الطيبات التي أباحها الله، فالواجب تركها، والحذر منها، وجهاد النفس في ذلك؛ لأن النفس أمارة بالسوء إلا من رحم الله، فينبغي للمؤمن أن يجاهد نفسه في ترك ما يضره من هذه الخبائث وغيرها.(23/42)
26 - من أضرار الدخان
س: ما وجهة من يقول بأن الدخان محرم في شرع الله تعالى؟ .
ج: وجهته أنه مضر ومخدر في بعض الأحيان، ومسكر في بعض الأحيان، والأصل فيه عموم الضرر، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار (1) » . فالمعنى: كل شيء يضر بالشخص في
__________
(1) أخرجه ابن ماجه برقم (2331) كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره.(23/42)
دينه أو دنياه محرم عليه تعاطيه من سم أو دخان أو غيرهما مما يضره؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار (2) » ، فمن أجل هذا حرم أهل التحقيق من أهل العلم التدخين، لما فيه من المضار العظيمة التي يعرفها المدخن نفسه ويعرفها الأطباء ويعرفها كل من خالط المدخنين. وقد يسبب موت الفجاءة وأمراضا أخرى، ويسبب السعال الكثير والمرض الدائم اللازم، كل هذا قد عرفناه وأخبرنا به جم غفير لا نحصيه ممن قد تعاطى شرب الدخان أو الشيشة أو غير ذلك من أنواع التدخين، فكله مضر، وكله يجب منعه، ويجب على الأطباء النصيحة لمن يتعاطاه، ويجب على الطبيب والمدرس أن يحذرا ذلك؛ لأنه يقتدى بهما.
__________
(1) سورة البقرة الآية 195
(2) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .(23/43)
27 - تحريم الدخان وبيان مضاره (1)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سألني بعض الإخوان عن حكم شرب الدخان، وإمامة من يتجاهر بشربه وذكر أن البلوى قد عمت بهذا الصنف من الناس.
والجواب: قد دلت الأدلة الشرعية على أن شرب الدخان من الأمور المحرمة شرعا، وذلك لما اشتمل عليه من الخبث والأضرار الكثيرة، والله سبحانه لم يبح لعباده من المطاعم والمشارب إلا ما كان طيبا نافعا، أما ما كان ضارا لهم في دينهم أو دنياهم أو مغيرا لعقولهم فإن الله سبحانه قد حرمه عليهم وهو عز وجل أرحم بهم من أنفسهم، وهو الحكيم العليم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، فلا يحرم شيئا عبثا ولا يخلق شيئا باطلا ولا يأمر بشيء ليس للعباد فيه فائدة؛ لأنه سبحانه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وهو العالم بما يصلح العباد وينفعهم في العاجل والآجل كما قال سبحانه {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (2) وقال
__________
(1) صدر من مكتب سماحة الشيخ بتاريخ 11 \ 5 \ 1417 هـ.
(2) سورة الأنعام الآية 83(23/44)
عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (1) والآيات في هذا المعنى كثيرة ومن الدلائل القرآنية على تحريم شرب الدخان قوله سبحانه وتعالى في سورة المائدة: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (2) وقال في سورة الأعراف في وصف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (3) الآية. فأوضح سبحانه في هاتين الآيتين الكريمتين أنه سبحانه لم يحل لعباده إلا الطيبات وهي الأطعمة والأشربة النافعة، أما الأطعمة والأشربة الضارة كالمسكرات والمخدرات وسائر الأطعمة والأشربة الضارة في الدين أو البدن أو العقل فهي من الخبائث المحرمة، وقد أجمع الأطباء وغيرهم من العارفين بالدخان وأضراره أن الدخان من المشارب الضارة ضررا كبيرا، وذكروا أنه سبب لكثير من الأمراض كالسرطان وموت السكتة وغير ذلك. فما كان بهذه المثابة فلا شك في تحريمه ووجوب الحذر منه فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يشربه، فقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (4)
__________
(1) سورة النساء الآية 11
(2) سورة المائدة الآية 4
(3) سورة الأعراف الآية 157
(4) سورة الأنعام الآية 116(23/45)
وقال عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (1) أما إمامة شارب الدخان وغيره من العصاة في الصلاة فلا ينبغي أن يتخذ مثله إماما، بل المشروع أن يختار للإمامة الأخيار من المسلمين المعروفين بالدين والاستقامة، لأن الإمامة شأنها عظيم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما (2) » .
الحديث رواه مسلم في صحيحه، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمالك بن الحويرث وأصحابه: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم (3) » . لكن اختلف العلماء رحمهم الله هل تصح إمامة الفاسق والصلاة خلفه، فقال بعضهم لا تصح الصلاة خلفه، لضعف دينه ونقص إيمانه، وقال آخرون من أهل العلم: تصح
__________
(1) سورة الفرقان الآية 44
(2) أخرجه مسلم برقم (1078) كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة.
(3) أخرجه البخاري برقم (592) كتاب الأذان، ومسلم برقم (1080) كتاب المساجد، ومواضع الصلاة.(23/46)
إمامته والصلاة خلفه؛ لأنه مسلم قد صحت صلاته في نفسه فتصح صلاة من خلفه، ولأن كثيرا من الصحابة صلوا خلف بعض الأمراء المعروفين بالظلم والفسق ومنهم ابن عمر رضي الله عنهما قد صلى خلف الحجاج وهو من أظلم الناس وهذا هو القول الراجح وهو صحة إمامته والصلاة خلفه، لكن لا ينبغي أن يتخذ إماما مع القدرة على إمامة غيره من أهل الخير والصلاح وهذا جواب مختصر أردنا منه التنبيه على أصل الحكم في هاتين المسألتين وبيان بعض الأدلة على ذلك، وقد أوضح العلماء حكم هاتين المسألتين فمن أراد بسط ذلك وجده. والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين ويوفقهم جميعا للاستقامة على دينه والحذر مما يخالف شرعه، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء(23/47)
28 - حكم مجالسة المدخنين
س: إنني بحمد الله حريص على أداء الصلاة في المسجد مع الجماعة وقمت بتطهير بيتي من أجهزة الفيديو وأحرقت أفلامها كما أحرقت الصورة الموجودة عندي وسجلت على أشرطة الأغاني أشرطة إسلامية كما أطلقت لحيتي وقصرت ثوبي اتباعا للسنة المحمدية، لكن هناك شيء واحد يكدر على حياتي، هو الدخان لقد حاولت وأحاول تركه، فلم أستطع، فماذا أفعل جزاك الله خيرا، وبماذا تنصحني كما أرجو أن تدعو الله لي بأن يعصمني منه (1) .
ج: الحمد لله الذي هداك للحق وأعانك على التمسك به وترك ما خالفه، ونسأل الله لك الثبات على الحق مع الفقه في الدين.
أما الدخان فالواجب عليك تركه والحذر منه، لمضاره الكثيرة، ومتى صدقت في ذلك وتركت مجالسة المدخنين أعانك الله على تركه والسلامة من شره، فنوصيك بالعزم الصادق والقوة في ذلك وسؤال الله الإعانة على تركه في سجودك وفي غير ذلك من
__________
(1) نشر في جريدة الندوة - العدد رقم (12357) في 8 محرم 1420 هـ.(23/48)
الأوقات مع ترك مجالسة أصحابه، وأبشر بالخير والعاقبة الحميدة. واذكر قوله سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) وقوله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (2) وفقك الله وأعانك على ترك التدخين وثبتك على الحق إنه سميع قريب.
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة الطلاق الآية 4(23/49)
29 - حكم السجائر والشيشة
س: أرجو الإجابة على سؤالي حفظكم الله ما حكم التدخين وما نصيحتكم للذين يعكرون أجواء المجتمعات الإسلامية بأنواع السجائر والشيشة، والله يحفظكم ويرعاكم (1) .
ج: التدخين محرم؛ لما فيه من المضار الكثيرة وكل أنواعه محرمة، فالواجب على المسلم تركه والحذر منه وعدم مجالسة أهله، والله ولي التوفيق.
__________
(1) أجاب عنه سماحته بتاريخ 19 \ 6 \ 1419 هـ.(23/49)
30 - التدخين بكل أنواعه محرم
س: ما حكم التدخين وما نصيحتكم للذين يعكرون أجواء المجتمعات الإسلامية بأنواع السجائر والشيشة، والله يحفظكم ويرعاكم؟ (1) .
ج: التدخين محرم، لما فيه من المضار الكثيرة وكل أنواعه محرمة، فالواجب على المسلم تركه والحذر منه وعدم مجالسة أهله، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة - العدد رقم (1667) في 23 رجب 1419 هـ(23/50)
31 - حكم شرب الدخان وبيعه والاتجار به (1)
س: ما حكم شرب الدخان؟ وهل هو حرام أم مكروه؟ وما حكم بيعه والاتجار فيه؟
ج: الدخان محرم؛ لكونه خبيثا ومشتملا على أضرار كثيرة والله سبحانه وتعالى إنما أباح لعباده الطيبات من المطاعم والمشارب
__________
(1) ونشر في المجموع ج 6 ص 362 وفي كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج 3 ص 442.(23/50)
وغيرها وحرم عليهم الخبائث. قال الله سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (1) وقال الله سبحانه في وصف نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في سورة الأعراف: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (2) والدخان بأنواعه كلها ليس من الطيبات بل هو من الخبائث وهكذا جميع المسكرات كلها من الخبائث، والدخان لا يجوز شربه ولا بيعه ولا التجارة فيه؛ لما في ذلك من المضار العظيمة والعواقب الوخيمة. والواجب على من كان يشربه أو يتجر فيه البدار بالتوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى والندم على ما مضى والعزم على ألا يعود في ذلك، ومن تاب صادقا تاب الله عليه كما قال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) وقال سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «التوبة تجب ما
__________
(1) سورة المائدة الآية 4
(2) سورة الأعراف الآية 157
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة طه الآية 82(23/51)
كان قبلها» ، وقال عليه الصلاة والسلام: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (1) » .
ونسأل الله أن يصلح حال المسلمين من وأن يعيذهم من كل ما يخالف شرعه إنه سميع مجيب.
__________
(1) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .(23/52)
32 - مسألة في حكم شرب الشيشة والدخان
س: ما حكم شرب الشيشة؟ وهل حكمها حكم الدخان؟ وهل تعتبر الشيشة والدخان من المخدرات المحرمة؟ (1) .
ج: شرب الشيشة والدخان بأنواعه من جملة المحرمات؛ لما فيهما من الأضرار الكثيرة وقد أوضح الأطباء العارفون بذلك كثرة أضرارهما وقد حرم الله على المسلمين أن يستعملوا ما يضرهم فالواجب على كل من يتعاطاهما تركهما والحذر منهما؛ لقول الله عز وجل في سورة المائدة يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (2) وقوله سبحانه في سورة الأعراف في وصف نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (3)
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 3 ص 443.
(2) سورة المائدة الآية 4
(3) سورة الأعراف الآية 157(23/52)
وجميع أنواع التدخين والشيشة من جملة الخبائث الضارة بالإنسان فتكون جميع أنواعهما محرمة بنص هاتين الآيتين وما جاء في معناهما ونسأل الله أن يهدي المسلمين لما فيه صلاحهم ونجاتهم وأن يعيذهم مما يضرهم في الدنيا والآخرة إنه خير مسئول.(23/53)
33 - حكم القات والدخان وصحبة من يتناولهما
س: ما الحكم في القات والدخان اللذين انتشرا بين بعض المسلمين وما حكم صحبة من يتناول أحدهما أو كلاهما؟ وماذا يجب على رائد الأسرة نحو ابنه أو أخيه إن كان يتعاطى شيئا من هذين الصنفين؟ (1) .
ج: لا ريب في تحريم القات والدخان لمضارهما الكثيرة وتخديرهما في بعض الأحيان، وإسكارهما في بعض الأحيان كما صرح بذلك الثقات العارفون بهما، وقد ألف العلماء في
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 3 ص 444.(23/53)
تحريمهما مؤلفات كثيرة ومنهم شيخنا العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي البلاد السعودية سابقا رحمه الله.
فالواجب على كل مسلم تركهما والحذر منهما ولا يجوز بيعهما ولا شراؤهما ولا التجارة فيهما، وثمنهما حرام وسحت، نسأل الله للمسلمين العافية منهما.
ولا تجوز صحبة من يتناولهما أو غيرهما من أنواع المسكرات، لأن ذلك من أسباب وقوعه فيهما، والواجب على المسلم أينما كان صحبة الأخيار والحذر من صحبة الأشرار، وقد «شبه النبي صلى الله عليه وسلم الجليس الصالح بحامل المسك، وقال: إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة (1) » . وشبه الصاحب الخبيث بنافخ الكير، وأنه إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة (2) . وقد قال صلى الله عليه وسلم: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل (3) » . والواجب على رب الأسرة أن يأخذ على يد من يتعاطى شيئا
__________
(1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5534) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2628) ، مسند أحمد بن حنبل (4/408) .
(2) أخرجه البخاري برقم (5108) كتاب الذبائح والصيد، ومسلم برقم (4762) كتاب البر والصلة والآداب.
(3) أخرجه أحمد برقم (8065) والترمذي برقم (2300) كتاب الزهد، وأبو داود برقم 4193، كتاب الأدب.(23/54)
من هذه الأمور المنكرة ويمنعه منها ولو بالضرب والتأديب أو إخراجه من البيت حتى يتوب. وقد قال الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (2) أصلح الله أحوال المسلمين ووفقهم لكل ما فيه صلاحهم وصلاح أسرهم، إنه خير مسئول.
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) سورة الطلاق الآية 4(23/55)
34 - القات محرم وليس بنجس
س: الكثير من مدمني أكل القات عند حضور الصلاة يخرجه من فمه في كيس بلاستيك ثم يصلي وبعد الصلاة يضعه مرة أخرى في فمه. فهل القات نجس؟ وما حكم من صلى به وهو في فيه؟ وهل يجوز لمن هو في فمه تأخير الصلاة حتى يفرغ ويجمع الفوائت من الصلاة؟ (1) .
ج: لا أعلم ما يدل على نجاسته لكونه شجرة معروفة والأصل في الشجر وأنواع النبات الطهارة، ولكن استعماله محرم في
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 3 ص 445.(23/55)
أصح قولي العلماء لما فيه من المضار الكثيرة، وينبغي لمتعاطيه ألا يستعمله وقت الصلاة، ولا يجوز تأخير الصلاة من أجله بل يجب على المسلم أداء الصلاة في وقتها في الجماعة مع إخوانه المسلمين في المساجد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر (1) » . خرجه ابن ماجه والدارقطني والحاكم بإسناد صحيح.
وقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن العذر فقال: خوف أو مرض، وليس استعمال القات عذرا شرعيا بل هو منكر، وإذا أخر مستعمله عن الصلاة في وقتها أو في المسجد مع الجماعة كان ذلك أشد في الإثم.
وليس لمستعمله الجمع بين الصلاتين، لأن استعماله ليس من الأعذار الشرعية التي تسوغ الجمع بين الصلاتين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما علم أصحابه أوقات الصلاة وأوضح لهم أولها وآخرها قال: «الصلاة بين هذين الوقتين (2) » ، وثبت في صحيح مسلم (3) «أن رجلا أعمى قال: يا رسول الله ليس لي قائد
__________
(1) أخرجه ابن ماجه برقم (875) كتاب المساجد والجماعات.
(2) أخرجه أحمد برقم (10819) كتاب باقي مسند المكثرين.
(3) أخرجه مسلم برقم (1044) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء.(23/56)
يلائمني إلى المسجد، فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم. قال: فأجب (1) » . وفي رواية لغير مسلم سندها صحيح قال له صلى الله عليه وسلم: «لا أجد لك رخصة (2) » .
فهذه الأحاديث الصحيحة وما جاء في معناها كلها تدل على وجوب أداء الصلاة في الجماعة في بيوت الله عز وجل وتحريم التأخر عنها أو الجمع بين الصلاتين بغير عذر شرعي، ونصيحتي لأصحاب القات والتدخين وسائر المسكرات والمخدرات أن يحذروها غاية؛ الحذر وأن يتقوا الله في ذلك لما في استعمالها من المعصية لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولما فيها من الأضرار العظيمة والعواقب الوخيمة والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فنسأل الله أن يهدي المسلمين لكل ما فيه رضاه وأن يصلح قلوبهم وأعمالهم ويعيذهم من جلساء السوء الذين يصدونهم عن الخير إنه جواد كريم. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (653) ، سنن النسائي الإمامة (850) .
(2) أخرجه أبو داود برقم (465) كتاب الصلاة، باب في التشديد في ترك الجماعة، وابن ماجه برقم (784) كتاب المساجد والجماعات، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة.(23/57)
35 - هل الشاي من الخمور؟
س: يقول البعض: إن الشاي هو من الخمور؛ لأن تحضيره يتم عن طريق تخمير أوراق نبات الشاي الأخضر لتصبح سوداء؟ (1) .
ج: لا أصل لهذا القول فيما نعلم.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 3 ص 441.(23/58)
36 - حكم شرب البيرة ونحوها
س: ما حكم شرب البيرة؟ وكذا ما شابهها من المشروبات؟ (1) .
ج: إذا كانت البيرة سليمة مما يسكر فلا بأس، أما إذا كانت مشتملة على شيء من مادة السكر فلا يجوز شربها، وهكذا بقية المسكرات سواء كانت مشروبة أو مأكولة يجب الحذر منها، ولا يجوز شرب شيء منها ولا أكله؛ لقول الله عز
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 3 ص 441.(23/58)
وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2) ولقوله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر وكل مسكر حرام (3) » . خرجه الإمام مسلم في صحيحه «وثبت عنه صلى الله عليه سلم أنه: لعن الخمر وشاربها وساقيها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها (4) » . كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل شراب أسكر فهو حرام (5) » . كما صح عنه أيضا أنه «نهى عن كل مسكر
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سورة المائدة الآية 91
(3) أخرجه مسلم برقم (3733) كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام.
(4) أخرجه الترمذي برقم (1216) كتاب البيوع، باب النهي أن يتخذ الخمر خلا، وأبو داود برقم (3189) كتاب الأشربة، باب العنب يعصر خمرا، وابن ماجه برقم (3372) كتاب الأشربة باب لعنت الخمر على عشرة أوجه، وأحمد برقم (2747) ومن مسند بني هاشم.
(5) أخرجه البخاري برقم (235) كتاب الوضوء، باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر، ومسلم برقم (3727) كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام.(23/59)
ومفتر (1) » .
فالواجب على جميع المسلمين الحذر من جميع المسكرات والتحذير منها، وعلى من فعل شيئا من ذلك أن يتركه وأن يبادر بالتوبة إلى الله سبحانه من ذلك. كما قال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (3) الآية.
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (3201) كتاب الأشربة، باب النهي عن المسكر.
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة التحريم الآية 8(23/60)
37 - حكم الجلوس على موائد الخمر
س: أدرس في إحدى جامعات اليابان وتعقد في هذه الجامعة عدة اجتماعات وندوات وحفلات يكون الخمر موجودا بها. فهل علي إثم لوجودي في مكان به خمرة مع العلم أنني أحرص على عدم الجلوس بجانبها ولا أشربها بحمد الله؟ (1) .
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 3 ص 447.(23/60)
ج: لا يجوز الجلوس مع قوم يشربون الخمر إلا أن تنكر عليهم فإن قبلوا وإلا فارقتهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر (1) » . خرجه الإمام أحمد والترمذي بإسناد حسن، ولأن الجلوس معهم وسيلة إلى مشاركتهم في عملهم السيئ أو الرضا به، وقد قال الله عز وجل في سورة الأنعام: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (2) وقوله عز وجل: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (3) الآية من سورة النساء، والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (2725) كتاب الأدب، باب ما جاء في دخول الحمام، وأحمد برقم (120) مسند العشرة المبشرين بالجنة.
(2) سورة الأنعام الآية 68
(3) سورة النساء الآية 140(23/61)
38 - ما الفرق بين خمر الدنيا والآخرة
س: كلنا نعلم تحريم الخمر في الدنيا وأنه يسكر، وأنه يخامر العقل، ولهذا فهو رجس من عمل الشيطان، وأنه أم الخبائث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والسؤال يا سماحة الشيخ لماذا الخمر في الدنيا حرام وفي الآخرة حلال؟ (1) .
ج: خمر الآخرة طيب ليس فيه إسكار ولا مضرة ولا أذى، أما خمر الدنيا ففيه المضرة والإسكار والأذى، أي: إن خمر الآخرة ليس فيه غول ولا ينزف صاحبه وليس فيه ما يغتال العقول ولا ما يضر الأبدان، أما خمر الدنيا فيضر العقول والأبدان جميعا، فكل الأضرار التي في خمر الدنيا منتفية عن خمر الآخرة. وبالله التوفيق.
__________
(1) نشر بالمجلة العربية ونشر في مجموع فتاوى ومقالات متنوعة ج 6 ص 391.(23/62)
باب الذكاة(23/63)
صفحة فارغة(23/64)
39 - وجوب الإحسان والرفق بالحيوان
س: الدكتور ت. ع. س. من أستراليا وجه سؤالا حول نقل الحيوان من أستراليا إلى الشرق الأوسط، وما يتعرض له من ظروف الشحن السيئة طالبا من فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أن يجيبه على سؤاله، وكان جواب فضيلة الشيخ كما يلي (1) .
ج: من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى جناب الأخ المكرم ت. ج. ع. وفقنا الله وإياه.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد اطلعت على رسالتكم بخصوص ما رغبتم في كتابته منا في موضوع نقل الحيوان من بلادكم بأستراليا إلى الشرق الأوسط وما يتعرض له من ظروف الشحن السيئة وأحوال السفن التي ينقل عليها وما ينتج من الزحام وما إلى ذلك، وإذ ندعو الله أن يسلك بنا وبكم وإخواننا المسلمين صراطه المستقيم لنشكركم على اهتمامكم بهذا الجانب المهم، كما تسرنا إجابتكم على ضوء نصوص الكتاب الكريم والسنة المطهرة الواردة بالحث على
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 3 ص 425.(23/65)
الإحسان الشامل للحيوان مأكول اللحم وغير مأكولة، مع طائفة من الأحاديث مما صح في الوعيد لمعذبه، سواء كان ذلك نتيجة تجويع، أو إهمال في حالة نقل أو سواه.
فمما جاء في الحث على الإحسان الشامل للحيوان قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (1) وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (2) الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وأصحاب السنن: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته (3) » . وفي رواية: «فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، ويرح ذبيحته (4) » .
وفي إغاثة الملهوف منه صح الخبر بعظيم الأجر لمغيثه وغفران ذنبه وشكر صنيعه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله
__________
(1) سورة البقرة الآية 195
(2) سورة النحل الآية 90
(3) أخرجه مسلم برقم (3615) كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة.
(4) أخرجه الترمذي برقم (1329) كتاب الديات، باب ما جاء في النهي عن المثلة.(23/66)
صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له، فقالوا يا رسول الله: إن لنا في البهائم لأجرا؟ فقال: في كل كبد رطبة أجر (1) » .
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما كلب يطيف بركية قد كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها، فاستقت له فسقته إياه فغفر لها به (2) » . رواه مسلم في صحيحه، وكما حث الإسلام على الإحسان وأوجبه لمن يستحقه نهى عن خلافه من الظلم والتعدي فقال
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (2190) كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء، ومسلم برقم (4162) كتاب السلام، باب فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها.
(2) أخرجه البخاري برقم (3208) كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، ومسلم برقم (4164) كتاب السلام، باب فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها.(23/67)
تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (1) وقال تعالى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} (2) وفي صحيح مسلم «أن ابن عمر رضي الله عنهما مر بنفر قد نصبوا دجاجة يترامونها، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا عنها فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعن من فعل هذا (3) » . وفيه عن أنس رضي الله عنه: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم - أي أن تحبس حتى تموت (4) » . وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا (5) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب: النحلة
__________
(1) سورة البقرة الآية 190
(2) سورة الفرقان الآية 19
(3) أخرجه مسلم برقم (3618) كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب النهي عن صبر البهائم.
(4) أخرجه مسلم برقم (3616) كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان باب النهي عن صبر البهائم.
(5) أخرجه مسلم برقم (3617) كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب النهي عن صبر البهائم.(23/68)
والنملة، والهدهد، والصرد (1) » . رواه أبو داود بإسناد صحيح. وفي صحيح مسلم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها إن هي حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض (2) » ، وفي سنن أبي داود عن أبي واقد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة (3) » . وأخرج الترمذي: «ما قطع من الحي فهو ميت (4) » .
وعن أبي مسعود قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش بجناحيها على من تحتها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من فجع هذه بولدها
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (5267) ، سنن ابن ماجه الصيد (3224) ، مسند أحمد بن حنبل (1/347) ، سنن الدارمي الأضاحي (1999) .
(2) أخرجه البخاري برقم (3223) كتاب أحاديث الأنبياء باب حديث الغار. ومسلم برقم (4160) كتاب السلام، باب تحريم قتل الهرة.
(3) أخرجه أبو داود برقم (2475) كتاب الصيد، باب في صيد قطع منه قطعة.
(4) أخرجه الترمذي برقم (1400) كتاب الأطعمة، باب ما قطع من الحي فهو ميت.(23/69)
ردوا ولدها إليها (1) » ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: «من حرق هذه؟ قلنا: نحن. قال: لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار (2) » .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من إنسان قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عز وجل عنها، قيل يا رسول الله، وما حقها؟ قال: أن يذبحها فيأكلها، ولا يقطع رأسها فيرمي بها (3) » . رواه النسائي والحاكم وصححه. وهذا موجب لترك ذلك وهو عين الرحمة بهذه الأنعام وغيرها.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على حمار قد وسم وجهه فقال: «لعن الله الذي وسمه (4) » . رواه مسلم. وفي رواية له: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في
__________
(1) سنن أبو داود الجهاد (2675) ، مسند أحمد بن حنبل (1/404) .
(2) أخرجه أبو داود برقم (2300) كتاب الجهاد باب في كراهية حرق العدو بالنار.
(3) رواه النسائي برقم (4272) كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة أكل العصافير.
(4) أخرجه مسلم برقم (3953) كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه.(23/70)
الوجه وعن الوسم في الوجه (1) » . وهذا شامل للإنسان وللحيوان.
فهذه النصوص وما جاء في معناها دالة على تحريم تعذيب الحيوان بجميع أنواعه حتى ما ورد الشرع بقتله كالخمس الفواسق (الغراب والعقرب والفأرة والحدأة والكلب العقور) وعند البخاري والحية. ومنطوق هذا ومفهومه عناية الإسلام بالحيوان سواء ما يجلب له النفع أو يدرأ عنه الأذى. فالواجب جعل ما ورد من ترغيب في العناية به، وما ورد من ترهيب في تعذيبه في أي جانب يتصل به أن يكون نصب الأعين وموضع الاهتمام، ولا سيما النوع المشار إليه من الأنعام؛ لكونه محترما في حد ذاته أكلا ومالية، ويتعلق به أحكام شرعية في وجوه الطاعات والقربات من جهة، ومن أخرى لكونه عرضة لأنواع كثيرة من المتاعب عند شحنه ونقله بكميات كبيرة خلال مسافات طويلة، ربما ينتج عنها تزاحم مهلك لضعيفها وجوع وعطش وتفشي أمراض فيما بينها، وحالات أخرى مضرة تستوجب النظر السريع والدراسة الجادة من أولياء الأمور بوضع ترتيبات مريحة شاملة لوسائل النقل والترحيل والإعاشة من الطعام والسقي، وغير ذلك من تهوية
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (3952) كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه.(23/71)
وعلاج وفصل الضعيف عن القوي الخطر والسقيم عن الصحيح في كل المراحل، حتى تسويقها قدر المستطاع، وهو اليوم شيء ممكن للمؤسسات المستثمرة والأفراد والشركات المصدرة والمستوردة، وهو من واجب نفقتها على ملاكها ومن هي تحت يده بالمعروف.
ومما يؤسف منه ويستوجب الإنكار وجاء البيان والتحذير منه الطرق المستخدمة اليوم في ذبح الحيوان مأكول اللحم في أكثر بلدان العالم الأجنبي، وما يمهد له عند الذبح منه بأنواع من التعذيب، كالصدمات الكهربائية في مركز الدماغ لتخديره، ثم مروره بكلاليب تخطفه وتعلقه منكسا وهو حي مارا بسير كهربائي حتى موضع من يتولى ذبحه لدى بعض مصانع الذبح والتعليب، ومنها نتف ريش الدجاج والطيور وهي حية، أو تغطسها في ماء شديد الحرارة وهي حية، أو تسليط بخار حار عليها لإزالة الريش زاعمين أنه أوفر بما يراد ذبحه من الحيوان حسبما هو معلوم عن بعض تلك الطرق للذبح، وهذا فيه من التعذيب ما لا يخفى مخالفته لنصوص الأمر بالإحسان إليه، والحث على ذلك في الشريعة الإسلامية السمحاء، وكل عمل مخالف لها يعتبر تعديا وظلما يحاسب عليه قاصده لما سلف ذكره(23/72)
ولما صح في الحديث «إن الله ليقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء (1) » . فكيف بمن يعقل الظلم ونتائجه السيئة.
وبناء على النصوص الشرعية ومقتضياتها بوب فقهاء التشريع الإسلامي ما يجب ويستحب، أو يحرم ويكره بخصوص الحيوان بوجه عام وبما يتعلق بالذكاة لمباح الأكل بوجه تفصيلي خاص، نسوق طائفة مما يتعلق بجانب الإحسان إليه عند تذكيته ومنه: المستحبات الآتية:
1 - عرض الماء على ما يراد ذبحه للحديث السابق: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء (2) » الحديث.
2 - أن تكون آلة الذبح حادة وجيدة وأن يمرها الذابح على محل الذكاة بقوة وسرعة ومحله اللبة من الإبل والحلق من غيرها من المقدور على تذكيته.
3 - أن تنحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى إن تيسر موجهة إلى القبلة.
4 - وذبح غير الإبل مضجعة على جنبها الأيسر إن كان
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (4679) كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم. ولفظه: لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.
(2) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4413) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .(23/73)
أيسر للذابح، ويضع رجله على صفحة عنقها غير مشدودة الأيدي أو الأرجل وبدون لي شيء منها أو كسره قبل زهوق روحها وسكون حركتها، ويكره خلع رقبتها كذلك أو أن تذبح وأخرى تنظر.
هذه المذكورات مما يستحب عند التذكية للحيوان رحمة به وإحسانا إليه، ويكره خلافها مما لا إحسان فيه كجره برجله، فقد روى عبد الرزاق موقوفا أن ابن عمر رأى رجلا يجر شاة برجلها ليذبحها فقال له: ويلك قدها إلى الموت قودا جميلا.
أو أن يحد الشفرة والحيوان يبصره وقت الذبح، لما ثبت في مسند الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحد الشفار وأن توارى عن البهائم (1) » ، وما ثبت في معجمي الطبراني الكبير والأوسط ورجاله رجال الصحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها قال: «أفلا قبل هذا؟ أتريد أن تميتها موتتين (2) » .
__________
(1) أخرجه أحمد برقم (5598) مسند المكثرين من الصحابة، وابن ماجه برقم (3163) كتاب الذبائح، باب إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح.
(2) انظر: مجمع الزوائد، باب إحداد الشفرة ج 4 \ 33.(23/74)
أما غير المقدور على تذكيته كالصيد الوحشي أو المتوحش وكالبعير يند فلم يقدر عليه فيجوز رميه بسهم أو نحوه بعد التسمية عليه مما يسيل الدم غير عظم وظفر، ومتى قتله السهم جاز أكله، لأن قتله بذلك في حكم تذكية المقدور عليه تذكية شرعية ما لم يحتمل موته بغير السهم أو معه.
وهذا جرى ذكره منا على سبيل الإفادة. بمناسبة طلبكم لا على سبيل الحصر، لما ورد وصح نقله بشأن الحيوان على اختلاف أنواعه، فالإسلام دين الرحمة وشريعة الإحسان ومنهاج الحياة المتكامل والطريق الموصلة إلى الله ودار كرامته، فالواجب الدعوة له والتحاكم إليه والسعي في نشره بين من لا يعرفه وتذكير عامة المسلمين بما يجهلون من أحكامه ومقاصده ابتغاء وجه الله، فمقاصد الثشريع الإسلامي في غاية العدل والحكمة فلا حرمان من كل حيوان نافع، خلافا لما عليه البوذيون، ولا إباحة لكل ضار منه، خلافا لما عليه أكلة الخبائث من الخنزير والسباع المفترسة وما في حكمها، ولا ظلم ولا إهدار لحرمة كل محترم من نفس أو مال أو عرض.
فنشكر الله على نعمه التي أجلها نعمة الإسلام، مع الابتهال إليه أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن لا يجعلنا بسبب تقصيرنا فتنة(23/75)
للقوم الكافرين، وصلى الله على نبينا محمد المبلغ البلاغ المبين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(23/76)
40 - حل ذبيحة كل من يدين بدين الإسلام
س: ما حكم ذبيحة من كان على غير مذهب أهل السنة ثم هداه الله إليه؟ (1) .
ج: كل من كان يدين بالإسلام ويسلك مذهب أهل السنة ذبيحته حلال، ومن قال: إن ذبيحتك ليست حلالا فقد أخطأ وغلط، ما دمت بحمد الله تسير على مذهب أهل السنة في الإخلاص لله واتباع شريعته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم 801 في 9 \ 5 \ 1419 هـ.(23/76)
41 - حكم ذبيحة من لا تعرف عقيدته
س: هل تؤكل ذبيحة من لا تعرف عقيدته، ومن يستحل المعاصي وهو يعلم أنها حرام، ومن يعرف عنه دعاء الجن بدون قصد؟ .
ج: إذا كان لا يعرف بالشرك فذبيحته حلال، إذا كان مسلما يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولا يعرف عنه ما يقتضي كفره فإن ذبيحته تكون حلالا، إلا إذا عرف عنه أنه قد أتى بشيء من الشرك كدعاء الجن أو دعاء الأموات، والاستغاثة بهم، فهذا نوع من الشرك الأكبر، ومثل هذا لا تؤكل ذبيحته، ومن أمثلة دعاء الجن أن يقول: افعلوا كذا أو افعلوا كذا أو أعطوني كذا أو افعلوا بفلان كذا، وهكذا من يدعو أصحاب القبور أو يدعو الملائكة ويستغيث بهم أو ينذر لهم فهذا كله من(23/77)
الشرك الأكبر نسأل الله السلامة والعافية.
أما المعاصي فهي لا تمنع من أكل ذبيحة من يتعاطى شيئا منها إذا لم يستحلها، بل هي حلال إذا ذبحها على الوجه الشرعي، أما من يستحل المعاصي فهذا يعتبر كافرا، كأن يستحل الزنا أو الخمر أو الربا أو عقوق الوالدين أو شهادة الزور ونحو ذلك من المحرمات المجمع عليها بين المسلمين، نسأل الله العافية من كل ما يغضبه.(23/78)
42 - صفة تذكية بهائم الأنعام
س: ما هي التذكية الشرعية وطريقة ذبح الإبل خاصة؟ (1) .
ج: التذكية الشرعية للإبل والغنم والبقر أن يقطع الذابح الحلقوم والمريء والودجين وهما العرقان المحيطان بالعنق وهذا هو أكمل الذبح وأحسنه، فالحلقوم مجرى النفس، والمريء مجرى الطعام والشراب، والودجان عرقان يحيطان بالعنق إذا قطعهما الذابح صار الدم أكثر خروجا فإذا قطعت هذه الأربعة فالذبح
__________
(1) إجابة صدرت من مكتب سماحته بتاريخ 8 \ 6 \ 1410 هـ.(23/78)
حلال عند جميع العلماء.
الحالة الثانية: أن يقطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين وهذا أيضا حلال صحيح وطيب وإن كان دون الأول.
والحالة الثالثة: أن يقطع الحلقوم والمريء فقط دون الودجن وهو أيضا صحيح وقال به جمع من أهل العلم، ودليلهم قوله عليه الصلاة والسلام: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ليس السن والظفر (1) » ، وهذا هو المختار في هذه المسألة. والسنة نحر الإبل قائمة على ثلاث معقولة يدها اليسرى وذلك بطعنها في اللبة التي بين العنق والصدر. أما البقر والغنم فالسنة أن تذبح وهي على جنبها الأيسر، كما أن السنة عند الذبح والنحر توجيه الحيوان إلى القبلة وليس ذلك واجبا بل هو سنة فقط فلو ذبح أو نحر إلى غير القبلة حلت الذبيحة، وهكذا لو نحر ما يذبح أو ذبح ما ينحر حلت لكن ذلك خلاف السنة، وبالله التوفيق.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (2308) كتاب الشركة، باب قسمة الغنم، ومسلم برقم (3638) كتاب الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن.(23/79)
43 - توجيه الذبائح
إلى القبلة سنة وليس بواجب
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ في الله المكرم غ. ش. سلمه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد (1) :
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 760 وتاريخ 24 \ 2 \ 1497 هـ الذي تسأل فيه عن عدد من الأسئلة
وأفيدك بأن توجيه الذبائح سواء كانت من بهيمة الأنعام أو من الطيور إلى القبلة عند الذبح فهو سنة وليس بواجب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم 16528 في 10 \ 6 \ 1407 هـ.(23/80)
44 - الرقبة محل للذبح والنحر
س: هل هناك مكان محدد في الرقبة؟ (1) .
ج: نعم فالرقبة كلها محل للذبح والنحر أعلاها وأسفلها لكن في الإبل السنة نحرها في اللبة، أما البقر والغنم فالسنة ذبحها في أعلا العنق حتى يقطع بذلك الحلقوم والمريء والودجين كما تقدم.
__________
(1) أجاب عنه سماحته بتاريخ 8 \ 6 \ 1410 هـ.(23/81)
45 - إذا قطع الحلقوم والمريء حلت الذبيحة
س: عندنا في السودان يشترطون في الذبح أن يكون خلف الخرزة وهي النتوء البارز في حلقوم الذبيحة وإذا ذبح أحد بهيمة وفصل بين هذه الخرزة والرأس فالناس لا يأكلون ذبيحته فما مدى صحة هذا الكلام؟ (1) .
ج: إذا قطع الحلقوم والمريء ولو فصل الخرزة فلا بأس وذبيحته صحيحة، وإن قطع الأربعة الحلقوم والمريء والودجين فهذا أكمل وأفضل.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.(23/81)
46 - حكم تذكية المرأة
س: هل يجوز للمرأة أن تذبح الذبيحة؟ وهل يجوز الأكل منها؟ (1) .
ج: يجوز للمرأة أن تذبح الذبيحة كالرجل، كما صحت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجوز الأكل من ذبيحتها إذا كانت مسلمة أو كتابية وذبحت الذبح الشرعي ولو وجد رجل يقوم مقامها في ذلك فليس من شرط حل ذبيحتها عدم وجود الرجل.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 3 ص 433.(23/82)
47 - حكم ذبائح النصارى التي
ذبحت بالصرع الكهربائي أو قصف الرقبة
س: السائل ف. ت. من ألمانيا يسأل عن المجازر النصرانية في معظم البلاد الأوربية والأمريكية درجت على ذبح الخرفان بواسطة الصرع الكهربائي وعلى ذبح الدجاج بواسطة قصف الرقبة. فما حكم ذلك؟ (1) .
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 3 ص 401.(23/82)
ج: الجواب: أن يقال قد دل كتاب الله العزيز والسنة المطهرة وإجماع المسلمين على حل طعام أهل الكتاب بقول الله سبحانه: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (1) الآية من سورة المائدة، هذه الآية الكريمة قد دلت على حل طعام أهل الكتاب والمراد من ذلك ذبائحهم، وهم بذلك ليسوا أعلى من المسلمين بل هم في هذا الباب كالمسلمين، فإذا علم أنهم يذبحون ذبحا يجعل البهيمة في حكم الميتة حرمت، كما لو فعل ذلك المسلم، لقول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} (2) الآية. فكل ذبح من مسلم أو كتابي يجعل الذبيحة في حكم المنخنقة أو الموقوذة أو المتردية أو النطيحة فهو ذبح يحرم البهيمة ويجعلها في عداد الميتات لهذه الآية الكريمة، وهذه الآية يخص بها عموم قوله سبحانه: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (3) كما يخص بها الأدلة الدالة على حل ذبيحة المسلم إذا وقع منه الذبح على وجه يجعل ذبيحته في
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) سورة المائدة الآية 5(23/83)
حكم الميتة، أما قولكم إن المجازر النصرانية درجت على ذبح الخرفان بواسطة الصرع الكهربائي، وفي ذبح الدجاج بواسطة قصف الرقبة، فقد سألت بعض أهل الخبرة عن معنى الصرع والقصف، لأنكم لم توضحوا معناهما فأجابنا المسئول بأن الصرع هو إزهاق الروح بواسطة الكهرباء من غير ذبح شرعي، وأما القصف فهو قطع الرقبة مرة واحدة، فإذا كان هذا هو المراد من الصرع والقصف فالذبيحة بالصرع ميتة، لكونها لم تذبح الذبح الشرعي الذي يتضمن قطع الحلقوم والمريء وإسالة الدم، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر (1) » . وأما القصف بالمعنى المتقدم فهو يحل الذبيحة، لأنه مشتمل على الذبح الشرعي وهو قطع الحلقوم والمريء والودجين وفي ذلك إنهار الدم مع قطع ما ينبغي قطعه، أما إن كان المراد بالصرع والقصف لديكم غير ما ذكرنا فنرجو الإفادة عنه حتى يكون الجواب على ضوء ذلك، وفق الله الجميع لإصابة الحق.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (2308) كتاب الشركة، باب قسمة الغنم، ومسلم برقم (3638) كتاب الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن.(23/84)
حكم الحيوان المذبوح بالصعق الكهربائي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أما بعد:
فقد اطلعت على الفتوى التي نشرت في جريدة المسلمون بالعدد 14 في 21 \ 8 \ 1405هـ. لفضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، وقد جاء فيها ما نصه: (اللحوم المستوردة من عند أهل الكتاب كالدجاج ولحوم البقر المحفوظة مما قد تكون تذكيته بالصعق الكهربائي ونحوه حل لنا ما داموا يعتبرون هذا حلالا مذكي. . . . . إلخ) اهـ.
وأقول: هذه الفتوى فيها تفصيل مع العلم بأن الكتاب والسنة قد دلا على حل ذبيحة أهل الكتاب، وعلى تحريم ذبائح غيرهم من الكفار - قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (1) فهذه الآية
__________
(1) سورة المائدة الآية 5(23/85)
نص صريح في حل طعام أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى وطعامهم ذبائحهم، وهي دالة بمفهومها على تحريم ذبائح غيرهم من الكفار - ويستثنى من ذلك عند أهل العلم ما علم أنه أهل به لغير الله، لأن ما أهل به لغير الله منصوص على تحريمه مطلقا، لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (1) وأما ما ذبح على غير الوجه الشرعي كالحيوان الذي علمنا أنه مات بالصعق أو بالخنق ونحوهما فهو يعتبر من الموقوذة أو المنخنقة حسب الواقع، سواء كان ذلك من عمل أهل الكتاب أو عمل المسلمين، وما لم نعلم كيفية ذبحه فالأصل حله إذا كان من ذبائح المسلمين أو أهل الكتاب، وما صعق أو ضرب وأدرك حيا وذكي على الكيفية الشرعية فهو حلال، قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} (2) فدلت الآية على تحريم الموقوذة
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة المائدة الآية 3(23/86)
والمنخنقة، وفي حكمهما المصعوقة إذا ماتت قبل إدراك ذبحها - وهكذا التي تضرب في رأسها أو غيره فتموت قبل إدراك ذبحها يحرم أكلها للآية الكريمة المذكورة.
وبما ذكرنا، يتضح ما في جواب الشيخ يوسف - وفقه الله - من الإجمال، أما كون اليهود أو النصارى يستجيزون المقتولة بالخنق أو الصعق فليس ذلك يجيز لنا أكلهما كما لو استجازه بعض المسلمين - وإنما الاعتبار بما أحله الشرع المطهر أو حرمه - وكون الآية الكريمة قد أجملت طعامهم لا يجوز أن يؤخذ من ذلك حل ما نصت الآية الأخرى على تحريمه من المنخنقة والموقوذة ونحوهما، بل يجب حمل المجمل على المبين كما هي القاعدة الشرعية المقررة في الأصول.
أما حديث عائشة الذي أشار إليه الشيخ يوسف، فهو في أناس مسلمين حدثاء عهد بالإسلام، وليسوا كفارا فلا يجوز أن يحتج به على حل ذبائح الكفار التي دل الشرع على تحريمها وهذا نصه: (عن عائشة رضي الله عنها «أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتونا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم(23/87)
لا، فقال: سموا عليه أنتم وكلوه - قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر (1) » رواه البخاري.
ولواجب النصح والبيان والتعاون على البر والتقوى جرى تحريره، وأسأل الله أن يوفقنا وفضيلة الشيخ يوسف وسائر المسلمين لإصابة الحق في القول والعمل إنه خير مسئول، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (5083) كتاب الذبائح، باب ذبيحة الأعراب ونحوهم(23/88)
باب الصيد(23/89)
صفحة فارغة(23/90)
49 - التسمية عند الرمي
س: هل يكفي أن أقول باسم الله والله أكبر عندما أدخل الطلقة في البندقية عند الصيد، أم يجب ذكر اسم الله عند إطلاق زناد البندقية؟ أفيدوني جزاكم الله خيرا (1) .
ج: الواجب ذكر اسم الله عند الرمي ولا يكفي ذكر ذلك عند إدخال الطلقة في البندقية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وإن رميت سهمك فاذكر اسم الله (2) » . متفق على صحته من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه واللفظ لمسلم.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع محمد المسند ج 3 ص 453.
(2) أخرجه البخاري برقم (5062) كتاب الذبائح والصيد، باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة، ومسلم برقم (3566) كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الصيد بالكلاب المعلمة.(23/91)
50 - حكم نسيان التسمية عند رمي الطيور وغيرها
س: نحن نعيش في الصحراء، ونقوم باصطياد الطيور المهاجرة بالبنادق، ولكننا في بعض الأحيان ننسى أن نسمي على الطائر فيسقط ميتا فهل نأكله؟ (1) .
ج: إذا نسي المسلم التسمية عند الذبح، أو عند رمي الصيد، أو إرسال الكلب المعلم للصيد فإن الذبيحة حلال وهكذا الصيد إذا أدركه ميتا، لقول الله عز وجل: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (2) وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال الله قد فعلت (3) » . أخرجه مسلم في صحيحه، ولما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله عز وجل عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (4) » ؛ ولأدلة أخرى، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سؤال من الأخ ع. ع. من جمهورية مصر العربية أجاب عنه سماحته بتاريخ 23 \ 3 \ 1419 هـ.
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) أخرجه مسلم برقم (185) كتاب الإيمان.
(4) أخرجه الطبراني في الأوسط برقم (2137) ج 2 \ 331.(23/92)
كتاب الأيمان(23/93)
صفحة فارغة(23/94)
51 - حكم الحلف بغير الله تعالى
س: هل يجوز الحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؟ (1)
الجواب: لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات، لا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا بالكعبة، ولا بالأمانة، ولا غير ذلك، في قول جمهور أهل العلم. بل حكاه بعضهم إجماعا. وقد روي خلاف شاذ في جوازه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو قول لا وجه له، بل هو باطل، وخلاف لما سبقه من إجماع أهل العلم، وخلاف للأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك، ومنها ما خرجه الشيخان عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (2) » . وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله (3) » ووجه ذلك أن
__________
(1) نشر في مجموع الفتاوى لسماحته ج 3 صـ 142.
(2) أخرجه البخاري برقم 5643 كتاب الأدب، باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا، ومسلم برقم 3105، كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى
(3) أخرجه البخاري برقم 4482، كتاب تفسير القرآن، باب أفرأيتم اللات والعزى، ومسلم برقم 3107 كتاب الأيمان، باب من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله.(23/95)
الحالف بغير الله قد أتى بنوع من الشرك، فكفارة ذلك أن يأتي بكلمة التوحيد، عن صدق وإخلاص، ليكفر بها ما وقع منه من الشرك. وخرج الترمذي والحاكم بإسناد صحيح عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (1) » . وخرج أبو داود من حديث بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حلف بالأمانة فليس منا (2) » . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون (3) » أخرجه أبو داود والنسائي، وممن حكى الإجماع في تحريم الحلف بغير الله الإمام أبو عمر بن عبد البر النمري - رحمه الله -. وقد أطلق بعض أهل العلم الكراهة، فيجب أن تحمل على كراهة التحريم، عملا بالنصوص، وإحسانا للظن بأهل العلم. وقد تعلل بعض من سهل في ذلك بما جاء في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «قال في حق الذي سأله عن شرائع الإسلام:
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم 1455، كتاب النذور والأيمان.
(2) أخرجه أبو داود برقم 2831، كتاب الأيمان والنذور، باب كراهية الحلف بالأمانة.
(3) أخرجه أبو داود برقم 2827، كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالآباء والنسائي برقم 3709، كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بالأمهات.(23/96)
أفلح وأبيه إن صدق (1) » والجواب أن هذه رواية شاذة مخالفة للأحاديث الصحيحة، لا يجوز أن يتعلق بها، وهكذا حكم الشاذ عند أهل العلم، وهو ما خالف فيه الفرد جماعة الثقات، ويحتمل أن هذا اللفظ تصحيف كما قال ابن عبد البر - رحمه الله -، وأن الأصل أفلح والله فصحفه بعض الكتاب أو الرواة، ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك قبل النهي عن الحلف بغير الله، وبكل حال فهي رواية فردة شاذة لا يجوز لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتشبث بها، ويخالف الأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة على تحريم الحلف بغير الله، وأنه من المحرمات الشركية، وقد خرج النسائي بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أنه حلف باللات والعزى فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: «قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وانفث عن يسارك ثلاثا، وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولا تعد (2) » وهذا اللفظ يؤكد شدة تحريم الحلف بغير الله، وأنه من الشرك، ومن همزات الشيطان، وفيه التصريح بالنهي عن العود إلى ذلك. وأسأل الله أن يمنحنا وإياكم العفة في دينه وصلاح
__________
(1) أخرجه مسلم برقم 12، كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام.
(2) أخرجه النسائي برقم 3717، كتاب الأيمان والنذور باب الحلف باللات والعزى.(23/97)
القصد والعمل، وأن يعيذنا والمسلمين من اتباع الهوى ونزغات الشيطان، إنه سميع قريب، والله يتولانا وإياكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(23/98)
52 - مسألة في الحلف بغير الله
الحمد لله وحده وبعد (1) :
فقد اطلعت على المقال المنشور في الصفحة الحادية عشر من جريدة الرياض الصادرة بتاريخ 23 \ 12 \ 1402هـ. بعنوان (نداء من مواطن فقد ماله) . وذكر في ضمن ندائه ما نصه (إنني أستحلفك برب العالمين وبرسوله الأمين) . ونظرا إلى أن الحلف لا يجوز إلا بالله وحده أو بأسمائه أو بصفاته، رأيت التنبيه على ذلك، أما الحلف بالمخلوقين فلا يجوز مطلقا بأي حال من الأحوال؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله أو ليصمت (2) » ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (3) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، فالواجب على الصحافة وغيرها مراقبة المقالات، وجميع ما يراد نشره قبل النشر، لملاحظة مثل
__________
(1) نشر في مجموع الفتاوى لسماحته ج 2 صـ 117.
(2) صحيح البخاري المناقب (3836) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/87) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(3) سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) .(23/98)
ذلك، حتى تكون سليمة من الأشياء المنكرة، وغير اللائقة بصحافتنا الإسلامية، كما أن الواجب على كل مسلم أن يتفقه في دينه، وأن يتعلم ما لا يسعه جهله. وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(23/99)
53 - المشروع للمؤمنين أن تكون أيمانهم بالله وحده
لله سبحانه وتعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته على ما شاء منها، ولا يجوز لمخلوق كائنا من كان أن يحلف ويقسم بغيره جل وعلا، فإن الله شرع لعباده المؤمنين أن تكون أيمانهم به سبحانه وتعالى، أو بصفة من صفاته، وهذا خلاف ما كان يفعله المشركون في الجاهلية، فقد كانوا يحلفون بغيره من المخلوقات، كالكعبة والشرف والنبي، والملائكة والمشايخ والملوك والعظماء والآباء والسيوف، وغير ذلك مما يحلف به كثير من الجهلة بأمور الدين، فهذه الأيمان كلها لا تجوز، بإجماع أهل العلم، لقوله صلى الله عليه(23/99)
وسلم: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (1) » ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فلا يحلف إلا بالله (2) » رواه البخاري. ولمسلم «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله أو ليصمت (3) » ، وفي حديث آخر «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون (4) » ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف بالأمانة فليس منا (5) » . وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا) والأحاديث والآثار في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على المسلمين أن يحفظوا أيمانهم، وألا يحلفوا إلا بالله وحده، أو صفة من صفاته، وأن يحذروا الحلف بغير الله كائنا من كان، للأحاديث السابقة. نسأل الله عز وجل أن يوفق المسلمين لما يرضيه وأن يمنحهم الفقه في دينه، وأن يعيذنا وإياهم من مضلات الفتن ومن شرور النفس وسيئات العمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3836) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(3) صحيح البخاري المناقب (3836) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/87) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(4) صحيح البخاري المناقب (3836) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(5) سنن أبو داود الأيمان والنذور (3253) ، مسند أحمد بن حنبل (5/352) .(23/100)
54 - الحلف بأحد المخلوقات منكر عظيم
س: سائل رمز لاسمه بالحروف: ع. ع. أ - أرسل إلينا يقول: اعتاد بعض الناس الحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصبح الأمر عاديا عندهم، ولا يعتقدون ذلك اعتقادا فما حكم ذلك؟ (1)
ج: الحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من المخلوقات منكر عظيم، ومن المحرمات الشركية، ولا يجوز لأحد الحلف إلا بالله وحده، وقد حكى الإمام ابن عبد البر - رحمه الله - الإجماع على أنه لا يجوز الحلف بغير الله، وقد صحت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن ذلك وأنه من الشرك، كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (2) » . وفي لفظ آخر: «فليحلف بالله أو ليسكت (3) » .
وخرج أبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (4) »
__________
(1) سؤال من ع. ع. نشر في مجلة اقرأ العدد (944) في 10 \ 7 \ 1414هـ.
(2) صحيح البخاري الأدب (6108) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(3) صحيح البخاري الأدب (6108) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1533) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (1/36) .
(4) سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) .(23/101)
وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من حلف بالأمانة فليس منا (1) » والأحاديث في هذا الباب كثيرة معلومة والواجب على جميع المسلمين ألا يحلفوا إلا بالله وحده، ولا يجوز لأحد أن يحلف بغير الله كائنا من كان، للأحاديث المذكورة وغيرها. ويجب على من اعتاد ذلك أن يحذره وأن ينهى أهله وجلساءه وغيرهم عن ذلك، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (2) » . خرجه مسلم في صحيحه.
والحلف بغير الله من الشرك الأصغر للحديث السابق، وقد يكون شركا أكبر إذا قام بقلب الحالف أن هذا المحلوف به يستحق التعظيم كما يستحقه الله، أو أنه يجوز أن يعبد مع الله ونحو ذلك من المقاصد الكفرية. . نسأل الله أن يمن على المسلمين جميعا بالعافية من ذلك، وأن يمنحهم الفقه في دينه والسلامة من أسباب غضبه إنه سميع قريب.
__________
(1) سنن أبو داود الأيمان والنذور (3253) ، مسند أحمد بن حنبل (5/352) .
(2) أخرجه مسلم برقم 70، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان.(23/102)
55 - مسألة في القسم بالنبي - عليه الصلاة والسلام -
س: القسم بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، هل هو يمين له كفارة؟ وإذا لم يكن كذلك فما جزاء الحانث في هذا اليمين؟ (1)
ج: لا يجوز الحلف بغير الله - سبحانه وتعالى - لا بالنبي ولا غيره، ولا تنعقد اليمين بغير الله، ولا تجب بها كفارة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (2) » متفق عليه. ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (3) » . خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي بإسناد صحيح.
وعلى الحالف بغير الله أن يتوب إلى الله من ذلك توبة نصوحا، وذلك بالإقلاع عن الحلف بغير الله، والندم على ما مضى من ذلك، والعزيمة الصادقة أن لا يعود إلى الحلف بغير الله؛ لقوله
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية جمع محمد المسند ج 3 صـ 462.
(2) صحيح البخاري الشهادات (2679) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(3) أخرجه أحمد برقم 5799، مسند المكثرين من الصحابة وأبو داود برقم 2829، كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالآباء، والترمذي برقم 1455، كتاب الأيمان والنذور، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله.(23/103)
سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (1) الآية، وما جاء في معناها من الآيات والأحاديث. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة التحريم الآية 8(23/104)
56 - لا يجوز الحلف بغير الله كائنا من كان
س: ما حكم من يحلف بالنبي؟ (1)
ج: لا يجوز الحلف بغير الله كائنا من كان لا بالنبي ولا بغيره، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (2) » ، وقال: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون (3) » ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف بشيء دون الله فقد أشرك (4) » أخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن عمر - رضي الله عنه -، وخرج أبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (5) » ، وقال - عليه الصلاة والسلام -: «من حلف بالأمانة فليس منا (6) » والمقصود أن الواجب الحلف بالله وحده، ولا يجوز الحلف بالنبي ولا بغير النبي ولا بالأمانة ولا بالكعبة ولا بغير ذلك،
__________
(1) سؤال بعد الدرس الذي ألقاه سماحته في المسجد الحرام في 26 \ 12 \ 1418هـ.
(2) صحيح البخاري الشهادات (2679) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(3) سنن النسائي الأيمان والنذور (3769) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3248) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (1/47) .
(5) سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) .
(6) سنن أبو داود الأيمان والنذور (3253) ، مسند أحمد بن حنبل (5/352) .(23/104)
فالحلف بالله وحده يقول - صلى الله عليه وسلم -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (1) » ولا يجوز الحلف بغير الله كائنا من كان نسأل الله العافية.
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2679) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .(23/105)
57 - حكم الحلف بالكعبة
س: ما حكم الحلف بالكعبة ونحوها وما هي صيغة الحلف الجائز؟ (1)
ج: لا يجوز الحلف بالكعبة ولا بغيرها من المخلوقات، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (2) » متفق على صحته.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف بشيء دون الله فقد أشرك (3) » رواه الإمام أحمد من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بإسناد صحيح وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (4) » أخرجه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -. والأحاديث في ذلك كثيرة، وفيها يعلم تحريم الحلف بالكعبة والأمانة والأنبياء وغيرهم من سائر الخلق.
__________
(1) سؤال من ع. ح. ق. قرية زهرة بني بشير، ونشر في ج 4 من مجموع الفتاوى لسماحته صـ 146.
(2) صحيح البخاري الشهادات (2679) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/47) .
(4) سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) .(23/105)
واليمين الشرعية هي اليمين بالله وحده، وصفتها أن يقول: (والله أو بالله أو تالله لأفعلن كذا، أو لا أفعل كذا، وهكذا لو حلف بغير اسم الجلالة من أسماء الله وصفاته كالرحمن والرحيم، ومالك الملك، وحياة الله، وعلم الله، ونحو ذلك) .
«وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحلف كثيرا بقوله: والذي نفسي بيده (1) » . والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه برقم 2082، كتاب الكفارات باب يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي كان يحلف بها.(23/106)
58 - لا يجوز الحلف بالصلاة ولا بالذمة
س: هل يجوز التذميم بقوله لأخيه بذمتك أو بصلاتك أو بقوله أنت بحرج إن فعلت كذا، فمثل هذه العادات منتشرة بين النساء والأطفال، نرجو التوجيه جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: لا يجوز الحلف لا بالصلاة ولا بالذمة ولا بالحرج ولا بغير ذلك من المخلوقات، فالحلف يكون بالله وحده. فلا يقول: بذمتي ما فعلت كذا، ولا بذمة فلان، ولا بحياة فلان،
__________
(1) من برنامج نور على الدرب شريط رقم 12 ونشر في المجموع ج 9 صـ 345 وج7 صـ 331.(23/106)
ولا بصلاتي، ولا أطالبه فأقول: قل بذمتي، ولا بصلاتي، وبزكاتي، كل هذا لا أصل له؛ لأن الصلاة فعل العباد، والزكاة فعل العباد، وأفعال العباد لا يحلف بها، وإنما الحلف بالله وحده سبحانه وتعالى، أو بصفاته؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (1) » متفق على صحته. ولقوله - عليه الصلاة والسلام -: «من حلف بشيء دون الله فقد أشرك (2) » أخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن عمر رضي الله عنه وأخرجه الترمذي وأبو داود بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (3) » . وقال - عليه الصلاة والسلام -: «من حلف بالأمانة فليس منا (4) » . فالواجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يحذر ذلك، وألا يحلف إلا بالله وحده سبحانه وتعالى، فيقول: بالله ما فعلت كذا، والله ما فعلت كذا، إذا دعت الحاجة. والمشروع أن يحفظ يمينه، ولا يحلف إلا لحاجة، قال تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (5)
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2679) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/47) .
(3) رواه الترمذي في النذور والأيمان برقم 1455، وأبو داود في الأيمان برقم 2829، وأحمد في مسند المكثرين من الصحابة برقم 5120.
(4) رواه أبو داود في الأيمان والنذور برقم 2831، واللفظ له، وأحمد في باقي مسند الأنصار برقم 21902.
(5) سورة المائدة الآية 89(23/107)
لكن إذا دعت الحاجة يحلف فيقول: والله ما فعلت كذا إذا كان صادقا، والله ما ذهبت إلى فلان، تالله ما ذهبت إلى فلان، فإذا كان صادقا فلا حرج عليه، لأن هذا حلف بالله سبحانه وتعالى عند الحاجة إلى ذلك. أما الحلف بالأمانة أو بالنبي أو بالكعبة أو بحياة فلان، أو بشرف فلان، أو بصلاتي، أو بذمتي، فلا يجوز كما تقدم للأحاديث السابقة.
أما إذا قال: في ذمتي، فهذا ليس بيمين، يعني هذا الشيء في ذمتي أمانة. أما إذا قال: بذمتي، أو بصلاتي، أو بزكاتي، أو بحياة والدي، فهذا لا يجوز؛ لأنه حلف بغير الله سبحانه وتعالى، نسأل الله للجميع الهداية.(23/108)
59 - مسألة في اليمين
س: هل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حلف بغير الله في قوله في الحديث «أفلح وأبيه إن صدق (1) » ، وإن كان لا فما هو تأويل الحديث جزاك الله خيرا؟ (2)
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (11) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3252) ، سنن الدارمي الصلاة (1578) .
(2) من أسئلة حج عام 1418هـ الشريط السادس.(23/108)
ج: كانوا في أول الإسلام وأول الهجرة يحلفون بآبائهم ثم نهاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن هذا، قال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم (1) » ، أما قوله: «أفلح وأبيه إن صدق (2) » فإنه قبل النهي، ثم جاء النهي فترك ذلك، وتركه المسلمون، فصار الحلف بالله وحده، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف بغير الله فقد أشرك (3) » ، وقال: «من حلف بالأمانة فليس منا (4) » ، وقال: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون (5) » فاستقرت الشريعة على تحريم الحلف بغير الله. أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أفلح وأبيه (6) » فكان هذا قبل النهي.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3836) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (11) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3252) ، سنن الدارمي الصلاة (1578) .
(3) صحيح البخاري الأدب (6108) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(4) سنن أبو داود الأيمان والنذور (3253) ، مسند أحمد بن حنبل (5/352) .
(5) سنن النسائي الأيمان والنذور (3769) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3248) .
(6) صحيح مسلم الإيمان (11) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3252) ، سنن الدارمي الصلاة (1578) .(23/109)
60 - حكم قول (حشا عن ألف يمين)
س: بعض الناس إذا سئل عن شيء وأراد الجواب بالنفي فإنه يقول بالعامية (حشا والحشا عن ألف يمين ما صار كذا وكذا) فما حكم مثل هذا القول في شرعنا المطهر؟ أرجو التكرم بالإفادة. جزاكم الله خيرا. (1)
__________
(1) سؤال مقدم من السائلة ن. ع. أ. من الكويت.(23/109)
ج: لا أعلم لهذا أصلا. . والصواب أن يبين الحقيقة نفيا أو إثباتا، إذا كان السؤال يقتضي ذلك. . أما قول المجيب إن: (حشا عن ألف يمين) فهذا لا أصل له. . وإنما معناها نفي الشيء المسئول عنه كما في قوله عز وجل في سورة يوسف: {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا} (1) والله الموفق.
__________
(1) سورة يوسف الآية 31(23/110)
61 - حكم من حلف على شيء ورأى غيره خيرا منه
س: امرأة قد حلفت على أهل بيتها بأنها لا ترجع إلى البيت، وبعد مدة رجعت إلى البيت، أفيدونا ماذا في هذا الأمر جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: إذا حلف الإنسان قال: والله ما أزور فلانا، والله ما أدخل بيت فلان، والله ما أكلم فلانا، والله ما آكل طعام فلان، وأشباه ذلك، ثم رأى من المصلحة أنه يترك يمينه فلا بأس، وعليه كفارة اليمين؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا حلفت على يمين ورأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي
__________
(1) سؤال مقدم في حج عام 1407هـ.(23/110)
هو خير (1) » . ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «والله إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير (2) » هكذا يقول - عليه الصلاة والسلام -، والكفارة: إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، من التمر، أو غيره، من قوت البلد، أو يعشيهم، أو يغديهم، أو يكسوهم على قميص، قميص أو إزار ورداء، أو يعتق رقبة، فإن عجز صام ثلاثة أيام، هذه هي الكفارة، وينبغي أن يراعي الأصلح، فإذا كان الحنث أصلح حنث وكفر، وإذا كان بقاؤه على يمينه أصلح بقي على يمينه يقول سبحانه: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (3) فإذا كانت المصلحة في أن يحنث حنث؛ لأن هجره لأخيه وهجره لقريبه في غير عذر شرعي لا يجوز، فإذا كان هكذا فليكفر عن يمينه، وأن يترك الحلف وأن يترك القطيعة والهجر بغير حق.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم 6613، كتاب الأحكام، باب من لم يسأل الإمارة أعانه الله، ومسلم برقم 3120، كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها.
(2) أخرجه البخاري برقم 5094، كتاب الذبائح والصيد، باب لحم الدجاج، ومسلم برقم 3109، كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها.
(3) سورة المائدة الآية 89(23/111)
62 - إذا حلفت على شخص ولم يفعل فعليك الكفارة
س: قلت لأحد أصحابي بلغني أنك تريد الحج والله أن تذهب معي للحج، وحلفت عليه ووافق، وبعد أن أردنا الذهاب قال: لا أستطيع لأن علي دينا، فهل علي كفارة، علما بأنني ما قلت في نهاية المجلس: إن كنت تريد الحج؟ (1)
ج: إذا كنت حلفت عليه أنه يذهب معك للحج ولم يذهب، فعليك كفارة يمين.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407هـ.(23/112)
63 - حلف ألا يفعل فاضطر إلى الفعل
س: أقسمت على المصحف ألا أفعل شيئا معينا، ولكن الظروف اضطرتني لنقض هذا القسم، وأريد أن أكفر عن هذا الذنب فما الطريق؟ (1)
ج: عليك كفارة يمين، إذا ما فعلت ما حلفت على تركه، سواء أكان قسمك على المصحف أم لا؛ لقول الله - جل وعلا -:
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، جمع محمد المسند ج 3 صـ 468.(23/112)
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (1) فإذا غديت المساكين العشرة أو عشيتهم أو كسوتهم حصلت الكفارة بذلك، وإن أعطيت كل واحد نصف صاع من التمر أو البر أو الأرز كفى ذلك، فإن كان الذي حلفت عليه معصية لله كالتدخين وشرب المسكر ونحو ذلك حرم عليك فعله، ولو لم تحلف على تركه، فاتق الله، واحذر ما حرم الله عليك.
__________
(1) سورة المائدة الآية 89(23/113)
64 - من حلف ألا يفعل وفعله ناسيا
س: اختلفت أنا وزميلي في العمل فحلفت أن لا آكل ولا أشرب في بيته، وفي مرة ذهبت معه إلى منزله وأكلت بعض الفواكه ناسيا، وبعدما ذهبت تذكرت بأنني حلفت، فأرجو الإفادة، وبعد الكفارة هل آكل وأشرب في بيته أم لا؟ (1)
__________
(1) سؤال موجه لسماحته في حج 1415هـ.(23/113)
ج: إذا كنت ناسيا فما عليك شيء أي ما عليك كفارة، لكن الأحسن أن تأكل مع أخيك إذا كان طيبا وتكفر، إذا كان هذا الصديق طيبا في دينه، فالأحسن أن تكفر وتعود إلى الأكل في بيته، أما إن كان ليس بطيب فاحمد الله على هذا اليمين ولا تأكل معه ولا تأتيه، وابتعد عنه، إذا كان ممن يظهر المعاصي، ويدعو إلى المعاصي، فاحمد الله على البعد عنه، أما إذا كان طيبا فإنك تكفر عن يمينك، تطعم عشرة مساكين، أو تكسوهم والحمد لله، وأت أخاك، وكل في بيته، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير (1) » ، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «والله إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها، إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير (2) » .
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الأحكام (7146) ، صحيح مسلم الأيمان (1652) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1529) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3784) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3277) ، مسند أحمد بن حنبل (5/63) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2346) .
(2) صحيح البخاري كفارات الأيمان (6718) ، صحيح مسلم الأيمان (1649) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4346) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2107) ، مسند أحمد بن حنبل (4/401) .(23/114)
65 - من حلف كاذبا هل عليه كفارة
س: لي أخ مستخرج جواز سفر وأراد استخراج واحد آخر وفي أثناء التحري قال له المتحري: أتحلف بأنه ليس لك جواز سابق. وكان لم ير مصحفا أمام المتحري ثم أخرجه المتحري. وقد خاف الأخ وحلف إنه لم يستخرج جواز سفر آخر. أفيدونا عن حكم ذلك وهل عليه دم. وهل تجزئ الكفارة؟ (1)
ج: عليه التوبة إلى الله سبحانه وتعالى وهكذا كل كاذب عليه التوبة إلى الله. والصدق في ذلك والندم وعدم العودة. وليس في اليمين الكاذبة كفارة على الصحيح. فكفارات الأيمان على المستقبل إذا خالف مثل أن يقول: (والله ما أفعل كذا أو والله لا أكلم فلانا) . أما الكذاب فعليه التوبة فقط.
يتوب إلى الله ويندم على ما صنع ويقلع عن الذنب. ويعزم عزما صادقا ألا يعود في ذلك عن إخلاص لله ورغبة فيما عنده، وبذلك يعفو الله عنه؛ لأن التوبة النصوح يمحو الله بها الذنوب كما قال الله عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2)
__________
(1) من برنامج نور على الدرب الشريط الخامس عشر.
(2) سورة النور الآية 31(23/115)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (1) » .
__________
(1) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .(23/116)
66 - حكم من حلف على شيء وفعله
س: حلفت يوما نتيجة زعل ألا أصل الزوجة إلا بعد كذا يوم. وقد وصلتها قبل إتمام المدة، ما هو توجيهكم؟ (1)
ج: عليك كفارة يمين كما تقدم في السؤال السابق. فإذا حلف الإنسان على شيء مستقبل كأن يقول: (والله لا أصل زوجتي يومين أو ثلاثة) ثم خالف يمينه فعليه كفارة يمين، وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة، فمن عجز فعليه صيام ثلاثة أيام.
والمعنى أنه يكفر بإطعام عشرة مساكين يعني يعشيهم أو يغديهم، أو يدفع إليهم طعاما، كل واحد نصف صاع، يعني كيلو ونصف تقريبا من التمر أو الأرز أو الحنطة أو غيره من قوت البلد. أو يكسوهم كسوة تجزئهم في الصلاة كالقميص أو إزار ورداء أو
__________
(1) من برنامج نور على الدرب. الشريط الخامس عشر.(23/116)
صيام ثلاثة أيام (1) ، هذه كفارة اليمين كما نص الله على ذلك في كتابه العظيم حيث قال سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2)
__________
(1) يعني إذا عجز عن الإطعام والكسوة.
(2) سورة المائدة الآية 89(23/117)
67 - مسألة في كفارة اليمين
س: أنا متزوج ابنة عمي. وقبل سفري إلى العراق قلت لها إذا خرجت خارج المنزل وأنا غائب وبدون إذني. وأقصد خروجها من المنزل وسفرها إلى القاهرة مهما بلغت الظروف فأنت طالق. وخرجت إلى القاهرة؛ لأن والدتها كانت مريضة حسب قولها ما رأيكم فيما قلت جزاكم الله خيرا؟ (1)
__________
(1) من برنامج نور على الدرب. الشريط الخامس عشر.(23/117)
ج: إذا كان قصدك منعها من الخروج وليس قصدك الطلاق، إنما قصدك أن تمنعها وأن تهددها وأن تخوفها فعليك كفارة يمين ويكفي في أصح قولي العلماء وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة. فمن عجز عن ذلك صام ثلاثة أيام، والأفضل أن تكون متتابعة.
أما إن كان قصدك طلاقها فإنه يقع عليها طلقة واحدة. وتراجعها وتشهد شاهدين أنك راجعت فلانة إذا كنت لم تطلقها قبل هذا طلقتين. فإن قلت إن خرجت من بيتي، أو خرجت إلى أمك فأنت طالق، وقصدك إيقاع الطلاق، فإنه يقع طلقة واحدة. ولك أن تراجعها إذا شئت ما دامت في العدة. بأن تقول: راجعت زوجتي فلانة أو رددت زوجتي فلانة، وتشهد شاهدين من إخوانك الطيبين على أنك راجعتها، وترجع إلى عصمتك في ذلك إذا كنت لم تطلقها قبلها طلقتين.
أما إن كانت هذه الطلقة هي الأخيرة أي الثالثة فإنها تحرم عليك إلا بعد زوج شرعي في نكاح شرعي وليس نكاح تحليل. بعد أن يطأها الزوج؛ لأن الله تعالى يقول: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1) والنبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) سورة البقرة الآية 230(23/118)
لما سألته التي طلقها زوجها الطلقة الأخيرة أن تعود إليه قال: «لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك (1) » . يعني حتى يطأك بعد النكاح الزوج الثاني، فلا بد من نكاح، ولا بد من وطء في النكاح.
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2639) ، صحيح مسلم النكاح (1433) ، سنن الترمذي النكاح (1118) ، سنن النسائي الطلاق (3409) ، سنن ابن ماجه النكاح (1932) ، مسند أحمد بن حنبل (6/226) ، سنن الدارمي الطلاق (2267) .(23/119)
68 - حكم الأم التي تحلف على أولادها فيخالفونها
س: لدي أولاد وكثيرا ما أحلف عليهم بأن لا يعملوا كذا، لكنهم لا يستجيبون لأمري، فهل علي كفارة في هذه الحال؟ (1)
ج: إذا حلفت على أولادك أو غيرهم حلفا مقصودا أن يفعلوا شيئا أو ألا يفعلوه فخالفوك فعليك كفارة يمين، لقول الله سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (2)
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 3 صـ 471.
(2) سورة المائدة الآية 89(23/119)
وهكذا لو حلفت على فعل شيء أو تركه، ثم رأيت أن المصلحة في خلاف ذلك فلا بأس بأن تحنثي في يمينك وتؤدي الكفارة المذكورة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير (1) » متفق على صحته.
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الأحكام (7146) ، صحيح مسلم الأيمان (1652) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1529) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3784) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3277) ، مسند أحمد بن حنبل (5/63) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2346) .(23/120)
69 - حكم من حلف لا يدخل بيتا ثم اشتراه
س: امرأة حلفت على ألا تدخل بيت ابنها من بعد وفاة والده وأرادت الأم شراء البيت، والابن موافق فهل للأم شراء البيت والسكن فيه؟ وإن كان لا يجوز فهل هناك كفارة؟ (1)
ج: لا مانع من شرائها البيت إذا سمح مالكوه بالبيع، وإذا دخلته بعد الشراء فليس عليها كفارة لأنه صار بيتها، وليس بيت ولدها، فإذا دخلت بيت ولدها الذي يسكن فيه فعليها كفارة يمين، سواء كان بيتا بالملك أو بالأجرة، وكفارة اليمين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، كما نص الله سبحانه على ذلك في سورة المائدة،
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 3 صـ 471.(23/120)
والذي يعطاه المسكين الواحد نصف صاع من قوت البلد من تمر أو أرز أو غيرهما، ومقداره كيلو ونصف تقريبا، وإن غداهم أو عشاهم أو كسا كل واحد منهم كسوة تجزئه في الصلاة كفى ذلك، وإذا كان ولدها ساكنا في البيت بعد الشراء ودخلت عليه قبل أن ينتقل فعليها الكفارة المذكورة، وبالله التوفيق.(23/121)
70 - حكم من حلف وهو في حالة غضب
س: إذا حلف الإنسان وهو في حالة غضب هل يكون حلفه حلفا يحقق فعل شيء أوترك شيء مع العلم أني لا أذكر أحيانا بعض ما أحلف عليه، ما كفارة هذا جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: من حلف وهو غضبان فحاله حال تفصيل:
إن كان قد اشتد به الغضب حتى فقد شعوره ولم يميز من شدة الغضب لم يملك نفسه، فهذا لا تنعقد يمينه ولا يلزمه شيء، كما لو طلق في حال شدة الغضب، وعند المسابة والمخاصمة الشديدة والمضاربة ونحو ذلك حتى فقد شعوره؛ لأنه في هذه الحال أشبه بالمعتوهين والمجنونين.
__________
(1) من أسئلة نور على الدرب.(23/121)
أما الغضب العادي فإنه لا يمنع الطلاق، ولا يمنع انعقاد اليمين، فإذا قالت: والله لا أكلم فلانة أو قال رجل: والله لا أكلم فلانا أو لا أزوره أو لا أجيب دعوته، ولو كان غضبان، لكن الغضب لم يخل بشعوره ولم يبلغ حده للشدة التي تغير الشعور وتمنع الإنسان من الفكر والنظر، فهذا عليه كفارة اليمين إذا خالف يمينه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير (1) » . فإن قال: والله لا أزوره، ولو كان غضبان أو قال: والله لا أكلمه ثم زاره أو كلمه فعليه كفارة يمين. وهكذا المرأة السائلة إذا قالت: لا أكلم فلانة أو لا أزور فلانة أو لا أشتري لها كذا، أو لا أعطيها كذا، ثم أرادت الفعل فلها أن تفعل وتكفر عن يمينها. الرجل والمرأة في هذا سواء، لهذا الحديث الصحيح وهو قوله - عليه الصلاة والسلام -: «إذا حلفت عن يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عنها وأت الذي هو خير (2) » .
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير (3) » .
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الأحكام (7146) ، صحيح مسلم الأيمان (1652) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1529) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3784) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3277) ، مسند أحمد بن حنبل (5/63) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2346) .
(2) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6622) ، صحيح مسلم الأيمان (1652) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1529) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3782) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3277) ، مسند أحمد بن حنبل (5/62) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2346) .
(3) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6623) ، صحيح مسلم الأيمان (1649) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4346) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2107) ، مسند أحمد بن حنبل (4/401) .(23/122)
71 - حكم الحلف وهو في حالة لا يملك شعوره
س: إذا حلف الرجل ليتم أمرا وهو في حالة قد لا يملك شعوره، هل يلزمه التكفير، وما هو؟ (1)
ج: إذا حلف الإنسان على شيء يفعله فلم يفعله لزمته كفارة اليمين، مثل أن يقول: (والله لأكلمن فلانا) أو: (والله لأزورنه) أو: (والله لأصلين كذا وكذا) ، وما أشبه ذلك، فلم يفعل ما حلف عليه، فإنه يلزمه كفارة اليمين إذا كان عاقلا يعلم ما يقول، أما إذا كان قد اشتد به الغضب وليس في وعيه، فاليمين لا تنعقد؛ لأن الوعي لما يقول لا بد منه، فإذا اشتد به الغضب حتى جعله لا يعقل ما يقول، ولا يضبط ما يقول، فمثل هذا لا كفارة عليه، كالمجنون، والمعتوه، والنائم.
وله أن يترك ما حلف عليه إذا رأى المصلحة في ذلك، ويكفر عن يمينه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير (2) » متفق على صحته.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة في العدد (1481) بتاريخ 24 \ 9 \ 1415هـ.
(2) صحيح البخاري كتاب الأحكام (7146) ، صحيح مسلم الأيمان (1652) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1529) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3784) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3277) ، مسند أحمد بن حنبل (5/63) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2346) .(23/123)
فلو حلف ألا يزور فلانا، ثم رأى أن الأصلح زيارته فإنه يزوره ويكفر عن يمينه، وهكذا ما أشبه ذلك.
ولا حرج في تقديم الكفارة أو تأخيرها. والله ولي التوفيق.(23/124)
72 - مسألة في الحلف المنكر
س: الأخ ت. ع. يسأل: لقد حصل خلاف بيني وبين زوجتي، وفي ثورة من الغضب بسبب المشاكل التي بيننا، وسببها عدم الإنجاب فقلت لها وأنا في كامل قواي العقلية: أكون بريئا من دين الإسلام لازم أتزوج عليك، وبعد ذلك تحسنت العلاقة وحملت، وعدلت عن الزواج، فما هي كفارة هذا الحلف؟ (1)
ج: هذا منكر من القول لا يجوز للمسلم أن يحلف به ولا أن يتلفظ به، وعليه التوبة إلى الله سبحانه من ذلك والتوبة النصوح تجب ما قبلها وليس عليه كفارة.
__________
(1) نشر في مجلة المجتمع العدد رقم 655 في 21 \ 4 \ 1404هـ.(23/124)
73 - مسألة في الحنث في اليمين
س: في أحد الأيام قام أحد الأشخاص المقربين إلي باستفزازي بقوله (إنك ستأخذ من بنات فلان) فقلت: (والله لو ما بقي في الدنيا إلا بنات فلان فلن أتزوج منهن) . ومرت السنوات وتزوجت إحداهن، وأنا الآن ولله الحمد عائش في حياة سعيدة أرجو إرشادي لما أفعله تجاه يميني السابق؟ (1)
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكرته في السؤال فالواجب عليك كفارة اليمين وهي: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، والواجب في الإطعام نصف صاع من قوت البلد من تمر أو بر أو غيرهما، ومقداره كيلو ونصف تقريبا ومن الكسوة ما يجزئ في الصلاة كالقميص أو الإزار والرداء، فإن عجز عن الطعام والكسوة والعتق صام ثلاثة أيام؛ لقول الله سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (2)
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 3 صـ 470.
(2) سورة المائدة الآية 89(23/125)
74 - حكم من حلف وحنث في يمينه
س: إذا حلفت على شخص ألا يفعل كذا ففعله، وحنثني في يميني وليس بيدي إلزامه، فماذا أفعل؟ أفيدوني بارك الله فيكم
ج: من حلف على يمين وحنث كفر عن يمينه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير (1) » ، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه (2) » ، ويقول جل وعلا: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (3) الآية.
فإذا حلفت على إنسان، قلت: والله تغدى، والله تأكل هذا، والله تأخذ هذا المبلغ. . وأبى؛ عليك كفارة، وهي إطعام عشرة
__________
(1) صحيح البخاري كفارات الأيمان (6718) ، صحيح مسلم الأيمان (1649) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4346) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2107) ، مسند أحمد بن حنبل (4/401) .
(2) صحيح مسلم الأيمان (1650) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1530) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1034) .
(3) سورة المائدة الآية 89(23/126)
مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة، ومن لم يجد صام ثلاثة أيام، لقوله جل وعلا: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (1)
الإنسان يحفظ لسانه من اليمين، فلا يحلف، إلا إذا دعت إليه الحاجة، وإذا حلف قائلا: والله تأكل هذا العشاء، والله تأخذ هذه المساعدة، والله تفعل هذا وأبى؛ كفر عن يمينه.
__________
(1) سورة المائدة الآية 89(23/127)
75 - إذا كانت اليمين على أشياء متعددة من جنس واحد هل يكفي فيها كفارة واحدة أم لا
س: ما كفارة اليمين وهل الكفارة على الترتيب أم على التخيير؟ وإذا حلفت على شيء من جنس واحد عدة مرات فهل تجزئ كفارة واحدة، أم لكل يمين كفارة؟ أفيدونا وجزاكم الله خيرا (1)
ج: كفارة اليمين هي إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم الإنسان أهله، أو كسوتهم أو عتق رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، وهي على التخيير: في الإطعام والكسوة والعتق. . وعلى الترتيب بين الثلاثة المذكورة وبين الصيام. . والواجب في الإطعام نصف صاع بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوت البلد من تمر أو بر أو شعير أو غيرها. . وهو كيلو ونصف تقريبا. أما الكسوة فقميص أو إزار ورداء، تجزئه في الصلاة، وأما العتق فهو تحرير رقبة مؤمنة. . وإذا كانت اليمين على أشياء متعددة من جنس واحد كفى فيها كفارة واحدة: كأن يقول: والله لا أكلم
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1657 في 12 جمادى الأولى 1419هـ.(23/128)
فلانا. . وكرر ذلك كثيرا. . فإنه تكفيه كفارة واحدة إذا كلمه، أما إذا كان المحلوف عليه من أجناس فإنها تتعدد الكفارة بعدد الأجناس المحلوف عليها، مثل أن يقول: والله لا أكلم فلانا والله لا أزور فلانا والله لا أسافر. . وأشباه ذلك فإنه يلزمه إذا حنث في ذلك كفارات بعدد الأيمان؛ لقول الله سبحانه في سورة المائدة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) والأفضل في صيام الأيام الثلاثة أن تكون متتابعة خروجا من خلاف من أوجب ذلك، وإن فرقها أجزأه ذلك، لأن الله سبحانه أطلق صيامها ولم يذكر أنها متتابعة، وذلك فضل من الله سبحانه وتوسعة منه على عباده، فله الحمد والشكر والله الموفق.
__________
(1) سورة المائدة الآية 89(23/129)
76 - هل تتعدد الكفارة إذا كرر الحلف وكان المحلوف عليه من أجناس متعددة
س: من عليه أيمان كثيرة فهل تجزئها كفارة واحدة؟ (1)
ج: إن كانت الأيمان على فعل واحد أجزأته كفارة واحدة، كما لو قال: (والله لا أكلم فلانا) (والله لا أكلم فلانا) وكرر ذلك كثيرا ثم كلمه فإنه تكفيه كفارة واحدة، أما إذا كانت يمينه على أفعال فإنه يلزمه لكل يمين كفارة، كما لو قال: (والله لا أكلم فلانا) (والله لا أزور فلانا) (والله لا أسافر إلى بلد كذا) ثم فعل ذلك فإنه تلزمه كفارات بعدد الأيمان. وفق الله الجميع.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1549 في 25 صفر 1417هـ.(23/130)
77 - بيان كفارة الحلف
س: يغلط كثير من الناس في بيان كفارة الحلف هل لسماحتكم تبيين الكفارة الصحيحة؟ جزاكم الله خيرا (1)
__________
(1) من أسئلة حج عام 1418هـ الشريط السادس.(23/130)
ج: كفارة اليمين قد أوضحها الله تعالى في القرآن قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (1) هذا هو نص القرآن فكفارة اليمين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، أو عتق رقبة، مخير بين ذلك إن شاء أطعم عشرة مساكين، وإن شاء كساهم، وإن شاء أعتق رقبة إذا تيسر العتق، والإطعام يكون نصف صاع لكل واحد، أو يعشيهم أو يغديهم، والكسوة بإزار ورداء أو قميص، فمن عجز عن هذه كله صام ثلاثة أيام.
__________
(1) سورة المائدة الآية 89(23/131)
78 - الأحوط التتابع في صيام كفارة اليمين
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم م. م. ح. سلمه الله. . سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 1745 وتاريخ 25 \ 4 \ 1408هـ الذي تسأل فيه عن عدد من الأسئلة.
وأفيدك أن التتابع في صيام كفارة اليمين فيه خلاف بين العلماء، والأحوط التتابع فيه مع العلم بأنه لا يعدل إلى الصيام إلا عند العجز عن الإطعام أو الكسوة أو العتق حسبما هو موضح بالفتوى المرفقة، وسبق أن صدر من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتاوى فيما سألت عنه، فنرفق لك نسخا منها، وفيها الكفاية إن شاء الله (1) . وفق الله الجميع لما فيه رضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) صدرت برقم 1776 في 25 \ 6 \ 1408هـ.(23/132)
79 - حكم تأخير الإطعام في الكفارة
س: من كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين، فهل يجوز إطعام واحد منهم الآن والآخر بعد أسبوع؛ لأنه قد لا يوجد عشرة مساكين دفعة واحدة، وهل إذا أطعمت واحدا عشر مرات أكون أطعمت عشرة مساكين؟ (1)
ج: يجب التماس العشرة، فإذا أطعمت واحدا وكررت ذلك لا يكفي، فلا بد من عشرة كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم في سورة المائدة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (2) الآية. فلا بد من التماس العشرة ولو تعددت الأيام، لكن تجب المبادرة حسب الإمكان، ولو كان إطعامهم متفرقا في أيام فلا بأس، ولكن عليك أن تجتهد وتلتمس عشرة وتبادر بإخراج الكفارة أو تكسوهم كسوة تجزئهم في الصلاة، تغديهم أو تعشيهم، فإن هذا يكفي للآية السابقة.
__________
(1) نشر في مجلة البحوث الإسلامية العدد 42 عام 1415هـ.
(2) سورة المائدة الآية 89(23/133)
80 - لا يجوز البدء بالصيام قبل الإطعام
س: إذا حلفت على شيء ألا أفعله فجاء يوم وفعلته فهل لي أن أصوم ثلاثة أيام ثم أكمل هذا الشيء؟ أو أني أتوقف عنه؟ (1)
ج: إذا حلف الإنسان على شيء أن لا يفعله، ثم فعله فعليه كفارة يمين، كما لو قال والله لا أكلم فلانا، أو لا آكل طعامه، ثم كلمه، أو أكل طعامه، فإن عليه كفارة يمين، لقول الله سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2) أوضح - سبحانه - في هذه الآية كفارة اليمين، وبين - عز وجل - أن الصيام إنما يكون في حق من عجز عن الإطعام والكسوة والعتق، وقد اختلف أهل العلم في مقدار الواجب من الطعام لكل مسكين، والأصح أنه نصف صاع من جميع الأصناف التي يطعمها الإنسان أهله من الرز والتمر
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 3 صـ 479.
(2) سورة المائدة الآية 89(23/134)
وغيرهما، ومقدار ذلك بالوزن كيلو ونصف تقريبا وإن غدى المساكين العشرة، أو عشاهم، أو كساهم كسوة تجزئهم في الصلاة كفى ذلك، وإن أعتق رقبة مؤمنة من ذكر أو أنثى كفى ذلك، فإن عجز عن الجميع صام ثلاثة أيام. والله ولي التوفيق.(23/135)
81 - ماذا يفعل من لديه كفارات
س: من كانت عليه أيمان كثيرة وأرادت أن تكفر عنها كلها، فهل يجوز أن تدفع عن كل يمين صاعا من الرز على مسكين واحد يعني عن كل يمين صاع واحد على مسكين واحد، وهل يدفع على السائلين إذا لم يوجد غيرهم، وهل يدفع على الرجل وأولاده، كل واحد منهم له صاع؟ (1)
ج: يجب على من كانت عليه أيمان على أفعال متعددة إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة عن كل يمين، إذا كانت أيمانه على أفعال متعددة كأن يقول: والله لا أكلم فلانا، والله لا أسافر، والله لا أزور فلانا، أو ما أشبه ذلك، لكل مسكين نصف صاع من قوت البلد من أرز أو بر أو غيرهما. مقداره
__________
(1) من ضمن أسئلة أجاب عنها سماحته بعد محاضرة ألقيت في الجامع الكبير.(23/135)
كيلو ونصف، أو كسوتهم لما يجزئ في الصلاة، فإن لم يستطع صام ثلاثة أيام، والأفضل أن تكون متتابعة، لقول الله عز وجل في سورة المائدة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (1) الآية.
أما إن كانت الأيمان على فعل واحد، كأن يقول: والله لا أكلم فلانا، والله ما أكلم فلانا، ويكرر ذلك كثيرا فإنها تعتبر يمينا واحدة يجزئه فيها كفارة واحدة، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة المائدة الآية 89(23/136)
82 - حكم دفع المال بدل الإطعام في الكفارة
س: هل تجوز الكفارة عن حلف يمين بالله بدفع مال لشخص أو أكثر من فقراء المسلمين، بدلا من إطعام عشرة مساكين، وما قيمة هذا المبلغ؟ (1)
__________
(1) من أسئلة نور على الدرب الشريط رقم 14.(23/136)
ج- كفارة اليمين قد نص الله عليها في كتابه الكريم. فليس لأحد أن يخالف نص كتاب الله عز وجل، يقول الله سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (1) فالله عز وجل أوضح الكفارة وبينها ونوعها، فليس لأحد أن يخالف ذلك. فلا يجزي أن يقدم لمسكين طعاما أو نقودا أو غير ذلك، بل لا بد من عشرة كما نصت على ذلك الآية، عشرة فقراء يعطون طعاما، قدره نصف صاع لكل واحد كيلو ونصف تقريبا من قوت البلد، تمر أو أرز أو حنطة، أو غير ذلك. أو يدعون لطعام الغداء أو العشاء مجتمعين أو متفرقين، حتى تكمل العشرة. أو تكسوهم كسوة لكل واحد ما يكفيه في الصلاة كإزار ورداء أو قميص أو تعتق رقبة مؤمنة، فإن لم تستطع هذه كلها فعليك أن تصوم ثلاثة أيام. هذه الكفارة هي التي نص الله عليها جل وعلا. وليس لأحد أن يخالف ذلك. ولو فرض أن أطعمهم مفرقين، خمسة اليوم وخمسة غدا، أو أربعة. كل هذا
__________
(1) سورة المائدة الآية 89(23/137)
لا بأس به فليس من شرط هذا أن يجتمعوا ولو فرقها بين بيتين أو ثلاثة فلا بأس. فالحاصل أنه لا بد من عشرة في الطعام والكسوة.(23/138)
83 - حكم إخراج كفارة اليمين نقودا
س: والدتي عليها كفارة يمين فهل لي أن أخرج عنها ما قيمته إطعام عشرة مساكين بالريال السعودي ودفعه إلى جمعية خيرية؟ وكم تساوي قيمة الإطعام إذا صح إخراجها بالريال السعودي؟ أفيدوني أثابكم الله (1)
ج: إذا كانت والدتك ميتة أو حية، وسمحت لك بإخراج الكفارة عنها فلا حرج في إخراجك الكفارة عنها، على أن تكون الكفارة طعاما لا نقودا، لأن ذلك هو الذي جاء به القرآن الكريم والسنة المطهرة، والواجب في ذلك نصف صاع من قوت البلد، من تمر، أو بر، أو غيرهما، ومقداره كيلو ونصف تقريبا، وإن غديتهم أو عشيتهم، أو كسوتهم كسوة تجزئهم في الصلاة كفى ذلك، وهي قميص أو إزار ورداء.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 3 صـ 481.(23/138)
84 - حكم دفع كفارة اليمين للمجاهدين
س: لقد كفرت عن يمين بـ 100 ريال، وضعتها في حساب مساعدة المجاهدين الأفغان، فهل تكفي عن إطعام 10 مساكين؟ أفتونا جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: لا يكفي إخراج المبلغ المذكور في كفارة اليمين، لأن ذلك خلاف النص في قوله - عز وجل - في سورة المائدة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (2) الآية، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 3 صـ 481.
(2) سورة المائدة الآية 89(23/139)
85 - مسألة في كفارة اليمين
س: هل تدفع كفارة اليمين نقدا للمجاهدين لحاجتهم الماسة للمال، ولقلة الفقراء والمساكين في بلدي؟ (1)
ج: تدفع عن كفارة اليمين كما قال الله سبحانه عشرة مساكين طعاما، أو كسوة أو عتق رقبة، هذه هي كفارة اليمين، ولا تعطيها المجاهدين إلا إذا وجدت عشرة منهم فقراء فأعطهم إياها أي عشرة مجاهدين فقراء تعطيهم إياها فلا بأس، لكن إرسالها لا يجزئ، المقصود أنها توزع بين عشرة مساكين طعاما أو كسوة أو تصوم ثلاثة أيام إن عجزت عما ذكر.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407 هـ.(23/140)
86 - مسألة في كفارة اليمين
س: هل تفطير الصائمين وعشاؤهم بعدد عشرة أشخاص يغني عن كفارة اليمين، أم لا بد من إخراج الكفارة؟ علما أن قيمة الإفطار والعشاء أكثر من قيمة الكفارة؟ جزاكم الله خيرا (1)
ج: إذا فطر من عليه كفارة يمين عشرة من الفقراء وعشاهم أجزأه عن الكفارة، إذا كان نوى بذلك الكفارة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (2) » متفق على صحته.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1674 في 13 رمضان 1419هـ.
(2) أخرجه البخاري برقم 1 كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي، ومسلم برقم 3530 كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: '' إنما الأعمال بالنيات''.(23/141)
87 - التكفير قبل الحنث جائز
س: هل التكفير عن اليمين قبل الحنث جائز؟ (1)
ج: يجوز له التكفير قبل الحنث وبعده. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا حلف أحدكم على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير (2) » . وهذا الحديث يعم بلفظه التكفير قبل الحنث وبعده.
__________
(1) أجاب عنه سماحته من ضمن أسئلة شرح كتاب بلوغ المرام في (كتاب الحج) .
(2) سنن النسائي الأيمان والنذور (3781) ، مسند أحمد بن حنبل (2/212) .(23/142)
88 - اللغو في اليمين
س: أردد في كثير من الأحيان وأنا أتكلم كلمة (والله) . فهل يعتبر هذا يمينا؟ وكيف أكفر عنه إذا حنثت؟ (1)
ج: إذا كرر المسلم المكلف، أو المسلمة المكلفة كلمة (والله) على فعل شيء، أو ترك شيء عن قصد وعقد، مثل أن يقول: والله لا أزور فلانا، أو يقول: والله أزور فلانا، مرتين، أو أكثر، أو يقول: والله لأزورن فلانا، وما أشبه ذلك فإنه متى حنث بأن لم يفعل ما حلف على فعله، أو فعل ما حلف على
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 3 صـ 464.(23/142)
تركه، فإن عليه كفارة يمين، وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة، والواجب في الإطعام نصف صاع من قوت البلد من تمر، أو أرز، أو غيرهما، وهو كيلو ونصف تقريبا، والكسوة هي ما يجزئ في الصلاة كالقميص أو الإزار والرداء، فإن لم يستطع واحدة من هذه الثلاث وجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام لقول الله سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (1) الآية. أما إن جرت اليمين على لسانه بغير قصد ولا عقد، فإنها تعتبر لاغية ولا كفارة عليه في ذلك، لهذه الآية الكريمة وهي قوله سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (2) وإنما تجزئه كفارة واحدة عن الأيمان المكررة إذا كانت على فعل واحد كما ذكرنا آنفا.
أما إن كانت على أفعال فإنه يجب عليه عن كل يمين كفارة مثل أن يقول: والله لأزورن فلانا، والله لا أكلم فلانا، والله
__________
(1) سورة المائدة الآية 89
(2) سورة المائدة الآية 89(23/143)
لأضربن فلانا، وما أشبه ذلك، فمتى حنث في واحدة من هذه الأيمان وأشباهها وجب عليه كفارتها، فإن حنث فيها جميعا وجب عليه عن كل يمين كفارة، والله ولي التوفيق.(23/144)
89 - لا كفارة عليك إذا لم تحلف
س: أنا شاب قد عاهدت الله على أن أقرأ من مختصر تفسير ابن كثير عددا من الصفحات في اليوم، ولكنني لم أف بهذا العهد، علما بأني قد حددت هذه المدة وقد انتهت، فماذا يجب علي؟ (1)
ج: عليك أن تجتهد في ذلك، وإذا حصل خلل في بعض الأيام فعليك التوبة إلى الله من ذلك ولا كفارة عليك، إذا كنت لم تحلف، أما إن كان هذا العهد بلفظ اليمين مثل: والله، وتالله، وبالله، فعليك كفارة اليمين، لقول الله سبحانه في سورة المائدة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2)
__________
(1) من ضمن الأسئلة التابعة لمحاضرة سماحته بعنوان السنة ومكانتها ونشر في المجموع صـ 9 صـ 389.
(2) سورة المائدة الآية 89(23/144)
90 - ما حكم الأيمان المتكررة على فعل شيء واحد
س: أنا شاب حلفت بالله أكثر من ثلاث مرات على أن أتوب من فعل محرم، سؤالي: هل علي كفارة واحدة أم ثلاث وما هي كفارتي؟
ج: عليك كفارة واحدة، وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، لقول الله سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 89(23/145)
الآية من سورة المائدة، وهكذا كل يمين على فعل واحد، أو ترك شيء واحد، ولو تكررت ليس فيها إلا كفارة واحدة، إذا كان لم يكفر عن الأولى منهما، أما إذا كفر عن الأولى، ثم أعاد اليمين فعليه كفارة ثانية إذا حنث، وهكذا لو أعادها ثالثة وقد كفر عن الثانية فعليه كفارة ثالثة.
أما إذا كرر الأيمان على أفعال متعددة أو ترك أفعال متعددة فإن عليه عن كل يمين كفارة كما لو قال: والله لا أكلم فلانا، والله لا آكل طعامه، والله لا أسافر إلى كذا، أو قال: والله لأكلمن فلانا، والله لأضربنه وأشباه ذلك، والواجب في الإطعام لكل مسكين نصف صاع من قوت البلد وهو كيلو ونصف تقريبا.
وفي الكسوة ما يجزئه في الصلاة كالقميص أو إزار ورداء، وإن عشاهم أو غداهم كفى ذلك لعموم الآية الكريمة المذكورة آنفا، والله ولي التوفيق.(23/146)
91 - ما يلزم من كان كثير الحلف
س: اعتدت أن أحلف يمينا عندما أغضب وأزعل من أي شيء في العمل أو في المنزل وأقول: علي الطلاق، أو علي الحرام بأن هذا كذا وكذا، وصار هذا اليمين عادة في يومي وليلتي أردده باستمرار، حاولت التخلص منه، ولكنني لم أستطع، فبماذا تنصحونني، وما حكم هذا اليمين يا سماحة الشيخ؟ (1)
ج: نوصيك بالحذر من هذا وعدم اعتياده ونوصيك بترك اليمين بالطلاق والتحريم، هذا الذي نوصيك به، وإذا فعلت ذلك وأنت صادق فليس عليك شيء فإذا قلت مثلا علي الطلاق إن فلانا سافر، علي الطلاق بأني ما فعلت كذا وكذا وأنت صادق، فلا شيء عليك، أو علي الحرام إني ما أفعل كذا ولم تفعله، أو علي الحرام إن فلانا قد سافر أو علي الحرام إني ما أكلت كذا وأنت صادق، فلا شيء عليك، أما إذا قلته وأنت تريد المنع كأن تقول لزوجتك علي الطلاق ما تذهبين لأهلك، وأنت قصدك
__________
(1) نشر في جريدة المسلمون العدد 698 تاريخ 26 \ 2 \ 1419هـ.(23/147)
منعها، لا طلاقها، فهذا حكمه حكم اليمين فعليك كفارة يمين، في أصح قولي العلماء، وكذا لو قلت: علي الحرام إني ما آكل هذا الشيء وأكلته، وقصدك الامتناع منه، فعليك كفارة يمين، أو عليك الحرام أن لا تزور فلانا، ثم زرته، وأنت قصدك الامتناع من زيارته فقط، فعليك كفارة يمين وعليك الاستغفار من ناحية يمينك بالتحريم، لأن التحريم لما أحل الله لا يجوز.(23/148)
92 - مسألة في تكرار اليمين
حضر عندي بمقر جمعية تحفيظ القرآن الكريم بالطائف يوم الاثنين 22 \ 1 \ 1419هـ الأخ \ س. ع. ح. م. وذكر أنه حصل خلاف شديد بينه وبن إخوانه الأشقاء في موضوع بقالة مشتركة بينه وبينهم إلا أن والده أعطى البقالة لاثنين من إخوانه، ولم يعط البقية وقال س: إن له في البقالة حقوقا على إثر هذا غضب غضبا شديدا، وحلف أيمانا متكررة وطلاقا متكررا معلقا وتحريما متكررا معلقا، قال: والله لا أدخل على إخواني بيوتهم حتى(23/148)
ترجع البقالة للجميع وقال: علي الطلاق ما أدخل بيوتهم حتى ترجع البقالة، وقال علي الحرام ما أدخل بيوتهم حتى ترجع البقالة أكثر من مرة، كل ذلك قاله وقال كلما جاءني أشخاص يطلبون مني أن أدخل على إخواني أكرر هذا الكلام.
ذكر ذلك بحضور والد زوجته، وقد أحضر س. المذكور معه شاهدين، شهدا بالله العظيم أن ما ذكره هو كل ما سمعوه منه، لأنهم كانوا يقومون بالصلح بينه وبين إخوانه، يقول س: على إثر امتناعي من دخول بيوت إخواني قام والدي وقابل ذلك بالمثل، وهجرني، وقال: لا أدخل بيتك حتى ترجع عن قولك، وتدخل بيوت إخوانك، يقول س: والآن أنا أريد أن أرضي والدي حتى لا أكون عاقا له، أريد أن أدخل بيوت إخواني، فما المخرج من هذه الأيمان المتكررة والطلاق المتكرر والتحريم المتكرر، هذا ما لزم وفقكم الله وحفظكم وجزاكم الله خيرا عن الإسلام والمسلمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده (1) : بناء على ما ذكرتم أعلاه من صفة الطلاق والتحريم والأيمان الواقعة من س. المذكور ألا يدخل على إخوته حتى يشترك معهم في البقالة،
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم (47) .(23/149)
وبناء على حضوره عندي وسؤاله عن نيته، وجوابه بأن قصده الامتناع من الدخول على إخوته حتى يشترك معهم أو يردوها لأبيه، وليس قصده الطلاق ولا التحريم، أفتيته بأن عليه عن ذلك كله كفارة يمين لأنها كلها في حكم اليمين على شيء واحد في أصح قولي العلماء ولا يقع على زوجته شيء من الطلاق أو التحريم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (1) » .
فأرجو إشعار الجميع بالفتوى المذكورة مع العلم بأنه لا حرج عليه في الدخول على إخوته، قبل التكفير أو بعده، ولكن الأفضل البدار بالتكفير قبل الدخول لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير (2) » . وفق الله الجميع لما يرضيه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(2) سنن النسائي الأيمان والنذور (3781) ، مسند أحمد بن حنبل (2/212) .(23/150)
93 - مسألة في الأيمان المكررة
س: حلفت بالله مرات عدة، ولا أتيقن كم عددها، ولكن أرجح أن تكون ثلاث مرات، ولم أفعل بعد الحلف. فما حكم ذلك؟ وما كفارته؟ جزاكم الله خيرا (1)
ج: إذا حلف المسلم على فعل واحد وكرر ذلك ثلاث مرات، أو أكثر ولم يفعله في الوقت الذي عينه كأن يقول: والله لأهجرن فلانا اليوم، ويكرر ذلك، فإن عليه كفارة واحدة؛ لأن هذا التكرار يعتبر يمينا واحدة، أما إن كانت اليمين على أفعال ولم يفعلها، فإن عليه كفارات بعدتها، كما لو حلف ليزورن فلانا يوم كذا وليكلمن فلانا يوم كذا، وليعطين فلانا كذا وكذا يوم كذا وكذا، ولم يفعل، فإن شك في العدد عمل بظنه عملا بقوله سجانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) الآية. والله ولي التوفيق.
__________
(1) فتوى أجاب عنها سماحته في 23 \ 10 \ 1415هـ.
(2) سورة التغابن الآية 16(23/151)
94 - مسألة في توزيع كفارة اليمين
س: الأخ س. أ. ح. ع. من المخواة في الباحة يقول في سؤاله: أعطاني أحد الأشخاص مبلغ مائة ريال سعودي لشراء كفارة وإخراجها عنه، فقمت بشراء مواد غذائية بقيمة تسعين ريالا، وقسمت هذا الطعام إلى قسمين، وأعطيت كل قسم شخصا وبقي معي عشرة ريالات، وبعد أسبوع اشتريت بها طعاما وأعطيته أحد الأشخاص الذين أعطيتهم في المرة الأولى علما بأنهما في أشد الحاجة لهذا الطعام. وسؤالي: هل ما قمت به فيه الكفاية أم لسماحتكم توجيه آخر؟ أفيدوني جزاكم الله خيرا لتبرأ ذمتي (1)
ج: إذا كانت الكفارة كفارة يمين فالواجب أن يوزع الطعام على عشرة فقراء، ولا يكفي إطعام شخصين؛ لقول الله عز وجل في سورة المائدة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (2)
__________
(1) أجاب عنه سماحته في 4 \ 2 \ 1419هـ.
(2) سورة المائدة الآية 89(23/152)
الآية.
وبذلك تعلم أنه يجب على صاحب الكفارة الذي وكلك أن يطعم ثمانية مساكين غير الاثنين اللذين أطعمتهما، عملا بالآية الكريمة. هذا إن سامحك فيما فعلت أما إذا لم يسامحك فعليك أن تغرم الكفارة للثمانية الباقين لكل واحد نصف صاع من قوت البلد من تمر أو بر أو غيرهما إذا كان قد أمرك أن توزع الكفارة على عشرة؛ لأنك بهذا التصرف قد خالفت الأمر فوجب عليك أن تغرم، وفق الله الجميع.(23/153)
95 - حكم من عاهد فخالف العهد
س: تعاهدت أنا وشخص على أن لا نشرب الشيشة فخالفنا العهد فهل علينا شيء؟ (1)
ج: عليكم التوبة إلى الله والرجوع إلى الله والحذر من شرب الشيشة؛ لأنها خبيثة ومضرة، فعليكم التوبة إلى الله وعدم العودة إليها وإن كنتم حلفتم أن لا تشربوها فعليكم كفارة يمين.
__________
(1) من فتاوى الحج، الشريط الرابع.(23/154)
باب النذر(23/155)
صفحة فارغة(23/156)
96 - ما حكم النذر لغير الله
س: صادفتني مشكلة فنذرت لأحد الأئمة وقد علمت أنه لا يجوز النذر لغير الله علما بأن المكان الذي فيه الإمام بعيد عني. فهل يجوز لي أن أدفع هذا النذر للفقراء أو أكفر عنه؟ (1)
ج: هذا النذر باطل لأنه عبادة لغير الله، وعليك التوبة إلى الله من ذلك والرجوع إليه والإنابة والاستغفار والندم، فالنذر عبادة قال الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} (2) يعني فيجازيكم عليه، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (3) » . فهذا النذر نذر باطل، وشرك بالله عز وجل، فضلا عن أن النذر لأحد الأئمة الأموات نذر باطل وشرك بالله.
فالنذر لا يجوز إلا لله وحده لأنه عبادة، فالصلاة والذبح والنذر والصيام والدعاء كلها لله وحده سبحانه وتعالى، كما قال
__________
(1) نشر في جريدة عكاظ العدد 11931 في 11 \ 1 / 1420هـ.
(2) سورة البقرة الآية 270
(3) أخرجه البخاري برقم 6206، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك.(23/157)
سبحانه وتعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) يعني أمر ألا تعبدوا إلا إياه، وقال سبحانه وتعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (3) وقال عز وجل: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (4) فالعبادة حق لله، والنذر عبادة، والصوم عبادة، والصلاة عبادة، والدعاء عبادة، والذبح عبادة، فيجب إخلاصها لله وحده. فهذا النذر باطل وليس عليك شيء، لا للفقراء، ولا لغيرهم، بل عليك التوبة، وليس عليك الوفاء بهذا النذر، لكونه باطلا وشركا، وعليك بالتوبة الصادقة والعمل الصالح. . وفقك الله وهداك لما فيه رضاه، ومن عليك بالتوبة النصوح.
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة غافر الآية 14
(4) سورة الجن الآية 18(23/158)
97 - حكم الوفاء بالنذر
س: نذرت لله تعالى إن شفى الله ابنتي المريضة أن أذبح لله تعالى شاة، والآن شفيت ولله الحمد، هل يجوز لي أن أتصدق بثمن الذبيحة أم لا لأن الفقير يفضل المال على اللحم؟ أفيدوني أفادكم الله (1)
ج: الواجب عليك أن توفي بنذرك، وذلك بذبح الشاة التي نذرتها، والصدقة بها على الفقراء، تقربا إلى الله سبحانه وطاعة له، ووفاء بنذرك، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (2) » خرجه البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -. ولا يجزئ عنك الصدقة بالثمن، بل الواجب ذبح الشاة كما نذرت ذلك، وإن كنت نويت أن تأكلها وأهلك أو تدعو إليها جيرانك وأقاربك فلك ما نويت، ولا يلزم توزيعها بين الفقراء؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (3) » متفق على صحته. ونوصيك بعدم العودة إلى النذر؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تنذروا فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئا وإنما
__________
(1) نشر في جريدة العالم الإسلامي في 7 \ 12 \ 1416هـ.
(2) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3807) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .
(3) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(23/159)
يستخرج به من البخيل (1) » متفق على صحته من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -. والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم 6118 كتاب القدر، باب إلقاء النذر العبد إلى القدر، ومسلم برقم 3093، كتاب النذر، باب النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئا.(23/160)
98 - الوفاء بالنذر على حسب النية
س: لقد نذرت لو أن الله أعطاني من فضله مبلغا من المال بكد عرقي وجهدي لخصصت مبلغا مما أعطاني الله لبناء جامع، وخصصت لذلك بيني وبين نفسي مبلغا كان باعتقادي يوم أن نذرت نذري أنه يكفي لبناء الجامع، ومرت السنون والأيام وحقق الله ما طمحت به وأريد أن أفي بنذري.
والذي حدث أن المبلغ الذي طمحت لتحقيقه سابقا على العملة التي ببلدي بجملته اليوم بعد أن خفضت قيمتها لا تكفي لبناء مسجد، والمبلغ الذي خصصته بالطبع لا يؤثث جامعا ولا يؤسسه بسبب تدني قيمة العملة، أفكر لو تصدقت بهذا المبلغ على المحتاجين والمساكين والفقراء من ذوي القربى أو غيرهم، أو أعطيه لجمعية خيرية تقوم ببناء مساجد لم تكتمل بعد، هل يجوز ذلك؟ أفيدوني أفادكم الله (1)
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 3 صـ 490.(23/160)
ج: الواجب عليك الوفاء بالنذر، وذلك بتعمير مسجد حسب طاقتك، وإذا كنت أردت جامعا تقام فيه صلاة الجمعة وجب عليك ذلك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (1) » رواه البخاري في صحيحه.
وعليك أن تجتهد حتى توفي بنذرك وفاء كاملا، لكن إذا كنت نويت بنذرك مبلغا معينا فليس عليك إلا ذلك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (2) » فإن لم يحصل به بناء المسجد فساهم به في مسجد مع غيرك؛ لقول الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3) يسر الله أمرك وأبرأ ذمتك.
__________
(1) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3807) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .
(2) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(3) سورة التغابن الآية 16(23/161)
99 - حكم الوفاء بنذر الطاعة
س: زوجتي نذرت على نفسها أن تصوم ستة أيام من كل شهر إذا حصل ابنها على الشهادة الابتدائية، وقد حصل على تلك الشهادة منذ سنة تقريبا، وبدأت الصيام من ذلك التاريخ ولكنها أحست بالندم على ذلك وشعرت بالإرهاق نظرا لانشغالها بتربية أبنائها وشئون بيتها وخصوصا أيام الصيف.
فما رأي فضيلتكم في هذا النذر؟ وهل تستمر في الصوم أو تستغفر الله وتتوب إليه؟ علما أنها نذرت أن تصوم ستة أيام شهريا مدى الحياة (1)
ج: عليها أن توفي بنذرها؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (2) » . خرجه الإمام البخاري في صحيحه وقد مدح الله الموفين بالنذر في قوله سبحانه: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} (3) ولا حرج عليها أن تصومها متفرقة إذا كانت لم تنو التتابع، فإن كانت قد نوت التتابع فعليها أن تصومها متتابعة. ونسأل الله أن
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 3 صـ 491.
(2) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3807) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .
(3) سورة الإنسان الآية 7(23/162)
يعينها على ذلك ويعظم أجرها ونوصيها وغيرها من المسلمين بألا تعود إلى النذر؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تنذروا فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئا وإنما يستخرج به من البخيل (1) » متفق على صحته، وبالله التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6694) ، صحيح مسلم النذر (1640) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1538) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3805) .(23/163)
100 - مسألة في النذر
س: لقد قلت مرة لله علي نذر إن أنجاني من هذا الذنب أن أدفع لحماتي طقم بناجر من الذهب علما بأن حماتي لم تعلم بذلك؟ هل أدفع البناجر لحماتي أم أكفر كفارة يمين؟ (1)
ج: الواجب عليك الوفاء بالنذر إذا حصل الشرط المذكور، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (2) » . رواه الإمام البخاري في صحيحه لكن إن سامحتك حماتك فلا بأس، لأن الحق لها في ذلك، وبالله التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج3 صـ 501.
(2) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3807) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .(23/163)
101 - بيان أن النذر ليس من أسباب النجاح
س: لقد نذرت يوما من الأيام قبل الاختبار إذا نجحت من الصف السادس إلى الصف الأول المتوسط أن أذبح ذبيحة وقد نجحت في الدور الثاني وليس في الدور الأول، هل أذبح ذبيحة أم لا؟ هذا وقد مضى عليه أربع سنوات ولم أوف بالنذر، علما أنني نذرت مثل هذا النذر إذا نجحت من الصف الثالث متوسط إلى الأول ثانوي، هل يجوز لي أن أذبح واحدة أم اثنتين إذا نجحت إلى الصف الأول الثانوي؟ (1)
ج: إذا كنت أطلقت النذر ولم تنو النجاح في الدور الأول فعليك أن توفي بنذرك، وأن تذبح الذبيحة لوجه الله وتوزعها على الفقراء، ولا تأكل منها شيئا أنت ولا أهل بيتك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (2) » . أخرجه البخاري في صحيحه من حديث عائشة - رضي الله عنها -. أما إن كنت نويت بالنذر النجاح في الدور
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 3 صـ 495.
(2) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3807) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .(23/164)
الأول ولم تنجح إلا في الدور الثاني فليس عليك شيء، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (1) » متفق على صحته من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وهكذا نذرك إذا نجحت من المتوسط للثانوي عليك أن توفي به إذا نجحت، لحديث عائشة المتقدم، فإن كنت نويت بنذرك الأول أو الثاني أن تذبح الذبيحة لأهل بيتك وأقاربك وجيرانك فأنت على ما نويت، لحديث عمر المذكور آنفا.
وينبغي لك يا أخي ألا تعود إلى النذر لأنه لا يرد من قدر الله شيئا وليس هو من أسباب النجاح، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النذر وقال: «إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل (2) » كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - نسأل الله لنا ولك الهداية والتوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(2) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6693) ، صحيح مسلم النذر (1639) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3801) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3287) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2122) ، مسند أحمد بن حنبل (2/86) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2340) .(23/165)
102 - حكم الوفاء بالنذر
فور حصول ما كان وعدا على الشرط
س: لقد نذرت لله سبحانه وتعالى نذرا، وهو أن أصلي 10 ركعات إذا خفت رجلي من الألم، والآن لا أدري أيجوز أن أصلي العشر ركعات كل يوم ركعتين، إلى أن أتمها، فيصبح إتمامها بخمسة أيام؟ أم يجب أن أصلي العشر في وقت واحد بمعنى في يوم واحد؟ أفيدوني أفادكم الله (1)
ج: إذا وجد الشرط المذكور وهو خفة الألم، فالواجب عليك الوفاء بالنذر فورا فتصلي عشر ركعات في غير وقت النهي، تسلم من كل ركعتين؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة الليل والنهار مثنى (2) » . ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (3) » رواه البخاري في صحيحه.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج3 ص 498.
(2) أخرجه الترمذي برقم 543 كتاب الجمعة، باب ما جاء أن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، وابن ماجه برقم 1312 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في صلاة الليل والنهار مثنى مثنى.
(3) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3807) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .(23/166)
103 - نذر الطاعة يجب الوفاء به
س: لي أخت متزوجة، ولديها ثلاثة أطفال، وهي على خلاف دائم مع زوجها، وكانت أيضا على خلاف مع والدها، والسبب زوجها الذي كان يعاملها معاملة قاسية جدا، مما اضطرها إلى ترك البيت، وذهبت إلى بيت أمها المطلقة والمتزوجة من إنسان آخر، وزوج أمها يعاملها هو الآخر معاملة سيئة. فقمت أنا - أخوها - وأخذت لها شقة لتسكن فيها معي وكانت كثيرا ما تذهب إلى أمها، ومرة أجبرها زوج أمها أن تذهب وترمي أولادها عند زوجها ففعلت ذلك إرضاء لأمها. وفي أحد الأيام حصل خلاف بينها وبين زوج أمها وخرجت إلى شقتها متأثرة جدا بما مر بها من مصائب وبعد أولادها عنها، فقامت وأخذت حبوبا من الثلاجة وأكلتها جميعا، تريد أن تقضي على حياتها، فأخذتها إلى المستشفى وأعطيت العلاج اللازم، وقبل وفاتها أحست أنها في أيامها الأخيرة، فتابت وأخذت تستغفر كثيرا عما فعلته، وكانت تطلب منا أن ندعوا لها بالمغفرة، وأراد الله وتوفيت، فماذا يكون حالها بعد ذلك؟(23/167)
وهل يجوز لي أن أقوم بالصدقة والحج عنها، علما أنني نذرت أن أقوم بهذه الأعمال طيلة حياتي إن شاء الله؟ (1)
ج: ما دامت أختك المذكورة قد تابت إلى الله سبحانه وندمت على ما فعلته من أسباب الانتحار فإنه يرجى لها المغفرة، والتوبة تجب ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما صحت بذلك الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا تصدقت عنها، أو استغفرت لها ودعوت لها، يكون ذلك حسنا، وذلك ينفعها وتؤجر عليه أنت.
وما نذرته من الطاعات فعليك أن توفي به لأن الله سبحانه مدح الموفين بالنذور في قوله عز وجل في مدح الأبرار: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} (2) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (3) » . رواه الإمام البخاري في صحيحه، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 3 صـ 493.
(2) سورة الإنسان الآية 7
(3) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3807) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .(23/168)
104 - ماذا يلزم من عجز عن الوفاء بنذره
س: إنني شاب أبلغ من العمر السادسة والعشرين عاما، قدر الله علي بحصول غمامة من غمامات الدهر التي تعترض كل شاب متزوج ولي ثلاثة من الأبناء يعيشون تحت رعايتي بعد الله ووالدتي طاعنة في السن، وحجبتني الأقدار الإلهية عن رؤيتهم ما يقارب سنة وستة أشهر، فنذرت لله أنه عند عودتي لمنزلي وأطفالي - الذين أصبحوا بعد فترة غيابي تحت بر المتصدقين - أن أصوم لله تعالى ستة أيام وأذبح اثنتين من الذبائح لله تعالى وأزور مكة والمدينة أنا ووالدي وأقوم بحمل والدتي على أكتافي وأطوف بها وأسعى، وعندما انجلت تلك الغمامة ولسوء حالتي المادية وحالة أسرتي قمت بذبح ذبيحة واحدة ولم أستطع إحضار الأخرى، كذلك لم أستطع الذهاب بأسرتي أو والدتي لمكة والمدينة وفاء بنذري. وذلك لسوء حالتي المادية، حتى الصيام لم أستطع القيام به وخوفا من وقوعي في الذنب والوزر بعثت برسالتي لأجد الحل بما يرضي الله (1) . .
__________
(1) نشر في مجموع الفتاوى لسماحته ج4 ص 350(23/169)
ج: الحمد لله الذي يسر لك الاجتماع بوالديك وأولادك ونسأله جل وعلا أن يصلح حالكم جميعا وأن يعينك على ما يحبه ويرضاه، أما النذر فالواجب عليك الوفاء به حسب الطاقة وقد مدح الله المؤمنين الموفين بالنذر في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} (1)
وقال النبي: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (2) » أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، فعليك أن تؤدي الذبيحة الثانية عند القدرة لقوله سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (3) وقوله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (4)
فمتى استطعت وتيسر لك ما تشتري به الذبيحة الثانية فافعل واذبحها وتصدق بها على الفقراء إلا أن تكون نويت أن تأكلها مع أهلك فأنت على نيتك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (5) » متفق عليه، أما إن كنت نذرت الذبح ولم تقصد أن تأكلها مع أهلك فإنك تعطيها
__________
(1) سورة الإنسان الآية 7
(2) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3807) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .
(3) سورة البقرة الآية 286
(4) سورة التغابن الآية 16
(5) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(23/170)
الفقراء، وعليك أن تصوم ستة أيام لأنها طاعة لله فعليك أن تصومها متى استطعت ولو متفرقة، إلا إن كنت نويت أن تصومها متتابعة فأنت على نيتك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات (1) » إن كنت نويت صيامها متتابعة فصمها متتابعة.
وعليك أيضا أن تحج بوالديك وتذهب بوالديك إلى مكة والمدينة كما نذرت إن كنت أردت العمرة فعمرة وإن كنت أردت الحج فحج على حسب نيتك متى استطعت، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) ويقول سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3) وعليك أن تذهب بهما إلى المدينة أيضا؛ لأن شد الرحال إلى المدينة للصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم سنة وقربة، وإذا زرت المدينة فسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، وهذا هو الأفضل لك، فإن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه لمن كان في المدينة مشروعة.
وهكذا من وفد إليها من الرجال، إنما الذي ينهى عنه شد الرحال لمجرد زيارة قبره صلى الله عليه وسلم فقط، أما شد الرحل للمسجد والزيارة داخلة في ذلك فلا بأس بذلك، وتسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) سورة التغابن الآية 16(23/171)
صاحبيه رضي الله عنهما، أما النساء فلا يزرن القبور لكن أنت وأبوك ومن معك من الرجال، أما النساء فلا يزرن القبور ولكن يصلين في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ويصلين عليه في المسجد وفي البيوت وفي الطريق (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) .
ويشرع لك أنت ومن معك من الرجال زيارة البقيع وزيارة الشهداء، كل هذا مشروع للرجال، ويستحب أيضا لك ومن معك من الرجال والنساء زيارة مسجد قباء والصلاة فيه؛ لأنه مسجد فاضل تستحب الزيارة له والصلاة فيه لمن كان في المدينة ولمن وفد إليها.
أما حملك لأمك أو لأبيك حين تحج بهما وقت الطواف والسعي فلا حرج عليك في ذلك إذا كانا عاجزين عن المشي في الطواف والسعي وأنت قادر على ذلك، أما إن قدرا فعليهما أن يطوفا ويسعيا بأنفسهما ولا حرج أن يسعيا راكبين كغيرهما من الحجاج والعمار، والأمر في ذلك واسع والحمد لله، أما حملك لهما فلا يجب عليك حملهما لما فيه من المشقة ولعدم الدليل على شرعيته، وعليك أن تكفر عن نذرك هذا كفارة يمين إذا لم تحملهما. وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم تعطي كل واحد نصف صاع من التمر أو البر أو الأرز أو تكسو كل واحد كسوة تجزئه في الصلاة كالقميص أو إزار ورداء، وليس عليك(23/172)
حملهما، بل يطوفان ويسعيان بأنفسهما - كما تقدم - إذا كانا قادرين، أما إن كانا عاجزين فيطاف بهما ويسعى بهما، والحمد لله.
ونسأل الله أن يعينك على الوفاء بنذرك وأن يتقبل منا ومنك ومن سائر المسلمين ونوصيك بعدم النذر في المستقبل؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «لا تنذروا فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئا وإنما يستخرج به من البخيل (1) » فنوصيك في المستقبل أن لا تنذر أبدا متى حصلت لك نعم فاشكر الله عليها وأطعه واحمده ولا حاجة إلى النذر وقد قلت في سؤالك: (ولكن حجبتني الأقدار) فالأفضل أن تقول في مثل هذا: (ولكن قدر الله كذا وكذا) ؛ لأن الأقدار ليس لها تصرف إنما التصرف لله وحده فتقول في مثل هذا: (قدر الله علي كذا) أو (شاء الله كذا) فتنسب الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6694) ، صحيح مسلم النذر (1640) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1538) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3805) .(23/173)
105 - حكم من نذر ما ليس بقربة
س: سؤال من: أم عايض - الرياض تقول: نذرت في حالة غضب أن أضرب بني حتى يسيل دمه، ولكني لم أفعل. فماذا علي جزاكم الله خيرا؟ . (1)
ج: بسم الله، والحمد لله. عليك كفارة يمين؛ لأن هذا الضرب ليس قربة إلى الله، بل هو محل اجتهاد ونظر، فإذا لم تفعلي فعليك كفارة يمين، ولأن ضربه حتى يسيل دمه لا يجوز.
فيكون والحال ما ذكر من نذر المعصية، ونذر المعصية لا يجوز الوفاء به، وكفارته كفارة يمين وهي: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو عتق رقبة مؤمنة، فمن عجز عن الأمور الثلاثة صام ثلاثة أيام.
والإطعام يكون نصف صاع من قوت أهل البلد من تمر أو بر أو أرز أو غيرها، ومقداره: كيلو جرام ونصف على سبيل التقريب. والله ولي التوفيق
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة في العدد 1481 بتاريخ 24 \ 9 \ 1415 هـ. ومجموع فتاوى ومقالات متنوعة ج 8 \ 393.(23/174)
106 - ما حكم إذا نذر وهو لم يبلغ سن التكليف
س: تقول السائلة: عندما كنت في المرحلة المتوسطة وفي الكفاءة بالأخص نذرت وقلت بالحرف الواحد: إن نجحني ربي سوف أصوم كل يوم اثنين وخميس، ولكني كنت غير مبالية، ولم أف بنذري، وأنا الآن على أبواب الجامعة، وقد تبت إلى الله واستغفرت لذنبي، فأصبحت أصوم الاثنين والخميس، فهل علي إثم فيما فرطت في السابق، وهل هناك كفارة؟ أرجو توضيح ذلك (1) .
ج: إذا كنت حين النذر قد بلغت الحلم بالحيض، أو بإتمام خمس عشرة سنة أو بإنبات الشعر الخشن حول القبل، أو بإنزال بشهوة بالاحتلام أو غيره، فإنه يلزمك هذا النذر، لأن المرأة تبلغ الحلم بأربعة أمور: بإكمال خمس عشرة سنة، أو بإنزال المني عن شهوة ليلا أو نهارا ولو بالاحتلام، أو بإنبات الشعر الخشن حول الفرج، أو بالحيض، والرجل مثلها، سواء بسواء، ماعدا الحيض
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.(23/175)
فهو من خصائص النساء، فإذا كنت حين النذر قد بلغت الحلم بواحد من هذه الأمور، فعليك أن توفي بنذرك، وأن تصومي الاثنين والخميس كما نذرت، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (1) » رواه البخاري في الصحيح. وعليك أن تقضي الأيام التي فرطت فيها فلم تصومي.
__________
(1) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3807) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .(23/176)
107 - حكم صرف النذر
لغير الجهة التي نواها الناذر
س: إذا كنت نذرت مبلغ خمسة آلاف جنيه لله، وهذا المبلغ يمكن أن يكفي في بناء مسجد صغير في قريتي فهل لي ثواب في بناء هذا المسجد أم أن الثواب لوفاء النذر فقط؟ (1)
ج: إذا نذرت نذرا لله دراهم أو غيرها فعليك أن توفي به على ما نذرت أو ما نويت لا تغير فإن قلت لله علي أن أتصدق بخمسة آلاف، وقصدك الفقراء فأعطه للفقراء، وإذا كان قصدك
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.(23/176)
أن تبني مسجدا وهذه نيتك فابن بها مسجدا، أو شارك بها في تعميره، وإن كان قصدك أن تعمر بها مدرسة لتعليم القرآن وتدريس الحديث الشريف فكذلك، وإن كان قصدك أن تنفقها على المجاهدين في سبيل الله فافعل، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (1) » متفق على صحته. فالواجب عليك أن تصرف النذر للجهة التي نويتها أو صرحت بها للحديث المذكور ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (2) » أخرجه الإمام مسلم في الصحيح. وقد مدح الله الذين يوفون بالنذر في القرآن في سورة الإنسان فقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} (3) ويقول سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} (4) أي فيجازيكم عليه سبحانه وتعالى فالواجب على كل من نذر نذرا، نذر طاعة أن يوفي به سواء كان في إنشاء مدرسة أو مسجد أو صدقة في غير ذلك من الأعمال الخيرية.
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(2) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3807) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .
(3) سورة الإنسان الآية 7
(4) سورة البقرة الآية 270(23/177)
108 - حكم من لم يستطع
الوفاء بالنذر لكبر ونحوه
س: لي قريبة تزوجت برجل لا تحبه وكانت مغصوبة، ثم نذرت إن طلقها أن تصوم شهرين متتابعين، ثم طلقها، فماذا تعمل، وإذا كانت لا تستطيع الصوم؟ (1)
ج: يبقى هذا الصيام في ذمتها حتى تستطيع، يقول النبي - عليه الصلاة والسلام -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه (2) » فإذا استطاعت تصوم، وإلا يبقى في ذمتها دينا، فإذا عجزت، كأن كبرت في سنها أو عجزت ذاك الوقت عليها أن تطعم عن كل يوم مسكينا كما هو الحكم لمن لم يستطع صيام شهر رمضان، أو أيام منه بسبب العجز لكبر السن، أو المرض المزمن الذي لا يرجى برؤه.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407هـ شريط رقم 10.
(2) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3807) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .(23/178)
109 - حكم الوفاء بالنذر في غير المحل الذي صرح به الناذر
س: نذرت إن أخرج الله تعالى الروس الشيوعين من بلاد أفغانستان المسلمة أن أبني لله مسجدا فيها، وقد تم انسحابهم منها بفضل الله تعالى، ولكنى لا أستطيع في الوقت الحاضر أن أوفي بنذري، والسبب كثرة المشاكل، وأحداث الفتنة، والقتال القائم هناك منذ توقف الحرب إلى الآن. والمطلوب يا شيخ هل يجوز تبديل المكان لبناء المسجد في محل آخر من بلاد المسلمين، أو أنتظر حتى يهدأ الوضع في أفغانستان وأوفي بنذري في محله؟ وجزاكم الله خيرا (1) .
ج: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: يلزمك الوفاء بالنذر في محله إذا استطعت لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (3) »
__________
(1) سؤال أجاب عنه سماحته بتاريخ 28 \ 2 \ 1417هـ.
(2) سورة التغابن الآية 16
(3) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3807) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .(23/179)
رواه مسلم في صحيحه. يسر الله أمرك وأبرأ ذمتك إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(23/180)
110 - ما حكم من نذر أن يحج فمات قبل أن يحج
س: من نذر على نفسه الحج ومات وليس وراءه تركة. هل يكون القضاء استحبابا أو وجوبا؟ (1)
ج: إن تيسر من بعض الورثة أو غيرهم أن يحج عنه، فذلك مستحب، وفاعله مأجور، وإلا فليس عليه شيء لقول الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) مثل الدين إذا قضوا عنه فقد أحسنوا وإلا فلا حرج، إذا لم يخلف تركة.
__________
(1) أجاب عنه سماحته من ضمن أسئلة شرح كتاب بلوغ المرام في (كتاب الحج) .
(2) سورة التغابن الآية 16(23/180)
111 - هل يلزم النائب عمن نذر الحج الإحرام من ميقات الناذر
س: إذا كان النائب من نذر الحج في بلد آخر غير بلد الناذر أقرب من بلد الناذر نفسه. هل يلزمه أن يأتي بالحج من بلد الناذر؟ (1)
ج: لا يلزمه ذلك، بل يكفيه الإحرام من الميقات، ولو كان في مكة فأحرم منها بالحج كفى ذلك، لأن مكة ميقات أهلها للحج.
__________
(1) أجاب عنه سماحته من ضمن أسئلة شرح كتاب بلوغ المرام في (كتاب الحج) .(23/181)
112 - ليس في أداء الواجب نذر
س: امرأة أصابها مرض فقالت: صدقة لوجه الله إن عافاني فلن أترك الصلاة فشفيت، ولم تحقق ما قالت، ولا تدري صدقة لوجه الله ما معناها؟ هل هو قسم أو نذر، وبعد مدة تابت وتسأل ما كفارة ذلك؟ (1)
ج: ما دامت تابت فالحمد لله؛ لأن الصلاة فرض عليها، وإن لم تنذر وهي عمود الإسلام، وتركها كفر، لقول النبي صلى
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.(23/181)
الله عليه وسلم: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة (1) » ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (2) » والنذر يزيد المقام تأكيدا، فإذا كانت تركت الصلاة ثم تابت فالتوبة تجب ما قبلها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «التوبة تجب ما قبلها» فعليها أن تستقيم، وأن تستمر على طاعة الله، وأن تحافظ على الصلاة التي أوجبها الله عليها، وأن تحذر نزغات الشيطان، وجلساء السوء، ونسأل الله لنا ولها الثبات على الحق، وليس عليها قضاء ما فات؛ لأن ترك الصلاة كفر، وليس على الكافر إذا أسلم قضاء ما فات لقول الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (3) الآية، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإسلام يجب ما قبله (4) » أخرجه مسلم في صحيحه.
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم 2541 كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة.
(2) أخرجه الترمذي برقم 2545 كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، وابن ماجه برقم 1069 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب ما جاء فيمن ترك الصلاة.
(3) سورة الأنفال الآية 38
(4) صحيح مسلم الإيمان (121) ، مسند أحمد بن حنبل (4/204) .(23/182)
113 - حكم قول إذا نجحت في الامتحان سوف أحفظ القرآن
س: منذ (15) سنة نذرت لوجه الله أن أحفظ القرآن الكريم كاملا والصيغة التي نذرت بها هي: كالتالي " إذا نجحت في الامتحان سوف أحفظ القرآن كله " ولقد نجحت ومنذ تلك الفترة إلى الآن وأنا أحاول أن أحفظه وأجتهد في ذلك، والسؤال: إذا لم أتمكن من حفظ كتاب الله. . هل علي كفارة، وأي شيء أعمله حتى أفي بنذري؟ (1)
ج: إذا كان الواقع منك هو ما ذكرته في السؤال فليس ذلك نذرا، وإنما هو عزم ووعد فيشرع لك أن تجتهد في حفظ القرآن، وليس عليك كفارة، يسر الله أمرك وأمر كل مسلم.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1537 في 23 \ 11 \ 1416 هـ.(23/183)
114 - النذر حسب النية
س: أعمل مدرسا للقرآن الكريم في إحدى الجمعيات، وفي شهر رمضان صليت بالجماعة وقلت في نفسي: إن جاءني شيء من المال في هذا الشهر الكريم من أهل الخير فهو صدقة للأيتام، ولكن جاءني مبلغ 600 ريال ولم أدفعه للأيتام حسب ما نذرت لاحتياجي لهذا المبلغ. فهل علي شيء؟ (1)
ج: إن كان ذلك وقع منك حديث نفس من غير نذر، فلا حرج عليك، أما إن كنت نذرت لله الصدقة بما جاءك للأيتام فعليك الوفاء بذلك، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (2) » والله الموفق.
__________
(1) سؤال مقدم من (جريدة المسلمون) أجاب عنه سماحته بتاريخ 12 \ 6 \ 1419 هـ.
(2) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3807) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .(23/184)
كتاب القضاء(23/185)
صفحة فارغة(23/186)
115 - من رحمة الله وإحسانه أن وفق حكام هذه البلاد من عهد الإمام محمد بن سعود إلى عهد خادم الحرمين إلى تحكيم شريعة الله وهذا من نعم الله
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين (1) .
أما بعد فإني أشكر الله عز وجل على ما من به علينا من هذا اللقاء لإخوة في الله، وهم أصحاب الفضيلة رؤساء المحاكم الشرعية في المملكة العربية السعودية، أسأل الله جل وعلا أن يجعله لقاء مباركا وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يوفقنا جميعا لما يرضيه وأن يعيذنا جميعا من أسباب غضبه وأليم عقابه وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، ثم أشكر الأخ الكريم صاحب الفضيلة الدكتور عبد الله بن محمد آل الشيخ على جمع إخوانه ودعوتهم
__________
(1) كلمة لسماحته في ندوة رؤساء المحاكم بالمملكة، ونشرت في جريدة الجزيرة بتاريخ 7\11\1417 هـ.(23/187)
لهذه الندوة رؤساء المحاكم، وأسأل الله أن يجعله مباركا وأن يعينه على كل خير وأن يغفر لوالده وأن يجعلنا وإياه في دار الكرامة.
أيها العلماء: إن من أعظم نعم الله على هذه الدولة وعلى هذه البلاد أن وفق حكامها لتحكيم الشريعة من أول ما قامت الدعوة الإسلامية على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وعلى يد الإمام محمد بن سعود رحمة الله عليه.
وإن من نعم الله العظيمة أن وفق الله هذين الإمامين لتحكيم شريعة الله والدعوة إلى سبيله والعناية بتوجيه الناس لتوحيد الله وبالإخلاص له ومحاربة الشرك ووسائله وذرائعه وتحكيم شريعة الله بين الناس في مدن هذه المملكة وقراها.. هذا من أعظم نعم الله العظيمة أن جمع الإمامان وأتباعهما وأنصارهما بين الدعوة إلى الله وإرشاد الناس إلى توحيد الله، وتعليمهم ما أوجب الله عليهم وتحذيرهم مما حرم الله عليهم من الشرك ووسائله وذرائعه، مع الحكم بينهم بما أنزل الله فيما يتنازعون فيه وفيما يقع بينهم من المسائل التي تشتبه عليهم، وهذه من نعم الله العظيمة سابقا ولاحقا، ثم تتابع ملوك هذه الدولة وحكامها على هذا الأمر العظيم والسبيل القويم في تحكيم شريعة الله والدعوة إلى(23/188)
سبيل الله، وإرشاد الناس إلى توحيد الله وطاعته وتحذيرهم من الشرك بالله ومعصيته والحكم بينهم بشرع الله، كما قال جل وعلا في كتابه العظيم: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (1)
وقال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (2) وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (3)
وقال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (4) ويقول سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (5)
ويقول جل وعلا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (6)
__________
(1) سورة المائدة الآية 49
(2) سورة النساء الآية 58
(3) سورة المائدة الآية 8
(4) سورة النساء الآية 65
(5) سورة المائدة الآية 50
(6) سورة المائدة الآية 44(23/189)
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2)
فالحكم بما أنزل الله أهم الفرائض ومن أعظم الواجب ولا سبيل إلى استقامة العباد على طاعة الله وتوحيده ولا سبيل إلى توحيدهم لله وقيامهم بحقه ولا سبيل إلى إنصاف مظلومهم وظالمهم إلا بالله ثم بحكم الشرع. . بتحكيم القرآن والسنة، على الصغير والكبير وعلى الخاص والعام في جميع الأمور.
ومن رحمة الله وإحسانه أن وفق حكام هذه البلاد من عهد الإمام محمد إلى يومنا هذا إلى حكم خادم الحرمين الشريفين فهد بن عبد العزيز إلى تحكيم شريعة الله وإلزام الناس بذلك وافتتاح المحاكم الشرعية وتعين القضاة والرؤساء كل هذا من نعم الله العظيمة ونسأل الله أن يديم هذه النعمة وأن يوفق المسئولين جميعا لما يرضيه وأن يعين رؤساء المحاكم والقضاة جميعا، نسأل الله أن
__________
(1) سورة المائدة الآية 45
(2) سورة المائدة الآية 47(23/190)
يعينهم على تحكيم شريعة الله والحكم بها، وأن يوفقهم للعلم النافع والعمل الصالح وأن يجعلنا وإياهم هداة مهتدين وصالحين ومصلحين حاكمين بشرع الله متواصين بذلك متعاونين عليه.
أيها الإخوة في الله لا يخفى على الجميع شدة الضرورة إلى الحكم بشريعة الله وأن هذا من أهم الواجبات على الدولة وعلى جميع المسلمين وعلى العلماء بوجه أخص لأن الضرورة ماسة إلى ذلك والواجب يقضي بذلك فالواجب على رؤساء المحاكم وعلى القضاة جميعا أن يتقوا الله وأن يستعينوا بالله في حل مشاكل المسلمين على كتاب الله وسنة رسوله والتواصي بهذا والتعاون في هذا، والواجب على القاضي وعلى رئيس المحكمة أن يتقي الله في كل شيء وأن يجتهد لمعرفة الحكم بدليله وينصح في ذلك وأن يغار أينما كان، وأن يجتهد في إيصال الحكم والحق إلى أهله على ضوء الدليل كما قال الله جل وعلا: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) وقال جل وعلا: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) ولا شك أن هذا الأمر يحتاج إلى عناية
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10(23/191)
وجهاد وبذل جهود كبيرة في معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها وفي إنصاف المظلوم من الظالم، وفي العناية بالخصمين والحكم بينهما بالعدل، والعناية بمعرفة ما لدى المدعي والمدعى عليه على وجه الطمأنينة والإنصاف، وتحري الحق وانشراح الصدر حتى يسمع الحاكم ما لدى هذا وما لدى هذا وحتى يحكم على بينة وعلى بصيرة، بينة شرعية أو باليمين المطلوب من المدعي ومن المدعى عليه، أو بالدلائل الأخرى التي تعين على معرفة الحق والحكم به بين الناس عند فقد البينة، المقصود أن الواجب على الحكام رؤساء وقضاة، الواجب عليهم العناية بهذا الأمر والحرص على إنصاف المظلوم من الظالم، والحرص على معرفة الأدلة الشرعية والحكم بها بين الناس، والحرص على قمع المفسدين والقضاء على أسباب الفساد، في كل وسيلة يرضاها الله ويبينها رسوله عليه الصلاة والسلام؛ لأن الناس في أشد الحاجة إلى قمع المبطل ونصر الحق، ونصر المظلوم والقضاء على الظالم ولا سيما في هذا العصر، الذي اشتدت فيه غربة الإسلام وكثر فيه دعاة الباطل، وانتشرت فيه أنواع الإفساد في غالب المعمورة، واختلط الحابل بالنابل والظالم بالمظلوم، والمفسد بالمصلح والجاهل بالعالم.(23/192)
فإن هذا العصر شديد الغربة شديد الاختلاط شديد البلاء إلا من عصم الله ووفقه، وإلا فإن الخطر عظيم، فالواجب على الدعاة إلى الله عز وجل وعلى القضاة، وعلى الرؤساء ورؤساء المحاكم العناية العظيمة لمعرفة الحق بدليله، وإيصال الحق إلى أهله وردع الظالم عن ظلمه وإعانة كل صاحب حق على الحصول على حقه حسب طاقته والإمكان؛ يرجو ما عند الله ويخاف عقابه سبحانه وتعالى والواجب على المسئولين في الدولة العناية بتنفيذ الأحكام الشرعية، والتعاون مع القضاة في كل ما ينفع الناس ويصلحهم، وينفذ فيهم أحكام الله، وأن ذلك هو الطريق إلى أمن البلاد وإلى إنصاف المظلومين وإلى السلامة من كل شر، وهو أيضا السبيل إلى نصر الله لعباده وتأييده لهم ورعايته لهم من شر الأعداء وخصوم الإسلام، فنسأل الله أن يوفقنا وإياكم جميعا وجميع الدعاة إليه وجميع العلماء في كل مكان نسأل الله أن يوفق الجميع لمعرفة الحق واتباعه، كما أسأله سبحانه أن يمنحنا جميعا الفقه في ديننا والثبات عليه وأن يجعلنا جميعا من أنصار دينه والدعاة إليه على بصيرة وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. كما أسأله سبحانه أن يوفق جميع المسلمين في كل مكان(23/193)
في الخير والحق والهدى وأن يمنحنا الفقه في الدين وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يوفق ولاة أمرنا وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين، نسأل الله أن يوفقهم جميعا لما يرضيه وأن يعينهم على كل خير، وأن ينصر بهم الحق وأن يصلح لهم البطانة، وأن يجعلنا وإياكم وإياهم من الهداة المهتدين، كما أسأله عز وجل أن يوفق جميع قضاتنا وجميع قضاة المسلمين وجميع رؤساء المحاكم نسأل الله أن يوفق الجميع إلى الحق واتباعه، والحكم بين الناس والصبر على ذلك والمصابرة، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه.(23/194)
116 - نصيحة لطلاب المعهد العالي للقضاء
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه (1) .
أما بعد: فإني أشكر الله عز وجل على هذا اللقاء بإخوتي في الله عز وجل وأبنائي الكرام، أسأله سبحانه أن يجعله لقاء مباركا وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا وأن يمنحنا الفقه في دينه والثبات عليه وأن يعيذنا وسائر المسلمين من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه سبحانه خير مسئول. ثم أشكر إخواني القائمين على هذا المعهد على دعوتهم لي لهذا اللقاء أسأل الله أن يبارك فيهم جميعا وأن يعينهم على مهمتهم وأن يجعلهم هداة مهتدين وصالحين مصلحين إنه جل وعلا سميع قريب.
أيها الإخوة في الله. . لا يخفى فضل العلم وأن الله سبحانه جعله من أوصاف الرسل والملائكة وخيرة الناس من عباد الله وبه
__________
(1) محاضرة ألقاها سماحة الشيخ على طلاب المعهد العالي للقضاء(23/195)
يعرف الله وبه يعبد سبحانه وبه تعلم أحكامه التي أنزل بها كتبه وأرسل بها رسله، كما لا يخفى أن العلماء هم ورثة الأنبياء وهم خلفاؤهم، ويكفي في فضلهم أنه سبحانه استشهد بهم مع ملائكته بوحدانيته فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) ومعلوم أن العلماء إذا أطلقوا في كتاب الله وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم فإنما هم العلماء في الله وبشريعة الله، وهم الذين أخذوا العلم عن كتابه وسنة رسوله وعما أوضحته الشريعة من القواعد المتبعة، هؤلاء هم العلماء عند الإطلاق في كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام وكلام علماء الشريعة، وهناك علماء آخرون في الطب والجغرافيا وغير ذلك من حاجة الناس، لهم فضلهم على حسب نياتهم ونفعهم للناس، لكن العلماء عند الإطلاق في كلام الله وكلام رسوله وعلماء الشريعة هم العلماء بكتابه وسنة رسوله، وهم الدعاة إليه، هم المحسنون إلى عباده بالتوجيه والإرشاد والتعليم، والقضاء بينهم فيما أشكل عليهم، فهم طبقات في علم الله وعملهم وفضلهم على حسب ما أعطاهم الله من العلم وعلى
__________
(1) سورة آل عمران الآية 18(23/196)
حسب نفعهم للعباد، فمنهم العلماء المعلمون للناس ومنهم الوعاظ والمذكرون والمرشدون والمنذرون، ومنهم القضاة الذين ينظرون في مشاكل الخلق ويحلونها. مما أعطاهم الله من علم الشريعة، فللعلماء فضلهم فهم ورثة الأنبياء وللقضاة مع ذلك فضل خاص لما يتولونه من النظر في مصالح العباد وحل المشاكل وردع الظالم وإنصاف المظلوم إلى غير هذا مما يتولاه القضاة، فلهم مع فضل العلم فضل النظر في مصالح المسلمين وفي مشاكل المسلمين وفي حل ما يعرض لهم من قضايا يجب النظر فيها لحل المشاكل وردع الظالم وإقامة الحق وأنتم أيها الإخوة طلاب هذا المعهد "المعهد العالي للقضاء" لكم مستقبل، نسأل الله أن يعينكم على ما فيه من تعب ومن جهاد فنسأل الله أن يمنحكم فيه الصبر والتوفيق لإصابة الحق وردع الظالم ونصر المظلوم وإقامة العدالة بين المسلمين.
ولا يخفى أيضا ما للقاضي من الفضل العظيم والخير الكثير والأجر المضاعف إذا أخلص النية وأصاب الحق فالقضاة في الحقيقة عليهم مسئوليات كبيرة، ولهم أجور عظيمة والعباد في أشد الضرورة إلى القضاة لحل المشاكل وإقامة الحق.. فأبشروا بالخير وأسسوا النية الصالحة وأعدوا كل ما تستطيعون لهذا الأمر العظيم(23/197)
من صبر وعلم ورحابة صدر وحرص على إقامة الحق وإنصاف المظلوم وردع الظلمة على ضوء حكم الله وما جاءت به شريعته المطهرة.
وقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر (1) » ، فهو على خير عظيم بين أجر وأجرين مع ما قد يحصل له من أجور أخرى في حرصه على معرفة الحق وطلبه ذلك وتفتيشه عن ذلك ومراجعة إخوانه وغير ذلك من الجهود التي يبذلها القاضي قبل الحكم، له فيها أجر عظيم وله فيها ثواب جزيل والله يزيده بها علما وهدى وتقوى على حسب نيته واجتهاده وإخلاصه له سبحانه وقصده الحق، فكم من فائدة وكم من أجر يحصل في سبيل التفتيش عن حكم الله في أي مسألة فيحصل له من أجر التفتيش عن ذلك وطلب ذلك أجور متنوعة مع ما يحصل له من الفوائد في تفتيشه، فقد يوفق للعثور على مسألة عظيمة هو في
__________
(1) أخرجه البخاري برقم 6805 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، ومسلم برقم 3240 كتاب الأقضية باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ(23/198)
حاجة إليها أعظم من الحاجة إلى التي يفتش عنها ويطلبها، فهو على خير عظيم في مذاكرته مع زملائه ومشايخه، وهو على خير عظيم في تفتيشه عن المسألة في بطون الكتب وعن التفتيش عنها في كتاب الله وفي أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، كل ذلك له فيه أجر عظيم على حسب نيته وصدقه وإخلاصه، يضاف إلى ذلك ما يحصل للمسلمين من الخير العظيم واستتباب الأمن ومحبة الشريعة والرضا بها إذا رأوا من القضاة الحرص العظيم على إنصاف المظلوم وردع الظالم والحرص على إصابة الحق ونشر العدالة ودفع الظالمين وإيقافهم عند حدودهم، يحصل للمسلمين بذلك من الطمأنينة والثبات على اتباع الحق ومحبه الإسلام والرضا به ما لا يقدر قدره إلا الله عز وجل.
ثم أمر آخر وهو أيضا ما يحصل للضعفاء والمنكوبين والمظلومين في حقوقهم، فيحصل لهم من الراحة والطمأنينة وانشراح الصدور في إنصافهم وإعطائهم حقوقهم واطمئنانهم إلى عدالة الشريعة وأنها تنصف المظلوم وتردع الظالم وأنها توقف المعتدي عند حده، وأن هناك رجالا من أبناء الإسلام ومن علماء المسلمين يبذلون جهودهم ووسعهم في هذا الأمر حتى يصل الأمر(23/199)
إلى مستحقه، وحتى يردع الظالم والمتعدي عن عدوانه وظلمه.
كل ذلك من فوائد القضاء ومن فوائد القضاة الذين يوفقون لإنصاف المظلوم ونصرة الحق على بصيرة وهدى، لكن هناك أمور أخرى فيها خطر على القاضي لا بد أن يحسب لها حسابها وهي التساهل. في بذل الأسباب في معرفة الحكم الشرعي، أو التساهل في عدم معرفة ما عند الخصمين أو عدم الصبر في سماع كلام هذا وكلام هذا، أو ما قد يقع من ميول إلى أحد الخصمين ومحبة كونه ينتصر على غيره إلى غير هذا من الأخطاء.
فعلى القاضي أن يحذر هذه الأمور وأن تكون على باله ليبتعد عن الخطر الذي قد يحصل له بسببها فيجب عليه أن يعطي القضية حقها من النظر والعناية حتى يطمئن إلى دليلها وإلى الحكم فيها، وعليه أيضا أن يصبر على الاستماع للخصمين فيما يتعلق في أمر الدعوى، وفيما يتعلق بظهور الحق، أما الجدال الذي لا خير فيه فليس من اللازم سماعه، لكن المقصود سماع ما عند المدعي والمدعى عليه من الحجج والبيان لدعوى هذا وجواب هذا حتى يكون على بينة كيف يحكم بعدما يسمع من هذا ومن هذا، مع إخلاصه لله، وعدم تحيزه إلى أحد الطرفين، وأن يكون في غاية من(23/200)
العدالة والبعد عن التحيز لأحد الطرفين بغير حق لا لقرابة ولا صداقة ولا وجاهة ولا غير ذلك، بل هدفه أن يصيب الحق وأن يوصله إلى أهله وأن يردع الظالم عن ظلمه بالحكمة والكلام الطيب والأسلوب الحسن.
والخطر الآخر هو أن يحكم على جهالة أو يجور في الحكم ومعلوم أن القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة. أما اللذان في النار فقد أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - صفتهما، وهما الذي يقضي على جهل أو يجور في الحكم، أما القاضي الذي في الجنة فهو الذي عرف الحق فقضى به. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من هذا الصنف، وأن يعيذنا من سوء النفس وسيئات الأعمال، وخلاصة الكلام: أن الواجب على القاضي أمور:
1 - بذل الوسع فيما يستحق بدليله وأن يصبر على ذلك وأن يسأل ربه التوفيق والإعانة وأن يخلص له في ذلك وأن يصبر حتى يطمئن.
2 - أن تكون أعماله وأقواله وسيرته على الوجه الشرعي أينما كان، في محل القضاء وفي الطريق وفي المسجد وفي بيته، يتحرى الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة التي يتخلق بها(23/201)
أهل العلم حتى يطمئن إلى علمه وإلى سيرته وأن يحذر صفات الجهلاء والسفهاء أو التقصير فيما أوجب الله، فإن القاضي إذا رؤي منه قصور مما يدل على تساهله بدينه وعدم عنايته بأمر الله نزل في أعين الناس واتهم في قضائه ولم تكن له منزلة كبيرة في قلوب الخصوم وأقربائهم وغيرهم من الناس.
3 - العناية بتفهم القضية تفهما كاملا، وعدم العجلة وعند أي إشكال ترفع القضية إلى وقت آخر حتى يحكم على بينة وبصيرة وقد سمع كلام هذا وكلام هذا واطمئن إلى الطريقة التي يحكم بها بينهما؛ لأنه قد عرف ما لديهما واطمئن إلى أنه استوفى ما يتعلق بالقضية من الطرفين.
4 - أن يضرع إلى الله عز وجل دائما في طلب التوفيق لإصابة الحق قبل الحكم وفي أي وقت كان حتى يكون بذلك قد بذل ما يستطيع من الأسباب المعنوية والحسية، القولية والعملية. فإن الله سبحانه يحب من عباده أن يسألوه ولا سيما أولياءه وخواص عباده من علماء الإسلام وقضاة الإسلام فإنه سبحانه وتعالى أسرع بالإجابة لهم من غيرهم لمنزلتهم عنده(23/202)
العظيمة وهو القائل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) ، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (2)
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يمنحنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا جميعا الفقه في الدين والثبات عليه وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
5 - أن القاضي عليه مسئولية كبيرة غير القضاء، فينبغي ألا يغفلها وألا ينساها، مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وتعليم الناس حسب طاقته، لا يغفل عن هذا فلا يقول هذا لغيري، نعم عنده القضاء لا شك بذلك لكن عنده أوقات أخرى يستطيع بها أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويدعو إلى الله ويدرس في بعض المساجد التي حوله وينفع الناس، والكلمة من القاضي لها مكانتها ولها أثرها العظيم لا فيما يتعلق في الدعوة، ولا فيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا فيما يتعلق بالتعليم والتوجيه، وينبغي أن تكون هذه الأمور الثلاثة على بال
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة البقرة الآية 186(23/203)
القاضي على حسب طاقته.
نسأل الله التوفيق والهداية وصلاح النية والعمل إنه جواد كريم وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن دعا بإحسان.(23/204)
الأسئلة
س 1: ما هي توجيهات فضيلتكم بالنسبة لاستعداد القاضي ومعرفته بكل ما يدور في محيط عمله من الأنظمة المعمول بها؟
ج: هذه أشياء لا شك أنها مهمة ولكن يحكمها شرع الله سبحانه وتعالى فإذا دعت الحاجة إلى شيء منها فالواجب أن يزنها بالميزان الشرعي فما وافق الحق قبله وما خالف الحق نبه عليه، ولا يستحي في ذلك ولا يتقاعس بل يبين الحق؛ لأن القاضي في أعلى المراتب - مراتب العلماء - ويصرح به للمسئولين حتى يعدل ذلك الخطأ وإن احتاج المقام إلى التشاور مع إخوانه وزملائه إذا كان هناك إشكال تشاور معهم، وكما هو معلوم، الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله.
ومن المهم أيضا معرفة اصطلاحات الناس وألفاظهم،(23/204)
ومعرفة أعرافهم حتى يستعين بها على فهم القضية، فهذا أمر مهم للقاضي ويعينه على حل كثير من المشاكل التي يدلى بها إليه.(23/205)
س 2: بعض مرتكبي الجرائم يقرون بها أثناء التحقيق مع الشرطة ثم يلوذون بالإنكار عند القاضي فما موقف القاضي وهل يعتبر هذا الإنكار أو ماذا يعمل؟
ج: هذه المسألة فيها تفصيل: إذا كان الإقرار يتعلق بحق المخلوقين فليس لهم رجوع، ولو زعموا أنهم أقروا لأجل كذا وكذا، يسأل من أقروا عنده هل قهرهم بالضرب، هل فعل بهم ما يكونون به مكرهين؟ وإلا فدعواهم نفسها وليس لهم الرجوع عن سرقة ولا عن تجن ولا عن أشياء تتعلق بحق المخلوقين، وأما الإقرار المتعلق بالحدود وبحق الله عز وجل فأمره لا يخفى على الجميع، الرجوع عن الإقرار المتعلق بحق الله عز وجل، الجمهور على أنه يقبل من باب درء الحدود بالشبهات.
والقول الثاني معروف عند أهل العلم المقصود أن لا يتعلق بحق المخلوقين لا يقبل منه الرجوع عنه إذا أقر به عند الشرطة أو في أي مكان، ويثبت عند القاضي إقراره، أو أقر هو أنه أقر بذلك فهو يؤخذ بالإقرار ما لم يثبت عند القاضي شيء يلغي ذلك من(23/205)
إكراه.(23/206)
س 3: ما يبذله بعض من يعينون في سلك القضاء من أجل التخلص من القضاء، لما يخشى من الوقوع فيه من عدم تأدية العمل على الوجه المطلوب وعدم الوصول إلى الحق فيه؟
ج: هذه المسألة على كل حال ينظر فيها حسب كل حالة، ولكن الوصية بهذا أن من عرف أن عنده الأهلية في القضاء فعليه الإجابة؛ لأن الوقت الآن شديد من جهة الحاجة إلى أهل العلم في القضاء، وليس كل أحد يصلح للقضاء، والصالحون لهذا من أهل العلم قليلون، فإذا تعذر هذا وتعذر هذا تعطل هذا الأمر وتعطل هذا الواجب، وصرح أهل العلم أنه إذا توافرت فيه الشروط ودعت الحاجة إليه وجب إلزامه بذلك.(23/206)
س 4: بماذا تنصح أبناءك الملازمين في فترة الملازمة خاصة وأنهم الآن مشغولون في دراسة المواد المنهجية؟
ج: أنصحهم بالإقبال على دراسة هذه المناهج حتى يهضموها وحتى يتبصروا فيها، لأنهم بهذا دخلوا هذا المعهد وصمموا على دراسة ما وجه إليهم فيه، فأوصيهم بالعناية بمواد المنهج التي وكلت إليهم ليدرسوها حتى يختموها جيدا وحتى(23/206)
يفهموها جيدا، وحتى يتذاكروا فيما قد يشكل منها فيما بينهم أو مع أساتذتهم؛ حتى لا تكون هناك شبهة، وإذا كانت عندهم فرصة بذلوا ما يستطيعون من المطالعة والمذاكرة والرجوع إلى أهل العلم وكتب الحديث وكتب التفسير؛ ليزدادوا علما في هذه الفرصة التي يجدون فيها أوقاتا للمطالعة والمراجعة، ثم المذاكرة بما قد يشكل أيضا؛ ليزداد المؤمن علما مع دراسته. المقصود حفظ الوقت ليلا ونهارا من العناية بالمواد الدراسية. والمواد المتعلقة بالقضاء أو بغير القضاء من مسائل الطلاق والنكاح وغيرها مما هو في حاجة ليخدمها ويعرفها.(23/207)
س 5: رجل ولي القضاء وهو قليل العلم هل يتهرب منه أم يلتزم به؟
ج: إذا كان يعلم من نفسه العجز عن القضاء، فالواجب عليه أن يستقيل أو يعتذر ولا يورط نفسه فيما يضره، وهو أعلم بنفسه إذا كان يعلم من نفسه قلة العلم، وأنه لا يحسن أن يقضي بين الناس ليست أوهاما ولا ظنونا ولكنه شيء يفهمه ويعقله جيدا، هذا يلزمه أن يستقيل أو يعتذر، لئلا يقع في مهالك تضره وتضر غيره، لكن أخشى ما أخشاه أن يكون ذلك أوهاما أو(23/207)
وساوس وتثبيطا من الشيطان، هذا هو الذي ينبغي الحذر منه.(23/208)
س 6: ما يسلكه القاضي في عمله هل يلتزم الشدة أم ماذا يعمل؟
ج: القاضي يجب أن يكون حكيما يستعمل اللين في محله والشدة في محلها، ويكون الغالب عليه الرفق وحسن الخلق وعدم الشدة، إلا عند الحاجة قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (1) فالظالمون ينتقل معهم من التي هي أحسن إلى الأشد، والقاعدة قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (2) وكما قال سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (3) فيجادلهم بالتي هي أحسن، إلا إن رأى من الخصم المجادل بعدا عن الحق ومغالطة، فلا مانع من زجره حينئذ بالقوة، وأن يحذره من مغبة عمله السيئ، وقد تكون الحاجة إلى ما هو أكبر من ذلك من سجن أو تأديب، أما ما دامت المسائل تعرض بالأسلوب الحسن والكلام الطيب والنصيحة فهذا هو المقدم.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 46
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) سورة البقرة الآية 83(23/208)
س7: ما صحة ما ورد من أن «من تولى القضاء فقد ذبح بغير سكين (1) » ؟
ج: هذا حديث لا بأس به جيد ومعروف رواه أحمد (2) . وأهل السنن. لكن ما يمنع من القضاء، وإنما هو تحذير للعناية بالقضاء والحرص على السلامة من توابعه وأخطاره، فالذبح بغير سكين شيء يؤذي الحيوان ويؤخر في موته، فالقاضي قد يتأذى بالقضاء ويتعب فيه، ولكن مع الصبر والجد يزول هذا، إنما يتعب ويكون كالمذبوح بغير سكين إذا ضل علمه أو تنكر الطريق السوي أو غفل عن الاستعانة بالله.
ولا يخفى عليكم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو إمام القضاة، وهو إمام العلماء، وهو قدوة القضاة، وهو القاضي، وهو المعلم - صلى الله عليه وسلم - فهو قاض وداع وآمر بالمعروف، كلها مجتمعة فيه عليه السلام، فالقضاة والدعاة والعلماء يتأسون به
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1325) ، سنن أبو داود الأقضية (3572) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2308) ، مسند أحمد بن حنبل (2/230) .
(2) أخرجه أحمد برقم 8422، باقي مسند المكثرين(23/209)
في صبره وحلمه، وقد يغضب بعض الأحيان عليه الصلاة والسلام، وهو سيد الأمة وإمامهم وسيد المتواضعين، ولكن قد يلجئه الخصوم إلى الغضب.
لكن القاضي يتأسى بنبيه عليه السلام بالصبر وتعاطي أسباب الصبر؛ لعله يوفق لذلك، وكل أحد لا بد أن يحصل له شيء من التعب، ولكن كلما كان القاضي أعلم وأصبر وأحلم وأكثر دعاء لله لطلب التوفيق والهداية كانت مشاكله أقل.(23/210)
س 8: أشرتم في أول الكلام - حفظكم الله - إلى أن القاضي ينبغي له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فهل يأثم لو ترك ذلك؟
ج: مثل غيره يأثم وقد يكون أشد من غيره، لأن كلمته مسموعة أعظم من كلمة غيره.(23/210)
س9: هل ورد أن القضاة يحشرون مع السلاطين والعلماء مع الأنبياء؟
ج: لا أعلم هذا. ما عندي علم بهذا الحديث.(23/210)
س 10: أرجو توجيه كلمة بالتزام الدوام والمواعيد للقضاة والموظفين.(23/210)
ج: نعم هذا مهم جدا وأوصي الجميع بالالتزام بالمواعيد وأوقات الدوام لا من الطلبة ولا من الموظفين، أوصي الجميع بذلك وأن يعتنوا بهذا الأمر؛ لأن الله جل وعلا أوجب علينا طاعة ولاة الأمر بالمعروف وهذا من المعروف الذي فيه مصالحنا جميعا مصلحة الموظف، الطالب، المسلمين، فأنا أوصي الجميع بهذا المعهد وبغيره بلزوم المواظبة على الدوام والأوقات المطلوبة والعمل المطلوب، ورزق الله الجميع التوفيق والإعانة على ذلك.
أسأل الله أن يوفق الجميع وأن يعيذ الجميع من نزغات الشيطان، وأن يختم لنا ولكم بالتوفيق فيما به نفع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.(23/211)
117 -
الجمع بين حديثين
متعلقين بالقضاء والاجتهاد
س: كيف نوفق بين الحديثين التاليين: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار (1) » . رواه أبو داود. وحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعناه المجتهد إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد. وفقوا بين الحديثين؟ (2)
ج: ليس بينهما بحمد الله تعارض، بل المعنى واضح، فالحديث الأول فيمن قضى للناس على جهل ليس عنده علم لشرع الله يقضي به بين الناس فهو متوعد بالنار؛ لقوله على الله بغير علم، وهكذا الذي يعلم الحق ولكن يجور من أجل الهوى لمحبته لشخص أو لرشوة أو ما أشبه ذلك فيجور في الحكم فهذان
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم 3102 كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ
(2) سؤال أجاب عنه سماحته في تاريخ 28\5\1412 هـ(23/212)
في النار، لأن الأول ليس عنده علم يقضي به فهو جاهل فليس له القضاء، أما الثاني: فقد تعمد الجور والظلم فهو في النار. أما الأول: فقد عرف الحق وقضى به فهو في الجنة.
أما حديث الاجتهاد الذي رواه عمرو بن العاص رضي الله عنه وما جاء في معناه وهو في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر (1) » فهذا في العالم الذي يعرف الأحكام الشرعية وليس بجاهل ولكن قد تخفى عليه بعض الأمور وتشتبه عليه بعض الأشياء فيجتهد ويتحرى الحق وينظر في الأدلة الشرعية من القرآن والسنة ويتحرى الحكم الشرعي لكنه لم يصبه فهذا له أجر الاجتهاد ويفوته أجر الصواب وخطؤه مغفور؛ لأنه عالم عارف بالقضاء ولكن في بعض المسائل قد يغلط بعد الاجتهاد والتحري والنية الصالحة فهذا يعطى أجر الاجتهاد ويفوته أجر الصواب.
الثاني اجتهد: طلب الحق واعتنى بالأدلة الشرعية وليس له قصد سيئ بل هو مجتهد طالب للحق فوفق له واهتدى إليه وحكم بالحق فهذا له أجران أجر الإصابة وأجر الاجتهاد.
وبهذا يعلم أنه ليس بين الحديثين تعارض والحمد لله.
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7352) ، صحيح مسلم الأقضية (1716) ، سنن الترمذي الأحكام (1326) ، سنن أبو داود الأقضية (3574) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2314) ، مسند أحمد بن حنبل (4/198) .(23/213)
118 - حكم المضطر
للتحاكم إلى القوانين الوضعية
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم هـ. ع. م. سلمه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد (1) :
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 2151 وتاريخ 6\6\1407 هـ الذي تسأل فيه عن حكم المتحاكم إلى من يحكم بالقوانين الوضعية إذا كانت المحاكم في بلده كلها تحكم بالقوانين الوضعية ولا يستطيع الوصول إلى حقه إلا إذا تحاكم إليها هل يكون كافرا.
وأفيدك بأنه إذا اضطر إلى ذلك لا يكون كافرا ولكن ليس له أن يتحاكم إليهم إلا عند الضرورة إذا لم يتيسر له الحصول على حقه إلا بذلك وليس له أن يأخذ خلاف ما يحله الشرع المطهر.
وفق الله الجميع لما فيه رضاه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) أجاب عنه سماحته برقم 21635\2 وتاريخ 1\8\1407 هـ.(23/214)
119 - طلب القضاء والمناصب
الدينية لأجل مصالح المسلمين
س: ينفر كثير من طلبة العلم من المناصب الدينية.. فما هو السبب؟ وهل من نصيحة للحضور؟ كما يلاحظ أن كثيرا من الطلبة في كليات الشريعة، يبحث بشتى الطرق للتخلص من القضاء، فما نصيحة فضيلتكم لهم؟ (1) .
ج: المناصب الدينية من القضاء والتعليم والفتوى والخطابة، مناصب شريفة ومهمة، والمسلمون في أشد الحاجة إليها، وإذا تخلى عنها العلماء تولاها الجهال، فضلوا وأضلوا.
فالواجب على من دعت الحاجة إليه من أهل العلم والفقه في الدين، أن يمتثل؛ لأن هذه الأمور من القضاء والتدريس والخطابة والدعوة إلى الله، وأشباه ذلك من فروض الكفايات، فإذا تعينت على أحد من المؤهلين، وجبت عليه، ولم يجز له الاعتذار منها، والامتناع.
ثم لو قدر أن هناك من يظهر أنه يكفي، وأنها لا تجب عليه
__________
(1) نشر في مجلة البحوث الإسلامية، العدد 47 عام 1417 هـ(23/215)
هذه المسألة، فينبغي له أن ينظر الأصلح، كما ذكر الله سبحانه عن يوسف عليه الصلاة والسلام، أنه قال لملك مصر: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (1) لما رأى المصلحة في توليه ذلك، طلب الولاية وهو نبي ورسول كريم، والأنبياء هم أفضل الناس، طلبها للإصلاح: يصلح أهل مصر، ويدعوهم إلى الحق.
فطالب العلم، إذا رأى المصلحة في ذلك، طلب الوظيفة ورضي بها: قضائية أو تدريسا، أو وزارة أو غير ذلك. على أن يكون قصده الإصلاح والخير، وليس قصده الدنيا، وإنما يقصد وجه الله، وحسن المآب في الآخرة، وأن ينفع الناس، في دينهم أولا، ثم في دنياهم، ولا يرضى أن يتولى المناصب الجهال، والفساق، فإذا دعي إلى منصب صالح يرى نفسه أهلا له، وأن فيه قوة عليه، فليجب إلى ذلك، وليحسن النية، وليبذل وسعه في ذلك، ولا يقل أخشى كذا، وأخشى كذا.
ومع النية الصالحة، والصدق في العمل، يوفق العبد، ويعان على ذلك، إذا أصلح لله نيته، وبذل وسعه في الخير، وفقه الله.
ومن هذا الباب حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي، أنه
__________
(1) سورة يوسف الآية 55(23/216)
قال: «يا رسول الله اجعلني إمام قومي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنا، لا يأخذ على أذانه أجرا (1) » . رواه الإمام أحمد (2) . وأهل السنن، بإسناد صحيح.
فطلب رضي الله عنه إمامة قومه للمصلحة الشرعية، ولتوجيههم للخير، وتعليمهم وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، مثلما فعل يوسف عليه الصلاة والسلام.
قال العلماء: إنما نهي عن طلب الإمرة والولاية، إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك، لأنه خطر، كما جاء في الحديث: النهي عن ذلك، لكن متى دعت الحاجة والمصلحة الشرعية إلى طلبها جاز ذلك، لقصة يوسف عيه الصلاة والسلام، وحديث عثمان رضي الله عنه المذكور.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/21) .
(2) أخرجه أحمد برقم 15676، أول مسند المدنيين.(23/217)
120 - وجوب العدل بين العامل المسلم وغيره
س: يوجد لدي عاملان أحدهما مسلم والثاني كافر، وهما متكافئان في العمل، ومطلوب مني أن أقوم عملهما، فهل يجوز أن أغمط الكافر حقه بسبب دينه؟ (1) .
ج: الواجب العدل بينهما، ولكن يجب إبعاد الكافر ولو كان أنشط؛ لأن المسلم أبرك، ولو كان أقل كفاءة، فما بالك إذا كان مساويا له. وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه أوصى بإخراج الكفار من هذه الجزيرة وأن لا يبقى فيها دينان (2) » والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة البحوث العلمية - العدد 27 - ص 83، وفي هذا المجموع ج 4 ص 380
(2) أخرجه مسلم برقم 3313، كتاب الجهاد والسير، باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب(23/218)
121 - حكم إعطاء من يمانع
من أداء العمل المنوط به إلا بالمقابل
س: لدينا مصدر للمياه من فاعل خير جعله بالمجان لكن السواق - قائد المركبة - الوايت يماطل جدا حتى يعطى عشرة ريالات بل في بعض الأحيان لا يمكن أن يوصل الماء إلى بعض البيوت ويقول: هذا مقابل أتعاب وجهد وبعد ومشقة. فهل يجوز إعطاؤه تلك العشرة الريالات في سبيل الحصول على تلك الخدمة وهي وايت الماء أفتونا مأجورين؟ علما بأن المتعهد لديه خلفية عن ذلك غالبا؟ (1)
ج: لا يجوز إعطاؤه شيئا من النقود لأن في ذلك إعانة له على الخيانة وحرمان العاجزين عن الدفع بل يجب أن يرفع أمره إلى صاحب الماء حتى يبدله بغيره أو إلى ولي الأمر بالبلد أو المحكمة حتى يعاقب بما يستحق، ويعين من يقوم مقامه بالعمل المذكور.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من المجلة العربية(23/219)
122 - تحريم ذهاب
المرأة للمحكمة مع رجل أجنبي
س: امرأة لها محل عمل وبسبب ما طلبت للقضاء فحضر رجل الشرطة لكي يذهب بها للقضاء، فلو ذهبت قد تتعرض للرجال علما بأن القضاء في هذه البلاد لا يقوم على القوانين الشرعية فقام أبوها بإعطاء مبلغ بسيط لكي يصرفه وبعد ذلك يأتي بها ابنها فهل عليه إثم حيث إن الذي فعله منع الأم من التعرض للرجال؟ (1)
ج: لا حرج إذا منعها بأي حيلة وذهب أبوها أو ابنها بها ليكون معها فهذا أسلم من أن تذهب مع الشرطي وهذا طيب.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1418 هـ الشريط السادس(23/220)
123 - حكم حرفة المحاماة
س: ما حكم الشريعة الإسلامية في حرفة المحاماة؟ وما رأي سماحتكم فيما ذهب إليه الإمام العلامة أبو الأعلى المودودي رحمه الله بخصوص هذه الحرفة في آخر كتابه القانون الإسلامي وطرق تنفيذه؟ أفيدونا أفادكم الله (1) .
ج: لا أعلم حرجا في المحاماة، لأنها وكالة في الدعوى والإجابة إذا تحرى المحامي الحق، ولم يتعمد الكذب كسائر الوكلاء.
أما كلام الشيخ أبي الأعلى المودودي رحمه الله المشار إليه فلم أطلع عليه.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، جمع محمد المسند ج 3 ص 505(23/221)
124 - شروط العمل في المحاماة
س: العمل بالمحاماة قد يعرض الإنسان لمناصرة الشر والدفاع عنه، لأن المحامي يريد البراءة مثلا للمذنب الذي يدافع عنه، فهل مكسب المحامي من ذلك حرام؟ وهل هناك شروط إسلامية لعمل الإنسان محاميا؟ (1)
ج: المحاماة مفاعلة من الحماية، والحماية إن كانت حماية شر ودفاع عنه فلا شك أنها محرمة، لأنها وقوع فيما نهى الله عنه في قوله: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) وإن كانت المحاماة لحماية الخير والذب عنه فإنها حماية محمودة مأمور بها في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (3)
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية، جمع محمد المسند ج 3 ص 505
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة المائدة الآية 2(23/222)
125 - التحذير من دفع الرشوة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه أو يسمعه من إخواني المسلمين سلك الله بي وبهم صراطه المستقيم، ووقاني وإياهم عذاب الجحيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فإن مما حرمه الإسلام، وغلظ في تحريمه: الرشوة، وهي دفع المال في مقابل قضاء مصلحة يجب على المسئول عنها قضاؤها بدونه، ويشتد التحريم إن كان الغرض من دفع هذا المال إبطال حق أو إحقاق باطل أو ظلما لأحد.
وقد ذكر ابن عابدين رحمه الله في حاشيته: (أن الرشوة هي: ما يعطيه الشخص لحاكم أو غيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد) ، وواضح من هذا التعريف أن الرشوة أعم من أن تكون مالا أو منفعة يمكنه منها، أو يقضيها له. والمراد بالحاكم: القاضي، وغيره: كل من يرجى عنده قضاء مصلحة(23/223)
الراشي، سواء كان من ولاة الدولة وموظفيها أو القائمين بأعمال خاصة كوكلاء التجار والشركات وأصحاب العقارات ونحوهم، والمراد بالحكم للراشي، وحمل المرتشي على ما يريده الراشي: تحقيق رغبة الراشي ومقصده، سواء كان ذلك حقا أو باطلا.
والرشوة - أيها الإخوة في الله - من كبائر الذنوب التي حرمها الله على عباده، ولعن رسوله صلى الله عليه وسلم من فعلها، فالواجب اجتنابها والحذر منها، وتحذير الناس من تعاطيها، لما فيها من الفساد العظيم، والإثم الكبير، والعواقب الوخيمة، وهي من الإثم والعدوان اللذين نهى الله سبحانه وتعالى عن التعاون عليهما في قوله عز من قائل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1)
وقد نهى الله عز وجل عن أكل أموال الناس بالباطل، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) . وقال سبحانه:
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة النساء الآية 29(23/224)
{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) والرشوة من أشد أنواع أكل الأموال بالباطل؛ لأنها دفع المال إلى الغير لقصد إحالته عن الحق.
وقد شمل التحريم في الرشوة أركانها الثلاثة، وهم: الراشي والمرتشي والرائش: وهو الوسيط بينهما، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما (2) » رواه أحمد والطبراني.
واللعن من الله هو: الطرد والإبعاد عن مظان رحمته، نعوذ بالله من ذلك، وهو لا يكون إلا في كبيرة، كما أن الرشوة من أنواع السحت المحرم بالقرآن والسنة، فقد ذم الله اليهود وشنع عليهم لأكلهم السحت في قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (3) كما قال تعالى عنهم: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} (4) {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (5)
وقد وردت أحاديث كثيرة في التحذير من هذا المحرم وبيان عاقبته
__________
(1) سورة البقرة الآية 188
(2) أخرجه أحمد برقم 21365، باقي مسند الأنصار.
(3) سورة المائدة الآية 42
(4) سورة النساء الآية 160
(5) سورة النساء الآية 161(23/225)
وبيان عاقبة مرتكبيه. منها:
ما رواه ابن جرير عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به " قيل: وما السحت؟ قال: " الرشوة في الحكم (1) »
وروي عن الإمام أحمد عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب (2) » وروى الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: السحت: الرشوة في الدين وقال أبو محمد موفق الدين ابن قدامة رحمه الله في المغني: قال الحسن وسعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (3) هو الرشوة وقال: إذا قبل القاضي الرشوة بلغت به الكفر؛ لأنه مستعد للحكم بغير ما أنزل الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (4)
وروي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين " فقال تعالى:
__________
(1) تفسير الطبري 6 \ 241.
(2) أخرجه أحمد برقم 17155، مسند الشاميين.
(3) سورة المائدة الآية 42
(4) سورة المائدة الآية 44(23/226)
وقال تعالى: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له (3) » .
فاتقوا الله أيها المسلمون، واحذروا سخطه، وتجنبوا أسباب غضبه فإنه جل وعلا غيور إذا انتهكت محارمه، وقد ورد في الحديث الصحيح «لا أحد أغير من الله (4) » . وجنبوا أنفسكم وأهليكم المال الحرام والأكل الحرام، نجاة بأنفسكم وأهليكم من النار التي جعلها الله أولى بكل لحم نبت من الحرام، كما أن المأكل الحرام سبب لحجب الدعاء وعدم الإجابة لما مر من حديث أبي هريرة عند مسلم، ولما رواه الطبراني عن ابن عباس، رضي الله عنهما قال: «تليت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم 1686 كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وترتيبها.
(2) سورة المؤمنون الآية 51 (1) {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}
(3) سورة البقرة الآية 172 (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}
(4) أخرجه البخاري برقم 48200 كتاب النكاح، باب الغيرة، ومسلم برقم 1499، كتاب الكسوف باب صلاة الكسوف.(23/227)
فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يقبل الله منه عملا أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به (2) » .
ذكر ذلك الحافظ ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم عن رواية الطبراني رحمه الله، فدل ذلك على أن عدم إطابة المطعم وحلية المأكل؛ مانع من استجابة الدعاء، حاجب عن رفعه إلى الله، وكفى بذلك وبالا وخسرانا على صاحبه نعوذ بالله من ذلك.
وقد دعاكم الله إلى وقاية أنفسكم وأهليكم من النار، والنجاة بها من عذاب الله وأليم عقابه، حيث قال سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (3) فاستجيبوا أيها المسلمون لنداء ربكم وأطيعوا أمره واجتنبوا نهيه، واحذروا
__________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط 6 \ 311.
(2) سورة البقرة الآية 168 (1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا}
(3) سورة التحريم الآية 6(23/228)
أسباب غضبه، تسعدوا في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (1) {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2)
والله المسئول أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ومن المتعاونين على البر والتقوى، الملتزمين بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويوفق ولاة أمرنا لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) سورة الأنفال الآية 24
(2) سورة الأنفال الآية 25(23/229)
126 - أثر الرشوة في المجتمع
س: كيف يكون حال المجتمع حين تنتشر فيه الرشوة؟ (1)
ج: لا شك أن المعاصي إذا ظهرت تسبب فرقة المجتمع وانقطاع أواصر المودة بين أفراده وتسبب الشحناء والعداوة وعدم التعاون على الخير ومن أقبح آثار الرشوة وغيرها من المعاصي في المجتمعات ظهور الرذائل وانتشارها واختفاء الفضائل وظلم بعض أفراد المجتمع فيما بينهم للبعض الآخر بسبب التعدي على الحقوق بالرشوة والسرقة والخيانة والغش في المعاملات وشهادة الزور ونحو ذلك من أنواع الظلم والعدوان، وكل هذه الأنواع من أقبح الجرائم.
ومن أسباب غضب الرب ومن أسباب الشحناء والعداوة بين المسلمين. ومن أسباب العقوبات العامة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (2) » رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه
__________
(1) نشر في (كتاب الدعوة) ص155
(2) أخرجه أحمد برقم (1) مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه.(23/230)
127 - من أضرار الرشوة
س: ما آثار الرشوة على إفساد مصالح المسلمين وسلوكهم وتعاملهم؟ (1)
ج: يتضح جواب هذا السؤال من جواب السؤال السابق ومن آثار الرشوة أيضا على مصالح المسلمين ظلم الضعفاء وهضم حقوقهم أو إضاعتها أو تأخر حصولها بغير حق بل من أجل الرشوة، ومن آثارها أيضا فساد أخلاق من يأخذها من قاض وموظف وغيرهما وانتصاره لهواه وهضم حق من لم يدفع الرشوة أو إضاعته بالكلية مع ضعف إيمان آخذها وتعرضه لغضب الله وشدة العقوبة في الدنيا والآخرة فإن الله سبحانه يمهل ولا يغفل وقد يعاجل الظالم بالعقوبة في الدنيا قبل الآخرة.. كما في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من ذنب أجدر عند الله من أن يعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم (2) » .
__________
(1) نشر في (كتاب الدعوة) ص 156
(2) أخرجه الترمذي برقم 2435 كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، وأبو داود برقم 256 كتاب الأدب باب في النهي عن البغي، وأحمد برقم 19480 أول مسند البصريين، باب حديث أبي بكرة(23/231)
ولا شك أن الرشوة وسائر أنواع الظلم من البغي الذي حرمه الله. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: (2) » .
__________
(1) أخرجه البخاري برقم 4318 كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة) ، ومسلم برقم 4685 كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم
(2) سورة هود الآية 102 (1) {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}(23/232)
128 - ما حكم الشرع في الرشوة
س: ما حكم الشرع في الرشوة؟ (1) .
ج: الرشوة حرام بالنص والإجماع، وهي ما يبذل للحاكم وغيره ليميل عن الحق ويحكم لصاحبها بما يوافق هواه، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لعن الراشي والمرتشي وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه لعن الرائش أيضا وهو الواسطة
__________
(1) نشر في (كتاب الدعوة) ص 156، وفي جريدة الرياض العدد (10917) بتاريخ 19\1\1419 هـ(23/232)
بينهما ولا شك أنه آثم ومستحق للذم والعيب والعقوبة لكونه معينا على الإثم والعدوان وقد قال سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(23/233)
129 - ما آثار الرشوة على عقيدة المسلم
س: ما هي آثار الرشوة على عقيدة المسلم؟ (1)
ج: الرشوة وغيرها من المعاصي تضعف الإيمان وتغضب الرب عز وجل وتسبب تسليط الشيطان على العبد في إيقاعه في معاص أخرى فالواجب على كل مسلم ومسلمة الحذر من الرشوة ومن سائر المعاصي مع رد الرشوة إلى أصحابها إن تيسر له ذلك فإن لم يتيسر له ذلك تصدق بما يقابلها عن صاحبها على الفقراء مع التوبة الصادقة عسى الله أن يتوب عليه.
__________
(1) نشر في (كتاب الدعوة) ص 157(23/233)
130 - مسألة في الرشوة
س: هل يجوز أن أدفع رشوة لأحد الموظفين أو المسئولين الذين يحكمون في القضايا مثل القضاة أو رؤساء اللجان التي(23/233)
تقوم بالكشف على أراضي أم ذلك حرام في حالة إذا لم يثبت حق الشخص إلا بتلك الرشوة وإذا لم يدفعها فإنه يضيع حقه وإذا دفعها فإنه يحصل على حقه من غير ظلم لشخص آخر، فهل يجوز هذا الأمر؟ وأين نذهب من حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه: «لعن الله الراشي والمرتشي والرائش (1) » ؟ (2) .
ج: لا يجوز دفع الرشوة لأحد من المسئولين سواء كانوا قضاة أو أمراء أو لجانا تفصل بين الناس، ولا شك أن ذلك حرام وأنه من كبائر الذنوب للحديث المذكور، ولأن ذلك وسيلة إلى ظلم وإضاعة حق من لم يدفع الرشوة.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/279) .
(2) نشر في هذا المجموع ج 6 ص 384(23/234)
131 - حكم من يعرقل
تنفيذ الأوامر حتى يعطى رشوة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم سمو الأمير ع. م. س. وفقه الله لما فيه رضاه وزاده من العلم والإيمان آمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابكم الكريم المرفق المشتمل على ثلاثة أسئلة(23/234)
وهذا جوابها (1) :
الأول: من يعرقل تنفيذ الأوامر حتى يعطى رشوة؟
والجواب: لا يجوز إعطاء المذكور شيئا من المال؛ لأن ذلك من باب الرشوة. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لعن الراشي والمرتشي؛ ولأن في ذلك فسادا كبيرا وظلما للناس وتشجيعا على الظلم.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء
وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) صدر من مكتب سماحته برقم 237\خ وتاريخ 7\1\1419 هـ واكتفى بهذا السؤال لعلاقته بكتاب القضاء(23/235)
صفحة فارغة(23/236)
كتاب الشهادات(23/237)
صفحة فارغة(23/238)
132 - اعتبار العدالة في البينات
س: أرجو التفضل بإفادتي عن تسلسل جرح البينة مثل أن يقيم المدعي بينة على دعواه ثم يقيم المدعى عليه بينة على جرحها فهل تسمع البينة لجرح بينة الجرح ولو طال التسلسل أم لا ولماذا في كلا الحالتين؟ (1)
ج: قد دل الكتاب والسنة على اعتبار العدالة في البينات كما في قوله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (2) وقوله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (3) ومعلوم أن الأصل براءة الذمة من الحقوق فلا تثبت إلا بأمر يعتمد عليه، ولا ريب أن شهادة الفساق والمجهولين لا يجوز الاعتماد عليها فاتضح بذلك أنه لا بد من العدالة في البينة والمزكين لها والجارحين لها أو للمزكين؛ ولهذا صرح أهل العلم بأن الشهادة والتزكية والجرح إنما تقبل من ذوي العدالة والمعرفة بحال البينة المزكاة والمجروحة، فعلم بهذا كله
__________
(1) نشر في المجلة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة البقرة الآية 282(23/239)
أنه لا بد من التحقق من حال البينة التي يعتمد الحاكم عليها في الحكم ولو أفضى إلى التسلسل حتى يصل إلى العدالة المطلوبة حسب الإمكان، فإذا لم يتيسر ذلك ساغ له الحكم بما يغلب على الظن ثبوت الحق ولو أفضى ذلك إلى تحليف المدعي مع بينته. أما تفريق الشهود عند أداء الشهادة فينبغي أن يعمل به عند الحاجة خوفا من تواطئهم على الكذب.(23/240)
133 - وجوب للشهادة إذا طلبت ويحرم كتمانها
س: الأخ ع. ص. ص. من الرياض يقول في سؤاله: سعيت في الصلح بين متخاصمين ولكنهما لم يصطلحا، وبعد مدة رفع أحدهما شكوى على الآخر عند القاضي وجاءني يريد أن أشهد معه بما علمت من أمرهما فما حكم الشرع في ذلك، يعني هل يجوز لي أن أشهد بما سمعته منهما أثناء السعي في الصلح؟ أفتونا مأجورين؟ (1)
__________
(1) من الأسئلة المقدمة لسماحته من (المجلة العربية) وأجاب عنه سماحته بتاريخ 16\4\1417 هـ(23/240)
ج: يجب عليك أن تشهد بما علمت إذا طلبت منك الشهادة؛ لقول الله جل وعلا: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (1) والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 283(23/241)
صفحة فارغة(23/242)
كتاب العلم(23/243)
صفحة فارغة(23/244)
134 - فضل العلم والعمل (1)
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بأبناء كرام وإخوة في الله، في مقر جامعة الإمام محمد بن سعود رحمه الله، للتواصي بالحق، والتناصح، والتعاون على البر والتقوى، وعنوان الكلمة: (فضل العلم والعمل) .
وأسأل الله جل وعلا أن يجعل هذا اللقاء لقاء مباركا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يمنحنا وإياكم وسائر المسلمين الفقه في دينه والثبات عليه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين وأن يولي عليهم خيارهم، ويصلح قادتهم، كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا لكل خير، وأن يعينهم على كل خير، وأن ينصر بهم دينه وأن يصلح لهم البطانة، وأن يجعلنا وإياكم وإياهم من الهداة المهتدين، إنه جل وعلا على كل شيء قدير.
__________
(1) محاضرة ألقاها سماحته في جامعة الإمام بالرياض وقرئت على سماحته بتاريخ 4\ 6\1419 هـ(23/245)
أيها الإخوة في الله، إن الله جل وعلا خلق الخلق ليعبدوه، وأرسل الرسل وأنزل الكتب لهذه الحكمة العظيمة، لدعوة الناس إلى عبادة الله، وبيانها لهم، وإيضاحها لهم، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (2) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (3)
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4) وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (5)
وقال عز وجل: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (6) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما؛ سهل الله له به طريقا إلى الجنة (7) » . ويقول أيضا عليه الصلاة والسلام: «مثل ما بعثني الله
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الذاريات الآية 57
(3) سورة الذاريات الآية 58
(4) سورة البقرة الآية 21
(5) سورة النحل الآية 36
(6) سورة إبراهيم الآية 1
(7) أخرجه مسلم برقم (8467) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر(23/246)
به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (1) » . متفق على صحته.
وهذا الحديث العظيم يبين لنا أقسام الناس وأنهم ثلاثة:
قسم: تفقهوا في الدين وعلموا وعملوا، فهم مثل الأرض الطيبة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، تعلموا وتفقهوا في الدين وعلموا الناس.
وقسم: تعلموا وتفقهوا ونقلوا العلم إلى الناس، وليس عندهم من التوسع ما عند الأولين في التعليم والتفقيه في الدين، بل يغلب عليهم الحفظ ونقل الأخبار والروايات.
وقسم ثالث: أعرضوا، فلم يتفقهوا في الدين ولم يحملوه، فمثلهم كمثل القيعان التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (77) ، كتاب العلم، باب فضل من علم وعلم، ومسلم برقم (4232) كتاب الفضائل، باب بيان مثل ما بعث به النبي - صلى الله عليه وسلم -(23/247)
وهذا الحديث يدل على وجوب التفقه في الدين والتعلم على كل مكلف، حتى لا يكون من الطائفة الثالثة، ثم أنت يا عبد الله مخلوق لعبادة الله، مأمور بها، ولا سبيل إلى أن تعرفها وأن تفقه فيها إلا بالعلم، كيف تؤدي عبادة لا تعرفها؟
وأنت مخلوق لها، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وأنت مأمور بها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (2) والرسل بعثوا بها والدعوة إليها، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) ولا سبيل إلى هذه العبادة وأدائها على الوجه المطلوب إلا بالله ثم بالعلم والتفقه في الدين، وهذه العبادة هي دين الإسلام، هي الإيمان والهدى، هي طاعة الله ورسوله، هي توحيد الله واتباع رسول الله عليه الصلاة والسلام، هي الهدى الذي بعث الله به نبيه في قوله جل وعلا: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (4) هذه العبادة هي توحيد الله وطاعته، هي اتباع الرسل، هي الانقياد لشرع الله، هي الإسلام، هي الإيمان، هي الهدى، هي التقوى
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة النحل الآية 36
(4) سورة النجم الآية 23(23/248)
والبر، هذه هي العبادة، فالواجب التفقه فيها والتعلم والتبصر، من منطلق الكتاب العزيز والسنة المطهرة.
وهذان منبعا العلم: القرآن العظيم والسنة المطهرة، هما السبيلان لمنهج الحق واتباعه، ثم إجماع سلف الأمة الذي استند إلى هذين الأصلين، هو الأصل الثالث في معرفة الحق واتباعه، يقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » . ويقول عليه الصلاة والسلام: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (2) » . ويقول عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما؛ سهل الله له به طريقا إلى الجنة (3) » ، ويقول عليه الصلاة والسلام: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (4) » .
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (2884) كتاب فرض الخمس، باب قول الله تعالى: (فأن لله خمسه وللرسول) ومسلم برقم (1719) ، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة
(2) أخرجه البخاري برقم (4639) كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(4) أخرجه مسلم برقم (4831) كتاب فضل العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة(23/249)
ويقول عليه الصلاة والسلام يوما لأصحابه: «أيحب أحدكم أن يذهب إلى بطحان - واد في المدينة - فيرجع بناقتين عظيمتين سمينتين، بغير إثم ولا قطع رحم؟ " قالوا: نحب ذلك يا رسول الله، قال: "لأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله، خير له من ناقتين عظيمتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل (1) » .
فأنت يا عبد الله مخلوق لهذه العبادة، مأمور بأدائها على الوجه المطلوب الذي شرعه الله، ولا سبيل لك إلى ذلك إلا بالله ثم بالتفقه في الدين.
ووصيتي لنفسي ولإخواني المستمعين، ولكل من بلغته هذه الكلمة، وصيتي للجميع: تقوى الله في السر والعلن، والعناية بالتفقه في الدين، والتبصر في الدين، فعلى كل مكلف أن يتعلم، الواجب على كل مكلف أن يتعلم ما لا يسعه جهله، من الرجال والنساء، حتى يتعلم ما أوجب الله عليه وما حرم الله عليه، وحتى يؤدي ما أوجب الله عليه على بصيرة، وحتى يمتنع عما نهي الله عنه على بصيرة، هذا واجب الجميع.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1336) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه(23/250)
وعلى أهل العلم - وفقهم الله - أن يعلموا ويبينوا، وأن يصبروا، عليهم أن يفقهوا الناس، وأن يعلموا الناس، وأن يبينوا ما عندهم من العلم، يقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (1) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2) ويقول سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (3) فالله أخذ ميثاق أهل الكتاب أن يبينوا ولا يكتموا، وكما أخذ على أهل الكتاب أخذ علينا؛ فعلينا أن نبين وأن نوضح، وعلى كل مسلم أن يتعلم ويسأل، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (4)
فالواجب التعلم والتبصر والعمل، فلا بد أن تتعلم ما أوجب الله عليك عن طريق الكتاب والسنة، وعن طريق علماء السنة، علماء الحق، وأن تسأل ربك التوفيق والإعانة، ولا بد أن تعمل، لا بد من العمل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (5)
__________
(1) سورة البقرة الآية 159
(2) سورة البقرة الآية 160
(3) سورة آل عمران الآية 187
(4) سورة النحل الآية 43
(5) سورة التوبة الآية 105(23/251)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} (1) والتقوى هي العمل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (3)
فأنت مأمور بتقوى الله، مأمور بالإسلام، مأمور بالإيمان، وهذا هو العلم والعمل قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (4) وقال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة - وقد روي: بضع وستون شعبة - فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق (5) » .
قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (6) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (7) فأنت مأمور بالتفقه والتعلم، حتى تعرف هذا الدين، تعرف ما هي التقوى، وما هو الإسلام،
__________
(1) سورة النساء الآية 1
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة آل عمران الآية 103
(4) سورة آل عمران الآية 19
(5) أخرجه مسلم برقم (51) كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها
(6) سورة البقرة الآية 189
(7) سورة النجم الآية 23(23/252)
وما هو الإيمان وما هو البر، وما هو الهدى، وهذه الكلمات كلها ترجع إلى شيء واحد، هو توحيد الله وطاعته، وتوحيد الله وطاعته هما عبادة الله التي خلقنا لها، وهذا هو الإيمان، والهدى، وهذا هو البر والتقوى، وهو الإسلام الذي قال فيه سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) أن تعلم ما أوجبه الله عليك، وأصله توحيد الله والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم. وأصل الدين كله: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وحقيقتهما: توحيد الله والعبادة وتخصيصه بها عن إيمان وصدق، مع الإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والسير على منهاجه، في كل أمرك، وفي كل عباداتك.
فشهادة أن لا إله إلا الله: توجب عليك الإخلاص لله، وتخصيصه بالعبادة أينما كنت، في السر والعلن، في الشدة والرخاء، في جميع الأحوال.
وشهادة أن محمدا رسول الله: توجب عليك اتباعه، والإيمان بأنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأن الله أرسله إلى الناس عامة جنهم وإنسهم، وأن عليك اتباعه والانقياد لشرعه، كما أمر الله بذلك في كتابه في قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} (2)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19
(2) سورة آل عمران الآية 132(23/253)
وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) ويقول سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) ويقول جل وعلا: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (3) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (4) وهو محمد عليه الصلاة والسلام: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (5) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (6)
ويقول عليه الصلاة والسلام: «إني أوتيت القرآن ومثله معه (7) » .
فعلى الأمة جميعا رجالها ونسائها، على جميع المكلفين، على الجن والإنس: أن يوحدوا الله، وأن يخصوه بالعبادة، وأن يؤمنوا بأنه ربهم وإلههم الحق، وأن يؤمنوا بأسمائه وصفاته، ويثبتوها له على الوجه اللائق بجلاله، بلا تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، وعليهم أن يخصوه بالعبادة، وأن يطيعوا أوامره، وأن ينتهوا عن نواهيه.
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) سورة النور الآية 63
(3) سورة النجم الآية 1
(4) سورة النجم الآية 2
(5) سورة النجم الآية 3
(6) سورة النجم الآية 4
(7) أخرجه أحمد برقم (16546) مسند الشاميين(23/254)
هذا هو الواجب على الجميع، علما وعملا، لهذا خلقوا وبه أمروا، والواجب على الجميع التواصي بهذا الأمر والتناصح فيه، قال جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1)
هذه أخلاق المؤمنين والمؤمنات، وهذه أوصافهم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (2) ليسوا أعداء، وليسوا خصوما، ولكنهم أولياء، وأحباب، هذا وصفهم؛ أحباب فيما بينهم، يتناصحون، ويتواصون بالحق، لا غل بينهم ولا حقد، ولا كذب ولا غش ولا خيانة، ولكن ولاية ومحبة وتعاون وتواص بالحق.
هكذا المؤمنون والمؤمنات، فإذا وجدت من نفسك غلا على أخيك أو كذبا أو ظلما؛ فاعلم أنك قد نقصت إيمانك، وأخللت بإيمانك، وأضعفت إيمانك بهذا الخلق الذميم الذي وجدته من نفسك، من خيانة أو غش، أو غيبة أو نميمة، أو
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة التوبة الآية 71(23/255)
كذب أو ظلم، قال صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام بم دمه وماله وعرضه (1) » .
لذا عليك أن تحاسب نفسك وتجاهدها أينما كنت، يروى عن عمر رضي الله عنه أنه كان في خطبه يقول: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا وتأهبوا للعرض الأكبر على الله {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} (2)
ويقول الله جل وعلا: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (3) ويقول جل وعلا: {وَالْعَصْرِ} (4) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (5) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (6)
هذه أخلاق المؤمنين، أولياء متناصحون، متعاونون على البر والتقوى، متواصون بالحق والصبر عليه، فإذا وجدت من نفسك خللا في هذا، فاعرف أنه نقص في دينك، ونقص في إيمانك.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (4650) كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وماله وعرضه
(2) سورة الحاقة الآية 18
(3) سورة المائدة الآية 2
(4) سورة العصر الآية 1
(5) سورة العصر الآية 2
(6) سورة العصر الآية 3(23/256)
ويقول صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا - وشبك بين أصابعه - (1) » . ويقول عليه الصلاة والسلام: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (2) » . ويقول- صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته (3) » . متفق على صحته من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ويقول صلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (4) » . أخرجه مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (459) كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، ومسلم برقم (4684) كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم
(2) أخرجه البخاري برقم (5552) كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، ومسلم برقم (4685) كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم
(3) أخرجه البخاري برقم (2262) كتاب المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، ومسلم برقم (4677) كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم
(4) أخرجه مسلم برقم (4867) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر(23/257)
فالواجب عليك يا عبد الله وعليك يا أمة الله: محاسبة النفس وجهادها في طلب العلم، والتفقه في الدين، وأداء حق أخيك في الله وأختك في الله، فكل واحد هكذا؛ يتفقه، ويتعلم، ويتبصر، ويجاهد نفسه حتى لا يغش أخاه، وحتى لا يظلم أخاه ولا أخته في الله، وحتى يكون وليا لأخيه وأخته في الله، ولا حقد ولا كذب ولا غش ولا خيانة ولا ظلم، وحتى يبذل وسعه في التفقيه في الدين والدعوة، عن طريق حلقات العلم، وكذا عن طريق الإذاعة، وكذلك المكاتبة، وأيضا عن طريق الهاتف، وكذا عن طريق المشافهة.
هكذا المؤمن: ناصح لأخيه أينما كان، وهكذا المؤمنة: ناصحة لأخيها في الله وأختها في الله، فالمؤمن ناصح لإخوانه وأخواته في الله، والمؤمنة كذلك، كما سمعتم في قوله سبحانه في سورة التوبة {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (1) وعدهم الله الرحمة بهذا العمل بالإيمان وسلامة القلوب والولاية بينهم، ومع ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كونك ولي
__________
(1) سورة التوبة الآية 71(23/258)
أخيك وولي أختك في الله لا يمنع من أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، بل يوجب ذلك.
فالأخوة في الإيمان توجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع إقام الصلاة كما أمر الله، وأداء الزكاة كما أمر الله، مع طاعة الله ورسوله في كل شيء، وأنت موعود بالرحمة على هذه الأخلاق، وعلى هذه الأعمال، فدين الإسلام: قول وعمل، علم وعمل، يزداد بالعلم والعمل والتقوى، وينقص بضد ذلك.
والرحمة تحصل للمؤمن بأعماله الصالحة وتقواه لله في الدنيا والآخرة، يرحم في الدنيا بالتوفيق والإعانة والتسديد، ويرحم في الآخرة بدخول الجنة والنجاة من النار، بسبب إيمانه وتقواه، وقد جمع الله هذا النصح وهذه الولاية في أربع خصال، في الإيمان والعمل والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهذه جماع الدين كله، فالدين كله ينحصر في هذه الأربعة، من جمعها أفلح، وتم ربحه، ومن ضيعها تمت خسارته، ومن ضيع شيئا منها ناله من الخسران بقدر ذلك.
فالناس في خسران قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (1) الجن والإنس، في خسران {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (2)
__________
(1) سورة العصر الآية 2
(2) سورة العصر الآية 3(23/259)
هؤلاء هم الرابحون: {الَّذِينَ آمَنُوا} (1) يعني علموا الحق وآمنوا به وصدقوا به، وآمنوا بأن الله معبودهم الحق وإلههم، وآمنوا بالرسل واليوم الآخر، والجنة والنار، والحساب والجزاء، وآمنوا بكل ما أخبر الله به ورسوله.
ثم مع هذا الإيمان: حققوا ذلك بالعمل {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (2) آمنوا وعملوا فأدوا ما أوجب الله، واجتنبوا ما حرم الله، هكذا المؤمن.
ثم أمر ثالث، وهو من العمل ومن الإيمان، ولكن خصه الله بالذكر، لعظم شأنه، وهو: التواصي بالحق، والتواصي بالحق عمل وإيمان، داخل في الإيمان، وداخل في العمل، ولكن نص الله عليه بهذه الصورة، لعظم الأمر، ليعلم المكلفون، وليعلم المؤمنون: أنه لا بد من التواصي بالحق.
وأمر رابع وهو: التواصي بالصبر، لأن الإنسان لا يمكن أن يعمل ويتعلم ويتفقه، ويعلم غيره، ويأمر غيره، إلا بالله ثم بالصبر، فمن لم يصبر لم يفعل شيئا، مثل ما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (3) ويقول الله جل وعلا:
__________
(1) سورة العصر الآية 3
(2) سورة العصر الآية 3
(3) سورة لقمان الآية 17(23/260)
{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1) ويقول سبحانه: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2) ويقول لنبيه: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (3)
فعلى كل مؤمن ومؤمنة التخلق بهذه الأخلاق الأربعة، والاتصاف بهذه الصفات الأربع: إيمان صادق بالله ورسوله يتضمن الإيمان بالله وأنه معبودك الحق، وأنه ربك، وأنه الخلاق العليم والرزاق لعباده، وأنه سبحانه المسمى بالأسماء الحسنى والموصوف بالصفات العلا، وأنه سبحانه لا شبيه له ولا مثل له ولا ند له، وأنه جل وعلا مستحق لأن يعبد.
ثم الإيمان بالرسل جميعا، من أولهم إلى آخرهم، من آدم ونوح إلى آخرهم، وخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام، نؤمن بأنه رسول الله وأنه خاتم الأنبياء، وأفضلهم، وأنه الرسول إلى جميع الثقلين الجن والإنس، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (4) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (5)
__________
(1) سورة الزمر الآية 10
(2) سورة الأنفال الآية 46
(3) سورة النحل الآية 127
(4) سورة الأعراف الآية 158
(5) سورة سبأ الآية 28(23/261)
وقال جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1)
فهو رسول الله إلى الثقلين الجن والإنس، وهو رحمة للعالم كله عليه الصلاة والسلام، بشيرا ونذيرا للجميع، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (2) {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (3)
ثم مع الإيمان والعمل: التواصي بالحق التناصح.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} (4) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} (5) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (6) إلى غيرها من الآيات داخل في هذا التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 107
(2) سورة الأحزاب الآية 45
(3) سورة الأحزاب الآية 46
(4) سورة لقمان الآية 8
(5) سورة الكهف الآية 107
(6) سورة مريم الآية 96(23/262)
لكن في سورة العصر نص على ذلك، فقال: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (1) وهذا من إيمانك ومن عملك الصالح أن تتواصى مع إخوانك بالحق والصبر، فالطلبة يتواصون فيما بينهم بالصبر على الحق، فكل واحد ينصح لأخيه، في مذاكراتهم وفي اجتماعهم ليس هناك غل ولا حقد، ولا حسد، يجتمعون ويتذاكرون في الدروس وفي العلم، ويبحثون، عن إخلاص لله ومحبة لله وتعظيم لله، ورغبة في الحق، ثم من كان عنده علم أفاد به أخاه الطالب الآخر وأحب أن يزيده خيرا في مباحثاته ومذاكراته.
وإذا أتوا إلى الأستاذ أتوا بأدب، ورغبة في العلم، وإخلاص وصدق، وسألوه عما أشكل، وأقبلوا على الدرس واعتنوا به قبله وبعده، مع العناية بسؤال الأستاذ عما أشكل بأدب وعن نية صالحة في طلب الحق ومعرفته.
ومن أسباب ذلك أيضا: العناية بالمتون وأعظمها القرآن الكريم، والحرص على حفظه وتدبر معانيه، والإكثار من تلاوته، وهو كتاب الله، وهو حبل الله المتين، وهو الأصل الأصيل، هو أعظم أصل وأعظم كتاب وأشرف كتاب، فالعناية به تكون أهم عناية، تدبرا وتعقلا وعملا.
__________
(1) سورة العصر الآية 3(23/263)
ثم السنة، العناية بالسنة وحفظ ما تيسر منها، مثل بلوغ المرام، وعمدة الأحكام وغير ذلك، يحرص الطالب على حفظ ما تيسر من السنة، مع العناية بالقرآن الكريم والمذاكرة فيه وتدبر معانيه، ومراجعة كتب التفسير فيما أشكل.
ومع هذا كله: المذاكرة بين الطلبة ومع الأساتذة، عن إخلاص، وعن صدق، ورغبة، لا عن رياء ولا عن سمعة، ولكن عن صدق وعن رغبة في العلم، فإذا علم الله منك ذلك زادك حفظا ووفقك وأعانك، وجعل لك لسان صدق بين إخوانك.
فالوصية للجميع هو النصح للطلبة، والإخلاص لله في ذلك، وحفظ الوقت، كل واحد يحفظ وقته من ليله ونهاره، وقت لشغلك، وقت للمذاكرة، وقت لحاجتك لنفسك، وقت لنومك، فيكون وقته منظما، قد عني به، حتى لا يضيع منه شيء، وقت للعلم والعمل والدرس والمذاكرة، ووقت لحاجة البيت والأهل، ووقت للنوم.
المؤمن الحق يرتب نفسه ويجاهدها في أوقاته كلها، ويحذر ما حرم الله عليه، يحفظ وقته ويحفظ جوارحه عما حرم الله عليه، فيجتهد في حفظ هذه الجوارح حتى تكون في طاعة ربه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته(23/264)
عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه (1) » . . . (2) . الحديث.
فالمؤمن هكذا، يعتني بما أوجب الله عليه، ويدع ما حرم الله عليه، ويحرص على التقرب إلى الله بما يسر الله من النوافل، عن إخلاص ورغبة فيما عند الله، ويحفظ وقته للعلم والعمل، ومع إخوانه يتواضع ولا يتكبر، يقصد العلم والفائدة، ويكون لين الجانب متواضعا مع إخوانه ومع أساتذته، ويتأدب مع الأستاذ، ويسأل بقصد العلم وبقصد الفائدة، وبالعبارة الحسنة والأدب الصالح.
وعلى العالم أن يتقي الله وأن يبذل وسعه في إيضاح الحق للطلبة، وأن يصبر وأن يتحمل، وأن يجتهد في العبارات الواضحة والأسلوب الواضح، وأن يعتني بكل ما يحتاجون إليه، حتى يتخرج الطالب عن علم وبصيرة، وعن ثقة بما أعطاه الله من العلم.
ومن أهم الأمور: العناية بالعمل، يكون الطالب قدوة لغيره، وهكذا الأستاذ، فالتعليم يكون بالعمل أيضا، فالأستاذ يعلم بعمله الطيب وبأخلاقه الكريمة، حتى يتأسى به الطالب، بالمحافظة على الصلاة والمسارعة إليها والطمأنينة فيها، بمسارعته إلى كل
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6502) .
(2) أخرجه البخاري برقم (6021) كتاب الرقاق، باب التواضع(23/265)
خير، في تواضعه، في حرصه على العلم، في تنبيه الطالب على ما ينفعه، إلى غير ذلك من الأخلاق الجيدة الطيبة، حتى يتأسى به الطالب في أخلاقه وأعماله.
وعلى الطلبة أن يكونوا أيضا قدوة في الخير، يتأسى بهم أهلوهم، يتأسى بهم جيرانهم، يتأسى الطالب الصغير بالطالب الكبير في أخلاقه وأعماله الطيبة، هكذا طالب العلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » ، «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (2) » ، وله مثل عمل أخيه، إذا أرشده وعلمه له مثل أجره، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (3) » .
الرسل لهم مثل أجور أتباعهم، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - له مثل أجور أتباعه، وكل عالم له مثل أجر من هداه الله على يديه، وهكذا الطالب وهكذا غيره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (4) » ، «من يرد الله
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(3) أخرجه مسلم برقم (3509) كتاب الإمارة، باب إعانة الغازي في سبيل الله بركوب وغيره
(4) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .(23/266)
به خيرا يفقهه في الدين (1) » ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - لعلي لما بعثه إلى خيبر: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (2) » .
فالوصية مرة أخرى: تقوى الله، والتواصي بالحق، والتناصح والصبر والعمل، وأن يكون كل واحد مثالا طيبا، معروفا بالأخلاق الطيبة والأعمال الصالحة لزملائه وإخوانه وأهل بيته، والوصية أيضا للمدرسين والعلماء: أن يتقوا الله وأن يصبروا على تعليم الناس، وأن يحرصوا على تثقيفهم بالأساليب الحسنة، بالتواضع والأسلوب الحسن والصبر والمصابرة في ذلك، والله المسئول أن يوفقنا وإياكم جميعا لما يرضيه، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين.
ومن الواجب أيضا العناية بأهل البيت، تعليم أهل البيت، من إخوة وأخوات وبنين وبنات وغيرهم، كل واحد من الطلبة والعلماء: الواجب عليه أن يعتني بأهل بيته، وأن يرشدهم ويعلمهم، حتى يستفيدوا من علمه وفضله وأعماله الطيبة.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(2) أخرجه البخاري برقم (2724) كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس، ومسلم برقم (4423) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه(23/267)
نسأل الله للجميع التوفيق والهداية، ونسأل الله للجميع حسن الختام، ونسأل الله جل وعلا أن يمنحنا وإياكم المزيد من كل خير، وأن يبعدنا وإياكم من مضلات الفتن، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يجعلنا جميعا من الهداة المهتدين، إنه جل وعلا جواد كريم. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(23/268)
أسئلة بعد المحاضرة
س: سماحة الشيخ: ما حكم قراءة الكتب التي ابتلي صاحبها بها، مثل تأويل صفات الله خلاف منهج السلف الصالح، خصوصا لمن لم يدرس العقيدة؟ وفقكم الله.
ج: ينبغي للطالب أن يتوخى الكتب المعروفة، كتب أهل العقيدة المعروفين بالعقيدة السلفية، يعتني بها، مثل كتب المتقدمين، كتاب عبد الله بن أحمد، وعثمان بن سعيد الدارمي، وابن خزيمة، رحمهم الله، وغيرهم من الأئمة المتقدمين، وهكذا من بعدهم من أهل العلم والبصيرة كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والحافظ ابن كثير، وأئمة الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وغيره من المشايخ الذين عنوا بالعقيدة وعنوا بالدعوة إليها مع(23/268)
الحرص على تدبر القرآن، فإنه هو أصل الأصول، والعناية بالقرآن والسنة في العقيدة وغيرها.
أما الكتب الأخرى إذا دعت الحاجة إليها فينظرها ويستفيد منها وينبه على الأخطاء، وسواء كان ذلك في كتب المتقدمين أو كتب المتأخرين.(23/269)
س: سماحة الوالد: ما هي الطريقة الصحيحة التي يجب أن يتبعها طالب العلم الشرعي حتى يصل إلى ما يريده من إرضاء الله سبحانه وتعالى وكسب العلم المفيد والنافع له وللمسلمين وما هي العوامل التي تساعد على الحفظ ورسوخ المسائل في ذهنه وعدم النسيان؟
ج: أعظم الأسباب، أن تتقي ربك بطاعته وترك معصيته، والإخلاص له وسؤاله التوبة والعون والتوفيق ثم العناية بالدروس والمذاكرة وحفظ الوقت، فإنه من أعظم الأسباب.
ومن أسباب ذلك أيضا: المذاكرة مع الزملاء والحرص على الفائدة؛ حتى يستقر العلم ن فلا تكتف بمطالعتك والدرس مع الأستاذ بل مع هذه المذاكرة مع الزملاء الطيبين فيما أشكل عليك حتى يستقر في ذهنك العلم.(23/269)
أخلاق أهل العلم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذه كلمة أردت أن أوضح فيها أخلاق العلماء وما ينبغي أن يسيروا عليه تأسيا بإمامهم الأعظم وقدوتهم في كل خير وهو نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، رسول رب العالمين، وقائد الغر المحجلين وإمام الدعاة إلى سبيل الله أجمعين، ورأيت أن يكون عنوانها " أخلاق أهل العلم "، ولا يخفى على كل ذي مسكة من علم أن العلماء هم خلفاء الأنبياء؛ لأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم، والعلم هو ما دل عليه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ولهذا قالت عائشة لما سئلت رضي الله عنها عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام، قالت: «كان خلقه القرآن (1) » فهذه الكلمة العظيمة من عائشة
__________
(1) سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1601) ، سنن أبو داود الصلاة (1342) ، مسند أحمد بن حنبل (6/91) .(23/270)
رضي الله عنها ترشدنا إلى أن أخلاقه عليه الصلاة والسلام هي اتباع القرآن، وهي الاستقامة على ما في القرآن من أوامر ونواهي، وهي التخلق بالأخلاق التي مدحها القرآن العظيم وأثنى على أهلها والبعد عن كل خلق ذمه القرآن، وعاب أهله وهي كلمة جامعة مختصرة عظيمة، فجدير بأهل العلم من الدعاة والمدرسين والطلبة، جدير بهم أن يعنوا بكتاب الله وأن يقبلوا عليه حتى يأخذوا منه الأخلاق التي يحبها الله عز وجل، وحتى يستقيموا عليها، وحتى تكون لهم خلقا ومنهجا يسيرون عليه أينما كانوا.
يقول عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) فهو الهادي إلى الطريقة التي هي أقوم الطرق وأهدى السبل، وهل هناك هدف للمؤمن أعظم من أن يكون على أهدى السبل وأقومها وأصلحها ولا شك أن هذا هو أرفع الأهداف وأهمها وأزكاها وهو الخلق العظيم الذي مدح الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في سورة القلم حيث قال سبحانه وتعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (2) {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (3) {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} (4) {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (5)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة القلم الآية 1
(3) سورة القلم الآية 2
(4) سورة القلم الآية 3
(5) سورة القلم الآية 4(23/271)
فعلى جميع أهل العلم وطلبته أن يعنوا بهذا الخلق، وأن يقبلوا على كتاب الله قراءة وتدبرا وتعقلا وعملا، يقول سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) وهم أصحاب العقول الصحيحة الذين وهبهم الله التمييز بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال، ومن أراد هذا الخلق العظيم فعليه بالإقبال على كتاب الله عز وجل والعناية به تلاوة وتدبرا وتعقلا ومذاكرة بينه وبين زملائه وسؤالا لأهل العلم عما أشكل عليه مع الاستفادة من كتب التفسير المعتمدة، ومع العناية بالسنة النبوية لأنها تفسر القرآن وتدل عليه، حتى يسر على هذا النهج القويم وحتى يكون من أهل كتاب الله قراءة وتدبرا وعملا.
فاليهود عندهم كتاب الله والنصارى عندهم كتاب الله وعلماء السوء من هذه الأمة عندهم كتاب الله، فماذا صار هؤلاء؟
صاروا من أشر الناس لما خالفوا كتاب الله، وغضب الله عليهم وهكذا أتباعهم من كل من خالف كتاب الله على علم وسار على نهج الغاوين من اليهود والنصارى وغيرهم، حكمه حكمهم والمقصود أن نعمل
__________
(1) سورة ص الآية 29(23/272)
بكتاب الله وأن يكون خلقا لنا كما كان خلقا للذين آمنوا قبلنا وهدى وشفاء وقد قال الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) وهذا أيضا من أخلاقه عليه الصلاة والسلام، ومن أخلاق أهل العلم جميعا، أهل العلم والبصيرة أهل العلم والإيمان أهل العلم والتقوى، أما أهل العلم من غير تقوى وإيمان فليس لهم حظ في ذلك؛ لأن أهل العلم من أخلاقهم الدعوة إلى الله على بصيرة مع العمل وبيان الحق بأدلته الشرعية قولا وعملا وعقيدة، فهم دعاة الخلق وهداتهم على ضوء كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، بل يبلغون الناس دين الله، ويرشدونهم إلى الحق الذي بعث الله به نبيه عليه الصلاة والسلام، ويصبرون على الأذى في جميع الأحوال، وبهذا يعلم أن من دعا على جهالة فليس على خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وليس على خلق أهل العلم بل هو مجرم؛ لأن الله سبحانه جعل القول عليه بغير علم فوق مرتبة
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(23/273)
الشرك، لما يترتب عليها من الفساد العظيم، قال تعالى في كتابه المبين: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) فجعل سبحانه القول عليه بغير علم في القمة من مراتب المحرمات؛ لأن هذه الآية فيها الترقي من الأدنى إلى ما هو أشد منه فانتهى إلى الشرك ثم القول على الله بغير علم، وبهذا يعلم خطر القول على الله بغير علم، وأنه من المنكرات العظيمة والكبائر الخطيرة لما فيه من العواقب السيئة وإضلال الناس، وفي آية أخرى من سورة البقرة بين سبحانه أن القول عليه بغير علم مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به، فلا ينبغي لطالب العلم أن يسير في ركاب الشيطان، يقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (2) {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (3) انظر يا أخي ما ذكره الله
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2) سورة البقرة الآية 168
(3) سورة البقرة الآية 169(23/274)
عن هذا العدو المبين وأنه يأمر بالسوء والفحشاء والقول على الله بغير علم لما يعلم من عظيم الخطر والفساد في القول عليه سبحانه بغير علم؛ لأن القائل على الله بغير علم يحل الحرام ويحرم الحلال وينهى عن الحق ويأمر بالباطل لجهله، فالواجب على أهلي العلم وطلبته الحذر من القول على الله بغير علم، والعناية بالأدلة الشرعية حتى يكونوا على علم بما يدعون إليه أو ينهون عنه وحتى لا يقولوا على الله بغير علم، والعلماء بالله هم أعظم الناس خشية لله وأكملهم في الخوف من الله والوقوف عند حدوده، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1) فكل مسلم يخشى الله وكل عالم يخشى الله، لكن الخشية متفاوتة، فأعظم الناس خشية لله وأكمل الناس خشية لله هم العلماء بالله، العلماء بدينه، ليسوا علماء الطب، وليسوا علماء الهندسة، وليسوا علماء الجغرافيا، وليسوا علماء الحساب، وليسوا علماء كذا وكذا، ولكنهم العلماء بالله وبدينه، وبما جاء به رسوله عليه الصلاة والسلام وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام.
فالرسل والأنبياء هم رأس العلماء
__________
(1) سورة فاطر الآية 28(23/275)
وهم قدوة العلماء وهم الأئمة ومن بعدهم خلفاء لهم، ورثوا علمهم ودعوا إلى ما دعوا إليه. جاء في الحديث: «العلماء ورثة الأنبياء (1) » فجدير بأهل العلم - وإن تأخر زمانهم كزماننا هذا جدير بهم - أن يسلكوا مسلك أوائلهم الأخيار في خشية الله وتعظيم أمره ونهيه والوقوف عند حدوده، وأن يكونوا أنصارا للحق ودعاة للهدى لا يخشون في الحق لومة لائم، وبذلك ينفع علمهم، وتبرأ ذمتهم وينتفع الناس بهم فقوله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (2) يعني الخشية الكاملة، فالخشية الكاملة لأهل العلم، وأعلاهم الرسل والأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل من أهل العلم على حسب تقواهم لله، وعلى حسب سعة علمهم وعلى حسب قوة إيمانهم وكمال إيمانهم وتصديقهم.
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (2606) كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، وأبو داود برقم (3157) ، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، وابن ماجه برقم (219) المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، وأحمد برقم (20723) ، مسند الأنصار، باقي حديث
(2) سورة فاطر الآية 28(23/276)
ولما قال بعض الصحابة لما سألوا عن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم في السر فكأنهم تقالوه: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه / وما تأخر، كما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها «فقال بعضهم: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر وقال الآخر: أما أنا فلا أنام على فراش وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب الناس وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني (1) » فبين عليه الصلاة والسلام أنه أخشى الناس صلى الله عليه وسلم، وأنه أتقى الناس لله وأعلمهم بما يتقى عليه الصلاة والسلام وهكذا الرسل قبله هم أعلم الناس بالله وأتقاهم لله ثم يليهم العلماء على مراتبهم، ولكن لا يلزم من كمال خشية الله والخوف منه أن يكونوا معصومين من الخطأ، بل كل عالم قد يخطئ فمتى بان له
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (4675) كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، ومسلم برقم (2487) كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه.(23/277)
الحق رجع إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون (1) » . فعلى طالب العلم أن يتحرى الحق بدليله ويجتهد في ذلك ويسأل ربه التوفيق والإعانة ويخلص النية فإن أخطأ مع ذلك فله أجر واحد وإن أصاب فله أجران كما صحت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالخشية لله تقتضي الوقوف عند حدود الله والسير على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا زاد على ذلك صار تنطعا وغلوا لا يجوز، فالعالم هو الذي يقف عند حدود الله في الإباحة والمنع وفي العمل والترك، لكنه مع ذلك يكون شديد الحذر أن يقول على الله بغير علم أو يعمل بخلاف ما علم، فيشابه اليهود في ذلك، وقد ذكر الله سبحانه عن بعض أهل الكتاب العاملين الأتقياء خصالا حميدة تذكيرا لنا بذلك فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (2) ففي التاريخ والقصص
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (2423) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب منه، وابن ماجه برقم (4241) كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، وأحمد برقم (12576) باقي مسند المكثرين، المسند السابق
(2) سورة يوسف الآية 111(23/278)
عبر كما قال عز وجل. وقال سبحانه: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (1) {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (2)
وهذا نموذج من أعمالهم الطيبة، وهذه الصفات الحميدة ذكرها الله سبحانه عنهم؛ لنقتدي بهم فيها ولنسلك هذا المسلك ونتأسى بأهل الخير وهكذا في آخر سورة آل عمران يقول جل وعلا: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (3) فهذه الخصال الحميدة التي أخذ بها خيار أهل الكتاب ومن هداهم الله من علمائهم، إيمان بالله، خشوع وخضوع لله وطاعة لله سبحانه، وذل بين يديه سبحانه وتعالى، ثم مع ذلك لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ولا يجحدون الحق ولا يكتمونه كما فعل علماؤهم الضالون، كتموا سيرة محمد عليه الصلاة والسلام، وكتموا كثيرا من الحق
__________
(1) سورة آل عمران الآية 113
(2) سورة آل عمران الآية 114
(3) سورة آل عمران الآية 199(23/279)
من أجل حظهم العاجل وما أرادوا من متاع الدنيا.
أما أهل العلم والإيمان من الأولين والآخرين أهل الخوف من الله فإنهم ينطقون بالحق ويصرحون به ولا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، بل أن من أعمالهم العظيمة بيان الحق والدلالة عليه والدعوة إليه والتحذير من الباطل والترهيب منه يرجون ثواب الله ويخشون - عقابه سبحانه وتعالى، وقال عز وجل: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) وبين سبحانه في هاتين الآيتين أنه لا يستوي من يعلم الحق المنزل من عند ربنا - وهو الهدى والصلاح والإصلاح لا يستوي هؤلاء- مع من هو أعمى لا يعرف الحق ولا يهتدي إليه لفساد تصوره وانحراف قلبه وفساد لبه، لا يستوي هؤلاء وهؤلاء، ولهذا قال: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) فأوضح أن التذكر والتبصر إنما يكون من أولي الألباب، وهم أولوا العقول الصحيحة السليمة.
__________
(1) سورة الرعد الآية 19
(2) سورة الزمر الآية 9
(3) سورة الزمر الآية 9(23/280)
ثم ذكر صفاتهم العظيمة فقال: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} (1) هذه صفات أهل العلم والإيمان وهم الذين يوفون بعهد الله والذي عهد إليهم، يؤدون حقه ويستقيمون على دينه قولا وعملا وعقيدة ولا ينقضون الميثاق، بل يوفون بالمواثيق والعهود والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب، يصلون ما أمر الله به أن يوصل من الاستقامة على أمر الله والإخلاص لله سبحانه وتعالى واتباع سنة الرسول لا بد من هذا وهذا، لا بد من توحيد الله ومن اتباع الرسول ولا بد من وصل هذا بهذا وذلك بتحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وهكذا يتبعون الإيمان بالعمل ومن ذلك بر الوالدين وصلة الرحم ويخشون ربهم الخشية التي تعينهم على طاعة الله وتمنعهم من معاصي الله، يخشونه سبحانه خشية حقيقية لا مجرد دعوى تؤثر في قلوبهم، وتجعلها خاشعة لله خاضعة له معظمة لحرماته تاركة نواهيه، ممتثلة أوامره.
هكذا أهل العلم والإيمان يخشون ربهم الخشية التي تثمر المتابعة وتؤدي إلى الحق وترك الباطل
__________
(1) سورة الرعد الآية 20(23/281)
{وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} (1) هذا من كمال الخشية خوفهم من سوء الحساب، ولهذا أعدوا العدة واستقاموا على الطريق خوفا من سوء الحساب يوم القيامة.
ثم ذكر سبحانه الصفتين السادسة والسابعة، فقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} (2) صبروا على طاعة الله وصبروا عن محارم الله، لا تجلدا ولا عن رياء، ولكن ابتغاء وجه الله وابتغاء الزلفى لديه، هكذا أهل الإيمان وأهل العلم بالله يصبرون على الشدائد في أداء طاعة الله وفي ترك معاصي الله، وبتبليغ رسالة الله مع إقامتهم للصلاة وعدم التفريط في شيء مما أوجب الله عليهم من هذه العبادة العظيمة التي هي عمود الإسلام، وأدوها كما أمر الله.
ثم ذكر سبحانه الصفة الثامنة والتاسعة فقال: {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} (3) والمعنى أنهم مع هذا ينفقون في مرضاته وفي الإحسان لعباده سرا وعلانية، شيء يراه الناس وشيء لا يراه الناس، يبتغون فضل الله ويبتغون رحمته
__________
(1) سورة الرعد الآية 21
(2) سورة الرعد الآية 22
(3) سورة الرعد الآية 22(23/282)
وإحسانه من الزكاة، وغيرها يؤدون الزكوات، وينفقون في وجوه الخير مما أعطاهم الله سبحانه، {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} (1) يدرءون بالحسنات السيئات لكمال صبرهم وتحملهم وكظمهم الغيظ، هكذا العلماء بالله وهكذا الصلحاء من عباده، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} (2) لهم العاقبة الحميدة، فسرها سبحانه بقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} (3) من ثوابهم على هذه الأعمال السابقة أن الله يشملهم وآبائهم وذرياتهم وأزواجهم بفضله سبحانه وتعالى ورحمته، فالاستقامة على أمر الله وأداء حقه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والثبات على الحق والصبر في ذلك ودرء السيئة بالحسنة، كل هذا من أسباب صلاح العبد وصلاح آبائه، وأزواجه وذريته واجتماعهم في دار كرامته وزيارة الملائكة لهم مسلمين عليهم ومرحبين بهم، ومن نعم الله العظيمة على العبد أن يكون سببا لهداية أبيه وأمه وزوجته وذريته، وهكذا من نعم الله العظيمة على المرأة أن تكون سببا لهداية زوجها وأبيها وأمها وأولادها، ويعلم من الآية الكريمة أن دخول الآباء والأزواج والذريات الجنة
__________
(1) سورة الرعد الآية 22
(2) سورة الرعد الآية 22
(3) سورة الرعد الآية 23(23/283)
مع أقاربهم إنما هو بسبب صلاحهم لا لمجرد النسب والقرابة ولكن بسبب الصلاح والاستقامة والاجتهاد في طاعة الله التي هي أعظم واسطة في صلاح العبد وأقربائه وزوجاته وذرياته واجتماعهم في دار كرامته، وهذه الآية الكريمة تشبه قوله تعالى في سورة سبأ: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (1)
وقوله تعالى في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (2) وهكذا ما جاء في معنى ذلك من الآيات الكريمات، كلها تبين أن المنازل العالية والفوز بجنات النعيم والسلامة من عذاب الله وغضبه، كل ذلك لا يحصل بمجرد الأماني والدعوة ولا بالأنساب والدعوة إنما يحصل ذلك بعد توفيق الله ورحمته بأسباب الصبر على طاعة الله والصبر عن محارمه والإقبال عليه سبحانه وتعالى والإخلاص له في العمل والضراعة إليه بطلب التوفيق
__________
(1) سورة سبأ الآية 37
(2) سورة الحجرات الآية 13(23/284)
والهداية مع صبرهم على الشدائد والمشاق في سبيل الحق وصبرهم على المصائب،(23/285)
بهذا كله حصل لهم الخير العظيم والفوز بدار النعيم، وهكذا ينبغي لأهل الإيمان وأهل العلم والهداية أن يتخلقوا بهذه الأخلاق العظيمة ويسيروا عليها؛ حتى تكون لهم العاقبة الحميدة، وحتى تكون لهم عقبى الدار، فلا بد من صبر ولا بد من إخلاص، ولا بد من صدق، قال تعالى في سورة الإنسان: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} (1) وقال سبحانه في سورة المؤمنون {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} (2) وقال في سورة الفرقان لما ذكر صفات عباد الرحمن العظيمة: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} (3)
فهذه الخصال الحميدة التي ذكرها في قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} (4) الآيات، حصلت لهم بصبرهم على طاعة الله، وصبرهم عن محارم الله، وصبرهم على المصائب، فلا بد من العناية بهذا الأمر، وأن نعد له عدته ولا بد أن يعلم طالب العلم أنه لا بد من الصبر وأن الأعمال العظيمة والخير الكثير، لا يحصل بمجرد الدعوى والرغبة والتمني من دون عمل وصبر.
أسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته أن يوفقنا وسائر المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح وأن يرزقنا جميعا التخلق بأخلاق أهل العلم والإيمان، أخلاق الرسل وأتباعهم بإحسان، وأن يزيدنا وجميع المسلمين من العلم النافع والعمل الصالح والبصيرة النافذة، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، كما نسأله سبحانه أن يوفق القائمين على أمور المسلمين في كل مكان لكل ما فيه رضاه وصلاح العباد وأن يصلح قادة المسلمين ويعينهم على طاعة الله ورسوله، وأن يوفقهم لتحكيم شريعته والالتزام بها والتحاكم إليها، والحذر مما يخالفها، كما أسأله عز وجل أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان وأن يمنحهم الفقه في الدين وأن يعينهم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يعيذنا وسائر المسلمين من كل ما يخالف شرعه إنه جل وعلا ولي ذلك والقادر عليه....
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة الإنسان الآية 12
(2) سورة المؤمنون الآية 111
(3) سورة الفرقان الآية 75
(4) سورة الفرقان الآية 63(23/286)
136 - بيان أهمية الفقه الإسلامي (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن معرفة الفقه الإسلامي وأدلة الأحكام، ومعرفة فقهاء الإسلام الذين يرجع إليهم في هذا الباب من الأمور المهمة التي ينبغي لأهل العلم العناية بها وإيضاحها للناس؛ لأن الله سبحانه خلق الثقلين لعبادته ولا يمكن أن تعرف هذه العبادة إلا بمعرفة الفقه الإسلامي وأدلته، وأحكام الإسلام وأدلته ولا يكون ذلك إلا بمعرفة العلماء الذين يعتمد عليهم في هذا الباب من أئمة الحديث والفقه الإسلامي.
فالعلماء هم ورثة الأنبياء، لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر، ومن أسباب السعادة للعبد، ومن علامات النجاة والفوز أن يفقه في دين الله، وأن يكون فقيها في الإسلام، بصيرا بدين الله على ما جاء في كتاب الله الكريم وسنة رسوله الأمن عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) كلمة ألقاها سماحته في الجامع الكبير بالرياض يوم 27\4\1400 هـ. ونشرت في هذا المجموع ج 9 ص 128(23/287)
والعلماء قد بين الله شأنهم ورفع قدرهم، وهم أهل العلم بالله وبشريعته، والعاملون بما جاء عن الله وعن نبيه عليه الصلاة والسلام، وهم علماء الهدى، ومصابيح الدجى، وهم العاملون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قال فيهم جل وعلا: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) وقال فيهم جل وعلا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (2)
وقال فيهم سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (3) وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (4) » متفق على صحته. فهذا الحديث العظيم يدلنا على فضل الفقه في الدين. والفقه في الدين هو: الفقه في كتاب الله عز وجل، والفقه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الفقه في الإسلام من جهة أصل الشريعة، ومن جهة أحكام الله التي أمرنا بها، ومن جهة ما نهانا عنه سبحانه وتعالى، ومن جهة البصيرة بما يجب على العبد من حق الله وحق عباده، ومن جهة خشية الله وتعظيمه ومراقبته. فإن رأس
__________
(1) سورة آل عمران الآية 18
(2) سورة المجادلة الآية 11
(3) سورة فاطر الآية 28
(4) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(23/288)
العلم خشية الله سبحانه وتعالى وتعظيم حرماته ومراقبته عز وجل فيما يأتي العبد ويذر، فمن فقد خشية الله ومراقبته فلا قيمة لعلمه، إنما العلم النافع، والفقه في الدين الذي هو علامة السعادة، هو العلم الذي يؤثر في صاحبه خشية الله، ويورثه تعظيم حرمات الله ومراقبته، ويدفعه إلى أداء فرائض الله وإلى ترك محارم الله، وإلى الدعوة إلى الله عز وجل، وبيان شرعه لعباده، فمن رزق الفقه في الدين على هذا الوجه فذلك هو الدليل والعلامة على أن الله أراد به خيرا، ومن حرم ذلك وصار مع الجهلة والضالين عن السبيل، المعرضين عن الفقه في الدين، وعن تعلم ما أوجب الله عليه، وعن البصيرة فيما حرم الله عليه فذلك من الدلائل على أن الله لم يرد به خيرا، وقد وصف الله الكفار بالإعراض عما خلقوا له وعما أنذروا به، تنبيها لنا على أن الواجب على المسلم أن يقبل على دين الله، وأن يتفقه في دين الله، وأن يسأل عما أشكل عليه وأن يتبصر، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} (1) وقال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} (2)
فمن شأن المؤمن طلب العلم والتفقه في الدين، والتبصر، والعناية بكتاب الله والإقبال عليه وتدبره
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 3
(2) سورة الكهف الآية 57(23/289)
والاستفادة منه والعناية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتفقه فيها، والعمل بها وحفظ ما تيسر منها، فمن أعرض عن هذين الأصلين وغفل عنهما فذلك دليل وعلامة على أن الله سبحانه لم يرد به خيرا وذلك علامة الهلاك والدمار، وعلامة فساد القلب وانحرافه عن الهدى.
نسأل الله السلامة والعافية من كل ما يغضبه، فجدير بنا معشر المسلمين أن نتفقه في دين الله وأن نتعلم ما يجب علينا، وأن نحرص على العناية بكتاب الله تدبرا وتعقلا وتلاوة، واستفادة، وعملا بذلك، وأن نعنى بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام حفظا وعملا وتفقها فيها، وأن نعنى أيضا بالسؤال عما أشكل علينا. فالإنسان يسأل عما أشكل عليه ويسأل من هو أعلم منه ليستفيد، عملا بقول الله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) وعليه أن يحضر حلقات العلم ليستفيد، ويتذاكر مع إخوانه الذين يرجو أن يكون عندهم علم حتى يستفيد من علمهم، وحتى يضم ما لديهم من العلوم النافعة إلى ما لديه من العلم، فيحصل له بذلك خير كثير ويحصل له بذلك الفقه في الدين
__________
(1) سورة النحل الآية 43(23/290)
ويحصل له بذلك البعد عن صفات المعرضين والغافلين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » وبما ذكرنا يعرف المؤمن فضل فقهاء الإسلام، وأنهم قد أوتوا خيرا كثيرا، وقد فازوا بحظ عظيم، من أسباب السعادة وطرق الهداية؛ لأن العلم النافع من أسباب الهداية، ومن حرم العلم حرم خيرا كثيرا، ومن رزق العلم النافع فقد رزق أسباب السعادة إذا عمل بذلك واتقى الله في ذلك.
وعلى رأس العلماء بعد الرسل أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنهم هم الفقهاء على الكمال الذين تلقوا العلم عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتفقهوا في كتاب ربهم، وسنة نبيهم عليه الصلاه والسلام، ونقلوا ذلك إلى من بعدهم غضا طريا تفقهوا وعملوا، ونقلوا العلم إلى من بعدهم من التابعين، نقلوا كتاب الله إلى من بعدهم لفظا وتفسيرا، وقراءة، إلى غير ذلك، ونقلوا إلى من بعدهم أيضا ما بينه لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام من معنى كلام الله عز وجل، ونقلوا أيضا لمن بعدهم أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي سمعوها منه، والتي رأوها منه عليه الصلاة والسلام والتي أقرهم عليها، نقلوها إلى من بعدهم بغاية الأمانة والصدق، نقلوها إلى الأمة بواسطة الثقات من
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(23/291)
التابعين حتى نقلت إلينا بالطرق المحفوظة الثابتة التي لا يتطرق إليها الشك، نقلها الثقات عن الثقات، والثقات عن الثقات، حتى وصلت إلى هذا القرن وما بعده، وهذا من إقامة الحجة من الله عز وجل على عباده، فإن نقل العلم من طرق الثقات عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم عن الصحابة إلى من بعدهم إقامة للحجة وإيضاح للمحجة، ودعوة إلى الحق، وتحذير من الباطل وتبصير للعباد بما خلقوا له من عبادة الله وطاعته جل وعلا، وبهذا يعلم أن لهم من الحق على من بعدهم الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة والرضا والحرص على الاستفادة من علومهم، وما جمعوه وألفوه من العلوم النافعة فإنهم سبقوا إلى خير عظيم، وإلى علم جم، سبقوا إلى الفقه في كتاب الله وإلى الفقه في سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام ونقلوا إلينا ما وصل إليهم من علم بالله وبكتابه وبسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فوجب علينا أن نعرف لهم قدرهم، وأن نشكرهم على علمهم العظيم، وعلى ما قاموا به من حفظ رسالة الله وتفقيه الناس في دين الله، وأن نستعين بما دونوه، وما خلفوه من الكتب المفيدة والعلوم النافعة حتى نعرف بذلك معاني كلام الله، ومعاني كلام رسوله عليه الصلاة والسلام.
وإن من أعظم الفائدة ومن أكبر الخير الذي نقلوه إلينا أن حفظوا علينا سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، ونقلوها إلينا طرية(23/292)
غضة سليمة محفوظة، وفيها تفسير كتاب الله، وفيها بيان ما أجمل في كتاب الله، وفيها بيان الأحكام التي جاء بها الوحي الثاني إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو الوحي من الله إلى النبي وهو السنة المطهرة، فإن الله جل وعلا أعطى نبيه صلى الله عليه وسلم القرآن ومثله معه كما قال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: «ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه (1) » .
فعلى أهل العلم أن ينقلوا ما جاءت به السنة، وأن يوضحوا ذلك للناس وأن يرشدوهم إلى معاني كلام ربهم وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، في الخطب والمواعظ والدروس وحلقات العلم، وغير هذا من أسباب التوجيه والتعليم والإرشاد.
ولهذا ارتحل العلماء إلى الأمصار، واتصلوا بالعلماء في كل قطر للفائدة والعلم، ففي عهد الصحابة سافر بعض الصحابة من المدينة إلى مصر والشام وإلى العراق واليمن وإلى غير ذلك للفائدة، ولنقل العلم، فتجد الصحابة رضي الله عنهم وهم أفضل الناس بعد الأنبياء ينتقلون من بلاد إلى بلاد ليسألوا عن سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتتهم ولم يحفظوها، فبلغهم ذلك عن
__________
(1) رواه أحمد في مسند الشاميين برقم (16546) حديث المقدام بن معدي كرب الكندي.(23/293)
صحابي آخر فيسافر أحدهم إليه ليسمع ذلك منه ولينتفع بذلك ولينقله إلى غيره من إخوانه في الله التابعين لهم بإحسان.
ثم جاء العلماء بعدهم من التابعين، هكذا فعلوا، ارتحلوا في العلم وساروا في طلب العلم، وتبصروا في دين الله وتفقهوا على الصحابة وسألوهم رضي الله عنهم وأرضاهم عما أشكل عليهم، وعملوا بذلك ثم نقلوا ذلك إلى من بعدهم، ثم ألفوا كتبا عظيمة في الحديث والتفسير واللغة العربية وغير هذا من أنواع العلوم الشرعية حتى بصروا الناس وحتى أرشدوا إلى الطريق السوي وحتى علموهم القواعد الشرعية التي بها يعرف كتاب الله، وبها تعلم معانيه، وبها تحفظ السنة وبها تعلم معانيها، وبذلك يحصل العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على بصيرة وعلى هدى وعلى نور، فجزاهم الله عن ذلك خيرا وضاعف لهم الأجور، وضاعف لهم الحسنات، ونفعنا بعلومهم جميعا، وأعاذنا جميعا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ومما يتعلق بهذا حضور حلقات العلم لأنها من طريق أهل العلم، وفي الحديث الصحيح: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر (1) » وقال عليه الصلاة
__________
(1) رواه الترمذي في الدعوات برقم (3432) باب ما جاء في عقد التسبيح باليد، وأحمد برقم (12065) باقي مسند المكثرين، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه.(23/294)
والسلام: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة (1) » وقال عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) فهذه أشياء مهمة تتعلق بالفقه والفقهاء، وبطلب العلم في المساجد، وبالرحلة إلى البلدان التي فيها العلماء المعروفون بالاستقامة كل هذا من أسباب تحصيل العلم ومن الطرق التي توصل إليه، وصاحبها يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة (3) » .
فإذا سأل أهل العلم، أو سافر إليهم في بلادهم أو زارهم في بيوتهم وفي المساجد فقد سلك طريقا يلتمس فيه علما، وذكر أهل العلم أن من الطرق المعينة على حفظ العلم: كتابته والعناية بحفظه، كما فعل سلفنا الصالح رحمهم الله ومن بعدهم من أهل العلم، كل هذا من وسائل تحصيل العلم، ومن الطرق الموصلة إليه، كما أن الرحلة والانتقال من بلد إلى بلد، ومن مسجد إلى مسجد، ومن حلقة إلى حلقة، ومن بيت عالم إلى بيت عالم لطلب العلم وللتفقه في الدين، كل ذلك أنواع وطرق من طرق تحصيل العلم وهي داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما (4) » الحديث.
والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(2) سورة النحل الآية 43
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(4) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الأدب (4946) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(23/295)
العلم وأخلاق أهله
الحمد لله رب العالمن، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله إلى يوم الدين. أما بعد:
فلقد سمعنا من قارئنا آيات مباركات فيها العظة والذكرى، وبيان أن الله عز وجل يخلق ما يشاء ويختار، وأنه العالم بأحوال العباد وما تكنه صدورهم وما يعلنون، وأنه المحمود جل وعلا في الأولى والأخرى سبحانه وتعالى، وأن المرجع إليه والمصير إليه، وأنه المتفضل بالليل والنهار في مصالح العباد. وأن ذلك من رحمته عز وجل.
فما أولانا بتدبر كتابه الكريم، تدبر من يريد العلم، ومن هو مؤمن بهذا الكتاب العظيم، وأنه كلام الله حقا، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ما أولى أهل العلم بأن يتدبروا هذا الكتاب العظيم، وأن يعنوا به غاية العناية، قاصدين معرفة مراد ربهم عز وجل، والعمل بذلك، عملا بقوله عز وجل:(23/296)
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) وبقوله سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (2) مستشعرين قوله عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (3) ، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (4)
فوصيتي قبل كلمتي: العناية بهذا الكتاب العظيم، تدبرا وتعقلا، وإكثارا من تلاوته، وعملا بالمعنى. فهو أنزل ليعمل به، لا لمجرد التلاوة. فأسأل الله للجميع التوفيق.
أما كلمتي هذه الليلة، فأرجو أن تكون موجزة، وهي كما قال المقدم (العلم وأخلاق أهله) :
العلم معلوم لدى الجميع فضله، وأن أشرف شيء يطلبه الطالبون ويسعى في تحصيله الراغبون هو العلم الشرعي، فإن العلم يطلق على أشياء كثيرة، ولكن عند علماء الإسلام المراد بالعلم هو: العلم الشرعي، وهو المراد في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - عند الإطلاق وهو: العلم بالله وبأسمائه وصفاته، والعلم بحقه على عباده، وبما شرعه لهم سبحانه وتعالى.
__________
(1) سورة ص الآية 29
(2) سورة محمد الآية 24
(3) سورة الإسراء الآية 9
(4) سورة فصلت الآية 44(23/297)
والعلم بالطريق والصراط الموصل إليه، وتفاصيله، والعلم بالغاية والنهاية التي ينتهي إليها العباد في الدار الأخرى.
هذا العلم الشرعي هو أفضل العلوم وهو الجدير بالطلب والحرص على تحصيله، لأنه به يعرف الله سبحانه وتعالى وبه يعبد. وبهذا العلم يعرف ما أحل الله وما حرم وما يرضيه وما يسخطه.
وبهذا العلم يعرف المصير إليه والنهاية من هذه الحياة، وأن قسما من هؤلاء المكلفين ينتهون إلى الجنة والسعادة، وأن الآخرين وهم الأكثرون ينتهون إلى دار الهوان والشقاء، وقد نبه أهل العلم على هذا وبينوا أن العلم ينحصر في هذا المعنى، وممن نبه عليه القاضي ابن أبي العز شارح الطحاوية في أول شرحه، ونبه عليه غيره كابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة آخرين.
وهو واضح ويتفاوت في الفضل بحسب متعلقاته، فأفضله وأعظمه وأشرفه ما يتعلق بالله وأسمائه وصفاته، وهو علم العقيدة، فإن الله جل وعلا له المثل الأعلى سبحانه وتعالى. وهو الوصف الأعلى من جميع الوجوه في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
ثم يلي ذلك ما يتعلق بحقه على عباده، وما شرعه من الأحكام، وما ينتهي إليه العاملون، ثم ما يتبع ذلك مما يعين عليه، ويوصل إليه من علم قواعد العربية، والمصطلحات الإسلامية في أصول الفقه،(23/298)
ومصطلح الحديث، وفي غير ذلك مما يتعلق بذلك العلم ويعين عليه، وعلى فهمه، والكمال فيه.
ويلتحق بذلك علم السيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي، وتراجم رجال الحديث وأئمة الإسلام، ويلتحق بذلك كل ما له صلة بهذا العلم.
وقد شرف الله أهل هذا العلم، ونوه بهم وعظم شأنهم سبحانه، واستشهدهم على توحيده، والإخلاص له، حيث قال عز وجل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) فاستشهد أهل العلم على وحدانيته مع الملائكة، فالملائكة - عليهم السلام -، وأولو العلم الشرعي هم الشهداء على توحيد الله والإخلاص له، وأنه رب العالمين، وأنه الإله الحق، وأن العبادة لغيره باطلة، وكفى بها شرفا لأهل العلم، حيث استشهدهم على وحدانيته واستحقاقه في العبادة سبحانه وتعالى، وبين جل وعلا أنهم لا يستوون مع غيرهم بقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) ويقول عز وجل:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 18
(2) سورة الزمر الآية 9(23/299)
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1)
فلا يستوي هؤلاء وهؤلاء، لا يستوي من يعلم أن ما أنزل الله هو الحق وهو الهدى، وهو طريق السعادة، مع الذين قد عموا عن هذا الطريق، وعن هذا العلم، فرق عظيم بين هؤلاء وهؤلاء، فرق بين من عرف الحق، واستضاء بنوره وسار على هداه إلى أن لقي ربه وفاز بالكرامة والسعادة، وبين من عمي عن هذا الطريق، واتبع هواه وسار في طريق الشيطان والهوى.
لا يستوي هؤلاء وهؤلاء، وقد بين الله سبحانه أنه يرفع درجات أهل العلم وما ذلك إلا لعظيم آثارهم في الناس، ونفعهم لهم. ولهذا قال أهل العلم: ما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح آثار الناس عليهم.
فآثارهم بتوجيه الناس إلى الخير، وإرشادهم إلى الحق، وتوصيلهم للهدى، وهي آثار عظيمة شكرها الله لهم، وشكرها المؤمنون، وعلى رأسهم الرسل - عليهم الصلاة والسلام -: فهم الهداة والدعاة وهم أعلم الناس بالله وبشريعته، وأفضل الناس بعد الرسل وأتبعهم لهم، وأعلمهم بما جاؤا به، وأكملهم دعوة إليه، وصبرا
__________
(1) سورة الرعد الآية 19(23/300)
عليه، وإرشادا إليه: قال جل وعلا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (1) وقال سبحانه وتعالى {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} (2) وبين عز وجل أن أهل العلم هم الذين يخشونه على الحقيقة والكمال، وإن كانت الخشية موجودة من المؤمنين عموما، ومن بعض الآخرين، ولكن خشية الله على الكمال والحقيقة للعلماء، وعلى رأسهم الرسل - عليهم الصلاة والسلام -: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (3) يعني: الخشية الكاملة.
والعلماء هم: العارفون بالله وبأسمائه وبصفاته، وبشريعته التي بعث بها رسله، ولهذا قال نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - لما قال له بعض الناس مستثقلا العلم الذي أرشده إليه: لسنا مثلك يا رسول الله! قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له (4) » .
فالعلماء بالله وبدينه وبأسمائه وصفاته هم أخشى الناس لله، وأقوى الناس في الحق على حسب علمهم به، وعلى حسب درجاتهم في ذلك، وأعلاهم في هذا وأكملهم فيه هم الرسل
__________
(1) سورة المجادلة الآية 11
(2) سورة الأنعام الآية 83
(3) سورة فاطر الآية 28
(4) صحيح البخاري النكاح (5063) .(23/301)
- عليهم الصلاة والسلام -، فهم أخشى الناس لله، وأتقاهم له، وقد جاءت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيان فضل العلم، وتكاثرت في ذلك.
فمن ذلك قوله - عليه الصلاة والسلام -: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (1) » خرجه مسلم في صحيحه - رحمه الله -. فهذا يدلنا على أن طلاب العلم على خير عظيم، وأنهم على طريق نجاة وسعادة لمن أصلح الله نيته في طلب العلم وابتغى به وجه الله عز وجل، وقصد العلم لنفس العلم، وللعمل، لا لأجل الرياء والسمعة، أو لأجل مقاصد أخرى، من المقاصد العاجلة، وإنما يتعلمه لمعرفة دينه، والبصيرة بما أوجب الله عليه، وليسعى في إخراج الناس من الظلمات إلى النور فيعلم ويعمل ويعلم غيره من المقاصد الحسنة التي أمر المسلم بها، فكل طريق يسلكه في طلب العلم فهو طريق إلى الجنة، ويعم ذلك جميع الطرق الحسية والمعنوية: فسفره من بلاد إلى بلاد أخرى، وانتقاله له من حلقة إلى حلقة ومن مسجد إلى مسجد بقصد طلب العلم، فهذا كله من الطرق لتحصيل العلم. وهكذا المذاكرة في كتب العلم والمطالعة والكتابة، كلها من الطرق أيضا.
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(23/302)
فجدير بالطالب أن يعنى بجميع الطرق الموصلة إلى العلم، وأن يحرص عليها قاصدا وجه ربه عز وجل، يريد الله والدار الآخرة، يريد أن يتفقه في دينه وأن يتبصر به، يريد أن يعرف ما أوجب الله عليه، وما حرم عليه، يريد أن يعرف ربه على بصيرة وبينة، ثم يعمل بذلك، يريد أن ينقذ الناس، ويكون من دعاة الهدى، وأنصار الحق، ومرشدا إلى الله على علم وهدى، فهو حيثما تصرف على خير عظيم بهذه النية الصالحة، حتى نومه من طرق الجنة، إذا نام: ليتقوى على طلب العلم، وأداء الدرس كما ينبغي، ليتقوى على حفظ كتاب في العلم، ليتقوى على السفر في طلب العلم، فنومه عبادة، وسفره عبادة، وتصرفاته الأخرى بهذه النية عبادة، بخلاف من ساءت نيته، فهو على خطر عظيم، جاء في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة (1) » رواه أبو داود - رحمه الله - بإسناد جيد (2) .
وهذا وعيد عظيم لمن ساءت نيته. وروي عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: «من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه فالنار النار (3) » .
__________
(1) سنن أبو داود العلم (3664) ، سنن ابن ماجه المقدمة (252) ، مسند أحمد بن حنبل (2/338) .
(2) أخرجه أبو داود برقم (3179) ، كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله تعالى.
(3) أخرجه ابن ماجه برقم (250) كتاب المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به(23/303)
وتعلم العلم يكون بمعرفته والعمل به لله؛ لأن الله أمر بذلك، وجعله وسيلة لمعرفة الحق، وجاء في الحديث الصحيح: «أن أول من تسعر بهم النار ثلاثة: منهم: الذي طلب العلم وقرأ القرآن لغير الله، ليقال: هو عالم، وليقال له: قارئ (1) » ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فعليك يا عبد الله، أيها الطالب للعلم: عليك بإخلاص العبادة والنية لله وحده، وعليك بالجد والنشاط في سلوك طرق العلم والصبر عليها، ثم العمل بمقتضى العلم، فإن المقصود هو العمل، وليس المقصود هو أن تكون عالما، أو تعطى شهادة راقية في العلم، فإن المقصود من وراء ذلك كله هو أن تعمل بعلمك، وأن توجه الناس إلى الخير، وأن تكون من خلفاء الرسل - عليهم الصلاة والسلام - في الدعوة إلى الحق، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الصحيح: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » متفق على صحته.
فهذا يدل على فضل العلم وأن من علامات الخير والسعادة، ومن علامات التوفيق، وأن الله أراد بالعبد خيرا أن يفقهه في دينه، وأن يتبصر في ذلك، حتى يعرف الحق من الباطل،
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (3527) كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(23/304)
والهدى من الضلال، وحتى يعرف ربه بأسمائه وصفاته، وعظيم حقه، وحتى يعرف النهايه لأولياء الله ولأعدائه.
فالنهاية لأولياء الله: الجنة والسعادة بجوار الرب الكريم، والنطر إلى وجهه سبحانه وتعالى، في دار الكرامة.
والنهاية لأعداء الله: دار النكال والعذاب والهوان، والحجاب عن الله عز وجل.
وبهذا نعلم عظم العلم وشرفه، وأنه أفضل شيء وأشرفه لمن أصلح الله نيته؛ لأنه يتوصل به إلى معرفة أفضل واجب، وأعظم واجب، وهو توحيد الله والإخلاص له، ويتوصل به أيضا إلى معرفة أحكام الله، وما أوجب على عباده، فهو واجب عظيم يوصل إلى أداء واجبات عظيمة، لا سعادة للعبد، ولا نجاة لهم، إلا بالله ثم بالعلم بها، والتمسك بها والاستقامة عليها.
والعلماء الذين أظهروا العلم هم خيرة الناس، وأفضلهم على وجه الأرض، وعلى رأسهم أئمتهم الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، والأنبياء، فهم القدوة والأساس في الدعوة والعلم والفضل، ويليهم أهل العلم على طبقات: فكل من كان أعلم بالله وبأسمائه وصفاته، وأكمل في العمل والدعوة كان أقرب الناس من الرسل، ومن درجاتهم ومنازلهم في الجنة. فأهل العلم هم أئمة هذه الأرض ونورها وسرجها، وهم أولى بها من غيرهم، يرشدون الناس إلى طريق(23/305)
السعادة، ويهدونهم إلى أسباب النجاة، ويقودونهم إلى ما فيه رضى الله جل وعلا، والوصول إلى كرامته والبعد عن أسباب غضبه وعذابه.
فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وهم أئمة الناس بعد الأنبياء يهدون إلى الله، ويرشدون إليه، ويعلمون الناس دينهم. فأخلاقهم عظيمة، وصفاتهم حميدة. علماء الحق، علماء الهدى، هم خلفاء الرسل، الذين يخشون الله ويراقبونه ويعظمون أمره، وهو من تعظيمه سبحانه. هؤلاء أخلاقهم أرفع الأخلاق وأسماها؛ لأنهم سلكوا مسلك الرسل، وساروا على نهجهم وطريقهم في الدعوة إلى الله على بصيرة، والتحذير من أسباب غضبه والمسارعة إلى ما عرفوا من الخير قولا وعملا، والابتعاد عما عرفوا من الشر قولا وعملا، فهم القدوة، والأسوة بعد الأنبياء، في أخلاقهم العظيمة، وصفاتهم الحميدة، وأعمالهم الجليلة، وهم يعملون ويعلمون، ويوجهون طلابهم إلى أسمى الأخلاق وخير السبل.
وسبق أن العلم: قال الله قال رسوله، هذا هو العلم الشرعي، هو العلم بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهل يعين على ذلك. فالواجب على أهل العلم، أن يتمسكوا بهذا الأساس العظيم، وأن يدعوا الناس إليه، وأن يوجهوا طلابهم إليه، وأن يكون الهدف دائما العلم بما قال الله، وقال رسوله، والعمل بذلك، وتوجيه الناس وإرشادهم إلى ذلك. ولا يجوز التفرق(23/306)
والاختلاف ولا الدعوة إلى حزب فلان وحزب فلان، ورأي فلان، وقول علان. وإنما الواجب أن تكون الدعوة واحدة إلى الله ورسوله، إلى كتاب الله وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام -، لا إلى مذهب فلان، أو دعوة علان، ولا إلى الحزب الفلاني، والرأي الفلاني. يجب على المسلمين أن تكون طريقتهم واحدة، وهدفهم واحدا، وهو اتباع كتاب الله وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام -.
وأما ما جرى من الاختلاف بين أهل العلم في المذاهب الأربعة وغيرها، فالواجب أن يؤخذ منه ما هو أقرب إلى الصواب، وهو القول الذي هو أقرب إلى ما قاله الله ورسوله نصا أو بمقتضى قواعد الشريعة.
فإن الأئمة المجتهدون إنما هدفهم ذلك، وقبلهم الصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم -، وهم الأئمة بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهم أعلم الناس بالله وأفضلهم وأكملهم علما وخلقا.
فقد كانوا يختلفون في بعض المسائل، ولكن دعوتهم واحدة، وطريقهم واحد، يدعون إلى كتاب الله وسنة الرسول - عليه الصلاة والسلام -، وهكذا من بعدهم من التابعين، وأتباع التابعين: كالإمام مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم من أئمة الهدى: كالأوزاعي والثوري وابن عيينة وإسحاق بن راهويه، وأشباههم من أهل العلم والإيمان، دعوتهم واحدة، وهي الدعوة إلى كتاب الله، وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا(23/307)
ينهون أتباعهم عن تقليدهم، ويقولون: خذوا من حيث أخذنا، يعنون من الكتاب والسنة.
ومن جهل الحق وجب عليه أن يسأل أهل العلم المعروفين بالعلم والفضل، وحسن العقيدة والسيرة، ويتبصر في ذلك، مع تقدير العلماء، ومعرفة فضلهم، والدعاء لهم بمزيد من التوفيق وعظيم الأجر؛ لأنهم سبقوا إلى الخير العظيم، وعلموا وأرشدوا، وأوضحوا الطريق، فرحمة الله عليهم، فلهم فضل السبق، وفضل علمهم ودعوتهم إلى الله: من الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم والإيمان. فيعرف لهم قدرهم وفضلهم، ويترحم عليهم ويتأسى بهم في النشاط في العلم والدعوة إلى الله، وتقديم ما قاله الله ورسوله على غيره، والصبر على ذلك، والمسارعة إلى العمل الصالح، يتأسى بهم في هذه الفضائل العظيمة، ويترحم عليهم، ولكن لا يجوز أبدا أن يتعصب لواحد منهم مطلقا، وأن يقال: قوله هو الصواب مطلقا. بل يقال: كل واحد قد يخطئ ويصيب. والصواب فيما وافق ما قاله الله ورسوله، وما دل عليه شرع الله من طريق الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم، فإذا اختلفوا وجب الرد إلى الله ورسوله، كما قال سبحانه وتعالى:(23/308)
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) وقال عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) هكذا قال أهل العلم قديما وحديثا.
ولا يجوز أبدا التعصب لزيد أو عمرو، ولا لرأي فلان أو علان، ولا لحزب فلان أو الطريقة الفلانية، أو الجماعة الفلانية، كل هذا من الأخطاء الجديدة، التي وقع فيها كثير من الناس.
فيجب أن يكون المسلمون هدفهم واحد، وهو اتباع كتاب الله وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام - في جميع الأحوال، في الشدة والرخاء، في العسر واليسر، في السفر والإقامة، وفي جميع الأحوال، وعند اختلاف أهل العلم ينطر في أقوالهم، ويؤيد منها ما وافق الدليل من دون تعصب لأحد من الناس.
أما العامة وأشباه العامة، فيسألون أهل العلم، ويتحرون في أهل العلم، من هو أقرب إلى الخير وأقرب إلى السداد والاستقامة، يسألونه عن شرع الله، وهو يعلمهم بذلك ويرشدهم إلى الحق، حسب ما جاء في الكتاب والسنة، وأجمع عليه أهل العلم.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10(23/309)
والعالم يعرف: بصبره وتقواه لله، وخشيته له سبحانه وتعالى، ومسارعته إلى ما أوجب الله ورسوله، وابتعاده عما حرم الله ورسوله.
هكذا يكون العالم سواء كان مدرسا أو قاضيا أو داعيا إلى الله، أو في أي عمل، فواجبه أن يكون قدوة في الخير، وأن يكون أسوة في الصالحات، يعمل بعلمه ويتق الله أين ما كان، ويرشد الناس إلى الخير، حتى يكون قدوة صالحة لطلابه، ولأهل بيته ولجيرانه ولغيرهم ممن عرفه، يتأسون به: بأقواله وأعماله الموافقة لشرع الله عز وجل.
وعلى طالب العلم أن يحذر غاية الحذر من التساهل فيما أوجب الله، أو الوقوع فيما حرم الله، فإنه يتأسى به في ذلك، فإذا تساهل تساهل غيره، وهكذا في السنة والمكروهات، ينبغي له أن يحرص على تحري السنن، وإن كانت غير واجبة ليعتادها وليتأسى الناس به فيها، وأن يبتعد عن المكروهات والمشتبهات حتى لا يتأسى به الناس فيها.
فطالب العلم له شأن عظيم، وأهل العلم هم الخلاصة في هذا الوجود، فعليهم من الواجبات والرعاية ما ليس على غيرهم، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (1) » .
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (844) كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن ومسلم برقم (3408) كتاب الإمارة باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر(23/310)
فأهل العلم رعاة وهداة، فعليهم أن يعنوا برعيتهم، الشعوب رعية لهم فعليهم أن يعنوا بهذه الرعية، وأن يخلفوا الله فيها، وأن يرشدوها إلى أسباب النجاة، ويحذروها من أسباب الهلاك، وأن يغرسوا فيما بينهم حب الله ورسوله، والاستقامة على دين الله. والشوق إلى الله وإلى جنته وكرامته، والحذر من النار، فالنار بئس المصير. يجب الحذر منها، والتحذير منها، وأولى الناس بهذا الأمر هم العلماء، وطلاب العلم، هكذا يكون حالهم أبدا، وهكذا تكون أخلاقهم أبدا، مسارعة إلى مرضاة الله، وابتعاد عن معاصي الله، ودعوة إلى الله، وإرشاد إليه، ووقوف عند حدوده، وأخذ بالأحوط دائما، وبعد عما حرم الله، وعما كرهه الله، حتى يتأسى بهم إخوانهم من المؤمنين، وحتى يتأثر بهم المسلمون أينما كانوا. وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم إلى ما يرضيه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصالحين مصلحين، كما أسأله سبحانه أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويوفق ولاة أمر المسلمين لكل ما فيه رضاه، وصلاح العباد والبلاد، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يمن عليهم بتحكيم شريعة الله بين عباده والتحاكم إليها، ونبذ ما خالفها.(23/311)
أما العلوم الأخرى فلها شأن آخر من استخراج المعادن، وشئون الزراعة والفلاحة وسائر أنواع الصناعات النافعة، وقد يجب منها ما يحتاجه المسلمون، ويكون فرض كفاية، ولولي الأمر فيها أن يأمر بما يحتاجه المسلمون، ويساعد أهلها في ذلك، أي بما يعينهم على نفع المسلمين، والإعداد لعدوهم. وعلى حسب نية العبد تكون أعماله عبادة لله عز وجل، متى صلحت النية، وخلصت لله، وإذا فعلها بدون نية كانت من المباحات؛ أعني: أنواع الصناعات المباحة، واستخراج المعادن والزراعة والفلاحة وغير ذلك.
وكلها أمور مطلوبة ومع صلاح النية تكون عبادة، ومع خلوها من ذلك تكون أمورا مباحة، وقد تكون فرض كفاية في بعض الأحيان، إذا دعت الحاجة إليها، ووجب على ولي الأمر أن يلزم بذلك من هو أهل لها، فهي أمور لها شأنها، ولها أحوالها الداعية إليها، وتختلف بحسب النية، وبحسب الحاجة.
أما علم الشرع فلا بد منه، والله خلق الثقلين ليعبدوه، وليتقوه ولا سبيل إلى هذا إلا بعلم الشرع، علم الكتاب والسنة كما تقدم.
وأنتم معشر الطلبة بحمد الله هنا في الجامعة الإسلامية، جئتم من أقطار كثيرة، ومن أجناس متنوعة للتفقه في الدين، وتعلم أحكام الله والتبصر في ذلك، ولمعرفة العقيدة السلفية الصحيحة التي سار عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم -(23/312)
وصحابته - رضي الله عنهم - وسار عليها أتباعهم بإحسان، وهي الإيمان بالله ورسوله، والإيمان بأسماء الله وصفاته، وإمرارها كما جاءت على الوجه الذي يليق بالله سبحانه وتعالى، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ولا زيادة ولا نقصان.
هكذا درج أهل العلم على الطريقة التي درج عليها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ودرج عليها أصحابهم وأتباعهم بإحسان.
فنسأل الله أن يمنحكم التوفيق، وأن يعينكم على كل ما فيه رضاه، وأن يردكم إلى بلادكم في غاية من التوفيق والتقوى والعلم والإيمان. وأن يهدي بكم العباد، ويصلح بكم الأحوال، إنه جل وعلا على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد عبد الله ورسوله، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(23/313)
138 - بيان شرط العلم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين. . أما بعد (1) :
فإن الله جل وعلا إنما خلق الخلق ليعبد وحده لا شريك له، لم يخلقهم عبثا ولا سدى وإنما خلقهم لأمر عظيم خلقهم ليعبدوه ويعظموه وينقادوا لشرعه، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (3) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (4) وهذه العبادة التي خلقوا لها قد أمرهم بها، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (5) قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (6) قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ} (7) (وأمر ربك
__________
(1) دروس ألقاها سماحته في المسجد الحرام بتاريخ 25 \ 12 \ 1418 هـ.
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة الذاريات الآية 57
(4) سورة الذاريات الآية 58
(5) سورة البقرة الآية 21
(6) سورة النساء الآية 36
(7) سورة الإسراء الآية 23(23/314)
) {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (2) قد أرسل الرسل بهذا عليهم الصلاة والسلام. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (4) هذه هي العبادة، وهذه هي الحكمة التي من أجلها خلق الجن والإنس، وهذه هي الغاية التي من أجلها خلق الثقلان ليعبدوا الله ويعظموه وينقادوا لشرعه ويتبعوا رسله لم يخلقهم سدى ولا عبثا، وليس في حاجة إليهم سبحانه، هو الغني بذاته عن كل ما سواه، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (5) {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} (6) قال الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} (7)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة النحل الآية 36
(4) سورة الأنبياء الآية 25
(5) سورة فاطر الآية 15
(6) سورة فاطر الآية 16
(7) سورة ص الآية 27(23/315)
لم يخلقهما باطلا، بل خلقهما لحكمة عظيمة وقد أنكر على من حسب ذلك وظنه قال: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} (1) يعني معطلا مهملا، كلا لم يترك سدى بل أمر ونهي، وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (2) أنكر عليهم هذا الحسبان، وأنه سبحانه إنما خلقهم ليعبدوه لم يخلقوا عبثا ولا سدى، وهذه العبادة يجب على المكلفين أن يتعلموها ويعرفوها، هذه العبادة التي أنت مخلوق لها يا عبد الله، عليك أن تعرفها بأدلتها حتى تعبد الله على بصيرة، فأنت مأمور بأن تتعلم. قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (3) قال تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (4) هذا الواجب على كل مكلف أن يتعلمه، وأن يتفقه في الدين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا
__________
(1) سورة القيامة الآية 36
(2) سورة المؤمنون الآية 115
(3) سورة محمد الآية 19
(4) سورة الطلاق الآية 12(23/316)
يفقهه في الدين (1) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ قال عليه الصلاة والسلام: فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم (2) » مثل الأرض الطيبة التي أمسكت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وأمسكت الماء فنفع الله به الناس، هؤلاء هم علماء المسلمين حملوا العلم ففقهوا في الدين حملوا العلم ونقلوه إلى الناس ففقهوا فيه وأوصلوه إلى الناس، علماء الحق هم مثل الأرض الطيبة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وأمسكت الماء حتى شرب منه الناس، وسقوا وزرعوا، وأغلب الخلق كالقيعان التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ لم ينتفعوا بما بعث الله به الرسل. قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (3) وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (4)
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(2) صحيح البخاري العلم (79) ، صحيح مسلم الفضائل (2282) ، مسند أحمد بن حنبل (4/399) .
(3) سورة يوسف الآية 103
(4) سورة الأنعام الآية 116(23/317)
وقال عز وجل: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (1) هذه حال أكثر الخلق، أعرضوا عن دين الله وعن ما جاءت به الرسل، وعن ما خلقوا له، فأشبهوا الأنعام، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (2) فلا يليق بالمؤمن ولا يليق بالعاقل أن يتشبه بالأنعام، بل يتفهم ويتعلم ويتفقه في الدين، حتى يعرف ما أوجب الله عليه، وما حرم الله عليه، ليحذر مشابهة الأنعام من الإبل والبقر والغنم ونحوها، بل يتعلم ويتفقه في الدين ويسأل. قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3) فأنت مأمور بأن تتفقه في الدين وتتعلم، حتى تعلم ما أوجب الله عليك، وما حرم عليك، حتى تعرف العبادة التي أنت مخلوق لها، وهذه العبادة هي الإسلام، هي دين الإسلام، هي الإيمان والهدى، هي
__________
(1) سورة سبأ الآية 20
(2) سورة الفرقان الآية 44
(3) سورة النحل الآية 43(23/318)
طاعة الله ورسوله، هي البر والتقوى، هذه هي العبادة بينها سبحانه في مواضع أخرى. قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (2) وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} (3) وقال: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (4) وقال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (5) وقال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (6) فعلم لهذا أن هذه العبادة التي أنت مخلوق لها يا عبد الله هي الإسلام، وهي الإيمان والهدى، وهي طاعة الله ورسوله، وهي البر والتقوى، وحقيقة الأمر أن العبادة هي التوحيد لله والإخلاص له وأداء فرائضه وترك محارمه والوقوف عند حدوده، هذه هي العبادة التي أنت مخلوق لها، وأنت مأمور بها، وبعث الله بها الرسل وأنزل بها الكتب كما قال جل وعلا: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (7) {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} (8)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19
(2) سورة النساء الآية 136
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة النجم الآية 23
(5) سورة البقرة الآية 189
(6) سورة الانفطار الآية 13
(7) سورة هود الآية 1
(8) سورة هود الآية 2(23/319)
وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (1) {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (2) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (3) وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) فالواجب على جميع المكلفين من الرجال والنساء، من الجن والإنس، من العرب والعجم، أن يتعلموا دين الله، ويتفقهوا في هذه العبادة التي خلقوا لها، وهي الإسلام، وهي الإيمان والهدى، وهي توحيد الله وطاعته، عليهم أن يتفقهوا ويتعلموا من طريق القرآن الكريم والسنة المطهرة، فالقرآن هو أصل كل خير، وهو أصدق كتاب وأعظم كتاب، وأشرف كتاب، فالواجب التفقه فيه والتدبر والتعلم. قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (5) قال جل وعلا: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (6) وقال
__________
(1) سورة الزمر الآية 1
(2) سورة الزمر الآية 2
(3) سورة الزمر الآية 3
(4) سورة الأنعام الآية 155
(5) سورة محمد الآية 24
(6) سورة إبراهيم الآية 52(23/320)
عز وجل: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} (1) وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (3) فأنت يا عبد الله مأمور بتدبر القرآن، والتفقه في القرآن، والتعلم حتى تعرف ما أوجب الله عليك، وما حرم الله عليك، وأنت أيضا مأمور باتباع السنة وتعظيمها، والتفقه فيها، وهي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وتقريراته، أنت مأمور بها وهي الحكمة، والله أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم الكتاب والحكمة وهي السنة، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (4) وقال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (5) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (6)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 155
(2) سورة ص الآية 29
(3) سورة الأنعام الآية 19
(4) سورة النساء الآية 80
(5) سورة الحشر الآية 7
(6) سورة النساء الآية 59(23/321)
قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (1) فأنت يا عبد الله مأمور بطاعة الله، وطاعة رسوله، ولا سبيل إلى هذا إلا بالتفقه والتعلم، حتى تعرف ما يجب عليك، وما يحرم عليك، وما شرعه الله لك، وما نهاك عنه، لتعبد ربك على بصيرة، وأعظم ذلك وأساس ذلك شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، هاتان الشهادتان هما أصل الدين، هما أساس الملة، وأول شيء دعا إليه الرسول هو توحيد الله جل وعلا، أول ما دعت الرسل إليه توحيد الله أن يقول العباد: لا إله إلا الله وأول شيء دعا به نبينا صلى الله عليه وسلم قومه أن يقولوا: لا إله إلا الله وأن يؤمنوا به ويصدقوه، فهاتان الشهادتان هما أصل الدين، هما أساس الملة أن تشهد أنه لا إله إلا الله صدقا من قلبك، والمعنى: أنه لا معبود بحق إلا الله وأن تشهد أن محمدا رسول الله، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب هو رسول الله حقا، تشهد عن علم، عن يقين، وعن صدق أنه رسول الله. هاتان الشهادتان هما أصل الدين، هما أساس الملة، فلا إسلام
__________
(1) سورة النساء الآية 59(23/322)
ولا إيمان ولا تقوى ولا بر إلا بهاتين الشهادتين لا بد أن يقولها عن علم وعن يقين وعن صدق، أما إذا قالها عن غير صدق صار منافقا، فالمنافقون الذين قال فيهم سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (1) لم يقولوها عن صدق، فالمنافق قالها بلسانه وكذبها بقلبه، فعليك أن تخالف المنافقين وأن تشهد شهادة جازمة عن علم ويقين وصدق أنه لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله، وأن محمدا هو عبد الله ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق إلى الناس أجمعين، كما قال سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (3) وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (4) وقال جل وعلا: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (5) فأنت يا عبد الله مأمور بأداء هاتين الشهادتين عن صدق وعن إخلاص
__________
(1) سورة النساء الآية 145
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) سورة سبأ الآية 28
(4) سورة الأنبياء الآية 107
(5) سورة الفرقان الآية 1(23/323)
وعن عمل بمقتضاهما من توحيد الله والإخلاص له والإيمان به وتخصيصه بالعبادة على الطريقة والمنهج الذي جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، فالعمل لا بد فيه من شرطين:
أحدهما: الإخلاص لله.
والثاني: الموافقة لشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم كل عبادة لا بد فيها من هذا، من صلاة وحج وصوم وغير ذلك، عليك أن تخلصها لله، وعليك أن تكون فيها متابعا لما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (1) ومكث النبي صلى الله عليه وسلم في قومه عشر سنين في مكة يدعوهم لهذه الكلمة إلى توحيد الله والإيمان برسوله قبل فرض الصلاة وغيرها بقوله: «يا قومي قولوا لا إله إلا الله وتوبوا إليه (2) » في هذه البلدة يدعو قريشا وغيرهم أن يقولوا: لا إله إلا الله، فآمن القليل واستكبر الأكثرون ثم فرض الله عليهم الصلوات الخمس في مكة قبل الهجرة فصلاها في مكة ثلاث سنين، ثم هاجر إلى المدينة عليه الصلاة والسلام،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31
(2) أخرجه أحمد برقم (15448) مسند المكيين، باب حديث ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه ولفظه: '' يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ''(23/324)
وبهذا يعلم المكلف، يعلم العاقل أن هذا الدين يحتاج إلى التعلم والتفقه في الدين، وأن الدعوة لا تنفع إلا بهذا لا بد من علم ويقين وصدق، فدعوة الإسلام ودعوة الإيمان ودعوة التوحيد ودعوة المتابعة لا تنفع إلا بصدق، إلا بعلم وعمل، فعليك أن تعلم، وأن تفقه في الدين، وأن تعمل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منهي دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله (1) » ويقول: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها (2) » وحقها أداء فرائض الله وترك محارمه، هذا حق لا إله إلا الله الصلاة، الزكاة، الحج، الصيام، فعل كل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه، كل ذلك من حق لا إله إلا الله، وقد بين
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (24) كتاب الإيمان، باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، ومسلم برقم (29) كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.
(2) أخرجه مسلم برقم (33) كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.(23/325)
صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام أنها خمسة وهي أركانه الظاهرة فقال: «بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت (1) » هذه هي أركان الإسلام الظاهرة، وكل أعمال الدين داخلة في الإسلام، كلها تابعة هذه الأركان من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترك المعاصي وغير هذا بما أمر الله به كله داخل في الإسلام، لكن أركانه الظاهرة خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والصلوات الخمس، والزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وبين صلى الله عليه وسلم أركان الإيمان لما سأله جبرائيل عن الإيمان قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره (2) » فهذه أركان الإيمان، أركان الدين الباطنة ستة: الإيمان بالله، وأنه ربك ومعبودك الحق، رب العالمين الخلاق العليم، والإيمان بالملائكة
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (7) كتاب الإيمان، باب بني الإسلام على خمس، ومسلم برقم (22) كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإسلام ودعائه العظام.
(2) أخرجه مسلم من حديث عمر المشهور برقم (9) كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان.(23/326)
وأنهم عباد الله خلقهم الله من النور فهم في طاعته لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون عليهم الصلاة والسلام، وساداتهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، وجبرائيل هو السفير بين الله وبين الرسل.
ويلي الإيمان بهم الإيمان بالكتب، كتب الله المنزلة للأنبياء. الله أنزل كتبا على الأنبياء لتؤمنوا بها وأن الله أنزل كتبا تدعو إلى توحيده وطاعته منها التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، والقرآن أشرفها وأعظمها وهو خاتمتها، أنزله الله على خاتم الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام.
وهكذا تؤمن بالرسل كلهم عليك أن تؤمن بأن الله أرسل الرسل إلى العباد يدعونهم إلى توحيد الله، يدعونهم إلى طاعة الله ورسله، أولهم نوح أرسله الله إلى الأرض بعد ما وقع فيها الشرك، وقبله آدم عليه الصلاة والسلام أرسل إلى ذريته يدعوهم إلى توحيد الله وطاعة الله، ثم لما وقع الشرك أرسل الله نوحا إلى قومه فهو أول رسول بعدما وقع الشرك لأهل الأرض، وهكذا هود وصالح ولوط وشعيب وموسى وهارون وعيسى وغيرهم وداود وسليمان، رسل أرسلهم الله مبشرين ومنذرين دعوتهم واحدة {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1)
__________
(1) سورة النحل الآية 36(23/327)
دعوتهم واحدة يدعون إلى توحيد الله وطاعة الله وينهون عن الشرك بالله عز وجل، وتؤمن باليوم الآخر أيضا وهو البعث بعد الموت لا بد من قيامة، لا بد من بعث، بعد الموت، هذه الدار دار الغرور ليست دار إقامة ولا دار متاع، بل دار غرور {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (1) بعدها الموت، وبعدها الجزاء والحساب فأنت يا عبد الله أمامك أمر عظيم، أمامك اليوم الآخر، أمامك الجزاء والحساب والجنة والنار، وأنت مخلوق في هذه الدار، لتعد العدة للانتقال إلى دار النعيم، فعليك أن تعد العدة لذلك، واحذر أن تعد العدة لدار الهوان، للجحيم، دار النعيم أعدها الله للمتقين، ودار الجحيم أعدها الله للكافرين، وهذه الدار هي دار العمل هي المزرعة، والآخرة هي دار الجزاء فاليوم الآخر يوم البعث والنشور، يبعث الناس من قبورهم، ومن كل مكان، من بطون البحار، ومن كل مكان، فيجمعهم الله جل وعلا، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (2) ويقول جل
__________
(1) سورة آل عمران الآية 185
(2) سورة التغابن الآية 9(23/328)
وعلا: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} (1) يعني البعث بعد الموت، فيجمع الله الخلائق جنهم وإنسهم عربهم وعجمهم ذكورهم وإناثهم، يجمعهم الله في صعيد واحد، ويجازيهم بأعمالهم ويحاسبون، هذا يثقل ميزانه، وهذا يخف ميزانه، وهذا يعطى كتابه بيمينه، وهذا يعطى كتابه بشماله، فأنت يا عبد الله على خطر، فالواجب الإعداد لهذا اليوم، والإعداد هو: تقوى الله وطاعة الله ورسوله وتوحيد الله والإيمان به واتباع الرسول عليه الصلاة والسلام هذا هو الإعداد، العدة: تقوى الله وطاعته واتباع رسوله والانقياد لضرعه، ثم الركن السادس هو الإيمان بالقدر أن تؤمن بأقدار الله، وأن الله علم الأشياء كلها وقدرها سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (2) ، {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (3) ، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (4) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن
__________
(1) سورة يونس الآية 53
(2) سورة القمر الآية 49
(3) سورة الحج الآية 70
(4) سورة الحديد الآية 22(23/329)
الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماء والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء (1) » تؤمن بالقدر، وأن الله قدر الأشياء، وعلم ما الناس عاملون، علم أهل الجنة وأهل النار، فاحذر يا أخي التساهل واحذر الإعراض والغفلة واستحضر وقوفك بين يدي الله وأنت ملاق ربك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} (2) أنت ملاق ربك فاستعد لهذا اللقاء بتوحيد الله وطاعته واتباع شريعته وتعظيم أمره ونهيه، وتذكر قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3) وتذكر أنك ملاق ربك، وأنك مجاز بعملك إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فلا تغفل ولا تتبع الهوى ولا تطع الشيطان، احرص أن تكون من القليل الناجين واحذر أن تكون من الكثير الهالكين {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (4)
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (4797) كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام.
(2) سورة الانشقاق الآية 6
(3) سورة الذاريات الآية 56
(4) سورة سبأ الآية 20(23/330)
{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (1) لا بد من جد ونشاط وصدق وصبر ومصابرة وضراعة إلى الله، لتفزع إلى الله، وتسأله أن يعينك وأن يمنحك التوفيق وأن يهديك صراطه المستقيم، أنت في أشد الضرورة إلى ربك ليس الأمر بيدك الأمر بيد الله. قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (2) ، {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (3) الهداية هداية التوفيق وقبول الحق، هذه بيد الله عز وجل ليس بيد أحد من الناس، أما هداية البلاغ والبيان فهذه بيد الرسل وأتباعهم. الهداية بمعنى البلاغ والبيان، هذه بيد الرسل، فالرسل هم الهداة إلى صراط الله المستقيم. قال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (4) يعني: تدل وترشد الناس، وهكذا العلماء والدعاة يرشدون ويهدون إلى الصراط المستقيم بالبلاغ بالبيان والدعوة والإرشاد،
__________
(1) سورة يوسف الآية 103
(2) سورة البقرة الآية 272
(3) سورة القصص الآية 56
(4) سورة الشورى الآية 52(23/331)
أما الهداية بمعنى: التوفيق والرضى بالحق وقبوله، فهي بيد الله سبحانه وتعالى هو الذي يهدي من يشاء، ويوفق من يشاء، فاضرع إلى الله دائما وأسأله أن يهديك إلى صراطه المستقيم، وأن يعينك على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يمنحك التوفيق لكل ما يرضيه، وأن يعيذك من شر نفسك وهواك وشيطانك، هو الذي يهدي من يشاء بيده الهداية بيده التوفيق، فاضرع إليه دائما واسأله دائما في جميع الأوقات، وفي سجودك، وفي آخر الصلاة، وفي جوف الليل، وفي آخر الليل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء (1) » فالدعاء في السجود يرجى قبوله، فينبغي لك يا عبد الله أن تجتهد في الدعاء في سجودك، ولما علم أصحابه التحيات عليه الصلاة والسلام قال: «ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعوه (2) » وقال صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (744) كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود.
(2) أخرجه البخاري برقم (791) كتاب الأذان، باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد، ومسلم برقم (609) كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة.(23/332)
ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له حتى ينفجر الفجر (1) » ينزل نزولا يليق بجلاله لا يشابه خلقه في شيء من صفاته، نزولا لا يعلم كيفيته إلا هو سبحانه وتعالى، كما أنه استوى على العرش، استواء يليق بجلاله لا يشابه خلقه في شيء من صفاته. قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) فهو سبحانه فوق العرش، وعلمه في كل مكان، وينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة كما يشاء حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: «من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له (3) » وفي اللفظ الآخر: «هل من داع فيستجاب له، هل من تائب فيتاب عليه، هل من سائل فيعطى سؤله؟ حتى ينفجر الفجر (4) » فاضرع إلى
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (1077) كتاب الجمعة، باب الدعاء في الصلاة في آخر الليل، ومسلم برقم (1261) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة.
(2) سورة طه الآية 5
(3) صحيح البخاري الجمعة (1145) ، صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها (758) ، سنن الترمذي كتاب الدعوات (3498) ، سنن أبو داود الصلاة (1315) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) ، مسند أحمد بن حنبل (2/265) ، موطأ مالك النداء للصلاة (496) ، سنن الدارمي كتاب الصلاة (1479) .
(4) أخرجه مسلم برقم (1265) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل.(23/333)
الله يا أخي في هذه الأوقات، اضرع إلى ربك واسأله من فضله في سجودك وفي جوف الليل وفي آخر الليل وفي آخر الصلاة. اضرع إلى الله واسأله التوفيق والهداية، واسأله أن يعلمك ما ينفعك وأن يعيذك من شر شيطانك ونفسك الأمارة بالسوء، وأن يثبتك على الحق والإيمان، اضرع إلى الله دائما فإنه (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء) فاجتهد في الدعاء، والله يقول سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1) ويقول سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (2) فأنت مأمور بالدعاء وموعود بالإجابة، فأحسن ظنك بربك، واضرع إليه دائما في كل وقت، في بيتك وفي الطريق وفي المسجد في الصلاة وفي غير ذلك، وتحر أوقات الإجابة لعله يستجاب لك، كوقت السجود، في آخر الليل، في جوف الليل، في آخر الصلاة، في آخر ساعة من يوم الجمعة، وأنت تنتظر الصلاة، وقت جلوس الإمام على المنبر يوم الجمعة إلى أن تقضى الصلاة، كل هذه من أوقات الإجابة، فأنت تنوي وتلتمس أوقات
__________
(1) سورة البقرة الآية 186
(2) سورة غافر الآية 60(23/334)
الإجابة، وفي كل وقت، تدعو ربك في كل وقت ترجوه تحسن الظن به سبحانه وتعالى لا تمل الدعاء مع الجد مع طاعة الله مع المسارعة إلى ما يرضيه مع الحذر من مساخطه جل وعلا، هذا هو الواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس من الرجال والنساء، الواجب على الجميع الاستقامة على طاعة الله، الاستقامة على أداء ما أوجب الله وعلى ترك ما حرم الله والحذر مما يغضب الله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} (1) يعني: ثبتوا على الحق حتى الموت {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (2) {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (3) {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (4) هذا جزاء أهل الاستقامة أهل الثبات على الحق قالوا وعملوا، خلاف من يقول ولا يعمل فقد ذمهم الله وتوعدهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (5) {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (6)
__________
(1) سورة فصلت الآية 30
(2) سورة فصلت الآية 30
(3) سورة فصلت الآية 31
(4) سورة فصلت الآية 32
(5) سورة الصف الآية 2
(6) سورة الصف الآية 3(23/335)
ويقول سبحانه: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (1) خطر عظيم فالواجب على العاقل، على المكلف، على كل رجل وامرأة، على الجميع الرجال والنساء، على الجن والإنس الصدق في القول والعمل، الثبات على الحق والاستقامة عليه حتى الموت، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يمنحنا وإياكم الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ومن مضلات الفتن، كما نسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم، كما نسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا في هذه المملكة لكل خير، وأن ينصر بهم الحق، وأن يكثر أعوانهم على الخير، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يجعلنا وإياهم وإياكم من الهداة المهتدين إنه سبحانه وتعالى سميع قريب، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
__________
(1) سورة البقرة الآية 44(23/335)
139 - التفقه في الدين
وتعلم العلم الشرعي من أهم الواجبات (1)
سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - مفتي عام المملكة عن أهمية العلم الشرعي المبني على الكتاب والسنة، فأجاب سماحته قائلا:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصحبه ومن اهتدى بهداه. . أما بعد:
فمن المعلوم عند جميع المسلمين، وعند أهل العلم بالأخص أن التفقه في الدين وتعلم العلم الشرعي من أهم الواجبات، ومن أهم الفروض لعبادة الله جل وعلا خلق الخلق ليعبدوه وأرسل الرسل لذلك وأمر العباد بذلك، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (3) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (4)
__________
(1) نشر في جريدة الندوة العدد رقم (12080) بتاريخ 4 \ 4 \ 1419 هـ.
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة البقرة الآية 21
(4) سورة النحل الآية 36(23/337)
ولا سبيل لمعرفة هذه العبادة ولا الطريق إليها إلا بالعلم. . كيف يعرف هذه العبادة التي هو مأمور بها إلا بالعلم. . والعلم إنما هو من كلام الله ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والعلم قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس العلم بالتهجس والرأي والتخرص، وإنما مأخوذ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بواسطة الأحاديث ونقل العلماء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فالواجب على المسلم أن يتعلم ويتفقه في الدين، وهكذا المسلمة حتى يتعلم كيف يعبد ربه، وكيف يؤدي ما أوجب الله عليه، وكيف يتجنب ما حرم الله عليه؛ ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » متفق على صحته.
ويقول عليه الصلاة والسلام: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (2) » ويقول عليه الصلاة والسلام: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (3) » .
فالواجب على جميع المكلفين من الرجال والنساء التعلم والتفقه في الدين عن طريق القرآن والسنة وسؤال أهل العلم والتبصر.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(3) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .(23/338)
قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) فالذي عنده قدرة وعنده علم يأخذ من كتاب الله ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي ليس عنده قدرة ولا علم يسأل أهل العلم، ولا يجوز السكوت على الجهل والإعراض والغفلة، بل يجب أن يتعلم ويتفقه في الدين ويتبصر حتى يؤدي الواجب كيف يصلي، كيف يصوم، كيف يبيع، كيف يشتري، وهكذا يعرف المحرمات التي حرمها الله حتى يحذرها، ومعلوم أن هناك أشياء معروفة من الدين بالضرورة، ويعرف أن الله أوجب عليه الصلاة، فالمسلم يعرف هذا، وأن الله أوجب الزكاة وأوجب صيام رمضان وأوجب الحج مع الاستطاعة، هذه أمور معروفة، ولكن يتفقه فيها وكيفية كل منها، كذلك من المعروف أن الزنا وشرب المسكر والسرقة من المحرمات، والشرك معلوم أنه من أعظم الذنوب، ولكن يتعلم ما هو الشرك وما هي تفاصيله كذلك يحذر الزنا وأسبابه، ويحذر المسكرات واجتناب أهلها، يحذر الربا وأنواعه ويتبصر فيه ويحذر الغيبة والنميمة، ويتعلم ماهية كل منهما حتى يدع ما حرم الله.
__________
(1) سورة النحل الآية 43(23/339)
على بصيرة؛ لأنه مأمور بأداء الفرائض وترك المحارم. . والله يقول: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (1) فالعبادة لله توحيده وطاعة أوامره وترك نواهيه.
وهكذا قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} (2) الآية يعني بطاعة أوامره وترك نواهيه والإخلاص له، وهذا يعم جميع الدين، وما علمكم إياه وأمركم به التزموا به إن كان أمرا بالفعل وإن كان نهيا بالترك.
هذا هو الواجب على جميع المسلمين المكلفين أن يمتثلوا لأمر الله وأمر رسوله وأن يحذروا ما نهى الله عنه ورسوله، وبهذا يؤدون العبادة التي خلقوا لها، فالواجب التعلم والتبصر والتفقه في الدين وعدم التشبه بالكفار، نسأل الله العافية والسلامة.
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) سورة البينة الآية 5(23/340)
140 - مسئولية طالب العلم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة النساء الآية 1(23/341)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (1) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (2)
أما بعد: أيها الإخوة في الله. . أيها الأبناء الكرام. . فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء، وأسأله سبحانه أن يجعله لقاء مباركا، وأن ينفعنا به جميعا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يهدينا جميعا سواء السبيل. فنعم الله لا تحصى، وفضله لا يستقصى، فهو المنعم بكل النعم، كما قال سبحانه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (3) وقال عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (4)
فنشكره سبحانه ونسأله المزيد من فضله لنا ولكم ولجميع المسلمين في كل مكان.
أيها الإخوة في الله، أيها الأبناء الأعزاء، سمعتم عنوان الكلمة وهي: مسئولية طالب العلم في المجتمع، فالموضوع موضوع
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 70
(2) سورة الأحزاب الآية 71
(3) سورة النحل الآية 53
(4) سورة النحل الآية 18(23/342)
عظيم، ومسئولية طالب العلم مسئولية كبيرة، وهي متفاوتة على حسب ما عنده من العلم، وعلى حسب حاجة الناس إليه، وعلى حسب قدرته وطاقته.
فهناك مسئولية من جهة نفسه: من جهة إعداد هذه النفس للتعليم والدعوة، وأداء الواجب، ومن جهة العناية بالعلم والتفقه في الدين، ومراجعة الأدلة الشرعية، والعناية بها، فإن طالب العلم بحاجة شديدة إلى أن يكون لديه رصيد عظيم من الأدلة الشرعية، والمعرفة بكلام أهل العلم وخلافهم، ومعرفة بالراجح في مسائل الخلاف بالدليل من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بدون تقليد لزيد وعمرو، فالتقليد كل يستطيعه، وليس من العلم في شيء. قال الإمام أبو عمر ابن عبد البر الإمام المشهور صاحب التمهيد وغيره: (أجمع العلماء على أن المقلد لا يعد من العلماء) . فطالب العلم عليه مسئولية كبيرة ومفترضة، وهي أن يعنى بالدليل، وأن يجتهد في معرفة براهين المسائل، وبراهين الأحكام من الكتاب العزيز والسنة المطهرة، ومن القواعد المعتبرة. . وأن يكون على بينة كبيرة، وعلى صلة وثيقة بكلام العلماء، فإن معرفته بكلام أهل العلم تعينه على فهم الأدلة، وتعينه على استخراج الأحكام، وتعينه على التمييز بين الراجح والمرجوح.(23/343)
ثم عليه مسئولية أخرى من جهة الإخلاص لله سبحانه، ومراقبته وأن يكون هدفه إرضاءه عز وجل، وأداء الواجب وبراءة الذمة، ونفع الناس، فلا يهدف إلى مال وعرض عاجل، فذلك شأن المنافقين وأشباههم من أهل الدنيا، ولا يهدف للرياء والسمعة، ولكن هدفه أن ينفع عباد الله، وأن يرضي ربه قبل ذلك، وأن يكون على بينة فيما يقول، وفيما يفتي به، وفيما يعمل به، ولا يجوز له التساهل، لأن طالب العلم متبع متأسى بتصرفاته وأعماله.
فإن كان مدرسا تأسى به الطلبة، وإن كان مفتيا أخذ الناس فتواه، وإن كان داعية كذلك خطره عظيم، وإن كان قاضيا فالأمر أعظم.
فالواجب على طالب العلم أن يكون له موقف مع ربه، موقف يرضاه مولاه، موقف يشتمل على الإخلاص لله، والصدق في طلب رضاه، والحرص الذي لا حدود له، في معرفة الأدلة الشرعية، والتفتيش عنها حتى يقف على الدليل، وبذلك تنفسح أمامه الدنيا، ويفتي على بصيرة، ويدعو إلى الله على بصيرة، ويعلم الناس على بصيرة، ويأمر بالمعروف على بصيرة، وينهى عن المنكر(23/344)
على بصيرة، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (1) وقد فسرت البصيرة بالعلم.
أما من ليس له بصيرة، فلا يعد من أهل العلم، ولا ينفع الناس، لا في دعوة ولا في غيرها من جهة أمور الدين، أعني النفع الحقيقي المثمر، وإن كان قد ينفع بعض الناس بنصيحة يعرفها، أو مسألة يحفظها، أو مساعدة مادية يقدمها.
ولكن النفع الحقيقي من طالب العلم، يترتب على صدقه وإخلاصه، وعلى كثرة علمه، وتمكن فقهه، وعلى صبره ومصابرته.
وهناك مسألة مهمة، وهي المسئولية الملقاة على طالب العلم من جهة البلاغ والتعليم للناس، فإن العلماء هم خلفاء الرسل، وهم ورثتهم، ولا يخفى مرتبة الرسل، وأنهم هم القادة، وهم الهداة للأمة، وهم أسباب سعادتها ونجاتها، فالعلماء حلوا محلهم، ونزلوا منزلتهم في البلاغ والتعليم؛ لأنهم ختموا بمحمد عليه الصلاة والسلام، فلم يبق إلا البيان والتبليغ لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، والدعوة إليها وبيانها ونشرها بين الناس، وليس لذلك أهل إلا أهل العلم، هم الذين أهلهم الله لهذا الأمر دعاة وقادة بأقوالهم وأفعالهم وسيرتهم الظاهرة والباطنة.
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(23/345)
فواجبهم عظيم، والخطر عليهم عظيم، والأمة في ذمتهم، لأنها بأشد الحاجة إلى البلاغ والبيان بالطرق الممكنة.
والطرق اليوم كثيرة: منها وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية. . فلها آثارها العظيمة في إضلال الناس، وفي هدايتهم. . وهكذا الخطب في الجمع والأعياد والمناسبات والندوات، والاحتفالات لأي سبب، لها أثرها أيضا. والنشرات المستقلة والمؤلفات والرسائل لها أثرها العظيم.
فالطرق بحمد الله اليوم ميسرة وكثيرة، وإنما المصيبة ضعف الطالب، وقلة نشاطه، وإعراضه وغفلته. . هذه هي المصيبة العظمى. . فالله يقول عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1)
فليس في الوجود من هو أحسن قولا من هؤلاء، وعلى رأسهم الرسل الكرام والأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، ثم يليهم أهل العلم.
فكلما كثر العلم، وكملت التقوى والخوف من الله عز وجل، والإخلاص له سبحانه صار النفع أكثر، وصار التبليغ عن الله - وعن رسوله أكمل. وكلما ضعفت التقوى، أو قل العلم، أو
__________
(1) سورة فصلت الآية 33(23/346)
قل الخوف من الله، أو بلي العبد بمشاغل الدنيا والشهوات العاجلة قل هذا العلم، وقل هذا الخير. يقول سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1)
بين سبحانه أن مهمة النبي الدعوة إلى الله على بصيرة، وأمره أن يبلغ الناس ذلك، (قل) أي: قل يا أيها الرسول للناس (هذه سبيلي) أي هذه التي أنا عليها، هذه الشريعة وهذه الطريقة التي أنا عليها من القول والعمل هي سبيلي، وهي منهجي وطريقي إلى الله.
فوجب على أهل العلم أن يسيروا على الطريق الذي سلكه المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهو الدعوة إلى الله على بصيرة. فذلك سبيله وسبيل أتباعه أيضا.
فلا يكون العبد من أتباعه على الحقيقة وعلى الكمال إلا إذا سلك ذلك المسلك، فمن دعا إلى الله على بصيرة، وتبرأ من الشرك، واستقام على الحق، فهو من أتباعه عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال بعدها: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2)
فالداعي إلى الله الصادق في الدعوة هو المتبع للرسول على بصيرة، وعلى علم وليس بالكذب والقول على الله بغير علم
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة يوسف الآية 108(23/347)
تعالى الله عما لا يليق به - مع وصفه سبحانه بصفات الكمال، وتنزيهه عن مشابهة خلقه، وتوحيده والإخلاص له، والبراءة من الشرك وأهله.
والداعي إلى الله يجب أن يوحد الله، ويستقيم على شريعته، مع تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين، ووصفه سبحانه بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وتنزيهه عن صفات النقص والعجز، وإثبات أسمائه الحسنى، وصفاته العلا الكاملة له جل وعلا التي جاء بها كتابه العظيم، أو جاءت بها سنة رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم إثباتا يليق بجلاله وعظمته، بلا تمثيل، وتنزيها له سبحانه بلا تعطيل.
فيثبت العبد صفات الله وأسماءه إثباتا كاملا، ليس فيه تمثيل، ولا تشبيه، وينزه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين في جميع صفاته، تنزيها بريئا من التعطيل.
فهو يسمي الله بأسمائه الحسنى، ويصف الله بصفاته العلا الواردة في الكتاب العظيم، والسنة الصحيحة، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ولا زيادة ولا نقصان، فهو متبع لا مبتدع، سائر على النهج القويم، الذي سلكه الرسل، وسلكه أتباعهم بإحسان، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضي الله عنهم من بعده، ثم أتباعهم بإحسان،(23/348)
وعلى رأسهم الأئمة المشهورون بعد الصحابة: كالإمام مالك بن أنس، والإمام محمد بن إدريس الشافعي، والإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت، والإمام أحمد بن محمد بن حنبل، والإمام الأوزاعي، والإمام سفيان الثوري، والإمام إسحاق بن راهويه، وغيرهم من أئمة العلم والهدى، الذين ساروا على النهج القويم، في إثبات أسماء الله وصفاته، وتنزيه الله عن مشابهة خلقه.
ثم طالب العلم بعد ذلك حريص جدا أن لا يكتم شيئا مما علم، حريص على بيان الحق والرد على الخصوم لدين الإسلام، لا يتساهل ولا ينزوي، فهو بارز في الميدان دائما حسب طاقته، فإن ظهر خصوم للإسلام - يشبهون ويطعنون - برز للرد عليهم كتابة ومشافهة وغير ذلك لا يتساهل ولا يقول هذه لها غيري، بل يقول: أنا لها. . أنا لها. . ولو كان هناك أئمة آخرون يخشى أن تفوت المسألة، فهو بارز دائما لا ينزوي، بل بارز في الوقت المناسب لنصر الحق، والرد على خصوم الإسلام بالكتابة وغيرها. . من طريق الإذاعة، أو من طريق الصحافة، أو من طريق التلفاز، أو من أي طريق يمكنه، وهو أيضا لا يكتم ما عنده من العلم، بل يكتب ويخطب، ويتكلم ويرد على أهل البدع، وعلى غيرهم من(23/349)
خصوم الإسلام بما أعطاه الله من قوة، حسب علمه وما يسر الله له من أنواع الاستطاعة. . قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (1) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2)
فينبغي أن نقف عند هاتين الآيتين وقفة عظيمة: فربنا حذر من كتمان العلم وتوعد على ذلك، ولعن من فعل ذلك، ثم بين الله أن لا سلامة من هذا الوعيد، وهذا اللعن إلا بالتوبة والإصلاح والبيان، التوبة مما مضى من التقصير والذنوب، وإصلاح للأوضاع التي يستطيع إصلاحها من نفسه وبنفسه، وبيان لما لديه من العلم الذي قد يقال إنه كتمه، أو فعلا قد كتمه لحظ عاجل، أو تأويل باطل، ثم من الله عليه بالهدى فلا توبة إلا بهذا البيان، ولا نجاة إلا بهذه التوبة، وهي تشتمل: على الندم على ما مضى من التقصير واقتراف الذنب وإقلاع، وترك لهذا الذنب خائفا من ربه عز وجل، حذرا من عقابه.
وشرط ثالث وهو العزم الصادق بأن لا يعود فيه ثانية، ثم بيان مع ذلك وإصلاح، لأنه قد يتوب ولا يعلم الناس توبته، فإذا
__________
(1) سورة البقرة الآية 159
(2) سورة البقرة الآية 160(23/350)
أظهر ذلك وبينه للناس برئت ذمته وصحت توبته، وهنا أمر آخر يتعلق بطالب العلم أمام الله سبحانه أولا، ثم بعد هذا أمام إخوانه وزملائه ومجتمعه، وهو أن يتقي الله في نفسه. . فكلما علم شيئا بادر بالعمل لا يتساهل: يعلم ويعمل. لا بد من العلم، ولا بد من العمل، فهو يحاسب نفسه أبدا، ويجتهد في تطبيق أحكام الله على نفسه، الواجب واجب، والمستحب مستحب، حتى يمثل العلم في أخلاقه وأعماله وسيرته، وحلقات علمه وخطبه وأسفاره وإقامته في البر والبحر والجو، بل في كل مكان، لأن هذا الأمر يهمه ويحرص على أن يأخذ عنه إخوانه وزملاؤه وطلبته، ليعطيهم مما لديه من العلم: من قول وعمل. . وهكذا كان نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام، كانت دعوته كاملة في القول والعمل، فسيرته أحسن السير، وكلامه أطيب الكلام بعد كلام الله عز وجل، وأخلاقه أحسن الأخلاق، كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) وكان خلقه القرآن كما قالت عائشة رضي الله عنها. يأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهية، ويتأدب بآدابه، ويعتبر بما فيه من الأمثال والقصص العظيمة، ويدعو الناس إلى ذلك.
__________
(1) سورة القلم الآية 4(23/351)
وأهل العلم عليهم أن يتأسوا به عليه الصلاة والسلام في هذا الخلق العظيم، وأن يصدقوا الله في أقوالهم وأعمالهم، وأن يبلغوا عن الله أمره ونهيه، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر حسب الطاقة، وأن يبذلوا المستطاع والنصائح لولاة الأمور بالتوجيه والإرشاد والتنبيه. . ولأهليهم ولجيرانهم ولسائر مجتمعهم وللناس جميعا بكل وسيلة حسب الطاقة. لا يجوز التساهل في هذه الأمور ولا سيما في عصرنا هذا لقلة العلماء وانتشار الشرور وكثرة الرذائل والمنكرات في أرجاء الدنيا في الدول الإسلامية وغيرها. وكل ذي بصيرة يعلم ما ينشر في هذا العصر من الشرور العظيمة، في الإذاعات والصحافة، والتلفاز وفي النشرات الأخرى. وفي المؤلفات الداعية إلى النار.
وهذا الجيش المتنوع الذي يدعو إلى طرق النار، يحتاج إلى جيش مثله، وقوة مثله، بل وأكثر منه، هذه الجيران التي يسوقها أعداء الإسلام إلى المسلمين، وهذه الوسائل الخطرة المتنوعة الكثيرة، كلها يسوقها وينشرها أعداء الإسلام إلى المسلمين، وإلى غير المسلمين، لإهلاكهم وقيادتهم إلى النار، وأن يكونوا معهم في أخلاقهم الخبيثة، وسيرتهم الذميمة، وأن يكونوا معهم في النار، لأن(23/352)
قائدهم يريد هذا كما قال الله سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (1)
فلا يليق بطالب العلم أن ينزوي ويقول: حسبي نفسي، لا، فإن عليه واجبات. . حسبه نفسه من جهة عمله أن يعمل. . وعليه واجبات من جهة البلاغ والبيان والدعوة فربنا يقول سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) ويقول سبحانه: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} (3) فالله سبحانه يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة، وأمره له أمر لنا جميعا، ليس المقصود له وحده عليه الصلاة والسلام. . فإذا وجه له الأمر فليس له وحده بل هو له ولنا ولأهل العلم جميعا إلا ما خصه الدليل به.
فعليك يا عبد الله أن تبتعد عن الخمول والانزواء وأن تبلغ أمر الله إلى عباد الله، وعليك أيضا أن تنصح من استطعت نصيحته في كل مكان: أمير القرية، وعالم القرية، وقاضي القرية، وعريف القرية، ومن له شأن في القرية، وفي المدينة وفي القبيلة وفي كل مكان تتصل به اتصالا حسنا، وتناصحة وتوجهه إلى الخير،
__________
(1) سورة فاطر الآية 6
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة الحج الآية 67(23/353)
وتتعاون معه على البر والتقوى بالأساليب الحسنة، بالعظة والتذكر بالكلام الطيب، بالرفق لا بالعنف.
وهكذا مع الإمام الأعظم في الدولة، ومع الوزراء في مسئولياتهم، ومع القضاة ومع الدعاة ومع إخوانك في الله جميعا تتعاون معهم.
هكذا يكون طالب العلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » أخرجه مسلم في صحيحه.
وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم (2) » .
وقال عليه الصلاة والسلام: «نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع (3) » ، وفي
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (82) كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة.
(2) أخرجه البخاري برقم (55) كتاب الإيمان باب الدين النصيحة، ومسلم برقم كتاب الإيمان باب بيان أن الدين النصيحة، ومسلم برقم (83) كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة.
(3) سنن ابن ماجه كتاب المناسك (3056) ، مسند أحمد بن حنبل (4/80) .(23/354)
لفظ: «رب حامل فقه ليس بفقيه (1) » وفي لفظ: «ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه (2) » .
وقال في إحدى خطبه عليه الصلاة والسلام: «فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع (3) » ، والناس بخير ما تعاونوا على البر والتقوى، مع ملوكهم وأمرائهم، ومع قضاتهم ومع الدعاة إلى الله، ومع جميع المسلمين، لكن مع مراعاة الأساليب الحسنة، والرفق والحكمة، وقد جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (4) » رواه مسلم في الصحيح عن جرير بن عبد الله، وعن عائشة رضي الله عنها.
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2656) ، سنن أبو داود العلم (3660) ، مسند أحمد بن حنبل (5/183) .
(2) الحديث أخرجه الترمذي برقم (2582) كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، وابن ماجه برقم (232) المقدمة، باب من بلغ علما، وأحمد برقم (16153) أول مسند المدنيين رضي الله عنهم أجمعين، حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه.
(3) أخرجه ابن ماجه برقم (5124) المقدمة، باب من بلغ علما.
(4) أخرجه مسلم برقم (4695) كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق.(23/355)
وفي رواية له عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه (1) » .
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه (2) » ويكفي في هذا قول الله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) وقول الله تبارك وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (4)
وفي قصة موسى وهارون عندما بعثهما الله إلى فرعون يقول الله سبحانه لهما: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (5)
وأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، أن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين إلى ما يرضيه، وأن يسلك بنا جميعا
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (4697) كتاب البر والصلة والآداب باب فضل الرفق.
(2) أخرجه مسلم برقم (4698) كتاب البر والصلة والآداب باب فضل الرفق.
(3) سورة النحل الآية 125
(4) سورة آل عمران الآية 159
(5) سورة طه الآية 44(23/356)
صراطه المستقيم، وأن يرزقنا جميعا العلم النافع، والعمل به، والتأدب بالآداب الشرعية، والخلق العظيم، الذي أثنى الله به على نبيه عليه الصلاة والسلام، ولنذكر قوله عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (1) » .
فالأمر في طلب العلم عظيم، والخطب في التفقه في الدين كبير. ولنذكر أيضا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » رواه الشيخان من حديث معاوية رضي الله عنه، وهذا الحديث العظيم يدلنا على أن التفقه في الدين من الدلائل على أن الله أراد بالعبد خيرا، ومفهومه أن من لم يتفقه في الدين فذلك مخذول لم يرد الله به خيرا. ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونسأله سبحانه أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يتوفانا مسلمين، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يول عليهم خيارهم، ويصلح قادتهم، وأن يكثر بينهم دعاة الهدى، وأن يرزقهم جميعا وفي كل مكان الفقه في دينه، والعمل بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. . والله أعلم وصلى الله وسلم على محمد.
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(23/357)
الأسئلة
السؤال الأول: مما يشاع بين طلاب العلم وخاصة في الكليات والمؤسسات العلمية قولهم: العلم ذهب مع أهله، وأنه لا يوجد أحد يتعلم في المؤسسات العلمية إلا من أجل الشهادات والدنيا، فبماذا يرد عليهم، وما الحكم إذا اجتمع قصد الدنيا والشهادة مع نية طلب العلم لنفع نفسه ومجتمعه؟
الجواب: هذا الكلام ليس بصحيح، ولا ينبغي أن يقال هذا الكلام وأمثاله، ومن قال: هلك الناس فهو أهلكهم.
ولكن ينبغي التشجيع والتحريض على طلب العلم، والتفرغ لذلك، والصبر والمصابرة على ذلك، وحسن الظن بطلبة العلم، إلا من علم منه خلاف ذلك.
ولما حضرت المنية معاذا - فيما يذكر - أوصى من حوله بطلب العلم، وقال: (إن العلم والإيمان مكانهما من أرادهما وجدهما) يعني: مكانها في كتاب الله العظيم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الأمين. . وإنما العالم يقبض بعلمه. . فالعلم يقبض بموت العلماء، لكن لا تزال بحمد الله طائفة على الحق منصورة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بموت(23/358)
العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا (1) » رواه البخاري في صحيحه.
وهذا هو الذي يخاف منه، يخاف أن يتقدم للإفتاء والتعليم الجهلة، فيضلون ويضلون، وهذا الكلام الذي يقال: ذهب العلم، ولم يبق إلا كذا وكذا، يخشى منه التثبيط لبعض الناس، وإن كان الحازم والبصير لا يثبطه ذلك، بل يدفعه إلى طلب العلم، حتى يسد الثغرة.
والفاهم المخلص، والصادق البصير بمثل هذا الكلام لا يثبطه ذلك، بل يتقدم ويجتهد، ويثابر ويتعلم ويسارع لشدة الحاجة للعلم، وليسد الثغرة إلى زعمها هؤلاء القائلون: إنه لم يبق أحد، والحاصل أنه وإن نقص العلم وذهب أكثر أهله، فإنه ولله الحمد لا تزال طائفة على الحق منصورة. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله (2) » فعلينا أن نجتهد في طلب
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (98) كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، ومسلم برقم (4828) كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن.
(2) أخرجه الطبراني في (المعجم الأوسط) ج8 ص200.(23/359)
العلم، وأن نشجع عليه، وأن نحرص على سد الثغرة، والقيام بالواجب في مصرنا وغيره، عملا بالأدلة الشرعية المرغبة في ذلك، وحرصا على نفع المسلمين، وتعليمهم، كما ينبغي أن نشجع على الإخلاص والصدق في طلب العلم، من أراد الشهادة ليتقوى بها على تبليغ العلم والدعوة إلى الخير، فقد أحسن في ذلك، وإن أراد المال ليتقوى به فلا بأس أن يدرس ليتعلم وينال الشهادة التي يستعين بها على نشر العلم، وأن يقبل الناس منه هذا العلم، وأن يأخذ المال الذي يعينه على ذلك، فإنه لولا الله سبحانه ثم المال لم يستطع الكثير من الناس التعلم وتبليغ الدعوة.
فالمال يساعد المسلم على طلب العلم، وعلى قضاء حاجته، وعلى تبليغه للناس، ولما ولى عمر رضي الله عنه أعمالا، أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مالا، قال: أعطه من هو أفقر مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خذ هذا المال فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال، وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه. وما لا فلا تتبعه نفسك (1) » خرجه مسلم في صحيحه.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1731) كتاب الزكاة، باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة.(23/360)
وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم، ورغبهم حتى دخلوا في دين الله أفواجا، ولو كان حراما لم يعطهم، بل أعطاهم قبل الفتح وبعده.
وفي يوم الفتح أعطى بعض الناس على مائة من الإبل، وكان يعطى عطاء من لا يخشى الفقر عليه الصلاة والسلام، ترغيبا في الإسلام ودعوة إليه.
وقد جعل الله سبحانه للمؤلفة قلوبهم حقا في الزكاة، وجعل في بيت المال حقا لهم ولغيرهم من المدرسين والقضاة، وغيرهم من المسلمين. والله ولي التوفيق.(23/361)
السؤال الثاني: ينفر كثير من طلبة العلم من المناصب الدينية، فما هو السبب؟ وهل من نصيحة للحضور، كما يلاحظ أن كثيرا من الطلبة في كليات الشريعة، يبحث بشتى الطرق للتخلص من القضاء، فما نصيحة فضيلتكم لهم؟
الجواب: المناصب الدينية من القضاء والتعليم والفتوى والخطابة، مناصب شريفة ومهمة، والمسلمون في أشد الحاجة إليها. وإذا تخلى عنها العلماء تولاها الجهال، فضلوا وأضلوا، فالواجب على من دعت الحاجة إليه من أهل العلم والفقه في الدين أن يمتثل؛ لأن هذه الأمور من القضاء والتدريس والخطابة والدعوة إلى الله وأشباه ذلك من فروض الكفايات، فإذا تعينت على أحد من(23/361)
المؤهلين وجبت عليه، ولم يجز له الاعتذار منها والامتناع. ثم لو قدر أن هناك من يظن أنه يكفي، وأنها لا تجب عليه هذه المسألة، فينبغي له أن ينظر الأصلح، كما ذكر الله سبحانه عن يوسف عليه الصلاة والسلام، أنه قال لملك مصر: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (1) لما رأى المصلحة في توليه ذلك، طلب الولاية، وهو نبي ورسول كريم، والأنبياء هم أفضل الناس، طلبها للإصلاح: يصلح أهل مصر، ويدعوهم إلى الحق.
فطالب العلم إذا رأى المصلحة في ذلك طلب الوظيفة ورضي بها قضائية أو تدريسا أو وزارة أو غير ذلك. على أن يكون قصده الإصلاح والخير، وليس قصده الدنيا، وإنما يقصد وجه الله، وحسن المآب في الآخرة، وأن ينفع الناس في دينهم أولا، ثم في دنياهم، ولا يرضى أن يتولى المناصب الجهال، والفساق، فإذا دعي إلى منصب صالح يرى نفسه أهلا له، وأن فيه قوة عليه، فليجب إلى ذلك، وليحسن النية، وليبذل وسعه في ذلك ولا يقل: أخشى كذا، وأخشى كذا.
ومع النية الصالحة والصدق في العمل يوفق العبد ويعان على ذلك، إذا أصلح الله نيته وبذل وسعه في الخير وفقه الله.
__________
(1) سورة يوسف الآية 55(23/362)
ومن هذا الباب حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي، أنه قال: يا رسول الله: اجعلني إمام قومي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنا، لا يأخذ على أذانه أجرا (1) » رواه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح.
فطلب رضي الله عنه إمامة قومه؛ للمصلحة الشرعية، ولتوجيههم للخير، وتعليمهم وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، مثلما فعل يوسف عليه الصلاة والسلام.
قال العلماء: إنما نهي عن طلب الأمرة والولاية إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك؛ لأنه خطر، كما جاء في الحديث النهي عن ذلك، لكن متى دعت الحاجة والمصلحة الشرعية إلى طلبها جاز ذلك؛ لقصة يوسف عليه الصلاة والسلام، وحديث عثمان رضي الله عنه المذكور.
__________
(1) أخرجه أحمد برقم (5679) أول مسند المدنين، حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي، والنسائي برقم (666) كتاب الأذان، باب اتخاذ المؤذن الذي لا يأخذ على أذانه أجرا، وأبو داود برقم (447) كتاب الصلاة، باب أخذ الأجر على التأذين، وابن ماجه برقم (977) كتاب إق(23/363)
السؤال الثالث: من أكبر المشكلات التي يعاني منها طالب العلم مشكلة انصراف المجتمع عنه، وعن علمه، فهو(23/363)
لا يشعر بمكانه المناسب له في المجتمع؛ لأن المجتمع المادي في هذا العصر لا يقيس الأشخاص إلا بمقدار الكسب المادي الحاصل من أي عمل، فما هو العلاج في نظر فضيلتكم؟
وكيف يعمل طالب العلم هل يكون في مجتمع خاص يستطيع أن يتعلم ويعيش فيه، أم ماذا يصنع؟ أرجو أن تقدموا لنا النصيحة التي استفدتموها عن شيوخكم، واستفادها شيوخكم عن شيوخهم؟
الجواب: هذا الذي قاله السائل ليس بصحيح، ولكن الصحيح أن العلم يقدم أهل العلم، ويرفع أهله في كل مجتمع. . فلو ذهب إلى أمريكا أو إنجلترا أو فرنسا أو أي مكان لرفعه علمه بين الأقليات الإسلامية، وبين من يدعوهم إلى الله على بصيرة من نفس المشركين، لأنهم سينقادون إلى الحق إذا عرفوه بأدلته الواضحة، وبأخلاق أهله الكريمة.
فالإسلام هو دين الفطرة، وهو دين العدالة والأخلاق، ودين القوة، ودين النشاط، ودين المواساة، ودين كل فضيلة، فطالب العلم الذي يسير على بصيرة، يعرف الأدلة الشرعية، ويعرف أحكام الإسلام، ويعمل بها، مرفوع الرأس أينما كان، ومحترم أينما حل، ولا سيما بين جماعته وأهل بلده إذا(23/364)
عرفوا منه العلم والنصح، والصدق وعدم العجلة التي ليس لها ما يبررها، بل يكون طبيبا حكيما، يدعو إلى الله بالحكمة والرفق. فهذا مرفوع الرأس، ومحترم أينما كان: في قرية أو قبيلة، أو غير ذلك إذا كان متخلقا بالعلم قولا وعملا، مبتعدا عن أخلاق الفساق، والمجرمين.
فإن هذا وأمثاله محبوب عند الله، وعند عباده الصالحين، ما دام يعلم ويعمل، وينصح إخوانه، ويعطف عليهم، ويحرص على نفعهم بعلمه، وأخلاقه، وماله، وجاهه. كما فعل الأنبياء والصالحون.
والقول بأن طالب العلم لا محل له في المجتمع، ولا يلتفت إليه، قول في عمومه باطل، غير موافق للواقع كما بينا.
فطالب العلم البصير بدينه الناصح لله ولعباده مرفوع الرأس، ومحترم أينما كان في الطائرة وفي القطار وفي البر والبحر، وفي أي مكان إذا أخلص لله، وأظهر العلم والدعوة إلى الله، وأحسن إلى الناس بالرفق والكلام الطيب فله البشرى والعاقبة الحميدة، والثناء الحسن من المجتمع، والأجر العظيم من الله عز وجل، كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (1)
__________
(1) سورة يوسف الآية 90(23/365)
وكما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1) وقال جل وعلا يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ثم لو قدر أن بعض الدعاة إلى الله لم يحصل مطلوبة، بل أوذي وامتحن، أليس له قدوة في الرسل الذي أوذوا وامتحنوا وأهانهم الناس بل قتلوا بعضهم؟ فلطالب العلم أسوة فيهم، عليهم الصلاة والسلام وفي تحملهم وصبرهم.
ولو فرضنا أن طالب العلم ما وجد الاحترام بين الناس، فإن ذلك لا يضره؛ لأنه لم يطلب العلم لهذا، وإنما طلب العلم لإنقاذ نفسه من الجهالة، ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فإن قبلوا منه، ورفعوا مكانته فالحمد لله، وإلا فهو على خير، ولو قتلوه أو أهانوه، فله أسوة بالرسل عليهم الصلاة والسلام، وبخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أوذي وأخرج من بلاده مكة إلى المدينة.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 69
(2) سورة هود الآية 49(23/366)
فالداعي إلى الله سبحانه الصادق المخلص له البشرى بالخير والعزة والكرامة، وحسن العاقبة، إذا سلك الطريق السوي. وكان على خلق عظيم وهدى وسيرة حميدة، من غير عنف ولا شدة، ولا دخول فيما لا يعنيه، فإنه على خير عظيم، كما حصل للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ولخاتمهم وأفضلهم، وإمام الدعاة والمجاهدين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ما حصل للتابعين لهم بإحسان. . والله ولي التوفيق.(23/367)
السؤال الرابع: نجد في هذا الزمان فجوة بين العلماء وبين طلاب العلم، وعموم المجتمع، وهذه الفجوة تعتبر مشكلة من المشكلات. . فما هي الحلول التي تراها لهذه المشكلة؟
الجواب: الفجوة تنشأ عن انحراف الطالب أو انحراف العالم الذي ينسب إلى العلم، فإذا كان الطالب رديئا في الصلاة، أو يتظاهر بالمعاصي، أو بالعجلة والشدة، كرهه العلماء، وكرهه الأخيار، فلم يفرحوا بطلبه، وكذلك العالم الفاسق، والعالم المعرض، يكرهه الطلبة الطيبون والمجتهدون في الدعوة إلى الخير، الراغبون في الأجر، فيكون بينهم فجوة، أما العلماء الصالحون، والطلاب الصالحون، فليس بينهم فجوة أبدا، بل بينهم التعاون الصادق في كل خير.(23/367)
ولكن الفجوة بين المنحرف الذي يدعي العلم، وهو مع الفساق والمدخنين، ومع شراب الخمر، ومع المنحرفين عن الصلاة، وأشباه ذلك.
فمن يحب هذا، ومن يقبل منه وهذه أخلاقه، فهو يحتاج إلى دعوة ونصيحة، وعناية وصبر ومصابرة، حتى يستقيم.
فالفجوة جاءت من جهته هو، الذي بعد بأقواله وأعماله عن أهل العلم، وسيرتهم الحميدة، والعالم الذي لا يمثل علمه بالتقوى والسيرة الحميدة، بل هو مع الخرافيين، ومع عباد القبور، ومع الخمارين، ومع أشباههم ليس بعالم، ولا يستحق التقدير، بل يستحق أن يجفوه أهل العلم النافع، والطلبة الصالحون، حتى يرجع إلى الحق، ويستقيم مع أهل الحق.
ولا شك أن طلبة العلم يمقتونه، ولا يفرحون بقربه لسوء سيرته، بل تسرهم الفجوة التي تكون بينهم وبينه، لعدم الفائدة منه، ولضرره على المجتمع، وعلى طلبة العلم، فهو بحاجة إلى أن يدعى إلى الله وينصح، حتى ينفعه علمه، وحتى ينفع الناس أيضا.
والواجب على الجميع التعاون على البر والتقوى، بصدق وإخلاص، والاستقامة على أمر الله، والحرص على ما يبعد(23/368)
الشحناء، وما يضيق الفجوة بينهم، وذلك بالعلم النافع والعمل الصالح، والسيرة الحميدة والصبر على ذلك والله الموفق.(23/369)
السؤال الخامس: ما معنى قولك حفظك الله، على طالب العلم أن يجتهد، وهل كل واحد منا مهيأ لذلك وما موقفنا من مذاهب الأئمة الأربعة التي انتشرت في البلاد، وبين العباد، وقلدها الكثير في كل مكان وزمان؟
الجواب: على طالب العلم أن يجتهد حسب طاقته: المبتدئ يجتهد في الاستمرار في طلب العلم، ويحرص على أن يكون أهلا للترجيح في المسائل الخلافية، وعلى طالب العلم المتأهل الذي رزقه الله العلم، وتخرج من الدراسات العليا، ونظر في الكتب، وعرف أقوال الناس أن يجتهد في ترجيح الراجح، وتزييف الزائف بالأدلة الشرعية والصبر والمطالعة.
فالعلم ليس بالسهل، العلم يحتاج إلى صبر ومصابرة، ومراجعة الأحاديث التي تتعلق بموضوع البحث، فقد تمكث أياما كثيرة ما وجدت الحديث الذي تريد أو ما قدرت على تكوين رأي فيه من جهة صحته أو ضعفه.
وهكذا مراجعة كلام أهل العلم. وترجيح الراجح يحتاج إلى صبر ونظر في الأدلة، فالاجتهاد معناه بذل الجهد في تحصيل العلم(23/369)
والترقي فيه، حتى تكون من أهله العارفين بالأحكام الشرعية، ومواقف أهل العلم في المسائل الخلافية، وأن تقف في ذلك موقف الناصح والمحب لهم، المرتضي عنهم الذي يعرف أقدارهم وما يبذلون من جهود في تحصيل العلم ونشره بين الناس، والاستفادة من كلامهم وعلومهم، وعدم سبهم وكراهتهم، أو إظهار الانتقاد على سبيل التنقص لهم، وعدم الفائدة منهم، وما أشبه ذلك.
فطالب العلم، يعرف قدر من قبله، وما ألفوا وما جمعوا، ونصحهم لله ولعباده، ويستفيد من كلامهم، وليس معناه أن يقلدهم في الحق والباطل، بل يعرف الحق بدليله. . قال مالك رحمه الله: (ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
وقال الشافعي رحمه الله: (أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس) .
وقال رحمه الله: (إذا قلت قولا يخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي الحائط) ، وهكذا قال أحمد وأبو حنيفة: معنى ما قاله مالك والشافعي رحم الله الجميع.(23/370)
وهكذا قال غيرهم من الأئمة كلهم نصحوا الناس، وأوصوهم باتباع الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وألا يقدم على قول الله ورسوله قول أحد من الناس، بل يجب أن يقدم قول الله، وقول رسوله وما أجمع عليه سلف الأمة على من خالف ذلك.
هذا هو موقف العلماء المعتبرين، وهذا هو موقف طالب العلم منهم، حتى ينشأ على أخلاقهم، في تقديم قول الله، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وترجيح الراجح بالأدلة، واحترام العلماء، ومعرفة أقدارهم، والترضي عنهم، والترحم عليهم.
أما علماء السوء من الجهمية والمعتزلة وأشباههم فهؤلاء يجب أن يمقتوا، ويبغضوا في الله، وأن يحذر الناس من شرهم وأعمالهم القبيحة، وعقائدهم الباطلة، نصحا لله ولعباده، وعملا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله الموفق.(23/371)
السؤال السادس: ما رأي فضيلتكم في هذه العبارة تردد على ألسنة كثير من طلبة العلم، وهي: من كان شيخه كتابه ضل عن صوابه؟
الجواب: المعروف: أن من كان شيخه كتابه فخطؤه أكثر من صوابه، هذه هي العبارة التي نعرفها.(23/371)
وهذا صحيح: أن من لم يدرس على أهل العلم، ولم يأخذ عنهم، ولا عرف الطرق التي سلكوها في طلب العلم، فإنه يخطئ كثيرا، ويلتبس عليه الحق بالباطل، لعدم معرفته بالأدلة الشرعية، والأحوال المرعية التي درج عليها أهل العلم، وحققوها وعملوا بها، أما كون خطئه أكثر فهذا محل نظر، لكن على كل حال أخطاؤه كثيرة، لكونه لم يدرس على أهل العلم، ولم يستفد منهم، ولم يعرف الأصول التي ساروا عليها فهو يخطئ كثيرا، ولا يميز بين الخطأ والصواب في الكتب المخطوطة والمطبوعة.
وقد يقع الخطأ في الكتاب، ولكن ليست عنده الدراية والتمييز فيظنه صوابا، فيفتي بتحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله، لعدم بصيرته، لأنه قد وقع له خطأ في كتاب، مثلا: لا يجوز كذا وكذا، بينما الصواب أنه يجوز كذا وكذا، فجاءت لا زائدة، أو عكسه: يجوز كذا وكذا والصواب: ولا يجوز فسقطت لا في الطبع أو الخط فهذا خطأ عظيم.
وكذلك قد يجد عبارة: ويصح كذا وكذا، والصواب: ولا يصح كذا وكذا، فيختلط الأمر عليه؛ لعدم بصيرته، ولعدم علمه، فلا يعرف الخطأ الذي وقع في الكتاب، وما أشبه ذلك.(23/372)
141 - على طريق العلم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فمما لا شك فيه أن العلم هو الدعامة الأساسية التي ترتكز عليها مقومات الحياة البشرية، وأولى العلوم بالاهتمام والعناية هو معرفة علم الشريعة الإسلامية، إذ به تعرف الحكمة التي خلقنا الله سبحانه وتعالى لأجلها وأرسلت الرسل لتحقيقها وبه عرف الله، وبه عبد كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) وبهاتين الآيتين علمت الحكمة في خلق الجن والإنس، والحكمة في إرسال الرسل، وأي أمة لا عقيدة لها صحيحة، ولا دين عندها صحيح، فهي أمة جاهلة مهما بلغت من الرقي والتقدم في نواحي الحياة، كما قال سبحانه: {أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (3)
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة النحل الآية 36
(3) سورة الفرقان الآية 44(23/373)
والحياة الطيبة هي حياة أهل العلم والإيمان، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (1) وقال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) والعلم النافع لا يمكن الحصول عليه إلا بواسطة المعلم، ولا يمكن لأي إنسان أن يكون معلما إلا إذا كان عالما بالمادة التي يعلمها غيره، إذ فاقد الشيء لا يعطيه، والعلماء هم ورثة الأنبياء، ولذلك كأنما مهمة المعلم من أصعب المهام لما تتطلبه من الاتصاف بأكمل الصفات حسب الإمكان من علم نافع، وخلق كريم وعمل صالح متواصل وصبر ومصابرة وتحمل للمشاق في سبيل إصلاح الطالب، وتربيته تربية إسلامية نقية، وبقدر ما تتوفر صفات الكمال في المدرس يكون نجاحه في مهمته.
وقدوة الجميع وإمامهم هو سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله الهاشمي العربي المكي ثم المدني عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، فلقد كان أكمل الناس في كل الصفات الكريمة، وقد لاقى في
__________
(1) سورة الأنفال الآية 24
(2) سورة النحل الآية 97(23/374)
توجيه الناس، وتعليمهم الصعوبات الكثيرة، والمشاق العظيمة فصبر على ذلك، وتحمل كل مشقة وصعوبة في سبيل نشر دينه، وإخراج أمته من الظلمات إلى النور، فجزاه الله عن ذلك أفضل الجزاء الحسن وأكمله.
وقد تربى على يديه الكريمتين جيل صالح يعتبر أفضل الأجيال التي عرفتها البشرية في تاريخها الطويل، ومعلوم أن ذلك ناشئ عن حسن تربيته وتوجيهه لأصحابه، وصبره على ذلك بعد توفيق الله لهم وأخذه بأيديهم إلى الحق سبحانه وتعالى.
إذا علم ذلك فإن من أهم المهمات في حق المعلم في كل مكان وزمان أن يسير على نهج المعلم الأول محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجتهد في معرفة ذلك حتى يطبقه في نفسه، وفي طلابه حسب الإمكان وما أشد حاجة الأمة في هذا العصر الذي كثر فيه في الهدم وقل فيه دعاة البناء والإصلاح إلى المعلم الصالح الذي يتلقى علومه، وما يربي به طلابه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وينشر بينهم أخلاق السلف الصالح من الصدق والأمانة والإخلاص في العمل وتعظيم الأوامر والنواهي، والمسابقة إلى كل فضيلة، والحذر من كل رذيلة.
وبما تقدم يعلم أن مهمة المعلم مع كونها من أصعب المهام فهي مع ذلك من أشرف الوظائف، وأعظمها نفعا وأجلها قدرا إذا وفق صاحبها للإخلاص وحسنت نيته، وبذل جهده، كما أن(23/375)
له من الأجر مثل من انتفع بعلمه. وفي الحديث الشريف يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1) » ويقول عليه الصلاة والسلام: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (2) » ويقول أيضا صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (3) » ولا ريب أن المعلم هو المربي الروحي للطالب، فينبغي أن يكون ذا أخلاق فاضلة، وسمت حسن حتى يتأسى به تلامذته، كما ينبغي أن يكون محافظا على المأمورات الشرعية بعيدا عن المنهيات حافظا لوقته قليل المزاح واسع البال، طلق الوجه حسن البشر رحب الصدر جميل المظهر، ذا كفاية ومقدرة وسعة اطلاع كثير العلم بالأساليب العربية؛ ليتمكن من تأدية واجبه على أكمل وجه، ولا شك أن من يعنى بدراسة النفس البشرية من كافة النواحي ويبحث عن الأسباب الموصلة إلى معرفة الطريقة التي يمكن بواسطتها غرس العلوم في هذه النفس بسهولة ويسر، سوف يحصل على نتائج طيبة في كشف خفاياها وما انطوت عليه من مشاعر وأحاسيس ومدى تقبلها للمعلومات المراد غرسها فيها.
وسيخرج من تلك الدراسة والبحث بمعلومات هي في الحقيقة من القواعد العامة التي يقوم عليها صرح التعليم. وهذه القواعد يمكن إجمالها في أنه إذا ما أراد أي معلم أن يغرس معلوماته
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2942) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(3) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .(23/376)
في أذهان تلامذته، فلا بد له قبل كل شيء أن يكون ذا إلمام تام بالدرس الذي وكل إليه القيام به، وذا معرفة بالغة بطرق التدريس وكيفية حسن الإلقاء، ولفت نظر طلابه بطريقة جلية واضحة إلى الموضوع الأساسي للدرس وحصره البحث في موضوع الدرس، دون الخروج إلى هوامش قد تبلبل أفكار التلاميذ، وتفوت عليهم الفائدة، وأن يسلك في تفهمهم للعلوم التي يلقيها عليهم طرق الإقناع، مستخدما وسائل العرض والتشبيه والتمثيل، وأن يركز اهتمامه على الأمور الجوهرية التي هي القواعد الأساسية لكل درس من الدروس، وأن يغرس في نفوسهم كليات الأشياء ثم يتطرق إلى الجزئيات شيئا فشيئا، إذ المهم في كل أمر أصله، وأما الفروع فهي تبع للأصول وأن يركز المواد، ويقربها إلى أذهان التلاميذ وأن يحبب إليهم الدرس ويرغبهم في الإصغاء إليه ويعلمهم بفائدته وغايته أخذا في الحسبان تفهيم كل طالب ما يلائمه وباللغة التي يفهمها.
فليس كل الطلبة على حد سواء، وأن يفسح المجال للمناقشة معهم وتحمل الأخطاء التي تأتي في مناقشاتهم؛ لكونها ناتجة عن البحث عن الحقائق، وأن يشجعهم على كل بحث يفضي إلى وقوفهم على الحقيقة أخذا في الحسبان عوامل البيئة والطباع والعادات والمناخ؛ لأن لتلك الأمور تأثيرا بالغا في نفسيات التلاميذ(23/377)
ينعكس على أفهامهم وسيرتهم وأعمالهم. ولهذا فإن من المسلم به أن المعلم النابه الذكي الآخذ بهذه الأمور يكون تأثيره على تلامذته أبلغ من تأثير من دونه من المعلمين. ومهمة المعلم أشبه ما تكون بمهمة الطبيب. ومن واجبه أن يعرف ميول طلابه ومدى حظ كل منهم من الذكاء، وعلى أساس هذه المعرفة يقدر المقاييس الأساسية التي يسير على نهجها في مخاطبة عقولهم وأفهامهم، وتلك من أهم أسباب نجاح المعلم في مهمته.
وأهم العلوم الواجب تعليمها على الإطلاق هو: العناية بإصلاح العقيدة على ضوء الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح، ثم العناية ببقية العلوم الشرعية، ثم العلوم الأخرى التي لا غنى للبشر عنها، شريطة أن لا يكون من نتائج تلك العلوم: الإعراض عن العلم الأساسي الذي خلق الخلق لأجله، وأن تسخر هذه العلوم للمصلحة العامة دون أن تقف حجرا في طريق العلم النافع، ولقد هدى الله من هدى لتعلم العلم النافع وتعليمه بتوفيق منه وفضل وحكمة بالغة، فنفع الله بهم العباد والبلاد وفازوا بالذكر الجميل، والسمعة الحسنة، ومضاعفة الأجر، وحسن العاقبة، وحرم التوفيق آخرين بسبب تنكبهم الطريق السوي، فكانت علومهم وبالا عليهم وعلى تلاميذهم فضلوا في متاهات الكفر والإلحاد والزندقة وأضلوا غيرهم فباءوا بمثل إثمهم من عدله سبحانه، وحكمته وجزائه لمن(23/378)
حاد عن الحق وتنكب الصراط السوي، وتابع الهوى أن يبوء بالخذلان والزيغ عن الهدى، كما قال سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (1) وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة، ونسأل الله أن يرزقنا وسائر المسلمين العلم النافع والعمل الصالح، وأن يلطف بنا جميعا ويمن علينا بالفقه في دينه والثبات عليه وأن يصلح ولاة أمر المسلمين وقادتهم وينصر بهم الحق إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة الصف الآية 5
(2) سورة الأنعام الآية 110(23/379)
142 - مسائل علمية في الآذان والصلاة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ع. م. خ. من حائل، وفقه الله وزاده من العلم والإيمان سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . أما بعد:
فقد وصلني كتابكم الكريم بدون تاريخ وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من الإفادة عن الجماعة الذين يوجدون لديكم في منطقتكم، الذين يزعمون أنه لا يوجد على وجه الأرض أحد يعرف شريعة محمد وأمر محمد ونهي محمد صلى الله عليه وسلم سواهم ومن على نهجهم، ويزعمون أن الناس على غير طريقة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أيدوا أحدا من العلماء إلا الألباني، وهم يفتون بضد فتوى علماء الإسلام وجمهور العلماء. . إلخ، ورغبتكم الإفادة عما شبهوا به عليكم والجواب عن شبهتهم كان معلوما؟ (1)
والجواب: لا شك أن هؤلاء الجماعة علموا شيئا من الشريعة، وفاتتهم أشياء كثيرة، فنسأل الله أن يهدينا وإياهم صراطه المستقيم وأن يمنحنا وإياهم العلم النافع والبصيرة النافذة واتهام الرأي والرجوع إلى الحق، فقد قال بعض السلف: يفسد الدين نصف متعلم، ويفسد الأبدان نصف طبيب، ويفسد اللغة نصف
__________
(1) رسالة جوابية من سماحة إلى الأخ غ. م. ح. من حائل برقم (1\35) في 2\1\1398 هـ.(23/380)
نحوي، وما ذاك إلا بسبب الجهل، فإن هؤلاء وأشباههم بسبب علمهم ببعض الأشياء وجهلهم أشياء كثيرة من الشرع، يعتقدون أنهم مصيبون فيما ذهبوا إليه مما خالفوا فيه الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، وخالفوا فيه ما درج عليه سلف الأمة. . ونحن إن شاء الله نجيبك عما نقلته عنهم في كتابك بالتفصيل فنقول: -
أولا: قولهم: شروط الصلاة، وأركان الصلاة، وواجبات الصلاة، ومبطلات الصلاة كل هذا لم يثبت عن الرسول منه شيء. . إلخ، جوابه: أن هذا الكلام يدل على جهلهم العظيم وقلة معرفتهم بالشريعة، فإن شروط الصلاة المعتبرة، كالطهارة، واستقبال القبلة، وستر العورة والنية، والإسلام، والعقل، والتمييز، ودخول الوقت. كلها عليها أدلة ثابتة في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، يعرفها صغار الطلبة، وهكذا أركان الصلاة المعتبرة وواجباتها ومبطلاتها، كلها أدلتها واضحة من الكتاب والسنة، ومن راجع كلام أهل العلم وراجع كتب الحديث، كبلوغ المرام، ومنتقى الأخبار، عرف تفصيل ذلك.
وأما قولهم: وأن الصلاة لا يبطلها العبث الكثير والالتفات وغيره، فهذا مخالف لإجماع أهل العلم، فإن العبث الكثير المتواصل المتعمد يبطل الصلاة عند جميع أهل العلم لأن فاعل ذلك يعتبر متلاعبا بصلاته غير مطمئن فيها ولا خاشع، وقد دل القرآن الكريم(23/381)
على أن من صفات المؤمنين الخشوع في الصلاة، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي لم يطمئن في صلاته بإعادتها.
وأما احتجاجهم على ما قالوه من عدم بطلان الصلاة بالعبث الكثير بالتفات الصديق في صلاته لما أكثر الناس من التصفيق حين صلى بالناس عند غيبة النبي صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف للإصلاح بينهم، فجاء عليه الصلاة والسلام وقد كبر الصديق بالناس تكبيرة الإحرام فلما علم الناس به أكثروا في التصفيق، فالتفت الصديق فرآه عليه الصلاة والسلام، فأشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يثبت في مكانه فحمد الله وأثنى عليه ثم تأخر، والقصة معروفة في الصحيحين، فهذا لا حجة فيه على أن العبث الكثير المتعمد لا يبطل الصلاة، بل يدل على أن الالتفات للحاجة لا حرج فيه وهذا بالعنق لا بالبدن، واحتجاجهم بهذا الأمر على جواز العبث الكثير أو على أنه لا يبطل الصلاة يدل على جهل عظيم.
ثانيا: اكتفاؤهم بتسليمة واحدة على اليمين، هذا يقوله أكثر أهل العلم وليس خاصا بهم، ولكن الصواب من جهة الدليل أنه لا بد من تسليمتين، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم(23/382)
بالأحاديث الصحيحة أنه كان يسلم تسليمتين، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي (1) » (2) وعما احتجوا به أجوبة معروفة عند أهل العلم ذكرها شراح الحديث كصاحب كتاب (فتح الباري) و (نيل الأوطار) وغيرهما.
ثالثا: قولهم: إنه يزاد في السلام وبركاته، فهذا ليس خاصا بهم، بل قاله بعض أهل العلم، وثبت ذلك من حديث وائل بن حجر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الأحاديث الصحيحة الكثيرة ليس فيها هذه الزيادة، والصواب: أنه لا بأس بهذه الزيادة إذا فعلها الإمام أو المنفرد أو المأموم بعض الأحيان جمعا بين الأحاديث، ولكن الأفضل أن يقتصر غالبا على (ورحمة الله) عملا بالأحاديث الصحيحة الكثيرة، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم زادها في بعض الأحيان، فإذا فعل المسلم ذلك في بعض الأحيان فقد استعمل الأحاديث كلها، ومن تركها فلا بأس كما تركها علماؤنا وجمهور أهل العلم، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا محذورة بالترجيع في الأذان بمكة وهو شيء ثابت، ومع ذلك لم يأمر به بلالا
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (631) ، سنن الدارمي الصلاة (1253) .
(2) أخرجه البخاري برقم (595) كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة.(23/383)
وهو يؤذن بين يديه صلى الله عليه وسلم في المدينة، والجمع بين الأحاديث في ذلك أن أذان بلال مشروع بدون ترجيع، وأذان أبي محذورة مشروع بالترجيع، فمن فعل هذا أو هذا فلا حرج، وهكذا كان بلال يوتر الإقامة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ما عدا التكبير ولفظ الإقامة. . أما أبو محذورة فكان يشفع الإقامة بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم، وكل سنة، ولا منافاة بين الحديثين، لكن ذهب جمع من أهل العلم إلى أن الأفضل هو ما فعله بلال بأمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفاه الله، لأن الله سبحانه لا يختار لنبيه إلا الأفضل، ولا إنكار على من فعل هذا أو هذا، ويسمي أهل العلم هذا الاختلاف اختلاف التنوع وهو جائز، ومن هذا الباب تنوع الاستفتاح والتعوذ والتشهد وكل نوع من ذلك مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز العمل به، وإنما الاختلاف في الأفضل من ذلك كما تقدم في أنواع الأذان والإقامة، ومثل هذه المسائل لا ينبغي فيها الاختلاف والتشويش على الناس، لأنها مسائل معلومة عند أهل العلم والأدلة فيها معروفة والاختلاف فيها لا يضر، لأن كل نوع منها جائز بحمد الله، ولكن الجهل يضر أهله ويدخلهم فيما لا يعنيهم.(23/384)
رابعا: أما زعمهم أن الخط لا يجوز جعله سترة فهذا تقليد منهم لمن ضعف حديث الخط وزعم أنه مضطرب، كابن الصلاح والعراقي، والصواب أنه حديث حسن ليس فيه اضطراب، كما أوضح ذلك الحافظ ابن حجر في (بلوغ المرام) حيث قال لما ذكره: رواه أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان، ولم يصب من زعم أنه مضطرب، بل هو حسن.
خامسا: أما قولهم إن الركعة لا تدرك بالركوع فهو قول ضعيف مخالف للحديث الصحيح، ولما عليه الأئمة الأربعة وجمهور أهل العلم، وقد ثبت في صحيح البخاري رحمه الله عن أبي بكرة الثقفي رضي الله عنه، «أنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو راكع فركع دون الصف ثم دخل في الصف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصا ولا تعد (1) » ولم يأمره بقضاء الركعة التي أدركه في ركوعها، وما ذاك إلا لأنه معذور بسبب عدم إدراكه القيام؛ لأن القيام هو محل قراءة الفاتحة، فلما فات، سقطت الفاتحة عند الأكثرين لهذا الحديث الصحيح، مع أن الجمهور يرون عدم وجوب الفاتحة على المأموم وأن الإمام يتحملها عنه لكن ظاهر الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على وجوبها
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (741) كتاب الأذان، باب إذا ركع دون الصف.(23/385)
على المأموم لكن إذا لم يدرك القيام وإنما أدرك الركوع فإنها تسقط عنه على كلا القولين، وممن يرى وجوب الفاتحة على المأموم الإمام الشافعي ومع ذلك يسقطها عنه إذا لم يدرك القيام، وذهب بعض السلف إلى أنه يعيد الركعة ولكنه قول ضعيف مرجوح، لأنه مخالف مخالفة صريحة لحديث أبي بكرة المذكور. . وبهذا تعرف أن الخوض في مثل هذا والتشويش به ليس من شأن أهل العلم.
سادسا: أما إلزامهم الناس بجلسة الاستراحة، فهو قول ساقط ولا أعلم به قائلا من أهل العلم، وإنما الخلاف في استحبابها أو عدمه، والصواب أنها مستحبة وليست واجبة، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها إنما تستحب عند الحاجة كالمرض وكبر السن، وقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما فعلها في آخر حياته لما بدن وثقل، وهذا القول ليس بجيد لعدم الدليل عليه، والصواب أنها من سنن الصلاة لا من واجباتها، ولهذا اختلف الناقلون لصلاته عليه الصلاة والسلام، فمنهم من ذكرها، ومنهم من لم يذكرها، والسبب في ذلك والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يواظب عليها، ولهذا خفيت على بعض النقلة، واستحبها بعض الصحابة رضي الله عنهم، وبعضهم لم يستحبها لما ذكرنا، والله أعلم.(23/386)
سابعا: أما قولهم إن الجمعة لا شروط لها، وأنها تصلى في البادية، فهذا قول باطل مخالف لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وعمله وعمل أصحابه، ومخالف لإجماع أهل العلم المعتبرين، فقد كانت البوادي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيما حول المدينة، ولم يكونوا يصلون الجمعة، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الجمعة، ولم يأمر من لم يصل معه من المرضى والنساء بأن يصلوا الجمعة، بل كل هؤلاء يصلون ظهرا، وهكذا المسافرون يصلون ظهرا، ومما يدل على ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما أنه في حجة الوداع صادفت حجته يوم الجمعة، فخطب الناس وذكرهم، ثم أمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر ركعتين، ثم أقام فصلى العصر ركعتين جمعا وقصرا في وادي عرنة ثم ذهب إلى الموقف، وكان ذلك في يوم الجمعة، ولم يصل بالناس جمعة، ولو صلى بهم جمعة لنقله الصحابة رضي الله عنهم، ويدل على ذلك أن الصحابة سموا صلاته ظهرا ولم يجهر بالقراءة، ولم يجعل الخطبة بعد الأذان ولم يخطب خطبتين، بل خطب خطبة واحدة قبل الأذان، ولو كان صلى الجمعة لسماها الصحابة جمعة ولم يسموها ظهرا، ولجهر فيها بالقراءة، وجعل الخطبة بعد الأذان وخطب خطبتين كعادته صلى(23/387)
الله عليه وسلم حين كان في المدينة، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم في جميع أسفاره أنه صلى الجمعة، ولو فعل ذلك ولو مرة واحدة لنقل ذلك أصحابه - رضي الله عنهم - فقد نقلوا عنه من السنة ما هو أقل من ذلك، ومن الدليل على ذلك أيضا ما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته (1) » وهذا يدل على أن الجمعة لا تدرك إلا بركعة، وأن من أدرك أقل من ذلك لا يصلي جمعة، بل يصلي ظهرا. ثامنا: وأما قولهم إن الدعاء بعد الأذان بقول: «اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة (2) » بدعة، فهو قول باطل، ولا أدرى كيف شبه عليهم في ذلك مع أنه قد ثبت في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة (3) » وفي صحيح
__________
(1) أخرجه النسائي برقم (554) كتاب المواقيت، باب من أدرك ركعة من الصلاة، وابن ماجه برقم (113) كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن أدرك من الجمعة ركعة.
(2) صحيح البخاري الأذان (614) ، سنن الترمذي الصلاة (211) ، سنن النسائي الأذان (680) ، سنن أبو داود الصلاة (529) ، سنن ابن ماجه الأذان والسنة فيه (722) ، مسند أحمد بن حنبل (3/354) .
(3) أخرجه البخاري برقم (579) كتاب الأذان، باب الدعاء عند النداء.(23/288)
مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة (1) » .
تاسعا: أما زعمهم أن كلمة (الصلاة خير من النوم) إنما تقال في الأذان الأول فهذا محل تفصيل؛ لأن كثيرا من أهل العلم قد اعتقد أن المراد بالأذان الأول هو الأذان الذي ينادى به قبل الصبح، وليس الأمر كذلك، وإنما المراد به فيما نرى الأذان الذي قبل الإقامة، وهو الذي ينادى به عند طلوع الفجر، فيقال له وللإقامة الأذانان كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة (2) » الحديث، فإن المراد بالأذانين هنا الأذان والإقامة، وهو واضح لمن تأمل السنة الواردة في ذلك؛ لأن أبا محذورة كان يؤذن بذلك في أذان الصبح في مكة، وقد أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (577) كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه.
(2) أخرجه البخاري برقم (591) كتاب الأذان، باب بين كل أذانين صلاة.(23/389)
أن ينادي بذلك في أذان الصبح، وسماه أبو محذورة الأذان الأول فعلم أن المراد بذلك هو الأذان الذي قبل الإقامة، ولا نعلم في شيء من طرق حديث أبي محذورة أنه كان يؤذن للصبح أذانا آخر قبل الصبح، وإنما هذا معروف من حديث بلال في رمضان خاصة، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم (1) » ولا نعلم أن بلالا كان ينادي قبل الصبح بأذان غير أذانه للصبح في غير رمضان، بل كان يؤذن للصبح إذا طلع الفجر، أما في رمضان فكان يتعاون مع ابن أم مكتوم فيؤذن قبل الصبح بقليل، ثم يؤذن ابن أم مكتوم على الصبح.
وعلى فرض أنه نادى به بلال في أذانه قبل الصبح ونادى به أبو محذورة في أذانه للصبح يكون من باب اختلاف التنوع فلا حرج في ذلك، ولكن ينبغي أن يترك ذلك في أحدهما إذا كان المؤذن واحدا حتى لا يشتبه الأمر على أهل البلد، فإذا اصطلح أهل البلد على جعله في أذان الصبح فلا حرج في ذلك كما عليه العمل الآن في هذه المملكة، وقد درج عليه علماء الدعوة، ولم يكن عندهم في ذلك إشكال، وهم من العلماء المعروفين بتعظيم السنة والمحافظة عليها والدعوة إلى ترك ما خالفها، ولو اصطلح بعض
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (586) كتاب الأذان، باب الأذان قبل الفجر.(23/390)
الناس على جعله في الأول دون الآخر لم يكن في ذلك محذور من حيث المعنى؛ لعدم الاشتباه، ولأن كل واحد منهما يسمى أذان الفجر، ولكن العمل بظاهر السنة يقتضي أن جعله في الأذان الذي ينادى به بعد طلوع الفجر أولى وأوفق للأحاديث الواردة في ذلك عند من تأملها، وعرف أن الإقامة تسمى أذانا ثانيا وأن الأذان يسمى أذانا أولا، وقد جاء في بعض الأحاديث تسمية الأذان الذي ينادى به يوم الجمعة بعد جلوس الإمام على المنبر بالأذان الأول؛ لأن بعده الإقامة وهي الأذان الثاني، وقد ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها ما يدل على أن أذان الصبح يسمى الأذان الأول والإقامة تسمى الأذان الثاني كما تقدم. . وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم وسائر إخواننا للفقه في دينه والثبات عليه، وأن يصلح أعمالنا وقلوبنا جميعا، وأن يعيذنا وسائر المسلمين من القول عليه بغير علم إنه سميع قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(23/391)
143 - أهمية العلم في محاربة الأفكار الهدامة
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم واتبع هداهم إلى يوم الدين.
وبعد: فإني أحييكم أيها الإخوة وأيها الأبناء بتحية الإسلام فأقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم إني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء، وأسأله سبحانه أن يجعله لقاء مباركا ومفيدا لنا جميعا، وموصلا لما يرضيه ويقرب لديه، قاضيا على كثير من أسباب الفساد والبلاء، وعونا على ظهور الحق ودرء الباطل، ثم إني أشكر القائمين على هذا المشروع على دعوتهم لي للتحدث إليكم، والإجابة عن أسئلتكم، وأسأله سبحانه أن يجزيهم على عملهم خيرا، وأن يجعلنا وإياهم من الهداة المهتدين، وأن يوفقنا(23/392)
جميعا لما فيه إظهار الحق وإدحاض الباطل، وإجابة السائلين بما يوافق الصواب للحق الذي يرضي المولى عز وجل.
والعنوان كما سمعتم (أهمية العلم في محاربة الأفكار الهدامة) ، هذا هو عنوان كلمتي التي ألقيها بين أيدي إخواني وأبنائي.
ولا ريب أن العلم هو مفتاح كل خير، وهو الوسيلة إلى أداء ما أوجب الله وترك ما حرم الله، فإن العمل نتيجة العلم لمن وفقه الله، وهو مما يؤكد العزم على كل خير، فلا إيمان ولا عمل ولا كفاح ولا جهاد إلا بالعلم، فالأقوال والأعمال التي بغير علم لا قيمة لها، ولا نفع فيها بل تكون لها عواقب وخيمة، وقد تجر إلى فساد كبير.
وإنما يعبد الله ويؤدى حقه وينشر دينه وتحارب الأفكار الهدامة والدعوات المضللة والأنشطة المنحرفة بالعلم النافع، المتلقى عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهكذا إنما تؤدى الفرائض بالعلم، ويتقى الله بالعلم، وبه تكشف الحقائق الموجودة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، قال جل وعلا في كتابه العزيز: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (1)
__________
(1) سورة الفرقان الآية 33(23/393)
فجميع ما يقدمه أهل الباطل وما يلبسون به في دعواتهم المضللة وفي توجيهاتهم لغيرهم بأنواع الباطل وفي تشكيكهم غيرهم فيما جاء عن الله عز وجل وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كله يندحض ويكشف بما جاء عن الله ورسوله بعبارة أوضح، وبيان أكمل، وبحجة قيمة تملأ القلوب وتؤيد الحق، وما ذاك إلا لأن العلم المأخوذ من الكتاب العزيز والسنة المطهرة، علم صدر عن حكيم عليم، يعلم أحوال العباد ويعلم مشكلاتهم ويعلم ما في نفوسهم من أفكار خبيثة أو سليمة، ويعلم بما يأتي به أهل الباطل فيما يأتي من الزمان، كل ذلك يعلمه سبحانه، وقد أنزل كتابه لإيضاح الحق وكشف الباطل، وإقامة الحجج على ما دعت إليه رسله عليهم الصلاة والسلام، وقد أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وأنزل كتابه الكريم تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين.
وإنما يعمل أهل الباطل وينشطون عند اختفاء العلم وظهور الجهل، وخلو الميدان ممن يقول: قال الله وقال الرسول، فعند ذلك يستأسدون ضد غيرهم وينشطون في باطلهم؛ لعدم وجود من يخشونهم من أهل الحق والإيمان وأهل البصيرة، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه كل شيء إجمالا في مواضع، وتفصيلا في مواضع أخرى قال عز وجل:(23/394)
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (1) هذا كلام الحكيم العليم الذي لا أصدق منه. . {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} (2) وأوضح سبحانه في قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (3) أنه مع كونه تبيانا لكل شيء فيه هدى ورحمة وبشرى؛ فهو بيان للحق وإيضاح لسبله ومناهجه ودعوة إليه بأوضح عبارة وأبين إشارة، ومع ذلك فهو هدى للعالمين في كل ما يحتاجون إليه في ذكر ربهم والتوجه إلى ما يرضيه، والبعد عن مساخطه، ويبين لهم طريق النجاح وسبيل السعادة مع كونه رحمة في بيانه وإرشاده، وهدى وإحسانا وبشرى، وتطمينا للقلوب بما يوضح من الحقائق ويرشد إليه من البصائر التي تخضع لها القلوب وتطمئن إليها النفوس، وتنشرح لها الصدور، بوضوحها وظهورها، يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (4) ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (5)
__________
(1) سورة النحل الآية 89
(2) سورة النساء الآية 122
(3) سورة النحل الآية 89
(4) سورة يونس الآية 57
(5) سورة النساء الآية 59(23/395)
ويقول سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (1) ولولا أن كتابه عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فيهما الهداية والكفاية لما رد الناس إليهما، ولكان رده إليهما غير مفيد، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وإنما رد الناس إليهما عند التنازع والخلاف لما فيهما من الهداية، والبيان الواضح، وحل المشكلات والقضاء على الباطل، ثم ذكر أن هذا شرط للإيمان فقال سبحانه: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (2) ثم ذكر أنه خير للعباد في العاجل والآجل وأحسن عاقبة، يعني أن ردهم ما يتنازعون فيه إلى الله والرسول خير لهم في الدنيا والآخرة وأحسن لهم في العاقبة.
ومن هذا يعلم أن في كتاب الله العزيز وسنة رسوله الأمين حلا لجميع المشكلات، وبيانا لكل ما يحتاجه الناس في دينهم، وفي القضاء على خصوماتهم، كما أن في ذلك النصر للداعي إلى الحق والقضاء على خصمه بالحجة الواضحة؛ ولهذا يقول سبحانه: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (3) والمثل يعم كل ما يقدمون
__________
(1) سورة الشورى الآية 10
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة الفرقان الآية 33(23/396)
من شبهة يزعمونها حجه، ومن مذهب يدعونه صحيحا، ومن دعوة يزعمون أنها مفيدة، كل ذلك يكشفه هذا الكتاب وما جاءت به سنة رسوله عليه الصلاة والسلام. فجميع ما يقدمونه من مشكلات وشبهات ودعوات مضللة ومذاهب هدامة، كل ذلك يكشفه العلم بهذا الكتاب وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أن الأفكار الهدامة والمبادئ الضالة والمذاهب المنحرفة كثيرة، والملبسون للحق بالباطل لا يحصون، وكذلك دعاة الباطل والمؤلفون في الصد عن سبيل الله لا يحصيهم إلا الله، وهم يلبسون على الناس باطلهم بما يحرفون من الكلم، ولقد كثر الخطباء والمتكلمون في الإذاعات وفي التلفاز وفي كل مجال: في الصحافة والمجتمعات وفي كل نافذة، كل يدعو إلى نحلته، وينادي إلى فكرته، ويمني غيره ويدعوه إلى الباطل، ولا مخرج من هذه المحن، ولا طريق للتخلص منها والقضاء عليها إلا بعرضها على هذا الميزان العظيم الكتاب والسنة، ففي عرضها على هذا الميزان العظيم تمحيصها وبيان حقها من باطلها، ورشدها من غيها، وهداها من ضلالها، وبذلك ينتصر الحق وأهله، ويندحر الباطل وأهله، فإذا تقدم دعاة الشيوعية والاشتراكية المنكرون لوجود الله والقائلون: (لا إله والحياة مادة) المكذبون بالحق والمنكرون لكتاب الله وما ورد فيه من الأدلة النقلية والعقلية على وجود الباري وقدرته العظيمة وعلمه الشامل، فارجعوا إلى كتاب الله واقرءوا من آياته(23/397)
ما يرشد إلى دلائل وجوده سبحانه، وأنه الصانع الحكيم لهذه الأشياء والموجد لها والخالق لها سبحانه.
وقد أرشد سبحانه في كتابه الكريم إلى ذلك، وبين أنه رب العالمين وأنه الخلاق العليم وأنه خالق كل شيء وأنه ينصر الحق، ويقيم الأدلة على ذلك في مواضع كثيرة من كتابه، ليعتمد عليها طالب الحق، يقول سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) ثم يقول سبحانه بعدها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (2) ويقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) ويقول: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} (5) ويقول
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة البقرة الآية 164
(3) سورة البقرة الآية 21
(4) سورة البقرة الآية 22
(5) سورة طه الآية 98(23/398)
سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) ويقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) إلى آيات كثيرة يرشد بها سبحانه أنه رب العباد، وأنه رب العالمين، وأن الرسل جاءت بهذا، كما قال جل وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) ويقول تعالى: {فتاوى ابن باز body {font-family: verdana, arial, helvetica, sans-serif; font-size: 14px;} h1 {font-size:18px} a:link {color:#33c} a:visited {color:#339} /* This is where you can customize the appearance of the tooltip */ div#tipDiv {position:absolute; visibility:hidden; left:0; top:0; z-index:10000; background-color:AntiqueWhite; border:1px solid #336; padding:4px; color:#000; font-size:11px; line-height:1.2;} /* These are optional. They demonstrate how you can individually format tooltip content */ div.tp1 {font-size:12px; color:#336; font-style:italic} div.tp2 {font-weight:bolder; color:#337; padding-top:4px}
فتاوى ابن باز (4)
تصفح برقم المجلد > المجلد الثالث والعشرون > كتاب العلم > أهمية العلم في محاربة الأفكار الهدامة
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة النحل الآية 36
(4) سورة الأنبياء الآية 25(23/399)
143 - أهمية العلم في محاربة الأفكار الهدامة
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم واتبع هداهم إلى يوم الدين.
وبعد: فإني أحييكم أيها الإخوة وأيها الأبناء بتحية الإسلام فأقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم إني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء، وأسأله سبحانه أن يجعله لقاء مباركا ومفيدا لنا جميعا، وموصلا لما يرضيه ويقرب لديه، قاضيا على كثير من أسباب الفساد والبلاء، وعونا على ظهور الحق ودرء الباطل، ثم إني أشكر القائمين على هذا المشروع على دعوتهم لي للتحدث إليكم، والإجابة عن أسئلتكم، وأسأله سبحانه أن يجزيهم على عملهم خيرا، وأن يجعلنا وإياهم من الهداة المهتدين، وأن يوفقنا(23/392)
جميعا لما فيه إظهار الحق وإدحاض الباطل، وإجابة السائلين بما يوافق الصواب للحق الذي يرضي المولى عز وجل.
والعنوان كما سمعتم (أهمية العلم في محاربة الأفكار الهدامة) ، هذا هو عنوان كلمتي التي ألقيها بين أيدي إخواني وأبنائي.
ولا ريب أن العلم هو مفتاح كل خير، وهو الوسيلة إلى أداء ما أوجب الله وترك ما حرم الله، فإن العمل نتيجة العلم لمن وفقه الله، وهو مما يؤكد العزم على كل خير، فلا إيمان ولا عمل ولا كفاح ولا جهاد إلا بالعلم، فالأقوال والأعمال التي بغير علم لا قيمة لها، ولا نفع فيها بل تكون لها عواقب وخيمة، وقد تجر إلى فساد كبير.
وإنما يعبد الله ويؤدى حقه وينشر دينه وتحارب الأفكار الهدامة والدعوات المضللة والأنشطة المنحرفة بالعلم النافع، المتلقى عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهكذا إنما تؤدى الفرائض بالعلم، ويتقى الله بالعلم، وبه تكشف الحقائق الموجودة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، قال جل وعلا في كتابه العزيز: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (1)
__________
(1) سورة الفرقان الآية 33(23/393)
فجميع ما يقدمه أهل الباطل وما يلبسون به في دعواتهم المضللة وفي توجيهاتهم لغيرهم بأنواع الباطل وفي تشكيكهم غيرهم فيما جاء عن الله عز وجل وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كله يندحض ويكشف بما جاء عن الله ورسوله بعبارة أوضح، وبيان أكمل، وبحجة قيمة تملأ القلوب وتؤيد الحق، وما ذاك إلا لأن العلم المأخوذ من الكتاب العزيز والسنة المطهرة، علم صدر عن حكيم عليم، يعلم أحوال العباد ويعلم مشكلاتهم ويعلم ما في نفوسهم من أفكار خبيثة أو سليمة، ويعلم بما يأتي به أهل الباطل فيما يأتي من الزمان، كل ذلك يعلمه سبحانه، وقد أنزل كتابه لإيضاح الحق وكشف الباطل، وإقامة الحجج على ما دعت إليه رسله عليهم الصلاة والسلام، وقد أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وأنزل كتابه الكريم تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين.
وإنما يعمل أهل الباطل وينشطون عند اختفاء العلم وظهور الجهل، وخلو الميدان ممن يقول: قال الله وقال الرسول، فعند ذلك يستأسدون ضد غيرهم وينشطون في باطلهم؛ لعدم وجود من يخشونهم من أهل الحق والإيمان وأهل البصيرة، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه كل شيء إجمالا في مواضع، وتفصيلا في مواضع أخرى قال عز وجل:(23/394)
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (1) هذا كلام الحكيم العليم الذي لا أصدق منه. . {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} (2) وأوضح سبحانه في قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (3) أنه مع كونه تبيانا لكل شيء فيه هدى ورحمة وبشرى؛ فهو بيان للحق وإيضاح لسبله ومناهجه ودعوة إليه بأوضح عبارة وأبين إشارة، ومع ذلك فهو هدى للعالمين في كل ما يحتاجون إليه في ذكر ربهم والتوجه إلى ما يرضيه، والبعد عن مساخطه، ويبين لهم طريق النجاح وسبيل السعادة مع كونه رحمة في بيانه وإرشاده، وهدى وإحسانا وبشرى، وتطمينا للقلوب بما يوضح من الحقائق ويرشد إليه من البصائر التي تخضع لها القلوب وتطمئن إليها النفوس، وتنشرح لها الصدور، بوضوحها وظهورها، يقول سبحانه:
(4) تصفح برقم المجلد > المجلد الثالث والعشرون > كتاب العلم > أهمية العلم في محاربة الأفكار الهدامة
__________
(1) سورة النحل الآية 89
(2) سورة النساء الآية 122
(3) سورة النحل الآية 89
(4) فتاوى ابن باز body {font-family: verdana, arial, helvetica, sans-serif; font-size: 14px;} h1 {font-size:18px} a:link {color:#33c} a:visited {color:#339} /* This is where you can customize the appearance of the tooltip */ div#tipDiv {position:absolute; visibility:hidden; left:0; top:0; z-index:10000; background-color:AntiqueWhite; border:1px solid #336; padding:4px; color:#000; font-size:11px; line-height:1.2;} /* These are optional. They demonstrate how you can individually format tooltip content */ div.tp1 {font-size:12px; color:#336; font-style:italic} div.tp2 {font-weight:bolder; color:#337; padding-top:4px}
فتاوى ابن باز(23/395)
143 - أهمية العلم في محاربة الأفكار الهدامة
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم واتبع هداهم إلى يوم الدين.
وبعد: فإني أحييكم أيها الإخوة وأيها الأبناء بتحية الإسلام فأقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم إني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء، وأسأله سبحانه أن يجعله لقاء مباركا ومفيدا لنا جميعا، وموصلا لما يرضيه ويقرب لديه، قاضيا على كثير من أسباب الفساد والبلاء، وعونا على ظهور الحق ودرء الباطل، ثم إني أشكر القائمين على هذا المشروع على دعوتهم لي للتحدث إليكم، والإجابة عن أسئلتكم، وأسأله سبحانه أن يجزيهم على عملهم خيرا، وأن يجعلنا وإياهم من الهداة المهتدين، وأن يوفقنا(23/392)
جميعا لما فيه إظهار الحق وإدحاض الباطل، وإجابة السائلين بما يوافق الصواب للحق الذي يرضي المولى عز وجل.
والعنوان كما سمعتم (أهمية العلم في محاربة الأفكار الهدامة) ، هذا هو عنوان كلمتي التي ألقيها بين أيدي إخواني وأبنائي.
ولا ريب أن العلم هو مفتاح كل خير، وهو الوسيلة إلى أداء ما أوجب الله وترك ما حرم الله، فإن العمل نتيجة العلم لمن وفقه الله، وهو مما يؤكد العزم على كل خير، فلا إيمان ولا عمل ولا كفاح ولا جهاد إلا بالعلم، فالأقوال والأعمال التي بغير علم لا قيمة لها، ولا نفع فيها بل تكون لها عواقب وخيمة، وقد تجر إلى فساد كبير.
وإنما يعبد الله ويؤدى حقه وينشر دينه وتحارب الأفكار الهدامة والدعوات المضللة والأنشطة المنحرفة بالعلم النافع، المتلقى عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهكذا إنما تؤدى الفرائض بالعلم، ويتقى الله بالعلم، وبه تكشف الحقائق الموجودة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، قال جل وعلا في كتابه العزيز: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (1)
__________
(1) سورة الفرقان الآية 33(23/393)
فجميع ما يقدمه أهل الباطل وما يلبسون به في دعواتهم المضللة وفي توجيهاتهم لغيرهم بأنواع الباطل وفي تشكيكهم غيرهم فيما جاء عن الله عز وجل وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كله يندحض ويكشف بما جاء عن الله ورسوله بعبارة أوضح، وبيان أكمل، وبحجة قيمة تملأ القلوب وتؤيد الحق، وما ذاك إلا لأن العلم المأخوذ من الكتاب العزيز والسنة المطهرة، علم صدر عن حكيم عليم، يعلم أحوال العباد ويعلم مشكلاتهم ويعلم ما في نفوسهم من أفكار خبيثة أو سليمة، ويعلم بما يأتي به أهل الباطل فيما يأتي من الزمان، كل ذلك يعلمه سبحانه، وقد أنزل كتابه لإيضاح الحق وكشف الباطل، وإقامة الحجج على ما دعت إليه رسله عليهم الصلاة والسلام، وقد أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وأنزل كتابه الكريم تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين.
وإنما يعمل أهل الباطل وينشطون عند اختفاء العلم وظهور الجهل، وخلو الميدان ممن يقول: قال الله وقال الرسول، فعند ذلك يستأسدون ضد غيرهم وينشطون في باطلهم؛ لعدم وجود من يخشونهم من أهل الحق والإيمان وأهل البصيرة، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه كل شيء إجمالا في مواضع، وتفصيلا في مواضع أخرى قال عز وجل:(23/394)
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (1) هذا كلام الحكيم العليم الذي لا أصدق منه. . {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} (2) وأوضح سبحانه في قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (3) أنه مع كونه تبيانا لكل شيء فيه هدى ورحمة وبشرى؛ فهو بيان للحق وإيضاح لسبله ومناهجه ودعوة إليه بأوضح عبارة وأبين إشارة، ومع ذلك فهو هدى للعالمين في كل ما يحتاجون إليه في ذكر ربهم والتوجه إلى ما يرضيه، والبعد عن مساخطه، ويبين لهم طريق النجاح وسبيل السعادة مع كونه رحمة في بيانه وإرشاده، وهدى وإحسانا وبشرى، وتطمينا للقلوب بما يوضح من الحقائق ويرشد إليه من البصائر التي تخضع لها القلوب وتطمئن إليها النفوس، وتنشرح لها الصدور، بوضوحها وظهورها، يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (4) ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (5)
__________
(1) سورة النحل الآية 89
(2) سورة النساء الآية 122
(3) سورة النحل الآية 89
(4) سورة يونس الآية 57
(5) سورة النساء الآية 59(23/395)
ويقول سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (1) ولولا أن كتابه عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فيهما الهداية والكفاية لما رد الناس إليهما، ولكان رده إليهما غير مفيد، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وإنما رد الناس إليهما عند التنازع والخلاف لما فيهما من الهداية، والبيان الواضح، وحل المشكلات والقضاء على الباطل، ثم ذكر أن هذا شرط للإيمان فقال سبحانه: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (2) ثم ذكر أنه خير للعباد في العاجل والآجل وأحسن عاقبة، يعني أن ردهم ما يتنازعون فيه إلى الله والرسول خير لهم في الدنيا والآخرة وأحسن لهم في العاقبة.
ومن هذا يعلم أن في كتاب الله العزيز وسنة رسوله الأمين حلا لجميع المشكلات، وبيانا لكل ما يحتاجه الناس في دينهم، وفي القضاء على خصوماتهم، كما أن في ذلك النصر للداعي إلى الحق والقضاء على خصمه بالحجة الواضحة؛ ولهذا يقول سبحانه: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (3) والمثل يعم كل ما يقدمون
__________
(1) سورة الشورى الآية 10
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة الفرقان الآية 33(23/396)
من شبهة يزعمونها حجه، ومن مذهب يدعونه صحيحا، ومن دعوة يزعمون أنها مفيدة، كل ذلك يكشفه هذا الكتاب وما جاءت به سنة رسوله عليه الصلاة والسلام. فجميع ما يقدمونه من مشكلات وشبهات ودعوات مضللة ومذاهب هدامة، كل ذلك يكشفه العلم بهذا الكتاب وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أن الأفكار الهدامة والمبادئ الضالة والمذاهب المنحرفة كثيرة، والملبسون للحق بالباطل لا يحصون، وكذلك دعاة الباطل والمؤلفون في الصد عن سبيل الله لا يحصيهم إلا الله، وهم يلبسون على الناس باطلهم بما يحرفون من الكلم، ولقد كثر الخطباء والمتكلمون في الإذاعات وفي التلفاز وفي كل مجال: في الصحافة والمجتمعات وفي كل نافذة، كل يدعو إلى نحلته، وينادي إلى فكرته، ويمني غيره ويدعوه إلى الباطل، ولا مخرج من هذه المحن، ولا طريق للتخلص منها والقضاء عليها إلا بعرضها على هذا الميزان العظيم الكتاب والسنة، ففي عرضها على هذا الميزان العظيم تمحيصها وبيان حقها من باطلها، ورشدها من غيها، وهداها من ضلالها، وبذلك ينتصر الحق وأهله، ويندحر الباطل وأهله، فإذا تقدم دعاة الشيوعية والاشتراكية المنكرون لوجود الله والقائلون: (لا إله والحياة مادة) المكذبون بالحق والمنكرون لكتاب الله وما ورد فيه من الأدلة النقلية والعقلية على وجود الباري وقدرته العظيمة وعلمه الشامل، فارجعوا إلى كتاب الله واقرءوا من آياته(23/397)
ما يرشد إلى دلائل وجوده سبحانه، وأنه الصانع الحكيم لهذه الأشياء والموجد لها والخالق لها سبحانه.
وقد أرشد سبحانه في كتابه الكريم إلى ذلك، وبين أنه رب العالمين وأنه الخلاق العليم وأنه خالق كل شيء وأنه ينصر الحق، ويقيم الأدلة على ذلك في مواضع كثيرة من كتابه، ليعتمد عليها طالب الحق، يقول سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) ثم يقول سبحانه بعدها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (2) ويقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) ويقول: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} (5) ويقول
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة البقرة الآية 164
(3) سورة البقرة الآية 21
(4) سورة البقرة الآية 22
(5) سورة طه الآية 98(23/398)
سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) ويقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) إلى آيات كثيرة يرشد بها سبحانه أنه رب العباد، وأنه رب العالمين، وأن الرسل جاءت بهذا، كما قال جل وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) ويقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (4) ويقول سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (5) ويقول جل وعلا: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (6) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (7) ويقول سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (8) ويقول سبحانه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (9)
ثم يبين الأدلة في مواضع كثيرة، عندما يتأملها المؤمن يعرف أن الدليل النقلي مؤيد بالدليل العقلي المشاهد المحسوس، ولهذا ذكر
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة النحل الآية 36
(4) سورة الأنبياء الآية 25
(5) سورة الحج الآية 62
(6) سورة الزمر الآية 2
(7) سورة الزمر الآية 3
(8) سورة الزمر الآية 62
(9) سورة فاطر الآية 3(23/399)
سبحانه بعد قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (1) الحجة على ذلك فقال: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) والمعنى أن هذا الخالق لنا هو المستحق أن نعبده لكونه خلقنا، ولأنه يرعى مصالح العباد، وهذا أمر معلوم بالفطر السليمة والعقول الصحيحة، فهم لم يخلقوا أنفسهم فقد خلقهم بارئهم، فالله هو الخالق بالأدلة النقلية والعقلية، ثم قال سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3)
بين سبحانه وتعالى كيف تدرك هذه الأشياء المشاهدة المخلوقة التي يدركها العقل ويدركها كل إنسان، فجعل الأرض فراشا لنا ننام عليها، ونسير عليها، ونرعى المواشي عليها، ونحمل عليها، نزرع عليها الأشجار، ونأخذ منها المعادن إلى غير ذلك، ثم أنزل من السماء ماء من السحاب، أنزل المطر فأخرج به الثمرات لنا، من الذي أنزل المطر؟ من الذي أخرج هذه الثمار التي يأكلها الناس والدواب؟ مما زرعوا ومن غير ما زرعوا؟ كلها من آيات الله العظيمة الدالة على قدرته العظيمة، وأنه رب العالمين.
__________
(1) سورة البقرة الآية 21
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة البقرة الآية 22(23/400)
أرض مستقرة أرساها ربنا بالجبال التي جعلها أوتادا لها، وجعلها ممهدة ساكنة نعيش عليها، ونطمئن نحن ودوابنا وسياراتنا فوقها، وتطير في فضائها طائراتنا، ونتمتع بجميع ما خلق فيها، والسماء كذلك خلقها فوقنا، وزينها بالكواكب السيارات والثوابت، وجعل فيها الشمس والقمر ليعلم العباد قدرة الخالق العظيم، والعلي الكبير الذي لا شريك له في ذلك سبحانه وتعالى، ثم هذه المزروعات الكثيرة، والثمار المنوعة التي فيها المنافع الكثيرة، والمصالح العظيمة، مع اختلاف أشكالها وألوانها، وأحجامها وطعومها، ومنافعها إلى غير ذلك، هنا تظهر قدرة الله سبحانه واستحقاقه للعبادة كما قال عز وجل: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (2)
فهو سبحانه يبين لنا في هذه الآيات التي نشاهدها ونراها ونحس بها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (3) هذه السماوات مع اتساعها وارتفاعها وما فيها من عجائب وغرائب، وهذه الأرض مع سعتها
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة البقرة الآية 164
(3) سورة البقرة الآية 164(23/401)
وانبساطها وما فيها من أنهار وجبال وغير ذلك، ثم اختلاف الليل والنهار وما أنزل من السماء من ماء وما أخرج من البحر من أشياء تنفع الناس، وما يحمله ماؤها من البواخر التي أمسكها على ظهر هذا الماء، تحمل حاجات الناس، وتحملهم أيضا من بلاد إلى بلاد.
ثم أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح، والسحاب المسخر بين السماء والأرض. هذه الآيات العظيمة لمن تدبرها ترشده إلى وجود بارئها وخالقها الذي خلقه وأوجده من العدم، وأنه رب العالمين سبحانه وتعالى، وأن هذه المخلوقات لا قوام لها إلا به سبحانه كما قال عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} (1) فهذه الآيات التي نشاهدها والدلائل التي نقرؤها ونعلمها إنما ينتفع بها ذوو العقول السليمة والبصائر المستقيمة، ولهذا قال سبحانه في آخر الآية: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (2)
والرسل عليهم الصلاة والسلام، هم أصدق الناس، وقد أقاموا الأدلة والمعجزات على صدقهم، وقد أخبرونا بهذا وأن هذا صنع الله، وأنه ربنا وخالقنا، وأنه الرحمن، وأنه الرحيم، وأنه
__________
(1) سورة الروم الآية 25
(2) سورة البقرة الآية 164(23/402)
السلام، وأنه القدوس، إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى، كما أخبر جل وعلا في كتابه العظيم أنه الحكيم العليم القادر على كل شيء جل وعلا، وفي هذا أبلغ رد على دعاة الشيوعية والدهرية والاشتراكية وغيرهم ممن أنكروا وجود الله، فهل هذه المخلوقات وهل هذه الموجودات تخلق نفسها وتنشئ نفسها؟
هل يقول هذا عاقل؟ بل كوب الماء لو قلت لعاقل إنه خلق نفسه لقال إنك مجنون، وهكذا كوب الشاي وكوب القهوة والملعقة والعصا، كلها معروف من صنعها فكيف بهذا العالم العظيم الذي أنشأه الخالق سبحانه من العدم، وجعل فيه من الآيات والمنافع ما لا يحصى، فهو المبدع سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
ثم هذا الخالق قد بين أسماء تليق بذاته، وبينت الرسل صفاته وأسماءه ودلوا عليه وأرشدوا إليه، وقامت الدلائل على صدقهم، وعلى رأسهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، أصدق الأنبياء وأفضلهم، قد بعثه الله بكتابه العظيم، والرسالة العامة التي أوضح بها كل شيء، ثم يأتي دعاة الماسونية الذين يريدون أن يردوا الناس إلى الأحوال البهيمية، والمساواة في كل شيء ويحاربوا مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ليجعلوهم كالبهائم لا يميزون حقا من باطل ولا خيرا من شر، وهذا كله(23/403)
خلاف ما دعت إليه الرسل عليهم الصلاة والسلام، وخلاف ما دل عليه القرآن الكريم المعجز، وهو أيضا خلاف ما دلت عليه العقول الصحيحة، والفطر السليمة التي فطر الله العباد عليها، فإن الله سبحانه فطر الناس على الاعتراف بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال والعدل والحق، وكراهة الظلم والعدوان والأذى.
لقد فطر الله العباد على تمييز الأب من الابن، والأخ من الأخت، والزوجة من الزوج، حتى البهائم ميزوا هذا عن هذا.
كذلك من ادعى الإباحية، وأنه لا حرج على الإنسان في أي حال أن يعمل ما يشاء ويستبيح ما يشاء من مهازل ومساوئ، كلهم ملحدون وضالون، وقد أبطل الله هذا المذهب، وبين سبحانه وتعالى أنه أرسل الرسل، وأنزل الكتب لبيان حقه على عباده، وما أحل من الطيبات، وما حرم من الخبائث، وما أوصى به سبحانه وتعالى عباده من التمسك بما جاءت به الرسل، ونبذ ما خالفه.
ولقد أوضح سبحانه في الكتب المنزلة من السماء تفصيل الحلال من الحرام، والهدى من الضلال، والمعروف من المنكر، والخير من الشر.
فالإباحيون والماسونيون قد أعرضوا عن ذلك كله، ونبذوه وراء ظهورهم، فلا خلقا كريما استقاموا عليه، ولا عقلا صحيحا(23/404)
تمسكوا به، فلم يأخذوا بما جاءت به الرسل من الهدى، والتمييز بين الحق والباطل، والهدى والضلال، ومن تأمل كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وتأمل أحوال العالم: عرف أن الحق كله فيما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، من بيان ما أباح الله وبيان ما حرمه سبحانه، وأنهم بعثوا ليميزوا بين الطيب والخبيث، وبين الحلال والحرام، بما شرع الله، حتى تسير المجتمعات على هدى وبيان، وعلى خير ورشاد، وعلى الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة، التي تحفظ للإنسان عقله ودينه، وماله ونفسه، وذريته وزوجته وغير ذلك. .
ولا يتعدى عليه غيره فيأمن المجتمع، وتستقيم الأحوال والأخلاق، ويأمن الناس، وتحصل لكل إنسان حريته، في أخذه وعطائه، وبيعه وشرائه، وتعاطي ما يسر الله له من الحلال وتملكه ما كسب بالطرق الشرعية، وتصرفه بما ينفعه ولا يضره.
وأما من دعا إلى أفكار أخرى كدعوة القاديانية وأشباههم، ممن دعا إلى اتباع نبي جديد، أو رسول جديد، فدعواه باطلة وأفكاره مضللة زائفة؛ لأن الله عز وجل بين في كتابه المبين أن محمدا عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين، وقد جاء ذلك في الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشرت به النبوات السابقة، قال تعالى:(23/405)
{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1) ولكن هناك أشباه الأنعام، تلتبس عليهم كل دعوى، ويخفى عليهم كل شيء، ولا يميزون بين حق وباطل، ولا يفرقون بين هدى وضلال.
فكل ما يدعيه الداعون وينعق به الناعقون يلتبس عليهم؛ لعدم العلم والبصيرة، ولهذا ارتفع صوت هذا الرجل، أعني مرزا غلام أحمد بدعواه الباطلة، فاتبعه من الناس من هم أشباه الأنعام، وصدقوا بما قاله، وما كتبه في هذا الباب، مما يخالف نص الكتاب العزيز، وما تواترت به السنة عن المصطفى عليه الصلاة والسلام، من كونه خاتم الأنبياء والمرسلين.
كيف يحدث مثل هذا، وكيف يشتبه على من هم من بني آدم، الذين هم من أصحاب العقول، والذين يقرؤون ويكتبون، وبطلانه من أوضح الأشياء وأظهرها، ولكن الله عز وجل يري عباده من العجائب والعبر ما فيه عظة وذكرى لكل ذي لب، قال سبحانه وتعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (2) وهكذا البهائية والبابية وأشباههم، ممن ادعوا دعاوى باطلة، وضلوا في هذا السبيل، ولبسوا على أشباه الأنعام
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 40
(2) سورة الحج الآية 46(23/406)
من البشر ما يدعون إليه من باطلهم، فزعم كبيرهم أنه نبي، ثم ادعى أنه رب العالمين.
ومع ظهور باطلهم، نجد لهم أتباعا ودعاة وأندية تروج باطلهم، وتدعو إليه، وربما كان الكثير منهم يعرف الحق ويعلم أنه مبطل في دعواه، ولكنه يتظاهر بتأييد الباطل، لما له من غرض في ذلك في هذه الحياة الدنيا، فتابعهم في طريق الباطل، وهم أشبه بالأنعام، بل هم أضل منها، كما قال الله عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (1) وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (2)
لقد ضل هؤلاء بعيدا، كما ضل أصحاب فرعون بفرعون، وأصحاب النمرود بالنمرود.
فهذا المسكين الذي يتبول ويتغوط، ويأكل ويشرب، ويتألم من كل شيء، كيف يكون ربا، وكيف يكون إلها، وكيف يجوز هذا عليه، وعلى أتباعه؟ ولكن الأمر كما قال الله سبحانه:
__________
(1) سورة الفرقان الآية 44
(2) سورة الأعراف الآية 179(23/407)
{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (1) وكما قال سبحانه وتعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ} (2) وكما قال عز وجل: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (3) الآية.
وهكذا الدجال الذي يأتي في آخر الزمان يتبعه جم كثير من كل جاهل، وأعمى بصيرة لما يروجه من الباطل، ويأتي به من خوارق العادات التي تشتبه على أشباه الأنعام.
وكل نحلة، وكل دعوة باطلة تجد لها أتباعا وأنصارا بغير قلوب، ولا هدى، أما طريق السلف الصالح فهو أوضح من الشمس في رابعة النهار؛ لما قام عليه من البراهين الساطعة، والحجج النيرة، والأدلة القاطعة، لكل من عنده أدنى بصيرة ورغبة في طلب الحق، وقد بين الله في كتابه الكريم وسنة رسوله الأمين أن الخير والفلاح يكونان في التمسك بكتاب الله العظيم، وسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وما كان عليه سلف الأمة من الصحابة رضوان الله عليهم، وأتباعهم بإحسان، فيرد دعاة الحق على هؤلاء المنحرفين بما علموا من كتاب الله، وسنة رسوله عليه
__________
(1) سورة الحج الآية 46
(2) سورة الفرقان الآية 44
(3) سورة القصص الآية 50(23/408)
الصلاة والسلام، وبما علموا بعقولهم الصحيحة، وبصائرهم النافذة، وفطرهم السليمة على هدى ما علموه من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما علموه من مخلوقات الله عز وجل، من الدلالة على قدرته، وعظمته، واستحقاقه للعبادة، وصدق رسله عليهم الصلاة والسلام، وأن ما أتوا به هو الحق، وهو ما دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من بيان الحلال والحرام والهدى والضلال، وما شرع الله لعباده، وما نهى عنه، وما أخبر به من الجنة والنار، إلى غير ذلك.
وأن ما أنكره هؤلاء وغيرهم من الشيوعيين وسائر الملاحدة من البعث والنشور والجنة والنار وغير ذلك من شئون اليوم الآخر: كله باطل ومخالف للأدلة القطعية.
وهم جميعا حجتهم داحضة وباطلهم واضح، فإن الأدلة الدالة على بعث الموتى ووقوفهم أمام رب العالمين كثيرة لا تحصى، وأن كل ما خلقه الله في هذه الدنيا شاهد على قدرته سبحانه، ووجوب الاعتراف بألوهيته وحده، فالأرض الميتة ينزل الله عليهم المطر فيخرج منها النبات بعد موتها، ويخرج منها جل وعلا ما شاء من الثمار.
فالذي أخرج هذا النبات، وأنعم علينا بهذه الثمار، هو الله سبحانه وتعالى، الذي أنزل هذا المطر وأحيا به الأرض الميتة التي(23/409)
أخرجت النبات والثمار، هو الذي سيحيي الموتى، ويبعثهم من قبورهم، ويقف كل واحد أمامه عز وجل للحساب على ما عمل، وما اكتسبت يداه في هذه الدنيا.
وهكذا الإنسان: خلق الله أبانا آدم من تراب، ثم جاءت منه الذرية خلقهم سبحانه من ماء مهين، ثم تحولوا إلى علقة، ثم إلى مضغة، ثم إلى إنسان سوي له سمع وبصر، وعقل وإدراك وجوارح، ثم يتدرج ويكبر، حتى يصير إنسانا عظيما، فيأخذ ويعطي ويفكر ويتعلم وينتج.
وإن هذه الآيات العظيمة كلها تدل على قدرة الله عز وجل، وتدل على صدق الرسل وإخبارهم بأن هناك - أي في الآخرة - مجتمعا لديه سبحانه، يؤيد فيه الحق، ويجزي أهله بأحسن الجزاء ويدخلهم الجنة ويقيهم عذاب النار، ويذل أعداءه ويخلدهم في النار أبد الآباد.
ثم إن كل عاقل في هذه الدار يشاهد من يظلم، ومن تؤخذ حقوقه، ومن يعتدى عليه في ماله وبدنه وغير ذلك، ثم يموت الظالم ولم يرد الحقوق، ولم ينصف المظلوم، فهل يضيع ذلك الحق على المظلومين المساكين المستضعفين؟ ! كلا. . فإن الخالق العظيم الحكيم العليم حدد للإنصاف موعدا، ذلك الموعد هو يوم القيامة(23/410)
ينصف فيه المظلوم الذي لم يعط حقه في الدنيا كاملا من الظالم، فينتقم منه ويعاقبه بما يستحق.
إن هذه الدار ليست دار جزاء ولكنها دار امتحان وابتلاء، وعمل وسرور وأحزان، وقد ينصف فيها المظلوم فيأخذ حقه فيها، وقد يؤجل أمره إلى يوم القيامة لحكمة عظيمة، فينتقم الله من هؤلاء الظالمين، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (1)
ففي هذا اليوم الرهيب ينصف الله المظلومين، ويعطيهم جزاءهم، وينتقم لهم من الظالمين، وقد يعجل الله سبحانه للظلمة العقوبات في الدنيا، كما فعل في أمم كثيرة، وقد يؤجل ذلك للمظلومين والظالمين، ثم تعطى الحقوق في هذا اليوم العظيم، يوم القيامة الذي تشخص فيه الأبصار، وكل ذلك حق.
فالحكم العليم القادر على كل شيء لا يفوت على المظلومين حقهم، ولهذا أخبرنا أن هناك بعثا ونشورا، وأن هناك جزاء وحسابا، وقد قامت على هذا الأدلة من القرآن والسنة، وإجماع الأمة، والعقول الصحيحة، والفطر السليمة، ودلت على أنه لا بد من جزاء وحساب، وأن البعث حق وأن الجنة حق، وأن
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 42(23/411)
النار حق، كل ذلك جاءت به الكتب السماوية، والسنة النبوية، وأجمع عليها المسلمون.
ومع ذلك فالفطر السليمة والعقول الصحيحة تشهد بذلك، وإننا نشاهد ظالمين ومظلومين لم يقتص من الظالمين للمظلومين، ولم تؤخذ منهم الحقوق، فلا بد لهم من يوم يحاسبون فيه، ويجازى فيه كل إنسان على ما قدم.
إننا نجد مؤمنين صالحين موفقين مجتهدين في سبيل الخير، لم ينالوا ما ناله غيرهم من أولئك الذين تعدوا حدود الله، وظلموا عباد الله، وهم مع هذا لديهم الأموال العظيمة، والقصور الشاهقة، والخدم والمتاع.
وجمع غفير من الأخيار المتقين، محرومون لم ينالوا من هذا شيئا، فلا بد من موعد ولا بد من لقاء مع ربهم، يعطون فيه من المنازل العالية، والأجر العظيم، ويتكرم عليهم سبحانه بأنواع الفضل، جزاء صبرهم وأعمالهم الصالحة، فينالون الثواب الكبير، والمنازل العالية، والخير الجزيل، والإحسان العظيم، والقصور والجواري والخيرات التي لا تحصى، على ما فعلوا من خير، وعلى ما قدموا من عمل صالح، ويجازي سبحانه هؤلاء الظالمين، المفرطين المعرضين، الذين ركنوا إلى الدنيا، وغرتهم شهواتها، وانساقوا وراء مفاتنها، مما يستحقون من العذاب والنكال، وسوء(23/412)
المصير، وما ذلك إلا لتفريطهم، وإعراضهم عن الله، وتعديهم حدوده، ومقابلتهم نعمه بالكفران، وظلمهم عباده، وإدبارهم عن طاعته.
فهؤلاء يجازيهم الله عز وجل بما يستحقون، وهذه الأمور العظيمة إذا تأملها صاحب العقل الصحيح، والفطرة السليمة، عرف أن المعاد حق، وعلم أن ما يدعيه الملحدون والشيوعيون والوثنيون وغيرهم ممن ينكرون الآخرة ومعاد الأبدان: من أبطل الباطل، واتضح له أن دعواهم ساقطة، وأقوالهم زائفة.
وهكذا أصحاب النحل والدعوات المضللة، والأفكار الهدامة، كلها على هذا السبيل، إذا تأملها ذو العقل الصحيح، والبصيرة النافذة، والفطرة السليمة، عرف بطلانها وعرف أدلة زيفها، من الكتاب والسنة المطهرة، ومن الكتب الصحيحة، فإنه سبحانه خلق الشواهد، وأقام الدلائل على الحق، من كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبما أودع في العقول من فهم وإدراك، وبما خلق في هذه الدنيا من مخلوقات، وأوجد فيها من كائنات، تشهد له بالحكمة، وأنه الخلاق العليم، الرزاق الكريم، القادر على كل شيء، والمستحق لأن يعبد وحده لا شريك له.
والجدير بطالب العلم، أينما كان أن يقبل على كتاب الله، وأن يجعل تدبره وتعقله، من أكبر همه، ومن أعظم شواغله، وأن(23/413)
تكون له العناية الكاملة بقراءته، وتدبر ما فيه من المعاني العظيمة، والبراهين الساطعة، على صحة ما جاءت به الرسل، وعلى صدق ما دل عليه الكتاب، وعلى بطلان ما يقول به أهل السوء، أينما كانوا، وكيفما كانوا.
ومن تدبر القرآن طالبا للهدى أعزه الله، وبصره وبلغه مناه، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) وقال عز وجل: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (2)
وهكذا السنة المطهرة إذا تأملها المؤمن، وتأمل موقفه صلى الله عليه وسلم مع أعدائه وخصومه في مكة والمدينة عرف الحق، وأن أهل الحق منصورون وممتحنون، ومن فاته النصر في الدنيا فلن يفوته الجزاء والعوض في الآخرة، كما قال عز وجل: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (3) {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (4) فقد وعد الله سبحانه بالنصر للعاملين في الدنيا والثواب في الآخرة، قال عز وجل:
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة فصلت الآية 44
(3) سورة غافر الآية 51
(4) سورة غافر الآية 52(23/414)
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2) فقد وعد الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين، الذين يعملون للحق، ويقيمون الصلاة، ويؤدون الزكاة لمستحقيها، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وعدهم جل وعلا بالنصر، وهو يعم النصر في الدنيا والتمكين فيها والنصر والرضى من الله سبحانه يوم القيامة، يوم يقوم الأشهاد.
وفي هذا عزة للمؤمنين، وذلة للكافرين، فالمؤمنون يفوزون بالجنة، والكافرون تعلو وجوههم الذلة والندامة، والنار تكون مثواهم ومصيرهم.
وفي هذا المعنى يقول سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ومن تأمل أحوال أهل العلم الموفقين الذين نبغوا في هذه الأمة وتدبروا كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة الحج الآية 41
(3) سورة النور الآية 55(23/415)
وعلموا في ذلك ما يعينهم على فهم كتاب الله، وعلى فهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهما صحيحا من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم والتابعين لهم بإحسان من أئمة الإسلام فيما كتبوا وما نقل عنهم ومن سار على نهجهم من أهل الصدق والوفاء والبصيرة كأبي العباس ابن تيمية رحمه الله وتلميذيه: العلامة ابن القيم والحافظ ابن كثير وغيرهم ممن برزوا في هذا الميدان من أئمة هذا الشأن.
نعم من تأمل أحوالهم، وفتح الله عليه بفهم ما قالوا وما كتبوا رأى العجب العجاب، والعبر الباهرة، والعلوم الصحيحة، والقلوب النيرة، والبراهين الساطعة، التي ترشد من تمسك بها إلى طريق السعادة وسبيل الاستقامة.
وبذلك يحصل له بتوفيق الله سبحانه، تحقيق الغاية المطلوبة، وتحصن نفسه بالعلوم والمعرفة والطمأنينة إلى الحق، الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ودرج عليه سلف هذه الأمة.
ويتضح له أن من خالفهم من دعاة الزيغ والضلال، ليس عندهم إلا الشبهات الباطلة، والحجج الزائفة، التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
ويعلم حقا أن طالب العلم في الحقيقة هو الذي يميز الحق من الباطل، بأدلته الظاهرة، وبراهينه الساطعة، ويقرأ كتب الأئمة(23/416)
المهتدين، ويأخذ منها ما وافق الحق، ويترك ما ظهر بطلانه، وعدم موافقته للحق، ومن هؤلاء الأئمة المبرزين الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وأنصاره في القرآن الثاني عشر وما بعده، قد برزوا في هذا الميدان، وكتبوا الكتابات العظيمة الناجحة، وأرسلوا الرسائل إلى الناس وردوا على الخصوم، وأوضحوا الحق في رسائلهم ومؤلفاتهم، بأدلة من الكتاب والسنة، وقد جمع من ذلك العلامة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله جملة كثيرة في كتابه المسمى: (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) .
والأدلة التي كتبها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وتلاميذه من تأملها وتبصر فيها رأي فيها الحق المبين، والحجج الباهرة، والبراهين الساطعة التي توضح بطلان أقوال الخصوم، وشبهاتهم، وتبين الحق بأدلته الواضحة.
وهم رحمة الله عليهم - مع تأخر زمانهم - قد وفقوا في إظهار الحق وبيان أدلته، وأوضحوا ما يتعلق بدعوة التوحيد، والرد على دعاة الوثنية، وعباد القبور، وبرزوا في هذا السبيل، وكانوا على النهج المستقيم، نهج السلف الصالح، واستعانوا في هذا الباب بالأدلة الواضحة التي جاءت في الكتاب والسنة النبوية، وعنوا بكتب الحديث، وكتب التفسير، وبرزوا في هذا الميدان حتى أظهر الله بهم الحق، وأذل بهم الباطل، وأقام بهم الحجة على غيرهم،(23/417)
ونشر بهم راية الإسلام، وقامت راية الجهاد، وأجرى الله على أيديهم من نعمه وخيره الجزيل ما لا يحصى، وأصبح أهل الحق في سائر الأمصار الذين عرفوا كتبهم، وصحة دعوتهم، وسلامة منهجهم، ينضرون دعوتهم، ويستعينون بما ألفوا في هذا الشأن على خصوم الإسلام وأعداء الإسلام في كل مكان، من أهل الشرك والبدع والخرافات.
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعا لما يرضيه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وصالحين مصلحين، وأن يمنحنا الفقه في دينه، كما أسأله عز وجل أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يولي عليهم خيارهم، وأن يصلح قادة المسلمين، ويجعلهم هداة مهتدين، وأن يوفقهم لتحكيم الشريعة والتحاكم إليها، وأن يوفق ولاة أمرنا لكل خير، وينصر بهم الحق، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(23/418)
144 - العلم بأحكام الله من أهم الواجبات
(1) الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه وعلى آله وصحبه، ومن نهج نهجه وسار على هديه إلى يوم الدين أما بعد:
فإن العلم بأحكام الله أمر ضروري، على كل مسلم ومسلمة في كل ما لا يسعهما جهله، ليسيرا في عبادتهما لربهما على هدى وبصيرة.
ولا يمكن للإنسان المسلم أن يفهم دينه ويعمل به، إلا إذا عرف أحكامه، وأولاها اهتمامه وعنايته، وبذل جهده وطاقته للإلمام بها، لتكون عبادته لربه بنيت على أساس صحيح ومتين، ومن وفقه الله لمعرفة أحكام هذا الدين، والأخذ بها فقد هدي إلى صراط الله المستقيم، وحصل على خير كثير.
يقول الله سبحانه: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (2)
__________
(1) نشر في مجلة البحوث الإسلامية العدد (6) ص 7 - 10، ربيع الثاني والجماديين سنة 1403 هـ.
(2) سورة البقرة الآية 269(23/419)
قال الحافظ ابن كثير في تفسيرها قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} (1) يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه وأمثاله. وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا: الحكمة القرآن. يعنى تفسيره، قال ابن عباس، فإنه قد قرأه البر والفاجر رواه ابن مردويه، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد يعني بالحكمة الإصابة في القول، وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} (2) ليست بالنبوة، ولكنه العلم والفقه والقرآن، وقال أبو العالية: الحكمة خشية الله، فإن خشية الله رأس كل حكمة، وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن عثمان بن زفر الجهني عن أبي عمار الأسدي عن ابن مسعود مرفوعا: «رأس الحكمة مخافة الله» . وقال أبو العالية في رواية عنه: الحكمة الكتاب والفهم. وقال إبراهيم النخعي: الحكمة الفهم. وقال أبو مالك: الحكمة السنة. وقال وهب عن مالك: قال زيد بن أسلم: الحكمة العقل، قال مالك: " إنه ليقع في قلبي أن الحكمة هي
__________
(1) سورة البقرة الآية 269
(2) سورة البقرة الآية 269(23/420)
الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله، ومما يبين ذلك أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا إذا نظر فيها، وتجد آخر ضعيفا في أمر دنياه عالما بأمر دينه بصيرا به يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا، فالحكمة الفقه في دين الله " اهـ كلام ابن كثير رحمه الله.
ولكي ندرك أهمية الفقه في دين الله وأنه نور لحامله، والعامل به في الدنيا والآخرة، ولكي ندرك أهميته وجدواه نجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » متفق عليه.
ويقول عليه الصلاة والسلام: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (2) » رواه البخاري ومسلم.
ويقول صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(2) صحيح البخاري العلم (79) ، صحيح مسلم الفضائل (2282) ، مسند أحمد بن حنبل (4/399) .(23/421)
الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها (1) » رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه.
ولقد برز حبر الأمة وترجمان القرآن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في معرفة الدين فقها وتفسيرا، وتوسع في علوم الشريعة ووعاها ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل (2) » ، إنها دعوة مباركة من رسول مبارك، تقبلها الله منه عليه الصلاة والسلام، ونعمة أنعم الله بها على ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما، وقد برز في عهده وقبله وبعده أئمة أفذاذ في أصول الدين وفروعه، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم حملوا أمانة التبليغ والدعوة، وأدوها أحسن ما يكون الأداء، وبصروا الناس بدين الإسلام، سواء في حلقات الدروس والمذاكرة والإرشاد المنتشرة في بيوت الله، أو فيما خلفوه من تراث علمي ومؤلفات قيمة في شتى فروع العلم الشرعي وغيره من العلوم الأخرى التي تخدم الشريعة وترتبط بها، وهيأ الله ولاة صالحين يبذلون بسخاء في سبيل نشر العلم وتشجيع العلماء وطلاب العلم.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (71) كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، ومسلم برقم (1352) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه.
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/266) .(23/422)
إن التفقه في الإسلام وما اشتمل عليه من أحكام، يقتضي البحث والاطلاع لمعرفة حكم الله في كل قضية تعرض للمسلم في حياته، فلا يتجاوز هذه القضية دون بحث واستقصاء ليصل إلى الحكم بالدليل من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو الإجماع أو القياس الجلي.
والدين الإسلامي بحمد الله واضح لا غموض فيه، ولا التباس في أحكامه وتشريعاته، وقد بينها الله في كتابه المبين، وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وحمل لواء هذه السنة وبينها ودافع عنها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان من سلف هذه الأمة، وأئمة الشريعة وعلمائها جيلا بعد جيل، ثم تقاعس الكثير من الناس عن البحث والطلب والتحصيل واكتفوا بالتقليد لغيرهم، فوقعوا في أغلاط كثيرة في العقيدة والأحكام.
ولقد أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى الصراط المستقيم. وهو طريق المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين علموا فعملوا، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وهم الذين عرفوا الحق واتبعوا أهواءهم، وهم اليهود ومن على شاكلتهم، وأن يجنبنا طريق الضالين وهم الذين جهلوا الحق وهم النصارى ومن على شاكلتهم.(23/423)
أيها الإخوة المسلمون كيف نعرف أن هذا الماء طاهر أو نجس، أو أن هذا الشراب أو الطعام أو الإناء أو الصيد أو السوار أو اللباس مباح أو حرام أو مكروه أو مستحب. كيف نعرف أن اقتناء هذا المال أو إنفاقه حلال أو حرام، كيف نهتدي إلى العبادات ونعرف أوقاتها وطريقة أدائها، كيف نعرف قسمة المواريث والفرائض، وكيف تقام الحدود وكيف نقيم المعاملات فيما بيننا إلى غير ذلك من تفاصيل العبادات والمعاملات، وما يسمى اليوم بالأحوال الشخصية كالنكاح والطلاق وغيرهما.
لقد استوعبت ذلك كله شريعتنا المطهرة ولله الحمد، إن دين الإسلام الحنيف قد أكمله الله، وما من شأن من شئون الدنيا والآخرة إلا وفي هذا الدين له حكم وبيان واضح جلي لمن رزق البصيرة فيه.
فهو دين كامل شامل، ليس قاصرا على النواحي التعبدية، ولا شأن له بالنواحي المعاشية كما يرميه بذلك أعداؤه، ومن نهج نهجهم، إنه دين يربط المخلوق بخالقه برباط متين، كما يقيم أفضل علاقة بين الإنسان وأهله وأقاربه، وبين الإنسان وأخيه، سواء كان على دينه أو على غير دينه، قائمة على العدالة والترابط والتسامح والتعاون على البر والتقوى، كما أوضح كيف تعامل الحيوان الأعجم بالرفق والرحمة، والإحسان قبل أن تتظاهر أوروبا(23/424)
بالرفق بالحيوان، من خلال جمعيات أنشأتها لهذا الغرض، وهي لم ترفق بعد بالإنسان ولم ترع حقوقه.
فالواجب على المسلمين التفقه في دينهم، وأن لا يتجاوزوا حدود ما أنزل الله، وأن يحرصوا على فهم أحكام دينهم قبل أي شيء، فإن بعض الناس هداهم الله، ووفقهم، قد يحيط بعلوم كثيرة من علوم الحياة ويبرز فيها، ولكنه لا يعلم شيئا من أحكام دينه، وأسرار شريعته ولا يهتم بذلك، وهذا هو الجهل الفاضح والمصيبة العظمى، فإن العلم بأحكام الله يجب أن يكون مقدما على المعارف الأخرى، ولا مانع من التزود بالعلوم والمعارف الأخرى، ولكن لا بد من تقديم الأصل الأصيل، والركيزة الأساسية للعلوم كلها وهي معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته، واستحقاقه العبادة في دون كل ما سواه، ومعرفة دينه عقيدة وسلوكا وعبادة وأحكاما، مما لا يسع المسلم جهله كما أن الواجب على المسلمين أن يتمسكوا بدينهم بصدق وإخلاص، ويتقبلوا ما يأمرهم به فيعملوا به ويطبقوه في شئون حياتهم كلها دون تمييز، وليعلموا أنهم إن فعلوا ذلك سيسعدون ويفلحون في الدنيا والآخرة.
وهذه الأمة شرفها الله بهذا الدين، وأعزها به، فإذا تخاذلت عن ذلك فلا قيمة لها ولا عزة ولا سعادة.(23/425)
فنسأل الله أن يوفقنا والمسلمين جميعا لما فيه رضاه، وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن، ومن شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يمن علينا جميعا بالفقه في دينه، والثبات عليه والدعوة إليه على بصيرة، وأن يصلح ولاة أمر المسلمين، وينصر بهم الحق، ويجمعهم على الهدى، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه.(23/426)
145 - فضل العلم وشرف أهله (1)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه كلمة موجزة في: فضل العلم، وشرف أهله. لقد دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على فضل العلم والتفقه في الدين، وما يترتب على ذلك من الخير العظيم
__________
(1) نشرت في المجموع لسماحته ج 7 ص 200 وفي مجلة البحوث العلمية العدد (27) عام 1410 هـ.(23/426)
والأجر الجزيل، والذكر الجميل، والعاقبة الحميدة لمن أصلح الله نيته، ومن عليه بالتوفيق.
والنصوص في هذا كثيرة معلومة، ويكفي في شرف العلم وأهله أن الله عز وجل استشهدهم على وحدانيته، وأخبر أنهم هم الذين يخشونه على الحقيقة والكمال، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) فاستشهد الملائكة وأولي العلم على وحدانيته سبحانه، وهم العلماء بالله، العلماء بدينه الذين يخشونه سبحانه ويراقبونه، ويقفون عند حدوده، كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (2)
ومعلوم أن كل مسلم يخشى الله، وكل مؤمن يخشى الله، ولكن الخشية الكاملة إنما هي لأهل العلم، وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم من يليهم من العلماء على طبقاتهم، فالعلماء هم ورثة الأنبياء، فالخشية لله حق، والخشية الكاملة إنما هي من أهل العلم بالله والبصيرة به، وبأسمائه، وصفاته، وعظيم حقه سبحانه وتعالى، وأرفع الناس في ذلك هم الرسل والأنبياء
__________
(1) سورة آل عمران الآية 18
(2) سورة فاطر الآية 28(23/427)
عليهم الصلاة والسلام، ثم يليهم أهل العلم على اختلاف طبقاتهم في علمهم بالله ودينه.
والجدير بالعالم أينما كان، وبطالب العلم، أن يعنى بهذا الأمر، وأن يخشى الله، وأن يراقبه في كل أموره، في طلبه للعلم، وفي عمله بالعلم، وفي نشره للعلم، وفي كل ما يلزمه من حق الله، وحق عباده، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين في حديث معاوية رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » .
وهذا الحديث العظيم له شواهد أخرى، عن عدة من الصحابة رضي الله عنهم، وهو يدل على أن من علامات الخير ودلائل السعادة، أن يفقه العبد في دين الله، وكل طالب مخلص في أي جامعة أو معهد علمي أو غيرهما، إنما يريد هذا الفقه ويطلبه، وينشده. . فنسأل الله لهم في ذلك التوفيق والهداية وبلوغ الغاية.
ومن أعرض عن الفقه في الدين فذلك من العلامات على أن الله ما أراد به الخير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منها طائفة طيبة، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(23/428)
فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (1) » .
فالعلماء الذين وفقوا لحمل هذا العلم طبقتان: إحداهما: حصلت العلم ووفقت للعمل به، والتفقه فيه، واستنبطت منه الأحكام، فصاروا حفاظا وفقهاء، نقلوا العلم وعلموه الناس وفقهوهم فيه، وبصروهم ونفعوهم، فهم ما بين معلم ومقرئ، وما بين داع إلى الله عز وجل، ومدرس للعلم، إلى غير ذلك من وجوه التعليم والتفقيه.
أما الطبقة الثانية: فهم الذين حفظوه ونقلوه لمن فجر ينابيعه، واستنبط منه الأحكام، فصار للطائفتين الأجر العظيم، والثواب الجزيل، والنفع العميم للأمة.
وأما أكثر الخلق فهم كالقيعان التي لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ لإعراضهم وغفلتهم وعدم عنايتهم بالعلم.
فالعلماء وطلبة العلم في دور العلم الشرعي على خير عظيم، وعلى طريق بحمد الله مستقيم، لمن وفقه الله لإخلاص النية، والصدق في الطلب. وهنيئا لطلبة العلم الشرعي أن يتفقهوا في دين الله، وأن يتبصروا فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) صحيح البخاري العلم (79) ، صحيح مسلم الفضائل (2282) ، مسند أحمد بن حنبل (4/399) .(23/429)
من الهدى والعلم، وأن ينافسوا في ذلك، وأن يصبروا على ما في ذلك من التعب والمشقة، فإن العلم لا ينال براحة الجسم، بل لا بد من الجد والصبر والتعب، وهذا الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه في أبواب المواقيت من كتاب الصلاة لما ساق عدة أسانيد ذكر فيها عن يحيى بن أبي كثير رحمه الله أنه قال: (لا ينال العلم براحة الجسم) ، ومقصوده رحمه الله من هذا التنبيه على أن تحصيل العلم والتفقه في الدين يحتاج إلى صبر ومثابرة، وعناية وحفظ للوقت، مع الإخلاص لله، وإرادة وجهه سبحانه وتعالى.
والدور العلمية التي يدرس فيهما العلم الشرعي، وهكذا المساجد التي تقام فيها الحلقات العلمية الشرعية، شأنها عظيم، وفائدتها كبيرة، لأنها مهيأة لنفع الناس وحل مشاكلهم.
فالمتخرجون فيها يرجى لهم الخير العظيم، والفائدة الكبيرة، والنفع العام، فلا ينبغي لمن من الله عليه بالعلم أن ينزوي عن نفع الناس وتفقيههم وتذكيرهم بالله، وبحقه وحق عباده، سواء كان ذلك من طريق التدريس أو القضاء أو الوعظ والتذكر، أو المذاكرة بين الزملاء والإخوان في المجالس العامة والخاصة، كما ينبغي لأهل العلم أن يشاركوا في نشر العلم عن طريق وسائل الإعلام، لعظم الفائدة في ذلك، ووصول العلم إلى ما شاء الله من أنحاء الأرض.(23/430)
ومعلوم ما في ذلك من الخير العظيم، والنفع العام لله للمسلمين، وشدة الحاجة إلى ذلك في هذا العصر، بل في كل عصر، ولكن في هذا العصر أشد لقلة العلم وكثرة دعاة الباطل.
فالواجب على من رزق العلم، أن يتحمل المشقة في نفع الناس به: قضاء وتدريسا، ودعوة إلى الله عز وجل، وفي غير هذا من شئون المسلمين، حتى تحصل الفائدة الكبيرة، والثمرة العظيمة من هذا الطلب.
وطالب العلم يطلب العلم لينفع نفسه، ويخلصها من الجهالة ويتقرب إلى ربه عز وجل بما يرضيه، على بصيرة وحسن دراية، ولينفع الناس أيضا، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويقض بينهم في مشاكلهم، ويصلح بينهم، ويعلم جاهلهم، ويرشد ضالهم، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر إلى غير ذلك.
فطالب العلم تدخل مهمته في أشياء كثيرة، ولا تنحصر في أبواب معدودة، ولا سيما القاضي. فإن القاضي إن وفقه الله وصبر تدخل وظيفته في أشياء كثيرة، فهو مع العلم محسوب، ومع القضاة محسوب، ومع المدرسين محسوب، ومع أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محسوب، ومع الدعاة إلى الله عز وجل، ومع المصلحين، إلى غير ذلك من شئون المسلمين. فينبغي له أن يهيئ نفسه لذلك، ويوطنها على تحمل الشدائد، في سبيل(23/431)
الله، وأن تكون همته عالية، كما كان سلفنا الصالح وأئمتنا - رحمهم الله جميعا - ينفعون الناس بكل ما يستطيعون.
وإن وصيتي لأهل العلم وطلبته، ولكل مسلم ومسلمة، أن يصبروا في هذا الأمر، وأن يواصلوا الجهود في سبيل الحق، وأن يحفظوا الوقت، وأن يكثروا من المذاكرة بينهم فيما قد يشكل على بعضهم، حتى يتوافر لديهم من المعلومات ما يحصل به الخير لهم، وللمسلمين إن شاء الله، مع الحرص على إصلاح النية والإخلاص في كل ما يتقرب به العبد إلى ربه، وفي كل ما ينفع الناس.
ومن الأمور التي تنفع الناس، وتحل بها المشاكل، وينتشر بها العدل توجه أهل العلم والبصيرة والخشية لله سبحانه للقضاء بين الناس وتعليمهم.
ومعلوم أن القضاء مما يعظم الله به الأجور، ويرفع به الدرجات، لمن أصلح الله نيته، ومنحه العلم النافع، وقصد به الخير للمسلمين.
وهو وإن كان خطيرا وإن كان سلفنا الصالح يهابونه، ويخافونه، ولكن الأحوال تختلف، والزمان يتفاوت، والناس اليوم في أشد الضرورة إلى العالم الذي يقضي بين الناس على بصيرة، ويخاف الله ويراقبه في حل مشاكلهم.(23/432)
فلا ينبغي لمن أهله الله للقضاء بين الناس، ومنحه العلم والبصيرة، واشتدت إليه الحاجة أن يمتنع عن قبول القضاء، بل يجب عليه أن يقبله وأن يوطن نفسه على العمل بعلمه، وأن ينفذ ما أريد منه، وأن ينفع الناس بعلمه، ويسأل ربه التوفيق والإعانة فإن عجز بعد ذلك، ورأى من نفسه أنه لا يستطيع أمكنه بعد ذلك أن يعتذر وأن يستقيل.
أما من أول وهلة فلا ينبغي له ذلك، وهذا باب لا ينبغي لأهل العلم والإيمان والقدرة على نفع الناس أن يفتحوه، بل ينبغي لأهل العلم أن تكون عندهم الهمة العالية والقصد الصالح، والرغبة في نفع المسلمين، وحل المشاكل التي تعرض لهم، حتى لا يتولى ذلك الجهلة، فإنه إذا ذهب أهل العلم تولى الجهلة ولا شك. . . إما هذا، وإما هذا، فلا بد للناس من قضاة يحلون مشاكلهم، ويحكمون بينهم بالحق، فإن تولى ذلك الأخيار وإلا تولاه غيرهم.
فالواجب على أهل العلم، وعلى كل من يخشى الله أن يقدر هذا الوضع، وأن يحتسب الأجر عند الله، وأن يصبر ويتحمل ويرجو ما عند الله عز وجل من المثوبة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير(23/433)
علم، فضلوا وأضلوا (1) » خرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وبذا يعلم أهل العلم والإيمان عظم الخطر، وسوء العاقبة، إذا فقد علماء الحق، أو تركوا الميدان لغيرهم.
ولا يخفى أن العالم سواء كان قاضيا أو غيره إذا اجتهد فأصاب، فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا خطر عليه مع الصدق والإخلاص والتحري للحق، وإنما الخوف والخطر العظيم على من يتهجم على القضاء أو الفتوى بالجهل، أو يقضي بالجور، كما في حديث بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق وقضى به، ورجل عرف الحق فجار فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار (2) » أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (100) ، صحيح مسلم العلم (2673) ، سنن الترمذي العلم (2652) ، سنن ابن ماجه المقدمة (52) ، مسند أحمد بن حنبل (2/162) ، سنن الدارمي المقدمة (239) .
(2) أخرجه أبو داود برقم (3102) كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ والترمذي برقم (1244) كتاب الأحكام، باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي، وابن ماجه برقم (2306) كتاب الأحكام، باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق.(23/434)
أما من يتحرى الحق، ويجتهد في العمل به، ويتحرى النفع للمسلمين فهو بين أمرين، بين أجر وأجرين كما تقدم بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إني أوصى جميع إخواني المسلمين عامة، وأهل العلم وطلبته بصفة خاصة، ونفسي بتقوى الله عز وجل في كل الأمور، والعمل بالعلم بأداء فرائض الله، والبعد عن محارمه، لأن طالب العلم قدوة لغيره فيما يأتي ويذر في جميع الأحوال في حال القضاء وغير القضاء، في طريقه وفي بيته، وفي اجتماعه بالناس وفي سيارته، وفي طائرته وفي جميع الأحوال. فهو قدوة في الخير، عليه أن يراقب الله ويعمل بما علمه سبحانه، ويدعو الناس إلى الخير بقوله وعمله جميعا، حتى يتميز بين الناس ويعرف بعلمه وفضله، وهديه الصالح، وسيره على المنهج النبوي الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، رضي الله عنهم، مع العناية بالتواضع، وعدم التكبر.
فالعالم وغيره على خطر عظيم، تارة من جهة الرياء، وتارة من جهة الكبر، وتارة من جهات أخرى، ومقاصد متعددة، فعليه أن يتقي الله، ويخلص له العمل، ويراقب الله سبحانه وتعالى في جميع شئونه، ويتواضع لعباد الله، ولا يتكبر عليهم بما أعطاه الله من العلم وحرمه كثيرا من الناس، فليشكر(23/435)
الله، ومن شكر الله التواضع، وعدم التكبر، ومن شكر الله نشر العلم في المساجد وفي غير المساجد.
فالقاضي يخطب الناس إذا احتيج إليه، ويدرس طلبة العلم، ويدعو إلى الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويجتهد في إصلاح أحوال المسلمين، ويتصل بولاة الأمور ويرفع إليهم ما يرى أنه من نصحهم، فيكون دائما في مصالح المسلمين، وفي كل ما ينفعهم، وفي كل ما يبرئ ذمته، ويرفع شأن الإسلام وأهله.
وأيضا أوصي إخواني جميعا وعلى رأسهم أهل العلم وطلبته بالقرآن الكريم، فإنه أعظم كتاب، وأشرف كتاب، وقد حوى خير العلوم كلها وأنفعها كما لا يخفى، وهو أعظم عون بعد الله عز وجل على الفقه في الدين، والتبصر فيه، والخشية لله عز وجل، وهو المعين في التأسي بالأخيار، فأوصي الجميع ونفسي بهذا الكتاب العظيم تدبرا وتعقلا وإكثارا من تلاوته ليلا ونهارا، والرجوع إليه في كل شيء، ومراجعة كلام أهل التفسير فيما أشكل، فهو خير معين على فهم كتاب الله جل وعلا، لأن هذا الكتاب هو خير كتاب، وأفضل كتاب وأصدق كتاب، يقول الله سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9(23/436)
ويقول عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (1)
ويقول جل وعلا: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (2)
ويقول سبحانه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (3) فجدير بالمؤمنين والمؤمنات عامة، وبأهل العلم خاصة أن يولوه العناية العظيمة، وأن يعضوا عليه بالنواجذ، وأن يجتهدوا في تدبره وتعقله والعمل به، ومراجعة كلام أهل العلم فيما أشكل، كما قال الله سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (4)
وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (5)
ثم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والعناية بها وحفظ ما تيسر منها، مع إكثار المذاكرة فيها، ولا سيما ما يتعلق بالعقيدة، وما يجب على المكلف فعله، وما يتعلق بعمل الإنسان
__________
(1) سورة النحل الآية 89
(2) سورة فصلت الآية 44
(3) سورة الأنعام الآية 38
(4) سورة ص الآية 29
(5) سورة محمد الآية 24(23/437)
الخاص به، فإنه به ألصق، وعنايته أوجب، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (1)
ولا سبيل إلى اتباعه صلى الله عليه وسلم على الكمال إلا بدراسة سنته، والعناية بها مع العناية بكتاب الله عز وجل.
وأوصي أهل العلم وطلبته بالعناية بكتب الحديث والإكثار من قراءتها وتدريسها والمذاكرة فيها، وأهمها الصحيحان، ثم بقية الكتب الستة، مع موطأ الإمام مالك، ومسند الإمام أحمد، وسنن الدارمي وغيرهما من كتب الحديث المعروفة، ضاعف الله الأجر لمؤلفيها، وجزاهم عن المسلمين خير الجزاء.
ثم مؤلفات أهل العلم المعروفين بحسن العقيدة، وسعة العلم بالأدلة الشرعية، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذاه: العلامة ابن القيم، والحافظ ابن كثير رحمة الله عليهم جميعا. وقد برزوا في ذلك، ونشروا بين المسلمين العلم الكثير، وبينوا للناس عقيدة أهل السنة والجماعة بأدلتها من الكتاب والسنة.
ومن أهم كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: منهاج السنة، ومجموع الفتاوى، ومطابقة صريح المعقول لصحيح المنقول، والجواب الصحيح في الرد على من بدل دين المسيح، وغيرها من
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31(23/438)
الكتب المفيدة النافعة والمشتملة على بيان العقيدة الصحيحة والأحكام والرد على خصوم الإسلام.
ومن أفضل كتب ابن القيم رحمه الله: الطرق الحكمية، وإعلام الموقعين، وزاد المعاد، فهذه الكتب لها شأن عظيم، ولا سيما في حق القضاة والمفتين.
وهكذا فتاوى أئمة الدعوة: المسماة الدرر السنية، فقد جمعت رسائل كثيرة وأجوبة مفيدة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وتلاميذه وأتباعه رحمهم الله جميعا، وهكذا فتاوى شيخنا العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، فقد اشتملت على علم عظيم، وفوائد جمة.
فأوصي بهذه الكتب بعد كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ولما فيها من العلم العظيم، والعون على كل خير.
وهكذا ما أشبهها من الكتب المفيدة النافعة التي تعتني بالدليل مثل المغني، وشرح المهذب، والمحلى وغيرها من الكتب التي تعنى بالدليل ونقل أقوال أهل العلم، فهي من أهم الكتب لأهل العلم وطلبته من القضاة وغيرهم.
وأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن يوفقنا وجميع المسلمين للعلم النافع، والعمل الصالح، وأن يمنحنا جميعا النية(23/439)
الخالصة، والصبر والفقه في الدين، والفوز بالعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، إنه تعالى جواد كريم، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يوفق ولاة أمرنا وجميع ولاة أمر المسلمين، ويصلح بطانتهم، وأن يعينهم على كل خير، وأن ينصر بهم الحق، ويخذل بهم الباطل، وأن يعينهم على تحكيم كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل شيء، وأن يعيذنا وإياهم وسائر المسلمين من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه سميع قريب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(23/440)
146 - كلمة بمناسبة مسابقة حفظ القرآن الكريم والسنة النبوية بالقصيم (1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه، أما بعد:
فإن الله تعالى قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وعلمه الكتاب والحكمة، أي: القرآن والسنة، كما في الحديث الذي رواه أهل السنن بسند صحيح، أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه (2) » .
فالقرآن والسنة هما الأصلان اللذان عليهما مدار الأحكام، ومن رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن قيض لها من يحفظ عليها أمر دينها.
فمنذ العصور الأولى والأمة تعتني بالقرآن حفظا ومدارسة وفهما وتأملا وتفسيرا وتعلما وتعليما وإلى اليوم، والحمد لله على ذلك. فهذه المدارس القرآنية والجمعيات الحكومية والخيرية التي تربط النشء على حفظ كتاب الله وفهمه، والعمل به مما يسر كل مسلم، وإن مما يضاعف الفرحة أن نجد إقبال حفاظ القرآن
__________
(1) نشرت في المجموع لسماحته ج 8 ص 53.
(2) سنن أبو داود السنة (4604) ، مسند أحمد بن حنبل (4/131) .(23/441)
وغيرهم على التفقه في الأمور الشرعية، ودراسة السنة النبوية وحفظها وتعلمها وتعليمها.
فإن هذه الدروس العلمية المقامة في المساجد في سائر المناطق في منطقة القصيم وغيرها، لتعليم الحديث والفقه والتفسير هي من رياض الجنة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر (1) » .
وقد صحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تتداعى إليها.
فنحمد الله على وجودها وكثرتها وكثرة المقبلين عليها، ونسأل الله أن يبارك في عمل القائمين عليها، ويضاعف مثوبتهم ويرزقهم الإخلاص في ذلك، وأن يجزيهم خير الجزاء.
وإن مما ينبغي الإشادة به الاهتمام بالسنة النبوية في هذا الوقت، الذي كثر فيه الإعراض عنها والاعتراض عليها من بعض الجهلة، أو من أهل البدع أو غيرهم.
فالعمل على نشر السنة واجب، وتعليمها من أفضل القربات وأجل الطاعات، وقد كان السلف الصالح يحرصون على تعليم الطلبة شيئا من السنة النبوية، ويحرصون على حفظها في
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3510) ، مسند أحمد بن حنبل (3/150) .(23/442)
الصدور، وعدم الاكتفاء بالكتب والمصنفات، خاصة ما يتعلق بمتون الأحاديث، وجوامع الألفاظ.
وقد سرني كثيرا ما قام به الإخوة في اللجنة العلمية، ومكتب الدعوة في القصيم من رعاية الدروس وتنظيمها والإشراف عليها؛ لحمايتها من الإفراط والتفريط، ومن الغلو والجفاء، والسير بها إلى الطريق المستقيم، فالحمد لله على ذلك كثيرا، وشكر الله لأصحاب الفضيلة القائمين على مشروع حفظ القرآن والسنة والتفقه في الدين جهدهم وعنايتهم، حيث حفظوا الطلاب وبذلوا لهم من الوقت والجهد الشيء الكثير، ثم أجروا لهم الاختبارات والمسابقات لحفز هممهم على طلب العلم، فضلا عما يقومون به من طباعة الكتب المفيدة وتوزيعها، وغير ذلك من الأعمال النافعة، فجزاهم الله على ذلك كله خير الجزاء، وأفضله وأوفاه.
وإنها سنة حسنة محمودة، أن يشجع الطلاب على الحفظ، وتجرى لهم الاختبارات، ويعطون الإعانات والجوائز التشجيعية على ذلك، دفعا لهم ولغيرهم إلى الخير، فهو عمل طيب مبارك مشكور.
وإني أدعو الإخوة المشايخ وطلبة العلم في سائر المناطق إلى القيام بمثل هذه الأعمال النافعة من تربية النشء على القرآن والسنة علما وعملا، ونرجو أن نسمع في المستقبل عن أعمال خيرية كثيرة(23/443)
من جنس هذه الأعمال، والله تعالى يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (1) ويقول سبحانه: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (2) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (3) » رواه البخاري في صحيحه، ويقول صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (4) » متفق على صحته.
وإنني بهذه المناسبة أوصي جميع الطلبة، وجميع المعلمين بتقوى الله سبحانه، وإخلاص النية والصدق في العمل، كما أحثهم على مواصلة الطلب، وعدم الملل أو العجز، وعلى أن يجمعوا بين العلم والعمل، فإن العمل هو ثمرة العلم، وعليهم بالإقبال على القرآن والإكثار من تلاوته ومدارسته، وتفهم معانيه؛ فإنه أصل العلوم وأساسها، كما أحث أولياء الأمور على تشجيع أبنائهم المنتسبين إلى هذه الحلقات وتسهيل أمورهم، وحثهم على ذلك. وإنني أشكر كل من ساهم في تيسير أمر هذا الاجتماع المبارك من المسئولين والتجار والمشايخ وغيرهم.
فجزى الله الجميع خيرا، كما أدعو الجميع إلى المزيد من المساهمة في دعم هذا المشروع النافع دعما ماديا ومعنويا، فإنه بحسب ما يتوفر من الإمكانات والتسهيلات يكون نجاح العمل
__________
(1) سورة البقرة الآية 148
(2) سورة المطففين الآية 26
(3) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .
(4) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(23/444)
واستمراره، وقد جاء في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة (1) » .
نسأل الله للجميع التوفيق والهداية والسداد، وصلاح القول والعمل، والظاهر والباطن، والله تعالى ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .(23/445)
147 - القرآن الكريم أهم الكتب لطالب العلم (1)
أكد سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء على أن طالب العلم له مسئولية عظيمة ومهمة واجبة في الدعوة إلى الله تعالى، بعيدا عن الانطواء، بدون عنف أو قوة أو غلظة حتى يستفيد العامة من العلم الذي تعلمه وكرس جهده للنهل منه على أن يكون قدوة مضيئة تتوافق أعماله مع أقواله.
وقال سماحته في محاضرة له بعنوان (واجبات طالب العلم) ألقاها على مسامع طلاب جامعة أم القرى بحضور معالي مدير الجامعة وحشد من الأساتذة وأهل العلم والفكر.
من المعلوم أن طلب العلم من أفضل القربات إلى الله سبحانه وتعالى والفوز برضوانه مما يؤكد أهمية العلم والتفقه في الدين والتزود بالأقوال والأعمال النافعة والصالحة والحذر من
__________
(1) نشر في جريدة عكاظ العدد (11567) بتاريخ 26 \ 12 \ 1418 هـ.(23/446)
مزالق معصية الله وغضبه حتى يعبد المسلم ربه على بصيرة ونور، وهو الهدف من خلق الله تعالى له: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وهو ما يجب أن يعلمه الجميع من الثقلين حتى يعرفوها ويؤدوها كما أمر الله تعالى بها.
وتابع الشيخ ابن باز: والواجب على المكلفين التفقه في العلم والحرص على الاستزادة والنهل من هذا المعين بمجالسة العلماء والدعاة وسؤالهم، وحضور المحاضرات والندوات وقراءة الكتب النافعة والاستفادة من المؤسسات العلمية، حتى يعرف عبادة الله تعالى وأن حقيقتها توحيده وأداء حقوقه وعبادته: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (2) والواجب العلم بهذه العبادة حتى يكون على بصيرة، وأساس ذلك توحيد الله والإخلاص في ذلك، وأفرض فريضة أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا هو رسول الله إلى جميع الثقلين وهو خاتم الأنبياء وهذا هو أساس الدين.
وبين سماحته أن قيام طالب العلم بواجبه تجاه مجتمعه وأمته بتوسيع دائرة التعليم وإثراء التوعية الإسلامية في أمور العقيدة
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة آل عمران الآية 19(23/447)
والعبادة والمعاملات، هي من باب التعاون على التقوى ونشر الفضيلة والخير وتقويض مساحة الجهل بالدين، ولاشك أن قيام طالب العلم بهذه المهمة أمر واجب، حتى تتم الإفادة والاستفادة من هذا العلم الذي تعلمه بأن يبدأ بأهله وإخوانه وجيرانه وزملائه وأهل حيه يعلمهم ويفقههم بما يجهلون في أمور دينهم، ويحذرهم مما قد يقعون فيه من أخطاء ومنكرات بحسب طاقته وجهده وعلمه بالحكمة والموعظة الحسنة دون عنف أو قوة، يستخدم طرق التشويق والترغيب في قوالب سهلة ولينة، ويكون قدوة ونموذجا يدعو الناس بلسانه وأعماله دون تناقض بين أقواله وأعماله، حتى يتأسى الناس به بكل رغبة يعلمهم ما تعلم، ويحذرهم ما يحذر منه من الأقوال والأعمال، دون أن يكتم علما أو مسألة أو حديثا أو أية مسألة يسألونه عنها؛ وذلك لأن العلماء هم ورثة الأنبياء وخلف الرسل، والواجب عليهم إكمال تبليغ رسالة الله وتفقيه عموم الناس، وعليهم الصبر على أداء هذه المهمة الشاقة وأن يحتسبوا الأجر والثواب عند الله تعالى.
وقال سماحته: إن تعلم العلم والتفقه في الدين طريق واسع لخشية الله تعالى لأن الخشية تتفاوت حسب العلم والبصيرة. . قال(23/448)
تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1) فكلما كان الإنسان عالما بدين الله متفقها فيه كان خاشعا، فأخشى الناس هم الرسل والأنبياء، ثم العلماء وأعظم ما يعين على هذا العلم للوصول إلى خشية الله تعالى هو كتاب الله حفظا وتلاوة وتدبرا، فهو الهدى والنور والخير، فكل واحد منا مسئول ولا سيما طالب العلم فعليه بالتقوى والبلاغ والبيان والنصيحة، والرابحون هم الذين يتواصون بالحق مع ولاة الأمر وأهل الرأي وعامة الناس.
وبين سماحته أن من أهم الكتب التي ينبغي لطالب العلم دراستها القرآن الكريم، ثم كتب السنة مثل الصحيحين وموطأ مالك وبلوغ المرام، وكذلك كتب العقيدة.
__________
(1) سورة فاطر الآية 28(23/449)
148 - الوصية بقراءة القرآن الكريم وتدبره والعمل به (1)
الحمد لله وصلى الله على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. . أما بعد: فإن الله جل وعلا أنزل كتابه الكريم القرآن تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، كما قال عز وجل في سورة النحل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (2) ورغب عباده بتدبره وتعقله؛ ليفهموا مراده سبحانه وليعملوا بأوامره ولينتهوا عن نواهيه، وقال عز وجل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (4) وأخبر عز وجل أنه شفاء للناس وأنه يهدي للتي هي أقوم فقال عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (5)
__________
(1) كلمة لسماحته ألقاها في منى في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة عام 1407 هـ رقم الشريط 10.
(2) سورة النحل الآية 89
(3) سورة ص الآية 29
(4) سورة محمد الآية 24
(5) سورة الإسراء الآية 9(23/450)
يعني يهدي الناس المتدبرين المتعقلين الراغبين في الهداية يهديهم للطريقة التي هي أقوم الطرق وأهداها وأصلحها وأنفعها للعبد في الدنيا والآخرة، قال عز وجل: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (1) وقال سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) فالواجب على جميع المكلفين أن يتدبروا القرآن وأن يتعقلوه وأن يتبعوه ويعملوا بما فيه؛ لأنه الذكر الحكيم ولأنه الصراط المستقيم فمن قرأه عليه أن يتدبره ويتعقله ومن سمعه كذلك، وأنت يا عبد الله إما أن تكون تاليا وإما أن تكون مستمعا، فينبغي لك التدبر والتعقل لهذا الكتاب العظيم حتى تعمل بما فيه، وحتى تعلم عظمته وما اشتمل عليه من الخير والهدى والتوجيه والإصلاح، وقد تيسر بحمد الله لك أن تقرأه وأن تسمعه فهو يتلى من إذاعة القرآن الكريم صباح مساء تستطيع أن تسمعه متى شئت، وتستطيع أن تسمعه من بعض إخوانك في كل مجلس تجلسونه، تستطيعون أن يقرأ أحدكم من المصحف أو عن ظهر قلب فتستمعوا وتنصحوا وتستفيدوا، والحافظ له أو لبعضه
__________
(1) سورة فصلت الآية 44
(2) سورة الأنعام الآية 155(23/451)
يستطيع أن يتدبر ويتعقل، وإن لم يكن لديه مصحف، فليقرأ مما أعطاه الله من حفظ كتابه أو ما تيسر منه، فجدير بالمكلف وجدير بالمسلم أن يعنى بهذا الكتاب العظيم وأن يتبصر فيه، وأن يعمل بما فيه، ثم بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ففيها بيان ما قد يشكل، كما قال عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1) وقال سبحانه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2) وقد أنزل الله على نبيه عليه الصلاة والسلام الكتاب ليبين للناس ما أثبته عليهم من كتابه سبحانه وتعالى، فالواجب على أهل الإسلام أن يعنوا بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام عناية تامة، حتى يفهموا مراد ربهم ومراد نبيهم عليه الصلاة والسلام وحتى يعملوا بذلك، وقد سمعتم في هذا الصباح هذه السورة العظيمة سورة (ق) فقد كان النبي يقرأ بها صلى الله عليه وسلم في الجمعة؛ لأنها تجمع الناس يقرأ بها في الخطة يوم الجمعة، وكان يقرأ بها في صلاة العيد يقرأ سورة (ق) وسورة (اقتربت) ؛ لما فيهما من العظة والذكرى والقصص وذكر المبدأ والمعاد والجنة والنار، يقول الله
__________
(1) سورة النحل الآية 44
(2) سورة النحل الآية 64(23/452)
سبحانه: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (1) (ق) حرف من الحروف المقطعة مثل (يس) ، (طه) ، (الم) ، (المر) ، حروف مقطعة، فتح الله بها بعض السورة للدلالة على عظمة هذا القرآن، وأنه كتاب عظيم مؤلف من هذه الحروف التي يعرفها الناس، ثم حلف وأقسم بالقرآن فقال: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (2) حلف الله به وهو كلامه سبحانه وتعالى والقرآن كلام الله يحلف به كما يحلف بالله، والله سبحانه يقول: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (3) وأسماء الله وصفات الله وعزة الله كذلك، والله يحلف به وبأسمائه سبحانه وتعالى وبصفاته ولكن لا يحلف بالمخلوقات فالمخلوقات لا يحلف بها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد أشرك (4) » ولكن يحلف بالله وبأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، ولا يحلف بالنبي ولا بالكعبة ولا بالأمانة ولا بشرف فلان ولا حياة فلان - كما يجري على ألسنة بعض الناس - ولا بالأمانة فيقول:
__________
(1) سورة ق الآية 1
(2) سورة ق الآية 1
(3) سورة ق الآية 1
(4) أخرجه الترمذي برقم (1455) كتاب الأيمان والنذور، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، وأبو داود برقم (2829) كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالآباء وأحمد برقم (4669) مسند المكثرين من الصحابة، باب مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله(23/453)
والأمانة ولا بالنبي ولا بالشرف ولا بحياتك كل هذا منكر، ومن المحرمات الشركية ثم يقول سبحانه وتعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} (1) منذر منهم، وهو: محمد عليه الصلاة والسلام يعرفونه نشأ فيهم، يعرفون صدقه وأمانته وكريم أخلاقه عليه الصلاة والسلام، قبل أن يوحى إليه أنذرهم: بقال الله: قال الله كذا، وقال الله كذا، وعجبوا في هذا واستنكروه، مع أن الرسل قبله جاءت بذلك، نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وعيسى وداود وسليمان وغيرهم، فقال الكافرون: {هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} (2) كونه يأمرهم وينهاهم ويخبرهم أنهم سوف يبعثون وسوف يجازون بأعمالهم، استنكروا هذا وقالوا: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} (3) بعد التراب نعود ونحاسب ونجازى، استنكروا هذا بعقولهم القاصرة وهو سبحانه الذي خلقهم من الماء المهين وخلق أباهم آدم من التراب وهو قادر أن يحييهم يوم القيامة، أبوهم آدم كان من تراب وهم من ماء مهين، ماء الرجل الضعيف وماء المرأة، ثم كان إنسانا سويا يقوم ويتكلم ويأمر وينهى ويملك ويضرب ويفعل أشياء كثيرة:
__________
(1) سورة ق الآية 2
(2) سورة ق الآية 2
(3) سورة ق الآية 3(23/454)
{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (1) فالإنسان كله ضعيف وخلق الإنسان ضعيفا من تراب ثم من ماء مهين، ثم يستنكر ويقول: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} (2) فرد الله عليهم وقال: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} (3) الله يعلم ما ذهب من أجسامهم بهذا التراب، وسوف يعيدهم يوم القيامة ويجازيهم بأعمالهم فإن خيرا فخير وإن شرا فشر، كما تقدم في سورة التغابن في الدرس الماضي، قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} (4) (قل) يا محمد {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (5) قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (6) ، {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} (7) كذبوا بالحق واختلف أمرهم وتمردوا وتنازعوا. والمقصود في هذا بيان أن الله جل وعلا خلق الخلق من ضعف من تراب، وخلق الجان من مارج
__________
(1) سورة المرسلات الآية 20
(2) سورة ق الآية 3
(3) سورة ق الآية 4
(4) سورة التغابن الآية 7
(5) سورة التغابن الآية 7
(6) سورة التغابن الآية 8
(7) سورة ق الآية 5(23/455)
من نار، وسوف يعيدهم ويجازيهم بأعمالهم فإن خيرا فخير وإن شرا فشر، فعليك يا عبد الله أن تعد لهذه الإعادة العدة، والله أسمعك قوله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} (1) {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} (2) ويقول سبحانه وتعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} (3) وقال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (4) هذا أنت يا بن آدم من التراب وإلى التراب ثم تخرج ثم تعاد، وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه سبحانه وتعالى، فالواجب على العاقل أن يتنبه لهذه الأمور وأن يعد العدة للقاء ربه، وهذا المجمع مجمع الحج يذكر بيوم القيامة مجمع عظيم من أقطار الدنيا يجتمعون في عرفات وفي مزدلفة وفي أنحاء مكة، حتى يقضوا مناسكهم ثم يعودون إلى بلادهم، هذا فيه تذكير بذلك اليوم العظيم يوم القيامة، حيث يبعث الله الخلائق أولهم وآخرهم أسودهم وأبيضهم غنيهم وفقيرهم ملكهم ومملوكهم، كل الأجناس تبعث يوم القيامة، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ} (5) {لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (6)
__________
(1) سورة نوح الآية 17
(2) سورة نوح الآية 18
(3) سورة الأعراف الآية 25
(4) سورة طه الآية 55
(5) سورة الواقعة الآية 49
(6) سورة الواقعة الآية 50(23/456)
ثم يجازى كل عامل بعمله، فهذا يعطى كتابه بيمينه وإلى الجنة، وهذا يعطى كتابه بشماله وإلى النار، إذا نظرت في أحوال الناس في هذا المجمع واختلاف ألوانهم واختلاف لغاتهم واختلاف حوائجهم واختلاف ملابسهم، إلى غير ذلك تذكر يوما يجمع الله فيه الخلائق عراة حفاة غرلا، كلهم يحرجون يوم القيامة من هذه القبور، ومن البحار ومن كل مكان، ويجمعون عارية ظهورهم ليس عليهم شيء وليس في أرجلهم شيء، حتى يكسوهم الله سبحانه وتعالى، يحشرون ويجمعون ويجازون بأعمالهم، فانتبه لهذا اليوم، وتذكر ذلك المجمع وأن الأسباب التي بها النجاة برحمة الله هي ما تقدمه من أعمال صالحات من طاعة الله ورسوله هذه الأسباب، يقول عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} (1) هذا جزاؤهم إذا عملوا الصالحات، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (2) هذا جزاء هؤلاء وهذا جزاء هؤلاء، قال
__________
(1) سورة لقمان الآية 8
(2) سورة المائدة الآية 10(23/457)
تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (1) {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (2) فتذكر، وخذ العدة اليوم، وهذا من النافع التي أشار الله إليها في قوله سبحانه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (3) في هذا الحج تسمع كلمة ينفعك الله بها، نصيحة ينفعك الله بها، وصية من أخيك ينفعك الله بها، في أي مكان، وإياك وإيثار العاجلة والغفلة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} (4) وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ} (5) كالإبل والبقر والغنم، {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} (6) بل أشد ضلالا من الأنعام {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (7) والعياذ بالله لا ترضى أن تكون من هؤلاء، قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (8) أكثر الخلق كالأنعام لا ينظر إلا في المأكل
__________
(1) سورة الانفطار الآية 13
(2) سورة الانفطار الآية 14
(3) سورة الحج الآية 28
(4) سورة الأحقاف الآية 3
(5) سورة الأعراف الآية 179
(6) سورة الأعراف الآية 179
(7) سورة الأعراف الآية 179
(8) سورة الفرقان الآية 44(23/458)
والمشرب والمنكح والمسكن والمركب، ونحو ذلك في غفلة وسكرة لا يهمه إلا المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح والمسكون والمركوب ونحو ذلك. هذا قصارى همه فإذا ارتفعت همته انشغل ببعض الصناعات والاختراعات ليعيش مع الناس، لكن المؤمن يعمل ويكتسب ويخترع ويصنع ويكدح ويعد العدة لآخرته، يعمل في طاعة الله ورسوله يجمع بين هذا وهذا، يقول جل وعلا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) من عمل صالحا عن إيمان أحياه الله الحياة الطيبة وجزاه بأحسن ما عمل، فضلا منه وإحسانا سبحانه وتعالى.
فوصيتي لك ولكم تقوى الله وإعداد العدة للآخرة، وأن تدبروا كتاب ربكم وسنة نبيكم عليه الصلاة والسلام، وأن تحرصوا على حلق العلم وسماع العلم من إذاعة، أو صحيفة، أو اجتماع، أو خطبة جمعة، أو تذكير مذكر، أو غير ذلك، تحروا ما ينشر من الكلمات الطيبة والمواعظ في أي صحيفة، وما يذاع في إذاعة القرآن أو في برنامج نور على الدرب من علم وتوجيه إلى خير، وكذلك خطب الجمعة، وما يحصل في بعض
__________
(1) سورة النحل الآية 97(23/459)
الأحيان والمناسبات من الخطب والتذكير إلى غير ذلك، ليكون للمؤمن عناية بهذا الشيء حرصا عليه حتى لا يغفل وحتى لا تأخذه التيارات الأخرى فيهلك مع الهالكين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا اليوم يوم الخميس هو النفر الأول وغدا النفر الثاني، وبذلك ينتهي عمل الحج من جهة الرمي، وإذا غابت الشمس غدا يوم الجمعة انتهى أمر الرمي، ومن لم يرم فاته الرمي ووجب عليه دم، فالنهاية هو غروب الشمس غدا، ومن تعجل في هذا اليوم الثاني عشر فلا بأس بعد أن يرمي الجمرات بعد الزوال، يرمي الجمار الثلاث كل واحدة بسبع حصيات بعد الظهر بعد الزوال، ثم يرتحل إذا شاء إلى مكة، أو إلى بلده متعجلا بعد أن يطوف طواف الوداع، فإن أراد مكة والإقامة بها أقام بها ما شاء الله، وإلا طاف الوداع ومشى، فرسولنا صلى الله عليه وسلم بات ليلة أربعة عشر في الأبطح، نفر في اليوم الثالث عشر آخر النهار.
انتهى الجزء الثالث والعشرون ويليه بمشيئة الله تعالى الجزء الرابع والعشرون وأوله القسم الثاني من كتاب العلم(23/460)
صفحة فارغة(24/1)
صفحة فارغة(24/2)
بسم الله الرحمن الرحيم(24/3)
صفحة فارغة(24/4)
بقية كتاب العلم(24/5)
صفحة فارغة(24/6)
1 - الوصية بكتاب الله وسنة رسوله (1)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن خير ما بذلت فيه الأعمار والأوقات والأموال هو العلم بكتاب الله وسنة رسوله؛ إذ عليهما مدار السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة وإن ما يؤلف من كتب في الأصول والفروع والتفسير والحديث وما يصدر من مجلات وصحف إسلامية إنما هو بيان وشرح لكتاب الله وسنة رسوله حسب اجتهاد المؤلفين والمصدرين وحسب ما منحهم الله من العلم، وحينما قامت الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بإصدار مجلة البحوث الإسلامية إنما كانت تهدف من وراء ذلك إلى بيان حكم الله في كثير من القضايا التي لا غنى للمسلمين عنها والتي لم يغفلها الشرع المطهر، وذلك في صورة بحوث تصدر عن هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية مدعمة بالأدلة من الكتاب والسنة
__________
(1) افتتاحية مجلة البحوث الإسلامية، العدد الخامس عام 1400 هـ ص7.(24/7)
والإجماع مع ما يضاف إلى ذلك من المقالات المفيدة والبحوث النافعة التي ترد إلى المجلة من أهل العلم، وإن هذه المجلة بجانب زميلاتها المجلات الإسلامية في الدول الإسلامية كالمجتمع والبلاغ والدعوة والاعتصام ورابطة العالم الإسلامي والبعث الإسلامي والوعي الإسلامي ومنبر الإسلام والإرشاد والتضامن الإسلامي وغيرها كلها تمثل منهجا ملتزما في مجال الفكر الإسلامي وتعبر عن يقظة ووعي إسلاميين في زمن اضطربت فيه الموازين واختلت المقاييس والمعايير وبدا الباطل وكأنه هو الواقع الذي لا مفر منه، وجندت قوى الباطل كل ما تملك من وسائل اقتصادية وإعلامية وثقافية لتكون لها الهيمنة والنفوذ ولكن قوة الله أعظم {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (1)
إن مجلة البحوث الإسلامية وهي تصدر عن رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من هذا البلد الذي شرفه الله بالإسلام ووجود الحرمين الشريفين، ومنه انطلقت دعوة الإسلام إلى أرجاء الدنيا لتدعو كل فكر إسلامي نير أن يساهم بالكتابة في هذه المجلة وفي المجلات الإسلامية الأخرى، وأن يرد على الأقلام المأجورة التي تحاول النيل من الإسلام والإساءة إلى المسلمين، سواء
__________
(1) سورة الأنفال الآية 8(24/8)
من الأعداء أو السائرين في ركابهم، وأن يوضح ما للشريعة الإسلامية من مزايا وحسنات وما لعلماء الإسلام أولئك الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ومؤلفاتهم وخدموا الشريعة خدمة جليلة وأثروا المكتبة الإسلامية بروائع إنتاجهم في التوحيد والحديث والتفسير والفقه والأصول والتاريخ واللغة العربية والعلوم الأخرى التي اضطر الغرب للاستفادة منها وتدريسها في معاهده وجامعاته.
إن مجلة البحوث الإسلامية وهي تلتقي مع قرائها في عددها الخامس لتأمل أن تكون على المستوىالمأمول فيها، وأن يستمر صدورها دون عائق، مع علمنا بأن القراء الكرام سيقبلون العذر في تأخر أعدادها إذا ما رأوا الجهد المبذول في إخراجها، وإن كنا نود أن تخرج في موعدها المقرر لها، بل ونسعى جادين إلى أن تخرج كما أريد لها كل ثلاثة أشهر مستلهمين العون من الله تعالى. إنني أطالب العلماء والمفكرين أن يمدوا أيديهم بالكتابة في مجلة البحوث الإسلامية؛ إذ ما يكتبونه من جملة زاد المجلة الذي يجعلها تقف على قدميها وتخطو الخطوات المرسومة لها.
وفي الختام أشكر كل من ساهم بقلمه وجهده ووقته في إخراج هذه المجلة الفتية وغيرها من المجلات والصحف الإسلامية المفيدة، وأرجو لها ولزميلاتها التوفيق والنجاح وأن يستمر عطاؤها(24/9)
الخير لعموم المسلمين والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(24/10)
2 - العلم بأحكام الله تعالى أمر ضروري (1)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه وعلى آله وصحبه ومن نهج نهجه وسار على هديه إلى يوم الدين، أما بعد.
فإن العلم بأحكام الله أمر ضروري ليسير العبد المسلم في عبادته لربه على هدى وبصيرة، ولا يمكن للإنسان المسلم أن يفهم دينه ويعمل به إلا إذا عرف أحكام هذا الدين، وأولاها اهتمامه وعنايته وبذل جهده وطاقته للإلمام بها؛ لتكون عبادته لربه مبنية على أساس صحيح ومتين، ومن وفقه الله لمعرفة أحكام هذا الدين والأخذ بها فقد هدي إلى صراط مستقيم، وحصل على خير كثير، يقول سبحانه: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله:
__________
(1) نشر في مجلة البحوث الإسلامية العدد السادس عام 1402 هـ ص 7.
(2) سورة البقرة الآية 269(24/10)
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} (1) يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه وأمثاله، وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا: «الحكمة القرآن» . يعني تفسيره، قال ابن عباس: فإنه قد قرأه البر والفاجر. رواه ابن مردويه، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: يعني بالحكمة الإصابة في القول، وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} (2) ليست بالنبوة ولكنه العلم والفقه والقرآن. وقال أبو العالية: الحكمة خشية الله فإن خشية الله رأس كل حكمة، وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن عثمان بن زفر الجهني عن أبي عمار الأسدي عن ابن مسعود مرفوعا «: رأس الحكمة مخافة الله» . وقال أبو العالية في رواية عنه: الحكمة الكتاب والفهم، وقال إبراهيم النخعي: الحكمة الفهم، وقال أبو مالك: الحكمة السنة، وقال وهب عن مالك قال زيد بن أسلم: الحكمة العقل، قال مالك: (إنه ليقع في قلبي أن الحكمة هي الفقه في دين الله وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله، ومما يبين ذلك أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا إذا نظر فيها وتجد آخر ضعيفا في أمر دنياه عالما بأمر دينه بصيرا به يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا، فالحكمة الفقه في دين الله) اهـ ... ولكي ندرك أهمية الفقه في دين الله وأنه نور لحامله والعامل به في الدنيا والآخرة، ولكي ندرك أهميته
__________
(1) سورة البقرة الآية 269
(2) سورة البقرة الآية 269(24/11)
وجدواه نجد النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » متفق عليه، ويقول عليه الصلاة والسلام: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (2) » رواه البخاري ومسلم.. ويقول صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها (3) » رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه من طرق متعددة عن إسماعيل بن أبي خالد به.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (2884) كتاب فرض الخمس، باب قول الله تعالى: فأن لله خمسه ومسلم برقم (1719) كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة.
(2) أخرجه البخاري برقم (77) كتاب العلم، باب فضل من علم وعلم، ومسلم برقم (4232) كتاب الفضائل، باب بيان مثل ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) صحيح البخاري العلم (73) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (816) ، سنن ابن ماجه الزهد (4208) ، مسند أحمد بن حنبل (1/432) .(24/12)
ولقد برز حبر الأمة وترجمان القرآن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - في معرفة الدين فقها وتفسيرا، وتوسع بعلوم الشريعة ووعاها ببركة دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل (1) » ، إنها دعوة مباركة من رجل مبارك تقبلها الله من نبيه، ونعمة أنعم الله بها على ابن عباس - رضي الله عنهما وأرضاهما - وبرز في عهده وبعده أئمة أفذاذ في أصول الدين وفروعه، يحملون أمانة التبليغ والدعوة ويؤدونها أحسن ما يكون الأداء، ويبصرون الناس بدين الإسلام سواء في حلقات الدرس والمذاكرة والإرشاد المنتشرة في بيوت الله أو فيما خلفوه من تراث علمي ومؤلفات قيمة في شتى فروع العلم الشرعي وغيره من العلوم الأخرى التي تخدم الشريعة وترتبط بها، وهيأ الله ولاة صالحين يبذلون بسخاء في سبيل نشر العلم وتشجيع العلماء وطلاب العلم.
إن التفقه في الإسلام وما اشتمل عليه من أحكام يقتضي البحث والاطلاع لمعرفة حكم الله في كل قضية تعرض للمسلم في حياته فلا يتجاوز هذه القضية دون بحث واستقصاء ليصل إلى الحكم بالدليل من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والإجماع والقياس الجلي، والدين الإسلامي بحمد الله واضح لا غموض فيه ولا التباس في أحكامه وتشريعاته، قد بينها الله في
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/266) .(24/13)
كتابه المبين وسنة رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - وحمل لواء هذه السنة وبينها ونافح عنها صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون وسلف الأمة وأئمة الشريعة وعلماؤها جيلا بعد جيل، ثم تقاعس الكثير من الناس عن البحث والطلب والتحصيل واكتفوا بالتقليد لغيرهم، فوقعوا في أغلاط كثيرة في العقيدة والأحكام، ولقد أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو طريق المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين علموا فعملوا، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وهم الذين عرفوا الحق واتبعوا أهواءهم، وهم اليهود ومن على شاكلتهم، وأن يجنبنا طريق الضالين، وهم الذين جهلوا الحق وهم النصارى ومن على شاكلتهم.
أيها الإخوة المسلمون، كيف نعرف أن هذا الماء طاهر أو نجس، أو أن هذا الشراب أو الطعام أو الإناء أو الصيد أو السوار أو اللباس مباح أو حرام أو مكروه أو مستحب؟ كيف نعرف أن اقتناء هذا المال أو إنفاقه حلال أو حرام؟ كيف نهتدي إلى العبادات نعرف أوقاتها وطريقة أدائها؟ كيف نعرف قسمة المواريث والفرائض؟ كيف تقام الحدود؟ وكيف نقيم المعاملات فيما بيننا إلى غير ذلك من تفاصيل العبادات والمعاملات وما يسمى اليوم بالأحوال الشخصية كالنكاح والطلاق وغيرهما، وقد استوعبت(24/14)
ذلك كله - شريعتنا المطهرة ولله الحمد.. إن دين الإسلام الحنيف قد أكمله الله، وما من شأن من شئون الدنيا والآخرة إلا وفي هذا الدين له حكم وبيان واضح جلي، فهو دين كامل شامل ليس قاصرا على النواحي التعبدية ولا شأن له بالنواحي المعاشية كما يرميه بذلك أعداؤه ومن نهج نهجهم.
إن دين الإسلام يربط المخلوق بخالقه برباط متين، كما يقيم أفضل علاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان قائمة على المحبة والترابط والتسامح والتعاون على البر والتقوى ... أوضح كيف تعامل الحيوان الأعجم بالرفق والرحمة والإحسان قبل أن تتظاهر أوربا بالرفق بالحيوان من خلال جمعيات أنشأتها لهذا الغرض وهي لم ترفق بعد بالإنسان ولم ترع حقوقه.. فالواجب على المسلمين التفقه في دينهم وأن لا يتجاوزوا حدود ما أنزل الله، وأن يحرصوا على فهم أحكام دينهم قبل أي شيء، فإن بعض الناس هداهم الله ووفقهم قد يحيط بعلوم كثيرة من علوم الحياة ويبرز فيها، ولكنه لا يعلم شيئا من أحكام دينه وأسرار شريعته، وهذا هو الجهل الفاضح والمصيبة العظمى؛ فإن العلم بأحكام الله يجب أن يكون مقدما على المعارف الأخرى، ولا مانع من التزود بالعلوم والمعارف الأخرى، ولكن لا بد من تقديم الأصل الأصيل والركيزة الأساسية للعلوم كلها، وهو معرفة الدين عقيدة وسلوكا وعبادة وأحكاما مما لا يسع المسلم(24/15)
جهله. كما أن الواجب على المسلمين أن يتمسكوا بدينهم بصدق ويتقبلوا ما يأمرهم به فيعملوا به ويطبقوه في شئون حياتهم كلها دون تمييز، وليعلموا أنهم إن فعلوا ذلك سيسعدون ويفلحون في الدنيا والآخرة، وهذه الأمة شرفها الله بهذا الدين وأعزها به، فإذا تخاذلت عن ذلك فلا قيمة لها ولا عزة ولا سعادة.
فنسأل الله أن يوفقنا والمسلمين جميعا لما فيه رضاه، وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن ومن شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(24/16)
3 - افتتاحية
مجلة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
فهذا هو العدد الأول من مجلة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، نقدمه إلى القراء الكرام راجين أن يجدوا فيه ما يفيدهم(24/16)
وينفعهم في أمور دينهم ودنياهم وما يزيدهم بصيرة وفقها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما نرجو أن تكون هذه المجلة نبراسا لحل مشاكلهم وإنارة السبيل لهم.
ولقد تأخر صدور مجلة الجامعة الإسلامية، وكان هناك بعض الآراء يقول بأنه لا ينبغي ذلك، بل ينبغي أن تصدر مجلة الجامعة مع افتتاح الجامعة نفسها؛ حتى تكون تلك المجلة لسانا ناطقا للجامعة يشرح أهدافها ومراميها ويوضح سير أمورها إلى غايتها.
إلا أن الرأي الأغلب قد استقر على أن يترك الحديث لأعمال الجامعة في مرحلة تأسيسها لا لأقوالها، وأن تكون ثمرتها ملموسة لا موصوفة. وهكذا أوعزنا إلى المسئولين عن المجلة بأن تكون ميدانا تجري فيه أقلام المنتمين إلى الجامعة الإسلامية وغيرهم من رجال الفكر والعلم في جميع الأقطار، لتكون بمثابة نقطة الالتقاء، تتجمع حولها تلك الأقلام، لا سيما وهي المجلة التي تصدر عن المدينة المنورة عاصمة المسلمين الأولى، ومنطلق الغزاة الفاتحين والدعاة المصلحين، وأن هذه المجلة تستهدف أن تكون ذات مستوى يتمكن من فهمه أغلبية القراء في البلدان الإسلامية وغيرها، فهما يمكنهم من متابعة ما ينشر فيها وهضمه، ولن تكون مقصورة على الصفوة من العلماء والفقهاء والباحثين قصرا يمنع سواهم من ذوي الثقافات المتوسطة أو المستويات العلمية المحدودة(24/17)
أن يفهموها وينتفعوا بما ينشر فيها، الشيء الذي ستتجنبه المجلة إنما هو لغو القول، وسفاسف الأمور وكل ما في نشره ضرر للمسلمين أو خطر على وحدتهم وتضامنهم وستكون - بإذن الله - مجلة إسلامية ثقافية لا مجلة سياسية حزبية تلك هي حالتها وذلك هو هدفها.
إن الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة مؤسسة التكوين بالنسبة إلى عمر الجامعات والمؤسسات العلمية الكبرى فهي لم تستكمل من عمرها السابعة، ولكنها - بحمد الله - قد قطعت شوطا بل أشواطا طيبة إلى الهدف المقصود من إنشائها، فتخرج منها مئات من الطلاب الذين ينتسبون إلى عشرات من أوطان المسلمين في مختلف أنحاء العالم، وأخذوا أماكنهم في تلك الأوطان وغيرها يعلمون الناس الخير ويرشدونهم إلى الصواب.
ولن أفيض هنا بالتحدث عن هذه الجامعة فذلك له مكان آخر من المجلة، وإنما القصد هنا الإشارة إلى هدف هذه المجلة.
وأسأل الله مخلصا أن يأخذ بأيدينا إلى مواقع الحق والصواب، وأن يرزقنا جميعا صادق القول وصالح العمل، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.(24/18)
4 - لقاء مع طلبة كلية الشريعة (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
أولا: أوصيكم بتقوى الله تعالى والاستقامة على أمره؛ لأن المقصود من العلم هو طاعة الله واتباع شريعته «فمن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة (3) » ومعلوم عند الجميع أن المقصود من العلم هو العمل، ومن علم ولم يعمل صار أشبه باليهود وبإبليس نعوذ بالله من ذلك، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يعلم ويعمل، فوصيتي لكم مرة أخرى تقوى الله والحرص على التفقه في الدين، والإخلاص لله في العمل، وأن تكون النية لوجه الله تعالى؛ لأجل أن يخلص المسلم نفسه من الجهل وينفع الناس أيضا، فطالب العلم يجمع بين أمرين، ينفع نفسه وينفع الناس، ولا سيما في هذا العصر الذي انتشر فيه الجهل وانتشرت فيه أيضا المبادئ الهدامة والشرور الكثيرة، والدعاوى
__________
(1) لقاء سماحته مع طلاب كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(3) أخرجه مسلم برقم (8467) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر.(24/19)
المضللة فأنتم الآن على خير في كلية الشريعة، نرجو لكم من الله التوفيق.
وأوصيكم أيضا أن تستمروا في الدراسة بإخلاص، وصدق، ونية صالحة وصبر، والوصية كذلك بالمذاكرة فيما بينكم في المشاكل؛ لأن المشكلة قد تنحل بالزميل والزميلين، والمذاكرة بين الزملاء يحصل بها حل لمشاكل كثيرة، ويستغنى بذلك عن الحاجة إلى الأستاذ، لئلا يحتاج للأستاذ إلا في الشيء المشكل الذي تعجزون عنه ولا يتيسر لكم حله في المذاكرة والمطالعة فتكون مراجعة الأستاذ في الشيء الذي لم تستطيعوا حله بهذه المطالعة ولا بهذه المذاكرة فيما بينكم،
والأمر الآخر: هو الحرص على العمل: فما علمتم أنه واجب فكونوا من أحرص الناس على أدائه، وما علمتم أنه محرم فكونوا من أحرص الناس على تركه، وما علمتم أنه مستحب فكونوا من أسبق الناس إليه حسب الطاقة، وما علمتم أنه مكروه فكونوا من أبعد الناس عنه حسب التيسير.(24/20)
الأسئلة
س: ما حكم السترة، وهل مرور الكلب والمرأة والحمار، يقطع الصلاة؟ وما موقفنا من كلام عائشة رضوان الله عليها عندما قالت: "أجعلتمونا كالكلاب والحمير"!
ج: السترة سنة مؤكدة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها (1) » رواه أبو داود بإسناد جيد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره إذا سافر تنقل معه العنزة وكان يصلي إليها عليه الصلاة والسلام، فهي سنة مؤكدة وليست واجبة؛ لأنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى في بعض الأحيان إلى غير سترة.
وأما ما يقطع الصلاة فهو الحمار والكلب الأسود والمرأة البالغة، لقوله عليه الصلاة والسلام: «يقطع صلاة المرء المسلم إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل؛ المرأة والحمار والكلب الأسود (2) » أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه، ورواه مسلم أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بدون ذكر
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (596) كتاب الصلاة، باب الدنو من السترة والنسائي برقم (740) كتاب القبلة، باب الأمر بالدنو من السترة
(2) أخرجه مسلم برقم (789) كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي.(24/21)
الأسود، والقاعدة أن المطلق يحمل على المقيد، وفي حديث ابن عباس: المرأة الحائض، أي البالغة، والصواب ما دل عليه الحديث أن هذه الثلاث تقطع.
وأما قول عائشة فهو من رأيها واجتهادها، قالت: بئس ما شبهتمونا بالحمير والكلاب، وذكرت أنها كانت تعترض له بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، وهذا ليس بمرور؛ لأن الاعتراض لا يسمى مرورا وقد خفيت عليها رضي الله عنها السنة في ذلك، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، فلو صلى إنسان إلى إنسان قدامه جالس أو مضطجع لم يضره ذلك وإنما الذي يقطع هو المرور بين يدي المصلي من جانب إلى جانب إذا كان المار واحدا من الثلاثة المذكورة بين يديه أو بينه وبين السترة وإذا كانت المرأة صغيرة لم تبلغ أو الكلب ليس بأسود، أو مر شيء أخر كالبعير والشاة ونحوها فهذه كلها لا تقطع، لكن يشرع للمصلي ألا يدع شيئا يمر بين يديه، وإن كان لا يقطع الصلاة لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنه شيطان (1) » متفق على صحته.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (479) كتاب الصلاة، باب يرد المصلي من مر بين يديه، ومسلم برقم (872) كتاب الصلاة، باب منع المرور بين يدي المصلي(24/22)
س2: طالب كلية الشريعة وطالب العلم الشرعي، الكل ينظر إليه نظرة خاصة لحصيلته العلمية، وهكذا ما يفتي به، لكن قد تكون الدراسة منهجية تحصر الطالب في أشياء محددة، فلو كان هناك روافد أخرى تعين طالب العلم الشرعي أكثر، والدلالة عليها تكون ميسرة للطالب بحيث لا تتناقض مع الدراسة المنهجية؟ لكان ذلك أولى فما رأي سماحتكم؟
ج: طالب الشريعة لا شك أن يقتدى به ويحسن به الظن، وهذا مما يوجب عليه الحرص والحذر، فعليه أن يطالع الكتب ويسمع السنة ويذاكر مع إخوانه ومع زملائه، لكن ما دام في الدراسة لا يكثر حتى ينهي الدراسة حتى لا ينشغل فكره بما يضعفه في الدراسة، ولكن مع ذلك كلما تيسر له فرصة طالع المشكل عليه وسأل أهل العلم، ويبحث مع إخوانه وزملائه، ومع بعض الأساتذة، فتكون عنده همة عالية فلا يكتفي بالدروس، لكن على قدر المستطاع حتى يتم وحتى يتخرج إن شاء الله، ثم بعد ذلك يتوسع في المطالعة، فالدراسة في كلية الشريعة ليست كل شيء بل هي تمهيدية، وهكذا الماجستير والدكتوراه ليستا بكافيتين، بل لا بد من مزيد الدراسة بعدهما والمطالعة في كتب أهل العلم،(24/23)
والعناية حتى يموت الإنسان، وهو مستمر في طلب العلم حتى ولو بلغ مائة سنة.(24/24)
س 3: يلاحظ على بعض الطلبة أنهم يغلبون جانب العلم على جانب الدعوة إلى الله نرجو توجيه الإخوان في ذلك؟
ج: طالب العلم يجمع بين الأمرين، بين العلم وبين الدعوة، وبين العمل وبين الإصلاح بين الناس والنصيحة، لا يقف عند حد. لكن على قدر طاقته، على وجه لا يشغله عن الواجب، فهو طالب علم، وهو داعية إلى الله وهو ناصح وهو معلم أيضا ومصلح بين الناس يكون له آثار صالحة، طالب العلم خصوصا الطالب في كلية الشريعة وكلية أصول الدين أو في حلقات المشايخ يجب أن تكون عنده همة عالية فلا يقتصر على شيء دون شيء، بل يجتهد في كل خير حسب علمه وقدرته، فهو مع المصلحين ومع الدعاة ومع المعلمين، ومع الناصحين، ومع الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وهكذا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان، يدخلون في كل شيء مما ينفع الناس ولا يتأخرون عن شيء فيه خير للناس، حتى فيما يتعلق بالأمور الأخرى الدنيوية كالطب أو الهندسة أو غير ذلك مما ينفع الناس إذا أمكنهم أن يكون لهم نصيب فيها، بحسب الطاقة والعلم، فلا يشغله عن الأمر الأهم(24/24)
ما دونه بل يبدأ بالأهم فالأهم حسب الطاقة مع إخلاص النية والصبر، والله ولي التوفيق.(24/25)
س 4: كيف يمكن أن يحقق طالب العلم الشرعي دوره في المجتمع من إصلاح وتوجيه في المشاكل، على كافة مستويات المجتمع؟
ج: عليه أن يتعاطى المستطاع، يقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) ويقول سبحانه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (3) » فطالب العلم لا يقف عند حد كما تقدم بل يكون من المصلحين في بيته ومع جيرانه وغيرهم، ومن الناصحين لله ولعباده أينما كان، ويكون من المرشدين في مسجده وفي بيته وفي سفره بالطائرة وفي المطار والسيارة وفي كل مكان، ويكون من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أينما كان بالحكمة والموعظة الحسنة والرفق حسب طاقته، لكن يجب
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) أخرجه البخاري برقم (6744) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، ومسلم برقم (2380) كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر.(24/25)
عليه التثبت وأن يكون على علم وبصيرة فيما يدعو إليه وفيما ينهى عنه ويحذر القول على الله بغير علم؛ لأن ذلك من أعظم الكبائر وقد جعل الله سبحانه القول عليه بغير علم في مرتبة فوق الشرك في قوله سبحانه في سورة الأعراف: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) وأخبر سبحانه أن الشيطان يأمر الناس بالقول على الله بغير علم كما قال سبحانه في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (2) {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (3) وقال عز وجل في سورة فاطر: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (4) نسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا لكل ما يرضيه وأن يعيذهم من القول بغير علم ومن نزغات الشيطان إنه سميع قريب.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2) سورة البقرة الآية 168
(3) سورة البقرة الآية 169
(4) سورة فاطر الآية 6(24/26)
س5: إذا خرج الترمذي وقال: إسناده ليس بقوي، وكان الحديث في فضائل الأعمال؟ فما رأي سماحتكم.
ج: الترمذي رحمه الله الغالب على تصحيحه وتحسينه أنه جيد، ولكنه قد يضعف بعض الأحاديث وهي عند غيره قوية لكن سندها عنده ضعيف، وقد يحسن بعض الأحاديث ويصححها وهي ليست كذلك عند غيره من أئمة الحديث مثل حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في «المرأة التي دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فقال لها صلى الله عليه وسلم: أتعطين زكاة هذا؟ (1) » الحديث في باب الزكاة وهو عند الترمذي ضعيف؛ لأنه من طريق المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب وهو ضعيف أعني المثنى وهو عند أبي داود والنسائي جيد؛ لكونه من رواية بعض الثقات عن عمرو بن شعيب وحكم عليه الحافظ. في البلوغ بأن إسناده قوي، فالمقصود أنه عند أبي داود والنسائي جيد، وحكم عليه الحافظ في البلوغ بأن إسناده قوي، فالمقصود أنه عند أبي داود والنسائي جيد، وأما عند الترمذي فضعيف، لكونه من رواية المثنى بن الصباح كما تقدم، ولديه أحاديث أخرى رحمه الله صححها أو حسنها وهي ضعيفة والمقصود من هذا أنه لا يكفي تصحيحه ولا تحسينه بل لا بد من
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2479) ، سنن أبو داود الزكاة (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (2/204) .(24/27)
مراجعة الأسانيد وكلام أهل العلم في ذلك حتى يكون الطالب على بينة، وهكذا رواية أبي داود والنسائي وابن ماجه والدارمي والإمام أحمد رحمهم الله جميعا يروون الضعيف والصحيح، فإذا سكت أبو داود أو النسائي أو ابن ماجه والدارمي أو غيرهم ممن لم يلتزم الصحة فيما يرويه، فراجع الأسانيد وناقلها إن كان عندك دراية ومعرفة، وإلا راجع كلام أهل العلم كالحافظ في التلخيص، ونصب الراية للزيلعي وفتح الباري وغيرهم ولا تتعجل في التصحيح ولا التضعيف حتى يكون عندك أهلية؛ لأن هذه أمور خطيرة بخلاف الصحيحين فأحاديثهما متلقاة بالقبول عند أهل العلم، وقد صرح أبو داود رحمه الله أنه إذا سكت عن شيء فهو صالح للاحتجاج به عنده، يقول عنه رحمه الله الحافظ العراقي في ألفيته ما نصه:
وما من وهن شديد قلته ... وحيث لا فصالح خرجته
يعني الذي فيه وهن شديد يبينه والذي يسكت عنه صالح ولكن ليس على إطلاقه فقد يكون ضعيفا عند غيره وإن كان صالحا عنده كما أوضح ذلك أهل العلم كالحافظ ابن حجر وغيره.(24/28)
بعض الانطباعات عن المعاهد العلمية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد بين فضل العلم وحث عليه في كتابه الكريم، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (1) وقال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (3)
والمقصود بالعلم: هو العلم الشرعي الموصل إلى معرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، وأنه الإله الحق الذي لا يستحق أحد أن يعبد سواه، وأنه الرب الخالق الرازق والمتصرف بهذا الكون والمنعم على جميع العالمين، والموصل أيضا إلى معرفة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه الرسول الخاتم المبلغ عن الله
__________
(1) سورة المجادلة الآية 11
(2) سورة الزمر الآية 9
(3) سورة العنكبوت الآية 43(24/29)
شرعه ووحيه، والموصل إلى معرفة هذا الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن الله وبلغنا به في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بما يشمل جميع نواحي حياتنا في الاعتقاد والسياسة والاجتماع وفي القضاء والتشريع والاقتصاد وجميع ما يحتاجه المسلمون في أمور حياتهم ومعادهم.
فهذا العلم هو العلم الحقيقي الذي أثنى الله على حملته ورفع قدرهم وجعلهم من الشهداء على وحدانيته، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) ووصفهم سبحانه بأنهم أخشى الناس لله سبحانه فقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (2) والمعنى: الخشية الكاملة، وعلى رأسهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بأن تنفر طائفة منهم للتعلم والتفقه في هذا الدين، ليكونوا على بصيرة ونور من الله، وليعلموا أحكامه وشرائعه ويبلغوا أقوامهم ويوجهوهم إلى الصراط المستقيم بسلوك هذا الدين والالتزام به، قال تعالى:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 18
(2) سورة فاطر الآية 28(24/30)
{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (1)
ومن نعم الله العظيمة على المسلمين في هذه المملكة - أعني المملكة العربية السعودية - وفي جميع بلاد المسلمين أن قيض لهم من يقوم بهذا الدين كلما خبا نوره وتزاحمت عليه قوى الكفر وخيم على المسلمين الجهل، فيبعث الله من القادة الصالحين والعلماء والأفاضل والحكام المخلصين من يقوم بنصر هذا الدين وإحياء ما أماته الجهلاء من رسومه، ونشر العلم وتعليمه، وتحكيم شريعة الله وكبت الباطل وأهله.
ومن فضل الله على هذه الجزيرة أن قام فيها الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والإمام محمد بن سعود رحمة الله عليهما، وتعاهدا على نصرة هذا الدين، وصدقا في ذلك، فنصرهما الله ومكن لهم في الأرض وقامت بذلك حلق العلم بالمساجد، وانتشر التدريس فيها، وأخذ العلماء أماكنهم في توعية الناس بدينهم وتعليمهم أحكامه وشرائعه، واستمرت على ذلك حتى انتشر العلم في أرجاء هذه البلاد والبلدان المجاورة وفتحت المدارس والمعاهد العلمية وانتشرت في عدة قرى ومدن في هذه الجزيرة العربية، وكذا الكليات وغيرها من وسائل نشر العلم.
__________
(1) سورة التوبة الآية 122(24/31)
ولقد كان للمعاهد العلمية التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الأثر العظيم في نشر علوم العقيدة والشريعة، وتربية الأجيال الناشئة على فهم كتاب الله وفقهه ومعرفة علوم اللغة العربية، لغة القرآن والسنة.
وإن ثمار هذه المعاهد وما حصل بها من الخير العظيم والنفع العميم لتظهر واضحة جلية على ناشئة شباب هذه البلاد وغيرها من البلاد التي فتحت فيها معاهد تابعة لهذه الجامعة. فنسأل الله أن يوفق القائمين عليها للزيادة من كل خير وأن يعينهم وأن يضاعف من جهودهم في الإكثار منها والحرص عليها.
كما أن من فضل الله أن وفق ولاة الأمر للأمر بفتح بعض هذه المعاهد خارج المملكة العربية للسعودية لتقوم بإبلاغ الحق والخير ونشر العقيدة الصحيحة الصافية الخالية من شوائب الشرك والوثنية وتعليم أحكام الشريعة الغراء، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقهم للإكثار منها في جميع البلدان، وأن يوفق القائمين عليها لاختيار الأشخاص الأتقياء والدعاة المخلصين لإدارة هذه المعاهد والتعليم فيها، كما هو الواقع الآن. وهذا هو سبيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأتباعه بإحسان، كما قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1)
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(24/32)
وقال صلى الله عليه وسلم: «ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (1) » رواه مسلم، وفي الحديث المتفق عليه عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » .
فنحمد الله سبحانه وتعالى أن يسر هذه الأماكن لنشر العلم وهيأ أسبابها، ونسأله أن يوفق القائمين عليها، وأن يكلل جهودهم بالتوفيق والنجاح. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(24/33)
6 - حكم من يقلل
من شأن القسم الشرعي في التعليم
س: فضيلة الشيخ هناك بعض المدرسين في الأقسام العلمية يقللون من شأن القسم الشرعي وأنه قسم للفاشلين والمهملين في دروسهم؛ لأنه أسهل الأقسام، فما رد فضيلتكم على هذا الكلام؟ (1) .
ج: هذا غلط ممن يقوله، والواجب التشجيع على القسم الشرعي، وتشجيع الطلبة على العناية به مع بقية الأقسام التي يحتاجها الطالب، والقسم الشرعي هو أهم العلوم؛ لأن الطالب يجب أن يتعلم دينه، وأن يعرف ما أوجب الله عليه حتى يؤدي العبادة التي خلقه الله لها وأوجبها عليه على بصيرة، والقسم الشرعي مما يعينه على ذلك إذا اجتهد فيه ووفقه الله للأستاذ الصالح.
والواجب على المدرسين والمسئولين التشجيع على العناية بهذا القسم والاستفادة منه، حتى يتفقه الطالب في دينه فينفع نفسه وينفع المسلمين؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » متفق على صحته.
__________
(1) نشر في مجموع الفتاوى لسماحته ج 8 ص 276.
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(24/34)
فمن علامات السعادة أن يتفقه العبد في الدين، وأن يتعلم ويتبصر، والواجب التشجيع للطلبة على العناية بهذا القسم وعلى جميع الأقسام، وأن يكونوا مثالا في الجد والانضباط والصبر في جميع الأقسام.(24/35)
7 - التعلم والتفقه
في الدين واجب إذا تيسر في المدرسة
س: تركت الدراسة ووالدتي غير راضية هل أكون آثمة؟ (1) .
ج: الدراسة فيها خير عظيم وفائدة كبيرة، والواجب على المسلم والمسلمة التعلم والتفقه في الدين؛ لأنه يجب على المسلم أن يتفقه في دينه ويتعلم ما لا يسعه جهله، ومن أسباب السعادة التفقه في الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » فمن علامات الخير والسعادة التفقه في دين الله، والتفقه في الشريعة حتى يعرف المسلم ما يجب عليه، وما يحرم عليه، وحتى يعبد الله على بصرة، يقول صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (3) » .
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، شريط رقم 12. ونشر في المجموع ج 9 ص 337.
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(24/35)
فالواجب عليك التعلم والتفقه في الدين إذا تيسر ذلك في مدارس إسلامية طيبة أمينة، وإذا أكدت عليك أمك فهذا مما يوجب مزيد العناية والحرص على التفقه في الدين؛ لأنها تريد لك الخير والمصلحة العاجلة والآجلة، فلا ينبغي منك أن تعصيها في ذلك، إلا أن تكون المدرسة فيها اختلاط أو فيها أمور أخرى تضرك في دينك فلا بأس بترك الدراسة فيها، ولو لم ترض أمك؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «إنما الطاعة في المعروف (1) » . وقال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (2) » .
__________
(1) رواه البخاري في الأحكام برقم 6612، ومسلم في الإمارة برقم 3424.
(2) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه في الجهاد برقم 15564، والسيوطي في الدر المنثور2\177 من طريق ابن أبي شيبة.(24/36)
8 - نصيحة لأولياء أمور الطلبة
س: فضيلة الشيخ: يقول البعض: إن من أسباب ضعف مستوى الطالب الديني والعلمي إهمال الآباء لأبنائهم واهتمامهم بمشاريعهم الخاصة وعدم متابعتهم، فهل من نصيحة من فضيلتكم لهؤلاء الأولياء؟ (1)
__________
(1) نشر في مجموع الفتاوى لسماحته ج 8\279.(24/36)
ج: لا شك أن إهمال الآباء والأمهات لأولادهم وعدم تشجيعهم على طلب العلم من الأسباب المؤدية إلى ضعفهم. والواجب على الآباء والأمهات والإخوة الكبار أن يكونوا عونا لأولادهم على التفقه في الدين، والتعلم، والعناية بطلب العلم، والمحافظة على أوقات الدراسة، هذا هو الواجب عليهم، وأما إهمالهم والتساهل معهم فهو من أسباب فشلهم، ومن أسباب قلة علمهم، ومن أسباب تكاسلهم.
فالواجب على الآباء والأمهات والإخوة الكبار أن يؤدبوا من يتخلف ويتساهل، وأن يعتنوا بهذا الأمر، وأن يشجعوا الأولاد على الجد والنشاط، والمواظبة على الدروس، والمحافظة على أوقات الدراسة، والمحافظة على الصلاة في الجماعة صلاة الفجر وغيرها. هذا هو الواجب على الجميع.
نسأل الله أن يوفق المسلمين لأداء ما يجب عليهم لأولادهم وغيرهم، إنه خير مسئول وأقرب مجيب.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(24/37)
9 - مسألة في فضل التفقه في الدين
س: أرغب ترك العمل والاتجاه للدراسة فهل هذا حسن؟
وهل في الإمكان إلحاقي بالجامعة الإسلامية والدراسة والتفقه في الدين؟ (1) .
ج: إن الاتجاه للدراسة والتفقه في الدين من أفضل الأعمال وقد يجب ذلك إذا كان المسلم لم يتمكن من معرفة الأمور التي لا يسعه جهلها، أعني أمور دينه فطلب العلم حينئذ واجب حتى يعرف ما أوجب الله عليه وما حرم عليه ويعبد ربه على بصيرة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » وقال عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (3) » والجامعة الإسلامية ترحب بأمثالكم إذا كان لديكم مؤهل غير دبلوم الصناعة، فإذا رأيتم إرسال صورة من مؤهلاتكم للنظر فيها وإفادتكم فلا بأس مع العلم بأن الطالب في الجامعة يعطى مكافأة نقدية مقدارها (250) ريالا لطالب المرحلة المتوسطة والثانوية، و (300) ريال لطالب المرحلة العالية مع إعداد السكن المجهز بما يلزم، ووسائل النقل من الجامعة إلى المدينة ومن المدينة إلى الجامعة.
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(24/38)
10 - حكم دراسة الاقتصاد الربوي
س: ما حكم الإسلام في دراسة الاقتصاد الربوي؟
وما حكم العمل في البنوك الربوية؟ (1) .
ج: دراسة الاقتصاد الربوي إذا كان المقصود منها معرفة أعمال الربا، وبيان حكم الله في ذلك، فلا بأس، أما إن كانت الدراسة لغير ذلك فإنها لا تجوز، وهكذا العمل في البنوك الربوية لا يجوز؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، وقد قال الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2)
__________
(1) سؤال مقدم من مجلة الدعوة أجاب عنه سماحته بتاريخ 6\3\1419 هـ.
(2) سورة المائدة الآية 2(24/39)
11 - حكم دراسة النساء للهندسة والكيمياء
س: هل يجوز للفتاة أن تدرس في بعض تخصصات العلوم الطبيعية مثل الكيمياء والفيزياء وغيرها؟ (1) .
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج 4 ص 335.(24/39)
ج: ليس للمرأة التخصص فيما ليس من شأنها، وأمامها الكثير من المجالات التي تتناسب معها مثل الدراسات الإسلامية وقواعد اللغة العربية، أما تخصصات الكيمياء والهندسة والعمارة والفلك والجغرافيا فلا تناسبها، وينبغي أن تختار ما ينفعها وينفع مجتمعها، كما أن الرجال يعدون لها ما يخصها مثل الطب النسائي والولادة وغيرها.(24/40)
12 - لا تجوز الدراسة في مدارس مختلطة
س: شاب يدرس في بلد إسلامي ويقول إن في الكلية العديد من الطالبات المتبرجات فما واجبه نحوهن؟ (1) .
ج: لا تجوز الدراسة المختلطة بين الذكور والإناث؛ لما في ذلك من الفتنة العظيمة والعواقب الوخيمة، والواجب أن يكون تدريس الذكور على حدة والإناث على حدة، أما الاختلاط فلا يجوز، لما ذكرنا من الفتنة العظيمة والعواقب الوخيمة في ذلك. والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1669، 7 شعبان 1419 هـ.(24/40)
13 - الاختلاط في الدراسة من أسباب الفتنة
س: الأخت س. س. من دمشق تقول في سؤالها أنوي العمل في مدرسة يدرس فيها الطلاب والطالبات جميعا وهم فوق الخامسة عشرة من العمر، وهذا هو السبيل الوحيد للحصول على المال الذي أستطيع به مواصلة دراستي الجامعية العليا؟
أفتوني جزاكم الله خيرا. (1) .
ج: لا يجوز الاختلاط بين الطلبة والطالبات في الدراسة، بل يجب أن يكون تدريس البنين على حدة وتدريس البنات على حدة، حماية للجميع من أسباب الفتنة، ولا يجوز لك العمل في المدارس المختلطة حماية لدينك وعرضك وحذرا من أسباب الفتنة وقد قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (3) وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (4) والله ولي التوفيق.
__________
(1) سؤال مقدم لسماحته من الأخت س. س. أجاب عنه سماحته بتاريخ 26\10\1419 هـ.
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 3
(4) سورة الطلاق الآية 4(24/41)
14 - مسألة في حكم المدارس المختلطة
س: حكم تدريس البنات في المدارس المختلطة؟ (1)
ج: المدارس المختلطة فيها خطر عظيم والواجب عدم إدخال البنات فيها لعدم صيانتهن، والذي أرى أن عدم إدخالهن المدارس المذكورة هو الصواب، وأحسنت كثيرا في تدريس ابنتك في المنزل وينبغي أن تختار لها المدرسة الصالحة.
__________
(1) سؤال أجاب عنه سماحته في 5 / 8 / 1418 هـ.(24/42)
15 - حكم التعلم في الجامعات المختلطة
س: وضحوا لنا حكم التعليم في الجامعات المختلطة؛ لأن البعض يجوز ذلك للضرورة. جزاكم الله عنا خيرا. (1) .
ج: لا يجوز التعلم في الجامعات المختلطة لما في ذلك من الخطر العظيم وأسباب الفتنة، نسأل الله أن يوفق المسلمين لترك ذلك، وأن يعلموا كل جنس على حدة سدا لذريعة الفتنة واحتياطا للدين، وتعاونا على البر والتقوى، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد (1566) في 26\6\1417 هـ.(24/42)
16 - مسألة في الدراسة المختلطة
س: أنا طالب جامعي، وفي بعض الأحيان أسلم على الفتيات، فهل سلام الطالب على زميلته في الكلية حلال أم حرام؟ (1) .
ج: أولا: لا يجوز الدراسة مع الفتيات في محل واحد وفي مدرسة واحدة، بل هذا من أعظم أسباب الفتنة، فلا يجوز للطالب ولا الطالبة هذا الاشتراك لما فيه من الفتن.
أما السلام فلا بأس أن يسلم عليها سلاما شرعيا ليس فيه تعرض لأسباب الفتنة، ولا حرج أن تسلم عليه أيضا من دون مصافحة؛ لأن المصافحة لا تجوز للأجنبي، بل السلام من بعيد مع الحجاب ومع البعد عن أسباب الفتنة ومع عدم الخلوة، فالسلام الشرعي الذي ليس فيه فتنة لا بأس به. أما إذا كان السلام عليها مما يسبب الفتنة أو سلامها عليه كذلك أي كونه عن شهوة وعن رغبة فيما حرم الله فهذا ممنوع شرعا، وبالله التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد (1646) في 24\2\1419 هـ.(24/43)
17 - حكم دراسة الرجل عند امرأة
س: ما حكم الدراسة عند امرأة متبرجة غاية في التبرج؟ (1) .
ج: لا يجوز للرجل الدراسة عند امرأة غير محتجبة، ولا يجوز له الخلوة بها مطلقا، لكن إذا دعت الحاجة، إلى أخذ العلم منها فلا بأس، بشرط الحجاب وعدم الخلوة، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد (1668) في 30\7\1419 هـ.(24/44)
18 - حكم السفر إلى بلاد الكفار للدراسة
س: ما حكم السفر إلى بلاد الكفار للدراسة؟ .
ج: الوصية الحذر من ذلك إلا إذا كان المسافر عنده علم وبصيرة، يدعو إلى الله، ويعلم الناس، ولا يخشى على دينه؛ لأنه صاحب علم وبصيرة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا(24/44)
بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين (1) » . والله جل وعلا قال في كتابه الكريم عن المسلمين المقيمين بين المشركين وهم لا يستطيعون إظهار دينهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (2) {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} (3) الآية.
وفي الحديث الصحيح: «لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعدما أسلم عملا أو يفارق المشركين إلى المسلمين (4) » . والمعنى حتى يفارق المشركين، فالوصية مني لجميع المسلمين الحذر من الذهاب إلى بلاد المشركين، والجلوس بينهم لا للتجارة، ولا للدراسة، إلا من كان عنده علم، وهدى وبصيرة، ليدعو إلى الله ويتعلم أشياء أخرى تحتاجها بلاده، ويظهر دينه فهذا لا بأس به كما فعل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه من الصحابة لما هاجروا إلى الحبشة من مكة المكرمة بسبب ظلم
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب السير برقم (1530) ، وأبو داود في الجهاد برقم (2274) .
(2) سورة النساء الآية 97
(3) سورة النساء الآية 98
(4) رواه النسائي في الزكاة برقم 2521. باب من سأل بوجه الله عز وجل.(24/45)
المشركين لهم، وعجزهم عن إظهار دينهم بمكة حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة.(24/46)
19 - مسألة في السفر
إلى بلاد الكفار من أجل الدراسة
س: ما حكم السفر إلى بلاد الكفار من أجل الدراسة فقط؟ .
ج: السفر إلى بلاد الكفار خطير يجب الحذر منه إلا عند الضرورة القصوى. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين (1) » ، وهذا خطر فيجب الحذر، فيجب على الدولة وفقها الله أن لا تبعث إلى بلاد المشركين إلا عند الضرورة. مع مراعاة أن يكون المبعوث ممن لا يخشى عليه لعلمه وفضله وتقواه، وأن يكون مع المبعوثين من يلاحظهم ويراقبهم ويتفقد أحوالهم، وهكذا إذا كان المبعوثون يقومون بالدعوة إلى الله سبحانه، ونشر الإسلام بين الكفار لعلمهم وفضلهم فهذا مطلوب ولا حرج فيه، أما إرسال الشباب إلى بلاد
__________
(1) سنن الترمذي السير (1604) ، سنن أبو داود الجهاد (2645) .(24/46)
الكفار على غير الوجه الذي ذكرنا، أو السماح لهم بالسفر إليها فهو منكر وفيه خطر عظيم، وهكذا ذهاب التجار إلى هناك فيه خطر عظيم، لأن بلاد الشرك - الشرك فيها ظاهر- والمعاصي فيها ظاهرة، والفساد منتشر، والإنسان على خطر من شيطانه وهواه ومن قرناء السوء فيجب الحذر من ذلك.(24/47)
20 - حكم حوار اليهود والنصارى في عقيدتهم
س: نتيجة لدراستنا في أمريكا تطرح علينا مواضيع عن الدين المسيحي والدين اليهودي فهل يجوز لنا الحديث عنهما؟ (1) .
ج: نعم يجوز لكم الكلام في ذلك بحسب علمكم ولا يجوز الكلام فيها ولا في غيرها بغير علم، ومعلوم أن شريعة التوراة والإنجيل من جملة الشرائع التي أنزلها الله على رسله على حسب ما يليق بأهلها في زمانهم وظروفهم والله سبحانه هو الحكيم العليم في كل ما يشرعه ويقدره كما قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (2) وذلك بعدما ذكر إنزاله التوراة والإنجيل والقرآن
__________
(1) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(2) سورة المائدة الآية 48(24/47)
في سورة المائدة، وقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (1) ثم إن اليهود والنصارى حرفوا وبدلوا وأدخلوا في شرائعهم ما ليس منها، ثم بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم برسالة عامة لجميع أهل الأرض من جن وإنس وشرع له شريعة عامة، وبذلك نسخ بها شريعة التوراة والإنجيل وأوجب على جميع أهل الأرض أن يتحاكموا إلى الشريعة التي بعث الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم وأن يأخذوا بها دون كل ما سواها كما قال عز وجل يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة المائدة: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (2) الآية. وقال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) وقال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (4)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 83
(2) سورة المائدة الآية 48
(3) سورة النساء الآية 65
(4) سورة المائدة الآية 50(24/48)
والآيات في هذا كثيرة ومن تدبر القرآن الكريم وأكثر من تلاوته لقصد الاستفادة والعمل هداه الله إلى سبيل الحق كما قال الله سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) الآية من سورة الإسراء
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9(24/49)
21 - حكم قيام الطلاب للمدرسين
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم معالي وزير المعارف. . وفقه الله. . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: (1)
فقد بلغني أن كثيرا من المدرسين يأمرون الطلبة بالقيام لهم إذا دخلوا عليهم الفصل، ولا شك أن هذا مخالف للسنة الصحيحة؛ فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحب أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار (2) » أخرجه الإمام
__________
(1) نشر في مجلة البحوث الإسلامية العدد (26) عام 1410هـ ص 347.
(2) أخرجه أحمد برقم (16311) مسند الشاميين، باب حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وأبو داود برقم (4552) كتاب الأدب، باب في قيام الرجل للرجل، والترمذي برقم (2679) كتاب الأدب، باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل.(24/49)
أحمد وأبو داود والترمذي عن معاوية رضي الله عنه بإسناد صحيح - وخرج الإمام أحمد والترمذي بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: «لم يكن شخص أحب إليهم - يعني الصحابة رضي الله عنهم - من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا لا يقومون له إذا دخل عليهم لما يعلمون من كراهيته لذلك (1) » .
فأرجو من معاليكم التعميم على المدارس بأن السنة عدم القيام للمدرسين إذا دخلوا على الطلبة في الفصول عملا بهذين الحديثين الشريفين وما جاء في معناهما، ولا يجوز للمدرس أن يأمرهم بالقيام؛ لما في حديث معاوية من الوعيد في ذلك ويكره للطلبة أن يقوموا عملا بحديث أنس المذكور، ولا يخفى أن الخير كله في اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به وأصحابه رضي الله عنهم، جعلنا الله وإياكم من أتباعهم بإحسان ووفقنا للفقه في دينه والثبات عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) أخرجه أحمد برقم (11895) باقي مسند المكثرين، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه، والترمذي برقم (2678) كتاب الأدب، باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل(24/50)
22- تنبيه حول القيام للمدرس (1)
أما القيام عند دخول الأستاذ فظاهر الأحاديث الصحيحة يدل على كراهته أو تحريمه، كحديث أنس رضي الله عنه قال: «لم يكن أحد أحب إليهم - يعني الصحابة - من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا لا يقومون إذا رأوه؛ لما يعلمون من كراهيته لذلك (2) » رواه أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح غريب.
ولا ينبغي للأستاذ أن يرضى من الطلبة بذلك؛ لحديث معاوية رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال: «من أحب أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده في النار (3) » أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي بإسناد جيد، وقد حسنه الترمذي، وأخرج أبو داود بإسناد فيه ضعف عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا فقمنا إليه، فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا (4) »
__________
(1) نشر في هذا المجموع في جـ2 ص 91.
(2) سنن الترمذي الأدب (2754) .
(3) سنن الترمذي الأدب (2755) ، سنن أبو داود الأدب (5229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/100) .
(4) أخرجه أبو داود برقم (4553) كتاب الأدب، باب في قيام الرجل للرجل، وأحمد برقم (21158) باقي مسند المكثرين، باب حديث أبي أمامة الباهلي.(24/51)
وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه، وذكر هذه الأحاديث الحافظ محمد بن مفلح في (الآداب الشرعية) صفحة 464 و 465 المجلد الأول، وقد استثنى بعض أهل العلم من هذه الأحاديث القيام للقادم من السفر للسلام عليه ومصافحته أو معانقته، وكذا من طالت غيبته، واستثنى بعضهم قيام الولد لأبيه لإكرامه والأخذ بيده، وقيام الوالد لولده إذا كان أهلا لذلك، والمراد القيام للسلام والمصافحة، وهذا الاستثناء صحيح، وقد دلت عليه السنة الصحيحة، منها ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للصحابة لما قدم سعد بن معاذ للحكم في قريظة: «قوموا إلى سيدكم (1) » والمراد: القيام للسلام عليه وإنزاله عن دابته، وفي الصحيحين أيضا عن كعب بن مالك «أنه لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد والناس حوله لما أنزل الله توبته قام إليه طلحة بن عبيد الله يهرول فصافحه وهنأه بتوبة الله عليه، ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم (2) » وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد جيد عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كانت فاطمة رضي الله عنها إذا دخل
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3043) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1768) ، سنن أبو داود الأدب (5215) ، مسند أحمد بن حنبل (3/22) .
(2) أخرجه البخاري برقم (4066) كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، ومسلم برقم (4973) كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه.(24/52)
عليها النبي صلى الله عليه وسلم قامت إليه فأخذت بيده وقبلته وأجلسته في مجلسها، وإذا دخلت عليه قام إليها النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه (1) » فهذه الأحاديث صريحة في جواز مثل هذا وأنه لا يدخل في القيام المكروه، وأما ما يفعله بعض الناس اليوم من القيام للأستاذ ونحوه كلما دخل عليهم لتعظيمه لا للمصافحة ونحوها، وإنما يقفون ثم يجلسون تعظيما له واحتراما، فلا شك في كراهة ذلك وإنكاره، وأنه لا يجوز للأستاذ ونحوه أن يرضى بذلك؛ لما تقدم في حديث معاوية وغيره، وأحق الناس بامتثال السنة والتأدب بآدابها هم العلماء والمعلمون وطلاب العلم ورؤساء الناس وأعيانهم؛ لأن الناس يقتدون بهم، فإذا عظموا السنة عظمها الناس، وإذا تهاونوا بها تهاون بها الناس، ونبينا صلى الله عليه وسلم هو خير الناس وأفضلهم وسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام وكان لا يرضى أن يقام له، بل كره ذلك ونهى الصحابة عنه خوفا عليهم من الغلو ومشابهة الأعاجم في القيام لرؤسائهم وعظمائهم، والله سبحانه يقول {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (2)
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (4540) كتاب الأدب، باب ما جاء في القيام، والترمذي برقم (3807) كتاب المناقب، باب ما جاء في فضل فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم.
(2) سورة الأحزاب الآية 21(24/53)
وفقنا الله وإياك للعلم النافع، والعمل به، والدعوة إليه، والله يتولانا وإياك والسلام.(24/54)
23 - حكم قيام الطالبات للمدرسة
س: ما حكم قيام الطالبات للمدرسة احتراما لها؟ (1)
ج: إن قيام البنات للمدرسة والبنين للمدرس أمر لا ينبغي وأقل ما فيه الكراهة الشديدة؛ لقول أنس رضي الله عنه «لم يكن أحد أحب إليهم (يعني الصحابة رضي الله عنهم) من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يقومون له إذا دخل عليهم لما يعلمون من كراهيته لذلك (2) » وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار (3) » .
وحكم النساء حكم الرجال في الأمر.
وفق الله الجميع لما يرضيه وجنبنا ومساخطه ومناهيه، ومنح الجميع العلم النافع والعمل به إنه جواد كريم.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية من جمع محمد المسند ج4 ص 334.
(2) سنن الترمذي الأدب (2754) .
(3) سنن الترمذي الأدب (2755) ، سنن أبو داود الأدب (5229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/100) .(24/54)
24 - ضرب الطالبات لغرض التعليم
س: ما حكم ضرب الطالبات لغرض التعليم، والحث على أداء الواجبات المطلوبة منهن لتعويدهن على عدم التهاون فيها؟ (1) .
ج: لا بأس في ذلك فالمعلم والمعلمة والوالد كل منهم عليه أن يلاحظ الأولاد، وأن يؤدب من يستحق التأديب إذا قصر في واجبه حتى يعتاد الأخلاق الفاضلة وحتى يستقيم على ما ينبغي من العمل الصالح، ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع (2) » . فالذكر يضرب والأنثى كذلك إذا بلغ كل منهم العشر وقصر في الصلاة ويؤدب حتى يستقيم على الصلاة، وهكذا الواجبات الأخرى في التعليم وشئون البيت وغير ذلك، فالواجب على أولياء الصغار من الذكور والإناث أن يعتنوا
__________
(1) نشر في مجموع الفتاوى لسماحته ج 6 ص 403.
(2) أخرجه أحمد برقم (6467) ، مسند المكثرين من الصحابة، باب مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وأخرجه الترمذي برقم (372) ، كتاب الصلاة، باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة، وأبو داود برقم (417) كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، والدارس برقم (1(24/55)
بتوجيههم وتأديبهم، لكن يكون الضرب خفيفا لا خطر فيه ولكي يحصل به المقصود.(24/56)
25 - مسألة فضل نشر العلم
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي عام المملكة
حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
أرجو التكرم بالإجابة على السؤالين التاليين:
س 1: يقوم بعض زملائنا في مدرستنا بتوزيع بعض الأشرطة والكتيبات النافعة التي تحتوي على توجيهات وفتاوى هيئة كبار العلماء بالمملكة من أجل نشر الخير بين زملائهم ولكن حصل أن انزعج بعض الإخوة من هذا الأمر وقالوا: إن هذا تشديد وتضييق عليهم؛ لأنه يجعلهم يطلعون على أحكام شرعية يصعب عليهم تطبيقها ويخشون من الإثم، وصار بعضهم يمتنع من أخذ الكتيب أو الشريط للسبب نفسه، ووصل الحال ببعضهم إلى أن قال: ليتنا نبقى على جهلنا فهو أفضل ويستدلون بقوله تعالى:(24/56)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (1) فنرجو منكم التفضل بتوجيه هؤلاء الإخوة حول هذا الأمر بما ترونه مناسبا؟
__________
(1) سورة المائدة الآية 101(24/57)
س 2: رزق أحد الزملاء بمولودة وأراد تسميتها (ريناد) أو (رناد) على أساس أن هذا الاسم مأخوذ من الرند وهو شجر طيب الرائحة، وقد اعترض عليه بعض الإخوة بحجة أن هذا الاسم أجنبي. فهل تجوز التسمية بهذا الاسم أم لا؟ وجزاكم الله خيرا (1) .
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. بعده:
توزيع الكتب والأشرطة النافعة الصادرة من علماء السنة من أفضل القربات. لأن ذلك من نشر العلم والدعوة إلى الخير والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} (2) الآية. ويقول عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) الآية. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر
__________
(1) سؤالان مقدمان من السائل أ. م. من الطائف أجاب عنهما سماحته عام 1418 هـ.
(2) سورة فصلت الآية 33
(3) سورة النحل الآية 125(24/57)
فاعله (1) » . أخرجه مسلم في الصحيح. أما التسمية بريناد أو رناد فلا أعلم به بأسا، لكن اختيار بعض الأسماء المعروفة الطيبة أولى منها. وفق الله الجميع. والسلام.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (3509) كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب أو غيره.(24/58)
26 - نصيحة للطلاب بمناسبة الامتحانات المدرسية
س: هذه أيام امتحانات فهل من نصيحة إلى الطلاب يا سماحة الشيخ؟ .
ج: ننصح الطلاب جميعا بالجد والعناية والمذاكرة في الدروس ليلا ونهارا، والتعاون فيما بينهم في حل المشكلات، وسؤال الله التوفيق والعون، والحذر من المعاصي، والحرص على الصلاة والمحافظة عليها في الجماعة، صلاة الفجر وغيرها، وعلى بر الوالدين وصلة الرحم، وأداء حق الزوجة إلى غير ذلك.(24/58)
فنوصي الطلاب بتقوى الله، والاستقامة على دينه والمحافظة على ما أوجب الله، وترك ما حرم الله، وهذا يعينهم على النجاح في دروسهم، كل واحد عليه أن يتقي الله وأن يحافظ على ما أوجب الله من صلاة وغيرها، وأن يجتهد في بر والديه، وإعطائهم حقوقهم وإنصاف الزوجة، وإعطائها حقوقها إن كان له زوجة، وحفظ الوقت من القيل والقال الذي لا فائدة فيه، وذلك بالمذاكرة وحده أو مع إخوانه.(24/59)
27 - كلمة توجيهية للطلاب والطالبات
س: بمناسبة قرب امتحانات النصف الأول سماحة الشيخ هل من كلمة للطلاب والطالبات؟ (1) .
ج: نعم. نوصي الجميع بتقوى الله جل وعلا، والعناية بالدروس، والاستعداد الكامل والمذاكرة بينهم ومراجعة مراجعهم حتى يستفيدوا وحتى ينجحوا إن شاء الله، ونوصيهم بالحذر من الغش، فإن الغش لا يجوز في جميع المواد، لا في المواد الدينية ولا في غيرها، يجب الحذر من الغش يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) نشر في جريدة الرياض العدد (10763) في 12\8\1418 هـ.(24/59)
«من غشنا فليس منا (1) » ، فالواجب الحذر، ولأن الغش يترتب عليه شر كثير. فنوصي الطلبة جميعا بالحذر من الغش، ونوصيهم جميعا بالعناية والإعداد والمذاكرة ومراجعة الدروس ومراجعة الكتب التي يختبرون فيها والمذاكرة بينهم فيما يشكل، وسؤال الأساتذة عما يشكل قبل الاختبار، حتى إذا جاء الاختبار فإذا هو قد هيأ نفسه.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (146) كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ''من غشنا''.(24/60)
28 - حكم الغش في الاختبارات
الوالد الكريم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله ورعاه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . وبعد:
تعلمون - وفقكم الله تعالى - أنه في نهاية كل فصل دراسي، يثار تساؤل بين كثير من الطلاب والمدرسين حول ظاهرة الغش في الاختبارات، وحكم ذلك؛ مما يجعل الكثير منهم يخوضون في المسألة بعلم أو بغير علم، فنرجو من سماحتكم - سلمكم الله تعالى - بيان حكم الغش في الاختبارات بالنسبة للطلاب الذين يغشون، وبالنسبة للمدرسين الذين يتساهلون أو يساعدون أو(24/60)
يتغاضون عمن يفعل ذلك - وما هي الآثار المترتبة من الناحيتين الشرعية والاجتماعية على المسلمين.
وما قولكم فيمن يقول: إن الغش حرام فقط إذا كان في المواد والعلوم الشرعية، ويكون مباحا إذا كان في غيرها كاللغة الإنجليزية أو التاريخ أو الرياضيات أو الهندسة أو نحوها.
وأيضا ما هو سند حديث: «من غش فليس منا (1) » وهل هو خاص في الطعام أم عام يشمل كل ما فيه مضرة على المسلمين. أفتونا أثابكم الله؛ ليزول الإشكال في هذا الموضوع المهم والحساس، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين (2) .
الجواب: الغش في جميع المواد حرام ومنكر؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا (3) » أخرجه مسلم في صحيحه. وهذا لفظ عام يعم الغش في المعاملات وفي النصيحة والمشورة وفي العلم بجميع مواده الدينية والدنيوية، ولا يجوز للطالب ولا للمدرس فعل ذلك، ولا التساهل فيه، ولا التغاضي عنه؛ لعموم الحديث المذكور، وما جاء في معناه، ولما يترتب على الغش من
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (102) ، سنن الترمذي البيوع (1315) ، سنن ابن ماجه التجارات (2224) ، مسند أحمد بن حنبل (2/242) .
(2) سؤال موجه لسماحته بتاريخ 26\7\1401 هـ. أجاب عنه بتاريخ 4\8\1401 هـ.
(3) سنن ابن ماجه التجارات (2225) .(24/61)
المفاسد والأضرار والعواقب الوخيمة. وفق الله الجميع للفقه في الدين والثبات عليه إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(24/62)
29 - مسألة في الغش في الامتحان
س: ما حكم الغش في أوقات الامتحان، علما بأني أرى كثيرا من الطلبة يغشون، وأنصح لهم لكنهم يقولون: ليس في ذلك شيء. أفيدوني جزاكم الله خيرا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؟ (1) .
ج: الغش في الامتحان وفي العبادات والمعاملات محرم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا (2) » ، ولما يترتب عليه من الأضرار الكثيرة في الدنيا والآخرة، فالواجب الحذر منه والتواصي بتركه.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية للشيخ محمد المسند ج 4 ص. 330، وفي كتاب الدعوة ج 1 ص 157.
(2) سنن ابن ماجه التجارات (2225) .(24/62)
30 - حكم الغش في مادة الإنجليزية
س: أنا طالب في إحدى الكليات في مدينة الرياض، وألاحظ بعض الطلبة يغشون في الامتحانات وخاصة بعض المواد، منها مثلا مادة اللغة الإنجليزية، وعندما أناقشهم في ذلك يقولون: إن الغش في مادة اللغة الإنجليزية ليس حراما، وقد أفتى بذلك بعض المشايخ، أرجو إفادتي في هذا العمل وهذه الفتوى؟ (1)
ج: قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من غشنا فليس منا (2) » .. وهذا يعم الغش في المعاملات والغش في الامتحان، ويعم الإنجليزية وغيرها، فلا يجوز للطلبة والطالبات الغش في جميع المواد؛ لعموم هذا الحديث وما جاء في معناه.. والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من إعداد محمد المسند ج4 ص330، وفي كتاب الدعوة ج1 ص158.
(2) سنن ابن ماجه التجارات (2225) .(24/63)
31 - قراءة أحاديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم وحفظها فيها أجر عظيم
س: وردت الأدلة على حصول الأجر من الله سبحانه على قراءة القرآن الكريم. فهل يحصل الأجر من الله على قراءة الأحاديث النبوية؟ أفتونا جزاكم الله خيرا (1) .
ج: قراءة القرآن تقربا إلى الله سبحانه وتعالى فيها أجر عظيم، وهكذا قراءة أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظها فيها أجر عظيم، لأن ذلك عبادة لله سبحانه وتعالى، وطريق لطلب العلم والتفقه في الدين. وقد دلت الأدلة الشرعية على وجوب التعلم والتفقه في الدين حتى يعبد المسلم ربه على بصيرة، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القران وعلمه (2) » . وقوله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خير يفقهه في الدين (3) » وقوله عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده (4) » رواه مسلم في صحيحه.
__________
(1) نشر في المجلة العربية، جمادى الآخرة 1413هـ.
(2) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .
(3) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(4) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(24/64)
وجاء في قراءة القرآن أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا القرآن إنه يأتي شفيعا لأصحابه يوم القيامة (1) » . رواه مسلم. وقال ذات يوم عليه الصلاة والسلام لأصحابه: «أيحب أحدكم أن يذهب إلى بطحان (واد في المدينة) فيأتي بناقتين عظيمتين في غير إثم ولا قطيعة رحم فقالوا: كلنا نحب ذلك يا رسول الله، قال: لأن يذهب أحدكم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين عظيمتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع ومن أعدادهن من الإبل (2) » أخرجه مسلم في الصحيح. وهذا يدل على فضل قراءة القرآن وتعلمه. ومن ذلك حديث ابن مسعود المشهور المخرج في جامع الترمذي بإسناد حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ حرفا من القرآن فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها (3) » . وهكذا السنة إذا تعلمها المؤمن بقراءة الأحاديث ودراستها وحفظها ومعرفة الصحيح منها من غيره يكون له بذلك أجر عظيم، لأن هذا
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1337) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة بالقرآن.
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (803) ، مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(3) أخرجه الترمذي برقم (2835) كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر.(24/65)
من تعلم العلم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (1) » كما تقدم، وهذا يدل على أن قراءة الآيات وتدبرها ودراسة الأحاديث وحفظها والمذاكرة فيها رغبة في العلم والتفقه في الدين والعمل، بذلك من أسباب دخول الجنة والنجاة من النار، وهكذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » المتفق على صحته يدل على فضل العلم وطلبه وأن ذلك من علامات الخير كما سبق، فالتفقه في الدين يكون من طريق الكتاب ويكون من طريق السنة، فالتفقه في السنة من الدلائل على أن الله أراد بالعبد خيرا، كما أن التفقه في القرآن يدل على ذلك، والأدلة في هذا كثرة والحمد لله.
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(24/66)
وصف الأمة بالأمية
كثيرا ما نقرأ في الصحف ونرى إعلانات في الشوارع تشجب الأمية وتعدها من علامات التخلف، والله تعالى وصف هذه الأمة بالأمية فقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} (1) فأرجو أن توضحوا ذلك؟ (2)
ج: كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم من العرب والعجم لا يقرءون ولا يكتبون، ولهذا سموا أميين، وكان الذين يكتبون ويقرءون منهم قليلين جدا بالنسبة إلى غيرهم، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا يقرأ الكتابة ولا يكتب كما قال الله سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (3) وكان ذلك من دلائل صدق رسالته ونبوته عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أتى إلى الناس بكتاب عظيم أعجز به العرب والعجم أوحاه الله إليه ونزل به عليه الروح الأمين جبرائيل عليه الصلاة والسلام، وأوحى إليه سبحانه السنة المطهرة وعلوما كثيرة من علوم الأولين، وأخبره سبحانه بأشياء
__________
(1) سورة الجمعة الآية 2
(2) نشر في المجموع لسماحته ج7 ص139
(3) سورة العنكبوت الآية 48(24/67)
كثيرة مما كان في غابر الزمان ومما يكون في آخر الزمان ومما يكون في يوم القيامة، كما أخبره بأحوال الجنة والنار وأهلهما وكان ذلك مما فضله الله به على غيره وأرشد به الناس إلى منزلته العالية مع وصفه بالأمية، لأن ذلك من أوضح الأدلة على نبوته ورسالته، ولهذا قال سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (1) أما وصف الأمة بالأمية فليس المقصود منه ترغيبهم في البقاء عليها، وإنما المقصود الإخبار عن واقعهم وحالهم حين بعث الله إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وقد دل الكتاب والسنة على الترغيب في التعلم والكتابة والخروج من وصف الأمية فقال الله سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (2) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (3) وقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (4) الآية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 48
(2) سورة الزمر الآية 9
(3) سورة المجادلة الآية 11
(4) سورة فاطر الآية 28(24/68)
سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه. وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » متفق على صحته، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وبالله التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(2) سنن الترمذي العلم (2645) ، مسند أحمد بن حنبل (1/306) ، سنن الدارمي المقدمة (225) .(24/69)
33 - فضل التفقه
في الدين للعمل به وتعليم الناس
س: إذا حفظ الإنسان علما من علوم الدين لكي يقوم بدوره في القرية التي يسكنها، وحفظ القرآن لكي يصلي بالشباب صلاة قيام رمضان، هل يكون هناك نوع من الشرك الأصغر؟ (1) .
ج: من المعلوم بالأدلة الشرعية أن طلب العلم والتفقه في الدين من أفضل القربات والطاعات، وهكذا دراسة القرآن الكريم والعناية بالإكثار من تلاوته والحرص على حفظه أو ما تيسر منه، كل ذلك من أفضل القربات، فإذا قمت بما ينبغي من تعليم أهل قريتك وتوجيههم والصلاة بهم والصلاة بالشباب وغيرهم فكل هذا عمل صالح تشكر عليه وتؤجر عليه، وليس ذلك من الرياء،
__________
(1) من برنامج نور على الدرب، شريط رقم (12) . ونشر في المجموع ج 9 ص 366.(24/69)
وليس من الشرك إذا كان قصدك وجه الله والدار الآخرة، ولم ترد رياء الناس، ولا حمدهم، ولا ثناءهم، وإنما أردت بذلك أن شفعهم وأن تتزود من العلم والفقه في الدين. وإنما يكون ذلك شركا أصغر إذا فعلت ذلك رياء للناس، وطلبا لثنائهم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه، فقال: الرياء (1) » «يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الناس إليه (2) » «يقول الله سبحانه يوم القيامة للمرائين: "اذهبوا إلى من كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء (3) » . فالرياء أن تعمل العمل وتقصد الناس أن يشاهدوك ويثنوا عليك ويمدحوك، ومن ذلك السمعة، كأن تقرأ ليثنوا عليك ويقولوا: إنه جيد القراءة ويحسن القراءة أو تكثر من ذكر الله ليثنوا عليك ويقولوا: يكثر من الذكر، أو تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر لتمدح ويثنى عليك، وهذا هو الرياء، وهو الشرك الأصغر. فالواجب الحذر من ذلك، وأن تعمل أعمالك لله وحده، لا لأجل مراءاة الناس وحمدهم وثنائهم، ولكنك تتعلم لتعمل وتعلم إخوانك وتصلي بهم وترجو
__________
(1) رواه أحمد في باقي مسند الأنصار (22523 و 22528) .
(2) رواه ابن ماجه في الزهد برقم (4194) .
(3) رواه أحمد في باقي مسند الأنصار برقم (22523 و 22528) .(24/70)
ما عند الله من المثوبة وتقصد بذلك نفعهم لا رياء ولا سمعة، وإذا قرأت من المصحف فلا بأس أن تصلي بإخوانك من المصحف في رمضان، فكان مولى عائشة رضي الله عنها يصلي بها من المصحف، فلا حرج على المصلى أن يقرأ من المصحف في قيام رمضان إذا كان لا يحفظ وإن كان يحفظ عن ظهر قلب وقرأه حفظا فهو أفضل وأحسن، ولكن لا حرج في القراءة من المصحف عند الحاجة إلى ذلك.(24/71)
34 - موقف طالب العلم من اختلاف العلماء
س: نحن شباب نحاول أن نجتهد ونتفقه في أمور الدين، ونسأل الله أن يعيننا على ذلك، ولقد قمنا بقراءة بعض الكتب الدينية التي تختص بالأحلام والعبادات الموجودة في المكتبات، ولكن صادفتنا مشكلة أنه في بعض الكتب هناك اختلاف بينها وبين بعض؛ مما سبب لنا بعض الاضطراب، ما هي نصيحتكم لنا جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: الكتب من قديم الزمان لا بد أن يكون فيها تخالف، لأن الآراء والاجتهادات تختلف في الفروع والأحكام فليس هذا
__________
(1) سؤال أجاب عنه سماحته في حج عام 1406 هـ.(24/71)
ببدع، بل هذا معروف، فالمؤمن وطالب العلم يتحرى الدليل فما قام عليه الدليل فهو الواجب الاتباع في مسائل الخلاف، أما إذا أسمع العلماء فإسماعهم حجة، أما إذا وجدت مسألة اختلفوا فيها في الحج أو في الصلاة أو في المعاملات أو في الصيام أو في غير ذلك، فإن طالب العلم ينظر في أدلة الفريقين أو الفرق، فإن وجد أقوالا عدة فينظر ويتأمل ولا يعجل ينظر إلى أدلتهم فمن كان معه الدليل فهو المتبع، ولا يتعصب لأحد بل ينظر إلى الدليل فمن كان معه ظاهر القرآن أو ظاهر السنة أو قواعد الشريعة معه قدمه على غيره. . . والله أعلم.(24/72)
35 - بعض كتب الحديث التي ينصح بها
س: ما أفضل كتب الحديث التي تنصحون بمراجعتها سماحة الشيخ، خصوصا في المسجد؟ (1) .
ج: أما للحفظ ولطالب العلم، بلوغ المرام من أحسن الكتب؛ لأنه مختصر ومفيد ومحرر، وعمدة الحديث كذلك كتاب طيب للشيخ عبد الغني المقدسي، والمنتقى أوسع منهما جميعا، إذا تيسر حفظه أو مراجعته وما ذكر فيه أيضا مهم؛ لأنه كتاب جامع،
__________
(1) نشر في جريدة الرياض العدد (10763) في 12\8\1418 هـ.(24/72)
لأبي البركات مجد الدين عبد السلام بن تيمية رحمه الله، وكذلك من الكتب النافعة الخمسون النووية التي كملها ابن رجب هي اثنان وأربعون للنووي كملها بثمانية أحاديث ابن رجب رحمه الله، صارت خمسين، هي من جوامع الكلم وهي مفيدة جدا، فنوصي بحفظها، لكونها من جوامع الكلم، والحاجة ماسة إلى حفظها.(24/73)
36 - مسألة في العلم
س: سماحة الشيخ هل هناك قدر من العلم يقف عنده المسلم حتى يتعرف على دينه؟ (1) .
ج: نعم. يلزمه أن يتعلم ما يجب عليه وما يحرم عليه، والبقية سنة، يلزمه أن يتعلم ما لا يسعه جهله، يعني ما أوجب الله عليه وما حرم الله عليه، حتى يعبد ربه على. بصيرة؛ لأن الله يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) وهذه العبادة التي خلقوا لها لا بد أن يعرفوها حتى يؤدوها ولا طريق إلى معرفتها إلا بالله ثم بالعلم النافع، بالنظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسؤال أهل العلم، كما قال تعالى:
__________
(1) نشر في جريدة الرياض، العدد (10763) في 12\8\1418 هـ.
(2) سورة الذاريات الآية 56(24/73)
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) فليعرف الواجب على كل مسلم وعلى كل مسلمة أن يتعلم ما لا يسعه جهله، ويتفقه في الدين حتى يعلم ما أوجب الله عليه وما حرم الله عليه وحتى يعبد الله على بصيرة، فهو مخلوق للعبادة، مأمور بها، فلا بد أن يتعلم هذه العبادة التي هو مخلوق لها، وذلك بمراجعة القرآن العظيم والسنة المطهرة، وسؤال أهل العلم عما أشكل عليه.
__________
(1) سورة النحل الآية 43(24/74)
37 - طلب العلم مقدم على الجهاد في سبيل الله
س: ما الأفضل في هذا الوقت الجهاد في سبيل الله أم طلب العلم ونفع الناس وإزالة الجهل، وما حكم الجهاد لمن لم يستأذن والديه في الجهاد وخرج للجهاد؟ (1) .
ج: طلب العلم من الجهاد وهو واجب للتفقه في الدين وطلب العلم، وإذا وجد جهادا في سبيل الله، الجهاد الشرعي شارك فيه إذا وجد ذلك وهو من أفضل الأعمال، ولكن عليه أن يتعلم ويتفقه في الدين وهو أفضل ومقدم على الجهاد؛ لأنه واجب
__________
(1) من أسئلة حج عام 1418 هـ أجاب عنه سماحته بتاريخ 9\12\1418 هـ.(24/74)
عليه أن يتفقه في دينه، والجهاد مستحب فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، لكن تعلم الإنسان العلم أمر مفروض عليه ليتفقه في دينه، وإذا يسر الله له جهادا إسلاميا فلا بأس يشرع له المشاركة إذا قدر ولكن بإذن والديه.
أما الجهاد الواجب الذي يهجم العدو على البلد، فيجب على الجميع الجهاد إذا هجم العدو على بلاد المسلمين وجب عليهم كلهم أن يجاهدوا، وأن يدفعوا شر العدو كلهم، حتى النساء يجب عليهن أن يدفعن شر العدو بما استطاعوا، أما جهاد الطلب فكونه يذهب إلى العدو في بلاده ويجاهد في بلاده فهذا فرض كفاية على الرجال.(24/75)
38 - حكم التفرغ لإفتاء الناس
س: ما أشد حاجتنا إلى السؤال عن أمور ديننا ألا ترون أنه يجب أن يكون هناك أشخاص متفرغون همهم إفتاء الناس فيما يرد إليهم من أسئلة ولو عبر الهاتف؟ (1) .
ج: هذا من أهم الأمور، وهذا البرنامج وهو نور على الدرب من هذا القبيل، فإنه الحمد لله هو القائم بهذه المهمة، وإذا تيسر من العلماء من يقوم بذلك كالعون لهذا البرنامج فهذا من
__________
(1) من أسئلة برنامج نور على الدرب، الشريط (17) .(24/75)
الخير العظيم، والمقصود أن هذا البرنامج بحمد الله فيه خير عظيم ونفع كبير وقد أدى فرض كفاية، وإذا تيسر من العلماء في المساجد وفي بيوتهم من يفتي الناس إذا كان عنده علم وبصيرة بما قاله الله ورسوله فهذا خير إلى خير، فالحاصل أن هذا البرنامج فيه خير عظيم والحمد لله قد قام بواجب كبير في إفتاء الناس في الداخل والخارج، وبحل المشاكل بالأدلة الشرعية، فنسأل الله أن يوفق القائمين عليه وأن يعينهم، وأن يمنحهم البصيرة والإخلاص والصدق، وأن يوفق الجميع في كل مكان لما فيه رضاه ولما فيه صلاحهم ونجاتهم، وأن يوفق علماء المسلمين في كل مكان لأداء الواجب وتوجيه الناس إلى الخير وتعليمهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، مع العناية بما قاله الله ورسوله، وأن تكون الفتوى على ضوء كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام، لا بالآراء المجردة والله المستعان.(24/76)
39 - من صفات أهل العلم
س: كثير من طلبة العلم اليوم يعرفون كثيرا من فضائل الأعمال وأجرها ومنها قيام الليل، ولا يفعلون هذا حيث إنهم يعلمون ولا يعملون؟ (1) .
ج: الأعمال التي جاءت النصوص ببيان فضلها قسمان:
قسم واجب: فعلى المرء المسلم سواء كان عالما أو غير عالم أن يعتني به، وأن يتقي الله في ذلك، وأن يحافظ عليه كالصلوات الخمس وأداء الزكاة وغيرهما من الفرائض.
وقسم مستحب: كالتهجد بالليل وصلاة الضحى ونحو ذلك. فالمشروع للمؤمن أن يجتهد في ذلك ويحرص عليه، ولا سيما أهل العلم؛ لأنهم قدوة، ولو شغل عن ذلك أو تركه بعض الأحيان لم يضره ذلك؛ لأنه نافلة، لكن من صفات أهل العلم والأخيار العناية بهذا الأمر، والمحافظة عليه، كالتهجد بالليل وصلاة الضحى والرواتب إلى غير ذلك من وجوه الخير.
__________
(1) نشر في مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته ج 8\351.(24/77)
40 - حكم من يجمع كتبا ولا يقرؤها
س: أنا رجل ولله الحمد لدي العديد من الكتب النافعة والمفيدة والمراجع لكنني لا أقرؤها بل أختار منها البعض. هل يلحقني إثم في جمع هذه الكتب عندي في البيت مع العلم أن بعض الناس يأخذون من عندي بعض الكتب يستفيدون منها ثم يرجعونها؟ (1) .
ج: ليس على المسلم حرج في جمع الكتب المفيدة وحفظها لديه في مكتبة لمراجعتها والاستفادة منها ولتقديمها لمن يزوره من أهل العلم ليستفيدوا منها، ولا حرج عليه إذا لم يراجع الكثير منها، أما إعارتها إلى الثقات الذين يستفيدون منها فذلك مشروع وقربة إلى الله سبحانه لما فيه من الإعانة على تحصيل العلم، ولأن ذلك داخل في قوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (2) وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (3) » .
__________
(1) نشر في جريدة المسلمون، العدد (498) في 26\2\1419 هـ.
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) أخرجه مسلم برقم (4867) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر.(24/78)
41 - حكم الاستماع إلى برنامج نور على الدرب في المسجد
س: هل يصح أن نستمع إلى برنامج نور على الدرب في المسجد بدلا من الاستماع إلى أحاديث بعض المصلين الفارغة، ومنعا للأحاديث الدنيوية في المساجد؟ (1) .
ج: في الاستماع إلى هذا البرنامج خير عظيم، وفيه مصالح جمة، وقد يسر الله للمسلمين هذا البرنامج؛ ليستفيدوا منه، فهو بمثابة حلقات علمية يستفيد منها الرجال والنساء، وهم في بيوتهم ومجالسهم، وعلى أسرتهم، فهو من نعم الله العظيمة، ومن حجة الله القائمة على الناس يصل إليهم في بيوتهم وفي سياراتهم وفي طائراتهم وفي كل مكان.
فينبغي للمسلمين أن يستفيدوا من هذا البرنامج، ويحمدوا الله ويشكروه على ما يسره لهم سبحانه وتعالى.
وكان الناس يسعون للعلم من أماكن بعيدة إلى المساجد، وإلى العلماء في بيوتهم؛ ليطلبوا العلم، وربما سافر الرجل من بلاد بعيدة إلى العالم يطلب منه فائدة، فقد سافر جابر بن عبد الله
__________
(1) نشر في مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته ج 8\365.(24/79)
رضي الله عنه إلى الشام، وسافر غيره إلى مصر واليمن في حديث واحد، وهم أصحاب رسول الله وخير سلف هذه الأمة.
فأنت يا عبد الله، ويا أمة الله يسر الله لكما هذا البرنامج بواسطة الأثير، وأنتم في بيوتكم.
فأنا أوصي وأنصح كل مسلم وكل مسلمة أن يستفيد من هذا البرنامج، وأن يسأل عما أشكل عليه من طريق هذا البرنامج، فنسأل الله أن يوفق القائمين على هذا البرنامج لإصابة الحق، وأن يعينهم على إبلاغ رسالة الله، وأمره ونهيه للأمة في كل مكان، وأن يوفق المسلمين في كل مكان إلى أن يستمعوا لهذا البرنامج، ويستفيدوا منه، ومتى أشكل على أحد شيء من أمور دينه فما عليه إلا أن يسأل أهل العلم في أي مكان حتى يطمئن؛ لقول الله عز رجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1)
ولا بأس بفتح الراديو في المسجد؛ لسماع هذا البرنامج، ولسماع العلم من غير هذا البرنامج في الأوقات المناسبة التي يتفق الجماعة عليها، فإذا جاءت أصوات الموسيقى أو شيء لا يرتضى وجب قفله.
__________
(1) سورة النحل الآية 43(24/80)
42 - مسألة حول اعتماد طالب العلم على الكتب دون التلقي من العلماء
س: بعض الناس يعتمد على الكتب الفكرية والثقافية ويقرأ منها، ثم بعد ذلك يظن أنه عالم وداعية مع أنه ضعيف في الفقه في الدين ولم يقرأ في الكتب الشرعية. فما هو توجيه سماحتكم لمثل ذلك؟
ج: العلم: قال الله وقال رسوله، وليس قال فلان وفلان، العلم: قال الله وقال رسوله، بعد ذلك قول أهل العلم بما يفسرونه ويوضحونه للناس، وأهل العلم هم خلفاء الله في عباده بعد الرسل، قال جل وعلا: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} (1) والعلم هو العلم بالله وبدينه، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (2) وهم الرسل وأتباعهم أهل البصائر، أهل الدين، أهل الحق، أهل القرآن والسنة، فالعلماء
__________
(1) سورة آل عمران الآية 18
(2) سورة فاطر الآية 28(24/81)
هم خلفاء الرسل وهم الموضحون والدالون على الله وعلى دينه، ولا يكون طالب العلم من أهل العلم إلا بتدبر وتعلم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والأخذ من علماء السنة، هذا هو طريق العلم: أن يقبل على الطاعات والتدبر والتعقل والاستفادة، ويقرأ قراءة المستفيد الطالب للعلم من أوله إلى آخره، ويتدبر ويتعقل ويطالع ما أشكل عليه في كتب التفسير المعتمدة كتفسير ابن كثير والبغوي ونحوهما من التفاسير المعتمدة، ويعتني بكتب الحديث الشريف، ويأخذ العلم عن علماء أهل السنة والجماعة من أهل البصيرة، لا من علماء الكلام، ولا من علماء البدع، ولا من الجهلة، فالعلم الذي ليس من كتاب الله وسنة رسوله لا يسمى علما بل يسمى جهلا، وإن كان علما نافعا في الدنيا، لكن المقصود الذي ينفع في الآخرة وينقذ من الجهالة، ويتبصر به الإنسان في الدين ويعرف ما أوجب الله عليه وما حرم عليه هذا هو العلم الشرعي.(24/82)
43 - خطورة الاستطالة في أعراض العلماء
س: يلاحظ في هذه الفترة أن بعض طلبة العلم يتطاولون على كبار المشايخ إذا لم يقولوا ما يتفق مع أهوائهم أو رغباتهم أو معتقداتهم ما رأي سماحتكم في ذلك؟ (1) .
ج: نسأل الله لنا ولهم الهداية، والواجب على أهل العلم وعلى غيرهم الحذر من الغيبة، واحترام أعراض المسلمين، والحذر من النميمة، كل هذه يجب الحذر منها، فالغيبة والنميمة من أقبح الخصال، فالواجب على المسلم: الحذر منهما جميعا.
فالغيبة: ذكرك أخاك بما يكره.
والنميمة: نقل الكلام السيئ من قوم إلى قوم، أو من شخص إلى شخص؛ لأن هذا يثير العداوة والشحناء، والواجب على كل مسلم أن يحذر الغيبة والنميمة، وأن يحترم أعراض المسلمين ولا سيما أهل العلم، يحترم أعراضهم، ويحذر من الكلام في أعراضهم، وأما من أظهر المنكر أو البدعة فلا غيبة له فيما أظهر وبين.
__________
(1) نشر في (مجلة المجلة) عدد (806) بتاريخ 23\2\1416 هـ ونشر في المجموع ج 8 ص 40.(24/83)
44 - سؤالان عن كتاب الترغيب
والترهيب، وكتاب سبل السلام
س: سائلة تسأل عن كتاب الترغيب والترهيب؟ (1) .
ج: بسم الله والصلاة، والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فكتاب الترغيب والترهيب كتاب مشهور معروف للحافظ المنذري مشتمل على أحاديث كثيرة فيها الصحيح وفيها الضعيف وفيها الحسن، وقد أشار في كتابه إلى الأحاديث الضعيفة بقوله: (وروي) إذا لم يجزم به بل حكاه بصيغة التمريض فذلك إشارة منه إلى أنه من الأحاديث الضعيفة وهو كتاب مفيد عظيم رحم الله مؤلفه.
__________
(1) هذا السؤال والذي بعده من ضمن أسئلة برنامج نور على الدرب، الشريط الثامن.(24/84)
س: سئل سماحته عن كتاب سبل السلام؟
ج: كتاب سبل السلام معروف أيضا، وهو للأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني وأصله لمؤلف يعرف بالمغربي وهو كتاب جيد مفيد على كتاب بلوغ المرام للحافظ ابن حجر.(24/84)
45 - جلسات الذكر النسائية
س: هل صحيح أن جلسات الذكر النسائية لا تحضرها الملائكة إذا كانت النساء كاشفات لشعورهن (أي غير متحجبات) ؟ (1) .
ج: لا أعلم لهذا أصلا، ولهن أن يقرأن ويذكرن الله عز وجل وإن كن كاشفات رءوسهن إذا لم يكن عندهن أجنبي. . ولا يمنع ذلك من دخول الملائكة. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سؤال مقدم من ف. م. الشرقية. أجاب عنه سماحته بتاريخ 27 \ 12 \ 1418 هـ.(24/85)
46 - حفظ الكتب والمجلات
والجرائد التي فيها صور
س: أنا طالب بالمرحلة الثانوية وهوايتي القراءة والاطلاع مما دفعني إلى الاشتراك في كثير من المجلات الإسلامية والثقافية والعسكرية ولكن البعض من هذه المجلات بل الأغلب لا يخلو من صور الأشخاص مع أنني أحتفظ بالمجلات بمكتبة خاصة بي، والصور فيها ونحن نعلم ما قيل في المصورين وما قيل من عدم(24/85)
دخول الملائكة البيت الذي فيه كلب أو صورة من الأحاديث النبوية. . أرجو توضيح هذه المسألة توضيحا يكشف الغموض ويكون جامعا مانعا؟ (1) .
ج: لا مانع من حفظ الكتب والصحف والمجلات المفيدة وإن كان فيها بعض الصور، لكن إن كانت الصور نسائية فالواجب طمسها، أما إن كانت من صور الرجال فيكفي طمس الرأس عملا بالأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك.
__________
(1) نشر في كتاب فتاوى إسلامية جمع محمد المسند ج 4 ص 333.(24/86)
47 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
من أسباب صلاح الجميع وأحذر إخواني المسلمين
من المجالس التي تعج بالجدل والخصام (1) .
س: سماحة الشيخ يكثر في بعض مجالس الناس الجدل العقيم والكلام في قضايا لا تعنيهم. ما الذي ينبغي عمله في مثل هذه المناسبات وهذه الاجتماعات جزاكم الله خيرا؟
__________
(1) نشر في (جريدة الرياض) العدد (10763) وتاريخ 12 \ 8 \ 1418 هـ.(24/86)
ج: المشروع للمؤمن الحذر من المجالس التي فيها الجدل والخصام والمراء بدون فائدة، لا يحضرها ولا يشارك فيها؛ لأنها تفضي إلى الباطل أو إلى الكذب وإلى القول بغير علم. أما المجالس التي فيها ذكر الله وفيها التعاون على الخير وفيها البحث العلمي والتفقه في الدين، هذه مجالس طيبة، أما مجالس الجدل والنزاع والخصومات والمراء فينبغي الحذر منها وعدم المشاركة فيها.(24/87)
س: سماحة الشيخ هل للمؤلف أن يحتكر الكتاب المؤلف الذي ألفه؟ وهل يدخل هذا في كتم العلم؟
ج: إذا كان المؤلف قد اقتنع بأن كتابه مفيد، وأنه قد أدى فيه الواجب، فلا يجوز له عدم نشره بين الناس ولا احتكاره، بل ينشره بين الناس نصحا لله ولعباده، أما إذا كان عنده شك وعنده تردد، فله أن يمنع منه حتى يجزم بالشيء وحتى يزول عنه الإشكال وحتى يطمئن إلى أن ما قاله صواب وحق؛ لأن العلم يجب نشره بين الناس ويجب تعميمه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار (1) » . والله يقول سبحانه في كتابه العظيم:
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه كتاب (العلم) برقم (2573) .(24/87)
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (1) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2)
فإذا كان عنده علم وبصيرة واقتنع بأن هذا مما شرعه الله ومما دل عليه الكتاب أو السنة الصحيحة فلا يكتم ولا يحتكر ولا يحتجز شيئا، بل يبثه بين الناس وينشره بين الناس رجاء أن ينفع الله به العباد.
__________
(1) سورة البقرة الآية 159
(2) سورة البقرة الآية 160(24/88)
س: سماحة الشيخ عطل البعض من الناس فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل وجد من يخذل من يقوم بهذا العمل، هل لكم توجيه ونصيحة حول أهمية هذا الغرض؟
ج: نعم، هذه الفريضة من أهم الواجبات، فالله سبحانه أوجب على أهل الإيمان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل ذلك من أسباب صلاح الجميع، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) فجعله من إيمانهم كالصلاة والزكاة، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2)
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة آل عمران الآية 110(24/88)
وتوعد بني إسرائيل ولعنهم على عدم تناهيهم عن المنكر فقال سبحانه وتعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2) وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم (3) » .
وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (4) » .
نسأل الله العافية، ويقول جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (5) يعني فرض كفاية إذا قام به في المحلة المعينة من يكفي سقط عن الباقين، إذا كان في قرية أو قبيلة أو في هجرة أو في أي محل وقام به بهذا الواجب، من يكفي، صار من حق
__________
(1) سورة المائدة الآية 78
(2) سورة المائدة الآية 79
(3) أخرجه أبو داود في سننه كتاب (الملاحم) برقم (3774) .
(4) أخرجه الإمام أحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) برقم (16) .
(5) سورة آل عمران الآية 104(24/89)
الباقين سنة، من باب التعاون على البر والتقوى؛ لأن المقصود حصل، وهو أن هذا قام به نهاهم فانتهوا، إذا نهاهم عن المنكر فانتهوا حصل المطلوب.(24/90)
س: سماحة الشيخ طالب العلم المبتدئ ما هو الأفضل له: أن يلتزم شيخا واحدا أم يأخذ عن أكثر من شيخ؟
ج: لا أعلم في هذا شيئا منصوصا، لكن طالب العلم يتحرى من هو أقرب على أن يفهم كلامه، ومن هو أعرف بالدين وأعلم باجتهاده بين المسلمين بأنه صاحب سنة وصاحب بصيرة وصاحب علم، يتحرى من العلماء من يظهر بين المسلمين ويشتهر بين المسلمين علمه وفضله واتباعه السنة حتى يستفيد من علمه ويستفيد من توجيهاته ولا يقتصر على واحد إذا عرف أن هذا وهذا من أهل السنة وأنهم علماء حق فالحمد لله، إذا أخذ عن هذا وعن هذا، قد يكون أخذه عن زيد أنفع من عمرو، وقد يكون من عمرو أنفع له من زيد، يعني يتحرى ويستفيد من الجميع، من زيد وعمرو، يعني من علماء زمنه ووقته وعلماء بلده فقد يستفيد من هذا أكثر من هذا وقد يكون هذا أحسن بيانا من الآخر، فلا يقتصر على واحد، ما داموا من أهل السنة وأهل الخير وسمعتهم طيبة معروفون بالعقيدة الطيبة والسمعة الحسنة والعلم فيأخذ(24/90)
منهم، لا بأس أن يحضر هذا ويحضر هذا، يستفيد من هذا ويستفيد من هذا كله طيب، وهذا من باب الحيطة في الدين، كونه يسمع من هذا ومن هذا من أهل السنة والجماعة حتى لا يفوته شيء مما يجب عليه، فإن بعض الأساتذة قد يفوت عليه بعض الشيء، قد يشغل عن بعض المسائل فإذا استفاد من هذا وهذا وهم كلهم من أهل السنة فهذا أكمل وأحسن.(24/91)
س: لو وجد موسوعة فقهية شاملة على المذاهب الأربعة، هل تفي بغرض المتعلم يا سماحة الشيخ؟
ج: يوجد موسوعات، لكن ما كل موسوعة تكفي، بل لا بد يحتاج إلى الدليل؛ لأن بعض الموسوعات قد يكون فيها الدليل كافيا وقد لا يكفي، فإذا وجدت موسوعة فيها إقامة الدليل استفيد وذلك خير عظيم، والمقصود أن طالب العلم لا يكتفي بموسوعة كتاب حتى يقتنع بوجود النص الكافي، إذا كان من أهل العلم، أما إذا كان من العامة فيسأل أهل العلم، لكن طالب العلم يعتني بالأدلة ويطالع الكتاب الفلاني والفلاني حتى تتم الفائدة، ولا يكتفي بموسوعة ألفها فلان أو فلان فقد يكون قصر في الأدلة، وقد يكون تساهل في الأدلة فطالب العلم يعتني، يراجع مثل صحيح البخاري، صحيح مسلم، السنن الأربعة، مسند أحمد(24/91)
حتى يقف على السند الصحيح الذي تبرأ به الذمة، وإذا كان صاحب الموسوعة قد بسط الكلام وأوضح الأدلة الشرعية فهذا لا بأس به إذا اقتنع به.(24/92)
س: سماحة الشيخ انتشرت بين الطلبة هذه الورقة، مكتوب عليها علاج ضيق الصدر أيام الامتحانات: نضع اليد على الصدر ونقرأ الفاتحة ثلاث مرات، يقرأ آية الكرسي ثلاث مرات، يقرأ من قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} (1) من سورة البقرة إلى آخر الآيات ثلاث مرات، ويقرأ آخر آيتين من سورة الحشر ثلاث مرات، ويقرأ أول عشر آيات من سورة الصافات، آخر آيتين من سورة القلم، سورة الكافرون والصمد والمعوذتين كل واحدة ثلاث مرات، ويقرأ الدعاء: أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما سبع مرات والدعاء: " أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيني لمدة ثلاثة أيام، هذه الدعوات وهذه الأمور هل هي واردة يا شيخ؟
__________
(1) سورة البقرة الآية 285(24/92)
ج: الترتيب ليس على هذا الترتيب، لكن يسأل ربه الشفاء، والحمد لله، يسأل ربه، الذي ورد: «أذهب الباس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما (1) » . يكرر ثلاث مرات: «بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك (2) » . إذا كررها ثلاث مرات، لا بأس، قل هو الله أحد، والمعوذتين يكررها ثلاث مرات صباحا ومساء وعند النوم، هذا وارد، طيب المقصود أنه يتحرى الوارد فقط، أما من كيسه، يرتب أشياء من كيسه. ما عليها دليل، لكن إذا تحرى الوارد بالأدلة الشرعية في كتب الأذكار وكتب الأدلة، فالحمد لله.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (المرضى) برقم (5243) ومسلم في صحيحه كتاب (السلام) برقم (4061) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب (السلام) برقم (4056) .(24/93)
س: سماحة الشيخ حلق جماعات تحفيظ القرآن الكريم في هذا البلد المبارك نفع الله بها نفعا عظيما. بماذا توجهون معلمي هذه الحلق وطلابها؟
ج: نوجههم ونوصيهم بتقوى الله والاستمرار في هذا الخير والصبر على هذا الخير، والإخلاص لوجه الله جل وعلا في التعلم(24/93)
والتعليم؛ لأن تعلم القرآن وحفظ القرآن من أهم القربات ومن أفضل القربات، فنوصي الجميع المعلم والمتعلم، نوصيهم بتقوى الله والعمل بما علموا، والإخلاص لله في العمل حتى يبارك الله في أعمالهم، وحتى يوفقوا في أعمالهم. ألا وهي أن الطالب يتعلم لكي يستفيد ويعمل، والمعلم يقصد وجه الله في تعليم الطالب وتوجيهه إلى الخير يرجو من عند الله المثوبة، وإن أخذ أجرة، يرجو ما عند الله ويحتسب الأجر وينصح في تعليمه، ويجتهد في الأسباب التي توصل المعلومات إلى الطالب وتستقر في ذهنه، فهذا يتقي الله، وهذا يتقي الله، يكون عند كل واحد إخلاص ورغبة في الخير، وأن يتعلم ما يرضي الله ويقرب لديه، وأن يستعين بما أعطاه الله من علم على طاعة الله.(24/94)
س: وقع كثير من الناس في ديون كثيرة، ما نصيحتكم للتاجر والمدين وغيرهم في هذه الأمور سماحة الشيخ؟
ج: النصيحة أن الإنسان يجتهد في الاقتصاد وعدم الدين، ويفرح بما أغناه الله عن الدين مهما أمكن، وإذا احتاج للدين فيكون عنده نية أن يسدد الدين وأنه يجتهد في سداد الدين إذا اضطر إليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أخذ أموال(24/94)
الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله (1) » . فليجتهد في النية الصالحة ولا يستدين إلا إذا دعت إليه الضرورة، ولا يستكثر من الدين فإنه قد يعجز عن الأداء، فينبغي له الاقتصاد في أموره، وتحري الاقتصاد في ملبسه ومأكله ومشربه وغير ذلك، حتى لا يحتاج للدين الكثير، وإذا احتاج للدين فليجتهد في أسباب قضاء الدين بالطرق التي يستطيعها مع النية الصالحة، نيته أنه يبادر بالدين من حين يتيسر له ذلك، لا يتساهل، يعني يكون عنده نية صالحة أنه يعمل ويجتهد لقضاء الدين.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس) برقم (2212) .(24/95)
س: سماحة الشيخ كثير من الناس يكتب في وصيته (وقفا) ثم تتعطل منافع هذا الوقف، ويحصل النزاع بين الورثة حول هذا الوقف، بماذا تنصحون المسلم إذا أراد أن يكتب وصيته، لا سيما إن كان من أهل الأموال؟
ج: يوصي بالشيء الذي يناسب. . يوصي بالثلث، بالربع، بالخمس في وجوه البر وأعمال الخير، وإذا كان من ذريته محتاج يعطى من الغلة حتى لا يقع النزاع، يوصي بالثلث بالربع بالخمس في وجه البر وأعمال الخير، وإذا جعل في أضحية فلا بأس، وإذا(24/95)
قال: من احتاج من ذريتي يعطى قدر حاجته فلا بأس، أو من أقاربي حتى لا يقع النزاع، يكون الشيء واضحا على بصيرة للناظر الذي يتولى الوقف حتى يفرق غلته على الوجه الذي بينه في الوصية، على وجه واضح ليس فيه شبهة؛ لأن بعض الناس قد يتشدد في وصيته، وقد يقول: للورثة الباقي، ثم يحصل مشقة بينهم، قد لا يبقى إلا القليل ثم يبطن ويروح بطن ويتوالى الناس ويكثرون، فيحصل مشقة كبيرة. لكن إذا قال في غلة مثل ما قال الزبير بن العوام رضي الله عنه وجماعة في وصيتهم وابن عمر: للمحتاج من الذرية، إذا قال المحتاج من الذرية يعطى من غلة الوقف كذا وكذا، هذا لا بأس.(24/96)
س: فيما يتعلق في تخريج الأحاديث يا سماحة الشيخ وتعديل الرواة وتجريحهم، هناك من يرى أن باب علم الرجال مغلق أو انتهى من قديم، كيف ترون ذلك يا سماحة الشيخ؟
ج: لا. هذا ليس بصحيح، بل علم الرجال والنظر في الأحاديث باق (1) ، ولم يمض بل لا يزال، فأهل العلم عليهم أن يعتنوا بهذا ويراجعوا الأحاديث ويميزوا بين صحيحها وسقيمها
__________
(1) لكن لا يدخل فيه إلا المختصون بهذا الفن ممن درسوا مصطلح الحديث على أهل السنن وأهل المعرفة.(24/96)
ويرشدوا الناس إلى ذلك، ولا يقفوا عند ذكر فلان أو فلان، بل يتابع مثل المنتقى مثل بلوغ المرام، مثل السنن الأربعة، مثل مسند أحمد، يراجع الأسانيد ويعتني بها، ويعرف صحيحها من سقيمها حتى يستفيد من ذلك ويفيد غيره، هكذا شأن طالب العالم الذي قد وفقه الله لمعرفة الأحاديث ومعرفة أسانيدها ومعرفة أحوال الرجال واشتغل بهذا الشيء يكون فيه فائدة عظيمة له ولغيره.(24/97)
س: الفتوى بغير علم سماحة الشيخ هل من كلمة لأولئك الذين يفتون الناس بغير علم؟
ج: نعم، الواجب على طالب العلم أن يحذر من الفتوى بغير علم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار (1) » . الواجب على الإنسان أن يتحرى العلم ويتحرى الدليل حتى يفتي على بصيرة، ولا يفتي على الله بغير علم، المقصود أن العلم دين، والفتوى دين، فلا بد أن الإنسان يتقيد بما أوجب الله عليه، فلا يفتي بغير علم، بل يتحرى وينظر إلى الأدلة من الكتاب والسنة، ويفتي على ضوء الأدلة، وإلا
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (العلم) برقم (106)(24/97)
فليرشدهم إلى غيره، ولا يجوز له أن يقول على الله بغير علم، الله يقول جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) فجعل القول عليه بغير علم فوق مرتبة الشرك؛ لما يترتب على القول على الله بغير علم من الفساد الكبير والشر العظيم، قد يبيح ما حرم الله، وقد يوجب ما لا يوجبه الله، فقد يقع في شرور كثيرة، وأخبر جل وعلا في آية أخرى أن هذا من أمر الشيطان: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} (2) - يعني الشيطان- {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (3) فالواجب على طالب العلم أن يتحرى الحق وأن يحذر من القول على الله بغير علم، وإذا كان لا يستطيع ذلك فليرشدهم إلى غيره، ولا يتكلم ولا يقول على الله بغير علم نسأل الله السلامة.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2) سورة البقرة الآية 169
(3) سورة البقرة الآية 169(24/98)
س: الدعوة إلى الله من أجل الأعمال ومن أفضلها، بماذا تنصحون الدعاة إلى الله عز وجل؟ وهل الدعوة واجبة على كل مسلم؟
ج: نعم، الدعوة واجبة على كل مسلم حسب طاقته، على أهل العلم طاقتهم، وعلى الآخرين طاقتهم، الواجب على أهل العلم أن يبلغوا دعوة الله ويرشدوا، كل مسلم عليه نصيبه حسب علمه، المسلم الذي يرى أن جاره أو قريبه مقصر في الصلاة أو لا يصلي في المسجد ينصحه؛ لأن هذا أمر عام يعلمه العامي وطالب العلم، يقول: يا أخي اتق الله، أنا ما أشوفك تصلي في الجماعة اتق الله، بادر إلى الصلاة في الجماعة، أو يراه عاقا لوالده أو لأحدهما، ينصحه هذا شيء يعلمه الخاص والعام، ما يختص بأهل العلم، أو يعرف أنه يشرب الخمر، ينصحه، أو يتعاطى التدخين ينصحه، وهكذا، أو يعرف منه الغيبة والنميمة ينصحه ويقول له اتق الله، دع هذه المعاصي وراقب الله جل وعلا، وأحذر غضبه عليك، المقصود أن كل إنسان حسب طاقته ينصح ويوجه إلى الخير.(24/99)
س: الدعاء جماعة بعد الصلاة في الأيام العادية، ما حكمه إذا استمر عليه البعض من الناس؟
ج: هذا من البدع، الإنسان يدعو ربه وحده، ما يحتاج يجتمع مع مجموعة ويدعو بينه وبين ربه، أما يكون لهم إماما يدعو بهم، يرفع يديه ويدعون، ليس له أصل، هذا من المحدثات، والله يهدينا وإخواننا المسلمين.(24/100)
س: نختم هذا اللقاء سماحة الشيخ بسؤال وهو: أفضل الأدعية التي يجب على المسلم أن يرددها، سواء في الصلاة أو في غيرها؟
ج: أفضلها الذكر، لا إله إلا الله، أفضل الدعاء لا إله إلا الله، لكن هناك دعوات مخصوصة. وأحسن الدعاء: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (1) يردد هذا في أخر الصلاة، في سجوده، في أوقاته الأخرى لأنه دعاء جامع، وكذلك: «اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله وأوله وآخره، وعلانيته وسره، اللهم إني أسألك رضاك والجنة وأعوذ بك من سخطك والنار (2) » دعوات جامعة «اللهم أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول
__________
(1) سورة البقرة الآية 201
(2) صحيح مسلم الصلاة (483) ، سنن أبو داود الصلاة (878) .(24/100)
وعمل (1) » في سجوده يقول: «اللهم اغفر لي ذنبي واغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره. اللهم اغفر لي ولوالدي ولجميع المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (2) » ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء (3) » . والحديث الآخر: «وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم (4) » . فينبغي أن يكثر من الدعوات الطيبة، سؤال الجنة، التعوذ بالله من النار، سؤال العفو: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني، اللهم أصلح قلبي وعملي، اللهم اغفر لي ولوالدي» يتحرى الدعوات المناسبة.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/183) .
(2) صحيح مسلم الصلاة (483) ، سنن أبو داود الصلاة (878) .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب (الصلاة) برقم (744)
(4) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب (الصلاة) برقم (738)(24/101)
صفحة فارغة(24/102)
تنويه
نظرا لرغبة وطلب كثير من أصحاب الفضيلة المشايخ من القضاة وطلاب العلم من سماحة شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله، استكمال كتاب سماحته مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، بأحكام العبادات والمعاملات، حسب أبواب الفقه بعد صدور الجزء " 9 " من كتاب سماحته، وذلك للحاجة الماسة إليها، والاستفادة من فتاوى سماحته رحمه الله.
وقد استجاب رحمه الله لرغبة أصحاب الفضيلة المشايخ، ورأى رحمه الله تأجيل بقية العقيدة وما يليها بعد الانتهاء من أحكام العبادات والمعاملات.
وبصدور الجزء " 23 " فقد تم استكمال بقية أحكام العبادات والمعاملات، ويليها كتاب العلم والتفسير والحديث وغيرها التي ستنشر تباعا إن شاء الله.(24/103)
صفحة فارغة(24/104)
كتاب التفسير(24/105)
صفحة فارغة(24/106)
48 - الوصية بكتاب الله (القرآن الكريم) (1) .
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه وصفوته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن كتاب الله فيه الهدى والنور، وهو حبله المتين وصراطه المستقيم وهو ذكره الحكيم، من تمسك به نجا ومن حاد عنه هلك. يقول الله عز وجل في هذا الكتاب العظيم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (2) {وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (3)
هذا كتاب الله يهدي للتي هي أقوم، يعني: للطريقة التي هي أقوم، والمسلك الذي هو أقوم، الذي هو خير الطرق وأقومها
__________
(1) محاضرة لسماحته ألقاها في أحد مساجد جدة مساء الخميس 13 \ 8 \ 1416هـ ونشر في هذا المجموع ج 9 ص 14.
(2) سورة الإسراء الآية 9
(3) سورة الإسراء الآية 10(24/107)
وأهداها فهو يهدي إليه، يعني: يرشد إليه ويدل عليه، ويدعو إليه، وهو توحيد الله وطاعته، وترك معصيته والوقوف عند حدوده، هذا هو الطريق الأقوم، وهو المسلك الذي به النجاة أنزله الله جل وعلا تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، كما قال سبحانه في سورة النحل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (1) فهو تبيان لكل شيء، وهدى إلى طريق السعادة ورحمة وبشرى، ويقول جل وعلا: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (2) هدى لقلوبهم للحق وشفاء لقلوبهم من أمراض الشرك والمعاصي والبدع والانحرافات عن الحق، وشفاء للأبدان من كثير من الأمراض.
وهو بشرى للإنس والجن لكنه سبحانه ذكر المؤمنين؛ لأنهم هم الذين اهتدوا به وانتفعوا به، وإلا فهو شفاء للجميع كما قال جل وعلا: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (3) فالقرآن شفاء ودواء للقلوب من جميع الأدواء المتنوعة؛ أدواء الشرك، والمعاصي، والبدع، والمخالفات، وهو شفاء لأمراض
__________
(1) سورة النحل الآية 89
(2) سورة فصلت الآية 44
(3) سورة الإسراء الآية 9(24/108)
الأبدان أيضا وأمراض المجتمعات، شفاء لأمراض المجتمع، وأمراض البدن لمن صلحت نيته وأراد الله شفاءه، يقول جل وعلا: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (1) فهو كتاب يخرج الله به الناس من الظلمات؛ من ظلمات الشرك والمعاصي والبدع والفرقة والاختلاف إلى نور الحق والهدى والاجتماع على الخير، والتعاون على البر والتقوى، وهذا هو صراط الله المستقيم وهو توحيد الله، وأداء فرائضه، وترك محارمه، والتواصي بحقه والحذر من معاصيه، ومن مخالفة أمره. هذا هو صراط الله المستقيم، وهذا هو النور والهدى، وهذا هو الطريق الأقوم، وقال سبحانه في سورة الأنبياء: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (2) وقال سبحانه في سورة يس: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (3) {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} (4)
والمقصود أن الله جل وعلا جعل كتابه ذكرا، وجعله نذارة، وجعله شفاء، وجعله هدى، فالواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس أن يهتدوا به، وأن
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 1
(2) سورة الأنبياء الآية 50
(3) سورة يس الآية 69
(4) سورة يس الآية 70(24/109)
يستقيموا عليه، وأن يحذروا مخالفته، قال جل وعلا: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) وقال سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) وقال جل وعلا: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (3) وسئلت عائشة رضي الله عنها فقيل لها: يا أم المؤمنين ماذا كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: «كان خلقه القرآن (4) » قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (5) والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان يتدبر القرآن، ويكثر من تلاوته، ويعمل بما فيه، فكان خلقه القرآن تلاوة وتدبرا، وعملا بأوامره، وتركا لنواهيه، وترغيبا في طاعة الله ورسوله، ودعوة إلى الخير، ونصيحة لله ولعباده. إلى غير ذلك من وجوه الخير.
وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (6) فالقرآن هو أحسن القصص، وهو خلق النبي صلى الله عليه وسلم. ونصيحتي لجميع المسلمين رجالا ونساء، جنا وإنسا، عربا وعجما
__________
(1) سورة ص الآية 29
(2) سورة الأنعام الآية 155
(3) سورة محمد الآية 24
(4) سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1601) ، سنن أبو داود الصلاة (1342) ، مسند أحمد بن حنبل (6/91) .
(5) سورة القلم الآية 4
(6) سورة يوسف الآية 3(24/110)
علماء ومتعلمين، نصيحتي للجميع أن يعتنوا بالقرآن الكريم وأن يكثروا من تلاوته بالتدبر والتعقل بالليل والنهار، ولا سيما في الأوقات المناسبة التي فيها القلوب حاضرة للتدبر والتعقل، والذي لا يحفظه يقرؤه من المصحف، والذي لا يحفظ إلا البعض يقرأ ما تيسر منه. قال تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (1) وإذا كان يعرف الحروف يتهجى ويقرأ من المصحف حتى يتعلم زيادة، والذي لا يعلم يتعلم من أمه، أو أبيه، أو ولده، أو زوجته إن كانت أعلم منه، والتي لا تعرف يعلمها أبوها، أو أخوها، أو زوجها، أو أختها، أو غيرهم.
وهكذا يتواصى الناس، ويتعاونون؛ الزوج يعين زوجته، والزوجة تعين زوجها، والأب يعين ولده، والولد يعين أباه، والأخ يعين أخاه، والخال والخالة، وهكذا الكل يتعاونون، ويتواصون بهذا الكتاب العظيم تدبرا، وتعقلا، وعملا؛ لقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (2) وقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5) ولما رواه مسلم في صحيحه
__________
(1) سورة المزمل الآية 20
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3(24/111)
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع: «إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به؛ كتاب الله (1) » . هكذا يوصيهم عليه الصلاة والسلام بكتاب الله ويخبرهم أنهم لن يضلوا إذا اعتصموا به. وفي اللفظ الآخر: «كتاب الله وسنتي (2) » . وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم من كتاب الله؛ لأن الله سبحانه يقول: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (3) فكتاب الله يأمر بطاعة الله وطاعة رسوله، قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (4) ويقول جل وعلا: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} (5) ويقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (6)
__________
(1) رواه مسلم في الحج برقم 2137، ورواه الترمذي في المناقب برقم 3718
(2) رواه الحاكم في المستدرك 1 \ 93 عن أبي هريرة، وفي فيض القدير للمناوي 3 \ 3282، وفي كنز العمال برقم 876.
(3) سورة المائدة الآية 92
(4) سورة النور الآية 54
(5) سورة المائدة الآية 92
(6) سورة النساء الآية 80(24/112)
فالرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بالقرآن، فوصيته بالقرآن وصية بالسنة وهي أقواله وأفعاله وتقريراته كما تقدم.
ويروى عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تكون فتن. فقيل له: يا رسول الله: فما المخرج منها؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم (1) » . . . . الحديث.
فهو المخرج من جميع الفتن، وهو الدال على سبيل النجاة، وهو المرشد إلى أسباب السعادة والمحذر من أسباب الهلاك، وهو الداعي إلى جمع الكلمة وهو المحذر من الفرقة والاختلاف، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (2) ويقول جل وعلا في هذا الكتاب العظيم: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (3) ويقول سبحانه
__________
(1) رواه الترمذي في فضائل القرآن برقم (2831) والدارمي في فضائل - القرآن برقم (3197)
(2) سورة الأنعام الآية 159
(3) سورة آل عمران الآية 105(24/113)
وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) فهو يدعو إلى الاجتماع على الحق، والتواصي بالحق، كما قال سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) وهذه السورة العظيمة القصيرة قد جمعت الخير كله ما أبقت شيئا من الخير إلا ذكرته ولا شيئا من الشر إلا وحذرت منه.
وهؤلاء المستثنون فيها هم الرابحون؛ من الجن والإنس من الذكور والإناث، من العرب والعجم، من التجار والفقراء، من الأمراء وغيرهم، هم الرابحون وهم الناجون من الخسران، وهم الذين اتصفوا بأربع صفات: وهي الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
وهؤلاء هم السالمون من الخسران ومن عداهم خاسر على حسب ما فاته من هذه الصفات الأربع فمن آمن بالله ورسوله وصدق الله في أخباره وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه وآمن بكل ما أخبر الله به ورسوله من أمر الآخرة والجنة والنار والحساب والجزاء وغير ذلك وآمن بأن الله سبحانه هو
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(24/114)
المستحق للعبادة وأنه واحد لا شريك له وأن العبادة حقه، وأنه لا تجوز العبادة لغيره وصدق بهذا، كما أخبر الله في كتابه العظيم حيث قال سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (1) وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (4) وقال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (5) وقال سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (6) وقال سبحانه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (7) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (8)
فهذا هو أصل الدين وأساس الملة أن تؤمن بأن الله هو الخالق والرازق وأنه هو المعبود بالحق، وأنه سبحانه له الأسماء
__________
(1) سورة الزمر الآية 2
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة الفاتحة الآية 5
(4) سورة البينة الآية 5
(5) سورة البقرة الآية 163
(6) سورة الزمر الآية 62
(7) سورة الذاريات الآية 56
(8) سورة البقرة الآية 21(24/115)
الحسنى والصفات العلا لا شبيه له، ولا كفو له، ولا شريك له في العبادة، ولا في الملك والتدبير، كما قال سبحانه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (1) وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (3) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (4) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (5) وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (6) وقال سبحانه في سورة الحج {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (7) وقال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (8) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
والخلاصة أن الواجب على كل مكلف من الجن والإنس أن يخص الله بالعبادة، وأن يؤمن إيمانا قاطعا بأنه الخالق الرزاق، لا خالق إلا الله، ولا رب سواه، وأنه سبحانه المستحق للعبادة لا يستحقها أحد سواه، وهو المستحق لأن يعبد بالدعاء، والخوف
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة الإخلاص الآية 1
(3) سورة الإخلاص الآية 2
(4) سورة الإخلاص الآية 3
(5) سورة الإخلاص الآية 4
(6) سورة الشورى الآية 11
(7) سورة الحج الآية 62
(8) سورة الجن الآية 18(24/116)
والرجاء، والصلاة والصوم، والذبح والنذر وغيرها، كل لله وحده لا شريك له، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (1) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2) وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود بحق إلا الله كما قال تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (3) يعني: فاعلم أنه لا معبود بحق إلا الله، فهو المستحق أن يعبد، ومن عبد الأصنام، أو أصحاب القبور، أو الأشجار، أو الأحجار، أو الملائكة، أو الأنبياء، فقد أشرك بالله وقد نقض قول لا إله إلا الله وخالفها، وقد خالف قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (4) وخالف قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (5) فصار من جملة المشركين عباد القبور، والأصنام، والأشجار، والأحجار، الذين يستغيثون بأصحاب القبور، ويتبركون بقبورهم، ويدعونهم، أو يطوفون بقبورهم
__________
(1) سورة الروم الآية 30
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة محمد الآية 19
(4) سورة البينة الآية 5
(5) سورة الذاريات الآية 56(24/117)
يرجون نفعهم وثوابهم، أو يستغيثون بهم، أو يطلبون منهم الولد أو المدد أو ما أشبه ذلك مما يفعله عباد القبور، وعباد الأصنام، أو يستغيثون بالنجوم، أو بالجن، أو بالملائكة، أو بالأنبياء، أو بغيرهم من المخلوقات، كل هذا نقض لقول لا إله إلا الله، وشرك بالله ينافي التوحيد ويضاده، ومخالف لقول الله جل وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (1) وقوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) ولقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (4) وقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (5) وقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (6) فلا بد من توحيد الله والإخلاص له في صلاتك، وصومك، وسائر عباداتك، وفي ذبحك، ونذرك، وخوفك، ورجائك، لا بد في كل
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سورة الأنعام الآية 88
(3) سورة الزمر الآية 65
(4) سورة الزمر الآية 66
(5) سورة النساء الآية 48
(6) سورة لقمان الآية 13(24/118)
ذلك من ترك الإشراك بالله والحذر منه مع الإيمان بالله ربك وأنه خالقك لا خالق غيره ولا رب سواه مع الإيمان بأسمائه وصفاته، وأنه سبحانه ذو الصفات العلا والأسماء الحسنى لا شبيه له ولا كفو له ولا ند له، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) وقال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} (2) والمراد أشباه ونظراء، وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3) وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (4) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (5) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (6) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (7) وعليه أيضا أن يؤمن بأن كل إنسان مكلف يجب أن يؤمن بأن الله سبحانه هو خالقه، وموجده، وأنه خالق كل شيء ومالكه وأنه هو المستحق أن يعبده، وأنه هو الإله الحق، وهو المعبود بالحق، ولا يكون المرء مؤمنا إيمانا كاملا إلا إذا اعتقد أنه سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وأن أسماءه كلها حسنى وصفاته كلها على، وأنه لا شبيه له، ولا مثل له، ولا كفو له كما قال سبحانه:
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) سورة البقرة الآية 22
(3) سورة الشورى الآية 11
(4) سورة الإخلاص الآية 1
(5) سورة الإخلاص الآية 2
(6) سورة الإخلاص الآية 3
(7) سورة الإخلاص الآية 4(24/119)
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (5) يعني لا بهي له، ولا كفؤ له، ولا شريك له، وقال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6) والمعنى لا تجعلوا له أشباها ونظراء تدعونهم معه، وقال سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (7) فهو يسمع أقوال عباده ويسمع دعاءهم ويراهم ومع ذلك لا شبيه له في ذاته، ولا في أسمائه ولا في سمعه وبصره، ولا في جميع صفاته فهو الكامل في كل شيء وخلقه لهم النقص، أما الكمال فهو له سبحانه وتعالى في كل الأمور.
فعليك بتدبر القرآن حتى تعرف هذا المعنى، تدبر القرآن من أوله إلى آخره من الفاتحة وهي أعظم سورة في القرآن وأفضل سورة فيه إلى آخر ما في المصحف قل هو الله أحد والمعوذتين تدبر القرآن واقرأه بتدبر وتعقل، ورغبة في العمل والفائدة، لا تقرؤه بقلب غافل، اقرأه بقلب حاضر بتفهم وبتعقل، واسأل عما أشكل عليك، اسأل أهل العلم عما أشكل عليك مع أن
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2
(3) سورة الإخلاص الآية 3
(4) سورة الإخلاص الآية 4
(5) سورة مريم الآية 65
(6) سورة البقرة الآية 22
(7) سورة الشورى الآية 11(24/120)
أكثره بحمد الله واضح للعامة والخاصة ممن يعرف اللغة العربية، مثل قوله جل وعلا: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (1) وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) وقوله سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (3) وقوله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (4) وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (5) وقوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (6) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (7) وقوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (8) فكله آيات واضحات بين الله سبحانه
__________
(1) سورة البقرة الآية 238
(2) سورة النور الآية 56
(3) سورة النساء الآية 80
(4) سورة البقرة الآية 43
(5) سورة البقرة الآية 183
(6) سورة آل عمران الآية 97
(7) سورة المائدة الآية 90
(8) سورة البقرة الآية 275(24/121)
وتعالى فيها ما حرم على عباده وما أحل لهم وما أمرهم به، وما نهاهم عنه. وهكذا حرم الله الظلم فقال تعالى: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (1) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} (2) فعليك يا عبد الله أن لا تظلم الناس، لا في أنفسهم ولا في أعراضهم ولا في أموالهم.
احذر الظلم فعاقبته وخيمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله (3) » . فاحذر لا تعتد على الفقير أو تخونه أو تخون غير الفقير، اتق الظلم في المعاملات وفي كل شيء، لا تظلم عمالا إذا كنت صاحب شركة، أو عندك عمال في بيتك أعطهم حقوقهم، وأوف لهم بالشروط؛ فشروطهم أعطهم إياها سواء كنت مدير شركة، أو صاحب عمال في بيتك، أو في مزرعتك فاتق الله فيهم لا تستضعفهم فتخونهم، وهكذا في جميع شئونك لا تكن خائنا ولا غشاشا في بيعك وشرائك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من
__________
(1) سورة الشورى الآية 8
(2) سورة الفرقان الآية 19
(3) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) برقم (4650) واللفظ له، ورواه الترمذي في (البر والصلة) برقم (1850)(24/122)
غشنا فليس منا (1) » ، ويقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (2) ويقول سبحانه في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (3) ويقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) فإذا كنت وكيلا لإنسان في مزرعته أو شركة أو غير ذلك فلا تخنه، انصح وأد الواجب ولا تأخذ من حقه شيئا إلا بإذنه، وهكذا في جميع الأشياء؛ كالوكيل في البيع أو الشراء يجب عليه أن ينصح في ذلك، في الإجارة انصح ولا تخن في أي شيء، في بيع ثمار النخل، في أي شيء انصح، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (5)
وإذا كان عليك دين فاتق الله في أداء الدين لا تقل: إنني لا أستطيع وأنت تكذب، اتق الله وأد الدين لمستحقه فأنت مأمور
__________
(1) رواه مسلم في (الإيمان) برقم (146) ورواه ابن ماجه في (التجارات) برقم (2216) وأحمد في (مسند المكثرين) برقم (4867) و (9027) .
(2) سورة النساء الآية 58
(3) سورة المؤمنون الآية 8
(4) سورة الأنفال الآية 27
(5) سورة المؤمنون الآية 8(24/123)
بذلك، مأمور أن تؤدي الحقوق وأن توفي بالعقود يقول الله جل وعلا: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (1) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2) {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (3) {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (4) زكاة نفوسهم وزكاة أموالهم: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (5) {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (6) أي: يحفظون الفروج من الزنا، واللواط وسائر المعاصي إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (7) {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (8) يرعون الأمانات والعهود حتى يؤدوها كما شرع الله. وهكذا الكلام السري هو من الأمانات، فلا تتكلم به ولا تفش السر، ومن قال افعل كذا وكذا ولا تخبر به أحدا، فإن ذلك يكون سرا بينك وبينه فلا تخنه ولا تخن أمانة السر التي ليس فيها ضرر على أحد، ومن أوصاك على عياله، أو أوصاك على مزرعته، فأد الحق، وراقب الله في ذلك فإن الله سبحانه رقيب عليك، وإذا
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 1
(2) سورة المؤمنون الآية 2
(3) سورة المؤمنون الآية 3
(4) سورة المؤمنون الآية 4
(5) سورة المؤمنون الآية 5
(6) سورة المؤمنون الآية 6
(7) سورة المؤمنون الآية 7
(8) سورة المؤمنون الآية 8(24/124)
اقترضت من إنسان حاجات فأد حقه إليه ولا تخنه في ذلك، واتق الله وأعطه جميع الحاجات التي أخذتها منه، أو ثمنها إن كنت أخذتها بالشراء، ولا تجحد ما عندك له إذا كان قد نسيه، بل أعطه إياه وقل: إن هذا كان عندي ثمن كذا وثمن كذا. قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (1) {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (2)
فالصلاة أعظم الواجبات وأهم الفرائض بعد التوحيد، وهي عمود الإسلام وهي أعظم ركن وأعظم فريضة بعد الشهادتين، فاتق الله فيها وحافظ عليها في الجماعة؛ لقول الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} (3) ولقوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (4) ولقوله سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (5) ولقوله {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (6) {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} (7) ولقوله سبحانه عن المنافقين:
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 8
(2) سورة المؤمنون الآية 9
(3) سورة البقرة الآية 238
(4) سورة البقرة الآية 43
(5) سورة العنكبوت الآية 45
(6) سورة المعارج الآية 34
(7) سورة المعارج الآية 35(24/125)
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} (1) فلا ترض لنفسك بمشابهتهم ولا تكن مثلهم متثاقلا عن الصلوات كأنك تجر إليها جرا، لكن كن نشيطا قويا مسارعا إليها في صلاة الفجر وغيرها، فلا تقدم النوم على صلاة الفجر ولا على غيرها بل كن صابرا مسارعا ومراقبا الله في جميع الأوقات، وهكذا زوجتك، وهكذا أولادك كن قويا في هذا الأمر مع الزوجة، ومع الأولاد ومع الخدم، وأنت أولهم، كن مسارعا وكن قدوة في الخير إذا سمعت النداء فبادر إلى الصلاة في الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، كما أمرك الله سبحانه بذلك ورسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الله سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (2) والصلاة الوسطى هي صلاة العصر خصها الله بالذكر لعظم شأنها، ويقول سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (3) وإقامتها: هي أداؤها كما أمر الله، وإيتاء الزكاة: هو أداؤها لمستحقيها كما أمر
__________
(1) سورة النساء الآية 142
(2) سورة البقرة الآية 238
(3) سورة البقرة الآية 43(24/126)
الله، فالأموال التي عندك أد زكاتها كما أوجب الله، لا تبخل، وجاهد نفسك في إخراج الزكاة حتى تؤديها إلى أهلها، من هذا المال الذي عندك من نقود أو غنم، أو إبل، أو بقر، أو غير ذلك من أموال الزكاة، وعروض التجارة كالملابس، والأواني، والسيارات إلى غير ذلك مما يعد للبيع، فعليك أن تؤدي عن كل مال زكوي كلما حال عليه الحول في المائة من الدراهم والدنانير وغيرها من العمل اثنان ونصف في المائة وهما ربع العشر، وفي الألف خمسة وعشرون، وفي مائة ألف ألفان وخمسمائة، وهكذا في غنمك إذا كانت سائمة ترعى جميع الحول أو أكثره في الأربعين إلى مائة وعشرين واحدة وهي جذع من الضأن أو ثني من المعز، وفي المائة وإحدى وعشرين إلى مائتين اثنتان، وفي المائتين وواحدة ثلاث شياه ثم تستقر الفريضة في كل مائة شاة، وفي أربعمائة من الغنم أربع شياه، وفي الخمسمائة خمس شياه وهكذا.
وأما زكاة الإبل فقد فصلها النبي صلى الله عليه وسلم فجعل في الخمس من الإبل التي ترعى جميع الحول أو غالبه شاة واحدة، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة من الإبل ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه إلى خمس وعشرين، فإذا بلغت خمسا(24/127)
وعشرين ففيها بنت مخاض- أنثى قد تم لها سنة- فإن لم توجد لدى صاحب المال أجزأ عنها ابن لبون- ذكر قد تم له سنتان- إلى خمس وثلاثين، فإذا بلغت ستا وثلاثين ففيها بنت لبون- أنثى قد تم لها سنتان- إلى خمس وأربعين، فإذا بلغت ستا وأربعين ففيها حقة - قد تم لها ثلاث سنين- إلى ستين- فإذا بلغت إحدى وستين ففيها جذعة - قد تم لها أربع سنين- إلى خمس وسبعين، فإذا بلغت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون إلى إحدى وتسعين، فإذا بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان طروقتا الجمل إلى مائة وعشرين، فإذا زادت على مائة وعشرين ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة.
وهكذا في البقر إذا كانت سائمة ترعى جميع الحول أو أغلبه ففي كل ثلاثين تبيع أو تبيعة قد تم لكل منهما سنة، وفي الأربعين مسنة قد تم لها سنتان، وفي الستين تبيعان أو تبيعتان، وفي السبعين تبيع ومسنة، وفي الثمانين مسنتان، وفي التسعين ثلاثة أتباع أو ثلاث تبيعات، وفي المائة تبيعان أو تبيعتان ومسنة، وفي المائة والعشرين ثلاث مسنات أو أربعة أتباع، ثم تستقر الفريضة. ففي كل ثلاثين تبيع أو تبيعة وفي كل أربعين مسنة.
أما الحبوب والثمار التي تكال وتدخر ففيها نصف العشر إذا كانت تسقى بمئونة كالسواني والمكائن، أما إذا كانت تسقى(24/128)
بالمطر أو الأنهار ونحو ذلك ففيها العشر إذا بلغت خمسة أوسق، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء والعيون العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر (1) » . أخرجه البخاري في الصحيح. وقوله صلى الله عليه. وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة (2) » . متفق على صحته.
أما صيام رمضان فهو الركن الرابع من أركان الإسلام يجب أن تتقي الله فيه، فإذا جاء رمضان عليك أن تصوم مع الناس كما أمر الله، وتحفظ صومك عن اللغو وعن الغيبة والنميمة وسائر المعاصي ولا تجرح صومك بشيء منها، بل الواجب أن تصون صيامك عن كل المعاصي، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه (3) » . أخرجه البخاري في صحيحه.
__________
(1) رواه البخاري في (الزكاة) برقم (1388) ومسلم في (الزكاة) برقم (1630) والترمذي في (الزكاة) برقم (578) واللفظ له.
(2) رواه البخاري في (الزكاة) برقم (1366) ومسلم في (الزكاة) برقم (1627) واللفظ له
(3) رواه البخاري في (الصوم) برقم (5597) واللفظ له، والترمذي في (الصوم) برقم (641) وأحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (9463) .(24/129)
وعليك بالكسب الحلال، تحر الحلال من مكسب طيب وأحذر الحرام، وصم صوما صحيحا، فإذا صمت فلتصم جوارحك عن كل ما حرم الله، هكذا الصوم الكامل أن يصوم المرء- عن الطعام والشراب وأن يصوم عن كل ما حرم الله، وهكذا في حجك، لا ترفث ولا تفسق، فإذا حججت فصن حجك عن جميع المعاصي، احذر ذلك في جميع الأحوال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (1) » . متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (2) » . متفق على صحته.
والحج المبرور هو الذي ليس فيه رفث ولا فسوق. وهكذا يجب عليك في جميع المعاملات الحذر من الغش والخيانة والكذب فقد «مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل عنده صبرة من طعام
__________
(1) رواه البخاري في (الحج) برقم (1424) واللفظ له، ورواه مسلم في (الحج) برقم (2404) وأحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (7077) .
(2) رواه البخاري في (الحج) برقم (1650) ومسلم في (الحج) برقم (2403) .(24/130)
في السوق فكأنه أحس بشيء فيها فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، فقال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني (1) » . أخرجه مسلم في صحيحه.
والمقصود أن كتاب الله فيه الهدى والنور، وفيه الدعوة إلى كل خير، وفيه التحذير من كل شر، وهكذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الدعوة إلى كل خير والتحذير من كل شر.
فوصيتي لنفسي ولجميع إخواني المسلمين هي تقوى الله سبحانه في جميع الأحوال، وتقوى الله: هي طاعته سبحانه بفعل الأوامر وترك النواهي مع الإخلاص له جل وعلا في ذلك والوقوف عند حدوده، ومن تقوى الله سبحانه العناية بالقرآن وتدير معانيه والإكثار من تلاوته حفظا أو نظرا مع التدبر والتعقل والعمل، قال الله سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) فهو لم ينزل لجعله في الدواليب ولا لمجرد القراءة، أو الحفظ وإنما نزل ليقرأ، ويتدبر
__________
(1) رواه مسلم في (الإيمان) برقم (147) .
(2) سورة ص الآية 29(24/131)
ويعمل به قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (1) وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم للناس يوم عرفة في حجة الوداع: «إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به: كتاب الله (3) » . ويقول صلى الله عليه وسلم أيضا: «إني تارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي (4) » . يعني بهم زوجاته وقراباته من بني هاشم، يذكر الناس بالله في أهل بيته بأن يرفقوا بهم، وأن يحسنوا إليهم، ويكفوا الأذى عنهم، ويوصيهم بالحق، ويعطوهم حقوقهم ما داموا مستقيمين على دينه متبعين لشريعته عليه الصلاة والسلام، وصح «عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 1
(2) سورة الأنعام الآية 155
(3) رواه مسلم في (الحج) برقم (2137) ، ورواه الترمذي في (المناقب) برقم (3718)
(4) رواه مسلم في (فضائل الصحابة) برقم (4425) ، ورواه أحمد في (مسند الكوفيين) برقم (18464)(24/132)
عنه أنه سئل عما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوصى بكتاب الله (1) » ، يعني أوصى بالقرآن، فالقرآن وصية الله ووصية رسوله عليه الصلاة والسلام فالله جل وعلا أوصانا بهذا الكتاب فقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} (2) فهذه وصيته وأمره سبحانه باتباع كتابه والتمسك به، وقال عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (3) الآية. فهذا كتاب الله هو أحسن الحديث، وهو أحسن القصص، كما قال سبحانه في سورة يوسف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (4)
فهو أحسن القصص، قص الله علينا فيه أخبار الماضين من أخبار آدم، وأخبار نوح، وهود، وصالح، وغيرهم من الرسل المذكورين في القرآن، وقص علينا أخبار أممهم وما جرى لهم من العقوبات، وما جرى للمتقين من النصر والتأييد والعاقبة الحميدة وليس هناك قصص أحسن منه، كما قص علينا صفات أهل الجنة
__________
(1) صحيح البخاري الوصايا (2740) ، صحيح مسلم الوصية (1634) ، سنن الترمذي الوصايا (2119) ، سنن النسائي الوصايا (3620) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2696) ، مسند أحمد بن حنبل (4/355) ، سنن الدارمي الوصايا (3180) .
(2) سورة الأنعام الآية 155
(3) سورة الزمر الآية 23
(4) سورة يوسف الآية 3(24/133)
والنار وأنواع النعيم والعذاب وأخبار يوم القيامة والجزاء والحساب إلى غير ذلك من الأخبار العظيمة.
فالوصية أيها الإخوة: رجالا ونساء، جنا وإنسا هي العناية بكتاب الله والإكثار من تلاوته وتدبره والعمل بما فيه، وبسنة الرسول؛ لأنها داخلة في ذلك. فسنة الرسول صلى الله عليه وسلم داخلة في الوصية بكتاب الله؛ لأن الله سبحانه أوحى إليه القرآن والسنة قال جل وعلا: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (1) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (2) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (3) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (4) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (5) وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه (6) » .
فالوصية بالقرآن وصية بالسنة فالواجب على جميع المسلمين هو العمل بالكتاب والسنة وتحكيمهما في كل شيء.
__________
(1) سورة النجم الآية 1
(2) سورة النجم الآية 2
(3) سورة النجم الآية 3
(4) سورة النجم الآية 4
(5) سورة النساء الآية 59
(6) رواه أحمد في (مسند الشاميين) برقم (16546) واللفظ له، ورواه أبو داود في (كتاب السنة) برقم (3988)(24/134)
وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي: أحاديثه الصحيحة، والاستفادة منها وحفظ ما تيسر منها أيضا والسؤال عما أشكل منها؛ لأن الله أوصى بها قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} (1) وقال جل وعلا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (2) يعني عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) وقال جل وعلا: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (4) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (5) نسأل الله العافية.
والوصية لنفسي ولكم ولجميع المسلمين ولجميع من بلغه هذا الكلام، الوصية هي تقوى الله، والعناية بكتاب الله الكريم والتواصي بذلك قولا وعملا ومذاكرة، ومن ضيع ذلك فهو خاسر، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ} (6) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (7) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (8) فهؤلاء هم
__________
(1) سورة المائدة الآية 92
(2) سورة النور الآية 63
(3) سورة النور الآية 63
(4) سورة النساء الآية 13
(5) سورة النساء الآية 14
(6) سورة العصر الآية 1
(7) سورة العصر الآية 2
(8) سورة العصر الآية 3(24/135)
أهل السعادة وهم أهل الربح الذي آمنوا بالله وبرسوله وحدوده، وأخلصوا لله العبادة وأدوا فرائضه، وتركوا محارمه، وتواصوا بالحق: أي تناصحوا فيما بينهم، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ثم مع ذلك صبروا ولم يجزعوا حتى لحقوا بربهم، وهم المذكورون في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) هذا هو شأنهم، وهذا شأن المؤمنين، وقد وعدهم الله بالرحمة فقال تعالى: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (2) وهذا جزاؤهم في الدنيا بالتوفيق والهداية والتسديد وفي الآخرة بدخول الجنة، والنجاة من النار، وهم المذكورون في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5) ويقول سبحانه في هذا المعنى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (6) البر والتقوى هو أداء فرائض الله وترك محارمه، ثم يقول سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (7) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3
(6) سورة المائدة الآية 2
(7) سورة المائدة الآية 2(24/136)
في الحديث الصحيح: «الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه، ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » . رواه مسلم في الصحيح، ويقول صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (2) » . وشبك بين أصابعه، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (3) » .، هكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان متعاونين على البر والتقوى متناصحين، متواصين بالحق والصبر عليه، دعاة للخير محذرين من الشر صبر في جميع الأحوال، وعليكم أن تكونوا كذلك مع أهلكم، ومع أولادكم، ومع جيرانكم، ومع جلسائكم، ومع جميع المسلمين أينما كانوا في الباخرة، وفي الطائرة، وفي السيارة
__________
(1) رواه مسلم في (الإيمان) برقم (82) واللفظ له، والنسائي في (البيعة) برقم (4126) .
(2) رواه البخاري في (المظالم والغصب) برقم (2266) ومسلم في (البر والصلة والآداب) برقم (4685) وأحمد في (مسند الكوفيين) برقم (17648) و (17654) .
(3) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) برقم (4685) وأحمد في (مسند الكوفيين) برقم (17648) و (17654) .(24/137)
وفي البر، وفي البحر وفي أي مكان، فعليكم أيها الإخوة أن تكونوا متواصين بالحق متناصحين متعاونين على البر والتقوى، دعاة للخير، محذرين من الشر، معتنين بكتاب الله تلاوة وتدبرا وتعقلا وعملا.
والله المسئول بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن يوفقنا وإياكم للفقه في دينه، والثبات عليه، وأن يعيذنا وإياكم وسائر المسلمين من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، وأن يوفقنا للعناية بكتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاهتداء بها والعمل بما فيها، وأن يكون كتاب الله سبحانه خلقا لنا كما كان خلقا لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وأن يعيذنا وإياكم وسائر المسلمين من مضلات الفتن، ومن نزغات الشيطان، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يجعلنا وإياكم من أنصار دينه والدعاة إليه على بصيرة إنه سميع قريب وصلى الله وسلم على عبده ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين ولا حول ولا قوة إلا بالله.(24/138)
49 - الحث على العناية بكتاب الله وتعلمه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد:
فإني أشكر الله سبحانه على هذا اللقاء بأبنائي الكرام على تعلم القرآن الكريم وحفظه، والدعوة إليه والعمل به، ولا ريب أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، أوحاه إلى عبده ورسوله وخاتم أنبيائه محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، وفيه الحجة على جميع عباده. قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (1) وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (2) وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (3)
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 1
(2) سورة الإسراء الآية 9
(3) سورة فصلت الآية 44(24/139)
وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (2) {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (3) {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (4) وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (5) وقال عز وجل: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (6)
فالواجب على جميع المكلفين العمل بهذا الكتاب والسير على توجيهه وما بين الله فيه سبحانه، والحذر من مخالفة ذلك، كما يجب عليهم أيضا العمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (7)
وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (8) وأخبر
__________
(1) سورة الشعراء الآية 192
(2) سورة الشعراء الآية 193
(3) سورة الشعراء الآية 194
(4) سورة الشعراء الآية 195
(5) سورة ص الآية 29
(6) سورة الأنعام الآية 155
(7) سورة النور الآية 54
(8) سورة الحشر الآية 7(24/140)
سبحانه أنه أرسله إلى جميع الناس جنهم وإنسهم، عربهم وعجمهم. قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1)
فالهداية باتباعه صلى الله عليه وسلم واتباع ما جاء في كتاب الله عز وجل، فقد قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (2) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (3) وقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: «بعثت إلى الناس عامة (4) » .
فالواجب على جميع المكلفين التمسك بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. وفي حديث آخر: «وإني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله عز وجل فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة سبأ الآية 28
(3) سورة الأنبياء الآية 107
(4) رواه البخاري في (التيمم) برقم (323) .(24/141)
الله تعالى واستمسكوا به (1) » .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب (فضائل الصحابة) برقم (4425) ، وأحمد في (مسند الكوفيين) برقم (18464) .(24/142)
والله خلق الخلق ليعبدوه قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وأمرهم بذلك. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (2) وأرسل رسله بذلك قال جل وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3)
وهذه العبادة هي طاعة الله، وهي توحيد الله، وهي تقوى الله، وهي البر والهدى، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (4) فلا بد من تعلم هذه العبادة والتبصر فيها، وهي دين الإسلام، فأنت مخلوق للعبادة فعليك أيها الرجل وعليك أيتها المرأة، عليكما جميعا أن تتعلما هذه العبادة وأن تعرفاها جيدا حتى تؤدياها على بصيرة، وهذه العبادة هي دين الإسلام، وهي الحق والهدى، وهي تقوى الله وتوحيد الله وطاعته واتباع شريعته.
هذه هي العبادة التي أنت مخلوق لها. سمى الله دينه عبادة؛ لأن
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة النحل الآية 36
(4) سورة النجم الآية 23(24/142)
العبد يؤديها في الدنيا بخضوع لله وانكسار، فدين الإسلام كله عبادة وتقوى لله، والصلاة عبادة، والزكاة عبادة، والصوم عبادة، والحج عبادة، والجهاد عبادة، وهكذا جميع ما فرض الله علينا عبادة تؤدى لله وطاعة لله، فهذا الدين العظيم دين الإسلام: هو العبادة التي أنت مخلوق لها، وهي التقوى، وهي البر والهدى، فالواجب على جميع الثقلين جنهم وإنسهم، ذكورهم وإناثهم أن يتقوا الله وأن يعبدوه بطاعة أوامره واجتناب نواهيه والإخلاص له، وعدم عبادة سواه، فيجب على كل مكلف أن يصرف عبادته لله وحده، وهذا معنى لا إله إلا الله، فإن معناه لا معبود حق إلا الله كما قال تعالى في سورة الحج: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1) وقال جل وعلا: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (2) وقال سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (3)
فهذا معنى لا إله إلا الله، والإله هو الذي تألهه القلوب وتعظمه بأنواع العبادة، ولا يستحق ذلك إلا الله وحده، ولا تصح العبادة لغيره، فيجب على أهل الأرض الجن والإنس
__________
(1) سورة الحج الآية 62
(2) سورة البقرة الآية 163
(3) سورة محمد الآية 19(24/143)
وجميع المكلفين من ذكور وإناث من عرب وعجم، يجب على الجميع أن يعبدوا الله وأن يتقوه، وأن يطيعوا أوامره، وأن ينتهوا عن نواهيه، وأن يقفوا عند حدوده عن إخلاص وصدق ورغبة ورهبة؛ لأنهم خلقوا لهذه العبادة، وخلقوا ليتقوه ويطيعوه، وخلقوا لدين الإسلام الذي هو عبادة الله وأمروا بذلك، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3)
هذا الإسلام الذي رضيه الله لنا ولن يقبل منا سواه، هو عبادة الله وتوحيد الله وطاعته واتباع شريعته قولا وعملا وعقيدة. قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (4) ولا سبيل إلى هذا العلم ومعرفة هذه العبادة إلا بالله ثم بالتعلم والتفقه والدراسة حتى تعلم دين الله الذي خلقت له، وهو دين الإسلام وتوحيد الله وطاعته، فيجب التعلم والتفقه والعناية بالقرآن الكريم والسنة حتى
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19
(2) سورة آل عمران الآية 85
(3) سورة المائدة الآية 3
(4) سورة آل عمران الآية 19(24/144)
تعلم هذه العبادة التي أنت مخلوق لها، وحتى تقوم بذلك وتعمل بذلك عن إخلاص لله ومحبة لله وعن تعظيم لله في جميع الأحوال، يجب أن تستقيم على توحيده وطاعته واتباع شريعته وترك ما نهى عنه: أبدا أبدا، وأينما كنت حتى تموت على ذلك. قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (1) أي الموت، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (3) هذه هي العبادة التي أنت مخلوق لها، تقوى الله، والاعتصام بحبله، والاستقامة على دينه. ومن وسائلها أن تعنى بكتاب الله، وأن تدرس كتاب الله وأن تتفقه فيه وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (4) » متفق على صحته، وأنا أهنئ القائمين على هذه المدارس لعنايتهم بكتاب الله، وأن أشكرهم
__________
(1) سورة الحجر الآية 99
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة آل عمران الآية 103
(4) رواه البخاري في كتاب (العلم) برقم (69) ومسلم في (الزكاة) برقم (1719) .(24/145)
على ما يقومون به نحو تعظيم كتاب الله، وتعليمه للأجيال، فإن هذا هو طريق السعادة لمن استقام على ذلك، وأخلص في ذلك، نسأل الله أن يعينهم على ما فيه رضاه وعلى ما فيه سعادتهم، وما فيه توفيقهم للفقه في الدين.
وإنني أهيب بجميع الدارسين والمدرسين إلى أن يعنوا بكتاب الله أستاذا وطالبا وموظفا، وأنصح الجميع أن يعنوا بكتاب الله تلاوة وتدبرا وتعقلا وعملا وحفظا. ففي كتاب الله الهدى والنور كما قال سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (2) وقال سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3)
فهذا الكتاب العظيم فيه الهدى والنور، وكل حرف بحسنة، وكل من تعلم حرفا فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها.
وأوصي الجميع بالعناية بكتاب الله عز وجل دراسة وتلاوة وتدبرا وحرصا على معرفة المعنى وعملا بذلك، مع الحفظ لما تيسر من كتاب الله، وهو أعظم كتاب وأصدق كتاب، فقد أنزله الله
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة فصلت الآية 44
(3) سورة الأنعام الآية 155(24/146)
رحمة للناس وشفاء لما في الصدور، وجعل الرسول أيضا رحمة للعالمين وهداية للبشر كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (1) وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (2) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (3)
فيجب أن نتعلم هذا الكتاب ونتفقه فيه حتى نعلم ما خلقنا له فنعلم العبادة التي خلقنا لها حتى نستقيم عليها، وهكذا السنة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم نتعلمها ونحفظها ونتفقه فيها، ونسأل عما أشكل علينا والطالب يسأل عما أشكل عليه من كتاب الله وسنة رسوله.
قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (4) فتعلم كتاب الله من أعظم نعم الله، فهنيئا لكل طالب يعنى بكتاب الله تلاوة وتدبرا وتعقلا وعملا، وهذه نعمة عظيمة. وإني أوصيكم بالاستقامة على هذا الخير العظيم، وسؤال الله التوفيق والإخلاص
__________
(1) سورة يونس الآية 57
(2) سورة النحل الآية 89
(3) سورة الأنبياء الآية 107
(4) سورة النحل الآية 43(24/147)
في ذلك لله عز وجل والعناية بالتفقه في كتاب الله والتفقه في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم مع العمل بأداء فرائض الله وترك محارم الله والمسارعة إلى كل خير والحذر من كل شر مع الإكثار من تلاوة كتاب الله ومدارسته والتفقه فيه، ومراجعة كتب التفسير المفيدة كتفسير ابن جرير، وابن كثير، والبغوي، وغيرهم لمعرفة الحق ولمعرفة ما أشكل عليكم، وينبغي للطالب أن يسأل أستاذه عما أشكل عليه عن قصد صالح ورغبة، كي يتفقه في كتاب الله، وعلى الأستاذ أن يعنى بذلك للتلاميذ من جهة توجيههم وتعليمهم الخير والعمل، وأن يكونوا شبابا صالحين يتعلمون ويعلمون ويسارعون إلى كل خير، فأهم شيء بعد الشهادتين هو أداء الصلوات الخمس، والمحافظة عليها في مساجد الله في الجماعة.
ويجب على أهل العلم أن يكونوا قدوة في ذلك، العالم وطالب العلم يجب أن يكونوا قدوة، وأن يكونوا مسارعين إلى أدائها في الجماعة حتى يتأسى بهم غيرهم ويحتذي حذوهم في ذلك.
فالعلماء ورثة الأنبياء وعلى رأسهم الرسل عليهم أفضل الصلاة والتسليم. والعلماء بعد الرسل هم خلفاؤهم، يدعون إلى الله بالقول والعمل والسيرة. والطلبة كذلك - طلبة العلم - يجب عليهم أن يعلموا ويعلموا، وأن يكونوا قدوة لغيرهم وأن تظهر عليهم آثار العلم والتعلم والتفقه في دين الله وفي كتاب الله.(24/148)
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يمنحنا جميعا الفقه في الدين، وأن يرزقنا العناية بكتابه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام والعمل بهما، والدعوة إليهما، والتواصي بهما قولا وعملا وعقيدة وتفقها، وأن يعيذنا من مضلات الفتن ومن نزغات الشيطان، كما نسأله سبحانه أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يوفق حكام المسلمين وأمراءهم لما فيه رضاه، ويصلح أحوالهم ويمنحهم الاستقامة على دينه وتحكيم شريعته. كما نسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا في المملكة العربية السعودية لكل خير، وأن يعينهم على كل خير، وأن يصلح لهم البطانة وأن يجعلهم من الهداة المهتدين، وأن يعيذنا وإياهم وسائر المسلمين من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، وأن يجعلنا جميعا من عباده الصالحين وحزبه المفلحين إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وأتباعه إلى يوم الدين.(24/149)
50 - حرمة القرآن الكريم (1) .
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن القرآن كلام الله تعالى أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليكون هدى ونورا للعالمين إلى يوم القيامة، وقد أكرم الله صدر هذه الأمة بحفظه في الصدور والعمل به في جميع شئون الحياة والتحاكم إليه في القليل والكثير، ولا يزال فضل الله سبحانه ينزل على بعض عباده فيعطون القرآن حقه من التعظيم والتكريم حسا ومعنى، ولكن هناك طوائف كبيرة وأعداد عظيمة ممن ينتسب إلى الإسلام حرمت من القيام بحق القرآن العظيم وما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخشى أن ينطق بحق على كثير منهم قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (2) إذ أصبح القرآن لدى كثير منهم مهجورا، هجروا تلاوته وهجروا تدبره والعمل به فلا حول ولا قوة إلا بالله. ولقد غفل كثير منهم عما يجب عليهم من
__________
(1) نشر في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد السادس، عام 1402 هـ ص 289.
(2) سورة الفرقان الآية 30(24/150)
تكريم كتاب الله وحفظه، إذ قصروا في مجال الحفظ والتدبر والعمل، كما لم يقوموا بما يجب من التعظيم والتكريم لكلام رب العالمين، ولقد عمت بلاد المسلمين المنشورات والصحف والمجلات، وكثيرا ما تشتمل على آيات من القرآن الكريم في غلافها أو داخلها، لكن قسما كبيرا من المسلمين حينما يقرءون تلك الصحف يلقونها فتجمع مع القمائم وتوطأ بالأقدام، بل قد يستعملها بعضهم لأغراض أخرى حتى تصيبها النجاسات والقاذورات، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (1) {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (2) {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (3) {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) والآية دليل على أنه لا يجوز مس القرآن إلا إذا كان المسلم على طهارة كما هو رأي الجمهور من أهل العلم، وفي حديث عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن لا يمس القرآن إلا طاهر (5) » .
ويروى عن ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر (6) » . وروي عن سلمان رضي
__________
(1) سورة الواقعة الآية 77
(2) سورة الواقعة الآية 78
(3) سورة الواقعة الآية 79
(4) سورة الواقعة الآية 80
(5) أخرجه الإمام مالك في (الموطأ) كتاب النداء في الصلاة برقم (419)
(6) أخرجه الطبراني في (المعجم الأوسط) برقم (3301) .(24/151)
الله عنه أنه قال: لا يمس القرآن إلا المطهرون، فقرأ القرآن ولم يمس المصحف حين لم يكن على وضوء. وعن سعد أنه أمر ابنه بالوضوء لمس المصحف. فإذا كان هذا في مس القرآن العزيز، فكيف بمن يضع الصحف التي تشتمل على آيات من القرآن سفرة لطعامه، ثم يرمي بها في النفايات مع النجاسات والقاذورات؟ لا شك أن هذا امتهان لكتاب الله العزيز وكلامه المبين.
فالواجب على كل مسلم ومسلمة أن يحافظوا على الصحف والكتب وغيرها مما فيه آيات قرآنية أو أحاديث نبوية أو كلام فيه ذكر الله أو بعض أسمائه سبحانه فيحفظها في مكان طاهر، وإذا استغنى عنها دفنها في أرض طاهرة أو أحرقها، ولا يجوز التساهل في ذلك، وحيث إن الكثير من الناس في غفلة عن هذا الأمر، وقد يقع في المحذور؛ جهلا منه بالحكم؛ رأيت كتابة هذه الكلمة تذكيرا وبيانا لما يجب على المسلمين العمل به تجاه كتاب الله وأسمائه وصفاته وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحذيرا من الوقوع فيما يغضب الله ويتنافى مع مقام كلام رب العالمين. والله سبحانه المسئول أن يوفقنا والمسلمين جميعا لما يحبه ويرضاه، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن(24/152)
يمنحنا جميعا تعظيم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعمل بهما وصيانتهما عن كل ما يسيء إليهما من قول أو فعل، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(24/153)
51 - تفسير سورة الفاتحة وحكم قراءتها في الصلاة (1) .
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فإن الله جل وعلا شرع لعباده في كل ركعة من الصلاة أن يقرءوا فاتحة الكتاب وهي أم القرآن وهي أعظم سورة في كتاب الله عز وجل، كما صح بذلك الخبر عن النبي عليه الصلاة والسلام
__________
(1) من دروس سماحته في المسجد الحرام في 26 \ 12 \ 1418هـ(24/153)
أنه قال: إنها أعظم سورة في كتاب الله وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم وهي الحمد، هذه السورة العظيمة اشتملت على الثناء على الله وتمجيده جل وعلا، وبيان أنه سبحانه هو المستحق لأن يعبد وأن يستعان به، واشتملت على تعليم العباد وتوجيه العباد إلى أن يسألوه سبحانه وتعالى الهداية إلى الصراط المستقيم، فمن نعم الله العظيمة على عباده هذه السورة العظيمة وأن شرع لهم قراءتها في كل ركعة في الفرض والنفل، بل جعلها ركن الصلاة في كل ركعة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب (1) » . وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: «لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم. قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها (2) » . فالواجب على كل مصل أن يقرأ بها في كل ركعة في الفرض والنفل، أما المأموم فعليه أن يقرأ بها في صلاته خلف إمامه، فلو جهل أو نسي أو جاء والإمام راكع سقطت عنه، فيحملها عنه الإمام إذا جاء والإمام راكع ودخل في الركعة أجزأته، وسقط عنه وجوب
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الأذان) برقم (714) ومسلم في صحيحه كتاب (الصلاة) برقم (595) .
(2) أخرجه الترمذي في سننه كتاب (الصلاة) برقم (286) .(24/154)
قراءتها؛ لأنه لم يحضرها؛ لما ثبت في الصحيح من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه جاء والإمام راكع، فركع دون الصف ثم دخل في الصف، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا بعد الصلاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «زادك الله حرصا ولا تعد (1) » . ولم يأمره بقضاء الركعة فدل على أن من أدرك الركوع أدرك الركعة، وهكذا لو كان المأموم جاهلا أو نسي الفاتحة ولم يقرأها أجزأته وتحملها عنه الإمام، أما من علم وذكر فالواجب عليه أن يقرأها مع إمامه، كما يجب على المنفرد والإمام أن يقرأها وهي ركن في حق المنفرد وركن في حق الإمام وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله سبحانه: حمدني عبدي، وإذا قال العبد: الرحمن الرحيم، قال الله جل وعلا: أثنى علي عبدي، وإذا قال العبد: مالك يوم الدين، قال الله سبحانه: مجدني عبدي؛ - لأن التمجيد هو تكرار الثناء والتوسع في الثناء- فإذا قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، يقول الله عز وجل: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل (2) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (الأذان) برقم (741)
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الصلاة) برقم (598)(24/155)
فقوله: إياك نعبد، حق الله فإن حق الله على عباده أن يعبدوه، وإياك نستعين حق للعبد أن يستعين بالله في كل شيء، يقول الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) حق الله عليهم أن يعبدوه، وفي الحديث الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (2) » . هذا حق الله على العباد أن يعبدوه بطاعة أوامره وترك نواهيه ويحذروا الشرك به عز وجل. وتقدم في الدرس الماضي أن أصل هذه العبادة وأساسها: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، هذا أصل العبادة وأساس العبادة: توحيد الله والإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام فأعظم العبادة وأهمها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فعلى كل مكلف أن يتعبد عن علم ويقين وصدق إنه لا إله إلا الله، والمعنى لا معبود حق إلا الله كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (3) وعليه أن يشهد عن علم ويقين وصدق أن محمد بن
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (الجهاد والسير) برقم (2644) ومسلم في صحيحه كتاب (الإيمان) برقم (43)
(3) سورة الحج الآية 62(24/156)
عبد الله بن عبد المطلب هو رسول الله حقا إلى جميع الثقلين الجن والإنس، وهو خاتم الأنبياء ليس بعده نبي، كما قال الله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (1) وقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (2) فعلى كل إنسان وعلى كل مكلف من الجن والإنس أن يعبد الله وحده؛ هذا حق الله على عباده {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) يجب على جميع الثقلين جنهم وإنسهم، ذكورهم وإناثهم، عربهم وعجمهم، أغنياؤهم وفقراؤهم، ملوكهم وعامتهم عليهم جميعا أن يعبدوا الله بأداء ما فرض وترك ما حرم، وعليهم أن يخصوه بالعبادة دون كل ما سواه، قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (4) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (5) قال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ} (6) يعني أمر ربك وأوصى ربك
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة الأحزاب الآية 40
(3) سورة الفاتحة الآية 5
(4) سورة البقرة الآية 163
(5) سورة البينة الآية 5
(6) سورة الإسراء الآية 23(24/157)
{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) وفي هذه السورة يقول جل وعلا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) يعلمنا أن نقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) هذا حقه جل وعلا، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (4) يعني: وحدك بدعائنا وخوفنا ورجائنا وصومنا وصلاتنا وذبحنا ونذرنا، وغير هذا من العبادات كل لله وحده، كما قال جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (5) فالذين يتقربون إلى الأصنام أو إلى الأموات من الأولياء وغيرهم بالدعاء أو الرجاء أو الذبح أو النذر أو الاستغاثة قد عبدوا مع الله غيره، وقد أشركوا بالله غيره، ونقضوا قول لا إله إلا الله، وخالفوا قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (6) فالعبادة حق الله ليس لأحد فيها نصيب، فالواجب على كل مكلف أن يعبد الله وحده، والواجب على كل من لديه علم أن يعلم الناس وأن يرشد الناس وأن يعلم أهله ومن حوله وأن يرشد الناس إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (7) فعلى جميع المكلفين أن يعبدوا الله وأن يخصوه
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة الفاتحة الآية 5
(4) سورة الفاتحة الآية 5
(5) سورة الحج الآية 62
(6) سورة الفاتحة الآية 5
(7) سورة التحريم الآية 6(24/158)
بالعبادة بدعائهم وذبحهم ونذرهم وصلاتهم وصومهم وغير هذا من العبادة، وبهذا نعلم أن ما يفعله بعض الجهلة عند القبور، قبور الصالحين أو من يزعم أنهم صالحون من دعائهم، أو الاستغاثة بهم أو النذر لهم أن هذا هو الشرك الأكبر، وهذا دين الجاهلية ويجب الحذر من ذلك، وهكذا البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها هو من وسائل الشرك، وهو من عمل اليهود والنصارى فيجب الحذر من ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » .
فالواجب عليك يا عبد الله وعليك يا أمة الله الانتباه لهذا الأمر، والعلم بهذا الأمر، وأن العبادة حق الله وحده ليس لأحد فيها نصيب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) هذا حق الله أن نعبده وحده، وأن نستعين به وحده فلا يجوز أن يدعى مع الله سبحانه إله آخر لا نبي ولا غيره، لا محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره، ولا البدوي ولا الحسين ولا علي ولا غير ذلك، العبادة حق الله وحده ليس لأحد فيها نصيب، قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} (4)
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الجنائز) برقم (1301) ومسلم في صحيحه كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم (823)
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة الأنعام الآية 88
(4) سورة الزمر الآية 65(24/159)
يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) سيد الخلق لو أشرك بالله لحبط عمله فكيف بغيره وقد عصمه الله من ذلك وحفظه، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (2) فالشرك هو أعظم الذنوب وأسوءها وأخطرها، فالواجب الحذر منه ومن وسائله، يقول الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) من مات على التوحيد والإخلاص لله والإسلام فهو من أهل الجنة. لكن إن كان له ذنوب وسيئات فهو على خطر قد يغفر له وقد لا يغفر له، وقد يعذب بمعاصيه؛ ولهذا قال سبحانه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (4) فإذا مات على شرب الخمر أو على عقوق الوالدين أو أحدهما أو على أكل الربا أو على ظلم الناس فهو على خطر عظيم من دخول النار، وقد يغفر له وقد لا يغفر إلا أن يتوب قبل موته توبة صادقة فمن تاب تاب الله عليه، وقد دلت السنة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كثيرا
__________
(1) سورة الزمر الآية 65
(2) سورة المائدة الآية 72
(3) سورة النساء الآية 48
(4) سورة النساء الآية 48(24/160)
من العصاة يعذبون في النار على قدر معاصيهم ولا يغفر لهم، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه يشفع في جماعة من العصاة فيحد الله له حدا فيخرجهم من النار، ثم يشفع فيحد الله له حدا فيخرجهم من النار، ثم يشفع فيحد الله له حدا فيخرجهم من النار، ثم يشفع فيحد الله له حدا فيخرجهم من النار التي دخلوها بذنوبهم، ويبقى في النار بقايا من أهل التوحيد دخلوا النار بمعاصيهم فيخرجهم الله من النار بفضله ورحمته جل وعلا، فاتق الله يا عبد الله واحذر السيئات، احذر المعاصي كلها والزم التوبة دائما لعلك تنجو: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) فأنت على خطر إذا مت على معصية على الربا على الزنا على العقوق على شرب المسكر على ظلم الناس والعدوان عليهم على الغيبة والنميمة فأنت على خطر، فحاسب نفسك وجاهد نفسك وبادر بالتوبة قبل أن يهجم الأجل، واعرف معنى قوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) وأن الواجب عليك أن تخص الله بالعبادة دون كل ما سواه، فهو المستحق لأن يعبد فهو الذي يدعى ويرجى ويخاف ويتقرب إليه بالصلاة والصوم والحج والنذر والذبح وغير ذلك، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} (3) يعني ذبحي
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة الأنعام الآية 162(24/161)
{وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) وقال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (3) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (4) وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (5) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (6) وقال جل وعلا: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (7) جميع من يدعوه الناس من دون الله ما يملكون من قطمير وهو اللفافة التي على النواة {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (8) فالواجب الحذر من دعاء غير الله أو الشرك بالله، والواجب توجيه القلوب إلى الله عز وجل وإخلاص العمل لله وحده في صلاتك وصومك وسائر عباداتك.
فقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (9) يقول الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (10) حق الله {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (11)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة الكوثر الآية 1
(4) سورة الكوثر الآية 2
(5) سورة الجن الآية 18
(6) سورة المؤمنون الآية 117
(7) سورة فاطر الآية 13
(8) سورة فاطر الآية 14
(9) سورة الفاتحة الآية 5
(10) سورة الفاتحة الآية 5
(11) سورة الفاتحة الآية 5(24/162)
حق العبد، وحاجة العبد، عليه أن يستعين بالله في كل شيء، وفي حديث ابن عباس يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله (1) » . فالعبد في غاية الفقر والحاجة إلى الله عز وجل، فعليه أن يستعين بربه في كل شيء وعليه أن يسأله حاجته {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (2) {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} (3) فأنت في أشد الضرورة إلى ربك فاضرع إليه واسأله حاجاتك، واحذر الشرك به خص ربك بالعبادة واحذر أن تشرك بالله شيئا، لا في ذبحك ولا في نذرك ولا في صومك ولا في صلاتك ولا في دعائك ولا في غير ذلك، فالعبادة حق الله يجب إخلاصها لله وحده، وإياك أن تغتر بما فعله الجهال في كثير من البلدان من العكوف على القبور ودعاء أصحابها والاستغاثة بها، هذا هو الشرك الذي نهى الله عنه وهو الذي بعث الله الرسل بإنكاره
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه كتاب (صفة القيامة والرقائق والورع) برقم (2440) .
(2) سورة فاطر الآية 15
(3) سورة فاطر الآية 16(24/163)
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) بعث الله الرسل جميعا بإنكار الشرك والدعوة إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له جل وعلا، فاحذر يا عبد الله أن تقع فيما وقع، فيه المشركون من عبادة أصحاب القبور أو الأشجار أو الأصنام أو الكواكب أو الجن كل ذلك شرك به، فمن دعا الجن من دون الله أو دعا الكواكب أو الأصنام أو استغاث بالأموات أو بالغائبين فقد أشرك بالله ووقع في قوله جل وعلا: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (2) ثم أحذر أيضا من وسائل الشرك كالصلاة عند القبور واتخاذ المساجد عليها، واتخاذ القباب عليها كل هذا من وسائل الشرك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (3) » قالت عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا، قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا، ولما قيل له عن كنائس النصارى وما يفعلون فيها قال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة المائدة الآية 72
(3) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (529) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(24/164)
شرار الخلق عند الله (1) » .
فبين أن من اتخذ المساجد على القبور والصور على القبور أنهم شرار الخلق عند الله. فالواجب الحذر من هذه الأعمال السيئة من أعمال اليهود والنصارى والمشركين ويجب أن تخص الله بالعبادة أينما كنت، تعبده وحده بدعائك وخوفك ورجائك وصلاتك وصومك وذبحك ونذرك وغيره كله لله وحده {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (2) ويقول سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (3) قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (4) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (5) ثم يقول سبحانه بعد ذلك: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (6) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (7) يعلم عباده أن يدعوه بهذا الدعاء، فإذا قال العبد: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (8) يقول الله: «هذا لعبدي ولعبدي ما سأل (9) » هكذا جاء في الحديث الصحيح. فجدير بك يا عبد الله أن تصدق
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الصلاة) برقم (409) ، ومسلم في صحيحه كتاب (المساجد ومواضع الصلاة) برقم (822) .
(2) سورة النساء الآية 36
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة الزمر الآية 2
(5) سورة الزمر الآية 3
(6) سورة الفاتحة الآية 6
(7) سورة الفاتحة الآية 7
(8) سورة الفاتحة الآية 6
(9) صحيح مسلم الصلاة (395) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2953) ، مسند أحمد بن حنبل (2/286) ، موطأ مالك النداء للصلاة (189) .(24/165)
في هذا الدعاء، وأن تخلص في هذا الدعاء، وأن يكون قلبك حاضرا حين تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (1) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (2) ومعنى اهدنا يعني أرشدنا يا ربنا، ودلنا، وثبتنا ووفقنا. تسأل ربك أن يهديك هذا الصراط وأن يرشدك إليه وأن يعلمك إياه وأن يثبتك عليه. ما هو الصراط المستقيم؟ الصراط المستقيم هو: دين الله هو توحيد الله والإخلاص له وطاعة أوامره وترك نواهيه، هذا هو الصراط المستقيم وهو عبادة الله وهو الإسلام والإيمان والهدى وهو الصراط المستقيم وهو العبادة التي أنت مخلوق لها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3) هذه العبادة هي الصراط المستقيم {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (4) والإسلام هو الصراط المستقيم وهو الإيمان بالله ورسوله وتوحيد الله وطاعته وترك معصيته، هذا هو الصراط المستقيم: أن تعبد الله وحده دون كل ما سواه، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} (5) لما ذكر الشرك والتوحيد والمعاصي في قوله
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 6
(2) سورة الفاتحة الآية 7
(3) سورة الذاريات الآية 56
(4) سورة آل عمران الآية 19
(5) سورة الأنعام الآية 153(24/166)
تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (2) ثم قال بعد هذا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (3) فصراط الله أداء أوامره وترك نواهيه، هذا صراط الله المستقيم وأعظمها توحيده والإخلاص له وأعظم المناهي هو الشرك به، فصراط الله المستقيم توحيده والإخلاص له وترك الإشراك به وأداء ما أمر وترك ما نهى، هذا هو صراط الله المستقيم {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (4) يعني الزموه واستقيموا عليه {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} (5) وهي البدع والمعاصي التي ينهى الله عنها، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة الأنعام الآية 151
(2) سورة الأنعام الآية 152
(3) سورة الأنعام الآية 153
(4) سورة الأنعام الآية 153
(5) سورة الأنعام الآية 153(24/167)
أنه خط خطا مستقيما فقال: «هذا سبيل الله (1) » ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله فقال: «هذه السبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه (2) » . فالسبل هي: البدع والمعاصي والمنكرات التي حرمها الله على عباده فالواجب الحذر منها والصراط المستقيم هو توحيد الله وطاعته وهو الإسلام والإيمان وهو الهدى وهو العبادة التي أنت مخلوق لها، صراط واضح وهو توحيد الله وطاعة أوامره وترك نواهيه والوقوف عند حدوده هذا صراط الله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (3) والمستقيم الذي ليس فيه عوج، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (4) صراط الله، فالرسول بعثه الله ليهدي إلى صراط مستقيم، وهكذا الرسل جميعا كلهم بعثوا ليهدوا إلى الصراط المستقيم يعني: يدعون الناس إلى الصراط المستقيم وهو توحيد الله وطاعة أوامره وترك نواهيه والوقوف عند حدوده، هذا صراط الله
__________
(1) سنن ابن ماجه المقدمة (11) ، مسند أحمد بن حنبل (3/397) .
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده كتاب (مسند المكثرين من الصحابة) برقم (3928) والدارمي في سننه كتاب (المقدمة) برقم (204) .
(3) سورة الفاتحة الآية 6
(4) سورة الشورى الآية 52(24/168)
المستقيم، وربنا يرشدنا في كل صلاة في كل ركعة أن نقول: اهدنا الصراط المستقيم، يعني: اهدنا يا ربنا الصراط المستقيم الذي شرعته لنا، وبعثت به أنبياءك وخلقتنا له، نطلب منك أن تهدينا له، وأن ترشدنا له وأن تثبتنا عليه، ثم فسره فقال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ} (1) هذا صراط الله المستقيم صراط المنعم عليهم، ومن هم المنعم عليهم؟ هم: الرسل وأتباعهم، وعلى رأسهم إمامهم وخاتمهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا صراطهم صراط الله المستقيم، توحيد الله وطاعة أوامره وترك نواهيه هذا الصراط المستقيم، وهذا هو صراط المنعم عليهم وهم الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة، والصراط المستقيم: هو العلم والعمل؛ العلم بما شرع الله والعمل بذلك هذا هو الصراط المستقيم، العلم بما شرع الله وبما أوجب الله على عباده والعمل بذلك، أن تعلم حق الله عليك، وأن تعلم ما أوجب الله عليك، وأن تعلم ما حرم الله عليك وأن تستقيم على أداء ما أمرك الله به وعلى ترك ما حرم الله عليك، هذا هو صراط الله المستقيم الذي تطلب ربك في كل ركعة أن يهديك
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 7(24/169)
صراطه المستقيم {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (1) غير صراط المغضوب عليهم وهم اليهود وأشباههم الذين عرفوا الحق وحادوا عنه، وتكبروا عن اتباعه وغير طريق الضالين وهم النصارى وأشباههم الذين تعبدوا على الجهالة والضلالة، فصراط المنعم عليهم هم أهل العلم والعمل الذين عرفوا الحق وفقهوه، وعملوا به، وأما المغضوب عليهم فهم الذين عرفوا الحق وحادوا عنه، كاليهود وأشباههم وعلماء السوء الذين يعرفون الحق ويحيدون عنه ولا يدلون إليه، والضالون هم النصارى وأشباههم ممن جهل الحق ولم يبال بدين الله، بل اتبع هواه، فأنت يا عبد الله تسأل ربك أن يهديك طريق المنعم عليهم، وهم الرسل وأتباعهم، وأن يجنبك طريق المغضوب عليهم والضالين، وهذه دعوة عظيمة فأعظم دعوة أن تسأل ربك الهداية إلى صراطه المستقيم، وهو صراط المنعم عليهم لا صراط المغضوب عليهم ولا صراط الضالين، احمد ربك على هذه النعمة العظيمة، واحرص على هذا الدعاء وأحضر قلبك عند هذا الدعاء في الصلاة وغيرها هذا الدعاء العظيم الذي أنت في أشد
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 7(24/170)
الضرورة إليه {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (1) أحضر قلبك واصدق في هذا الطلب في الصلاة وغيرها تسأل ربك تضرع إليه أن يهديك صراطه المستقيم، وأن يثبتك عليه حتى تكون من أتباعه والسالكين عليه غير المغضوب عليهم وغير الضالين؛ لأن اليهود تعبدوا على خلاف العلم وتابعوا أهواءهم حسدا وبغيا، وهم يعرفون أن محمدا رسول الله وأن الله بعثه بالحق، ولكن حادوا عن الحق تكبرا وتعاظما وإيثارا للدنيا على الآخرة وحسدا، والنصارى جهال يغلب عليهم الجهل والضلال وهم أقرب إلى الخير من اليهود، ولهذا يسلم منهم الجم الغفير في كل وقت، أما اليهود فيندر أن يسلم منهم أحد، أما النصارى فكثيرا ما يسلمون في كل وقت؛ لأن قلوبهم أقرب إلى الخير من قلوب اليهود، قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} (2) فالنصارى أقرب وقلوبهم ألين من قلوب اليهود؛ لأن علتهم الجهل والضلال
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 6
(2) سورة المائدة الآية 82(24/171)
فإذا عرفوا وبين لهم رجع كثير منهم إلى الحق، أما علة اليهود فليست الجهل، بل علتهم الحسد والبغي وعلتهم مخالفة الحق على بصيرة فعلتهم خبيثة، وهي التكبر عن اتباع الحق والحسد لأهل الحق، ولهذا قل وندر من يسلم منهم نعوذ بالله من ذلك، فأنت يا عبد الله احمد ربك أن هداك لهذا الصراط، وأن علمك إياه وأن شرع لك أن تطلبه في صلواتك وفي خارج الصلاة، تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (1) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (2) وهذا الصراط هو دين الله وهو الإسلام وهو الإيمان والهدى وهو العبادة التي أنت مخلوق لها، وهو العلم والعمل أن تعلم ما شرعه الله لك، وما خلقك لأجله وتعمل بطاعة الله وتحذر معاصي الله، وتقف عند حدود الله ترجو ثواب الله، وتخشى عقاب الله هذا الصراط المستقيم، وأساسه وأعظمه وأوله وأفرضه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، هذا هو الأساس، هذا هو الأصل هذا هو أعظم واجب، هذا هو الركن الأول ثم الصلاة ثم الزكاة ثم الصوم ثم الحج كما تقدم
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 6
(2) سورة الفاتحة الآية 7(24/172)
في الدرس الماضي، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت (1) » ، هذه هي أركان الإسلام الظاهرة وما سواها من الأوامر تابع لذلك، ويجب مع هذه الأوامر ترك المناهي، الحذر من المناهي خوفا من الله وتعظيما لله وإخلاصا له، هذا هو دين الله، وأساسه توحيده والإخلاص له والإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ثم أداء الفرائض وترك المحارم، والوقوف عند الحدود، وهذا هو الصراط المستقيم، يجب على كل مسلم من الذكور والإناث على كل جن وإنس على جميع الثقلين يجب عليهم أن يثبتوا على هذا الصراط، وأن يستقيموا عليه وأن يسألوا الله الهداية له، وأن يحذروا مخالفته فهو صراط الله وهو دين الله وهو العلم والعمل، العلم بما شرع الله واتباعه وأساسه توحيد الله والإخلاص له والإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ثم أداء الفرائض وترك المحارم والوقوف عند الحدود والمحبة في الله والبغضاء في الله والأمر بالمعروف والنهي عن
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب (الإيمان) برقم (22)(24/173)
المنكر والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، كله داخل في هذا كله داخل في الصراط المستقيم، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) هؤلاء هم أهل الصراط المستقيم الذين آمنوا بالله ورسوله وأخلصوا لله العمل وصدقوا وتفقهوا في الدين وعملوا بطاعة الله، وتركوا معصيته وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، هؤلاء هم أهل الصراط المستقيم هم المنعم عليهم وهم المذكورون في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (4) هؤلاء هم أهل الصراط المستقيم، وماذا وعدهم؟ قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (5)
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3
(4) سورة التوبة الآية 71
(5) سورة التوبة الآية 72(24/174)
فالله وعدهم الجنة والسعادة، هذا هو جزاؤهم في الدنيا الرحمة، يرحمهم الله بالتوفيق والهداية والتسديد، وفي الآخرة بإدخالهم الجنة والرضى عنهم هذا جزاء أهل الصراط المستقيم، فاحرص يا عبد الله واحرصي يا أمة الله على الاستقامة على الصراط، احرصوا والزموا هذا الصراط، الزموه واستقيموا عليه عن حب وعن رغبة وعن محبة، وعن صدق وعن إخلاص لله، وعن موالاة لأولياء الله ومعاداة لأعداء الله وصبر على طاعة الله، وكف عن محارم الله وتواص بالحق وتعاون على البر والتقوى، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، هكذا المؤمنون هكذا الصادقون هكذا أصحاب الصراط المستقيم، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، نسأل الله، يجعلنا وإياكم من هؤلاء الموفقين، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من عباده الصالحين الثابتين على صراطه المستقيم السالكين له المستقيمين عليه إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(24/175)
52 - تفسير قول الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (1) الآية.
س: نرجو إيضاح قول الله تعالى عن الكهنة ومن شابههم الذين تركوا طريق الله وذهبوا إلى الشياطين؛ ليتعلموا منهم ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله، كيف يكون ذلك، وهل يحدث ذلك الضرر للمؤمنين الفاسقين؟ وما طريق الوقاية من هذه الشرور والأضرار، حيث يروج كثير من الكهنة للعوام قدرتهم على ذلك؟
ج: قد تكون هذه الطرق الخبيثة من خدمة الشياطين، وخدمة من تعاطى هذه الأمور، وصحبتهم لهم، وتعلمهم منهم من أنواع السحرة والكهنة والرمالين والعرافين، وغيرهم من المشعوذين، فيتعاطون هذه الأمور من أجل المال، والاستحواذ على عقول الناس، وحتى يعظمهم الناس فيقولوا: إنهم يعرفون كذا ويعرفون كذا، وهذا واقع، والله يبتلي عباده بالسراء والضراء، ويبتلي عباده بالأشرار والأخيار، حتى يتميز الصادق من الكاذب،
__________
(1) سورة البقرة الآية 102(24/176)
وحتى يتميز ولي الله من عدو الله، وحتى يتميز من يعبد الله، ويسعى في سلامة دينه، ويحارب الكفر والنفاق والمعاصي والخرافات، وبين من هو ضعيف في ذلك أو مخلد إلى الكسل والضعف، والله يميز الناس بما يبتليهم به من السراء والضراء، والشدة والرخاء، وتسليط الأعداء والجهاد، حتى يتبين أولياء الله من أعدائه المعاندين لدين الله، وحتى يتبين أهل القوة في الحق من الضعفاء والخاملين، وهذا واقع لا شك فيه، والتوقي لذلك مشروع بحمد الله، بل واجب، وقد شرع الله لعباده أن يتوقوا شرهم بما شرع سبحانه من التعوذات والأذكار الشرعية وسائر الأسباب المباحة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك (1) » ، أخرجه مسلم في صحيحه.
وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن «من قال: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات في المساء لم يضره شيء حتى يصبح، ومن قالها ثلاث مرات في الصباح لم يضره شيء حتى يمسي (2) » ،
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب (الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار) برقم (48810)
(2) أخرجه أبو داود في سننه كتاب (الآداب) برقم (4425)(24/177)
وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن من قرأ آية الكرسي حين ينام على فراشه لم يضره شيء حتى يصبح، وهذا من فضل الله عز وجل، وأخبر صلى الله عليه وسلم: أن من قرأ سورة الإخلاص: قل هو الله أحد، وسورتي الفلق والناس ثلاث مرات عند نومه لم يضره شيء، فهي من أسباب السلامة من كل سوء إذا قرأها المؤمن عند النوم (ثلاث مرات) وهكذا بعد الصلوات الخمس، ويشرع تكرارها بعد صلاة الفجر والمغرب ثلاثا، وذلك بعد أن ينتهي من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، وذلك من فضل الله سبحانه وتعالى على عباده، وإرشاده لهم إلى أسباب العافية والوقاية من شر الأعداء.
وهكذا من الأسباب الشرعية الإكثار من الكلمات الأربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فهي من أسباب السلامة والعافية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر (1) » ، أخرجه مسلم في صحيحه.
وهكذا العناية بقراءة القرآن الكريم والإكثار منها بالتدبر والتعقل والعناية بأمر الله عز وجل بطاعته وترك معاصيه.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب (الآداب) برقم (3985)(24/178)
وهكذا الإكثار من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كلها من أسباب السلامة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتب الله له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكان في حرز من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من عمله (1) » ، متفق على صحته.
ومما يجمع الخير كله للمسلم العناية بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قولا وعملا، والأخذ بما أوصى به الله عباده وأمرهم به في كتابه الكريم وسنة رسوله الأمين، ومن ذلك أنه أوصى عباده بالتقوى وأمرهم بها في آيات كثيرة، ولا شك أن التقوى هي أعظم الوصايا، فهي وصية الله عز وجل، ووصية رسوله عليه الصلاة والسلام، وهي جامعة للخير كله.
ومن جملة التقوى العناية بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وقد أوصى الله بذلك،
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (الدعوات) برقم (5942) ، ومسلم في صحيحه كتاب (الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار) برقم (4857)(24/179)
فقال جل وعلا: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) وقال جل وعلا: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (3) ثم قال بعد ذلك: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4)
فقال: أولا: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (5) ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (6) ثم قال {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (7)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 155
(2) سورة الأنعام الآية 151
(3) سورة الأنعام الآية 152
(4) سورة الأنعام الآية 153
(5) سورة الأنعام الآية 151
(6) سورة الأنعام الآية 152
(7) سورة الأنعام الآية 153(24/180)
والحكمة في ذلك كما قال جمع من أهل التفسير: إن الإنسان إذا تعقل ما خلق له وما أمر به، وما خوطب به، ونظر فيه وتأمله حصل له به التذكر، لما يجب عليه، ولما ينبغي له تركه، ثم بعد ذلك تكون التقوى: بفعل الأوامر وترك النواهي، وبذلك يكمل للعبد العناية بما قرأ، أو بما سمع، فإنه يبدأ بالتعقل والتذكر ثم العمل وهو المقصود.
فالوصية بكتاب الله قولا وعملا تشمل الدعوة إليه، والذب عنه، والعمل به؛ لأنه كتاب الله الذي من تمسك به نجا، ومن حاد عنه هلك، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بكتاب الله، وذلك حينما «سئل عبد الله بن أبي أوفى: هل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال: نعم، أوصى بكتاب الله (1) » .
فالرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بكتاب الله؛ لأنه يجمع الخير كله.
وفي صحيح مسلم، عن جابر رضي الله تعالى عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام أوصى في حجة الوداع بكتاب الله، فقال: «إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به: كتاب الله من تمسك به نجا، ومن أعرض عنه هلك (2) » ، وفي صحيح
__________
(1) صحيح البخاري الوصايا (2740) ، صحيح مسلم الوصية (1634) ، سنن الترمذي الوصايا (2119) ، سنن النسائي الوصايا (3620) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2696) ، مسند أحمد بن حنبل (4/355) ، سنن الدارمي الوصايا (3180) .
(2) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .(24/181)
مسلم أيضا، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني تارك فيكم ثقيلين: أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به (1) » .
فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي (2) » ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أوصى بكتاب الله، كما أوصى الله بكتابه، ثم الوصية بكتاب الله وصية بالسنة؛ لأن القرآن أوصى بالسنة وأمر بتعظيمها، فالوصية بكتاب الله وصية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما الثقلان، وهما الأصلان اللذان لا بد منهما، من تمسك بهما نجا، ومن حاد عنهما هلك، ومن أنكر واحدا منهما كفر بالله، وحل دمه وماله، وقد جاء في رواية أخرى: «إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به، كتاب الله، وسنتي (3) » ، أخرجها الحاكم بسند جيد.
وقد عرفت أيها المسلم: أن الوصية بكتاب الله والأمر بكتاب الله وصية بالسنة وأمر بالسنة؛ لأن الله تعالى يقول:
__________
(1) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2408) ، مسند أحمد بن حنبل (4/367) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3316) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب (فضائل الصحابة) برقم (4425)
(3) أخرجه الحاكم في مستدركه برقم (1 \ 93) .(24/182)
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) ويقول سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) الآية، ويقول أيضا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (3)
وهناك آيات كثيرة يأمر فيها سبحانه بطاعته، وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، والعلم النافع هو المتلقى عنهما والمستنبط منهما، فهذا هو العلم، فالعلم: قال الله سبحانه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم أعلم بكتاب الله وأعلم بالسنة، فاستنباطهم وأقوالهم يعين طالب العلم، ويرشد طالب العلم إلى الفهم الصحيح عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام، ثم الاستعانة بكلام أهل العلم بعد ذلك: أئمة الهدى؛ كالتابعين، وأتباع التابعين، ومن بعدهم من علماء الهدى، وهكذا أئمة اللغة يستعان بكلامهم على فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة النور الآية 56
(2) سورة الحشر الآية 7
(3) سورة النساء الآية 80(24/183)
فطالب العلم يعنى بكتاب الله سبحانه، ويعنى بالسنة، ويستعين على ذلك بكلام أهل العلم المنقول عن الصحابة ومن بعدهم في كتب التفسير والحديث، وكتب أهل العلم والهدى؛ لكي يعرف معاني كتاب الله، فيتعلمه ويعمل به ويعلمه للناس، لما في ذلك من الأجر العظيم والثواب الجزيل، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (2) » .
وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على المحافظة على كتاب الله عز وجل وتدبر معانيه؛ لما في ذلك من الأجر العظيم، مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «من قرأ حرفا من القرآن فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها (3) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه (4) » ، خرجه مسلم في صحيحه (5) ، وأصحابه: هم العاملون
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (فضائل القرآن) برقم (4639) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب العلم) ، ومسلم في صحيحه كتاب (الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر) برقم (4867) .
(3) سنن الترمذي فضائل القرآن (2910) .
(4) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (804) ، مسند أحمد بن حنبل (5/249) .
(5) صحيح مسلم بشرح النووي (6 \ 78) .(24/184)
به، كما في الحديث الآخر: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة، وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران، كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما (1) » أخرجه مسلم في صحيحه (2) .
والآيات والأحاديث في فضل القرآن والعمل به وفضل السنة والتمسك بها كثيرة جدا.
فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا والمسلمين للتمسك بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعمل بهما، إنه جواد كريم.
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (805) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2883) ، مسند أحمد بن حنبل (4/183) .
(2) المرجع السابق: (6 \ 79)(24/185)
53 - تفسير قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة صاحب السمو الملكي الأمير المكرم سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض
وفقه الله وزاده من العلم والإيمان آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد (2) :
فأشير إلى سؤالكم الشفهي عن تفسير قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) ورغبة سموكم في أن يكون الجواب خطيا.
وأفيدكم أن علماء التفسير رحمهم الله ذكروا أن الله سبحانه لما شرع صيام شهر رمضان شرعه مخيرا بين الفطر والإطعام وبين الصوم، والصوم أفضل، فمن أفطر وهو قادر على الصيام فعليه
__________
(1) سورة البقرة الآية 184
(2) صدرت من مكتب سماحته برقم 1563 \ خ في 23 \ 9 \ 1410هـ.
(3) سورة البقرة الآية 184(24/186)
إطعام مسكين، وإن أطعم أكثر فهو خير له وليس عليه قضاء، وإن صام فهو أفضل لقوله عز وجل: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) فأما المريض والمسافر فلهما أن يفطرا ويقضيا لقوله سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (2) ثم نسخ الله ذلك، وأوجب سبحانه الصيام على المكلف الصحيح المقيم ورخص للمريض والمسافر في الإفطار وعليه القضاء؛ وذلك بقوله سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (3) وبقي الإطعام في حق الشيخ الكبير العاجز والعجوز الكبيرة العاجزة عن الصوم، كما ثبت ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، وجماعة من الصحابة والسلف رضي الله عنهم، وقد روى البخاري في صحيحه عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه معنى ما ذكرنا من النسخ للآية المذكورة، وهي قوله
__________
(1) سورة البقرة الآية 184
(2) سورة البقرة الآية 184
(3) سورة البقرة الآية 185(24/187)
تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (1) الآية، وروي ذلك عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وجماعة من السلف رحمهم الله، ومثل الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، والمريض الذي لا يرجى برؤه، والمريضة التي لا يرجى برؤها فإنهما يطعمان عن كل يوم مسكينا، ولا قضاء عليهما كالشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، ويجوز إخراج الإطعام في أول الشهر وفي وسطه وفي آخره، أما الحامل والمرضع فيلزمهما الصيام إلا أن يشق عليهما فإنه يشرع لهما الإفطار وعليهما القضاء كالمريض والمسافر، هذا هو الصحيح في قولي العلماء في حقهما، وقال جماعة من السلف: يطعمان ولا يقضيان كالشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، والصحيح أنهما كالمريض والمسافر تفطران وتقضيان، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس بن مالك الكعبي ما يدل على أنهما كالمريض والمسافر، وأسأل الله عز وجل أن يمنحنا وإياكم الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يجعلنا وإياكم وسائر إخواننا من الهداة المهتدين إنه سميع قريب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) سورة البقرة الآية 184(24/188)
54 - تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (1)
س: هذا يسأل عن تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (2) ويقول: ذلك بأننا سمعنا أناسا في الحرم يفسرون لا جناح عليه بأنه ليس من الضروري في الحج والعمرة؟ (3)
ج: هذا غلط، النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالسعي وسعى، وكان المسلمون يتحرجون أولا من السعي؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يسعون بينهما بصنمين على الصفا والمروة، فلما جاء الله بالإسلام تحرجوا قيل لهم: لا حرج، والسعي بينهما لله، لا للأصنام، لله وحده سبحانه وتعالى كل شعائر الله إعلانه وأحكامه جل وعلا، ولهذا طاف النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وقال: «خذوا عني مناسككم (4) » ، في عمرته وفي حجه عليه الصلاة والسلام، فليس هناك جناح في الطواف بهما كما طاف النبي
__________
(1) سورة البقرة الآية 158
(2) سورة البقرة الآية 158
(3) شريط نور على الدرب رقم 49 \ 7 لحج عام 1415هـ.
(4) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب (الحج) برقم (2286)(24/189)
صلى الله عليه وسلم، هذا رد على من تحرج في السعي بينهما، وأنهما كانا بين صنمين الصفا والمروة إساف ونائلة، كان المشركون يسعون للصنمين فأبطل الله عبادة الأصنام، وأقر السعي لله وحده لا شريك له.(24/190)
55 - تفسير قول الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} (1)
س: ما معنى قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (2) ؟ (3)
ج: يسألون عن الحكمة فيها، يسأل الناس عن الحكمة لماذا وجدت الأهلة؟ فأخبرهم جل وعلا أنها مواقيت للناس والحج، مواقيت يعرف بها الناس السنين والأعوام والحج، هذه من الحكمة في خلقها، إذا هل الهلال عرف الناس إذا دخل الشهر وخرج الشهر فإذا كمل اثنا عشر شهرا مضت السنة، وهكذا، ويعرف الناس بذلك حجهم وصومهم ومواقيت ديونهم وعدد نسائهم وغير ذلك من مصالحهم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 189
(2) سورة البقرة الآية 189
(3) برنامج (نور على الدرب) الشريط الأول.(24/190)
56 - تفسير قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) (2) .
س: ما تفسير قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (3) ؟
ج: هذه الآية الشريفة ذكر أهل التفسير أنها نزلت في الأنصار بالمدينة المنورة لما أرادوا أن يتركوا الجهاد، وأن يتفرغوا لمزارعهم، أنزل الله في ذلك قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (4) فبين سبحانه أن المراد بذلك هو التأخر عن الجهاد في سبيل الله مع القدرة، والآية عامة كما في القاعدة الشرعية أن الاعتبار في النصوص بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فلا يجوز للإنسان أن يلقى بيده إلى التهلكة، كأن يلقي نفسه من شاهق، ويقول: إني أتوكل على الله، أو يتناول السم ويقول: إني أتوكل على الله، أو أن يطعن نفسه بسكين ونحوه ويقول: إني أتوكل على الله إني أسلم، كل هذا لا يجوز، فواجب على المسلم التباعد عن أسباب الهلكة وأن يتحرز منها، إلا بالطرق الشرعية كالجهاد وغيره.
__________
(1) سورة البقرة الآية 195
(2) من برنامج (نور على الدرب) الشريط الأول.
(3) سورة البقرة الآية 195
(4) سورة البقرة الآية 195(24/191)
57 - معنى الرفث والفسوق والجدال في الحج
س: يقول تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (1) الآية.
سماحة الشيخ ما المقصود بالرفث والفسوق والجدال الممنوع.. وهل من جادل أو بالغ بالعبث أثناء الحج يبطل حجه؟ (2)
ج: فسر أهل العلم رحمهم الله الرفث بالجماع وما يدعو إلى ذلك، والفسوق بالمعاصي، أما الجدال ففسروه بالنزاع والمخاصمة في غير فائدة، أو فيما أوضحه الله وبينه لعباده فلا وجه للجدال فيه، ويدخل في الجدال المنهي عنه جميع المنازعات التي تؤذي الحجيج وتضرهم أو تخل بالأمن أو يراد منها الدعوة إلى الباطل أو التثبيط عن الحق، أما الجدال بالتي هي أحسن لإيضاح الحق
__________
(1) سورة البقرة الآية 197
(2) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) جمع محمد المسند ج 2 ص 180.(24/192)
وإبطال الباطل فهو مشروع، وليس داخلا في الجدال المنهي عنه، وجميع الأشياء الثلاثة لا تبطل الحج إلا الجماع فقط إذا وقع قبل التحلل الأول لكنها تنقص الحج والأجر، كما أنها تنقص الإيمان وتضعفه.
فالواجب على الحاج والمعتمر تجنب ذلك طاعة لله سبحانه ورغبة في إكمال حجه وعمرته.(24/193)
58 - تفسير قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (1)
س: نسأل فضيلتكم عن معنى قول الله سبحانه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (2) الآية، جزاكم الله خيرا؟
ج: يقول الله سبحانه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (3) معنى الآية: أن الحج يهل به في أشهر معلومات، وهي شوال وذو القعدة والعشر الأولى من ذي الحجة، هذا هو
__________
(1) سورة البقرة الآية 197
(2) سورة البقرة الآية 197
(3) سورة البقرة الآية 197(24/193)
المراد بالآية وسماها أشهرا؛ لأن قاعدة العرب إذا ضموا بعض الثالث إلى الاثنين أطلقوا عليها اسم الجمع، وقوله سبحانه: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} (1) يعني أوجب الحج فيهن على نفسه بالإحرام بالحج فإنه يحرم عليه الرفث والفسوق والجدال، والرفث: هو الجماع ودواعيه فليس له أن يجامع زوجته بعد ما أحرم، ولا يتكلم ولا يفعل ما يدعوه إلى الجماع، ولا يأتي الفسوق وهي المعاصي كلها من عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والغيبة والنميمة، وغير ذلك من المعاصي.
والجدال معناه: المخاصمة والمماراة بغير حق فلا يجوز للمحرم بالحج أو بالعمرة أو بهما أن يجادل بغير حق، وهكذا في الحق لا ينبغي أن يجادل فيه بل يبينه بالحكمة والكلام الطيب فإذا طال الجدال ترك ذلك، ولكن لا بد من بيان الحق بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وهذا النوع غير منهي عنه بل مأمور به في قوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} (2) الآية.
__________
(1) سورة البقرة الآية 197
(2) سورة النحل الآية 125(24/194)
59 - تفسير قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (1)
س: ما المقصود يا سماحة الشيخ بقول الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (2) ؟ (3)
ج: هذه الآية الكريمة في أيام التشريق في النفر الأول والنفر الثاني، يقول الله سبحانه: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (4) هذه أيام التشريق يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر ليس منها يوم العيد {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (5) يوم العيد داخل في العشر التي فيها الذكر، العشر مأمور فيها بالذكر والأيام المعدودات مأمور فيها بالذكر أيضا، كلها ثلاثة عشر يوما كلها مشروع فيها الذكر من أولها إلى آخرها من اليوم الأول من شهر ذي الحجة إلى اليوم الثالث عشر كلها أيام ذكر وتكبير وتهليل، ويشرع للمسلمين فيها التكبير والتهليل في الليل والنهار وفي المساجد، وفي الطرق، وفي البيوت، وفي كل مكان
__________
(1) سورة البقرة الآية 203
(2) سورة البقرة الآية 203
(3) أسئلة حج عام 1407 هـ شريط رقم (1) .
(4) سورة البقرة الآية 203
(5) سورة البقرة الآية 203(24/195)
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} (1) يعني الثاني عشر فلا إثم عليه {وَمَنْ تَأَخَّرَ} (2) الثالث عشر {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (3) ذكرهم سبحانه بمجمعهم هذا في عرفات، وفي مزدلفة، وفي منى أنه يحشرهم يوم القيامة فهم محشورون إلى الله يوم القيامة حشرا عظيما لا يبقى منهم أحد، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (4) فكل الناس محشورون يوم القيامة جميعا ومجزيون بأعمالهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فهذا الحشر في منى وعرفات ومزدلفة هذا الجمع يذكر العاقل بيوم القيامة، وجمع الخلائق في يوم القيامة، لعله يستعد لذلك اليوم العظيم، والحجاج فيهم من يريد النفير والتعجل وفيهم لا يريد ذلك، فمن تعجل من اليوم الثاني عشر بعد الزوال وبعد الرمي فلا بأس، ومن تأخر حتى يرمي اليوم الثالث عشر بعد الزوال فلا بأس وهو أفضل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تأخر، ولم ينفر إلا في اليوم الثالث عشر عليه الصلاة والسلام، فالحجاج مخيرون من شاء نفر في اليوم الثاني عشر بعد رمي الجمرات الثلاث فينفر إلى مكة، ثم هو بالخيار إن أحب السفر طاف للوداع قبل أن يسافر، وإن أحب أن يبقى في مكة أياما.
__________
(1) سورة البقرة الآية 203
(2) سورة البقرة الآية 203
(3) سورة البقرة الآية 203
(4) سورة التغابن الآية 9(24/196)
فإذا عزم على السفر طاف للوداع عند السفر وليس يوم العيد منها، فبعض الناس يغلط، ينفر في اليوم الحادي عشر، ويقول: هذا هو اليوم الثاني، هذا غلط عظيم، يوم العيد لا يحسب منها أولها الحادي عشر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه (1) » يعني الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده كتاب (أول الكوفيين) برقم (18022) الترمذي في سننه كتاب (الحج) برقم (814) .(24/197)
- تفسير قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (1) الآية
س: قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (2) سؤالي: ما معنى اللغو بالأيمان في هذه الآية؟ (3)
ج: الآية واضحة، يقول الله سبحانه وتعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (4) الآية،
__________
(1) سورة البقرة الآية 225
(2) سورة البقرة الآية 225
(3) من برنامج (نور على الدرب) الشريط الأول في 2 \ 6 \ 1419 هـ.
(4) سورة البقرة الآية 225(24/197)
وفي الآية الأخرى قال سبحانه: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (1) وكسب القلوب نيتها وقصدها الإيمان بالله والمحبة لله والخوف من الله والرجاء لله سبحانه وتعالى، كل هذا من كسب القلوب، وهكذا نية الحالف وقصده لليمين وإقباله عليها هذا من كسب القلوب، أما عند عدم اليمين لكونه يتكلم باليمين من غير قصد، بل جرت على لسانه من غير قصد، مثل: والله ما أقوم، والله ما أتكلم، والله ما أذهب لكذا إلى آخره ولم يتعمدها، بل جرت على لسانه لكن من غير قصد، أي عقد اليمين على هذا الشيء من غير قصد القلب على فعل هذا الشيء، هذا هو لغو اليمين، قول الرجل: لا والله، كما جاء في هذا المعنى عن عائشة رضي الله عنها وغيرها في اللغو باليمين، أما إذا نوى اليمين بقلبه أنه لا يكلمه، أو لا والله لا أزوره، أو لا والله لا أفعل كذا، أو لا أشرب الدخان، أو والله لا أشرب الخمر، فهذا عليه كفارة اليمن إذا نقض يمينه، وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو أن يعتق رقبة، فإن عجز عن الثلاثة صام ثلاثة أيام لقوله جل وعلا: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (2)
__________
(1) سورة المائدة الآية 89
(2) سورة المائدة الآية 89(24/198)
والمقصود: أن الأيمان اللاغية هي التي لا تعتمد، بل تجري على اللسان بغير قصد، هذه هي لغو اليمين وليست يمينا منعقدة وليست من كسب القلوب، أما إذا عقدها قاصدا لها بقلبه فهذا من كسب القلوب وهذا من تعقيد الأيمان، فعلى صاحب هذه اليمين إذا خالفها أن يكفر كفارة اليمين كما تقدم. فإذا قال: والله لا أكلم فلانا، قاصدا بقلبه ثم كلمه، فعليه كفارة يمين أو قال: والله لا أزوره، ثم زاره فعليه كفارة يمين، بخلاف إذا مر على لسانه اليمين بغير قصد لم يتعمدها فليس عليه شيء.(24/199)
61 - تفسير معاني بعض الآيات الكريمة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز
إلى حضرة الأخ المكرم الدكتور م. أ. ح. سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى كتابكم الذي جاء فيه:
نرجو من فضيلتكم توضيح معاني هذه الآيات الكريمة التالية: بسم الله الرحمن الرحيم: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (1)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 3(24/199)
والآية: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (1) والآية: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} (2) والآية: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3)
وحديث الجارية الذي رواه مسلم، حينما سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أين الله؟ قالت: في السماء. وقال لها: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أعتقها؛ فإنها مؤمنة (4) »
نرجو توضيح معاني هذه الآيات الكريمة، وتوضيح معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم للجارية (5) ؟
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة الزخرف الآية 84
(3) سورة المجادلة الآية 7
(4) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب (المساجد ومواضع الصلاة) برقم (836) .
(5) نشرت في المجموع ج8 ص283.(24/200)
وأفيدك: بأن المعنى العام للآيات الكريمات والحديث النبوي الشريف، هو الدلالة على عظمة الله سبحانه وتعالى، وعلوه على خلقه، وألوهيته لجميع الخلائق كلها، وإحاطة علمه وشموله لكل شيء كبيرا كان أو صغيرا، سرا أو علنا، وبيان قدرته على كل شيء، ونفي العجز عنه سبحانه وتعالى.
وأما المعنى الخاص لها: فقوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (1) ففيها الدلالة على عظمة الكرسي وسعته، كما يدل ذلك على عظمة خالقه سبحانه وكمال قدرته، وقوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (2) أي: لا يثقله ولا يكرثه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه، متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه سبحانه محتاجة وفقيرة إليه، وهو الغني الحميد، الفعال لما يريد، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر لكل شيء، الحسيب على كل شيء، الرقيب العلي العظيم، لا إله غيره ولا رب سواه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة البقرة الآية 255(24/201)
وقوله سبحانه: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (1) ففيها الدلالة على أن المدعو الله في السماوات وفي الأرض، ويعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السماوات ومن في الأرض، ويسمونه: الله، ويدعونه رغبا ورهبا إلا من كفر من الجن أو الإنس، وفيها الدلالة على سعة علم الله سبحانه، واطلاعه على عباده، وإحاطته بما يعملونه، سواء كان سرا أو جهرا، فالسر والجهر عنده سواء سبحانه وتعالى، فهو يحصي على العباد جميع أعمالهم خيرها وشرها.
وقوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} (2)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 3
(2) سورة الزخرف الآية 84(24/202)
فمعناها: أنه سبحانه هو إله من في السماء وإله من في الأرض، يعبده أهلهما، وكلهم خاضعون له، أذلاء بين يديه إلا من غلبت عليه الشقاوة فكفر بالله ولم يؤمن به، وهو الحكيم في شرعه وقدره، العليم بجميع أعمال عباده سبحانه.
وقوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) فمعناها: أنه مطلع سبحانه على جميع عباده، أينما كانوا يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم، ورسله من الملائكة الكرام والكاتبين الحفظة أيضا مع ذلك يكتبون ما يتناجون به مع علم الله به وسمعه له.
والمراد بالمعية المذكورة في هذه الآية عند أهل السنة والجماعة: معية علمه سبحانه وتعالى، فهو معهم بعلمه، ولكن سمعه أيضا مع علمه محيط بهم، وبصره نافذ فيهم، فهو سبحانه وتعالى مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء مع أنه سبحانه فوق جميع الخلق قد استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، ولا يشابه خلقه في شيء من صفاته، كما قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) ثم ينبئهم يوم القيامة بجميع الأعمال التي عملوها في الدنيا؛ لأنه سبحانه بكل شيء عليم، وبكل شيء محيط، عالم الغيب لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.
__________
(1) سورة المجادلة الآية 7
(2) سورة الشورى الآية 11(24/203)
أما حديث الجارية التي أراد سيدها إعتاقها كفارة لما حصل منه من ضربها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة (1) » ، فإن فيه الدلالة على علو الله على خلقه، وأن الاعتراف بذلك دليل على الإيمان، هذا هو المعنى الموجز لما سألت عنه.
والواجب على المسلم أن يسلك في هذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحيحة الدالة على أسماء الله وصفاته مسلك أهل السنة والجماعة، وهو: الإيمان بها، واعتقاد صحة ما دلت عليه، وإثباته له سبحانه على الوجه اللائق به من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، وهذا هو المسلك الصحيح الذي سلكه السلف الصالح واتفقوا عليه، كما يجب على المسلم الذي يريد السلامة لنفسه وتجنيبها الوقوع فيما يغضب الله العدول عن طريق أهل الضلال الذين يؤولون صفات الله، أو ينفونها عنه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وسبق أن صدر من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى في إثبات العلو لله سبحانه، فنرفق لك نسخة منها؛ لمزيد الفائدة، كما نرفق لك نسخة من (العقيدة الواسطية) لشيخ الإسلام ابن
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537) ، سنن النسائي السهو (1218) ، سنن أبو داود الصلاة (930) .(24/204)
تيمية، وشرحها للشيخ محمد خليل الهراس، وفيها بحث موسع في الموضوع الذي سألت عنه.
ونسأل الله أن يرزق الجميع العلم النافع والعمل به، وأن يوفق الجميع لما يرضيه، إنه سميع مجيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(24/205)
تفسير قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (1) الآية
س: مذكور في القرآن الكريم: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (2) فما معنى هذا؟ (3)
ج: قد ذكر أهل العلم رحمهم الله في تفسير هذه الآية ما معناه: أن هذه الآية خبر معناه النهي، أي: لا تكرهوا على الدين الإسلامي من لم يرد الدخول فيه؛ فإنه قد تبين الرشد، وهو دين محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعهم بإحسان، وهو توحيد الله بعبادته وطاعة أوامره وترك نواهيه {مِنَ الْغَيِّ} (4) وهو:
__________
(1) سورة البقرة الآية 256
(2) سورة البقرة الآية 256
(3) نشر في المجموع ج8 ص 287.
(4) سورة البقرة الآية 256(24/205)
دين أبي جهل وأشباهه من المشركين الذين يعبدون غير الله من الأصنام والأولياء والملائكة والأنبياء وغيرهم، وكان هذا قبل أن يشرع الله سبحانه الجهاد بالسيف لجميع المشركين إلا من بذل الجزية من أهل الكتاب والمجوس، وعلى هذا تكون هذه الآية خاصة لأهل الكتاب، والمجوس إذا بذلوا الجزية والتزموا الصغار فإنهم لا يكرهون على الإسلام؛ لهذه الآية الكريمة، ولقوله سبحانه في سورة التوبة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1) فرفع سبحانه عن أهل الكتاب القتال إذا أعطوا الجزية والتزموا الصغار.
وثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «أخذ الجزية من مجوس هجر (2) » ، أما من سوى أهل الكتاب والمجوس من الكفرة والمشركين والملاحدة فإن الواجب مع القدرة دعوتهم إلى الإسلام، فإن أجابوا فالحمد لله، وإن لم يجيبوا وجب جهادهم، حتى يدخلوا في الإسلام، ولا تقبل منهم الجزية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلبها من كفار العرب، ولم
__________
(1) سورة التوبة الآية 29
(2) صحيح البخاري الجزية (3157) ، سنن الترمذي السير (1586) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3043) ، مسند أحمد بن حنبل (1/191) ، سنن الدارمي السير (2501) .(24/206)
يقبلها منهم، ولأن أصحابه رضي الله عنهم لما جاهدوا الكفار بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لم يقبلوا الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس، ومن الأدلة على ذلك قوله سبحانه: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) فلم يخيرهم سبحانه بين الإسلام وبين البقاء على دينهم، ولم يطالبهم بجزية، بل أمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فدل ذلك على أنه لا يقبل من جميع المشركين ما عدا أهل الكتاب والمجوس إلا الإسلام، وهذا مع القدرة، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تدل على هذا المعنى، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم
__________
(1) سورة التوبة الآية 5(24/207)
على الله عز وجل (1) » متفق على صحته، فلم يخيرهم النبي صلى الله عليه وسلم بين الإسلام وبين البقاء على دينهم الباطل، ولم يطلب منهم الجزية.
فدل ذلك: أن الواجب إكراه الكفار على الإسلام، حتى يدخلوا فيه ما عدا أهل الكتاب والمجوس؛ لما في ذلك من سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، وهذا من محاسن الإسلام؛ فإنه جاء بإنقاذ الكفرة من أسباب هلاكهم وذلهم وهوانهم وعذابهم في الدنيا والآخرة، إلى أسباب النجاة والعزة والكرامة والسعادة في الدنيا والآخرة، وهذا قول أكثر أهل العلم في تفسير الآية المسئول عنها، أما أهل الكتاب والمجوس فخصوا بقبول الجزية والكف عن قتالهم إذا بذلوها لأسباب اقتضت ذلك، وفي إلزامهم بالجزية إذلال وصغار لهم، وإعانة للمسلمين على جهادهم وغيرهم، وعلى تنفيذ أمور الشريعة ونشر الدعوة الإسلامية في سائر المعمورة، كما أن في إلزام أهل الكتاب والمجوس بالجزية حملا لهم على الدخول في الإسلام، وترك ما هم عليه من الباطل والذل والصغار؛ ليفوزوا بالسعادة والنجاة والعزة في الدنيا والآخرة، وأرجو أن يكون فيما ذكرنا كفاية وإيضاح لما أشكل عليكم.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (الإيمان) برقم (24) ، ومسلم في صحيحه كتاب (الإيمان) برقم (31) .(24/208)
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين للفقه في الدين والثبات عليه، إنه خير مسئول.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(24/209)
63 - تفسير قوله تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (1)
س: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} (2) الآية، ما المقصود بـ (النور) في الآية؟
ج: إن الله ولي الذين آمنوا، وناصرهم، ومعينهم، وموفقهم، يخرجهم من الظلمات؛ ظلمات الشرك، وظلمات المعاصي، والبدع، إلى نور التوحيد والحق والإيمان، يعني: بواسطة الرسل، وبواسطة كتبه المنزلة، فكفار قريش، وكفار بني إسرائيل وغيرهم أولياؤهم الطاغوت، والطاغوت الشيطان من الإنس
__________
(1) سورة البقرة الآية 257
(2) سورة البقرة الآية 257(24/209)
والجن، فالشياطين من الإنس والجن هم أولياء الكفرة يخرجونهم من نور التوحيد والحق إلى ظلمات الشرك والجهل والمعاصي والبدع، فالنور في هذه الآية المقصود به: التوحيد والإيمان والهدى، والظلمات: الشرك والمعاصي والبدع، نسأل الله العافية.(24/210)
64 - تفسير قول الله تعالى:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} (1) (2)
س: فسروا لنا قول الحق جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (3) ؟
ج: هذه الآية واضحة لمن تأملها، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن قد بعثه الله إلى قومه يدعوهم إلى توحيد الله
__________
(1) سورة البقرة الآية 258
(2) من برنامج نور على الدرب شريط رقم (21) ونشر في المجموع ج 9 ص 279.
(3) سورة البقرة الآية 258(24/210)
وينذرهم الشرك بالله، وكان في زمانه ملك يقال له " النمروذ " يدعي أنه الرب وأنه رب العالمين، وقد منح ملك الأرض فيما ذكروا، فإن الأرض قد ملكها أربعة: كافران وهما: " النمروذ " هذا " وبختنصر " ومسلمان وهما: " ذو القرنين " و" سليمان بن داود" عليهما السلام، فالحاصل أن هذا النمرود كان جبارا عنيدا، وكان يدعي الملك ويدعي أنه رب العالمين، ويدعي أنه يحيي ويميت، فلهذا قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت، قال الخبيث النمروذ: أنا أحيي وأميت، وذكر المفسرون: أنه ذكر لإبراهيم أنه يؤتى بالشخصين يستحقان القتل فيعفو عن واحد ويقتل الآخر، ويزعم أن هذا هو معنى الإحياء والإماتة، يعفو عمن استحق القتل فيقول: أحييته، وهذه مكابرة وتلبيس فليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود أن يخرج من الحجر ومن النطفة ومن الأرض حيا بعد موت، وهذا لا يستطيعه إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يخرج النبات ويحيي النطف حتى تكون حيوانات، فالمقصود أن هذا لا يستطيعه إلا الله ولكنه كابر ولبس، فانتقل معه إبراهيم إلى حجة أوضح للناس وأبين للناس حتى لا يستطيع أن يقول شيئا في ذلك، فبين له عليه الصلاة والسلام أن الله يأتي بالشمس من المشرق، فإن كنت ربا فأت بها من المغرب، فبهت(24/211)
واتضح للناس بطلان كيده وأنه ضعيف مخلوق لا يستطيع أن يأتي بالشمس من المغرب بدلا من المشرق، واتضح للناس ضلاله ومكابرته وصحة ما قاله إبراهيم عليه الصلاة والسلام.(24/212)
65 - تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} (1) (2)
س: تحدثني نفسي أحيانا بفعل منكر أو قول سوء، ولكني في أحيان محيرة لا أظهر القول أو الفعل، فهل على إثم في ذلك وما المقصود بقوله عز وجل: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} (3) الآية؟
ج: هذه الآية الكريمة نسخها الله سبحانه بقوله {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (4) الآية، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله عز وجل قال: "قد فعلت" خرجه مسلم في
__________
(1) سورة البقرة الآية 284
(2) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) جمع محمد المسند ص 71 (قسم التفسير)
(3) سورة البقرة الآية 284
(4) سورة البقرة الآية 286(24/212)
صحيحه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسنا ما لم تعمل أو تتكلم (1) » متفق على صحته.
وبذلك يعلم أن ما يقع في النفس من الوساوس والهم ببعض السيئات معفو عنه، ما لم يتكلم به صاحبه أو يعمل به، ومتى ترك ذلك خوفا من الله سبحانه كتب الله له بذلك حسنة؛ لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك، والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (الأيمان والنذور) برقم (6171) ومسلم في صحيحه كتاب (الإيمان) برقم (181)(24/213)
66 - كيف نجمع بين قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (1) .
وبين قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} (2)
س: كيف نجمع بين هاتين الآيتين: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) وقوله تعالى:
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة طه الآية 82
(3) سورة النساء الآية 48(24/213)
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (1) ، وهل بينهما تعارض؟
ج: ليس بينهما تعارض فالآية الأولى في حق من مات على الشرك ولم يتب، فإنه لا يغفر له ومأواه النار، كما قال الله سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (2) وقال عز وجل: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
أما الآية الثانية وهي قوله سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (4) فهي في حق التائبين، وهكذا قوله سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (5) أجمع العلماء على أن هذه الآية في التائبين، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة طه الآية 82
(2) سورة المائدة الآية 72
(3) سورة الأنعام الآية 88
(4) سورة طه الآية 82
(5) سورة الزمر الآية 53(24/214)
67 - شرح معنى قوله تعالى:
{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} (1)
س: قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (2) {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) والسؤال هو: أن بعض المسلمين يأخذون بهذه الآية أنه لا حرج على المسلم أن يذهب ويشد الرحال إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم يسأله أن يستغفر له رسول الله وهو في قبره، فهل هذا العمل صحيح كما قال تعالى، وهل معنى جاءوك باللغة أنه: جاءوك في حياتك أم في موتك؟ وهل يرتد المسلم عن الإسلام إذا لم يحكم سنة رسول الله؟ وهل التاجر على الدنيا أم على الدين؟
__________
(1) سورة النساء الآية 64
(2) سورة النساء الآية 64
(3) سورة النساء الآية 65(24/215)
ج: هذه الآية الكريمة فيها حث الأمة على المجيء إليه إذا ظلموا أنفسهم بشيء من المعاصي، أو وقعوا فيما هو أكبر من ذلك من الشرك أن يجيئوا إليه تائبين نادمين حتى يستغفر لهم عليه الصلاة والسلام، والمراد بهذا المجيء: المجيء إليه في حياته صلى الله عليه وسلم، وهو يدعو المنافقين وغيرهم إلى أن يأتوا إليه ليعلنوا توبتهم ورجوعهم إلى الله، ويطلبوا منه عليه الصلاة والسلام أن يسأل الله أن يقبل توبتهم وأن يصلح أحوالهم؛ ولهذا قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (1) فطاعة الرسول إنما تكون بإذن الله؛ يعني الإذن الكوني القدري، فمن أذن الله له وأراد هدايته اهتدى، ومن لم يأذن الله في هدايته لم يهتد، الأمر بيده سبحانه، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2) أما الإذن الشرعي فقد أذن سبحانه لجميع الثقلين أن يهتدوا، وأراد منهم ذلك شرعا وأمرهم به، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (3) وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (4) ثم قال:
__________
(1) سورة النساء الآية 64
(2) سورة التكوير الآية 29
(3) سورة البقرة الآية 21
(4) سورة النساء الآية 26(24/216)
{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} (1) أي: تائبين نادمين لا مجرد قول، واستغفر لهم الرسول، أي: دعا لهم بالمغفرة، لوجدوا الله توابا رحيما، فهو حث لهم أي للعباد على أن يأتوا للرسول صلى الله عليه وسلم ليعلنوا عنده توبتهم وليسأل الله لهم، وليس المراد بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كما يظنه بعض الجهال، فالمجيء إليه بعد موته لهذا الغرض غير مشروع، وإنما يؤتى للسلام عليه لمن كان في المدينة أو وصل إليها من خارجها لقصد الصلاة بالمسجد والقراءة فيه ونحو ذلك، فإذا أتى المسجد سلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، لكن لا يشد الرحل من أجل زيارة القبر فقط، بل من أجل المسجد وتكون الزيارة لقبره صلى الله عليه وسلم، وقبر الصديق، وعمر رضي الله عنهما تابعة لزيارة المسجد لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (2) » ، متفق على صحته، فالقبور لا تشد إليها الرحال، ولكن متى وصل إلى المسجد النبوي فإنه يشرع له أن يسلم عليه صلى الله عليه وسلم، ويسلم على صاحبيه رضي الله
__________
(1) سورة النساء الآية 64
(2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (الجمعة) برقم (1115) ومسلم في صحيحه كتاب (الحج) برقم (2475) .(24/217)
عنهما، لكن لا يشد الرحال من أجل الزيارة فقط للحديث المتقدم.
وأما ما يتعلق بالاستغفار: فهذا يكون في حياته لا بعد وفاته، والدليل على هذا أن الصحابة لم يفعلوا ذلك وهم أعلم الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأفقه الناس في دينه؛ ولأنه عليه السلام لا يملك ذلك بعد وفاته عليه السلام، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (1) » ، وأما ما أخبر به عليه الصلاة والسلام أن من صلى عليه تعرض صلاته عليه، فذلك شيء خاص يتعلق بالصلاة عليه، ومن صلى عليه صلى الله عليه بها عشرا، وقال عليه الصلاة والسلام: «أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي "، قيل: يا رسول الله: كيف وقد أرمت؟ أي بليت.. قال: " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء (2) » ، فهذا حكم خاص بالصلاة عليه، وفي الحديث الآخر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن لله ملائكة سياحين
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب (الوصية) برقم (3084) .
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده كتاب (أول مسند المدنيين رضي الله عنهم أجمعين) برقم (15575) .(24/218)
يبلغوني عن أمتي السلام (1) » ، فهذا شيء خاص للرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه يبلغ ذلك، وأما أن يأتي من ظلم نفسه ليتوب عند القبر ويستغفر عند القبر فهذا لا أصل له، بل هو منكر، ولا يجوز وهو وسيلة للشرك، مثل أن يأتي فيسأله الشفاعة أو شفاء المريض أو النصر على الأعداء أو نحو ذلك، أو يسأله أن يدعو له فهذا لا يجوز؛ لأن هذا ليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ولا من خصائص غيره، فكل من مات لا يدعى ولا يطلب منه الشفاعة لا النبي ولا غيره، وإنما الشفاعة تطلب منه في حياته، فيقال: يا رسول الله اشفع لي أن يغفر الله لي، اشفع لي أن يشفي الله مريضي، وأن يرد غائبي، وأن يعطني كذا وكذا، وهكذا يوم القيامة بعد البعث والنشور، فإن المؤمنين يأتون آدم ليشفع لهم إلى الله حتى يقضى بينهم فيعتذر، ويحيلهم إلى نوح فيأتونه فيعتذر، ثم يحيلهم نوح إلى إبراهيم فيعتذر فيحيلهم إبراهيم إلى موسى فيعتذر، ثم يحيلهم موسى إلى عيسى فيعتذر عليهم جميعا الصلاة والسلام، ثم يحيلهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتونه، فيقول عليه الصلاة والسلام: «أنا لها، أنا لها (2) » ، فيتقدم ويسجد تحت العرش
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده كتاب (مسند المكثرين من الصحابة) برقم (3484) .
(2) صحيح البخاري التوحيد (7510) ، صحيح مسلم الإيمان (193) .(24/219)
ويحمد ربه بمحامد عظيمة يفتحها الله عليه، ثم يقال له: «ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع (1) » ، فيشفع صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف حتى يقضى بينهم، وهكذا يشفع في أهل الجنة حتى يدخلوا الجنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم موجود، أما في البرزخ بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلا يسأل الشفاعة، ولا يسأل شفاء المريض ولا رد الغائب ولا غير ذلك من الأمور، وهكذا بقية الأموات لا يسألون شيئا من هذه الأمور، بل يدعى لهم ويستغفر لهم إذا كانوا مسلمين، وإنما تطلب هذه الأمور من الله سبحانه، مثل أن يقول المسلم: اللهم شفع في نبيك عليه الصلاة والسلام، اللهم اشف مريضي، اللهم انصرني على عدوي، ونحو ذلك؛ لأنه سبحانه يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (2) ويقول عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (3) الآية. .، أما قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (4) الآية فهي عامة على ظاهرها، فلا يجوز للمسلمين
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (تفسير القرآن) برقم (4116) ، ومسلم في صحيحه كتاب (الإيمان) برقم (286) .
(2) سورة غافر الآية 60
(3) سورة البقرة الآية 186
(4) سورة النساء الآية 65(24/220)
أن يخرجوا عن شريعة الله، بل يجب عليهم أن يحكموا شرع الله في كل شيء، فيما يتعلق بالعبادات، وفيما يتعلق بالمعاملات، وفي جميع الشؤون الدينية والدنيوية لكونها تعم الجميع، ولأن الله سبحانه يقول: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) ويقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (3) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) فهذه الآيات عامة لجميع الشؤون التي يتنازع فيها الناس ويختلفون فيها، ولهذا قال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} (5) يعني الناس من المسلمين وغيرهم {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} (6) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، وذلك بتحكيمه صلى الله عليه وسلم حال حياته وتحكيم سنته بعد وفاته، فالتحكيم لسنته هو التحكيم لما أنزل من القرآن والسنة {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (7) أي: فيما تنازعوا فيه، هذا هو الواجب عليهم أن يحكموا القرآن الكريم، والرسول صلى الله عليه وسلم في حياته
__________
(1) سورة المائدة الآية 50
(2) سورة المائدة الآية 44
(3) سورة المائدة الآية 45
(4) سورة المائدة الآية 47
(5) سورة النساء الآية 65
(6) سورة النساء الآية 65
(7) سورة النساء الآية 65(24/221)
وبعد وفاته باتباع سنته التي هي بيان القرآن الكريم وتفسير له ودلالة على معانيه، أما قوله سبحانه: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) فمعناه: أنه يجب أن تنشرح صدورهم لحكمه صلى الله عليه وسلم، وألا يبقى في صدورهم حرج مما قضى بحكمه عليه الصلاة والسلام؛ لأن حكمه هو الحق الذي لا ريب فيه وهو حكم الله عز وجل، فالواجب التسليم له وانشراح الصدر بذلك وعدم الحرج، بل عليهم أن يسلموا لذلك تسليما كاملا رضا بحكم الله واطمئنانا إليه، هذا هو الواجب على جميع المسلمين فيما شجر بينهم من دعاوى وخصومات، سواء كانت متعلقة بالعبادات أو بالأموال أو بالأنكحة أو الطلاق أو بغيرها من شؤونهم.
وهذا الإيمان المنفي هو أصل الإيمان بالله ورسوله بالنسبة إلى تحكيم الشريعة والرضا بها والإيمان بأنها الحكم بين الناس، فلا بد من هذا، فمن زعم أنه يجوز الحكم بغيرها، أو قال: إنه يجوز أن يتحاكم الناس إلى الآباء أو إلى الأجداد أو إلى القوانين الوضعية التي وضعها الرجال سواء كانت شرقية أو غربية، فمن زعم أن هذا يجوز فإن الإيمان منتف عنه، ويكون بذلك كافرا كفرا أكبر، فمن رأى أن شرع الله لا يجب تحكيمه ولكن لو حكم كان
__________
(1) سورة النساء الآية 65(24/222)
أفضل، أو رأى أن القانون أفضل، أو رأى أن القانون يساوي حكم الله فهو مرتد عن الإسلام، وهي ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أن يقول: إن الشرع أفضل ولكن لا مانع من تحكيم غير الشرع.
النوع الثاني: أن يقول: إن الشرع والقانون سواء ولا فرق.
النوع الثالث: أن يقول: إن القانون أفضل وأولى من الشرع، وهذا أقبح الثلاثة، وكلها كفر وردة عن الإسلام.
أما الذي سرى أن الواجب تحكيم شرع الله، وأنه لا يجوز تحكيم القوانين ولا غيرها مما يخالف شرع الله، ولكنه قد يحكم بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه ضد المحكوم عليه، أو لرشوة، أو لأمور سياسية، أو ما أشبه ذلك من الأسباب وهو يعلم أنه ظالم ومخطئ ومخالف للشرع، فهذا يكون ناقص الإيمان، وقد انتفى في حقه كمال الإيمان الواجب، وهو بذلك يكون كافرا كفرا أصغر، وظالما ظلما أصغر، وفاسقا فسقا أصغر، كما صح معنى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وجماعة من السلف رحمهم الله، وهو قول أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة ومن سلك سبيلهم، والله المستعان.(24/223)
68 - الجمع بين قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} (2)
س: قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} (4) الآية أرجو من فضيلة الشيخ أن يذكر الجمع بين الآيتين الكريمتين؟
ج: ليس هناك بحمد الله بينهما اختلاف، فالآية الأولى فيها بيانه سبحانه لعباده أن ما دون الشرك تحت مشيئته قد يغفره فضلا منه سبحانه، وقد يعاقب من مات على معصية بقدر معصيته لانتهاكه حرمات الله ولتعاطيه ما يوجب غضب الله، أما المشرك، فإنه لا يغفر له بل له النار مخلدا فيها أبد الآباد إذا مات على ذلك- نعوذ بالله من ذلك-.
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة النساء الآية 93
(3) سورة النساء الآية 48
(4) سورة النساء الآية 93(24/224)
وأما الآية الثانية:
ففيها الوعيد لمن قتل نفسا بغير حق وأنه يعذب، وأن الله يغضب عليه بذلك، ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (1) معنى ذلك: أن هذا هو جزاؤه إن جازاه سبحانه وهو مستحق لذلك، وإن عفا سبحانه فهو أهل العفو وأهل المغفرة جل وعلا، وقد يعذب بما ذكر الله مدة من الزمن في النار ثم يخرجه الله من النار، وهذا الخلود خلود مؤقت، ليس كخلود الكفار، فإن الخلود خلودان: خلود دائم أبدا لا ينتهي، وهذا هو خلود الكفار في النار، كما قال الله سبحانه في شأنهم: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (2) هكذا في سورة البقرة، وقال في سور المائدة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (3) أما العصاة: كقاتل النفس بغير حق والزاني والعاق لوالديه وآكل الربا وشارب المسكر إذا ماتوا على هذه المعاصي وهم مسلمون، وهكذا
__________
(1) سورة النساء الآية 93
(2) سورة البقرة الآية 167
(3) سورة المائدة الآية 37(24/225)
أشباههم هم تحت مشيئة الله كما قال سبحانه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) فإن شاء جل وعلا عفا عنهم لأعمالهم الصالحة التي ماتوا عليها وهي توحيده وإخلاصهم لله وكونهم مسلمين أو بشفاعة من الشفعاء فيهم مع توحيدهم وإخلاصهم.
وقد يعاقبهم سبحانه ولا يحصل لهم عفو فيعاقبون بإدخالهم النار وتعذيبهم فيها على قدر معاصيهم ثم يخرجون منها، كما تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه يشفع للعصاة من أمته، وأن الله يحد له حدا في ذلك عدة مرات، يشفع ويخرج جماعة بإذن الله ثم يعود فيشفع، ثم يعود فيشفع، ثم يعود فيشفع عليه الصلاة والسلام (أربع مرات) وهكذا الملائكة، وهكذا المؤمنون وهكذا الأفراط كلهم يشفعون ويخرج الله سبحانه من النار بشفاعتهم من شاء سبحانه وتعالى، ويبقي في النار بقية من العصاة من أهل التوحيد والإسلام فيخرجهم الرب سبحانه بفضله ورحمته بدون شفاعة أحد، ولا يبقى في النار إلا من حكم عليه القرآن بالخلود الأبدي وهم الكفار.
وبهذا تعلم السائلة الجمع بين الآيتين وما جاء في معناهما من النصوص، وأن أحاديث الوعد بالجنة لمن مات على الإسلام
__________
(1) سورة النساء الآية 48(24/226)
على عمومها إلا من أراد الله تعذيبه بمعصيته فهو سبحانه الحكيم العدل في ذلك يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد جل وعلا.
ومنهم من لا يعذب فضلا من الله لأسباب كثيرة من أعمال صالحة، ومن شفاعة الشفعاء، وفوق ذلك رحمته وفضله سبحانه وتعالى لمن بقي في النار من العصاة.(24/227)
69 - تفسير قوله الله تعالى:
{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (1) .
س: قال الله تعالى {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (2) هل معنى هذا أن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بكتاب الله، ولا يجتهد رأيه فيما لم ينزل عليه كتاب؟ وهل اجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ج: الله جل وعلا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بين الناس بما أنزل الله عليه، قال سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (3)
__________
(1) سورة النساء الآية 105
(2) سورة النساء الآية 105
(3) سورة المائدة الآية 49(24/227)
فكان يحكم بما أنزل الله، فإذا لم يكن هناك نص عنده اجتهد عليه الصلاة والسلام وحكم بما عنده من الأدلة الشرعية، كما قال في الحديث الصحيح: «إنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار فليحملها أو يذرها (1) » ، متفق على صحته من حديث أم سلمة رضي الله عنها، ومعنى هذا أنه قد يجتهد في الحكم حسب القواعد الشرعية؛ لأنه لم ينزل عليه فيه شيء، فمن عرف أن الحكم ليس بمطابق وأن الشهود زور فقد أخذ قطعة من النار، فليحذر ذلك وليتق الله في نفسه، ولو كان الرسول هو الحاكم عليه، لأن الحاكم ليس له إلا الظاهر من ثقة الشهود وعدالتهم، أو يمين المدعي عليه، فإذا كان المدعو أحضر شهودا علم أنهم قد غلطوا ولو كانوا تقاة وأن الحق ليس له، أو يعلم أنهم شهود زور ولكن القاضي اعتبرهم عدولا، لأنهم عدلوا عنده وزكوا لديه، فإن هذا المال الذي يحكم به له أو القصاص كله باطل بالنسبة إليه لعلمه ببطلانه، وهو قد تعدى حدود الله
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب (الأقضية) برقم (3232) .(24/228)
وظلم، وإن حكم له القاضي ليس له إلا الظاهر؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار (1) » ، والنبي صلى الله عليه وسلم يحكم بما أنزل الله فيما أوصاه الله إليه، وما لم يكن فيه نص اجتهد فيه عليه الصلاة والسلام حتى تتأسى به الأمة، وهو في ذلك كله يعتبر حاكما بما أنزل الله لكونه حكم بالقواعد الشرعية التي أمر الله أن يحكم بها، ولهذا قال للزبير بن العوام رضي الله عنه لما ادعى على شخص في أرض: «شاهداك أو يمينه، فقال الزبير: إذا يحلف يا رسول الله ولا يبالي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس لك إلا ذلك (2) » متفق عليه، «ولما بعث معاذا وفدا إلى اليمن قال له: "إن عرض لك قضاء فبم تحكم"؟ قال: أحكم بكتاب الله، قال: فإن لم تجد"، قال: فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "فإن لم تجد"، قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضربه صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله (3) » ، رواه الإمام أحمد وجماعة بإسناد حسن.
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2458) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن الترمذي الأحكام (1339) ، سنن النسائي كتاب آداب القضاة (5422) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، مسند أحمد بن حنبل (6/320) ، موطأ مالك الأقضية (1424) .
(2) صحيح البخاري الشهادات (2670) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب (الأقضية) برقم (3119) ، وأحمد في (مسند الأنصار رضي الله عنهم) برقم (21000، 21084) .(24/229)
70 - شرح معنى قوله تعالى:
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (1)
س: لقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (2) ما المقصود بالمنافقين والنفاق في هذه الآية الكريمة، وأرجو أن تتفضلوا بإيضاح المعنى؟
ج: المراد بالمنافقين هم: الذين يتظاهرون بالإسلام وهم على غير الإسلام يدعون أنهم مسلمون وهم في الباطن يكفرون بالله ويكذبون الرسول عليه الصلاة والسلام، هؤلاء هم المنافقون سموا منافقين؛ لأنهم أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، كما في قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (3) {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (4) {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} (5) (أي شك وريب) {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (6) والآيات بعدها من سورة البقرة.
__________
(1) سورة النساء الآية 145
(2) سورة النساء الآية 145
(3) سورة البقرة الآية 8
(4) سورة البقرة الآية 9
(5) سورة البقرة الآية 10
(6) سورة البقرة الآية 10(24/230)
هؤلاء هم المنافقون وهم يكفرون بالله ويكذبون رسله في قوله جل وعلا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (1) {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (2)
والمعنى: أنهم مترددون بين الكفار والمسلمين تارة مع الكفار إذا ظهر الكفار وانتصروا، وتارة مع المؤمنين إن ظهروا وانتصروا، فليس عندهم ثبات ولا دين مستقيم ولا إيمان ثابت، بل هم مذبذبون بين الكفر والإيمان وبين الكفار والمسلمين، وقد صرح الله بكفرهم في قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} (3) {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (4) هؤلاء هم المنافقون، نسأل الله العافية والسلامة.
__________
(1) سورة النساء الآية 142
(2) سورة النساء الآية 143
(3) سورة التوبة الآية 54
(4) سورة التوبة الآية 55(24/231)
71 - تفسير قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} (1)
س: ما معنى قول الحق تبارك وتعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (2) .
ج: هذه الآية العظيمة يحذر الله فيها سبحانه عباده من الأمن من مكره فيقول سبحانه: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (3) المقصود من هذا: تحذير العباد من الأمن من مكره بالإقامة على معاصيه والتهاون بحقه، والمراد من مكر الله بهم كونه يملي لهم ويزيدهم من النعم والخيرات وهم مقيمون على معاصيه وخلاف أمره، فهم جديرون بأن يؤخذوا على غفلتهم ويعاقبوا على غرتهم؛ بسبب إقامتهم على معاصيه، وأمنهم من عقابه وغضبه، كما قال سبحانه: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} (4) {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (5) وقال عز وجل: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (6) وقال سبحانه:
__________
(1) سورة الأعراف الآية 99
(2) سورة الأعراف الآية 99
(3) سورة الأعراف الآية 99
(4) سورة الأعراف الآية 182
(5) سورة الأعراف الآية 183
(6) سورة الأنعام الآية 110(24/232)
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (1) أي: آيسون من كل خير.
فالواجب على المسلمين ألا يقنطوا من رحمة الله ولا يأمنوا من مكره وعقوبته، بل يجب على كل مسلم أن يسير إلى الله سبحانه في هذه الدنيا الدار الفانية بين الخوف والرجاء، فيذكر عظمته وشدة عقابه إذا خالف أمره فيخافه ويخشى عقابه، ويذكر رحمته وعفوه ومغفرته وجوده وكرمه فيحسن به الظن، ويرجو كرمه وعفوه، والله الموفق سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 44(24/233)
72 - تفسير قوله تعالى:
{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1)
س: سائل يسأل عن تفسير قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) .
ج: هذه الآية نزلت في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى بعض
__________
(1) سورة التوبة الآية 1
(2) سورة التوبة الآية 1(24/233)
المشركين عهدا معلوما، وبعضهم بينه وبينهم عهد مطلق، وبعضهم لا عهد له، فأنزل الله هذه الآية فيها البراءة من المشركين، وفيها نبذ العهود إليهم؛ ولهذا قال سبحانه: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (2) الآية.
فالله سبحانه أمر رسوله أن يتبرأ منهم، ومن كان له عهد فهو إلى مدته، ومن كان عهده مطلقا أو لا عهد له جعله الله له أربعة أشهر، وبعث الصديق رضي الله عنه، وعليا رضي الله عنه ومن معهما في عام تسع من الهجرة ينادون في الموسم: من كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد أو له عهد مطلق فله أربعة أشهر، بعدها يكون حربا للرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن يدخلوا في الإسلام، هذا هو معنى الآية عند أهل العلم.
__________
(1) سورة التوبة الآية 1
(2) سورة التوبة الآية 2(24/234)
73 - تفسير قوله تعالى:
إلا الذين عاهدتم من المشركين
س: سائل يسأل عن: تفسير الآية الرابعة من سورة التوبة: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (1) ؟ (2)
ج: الذين لهم عهد، أمر الله رسوله أن يتم عهدهم لهم، ما لم يغيروا أو ينقضوا العهد أو يظاهروا أعداء المسلمين، فإن ظاهروهم وجب قتالهم، وإن نقضوا العهد فكذلك، ولذلك لما ساعدت قريش بني بكر على خزاعة انتقض عهد قريش وبني بكر، وحاربهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، ودخل مكة وفتحها عنوة عام ثمان من الهجرة، لنقضهم العهد؛ لأن خزاعة كانت في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت بنو بكر في حلف قريش وعهدهم، فهجدت بنو بكر خزاعة، يعني: تعدت عليهم، وأتوهم بغتة - أي: فجاءة - وقاتلوهم وهم في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستنجدوا بالرسول صلى الله عليه
__________
(1) سورة التوبة الآية 4
(2) نشر في هذا المجموع ج 8 ص 290.(24/235)
وسلم وطلبوا منه أن ينصرهم ووعدهم النصر، وكانت قريش قد ساعدتهم بالمال والسلاح، فلهذا غزاهم النبي صلى الله عليه وسلم وفتح الله عليه مكة لنقضهم العهد، وكان قد عاهدهم عشر سنين، فلما نقضوا العهد بمساعدتهم بني بكر انتقض عهدهم، وغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم وفتح الله عليه.(24/236)
74 - تفسير قوله تعالى:
{فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} (1)
س: من الآية رقم 76 إلى الآية 78 من سورة التوبة، إن أمكن تفسير مركز للآيات.
وهل ينطبق ذلك على عبد قد عاهد الله على ترك معصية ما، وأغلظ في القول بأن يسخط الله ويغضب عليه إن هو عاد إليها؟
ج: الآيات المشار إليها، وهي قوله تعالى في حق المنافقين: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (2) {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (3) {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (4)
__________
(1) سورة التوبة الآية 76
(2) سورة التوبة الآية 76
(3) سورة التوبة الآية 77
(4) سورة التوبة الآية 78(24/236)
هي دالة على أن من عاهد الله أن يفعل شيئا ثم أخلف عهده أنه بذلك قد تخلق بأخلاق المنافقين، وأنه على خطر عظيم من أن يعاقب بالنفاق في قلبه جزاء له على إخلافه الوعد وكذبه، وهو سبحانه بذلك يحذر عباده من أخلاق المنافقين، ويحثهم سبحانه على الصدق والوفاء بالعهود، وأوضح لهم سبحانه أنه يعلم سرهم ونجواهم، ولا يخفى عليه شأن من شئونهم، وهذا لا يمنع التوبة، فمن تاب إلى الله سبحانه توبة نصوحا تاب الله عليه من جميع الذنوب، سواء كان كفرا أو نفاقا أو دونهما، كما قال سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (1) وقال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وقال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (3)
__________
(1) سورة طه الآية 82
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة الزمر الآية 53(24/237)
وقد أجمع العلماء على أن هذه الآية في التائبين.
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (1) » ، وصح أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الإسلام يهدم ما كان قبله، والتوبة تهدم ما كان قبلها (2) » .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه برقم (4240) كتاب (الزهد) باب ذكر التوبة.
(2) أخرجه الإمام أحمد برقم (17145) كتاب (مسند الشاميين) بلفظ: ''إن الإسلام يجب ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها''.(24/238)
75 - تفسير قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (1) وقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (2)
س: يقول بعض الزملاء: من لم يدخل الإسلام يعتبر حرا لا يكره على الإسلام، ويستدل بقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (3) وقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (4)
__________
(1) سورة يونس الآية 99
(2) سورة البقرة الآية 256
(3) سورة يونس الآية 99
(4) سورة البقرة الآية 256(24/238)
فما رأي سماحتكم في هذا؟ (1)
ج: هاتان الآيتان الكريمتان والآيات الأخرى التي في معناهما بين العلماء أنها في حق من تؤخذ منهم الجزية كاليهود والنصارى والمجوس، لا يكرهون، بل يخيرون بين الإسلام وبين بذل الجزية، وقال آخرون من أهل العلم: إنها كانت في أول الأمر ثم نسخت بأمر الله سبحانه بالقتال والجهاد، فمن أبى الدخول في الإسلام وجب جهاده مع القدرة حتى يدخل في الإسلام أو يؤدي الجزية إن كان من أهلها، فالواجب إلزام الكفار بالإسلام إذا كانوا لا يؤخذ منهم الجزية، لأن إسلامهم فيه سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، فإلزام الإنسان بالحق الذي فيه الهدى والسعادة خير له من الباطل، كما يلزم الإنسان بالحق الذي عليه لبني آدم ولو بالسجن أو بالضرب، فإلزام الكفار بتوحيد الله والدخول في دين الإسلام أولى وأوجب، لأن فيه سعادتهم في العاجل والآجل إلا إذا كانوا من أهل الكتاب كاليهود والنصارى أو المجوس، فهذه الطوائف الثلاث جاء الشرع بأنهم يخيرون، فإما أن يدخلوا في الإسلام وإما أن يبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وذهب بعض أهل العلم إلى إلحاق غيرهم بهم في التخيير بين الإسلام والجزية،
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.(24/239)
والأرجح أنه لا يلحق بهم غيرهم، بل هؤلاء الطوائف الثلاث هم الذين يخيرون؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاتل الكفار في الجزيرة ولم يقبل منهم إلا الإسلام، قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ولم يقل: أو أدوا الجزية، فاليهود والنصارى والمجوس يطالبون بالإسلام، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا وجب على أهل الإسلام قتالهم، إن استطاعوا ذلك، يقول عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2)
ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الجزية من المجوس، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم أنهم أخذوا الجزية من غير الطوائف الثلاث المذكورة، والأصل في هذا قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (3) وقوله سبحانه:
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) سورة التوبة الآية 29
(3) سورة البقرة الآية 193(24/240)
{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) وهذه الآية تسمى آية السيف، وهي وأمثالها هي الناسخة للآيات التي فيها عدم الإكراه على الإسلام، والله الموفق.
__________
(1) سورة التوبة الآية 5(24/241)
76 - تفسير قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (1)
س: الأخ إ. ع. ز. من بانياس الساحل في سوريا يقول في سؤاله: قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (2) وهذا يعني أنه سبحانه ألزم نفسه بنفسه إطعام كل ما يدب على هذه الأرض من إنسان أو حيوان أو حشرات إلخ، فبماذا نفسر المجاعة التي تجتاح بلدان قارة أفريقيا؟ (3) .
__________
(1) سورة هود الآية 6
(2) سورة هود الآية 6
(3) السؤال من الأخ إ. ع. ز. من سوريا ونشر في هذا المجموع ج 6 ص 196، وفي المجلة العربية.(24/241)
ج: الآية على ظاهرها، وما يقدر الله سبحانه من الكوارث والمجاعات لا تضر إلا من تم أجله وانقطع رزقه، أما من كان قد بقي له حياة أو رزق فإن الله يسوق له رزقه من طرق كثيرة قد يعلمها وقد لا يعلمها، لقوله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (2) وقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا} (3) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها (4) » ، وقد يعاقب الإنسان بالفقر وحرمان الرزق لأسباب فعلها من كسل وتعطيل للأسباب التي يقدر عليها، أو لفعله المعاصي التي نهاه الله عنها، كما قال الله سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (5) الآية، وقال عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (6) الآية، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 3
(3) سورة العنكبوت الآية 60
(4) أخرجه الإمام مالك في (الموطأ) كتاب (الجامع) باب: ما جاء في أهل القدر.
(5) سورة النساء الآية 79
(6) سورة الشورى الآية 30(24/242)
ليحرم الرزق بالذنب يصيبه (1) » رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه بإسناد جيد. .
وقد يبتلى العبد بالفقر والمرض وغيرهما من المصائب لاختبار شكره وصبره لقول الله سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (2) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (3) وقوله عز وجل: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (4) والمراد بالحسنات في هذه الآية النعم، وبالسيئات المصائب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن (5) » ، أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وبالله التوفيق.
__________
(1) أخرجه أحمد في (باقي مسند الأنصار) من حديث ثوبان رضي الله عنه برقم (21352) .
(2) سورة البقرة الآية 155
(3) سورة البقرة الآية 156
(4) سورة الأعراف الآية 168
(5) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب (الزهد والرقائق) باب: أمره كله خير برقم (5318) .(24/243)
77 - تفسير الآيات 106 - 108 من سورة هود
س: أرجو شرح معنى هذه الآية وبيان القول الراجح في تفسيرها، يقول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} (1) {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (2) {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (3) هل يفهم من هذا أن من دخل الجنة يخرج منها إذا شاء الله؟ وهل نسخت هاتان الآيتان بشيء من القرآن إذ أنهما وردتا في سورة مكية؟ (4) . .
ج: الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فالآيتان ليستا منسوختين بل هما محكمتان، وقوله جل وعلا: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (5) اختلف أهل العلم في بيان معنى ذلك، مع إجماعهم بأن نعيم أهل الجنة دائم أبدا لا ينقضي ولا يزول ولا يخرجون منها، ولهذا قال بعده
__________
(1) سورة هود الآية 106
(2) سورة هود الآية 107
(3) سورة هود الآية 108
(4) من برنامج (نور على الدرب) رقم الشريط (22) ونشر في هذا المجموع ج4 ص361.
(5) سورة هود الآية 108(24/244)
سبحانه: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (1) لإزالة ما قد يتوهم بعض الناس أن هناك خروجا، فهم خالدون فيها أبدا، وأن هذا العطاء غير مجذوذ أي غير مقطوع، ولهذا في الآيات الأخرى يبين هذا المعنى فيقول سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (2) {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} (3) فبين سبحانه أنهم آمنون - أي آمنون من الموت وآمنون من الخروج وآمنون من الأمراض والأحزان وكل كدر - ثم قال سبحانه وتعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (4) {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (5) فبين سبحانه أنهم فيها دائمون لا يخرجون، وقال عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} (6) {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (7) {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} (8) {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (9) {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} (10) {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (11) {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (12) فأخبر سبحانه أن أهل الجنة في مقام أمين لا يعترضهم خوف ولا زوال نعمة وأنهم آمنون أيضا، فلا خطر عليهم من موت ولا مرض ولا خروج منها
__________
(1) سورة هود الآية 108
(2) سورة الحجر الآية 45
(3) سورة الحجر الآية 46
(4) سورة الحجر الآية 47
(5) سورة الحجر الآية 48
(6) سورة الدخان الآية 51
(7) سورة الدخان الآية 52
(8) سورة الدخان الآية 53
(9) سورة الدخان الآية 54
(10) سورة الدخان الآية 55
(11) سورة الدخان الآية 56
(12) سورة الدخان الآية 57(24/245)
ولا حزن ولا غير ذلك من المكدرات، وأنهم لا يموتون أبدا، ومعنى ذلك أن أهل الجنة يخلدون فيها أبد الآباد.
وقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (1) قال بعض أهل العلم: معناه: مدة بقائهم بالقبور وإن كان المؤمن في روضة من رياضها ونعيم من نعيمها، لكن ذلك ليس هو الجنة، ولكن هو شيء من الجنة، فيفتح على المؤمن في قبره باب إلى الجنة يأتيه من ريحها وطيبها ونعيمها ولكنه ليس المحل الجنة، بل ينقل إليها بعد ذلك إلى الجنة فوق السماوات في أعلى شيء، وقال بعضهم: معنى {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (2) أي مدة مقامهم في موقف القيامة للحساب والجزاء بعد خروجهم من القبور ثم ينقلون بعد ذلك إلى الجنة.
وقال بعضهم: المراد جميع الأمرين مدة مقامهم في القبور ومدة مقامهم في الموقف ومرورهم على الصراط كل هذه الأوقات هم فيها ليسوا في الجنة، لكن ينقلون منها إلى الجنة، وقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (3) يعني إلا وقت مقامهم في القبور، وإلا وقت مقامهم في الموقف، وإلا وقت مرورهم على الصراط فهم في هذه الحالة ليسوا في الجنة ولكنهم منقولون إليها وسائرون إليها، وبهذا يعلم أن الأمر واضح ليس فيه شبهة ولا شك ولا ريب فالحمد لله.
__________
(1) سورة هود الآية 107
(2) سورة هود الآية 107
(3) سورة هود الآية 107(24/246)
فأهل الجنة ينعمون فيها وخالدون أبد الآباد، لا موت ولا مرض، ولا خروج، ولا كدر، ولا حزن، ولا حيض، ولا نفاس، ولا شيء من الأذى أبدا، بل في نعيم دائم وخير دائم.
وهكذا أهل النار مخلدون فيها أبد الآباد ولا يخرجون منها ولا تخرب أيضا هي، بل تبقى وهم باقون فيها.
وقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (1) قيل: مدة مقامهم في المقابر، أو مدة مقامهم في الموقف كما تقدم في أهل الجنة، وهم بعد ذلك يساقون إلى النار ويخلدون فيها أبد الآباد ونسأل الله العافية، وكما قال عز وجل في سورة البقرة: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (2) وقال عز وجل في سورة المائدة في حق الكفرة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (3) وقال بعض السلف: إن النار لها أمد ولها نهاية بعدما يمضي عليها آلاف السنين والأحقاب الكثيرة وأنهم يموتون أو يخرجون منها، وهذا قول ليس بشيء عند جمهور أهل السنة والجماعة، بل هو باطل ترده الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة
__________
(1) سورة هود الآية 107
(2) سورة البقرة الآية 167
(3) سورة المائدة الآية 37(24/247)
كما تقدم، وقد استقر قول أهل السنة والجماعة أنها باقية أبد الآباد وأنهم لا يخرجون منها وأنها لا تخرب أيضا، بل هي باقية أبد الآباد في ظاهر القرآن الكريم وظاهر السنة الثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام، ومن الأدلة على ذلك مع ما تقدم قوله سبحانه في شأن النار: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} (1) وقوله سبحانه في سورة النبأ يخاطب أهل النار: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} (2) نسأل الله السلامة والعافية منها ومن حال أهلها.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 97
(2) سورة النبأ الآية 30(24/248)
78 - تفسير قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (1)
س: يقول الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (2) فما معنى الآية؟ وما المراد بالشرك في الآية الكريمة؟ (3)
__________
(1) سورة يوسف الآية 106
(2) سورة يوسف الآية 106
(3) نشر في مجلة (الدعوة) في العدد (1483) بتاريخ 15\10\1415هـ.(24/248)
ج: قد أوضح العلماء معناها كابن عباس وغيره.
وإن معناها: أن المشركين إذا سئلوا عمن خلق السماوات والأرض ومن خلقهم، يقولون: الله، وهم مع هذا يعبدون الأصنام والأوثان، كاللات، والعزى، ونحوهما، ويستغيثون بها، وينذرون ويذبحون لها.
فإيمانهم هذا هو: توحيد الربوبية، ويبطل ويفسد بشركهم بالله تعالى ولا ينفعهم، فأبو جهل وأشباهه يؤمنون بأن الله خالقهم ورازقهم وخالق السماوات والأرض ولكن لم ينفعهم هذا الإيمان؛ لأنهم أشركوا بعبادة الأصنام والأوثان، هذا هو معنى الآية عند أهل العلم.(24/249)
79 - تفسير قوله تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
س: ما تفسير قول الحق تبارك وتعالى في سورة الرعد: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) (2) ؟
__________
(1) سورة الرعد الآية 11
(2) من برنامج (نور على الدرب) الشريط الثالث عشر، ونشر في هذا المجموع ج 9 ص 297.(24/249)
ج: الآية الكريمة آية عظيمة تدل على أن الله تبارك وتعالى بكمال عدله وكمال حكمته لا يغير ما بقوم من خير إلى شر، ومن شر إلى خير ومن رخاء إلى شدة، ومن شدة إلى رخاء حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإذا كانوا في صلاح واستقامة وغيروا غير الله عليهم بالعقوبات والنكبات والشدائد والجدب والقحط والتفرق وغير هذا من أنواع العقوبات جزاء وفاقا، قال سبحانه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (1) وقد يمهلهم سبحانه ويملي لهم ويستدرجهم لعلهم يرجعون ثم يؤخذون على غرة كما قال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (2) يعني: آيسون من كل خير، نعوذ بالله من عذاب الله ونقمته، وقد يؤجلون إلى يوم القيامة فيكون عذابهم أشد كما قال سبحانه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (3) والمعنى: أنهم يؤجلون ويمهلون إلى ما بعد الموت، فيكون ذلك أعظم في العقوبة وأشد نقمة.
__________
(1) سورة فصلت الآية 46
(2) سورة الأنعام الآية 44
(3) سورة إبراهيم الآية 42(24/250)
وقد يكونون في شر وبلاء ومعاص ثم يتوبون إلى الله ويرجعون إليه ويندمون ويستقيمون على الطاعة فيغير الله ما بهم من بؤس وفرقة ومن شدة وفقر إلى رخاء ونعمة واجتماع كلمة وصلاح حال بأسباب أعمالهم الطيبة وتوبتهم إلى الله سبحانه وتعالى وقد جاء في الآية الأخرى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) فهذه الآية تبين لنا أنهم إذا كانوا في نعمة ورخاء وخير ثم غيروا بالمعاصي غير عليهم - ولا حول ولا قوة إلا بالله - وقد يمهلون كما تقدم والعكس كذلك إذا كانوا في سوء ومعاص أو كفر وضلال ثم تابوا وندموا واستقاموا على طاعة الله غير الله حالهم من الحالة السيئة إلى الحالة الحسنة، وغير تفرقهم إلى اجتماع ووئام، وغير شدتهم إلى نعمة وعافية ورخاء، وغير حالهم من جدب وقحط وقلة مياه، ونحو ذلك إلى إنزال الغيث ونبات الأرض وغير ذلك من أنواع الخير.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 53(24/251)
80 - كيف الجمع بين قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) وبين أن القوم لا يستطيعون أن يغيروا ما كتب لهم
س: ما هو تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2) وتقول السائلة: مع أن الله هو الذي خلق الأنفس وهو الذي يتحكم بتغييرها فكيف يستطيع القوم أن يغيروا ما بأنفسهم ويغيروا ما كتب عليهم، أرجو التفضل بالشرح الوافي حول هذا الموضوع وجزاكم الله خيرا؟ (3)
ج: الله سبحانه هو مدبر الأمور وهو مصرف العبادة كما يشاء سبحانه وتعالى وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة، وهو سبحانه قد شرح لعباده الأسباب التي تقربهم منه وتسبب رحمته وإحسانه إليهم، ونهاهم عن الأسباب التي تسبب غضبه عليهم وبعدهم منه وحلول العقوبات بهم وهم مع ذلك لا يخرجون عن قدره، بفعل الأسباب التي شرعها لهم والتي نهاهم عنها، وهم بذلك لا يخرجون عن قدره سبحانه فالله أعطاهم عقولا وأعطاهم
__________
(1) سورة الرعد الآية 11
(2) سورة الرعد الآية 11
(3) السؤال من (برنامج نور على الدرب) .(24/252)
أدوات وأعطاهم أسبابا يستطيعون بها أن يتحكموا فيما يريدون من جلب خير ودفع شر، وهم بهذا لا يخرجون عن مشيئته كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (1) {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2) وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا، «قالوا له: يا رسول الله، إن كان ما نفعله قد كتب علينا وفرغ منه ففيم العمل؟ قال عليه الصلاة والسلام: اعملوا فكل ميسر لما خلق له {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} (4) {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} (5) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (6) {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} (7) {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} (8) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (9) » هكذا قوله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} (10)
__________
(1) سورة التكوير الآية 28
(2) سورة التكوير الآية 29
(3) مسند أحمد بن حنبل (3/304) .
(4) (3) . أما أهل السعادة فييسرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم تلا عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: سورة الليل الآية 5
(5) سورة الليل الآية 6
(6) سورة الليل الآية 7
(7) سورة الليل الآية 8
(8) سورة الليل الآية 9
(9) سورة الليل الآية 10
(10) سورة الرعد الآية 11(24/253)
فأمره نافذ سبحانه وتعالى لكنه جل وعلا يغير ما بالناس إذا غيروا، فإذا كانوا على طاعة واستقامة ثم غيروا إلى المعاصي غير الله حالهم من الطمأنينة والسعادة واليسر والرخاء إلى غير ذلك، وقد يملي لهم سبحانه ويتركهم على حالهم استدراجا، ثم يأخذهم على غرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كما قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (1) وقال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (2)
فالواجب الحذر، وعلى المؤمن أن يتقي الله ويسعى في الحق، وأن يستقيم عليه، وألا يحيد عنه إلى الباطل، فإنه متى حار عنه إلى الباطل فقد تعرض لغضب الله أن يغير قلبه، وأن يغير ما به من نعمة إلى ضدها من جدب وقحط وفقر وحاجة وغير ذلك، وهكذا بعد الصحة إلى المرض، وهكذا بعد الأمن إلى الخوف إلى غير ذلك بأسباب الذنوب والمعاصي، وهكذا العكس إذا كانوا في معاص وشرور وانحراف ثم توجهوا إلى الحق وتابوا إلى الله ورجعوا إليه
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 42
(2) سورة الأنعام الآية 44(24/254)
واستقاموا على دينه، فإن الله يغير ما بهم سبحانه من الخوف والفقر والاختلاف والتشاحن إلى أمن وعافية واستقامة إلى رخاء، وإلى محبة وإلى تعاون وإلى تقارب، فضلا منه سبحانه، ومن هذا قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) فالعبد عنده أسباب، وعنده عمل، وعنده إرادة، وعنده مشيئة، ولكنه بذلك لا يخرج عن قدر الله ومشيئته. فالواجب عليه أن يستعمل ما استطاع في طاعة الله ورسوله، وأن يستقيم على ما أمره الله به، وأن يحذر ما نهى الله عنه ورسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يسأل ربه العون والتوفيق، والله سبحانه هو المتفضل، وهو الموفق، وهو الهادي جل وعلا، وله الفضل، وله النعمة، وله الإحسان، سبحانه وتعالى بيده الفضل، وبيده توفيق العباد، وبه هدايتهم، وبيده إضلالهم، يهدي من يشاء ويضل من يشاء سبحانه.
والخلاصة: أن العبد له أسباب وأعمال، والله أعطاه أدوات يعرف بها الضار والنافع، والخير والشر، فإذا استعمل عقله وأسبابه في الخير جازاه الله على ذلك بالخير العظيم، وأدر عليه نعمه، وجعله في نعمة وعافية بعدما كان في سوء وشر - فإذا تاب إلى الله وأناب واستقام فالله جل وعلا بجوده وكرمه يغير حاله السيئة إلى
__________
(1) سورة الأنفال الآية 53(24/255)
حالة حسنة، وهكذا إذا كان العبد على راحة واستقامة وهدى، ثم انحرف وحاد عن الطريق، وتابع الهوى والشيطان، فالله سبحانه قد يعاجله بالعقوبة، وقد يغير عليه سبحانه وتعالى، فينبغي له أن يحذر وأن لا يغتر بأنعم الله تعالى عليه سبحانه وتعالى.(24/256)
81 - تفسير قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1)
السؤال: قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) على من يعود الضمير في قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ} (3) ؟ (4) .
الجواب: يعود على المدعوين، والمعنى: ادع الناس إلى سبيل ربك، فالضمير في جادلهم يعني المدعوين، سواء كانوا مسلمين أو كفارا، ومثلها قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (5) وأهل الكتاب هم الكفرة من اليهود والنصارى
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة النحل الآية 125
(4) نشر في (جريدة الرياض) العدد (10924) في 26\1\1419هـ.
(5) سورة العنكبوت الآية 46(24/256)
فلا يجوز جدالهم إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم، فالظالم يعامل بما يستحقه.(24/257)
82 - تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} (1)
س: ما تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} (2) ؟
ج: قد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الورود في الآية بأنه: المرور على متن جهنم؛ لأن الصراط منصوب على متنها، فالمتقون يمرون وينجيهم الله من شرها، والكافرون يسقطون فيها، والعاصي على خطر من ذلك، نسأل الله العافية، قال الله سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (3) {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (4)
__________
(1) سورة مريم الآية 71
(2) سورة مريم الآية 71
(3) سورة مريم الآية 71
(4) سورة مريم الآية 72(24/257)
83 - تفسير قوله تعالى
:
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1)
س: أريد من سماحتكم تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2) ؟ .
ج: معنى الآية الكريمة عند العلماء: أن الله سبحانه منورها، فجميع النور الذي في السماوات والأرض ويوم القيامة كان من نوره سبحانه.
والنور نوران: نور مخلوق، وهو ما يوجد في الدنيا والآخرة، وفي الجنة وبين الناس الآن من نور القمر والشمس والنجوم. وهكذا نور الكهرباء. والنار كله مخلوق، وهو من خلقه سبحانه وتعالى.
أما النور الثاني: فهو غير مخلوق، بل هو من صفاته سبحانه وتعالى. والله سبحانه وبحمده بجميع صفاته هو الخالق، وما سواه مخلوق، فنور وجهه عز وجل ونور ذاته سبحانه وتعالى، كلاهما غير مخلوق، بل هما صفه من صفاته جل وعلا.
__________
(1) سورة النور الآية 35
(2) سورة النور الآية 35(24/258)
وهذا النور العظيم له سبحانه، وليس مخلوقا بل هو صفة من صفاته، كسمعه وبصره ويده وقدمه وغير ذلك من صفاته العظيمة سبحانه وتعالى. وهذا هو الحق الذي درج عليه أهل السنة والجماعة.(24/259)
84 - تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} (1) الآية
س: ما معنى قول الحق تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (2) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (3) هل المقصود في الآية أن يفعل الإنسان الكبائر الثلاث ثم يخلد في النار؟ أم المقصود إذا ارتكب إحدى هذه الكبائر يخلد في النار؟ فمثلا: ارتكب جريمة القتل هل يخلد في النار أم لا؟ نرجو أن تتفضلوا بالتفسير المفصل لهذه الآية الكريمة؟
__________
(1) سورة الفرقان الآية 68
(2) سورة الفرقان الآية 68
(3) سورة الفرقان الآية 69(24/259)
ج: هذه الآية العظيمة فيها التحذير من الشرك والقتل والزنا، والوعيد لأصحاب هذه الجرائم بما ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (1) قال بعض المفسرين: إنه جب في جهنم، وقال آخرون معنى ذلك: إنه إثم كبير عظيم، فسره سبحانه بقوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (2) فهذا جزاء من اقترف هذه الجرائم الثلاث أنه يضاعف له العذاب ويخلد فيه مهانا لا مكرما، وهذه الجرائم الثلاث مختلفة في المراتب، فجريمة الشرك: هي أعظم الجرائم وأعظم الذنوب وصاحبها مخلد في النار أبد الآباد، لا يخرج من النار أبدا بإجماع أهل العلم، كما قال الله تعالى في كتابه العظيم: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (3) وقال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) وقال سبحانه:
__________
(1) سورة الفرقان الآية 68
(2) سورة الفرقان الآية 69
(3) سورة التوبة الآية 17
(4) سورة الأنعام الآية 88(24/260)
{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) وقال في حقهم: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (2) والآيات في هذا كثيرة، فالمشرك إذا مات على شركه ولم يتب فإنه مخلد في النار، والجنة عليه حرام والمغفرة عليه حرام بإجماع المسلمين، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (3) وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (4) فجعل المغفرة حراما على المشرك إذا مات على الشرك، أما ما دون الشرك فهو تحت مشيئة الله.
والخلاصة: أن المشرك إذا مات على شركه فهو مخلد في النار أبد الآباد بإجماع أهل العلم، وذلك مثل الذي يعبد الأصنام أو الأحجار أو الأشجار أو الكواكب أو الشمس أو القمر أو الأنبياء، أو يعبد الأموات ومن يسمونهم بالأولياء، أو يستغيث بهم ويطلب منهم المدد، أو العون عند قبورهم، أو بعيدا منها، مثل قول بعضهم: يا سيدي
__________
(1) سورة الزمر الآية 65
(2) سورة المائدة الآية 37
(3) سورة المائدة الآية 72
(4) سورة النساء الآية 48(24/261)
فلان المدد المدد، يا سيدي البدوي المدد المدد، أو يا سيدي عبد القادر أو يا سيدي رسول الله المدد المدد، الغوث الغوث، أو يا سيدي الحسين أو يا فاطمة أو يا ست زينب أو غير ذلك ممن يدعوه المشركون، وهذا كله من الشرك الأكبر والعياذ بالله، فإذا مات عليه صاحبه صار من أهل النار - والعياذ بالله - والخلود فيها.
أما الجريمة الثانية وهي: القتل، والثالثة وهي الزنا: فهاتان الجريمتان دون الشرك، وهما أكبر المعاصي وأخطرها إذا كان من يتعاطاهما لم يستحلهما، بل يعلم أنهما محرمتان، ولكن حمله الغضب أو الهوى أو غير ذلك على الإقدام على القتل وحمله الهوى والشيطان على الزنا، وهو يعلم أن القتل بغير حق محرم، وأن الزنا محرم، فأصحاب هاتين الجريمتين متوعدون بالعقوبة المذكورة، إلا أن يعفو الله عنهم، أو من عليهم بالتوبة النصوح قبل الموت، ولعظم هاتين الجريمتين وكثرة ما يحصل بهما من الفساد قرنهما الله بجريمة الشرك في هذه الآية، وتوعد أهل هذه الجرائم الثلاث بمضاعفة العذاب والخلود فيه تنفيرا منها وتحذيرا للعباد من عواقبها الوخيمة، ودلت النصوص الأخرى من الكتاب والسنة على أن القتل والزنا دون الشرك في حق من لم يستحلهما وأنهما داخلان(24/262)
في قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) أما من استحلهما فهو كافر حكمه حكم الكفرة في الخلود في العذاب يوم القيامة. نسأل الله العافية والسلامة.
أما من تاب من أهل هذه الجرائم الثلاث وغيرها توبة نصوحا فإن الله يغفر له، ويبدل سيئاته حسنات إذا أتبع التوبة بالإيمان والعمل الصالح، كما قال سبحانه بعدما ذكر هذه الجرائم الثلاث وعقوبة أصحابها: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) فالله سبحانه يغفر لأهل المعاصي التي دون الشرك إذا شاء ذلك، أو يعذبهم في النار على قدر معاصيهم ثم يخرجهم منها بشفاعة الشفعاء، كشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعة الملائكة والأفراط والمؤمنين، ويبقى في النار أقوام من أهل التوحيد لا تنالهم الشفاعة من أحد فيخرجهم الله سبحانه وتعالى برحمته؛ لأنهم ماتوا على التوحيد والإيمان، ولكن لهم أعمال خبيثة ومعاص دخلوا بها النار، فإذا طهروا منها ومضت المدة التي كتب الله عليهم أخرجوا من النار برحمة من الله عز وجل، ويلقون في نهر يقال له (نهر الحياة) من أنهار الجنة ينبتون فيه كما تنبت
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة الفرقان الآية 70(24/263)
الحبة في حميل السيل، فإذا تم خلقهم أدخلهم الله الجنة، وبهذا يعلم أن العاصي كالقاتل والزاني لا يخلد في النار خلود الكفار، بل له خلود خاص على حسب جريمته لا كخلود الكفار، فخلود الشرك خلود دائم ليس له منه محيص وليس له نهاية، كما قال تعالى في سورة البقرة في حق المشركين: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (1) وقال تعالى في سورة المائدة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (3) أما من دخل النار من العصاة فإنهم يخرجون منها إذا تمت المدة التي كتب الله عليهم، وإما بشفاعة الشفعاء، وإما برحمة الله سبحانه وتعالى من دونها شفاعة أحد، كما جاء ذلك في أحاديث الشفاعة المتواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن فيها أنه يبقى في النار أقوام لم يخرجوا بشفاعة الشفعاء، فيخرجهم سبحانه منها بدون شفاعة أحد، لكونهم ماتوا على التوحيد، وخلود من يخلد من العصاة في النار خلود مؤقت له نهاية، والعرب تسمى الإقامة
__________
(1) سورة البقرة الآية 167
(2) سورة المائدة الآية 36
(3) سورة المائدة الآية 37(24/264)
الطويلة خلودا، كما قال بعض الشعراء يصف قوما:
أقاموا فأخلدوا
. أي طولوا الإقامة، فلا يخلد في النار الخلود الدائم إلا أهلها وهم الكفرة فتطبق عليهم ولا يخرجون منها كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} (1) {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} (2) وقال سبحانه: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} (3) {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} (4) نسأل الله العافية والسلامة.
__________
(1) سورة البلد الآية 19
(2) سورة البلد الآية 20
(3) سورة الهمزة الآية 8
(4) سورة الهمزة الآية 9(24/265)
85 - تفسير قوله تعالى: {الم} (1) {غُلِبَتِ الرُّومُ} (2)
س: ما تفسير هذه الآيات الكريمات منها قوله تعالى: {الم} (3) {غُلِبَتِ الرُّومُ} (4) {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (5) ؟ أرجو من فضيلة الشيخ تفسير هذه الآيات الكريمة، ومن هم الروم المذكورون فيها؟
ج: الروم: هم النصارى المعروفون، وكانت الحرب بينهم وبين الفرس سجالا، تارة يدال هؤلاء على هؤلاء، وتارة هؤلاء على هؤلاء، أخبر الله سبحانه وتعالى أنهم غلبوا، غلبتهم الفرس:
__________
(1) سورة الروم الآية 1
(2) سورة الروم الآية 2
(3) سورة الروم الآية 1
(4) سورة الروم الآية 2
(5) سورة الروم الآية 3(24/265)
{فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (1) {فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (2) فوقع ذلك فغلبت الروم الفرس، وكان ذلك في أول مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كان الرسول عليه الصلاة والسلام في مكة، وكان ذلك من الآيات والدلائل على صدقه - صلى الله عليه وسلم - وأنه رسول الله حقا، لوقوع الأمر، كما أخبر الله به في كتابه العظيم.
فالله جل وعلا هو العالم بالمغيبات، ويخبر نبيه بما يشاء منها سبحانه وتعالى، كما أخبره عن الكثير مما يكون في آخر الزمان، كما أخبره فيما مضى من الزمان؛ من أخبار عاد، وثمود، وقوم نوح، وفرعون وغيرهم، وكما أخبره أيضا عليه الصلاة والسلام عما يكون يوم القيامة، ومن حال أهل الجنة وأهل النار إلى غير ذلك، فهذا من جملة الأخبار الغيبية التي أخبر بها القرآن ووقعت كما أخبر، وكان ذلك من علامة صدق الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد فرح المسلمون بذلك؛ لأن الروم أقرب إلى المسلمين من الفرس؛ لأنهم أهل كتاب،
__________
(1) سورة الروم الآية 3
(2) سورة الروم الآية 4(24/266)
والفرس عباد أوثان؛ ولهذا قال عز وجل: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (1) {بِنَصْرِ اللَّهِ} (2) الآية.
__________
(1) سورة الروم الآية 4
(2) سورة الروم الآية 5(24/267)
86 - تفسير قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} (1)
س: قوله سبحانه: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2) هل المثل يعنى الشبيه؟
ج: يعني المثل: الوصف الأعلى من كل الوجوه، فهو سبحانه الموصوف بالكمال المطلق من كل الوجوه، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3) وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (4) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (5) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (6) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (7) والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الروم الآية 27
(2) سورة الروم الآية 27
(3) سورة الشورى الآية 11
(4) سورة الإخلاص الآية 1
(5) سورة الإخلاص الآية 2
(6) سورة الإخلاص الآية 3
(7) سورة الإخلاص الآية 4(24/267)
87 - تفسير قوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1)
س: أرجو تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (2) ؟
ج: هذه الآية عظيمة، وهي تدل على: أن العلماء وهم العلماء بالله وبدينه وبكتابه العظيم وسنة رسوله الكريم، هؤلاء هم أكمل الناس خشية لله، وأكملهم تقوى لله وطاعة له سبحانه، وعلى رأسهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فمعنى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ} (3) أي الخشية الكاملة من عباده: العلماء، وهم الذين عرفوا ربهم بأسمائه وصفاته وعظيم حقه سبحانه وتعالى، وتبصروا في شريعته، وآمنوا بما عنده من النعيم لمن اتقاه، وما عنده من العذاب لمن عصاه وخالف أمره، فهم لكمال علمهم بالله، وكمال معرفتهم بالحق كانوا أشد الناس خشية لله، وأكثر الناس خوفا من الله وتعظيما له سبحانه وتعالى، وليس معنى الآية: أنه لا يخشى الله إلا العلماء، فإن كل مسلم ومسلمة وكل مؤمن ومؤمنة يخشى الله عز وجل ويخافه سبحانه، لكن الخوف
__________
(1) سورة فاطر الآية 28
(2) سورة فاطر الآية 28
(3) سورة فاطر الآية 28(24/268)
متفاوت ليسوا على حد سواء، فكل ما كان المؤمن أعلم بالله وأفقه في دينه كان خوفه من الله أكثر وخشيته أكمل، وهكذا المؤمنة كلما كانت أعلم بالله وأعلم بصفاته وعظيم حقه كان خوفها من الله أعظم وكانت خشيتها لله أكمل من غيرها، وكلما قل العلم وقلت البصيرة قل الخوف من الله وقلت الخشية له سبحانه، فالناس متفاوتون في هذا حتى العلماء متفاوتون، فكلما كان العالم أعلم بالله وكلما كان العالم أقوم بحقه وبدينه وأعلم بأسمائه وصفاته كانت خشيته لله أكمل ممن دونه في هذه الصفات، وكلما نقص العلم نقصت الخشية لله، ولكن جميع المؤمنين والمؤمنات كلهم يخشون الله سبحانه وتعالى على حسب علمهم ودرجاتهم في الإيمان؛ ولهذا يقول جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (1) {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (2) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (3) وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (4) فهم مأجورون
__________
(1) سورة البينة الآية 7
(2) سورة البينة الآية 8
(3) سورة الملك الآية 12
(4) سورة الرحمن الآية 46(24/269)
على خشيتهم لله، وإن كانوا غير علماء وكانوا من العامة، لكن كمال الخشية يكون للعلماء؛ لكمال بصيرتهم وكمال علمهم بالله، فتكون خشيتهم لله أعظم؛ وبهذا يتضح معنى الآية ويزول ما يتوهم بعض الناس من الإشكال في معناها. والله ولي التوفيق.(24/270)
88 - تفسير قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} (1) الآية
س: ما تفسير قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (2) {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (3) {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (4) ؟
ج: هذه الآية الكريمة فسرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر - رضي الله عنه - وهو قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (5) ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر قال: «يا أبا ذر، أتدري ما مستقرها؟ فقال أبو ذر: الله ورسوله أعلم، قال - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) سورة يس الآية 38
(2) سورة يس الآية 38
(3) سورة يس الآية 39
(4) سورة يس الآية 40
(5) سورة يس الآية 38(24/270)
مستقرها: أنها تسجد تحت عرش ربها عز وجل ذاهبة وآيبة بأمره سبحانه وتعالى (1) » . سجودا الله أعلم بكيفيته سبحانه وتعالى.
وهذه المخلوقات كلها تسجد لله وتسبح له جل وعلا، تسبيحا وسجودا يعلمه سبحانه، وإن كنا لا نعلمه ولا نفقهه، كما قال عز وجل: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (2) وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (3) الآية، هذا السجود يليق به، لا يعلم كيفيته إلا الله سبحانه، ومن هذا قوله تعالى في سورة الرعد: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (4) فالشمس تجري كما أمرها الله تطلع من المشرق وتغيب من المغرب إلى آخر الزمان، فإذا قرب قيام
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (بدء الخلق) باب: صفة الشمس والقمر برقم (2960) .
(2) سورة الإسراء الآية 44
(3) سورة الحج الآية 18
(4) سورة الرعد الآية 15(24/271)
الساعة طلعت من مغربها، وذلك من أشراط الساعة العظمى، كما تواترت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا انتهى هذا العالم وقامت القيامة كورت، كما قال تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (1) فتكور ويذهب نورها وتطرح هي والقمر في جهنم؛ لأنهما قد ذهبت الحاجة إليهما بزوال هذه الدنيا.
والمقصود: أنها تجري لمستقر لها ذاهبة وآيبة، ومستقرها سجودها تحت العرش في سيرها طالعة وغاربة، كما تقدم ذكر ذلك في الحديث الصحيح، ذلك بتقدير العزيز العليم، وهو الذي قدر سبحانه وتعالى لها ذلك.
العزيز، ومعناه: المنيع الجناب الغالب لكل شيء، العليم بأحوال خلقه سبحانه وتعالى. والله ولى التوفيق.
__________
(1) سورة التكوير الآية 1(24/272)
89 - تفسير قوله تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} (1)
س: ما تفسير قوله سبحانه وتعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} (2) . من هو المستثنى هنا؟
ج: الله أعلم. وقال بعض أهل العلم: إنهم الملائكة، وقال بعضهم: إنهم الشهداء. والله سبحانه وتعالى هو أعلم بمراده بذلك.
__________
(1) سورة الزمر الآية 68
(2) سورة الزمر الآية 68(24/273)
90 - تفسير قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: (2) .
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 3137 في 11\7\1408هـ. الذي نصه: لقد كنا في حلقة
__________
(1) سورة الفتح الآية 10
(2) صدرت من مكتب سماحته برقم 2823\2 في 17\9\1408هـ.(24/273)
تفسير في مسجد بمنطقة الصليبية في الكويت، وقد تعرض إمام المسجد إلى تفسير قول الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (1) . فقال: قيل معناها: منة الله عليهم، وقيل: قوة الله معهم، وقيل: الله عليم بحالهم ونياتهم. فتكلم أحد الشباب من إخواننا في الله بعد الدرس، وقال: تفسيرك هذا ليس من عقيدة أهل السنة والجماعة بل هو من كلام الأشاعرة، فغضب الإمام وقال: إن هذا موجود في كتاب الماوردي وابن كثير، فرد الشاب وقال: ليس هذا في ابن كثير، وإنما هو عند الماوردي الأشعري، فلما رأى العامة الشيخ غضبان غضبوا له ورمى بعضهم الشاب بكلمة (أنت مسيحي) (أنت بوذي) وكادوا أن يضربوه لولا أن بعضهم حماه، والله يعلم أن هذا الشاب لم يتكلم إلا غيرة على عقيدة المسلمين، ومن باب أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فأشار الشاب أن يقضي فضيلتكم بينهم فوافق العوام على ذلك، فأفيدونا ونحن بانتظار ردكم وجزاكم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.
الجواب: وأفيدك أن ما نعتقده في إثبات صفة اليد لله تبارك وتعالى وغيرها في الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه العزيز، أو وصفه بها رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - في سنته المطهرة هو: إثباتها لله تبارك وتعالى إثباتا حقيقيا على ما يليق بجلال الله
__________
(1) سورة الفتح الآية 10(24/274)
سبحانه من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل. ونؤمن بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا ننفي عنه ما وصف به نفسه ولا نحرف الكلم عن مواضعه، ولا نكيف ولا نمثل صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سمي له ولا كفؤ له ولا ند له ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى. فكما أن له سبحانه ذاتا حقيقية لا تشبه ذوات خلقه فكذلك له صفات حقيقية لا تشبه صفات خلقه، ولا يلزم من إثبات الصفة للخالق سبحانه. مشابهتها لصفة المخلوق، وهذا هو مذهب سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم في القرون الثلاثة المفضلة، ومن سلك سبيلهم من الخلف إلى يومنا هذا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: حكى غير واحد إجماع السلف أن صفات الباري جل وعلا تجري على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنه، وذلك أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فنقول: إن لله سبحانه يدا وعينا، ولا نقول: إن معنى اليد القدرة، ومعنى السمع العلم، ثم استدل رحمه الله على إثبات صفة اليد لله سبحانه من القرآن بقول الله سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 64(24/275)
وقال تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) وقال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (2) وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (3) وقال تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4) ثم قال رحمه الله تعالى: فالمفهوم من هذا الكلام أن لله تعالى يدين مختصتين به ذاتيتين له كما يليق بجلاله، وأنه سبحانه خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس، وأنه سبحانه يقبض الأرض ويطوي السماوات بيده اليمنى وأن يديه مبسوطتان، ومعنى بسطهما: بذل الجود وسعة العطاء؛ لأن الإعطاء والجود في الغالب يكون ببسط اليد ومدها، وتركه يكون ضما لليد إلى العنق، كما قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (5) وصار من الحقائق العرفية أنه إذا قيل: هو مبسوط اليد
__________
(1) سورة ص الآية 75
(2) سورة الزمر الآية 67
(3) سورة الملك الآية 1
(4) سورة آل عمران الآية 26
(5) سورة الإسراء الآية 29(24/276)
فهم منه يد حقيقية، وقال رحمه الله تعالى: " إن لفظ اليدين بصيغة التثنية لم يستعمل في النعمة ولا في القدرة؛ لأن استعمال لفظ الواحد في الاثنين أو الاثنين في الواحد لا أصل له في لغة العرب التي نزل بها القرآن، فقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) لا يجوز أن يراد به القدرة؛ لأن القدرة صفة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد، ولا يجوز أن يراد به النعمة؛ لأن نعم الله لا تحصى؛ فلا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية. ثم استدل رحمه الله تعالى على إثبات صفة اليد لله سبحانه من السنة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا (2) » . رواه مسلم، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه، والقسط بيده الأخرى يرفع ويخفض إلى يوم القيامة (3) » .
__________
(1) سورة ص الآية 75
(2) أخرجه مسلم في كتاب (الإمارة) باب: فضيلة الإمام العادل برقم (3406) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب (التوحيد) باب قوله تعالى: (لما خلقت بيدي) برقم (6862) ومسلم في كتاب (الزكاة) باب: الحث على النفقة وتبشير المنفق برقم (1659) .(24/277)
رواه مسلم، وفي الصحيح أيضا عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفؤ أحدكم بيده خبزته في السفر (1) » .
وفي الصحيح أيضا عن ابن عمر - رضي الله عنهما - يحكي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يأخذ الرب عز وجل سماواته وأرضه بيديه، وجعل يقبض يديه ويبسطها، ويقول: أنا الرحمن (2) » . حتى نظرت إلى المنبر يتحرك أسفل منه حتى إني أقول: أساقط هو برسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية أنه «قرأ هذه الآية على المنبر: قال يقول الله: " أنا الله أنا الجبار (4) » وذكره، وفي الصحيح أيضا عن أبي
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب (الرقائق) باب: يقبض الله الأرض برقم (6039) ومسلم في كتاب (صفة القيامة والجنة والنار) باب: نزل أهل الجنة برقم (5000) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب (صفة القيامة والجنة والنار) برقم (4996) .
(3) أخرجه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - برقم (5157) .
(4) سورة الزمر الآية 67 (3) {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(24/278)
هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض (1) » ، وفي حديث صحيح: «أن الله لما خلق آدم قال له: ويداه مقبوضتان اختر أيهما شئت، قال: اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته (2) » ، وفي الصحيح: «أن الله كتب بيده على نفسه لما خلق الخلق إن رحمتي تغلب غضبي (3) » ، وفي الصحيح «أنه لما تحاج آدم وموسى قال آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده وقد قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه (4) » ، وفي حديث آخر أنه قال سبحانه: «وعزتي وجلالي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب (الرقائق) باب: يقبض الله الأرض يوم القيامة برقم (6038) ومسلم في كتاب (صفة القيامة والجنة والنار) برقم (4994) .
(2) أخرجه الترمذي في سننه كتاب (تفسير القرآن) باب ومن سورة المعوذتين برقم (3290) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب (التوحيد) برقم (6855) ومسلم في كتاب (التوبة) في سعة رحمة الله تعالى برقم (4939) .
(4) أخرجه الإمام مسلم في كتاب (القدر) باب: حجاج آدم وموسى عليهما السلام برقم (4795) .(24/279)
قلت له كن فكان (1) » . وفي حديث آخر في السنن: «لما خلق الله آدم ومسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره بيده الأخرى فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون (2) » . قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: فهذه الأحاديث وغيرها نصوص قاطعة لا تقبل التأويل، وقد تلقتها الأمة بالقبول والتصديق. ثم قال - رحمه الله تعالى -: فهل يجوز أن يملأ الكتاب والسنة من ذكر اليد، وأن الله تعالى خلق بيده، وأن يديه مبسوطتان، وأن الملك بيده، وفي الحديث ما لا يحصى، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولي الأمر لا يبينون للناس إن هذا الكلام لا يراد به حقيقته ولا ظاهره، حتى ينشأ جهم بن صفوان بعد انقراض عهد الصحابة فيبين للناس ما نزل إليهم على نبيهم، ويتبعه عليه بشر بن غياث ومن سلكوا سبيلهم من كل مغموص عليه بالنفاق، وكيف يجوز أن يعلمنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى (الخرأة) ويقول: «ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا
__________
(1) تفسير ابن كثير ج3 ص52.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب (تفسير القرآن) باب ومن سورة الأعراف برقم (3001) .(24/280)
هالك (1) » . ثم يترك الكتاب المنزل عليه وسنته الغراء مملوءة، مما يزعم الخصم أن ظاهره تشبيه وتجسيم، وأن اعتقاد ظاهره ضلال، وهو لا يبين ذلك ولا يوضحه، وكيف يجوز للسلف أن يقولوا: أمروها كما جاءت. مع أن معناها المجازي هو المراد وهو شيء لا يفهمه العرب حتى يكون أبناء الفرس والروم أعلم بلغة العرب من أبناء المهاجرين والأنصار. اهـ. باختصار من مجموع الفتاوى ج6 ص351 إلى 373، وبما ذكرنا يتضح للجميع أن ما ذكره الشاب هو الصواب. ونسأل الله أن يهدي الجميع لإصابة الحق في القول والعمل إنه سميع مجيب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في سننه كتاب (المقدمة) باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين برقم (43) .(24/281)
91 - ما مدى صحة قصة الغرانيق
س: ورد في تفسير الجلالين في سبب نزول الآية (52) من سورة الحج: أن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يقرأ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} (1) {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} (2) أن الشيطان ألقى على لسانه: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى. فهل هناك ما يدل على صحة هذه القصة من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أم هي من الإسرائيليات؟ أفيدونا أفادكم الله؟
ج: ليس في إلقاء هذه الألفاظ في قراءته - صلى الله عليه وسلم - حديث صحيح يعتمد عليه فيما أعلم، ولكنها رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث مرسلة، كما نبه على ذلك الحافظ ابن كثير في تفسير آية الحج، ولكن إلقاء الشيطان في قراءته - صلى الله عليه وسلم - في آيات النجم وهي قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} (3) الآيات، شيء ثابت بنص الآية في سورة الحج، وهي قوله سبحانه:
__________
(1) سورة النجم الآية 19
(2) سورة النجم الآية 20
(3) سورة النجم الآية 19(24/282)
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1) فقوله سبحانه: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} (2) أي: تلا، وقوله سبحانه: {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (3) أي: في تلاوته، ثم إن الله سبحانه ينسخ ذلك الذي ألقاه الشيطان ويوضح بطلانه في آيات أخرى، ويحكم آياته ابتلاء وامتحانا، كما قال سبحانه بعد هذا: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} (4) الآيات.
فالواجب على كل مسلم أن يحذر ما يلقيه الشيطان من الشبه على ألسنة أهل الحق وغيرهم، وأن يلزم الحق الواضح الأدلة، وأن يفسر المشتبه بالمحكم حتى لا تبقى عليه شبهة، كما قال الله سبحانه في أول سورة آل عمران: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (5)
__________
(1) سورة الحج الآية 52
(2) سورة الحج الآية 52
(3) سورة الحج الآية 52
(4) سورة الحج الآية 53
(5) سورة آل عمران الآية 7(24/283)
وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عائشة - رضي الله عنها - أنه قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله؛ فاحذروهم (1) » . متفق على صحته. والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب (تفسير القرآن) باب منه آيات محكمات برقم (4183) ومسلم في كتاب (العلم) باب (النهي عن اتباع متشابه القرآن) برقم (4817) .(24/284)
92 - تفسير قوله تعالى: {إِلَّا اللَّمَمَ} (1)
س: ما هو المراد بكلمة {اللَّمَمَ} (2) في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} (3) الآية؟ .
ج: إن علماء التفسير - يرحمهم الله - اختلفوا في تفسير ذلك، وذكروا أقوالا في معناه، أحسنها قولان:
__________
(1) سورة النجم الآية 32
(2) سورة النجم الآية 32
(3) سورة النجم الآية 32(24/284)
أحدهما: أن المراد به: ما يلم به الإنسان من صغائر الذنوب، كالنظرة والاستماع لبعض ما لا يجوز من محقرات الذنوب وصغائرها ونحو ذلك، وهذا مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وجماعة من السلف، واحتجوا على ذلك بقوله سبحانه في سورة النساء: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (1) قالوا: المراد بالسيئات المذكورة في هذه الآية: هي صغائر الذنوب، وهي: اللمم؛ لأن كل إنسان يصعب عليه التحرز من ذلك، فمن رحمة الله سبحانه أن وعد المؤمنين بغفران ذلك لهم إذا اجتنبوا الكبائر، ولم يصروا على الصغائر.
وأحسن ما قيل في ثبوت الكبائر أنها المعاصي التي فيها حد في الدنيا؛ كالسرقة، والزنا، والقذف، وشرب المسكر، أو فيها وعيد في الآخرة بغضب من الله أو لعنة أو نار؛ كالربا، والغيبة، والنميمة، وعقوق الوالدين.
ومما يدل على غفران الصغائر باجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، فهو مدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، وزنا الأذن الاستماع،
__________
(1) سورة النساء الآية 31(24/285)
وزنا اليد البطش، وزنا الرجل الخطى، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه (1) » .
ومن الأدلة على وجوب الحذر من الصغائر والكبائر جميعا وعدم الإصرار عليها: قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2) {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (3)
القول الثاني: أن المراد باللمم: هو ما يلم به الإنسان من المعاصي ثم يتوب إلى الله من ذلك، كما قال في الآية السابقة وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} (4) الآية، وقوله سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (5) وما جاء في معنى ذلك من الآيات الكريمات،
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب (الاستئذان) باب زنا الجوارح دون الفرج برقم (5774) ، ومسلم في كتاب (القدر) باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا برقم (4801) .
(2) سورة آل عمران الآية 135
(3) سورة آل عمران الآية 136
(4) سورة آل عمران الآية 135
(5) سورة النور الآية 31(24/286)
قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون (1) » . ولأن كل إنسان معرض للخطأ.
والتوبة النصوح يمحو الله بها الذنوب، وهي المشتملة على الندم على ما وقع من المعصية، والإقلاع عنها، والعزيمة الصادقة على ألا يعود إليها، خوفا من الله سبحانه، وتعظيما له، ورجاء مغفرته.
ومن تمام التوبة إذا كانت المعصية تتعلق بحق الآدميين، كالسرقة، والغصب، والقذف، والضرب، والسب، والغيبة ونحو ذلك: أن يعطيهم حقوقهم، أو يستحلهم منها إلا إذا كانت المعصية غيبة، وهي: الكلام في العرض - ولم يتيسر استحلال صاحبها، من وقوع شر أكثر، فإنه يكفي في ذلك أن يدعو له بظهر الغيب، وأن يذكره بما يعلم من صفاته الطيبة، وأعماله الحسنة في الأماكن التي اغتابه فيها، ولا حاجة إلى إخباره بغيبته إذا كان يخشى الوقوع في شر أكثر.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما فيه رضاه، وأن يحفظنا وإياكم من كل سوء، وأن يمن علينا جميعا بالاستقامة على دينه، والسلامة من أسباب غضبه، والتوبة إليه سبحانه من جميع ما يخالف شرعه، إنه جواد كريم.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (12576) .(24/287)
93 - تفسير قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} (1)
س: سائل يسأل عن تفسير قول الحق تبارك وتعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} (2) هل هذان البحران في الدنيا أم في الآخرة؟
ج: هذان البحران في الدنيا، فالبحار تختلط، ثم إذا أراد الله تمييزها تميز هذا من هذا، وخرج ماء النهر وحده وماء البحر وحده، بينهما برزخ لا يبغيان، لا يبغي هذا على هذا، فالأنهار تجري على حالها حلوة والبحار على حالها مالحة وبينهما برزخ لا يبغي هذا على هذا ينفصل هذا عن هذا.
__________
(1) سورة الرحمن الآية 19
(2) سورة الرحمن الآية 19(24/288)
94 - تفسير قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (1)
س: ما رأي سماحتكم فيمن قال في معنى اسم الله الظاهر: أي: الظاهر في كل شيء، هل يدخل هذا في القول بالحلول أم لا؟
ج: هذا باطل؛ لأنه خلاف ما فسر به النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية الكريمة؛ فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اللهم أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، فاقض عني الدين وأغنني من الفقر (2) » . أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، فالظاهر معناها: العالي فوق جميع الخلق، ولكن آياته ودلائل وجوده وملكه وعلمه موجودة في كل شيء، وأنه رب العالمين، وخالقهم ورازقهم، فأنت أيها الإنسان الذي أعطاك الله السمع والبصر والعقل، وأعطاك هذا البدن والأدوات التي تبطش بها، وتمشي بها من جملة الآيات الدالة على أنه رب العالمين وهكذا السماء والأرض والليل والنهار
__________
(1) سورة الحديد الآية 3
(2) أخرجه مسلم في كتاب (الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار) باب ما يقول عند النوم برقم (4888) .(24/289)
والمعادن والحيوانات وكل شيء، كلها آيات له سبحانه وتعالى تدل على وجوده وقدرته وعلمه وحكمته، وأنه المستحق للعبادة، كما قال الشاعر:
فواعجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
والله يقول جل وعلا: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) ثم قال بعدها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (2) فأوضح سبحانه في هذه الآية أنواعا من مخلوقاته الدالة على أنه سبحانه هو الإله الحق الذي لا تجوز العبادة لغيره سبحانه وتعالى، فكل شيء له في آية ودليل على أنه رب العالمين، وأنه موجود، وأنه الخلاق، وأنه الرزاق، وأنه المستحق لأن يعبد سبحانه وتعالى، وأما معنى الظاهر فهو العالي فوق جميع الخلق، كما تقدم في الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة البقرة الآية 164(24/290)
95 - تفسير سورة التغابن (1) .
بعد تلاوة سورة التغابن قال:
أما بعد: فقد سمعنا جميعا هذه السورة العظيمة سورة التغابن، وقوله تعالى {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) إلى آخر هذه السورة العظيمة وكل سور القرآن عظيمة، بين الله فيها سبحانه أن الخلائق تسبحه جل وعلا، كما بين في سور كثيرة وآيات كثيرة ذلك، فقال في سورة الصف: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (3) وقال في سورة التغابن: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4) وقال في سورة الجمعة: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (5) وقال في سورة بني إسرائيل: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (6)
__________
(1) كلمة وعظية لسماحته في مخيمه بمنى في 11\12\1407هـ.
(2) سورة التغابن الآية 1
(3) سورة الصف الآية 1
(4) سورة التغابن الآية 1
(5) سورة الجمعة الآية 1
(6) سورة الإسراء الآية 44(24/291)
وهذا يدل على أنه جل وعلا يسبحه كل شيء؛ لكمال ملكه وكمال إحسانه سبحانه وتعالى، وهو الخلاق العليم وهو الرزاق العليم والمالك لكل شيء، وهو المحسن لعباده جل وعلا؛ ولهذا قال سبحانه: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (1) من جامد ومتحرك جميع ما في السماوات والأرض، ثم قال: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} (2) وهو المالك لكل شيء، وهو المستحق للثناء سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء قدير؛ ولهذا قال جل وعلا: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (3) لا تفهمونه وهو يعلمه سبحانه وتعالى، فالملائكة والطيور وجميع الحيوانات وجميع المخلوقات تسبحه سبحانه تسبيحا يعلمه هو سبحانه وتعالى، وإن كنا لا نعلم أكثره، فجدير بنا أيها العقلاء، جدير ببني آدم الذين وهبهم الله العقل وأرسل إليهم الرسل، جدير بهم أن يسبحوا الله، وأن يقدسوه
__________
(1) سورة التغابن الآية 1
(2) سورة التغابن الآية 1
(3) سورة الإسراء الآية 44(24/292)
وينزهوه عن كل ما لا يليق به سبحانه وتعالى، وأن يشهدوا له بأنه سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وأنه كامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وأنه مستحق لأن يعبد دون كل ما سواه، فهو المالك لكل شيء، وهو القادر على كل شيء، وهو الخلاق العليم الذي خلق الخلق من عدم وغذاهم بالنعم، وخلق الثقلين ليعبدوه، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل الكتب فضلا منه وإحسانا، ثم قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) فقد سبق في علمه أن أمة بني آدم، وهكذا الجن ينقسمون إلى كافر ومؤمن لحكمة بالغة، فهذا يعصي ويكفر ويتعدى الحدود، وهذا يطيعه ويتبع شريعته وينقاد لأمره والله بما تعملون بصير: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (2) خلق السماوات والأرض بالحق، ما خلقها عبثا ولا سدى، بل خلقها لحكمة عظيمة، وصوركم فأحسن صوركم، صوركم عقلاء تمشون على أقدامكم، ما جعلكم كالبهائم تمشون على أربع، جعلكم تمشون على قدمين رافعي الرءوس مستقيمي البدن، وجعل لكم
__________
(1) سورة التغابن الآية 2
(2) سورة التغابن الآية 3(24/293)
في الوجه العينين والأنف والفم واللسان، وجعلكم تنطقون وتعبرون عن حاجاتكم لا كالبهائم، هذه من نعمه العظيمة وإليه المصير، فهو خلقكم في هذه الدار وصوركم وأحسن صوركم، وعلمكم وأرسل الرسل، وأنزل الكتب لحكمة بالغة، لتعبدوه وتعظموه وتستقيموا على أمره، وتنتهوا عن نهيه سبحانه وتعالى.
فالواجب على العاقل المكلف التنبه لهذا الأمر، وأن يعد العدة للقاء ربه، فهو لم يخلق عبثا، قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} (1) يعني مهملا معطلا لا يؤمر ولا ينهى، كلا بل خلق لأمر عظيم، وأمر بأمر عظيم، وأرسلت له الرسل وأنزلت الكتب، حتى يعلم حق الله وحق عباده، وحتى يؤدي ما عليه من حق لله ولعباده، فهو لن يهمل، قال سبحانه منكرا على من ظن ذلك: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (2) {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} (3) سبحانه وتعالى أن يكون خلقهم عبثا، بل خلقوا لأمر عظيم، خلق هذان الثقلان لأمر عظيم الجن والإنس: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4)
__________
(1) سورة القيامة الآية 36
(2) سورة المؤمنون الآية 115
(3) سورة المؤمنون الآية 116
(4) سورة الذاريات الآية 56(24/294)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (1) ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} (2) هم مخلوقون لأمر عظيم بينه الله في كتابه وبينه رسوله عليه الصلاة والسلام، وهذا الأمر العظيم: أن يعبدوه ويطيعوا أمره ويتبعوا رسله ويعظموا ما عظم، ويذلوا من أذل وينقادوا للأمر ويطيعوه ويقفوا عند الحدود، ثم قال: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (3) إليه المرجع ليس لأحد الفرار منه سبحانه وتعالى، بل إليه ترجع الأمور وإليه يصير الناس، وإليه الجزاء والحكم فيهم، سبحانه وتعالى بعدله، فريق في الجنة وفريق في السعير، ثم قال سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (4) يعلم كل شيء يعلم ما في السماوات من دقيقه وجليه، من ملك وغيره، ويعلم ما في الأرض وطبقاتها وما تحتها وما فيها، ولا يخفى عليه خافية سبحانه وتعالى، ويعلم ما تسرون في قلوبكم وما تعلنونه للناس، لا يخفى
__________
(1) سورة البقرة الآية 21
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة التغابن الآية 3
(4) سورة التغابن الآية 4(24/295)
عليه خافية جل وعلا، إنه عليم بذات الصدور سبحانه وتعالى.
فيا أخي إذا كنت تؤمن بهذا فإياك أن تضمر ما يضر إخوانك أو يضرك، فاحرص على أن تكون سريرتك طيبة تحب الله ورسوله، وتحب إخوانك المؤمنين، وتنصح لله ولعباده، لا تضمر سوءا لنفسك، بل حاسب نفسك وجاهدها لله، والله يعلم ما تسرون وما تعلنون، يعلم السر وأخفى، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور سبحانه وتعالى.
فالواجب على العاقل من ذكر وأنثى أن يحذر كوامن هذه النفوس وما تسره من خبث وشر، وأن يحذرها ما حذره الله منه، وأن يضمر الخير لنفسه، وأن يكون حريصا على طاعة الله ورسوله وعلى نفع عباده، وعلى النصح لهم، وعلى إيصال الخير إليهم، وعلى دفع الشر عنهم هكذا المؤمن، وهو يعلم السر وأخفى، ثم يقول جل وعلا: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (1) ألم تأتكم الأخبار عن الماضين وما جرى عليهم لما غيروا أو بدلوا، وما أصابهم من العقوبات، قد جاءتكم الأنباء الواضحة في القرآن أصدق الكلام: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} (2) فيقول سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (3)
__________
(1) سورة التغابن الآية 5
(2) سورة النساء الآية 122
(3) سورة يوسف الآية 3(24/296)
وهو أحسن القصص وأصدق القصص، وهو أحسن الحديث: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} (1) يعني: يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا فقد نبأنا عمن مضى من الأمم، نبأنا عن آدم وما جرى عليه مع إبليس عدو الله، وما حصل له من الكرامة بإسجاد الملائكة، وأن الله خلقه ونفخ فيه من روحه، وأخبرنا عما أصاب غيره من الأمم، كما أصاب قوم هود وقوم صالح وقوم نوح وقوم شعيب، وقوم لوط وفرعون وقومه؛ لذلك أخبرنا لماذا؟ للعبر لنعتبر، ولقد ذاقوا وبال أمرهم، ذاقوا شر أمرهم، ولهم عذاب أليم، يعني: ذلك الذي فعلوه من الضر ذاقوا وباله في الدنيا قبل الآخرة، وعذاب الآخرة أكبر: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} (2) أي خبر من قبلكم: {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} (4) هذه حالهم لما كفروا وعاندوا أصابهم العقاب المعجل فأصابهم ما أصابهم
__________
(1) سورة الزمر الآية 23
(2) سورة التغابن الآية 5
(3) سورة التغابن الآية 5
(4) سورة التغابن الآية 6(24/297)
أخذهم بالريح العقيم حتى هلكوا، قوم صالح أخذتهم الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين، وقوم لوط أصابهم ما أصابهم من الخسف وقلب مدائنهم عليهم، وأمطرهم ما أمطرهم من الحجارة، وهذا من العذاب المعجل غير عذاب الآخرة: النار، نسأل الله العافية، وقوم شعيب أصابهم ما أصابهم من الرجفة والصيحة حتى هلكوا، وهكذا فرعون أصابه وقومه ما أصابهم من الغرق، كل هذا عبر وعقوبات: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} (1) هكذا كل واحد أخذ بذنبه عجلوا بالعقوبات، وآخرون أمهلوا وأنذروا، وعقوبة الله في الآخرة أشد، ثم يبين سبحانه بعض كفرهم فقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (2) هكذا الكفرة كذبوا بالبعث والنشور، وقالوا: لا جنة ولا نار، ولا بعث ولا نشور، ولا جزاء ولا عقاب، وليس هناك حياة أخرى، إنما هي هذه الدنيا، فمنهم من عاجله الله بالعقوبة، ومنهم من أمهل إلى يوم القيامة، ورد الله عليهم بقوله: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} (3) قل يا محمد يا رسول الله: بلى وربي، حلف بربه لهم عليه الصلاة والسلام، وأمره بأن يحلف لهم
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 40
(2) سورة التغابن الآية 7
(3) سورة التغابن الآية 7(24/298)
معظما ربه: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} (1) يوم القيامة: {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ} (2) لتخبرن بما عملتم: {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (3) وهو لا بد منه، كل ينبأ بما قدم وأخر، وكل إنسان يعطى جزاءه، فالعاقل يعد العدة لهذا اليوم، فلا يتساهل ويعلم أنه ميت وأنه مجازى، قال تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (4) وقال سبحانه: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (5) فيؤمرون بالإيمان بالله ورسوله، والإيمان بالله أنه ربهم وإلههم الحق المستحق للعبادة لا يدعى سواه ولا يستغاث بغيره، ولا ينذر إلا له، ولا يذبح إلا له، كل العبادات له سبحانه كما قال جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (6) وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (7) فآمنوا بالله وبرسوله محمد عليه الصلاة والسلام وأنه رسول الله حقا بعثه الله للناس كافة من جن وإنس، من تبعه وانقاد لشرعه وصدقه فهو السعيد الناجي، ومن حاد عن ذلك فهو الهالك الشقي: {وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} (8)
المراد: ما بعثه الله من النور وهو القرآن العظيم والسنة المطهرة.
__________
(1) سورة التغابن الآية 7
(2) سورة التغابن الآية 7
(3) سورة التغابن الآية 7
(4) سورة التغابن الآية 7
(5) سورة التغابن الآية 8
(6) سورة الإسراء الآية 23
(7) سورة الفاتحة الآية 5
(8) سورة التغابن الآية 8(24/299)
والنور: ما بعثه الله من الهدى والعلم النافع الذي جاء في القرآن العظيم والسنة المطهرة هذا هو النور، من أخذ هذا النور واستضاء به واتبعه فهو السعيد، ومن حاد عن هذا النور فهو الهالك - نعوذ بالله من ذلك - ثم ذكرهم بيوم القيامة فقال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (1) هذا يوم الجمع يوم القيامة يبعث الله فيه الأولين والآخرين، ثم قال في سورة الواقعة: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ} (2) {لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (3) كلهم مجمعون أولهم وآخرهم جنهم وإنسهم: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (4) هذا يوم التغابن وهو يوم القيامة، حين تغبن في سيارة أو في أرض أو في عمارة بمائة ألف أو بمليون أو أكثر أو أقل هذا غبن، لكنه يسير بالنسبة إلى من غبن يوم القيامة وصار إلى النار، نعوذ بالله من هذا المصير، هذا هو الغبن: أن ترى خادمك وجارك وابن عمك إلى الجنة، وأنت تساق إلى النار هذا هو الغبن نعوذ بالله، وأن ترى أناسا تحقرهم في الدنيا، وتراهم فقراء في الدنيا ضعفاء، وتراهم إلى الجنة وإلى الكرامة والمنازل العالية، وأنت وأشباهك تساق إلى النار باستكبارك وعصيانك، هذا هو الغبن العظيم، هذا هو الخسران الكبير: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (5)
__________
(1) سورة التغابن الآية 9
(2) سورة الواقعة الآية 49
(3) سورة الواقعة الآية 50
(4) سورة التغابن الآية 9
(5) سورة التغابن الآية 9(24/300)
أهل النار يغبنون أهل الجنة إلى ما فازوا به من النعيم العظيم والخير الكريم: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (1) هذا اليوم العظيم هذا يوم التغابن، ثم فصل ذلك سبحانه: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) هذه حالة السعداء من آمن بالله واليوم الآخر وعمل الصالحات فله الجنة وأنجاه من النار وهو السعيد: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) ثم يقول جل وعلا في جزاء المعاندين المكذبين بآيات الله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (4)
ينبغي للعاقل أن يتنبه لهذا اليوم ويعد له العدة بماذا؟ بطاعة الله ورسوله، بتوحيد الله والإخلاص له وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، والبراءة من الكفر وأهله، وإقامة أمر الله وترك ما نهى الله عنه، والمحافظة على الصلوات كما أمر الله، وأداء الزكاة كما أمر الله، وصوم رمضان كما أمر الله، والحج كما أمر الله، والجهاد كما أمر الله، وصدق الحديث وبر الوالدين
__________
(1) سورة التغابن الآية 9
(2) سورة التغابن الآية 9
(3) سورة التغابن الآية 9
(4) سورة التغابن الآية 10(24/301)
وصلة الرحم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك ما حرم الله، وعليك أن تجتهد في أداء ما أوجب الله، والبعد عما حرم الله، هذا هو الطريق، وهذا هو الصراط المستقيم، وهذا هو سبيل الله الذي أنت تسأله أن يهديك إليه في قراءتك الفاتحة تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (1) هذا هو الصراط المستقيم، الصراط المستقيم هو: دين الله الإسلام، وهو طاعة الله ورسوله، والانقياد لأمر الله تعالى، وترك ما نهى الله عنه، هذا هو الصراط المستقيم الذي قال الله فيه جل وعلا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (2) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (3) الرسل وأتباعهم، أنعم الله عليهم فهداهم ووفقهم فعلموا وعملوا، علموا الحق وصدقوا به، وعملوا بذلك وانقادوا لأمر الله، هؤلاء هم الذين أنعم الله عليهم، الذين عرفوا الحق في كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وانقادوا له ووالوا عليه وعادوا عليه وأحبوا فيه وأبغضوا فيه، حتى ماتوا عليه، هؤلاء هم أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم، وهو الصراط الذي قال الله فيه في حق محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (4) وهو الذي قال فيه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} (5)
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 6
(2) سورة الفاتحة الآية 6
(3) سورة الفاتحة الآية 7
(4) سورة الشورى الآية 52
(5) سورة الأنعام الآية 153(24/302)
السبل: ما خالف الصراط من البدع والمعاصي والمخالفات، فأنت مأمور باتباع صراط الله وسبيله، وهو دينه الذي بعث الله به نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام، وتوحيده والإخلاص له وطاعة أوامره وترك نواهيه، والوقوف عند حدوده والموالاة في ذلك، والمناصحة في ذلك والمعاداة في ذلك والبغضاء في ذلك، هكذا المؤمن في هذه الدار حتى يلقى ربه، وهذا هو الصراط المستقيم. أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا. وهذا من منافع الحج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (1) من المنافع: أن تشهد نصيحة تنصح بها أو موعظة توعظ بها أو كلمة تنفعك هذه هي المنافع؛ ليشهدوا منافع لهم بأن يسمع المؤمن كلمة تنفعه أو موعظة توجه إليه أو نصيحة توجه إليه في منى أو في مزدلفة أو في عرفات أو في المسجد الحرام أو في أي مكان، ثم يبلغها غيره يسمعها وينتفع بها ويبلغها غيره هذه من المنافع العظيمة، وأنتم منصرفون من هذا المكان بعد مدة يسيرة فاتقوا الله في أنفسكم وحاسبوها ولا ترجعوا إلى المعاصي بعد هذا الحج الذي من الله
__________
(1) سورة الحج الآية 28(24/303)
عليكم به، فالحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، فاحرص يا أخي أن ترجع إلى الخبائث بعدما طهرك الله منها، فاحرص أن تستمر على التوبة والعمل الصالح أينما كنت في بلادك وغير بلادك، واحرص أن تقطع العهد الذي أنت عاهدت الله عليه، وأن تستقيم على دينه، وأن تدع ما نهاك عنه، وأن تقف عند حدوده حتى تلقاه، ولا تقل: أنا شاب سوف أتوب، كم من شاب أخذه الموت قبل أن يشيب، وكم من زارع أصابه الهلاك قبل أن يحصد زرعه، فالموت يأتي بغتة، والعمل الصالح ينفعك في الدنيا والآخرة، ولو عشت ألف عام وأنت في طاعة الله فأنت على خير، لا تغتر بالشباب والقوة والمال، احذر وأعد العدة شابا أو كهلا أو شيخا حتى تلقى ربك، فاحذر أسباب الهلاك، واسأل ربك التوفيق والإعانة فهو سبحانه الهادي والموفق جل وعلا، فاضرع إليه أن يهديك وأن يثبتك وأن يعينك على ذكره وشكره وحسن عبادته. وهذا اليوم يسمى يوم القر، وأن الحجاج قارون في منى ليس فيه نفير، هذا هو أول أيام منى وهو أولها، هذا اليوم الحادي عشر، وأول أيام منى وهو يوم القر، وغدا يوم النفر، يوم الخميس غدا وهو النفر الأول لمن تعجل يوم الثاني عشر لمن تعجل، وهو يوم الخميس في هذه السنة إذا زالت الشمس ورمى الجمرات الثلاث(24/304)
فله التعجل إذا شاء، فيتعجل إلى مكة ويطوف الوداع ويسافر وله البقاء في مكة إذا أراد ما يشاء من الأيام ثم يودع البيت ويسافر، فيقال له يوم النفر الأول وهو اليوم الثاني عشر وهو غدا يوم الخميس، ويوم الجمعة هو النفر الثاني، وهو الثالث عشر يقال له النفر الثاني لمن استكمل الإقامة في منى، والنبي - صلى الله عليه وسلم - استكملها وأقام اليوم الثالث عشر عليه الصلاة والسلام ثم نفر، والأمر بحمد الله واسع قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (1) يعني هذه الثلاثة يعني الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} (2) قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أيام منى ثلاثة من تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه (3) » ، فبعض الناس يغلط فيظن يوم العيد منها، لا، ليس يوم العيد منها، أولها هذا اليوم الحادي عشر، وثانيها غدا يوم الخميس وهو النفر الأول، وثالثها يوم الجمعة وهو النفر الثاني، وليس لأحد أن ينفر إلا بعد طواف
__________
(1) سورة البقرة الآية 203
(2) سورة البقرة الآية 203
(3) أخرجه الإمام أحمد في (أول مسند الكوفيين) من حديث عبد الرحمن بن يعمر رضي الله عنه برقم (18022) .(24/305)
الوداع، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضا: وأمر الناس أن يكون آخر عهدهم البيت، إلا إنه خفف عن المرأة الحائض، فالمرأة التي معها الحيض أو النفاس ليس عليهما وداع إذا كانتا طافتا طواف الإفاضة طواف الحج يوم العيد أو بعده، فليس عليهما طواف الوداع إذا كانتا عند السفر حائضا أو نفساء، أما غيرهما فعليه الوداع إن استطاع ماشيا أو راكبا أو محمولا. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى وتقبل الله من الجميع حجهم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب (الحج) برقم (2350) باب: وجوب الوداع وسقوطه عن الحائض و (3061) .(24/306)
96 - تفسير قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد (2) :
فقد سمعنا جميعا قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (3) حيث إن الكفار كفار العرب وغيرهم، إلا من رحم الله ينكرون البعث والنشور؛ لأنها حياة منتهية ويرون أن من مات مات فلا عودة ولا بعث ولا نشور هكذا قال لهم شيطانهم، وقد بين الله جل وعلا أنه لا بد من البعث والنشور والجزاء والحساب؛ ولهذا قال: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} (4) زعموا: أي كذبوا {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (5) يبعثون وينبئون بأعمالهم خيرها وشرها، هكذا أخبر الله في كتابه العظيم أنه لا بد من البعث والجزاء، قال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} (6)
__________
(1) سورة التغابن الآية 7
(2) كلمة ألقاها سماحته في 11\12\1415 شريط 49\6.
(3) سورة التغابن الآية 7
(4) سورة التغابن الآية 7
(5) سورة التغابن الآية 7
(6) سورة يونس الآية 53(24/307)
فلا بد من البعث والنشور والجزاء والحساب والجنة والنار؛ ولهذا فإن من أصول الإيمان: الإيمان بالأركان الستة التي هي أصول الإيمان: الإيمان باليوم الآخر يوم القيامة والبعث والنشور والجنة والنار والجزاء والحساب، ثم قال جل وعلا: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1) فآمنوا بالله ورسوله أي: آمنوا بالله ربا وإلها ومعبودا بالحق، وهو الخلاق العليم، المالك لكل شيء المدبر لكل شيء، القاهر فوق عباده، المستحق أن يعبد دون كل ما سواه ورسوله محمد عليه الصلاة والسلام وسائر الرسل جميعا، الرسول: مفرد يعم الرسل وبالأخص خاتمهم وإمامهم وأفضلهم محمد عليه الصلاة والسلام، فلا بد من الإيمان بالله وجميع الرسل والأنبياء وبكل ما أخبر الله به ورسوله، ثم قال: {وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} (2) النور الذي أنزل الله شريعته التي جاء بها نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -وهي: نور، من عرفها
__________
(1) سورة التغابن الآية 8
(2) سورة التغابن الآية 8(24/308)
عرف الحق من الباطل، والهدى من الضلال وصار كالبصير بين العميان، يرى الأشياء على ما هي عليه، فهي نور جعلها الله للعباد يعرفون بها ما يرضيه وما يسخطه، وما أعده لأوليائه وما أعده لأعدائه، وما سيقع يوم القيامة، نور كما قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} (1) فالإيمان بالله والرسول والإيمان بالكتاب المنزل هو القرآن، وفيه أمر بطاعة الله ورسوله فلا بد من هذا النور، لا بد من الإيمان بهذا النور والأخذ به والتفقه من هذا النور، وهو: ما أنزل من كتابه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، حتى تعرف مواضع الرضا والغضب، وتعرف الشرائع التي شرعها الله والأوامر، وحتى تعرف الأشياء التي نهى عنها، فبالأوامر وامتثالها تحصل النجاة، وبترك النواهي والمعاصي كذلك، هذا هو النور أن تكون على بصيرة وبينة تعرف هذا وهذا، تعرف الأوامر فتأتي بها وتؤديها، وتعرف النواهي فتحذرها وتجتنبها، فهذا هو المقصود مع الإيمان والتصديق بذلك، هذا هو
__________
(1) سورة النساء الآية 136(24/309)
الواجب على الجميع الجن والإنس أن يعرفوا أوامر الله فيمتثلوها وأن يعرفوا نواهيه فيجتنبوها؛ وذلك بالتفقه في الدين بالتعلم، وبالعناية بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبسؤال أهل الذكر. يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » ، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (2) » ، ويقول: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والنور كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء (3) » - يعني: مواضع مطمئنة أمسكت الماء - «فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ (4) » - وهذه هي حال الناس - «فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب (العلم) باب: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين برقم (69) ، ومسلم في كتاب (الزكاة) باب: النهي عن المسألة برقم (1719) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب (الذكر والدعاء) باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن برقم (4867) .
(3) صحيح البخاري العلم (79) ، صحيح مسلم الفضائل (2282) ، مسند أحمد بن حنبل (4/399) .
(4) صحيح البخاري العلم (79) ، صحيح مسلم الفضائل (2282) ، مسند أحمد بن حنبل (4/399) .(24/310)
من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (1) » . هذه هي أقسام الناس مثل الأرض، أرض طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وهم: أهل العلم والإيمان والتعليم والتوجيه والإرشاد، وطائفة أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وهم: حملة العلم فحملوه للناس، حتى استفادوا منه وفجروا ينابيعه للناس، حفظوه وفقهوا غيرهم من طريق أهل العلم الذين نقلوه عنهم وأخذوه عنهم فهم حفظة استفادوا وأفادوا، وأهل العلم والفقه في الدين وأهل التبصر استخرجوا ما فيه من العلوم، استخرجوا ما فيه من الأحكام والفوائد ونشروها في الناس مثل إذا أخذوا الماء فشربوا وسقوا وزرعوا، وغالب الخلق مثل القيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، هذه حال أكثر الخلق لا خير فيهم لا علم ولا عمل، كما قال تعالى {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (2) وقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (3)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب (الفضائل) باب: بيان مثل ما بعثني به النبي برقم (4232) .
(2) سورة يوسف الآية 103
(3) سورة سبأ الآية 13(24/311)
وقوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (1)
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) فاحذر أن تكون من الأكثرين المعرضين الضالين، واحرص أن تكون من القليل الناجي، من المؤمنين الصادقين المصدقين المتفقهين في الدين المتعلمين، وهذا كتاب الله بين أيدينا بحمد الله أقبل عليه أكثر من تلاوته، يقول سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) ويقول: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) ويقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (5) ويقول: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (6)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 116
(2) سورة سبأ الآية 20
(3) سورة ص الآية 29
(4) سورة الأنعام الآية 155
(5) سورة النحل الآية 89
(6) سورة إبراهيم الآية 52(24/312)
ويقول سبحانه: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (1) تأملوا هذا القرآن، وكل واحد يجب أن يكون له عناية في الليل أو في النهار أو فيهما جميعا، به يقرأ ما تيسر، ويتدبر ويتعقل ويحث أهله وأولاده وإخوانه وجيرانه على كثرة القراءة والتدبر والتعقل، وهكذا سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي حفظها العلماء ونقلوها إلينا مثل: الصحيحين والسنن الأربع في المنتقى، وفي بلوغ المرام، وفي عمدة الحديث، ورياض الصالحين وفي غيرها من كتب الحديث التي نقل فيها أهل العلم هذه الأحاديث وصححوها.
فالمؤمن يستفيد منها يقرأ ويستفيد ويسمع ويسأل: وهذا اليوم هو يوم القر، يوم الخميس هذا هو يوم القر وهو اليوم الأول من أيام التشريق وغدا هو يوم النفر الأول، ويوم السبت هو يوم النفر الثاني، بعض الناس قد يخلط، يحسب أن هذا اليوم هو النفر الأول، يوم العيد لا يعد من الأيام الثلاثة يوم العيد مستقل وحده، ومحل أعمال الحج أيام التشريق التي أولها هذا
__________
(1) سورة الأنعام الآية 19(24/313)
اليوم الحادي عشر، وثانيها الثاني عشر، وثالثها الثالث عشر، وهي المراد في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (1) هذه هي الأيام المعدودات، فمن تعجل في يومين يعني يوم الجمعة في هذه السنة فلا إثم عليه، ومن تأخر يعني يوم السبت فلا إثم عليه، هذه الأيام المعدودات أيام التشريق، وهي التي يصومها من عجز عن الهدي، هدي المتمتع يجوز له صومها. أما غيره فلا يصومها، هي أيام عيد، أيام أكل وشرب، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل (2) » . وكان يبعث من ينادي في الناس ويعلمهم: أن هذه الأيام أيام أكل وشرب وليست أيام صيام إلا لمن فقد الهدي ولمن عجز عن الهدي أولها هذا اليوم، والنفر الأول غدا يوم الجمعة إذا رمى الجمار بعد الزوال، وأحب أن ينفر إلى مكة ليقيم فيها أياما، أو إلى بلاده، فلينفر قبل غروب الشمس من منى يمر بمكة، ويطوف طواف
__________
(1) سورة البقرة الآية 203
(2) أخرجه أحمد في (أول مسند البصريين) من حديث نبيشة الهذلي - رضي الله عنها - برقم (19797) .(24/314)
الوداع إن كان طاف طواف الإفاضة أو يطوف طواف الإفاضة، وينوي الوداع معه ثم ينفر بعده إذا أحب، أو يقيم في مكة ما شاء الله، ثم إذا عزم على السفر طاف طواف الوداع، والنفر الثاني يوم السبت يوم الثالث عشر، فإذا غابت الشمس انتهت أيام التشريق وانتهت أيام الرمي، ولو جلس في منى فليس عليه رمي لو جلس الرابع عشر في منى ما عليه رمي، انتهت أيام الرمي بغروب الشمس، وهذه الأيام هي أيام تكبير أيضا مطلق ومقيد في أدبار الصلوات وبقية الأوقات يكبر في الضحى وفي الظهر وفي الليل، كان عمر - رضي الله عنه - في هذه الأيام يكبر في مخيمه فيسمعه الناس وترتج منى تكبيرا، في أسواقهم وفي طرقاتهم، يذكر الناس - رضي الله عنه - وهذه هي أيام الذبح مثل الضحايا والهدايا في هذه الأيام الأربعة، هذا الصحيح من أقوال العلماء: أربعة أيام، يوم العيد وثلاثة أيام بعده كلها أيام ذبح إلى غروب الشمس من يوم الثالث عشر ذبح الهدايا والضحايا؛ الضحايا في جميع الدنيا في البر والبحر في القرى والأمصار هذه الضحايا. والهدي هو: هدي التمتع والقران في هذه الأيام في مكة، ومن فاتته الأيام ولم يذبح هديه إما(24/315)
عاجزا، أو لم يحصل الدراهم إلا بعد الحج، أو ضل هديه ووجده فيما بعد، أو اقترض واشترى فإنه يذبح ولو بعد الأيام، كالقضاء إذا فاتت الأيام ثم تيسر له الهدي يذبحه، ولو كان قد صام الثلاثة يذبحه بعد الثلاثة، ويسقط عنه صيام السبعة، ولو تيسر له ذبيحة يوم أربعة عشر أو خمسة عشر يذبحها ويأكل ويطعم، ويسقط عنه صيام السبعة إن كان قد صام الثلاثة، وإن كان ما صام الثلاثة سقطت عنه العشرة كلها إذا تيسر الذبح في الرابع عشر أو في الخامس عشر أو في السادس عشر أو في السابع عشر أو بعده يذبحه في الحرم ويأكل ويطعم، وهذا اليوم يوم رمي إلى آخر الليل يبدأ بعد الزوال، قبل الصلاة أفضل إن تيسر وإلا بعد الصلاة وبعد العصر وبعد المغرب وبعد العشاء إلى آخر الليل كله رمي عن هذا اليوم يوم الحادي عشر، وغدا كله رمي بعد الزوال إلى آخر الليل عن اليوم الثاني عشر، ويوم السبت يرمي بعد الزوال إلى غروب الشمس فقط. وفق الله الجميع وثبت الجميع على الهدى، وتقبل منا ومنكم، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(24/316)
97 - تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} (1)
س: طالب يسأل ويقول: ما هو الحق في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} (2) .
ج: الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسرها بأن المراد: يوم يجيء الرب يوم القيامة، ويكشف لعباده المؤمنين عن ساقه، وهي العلامة التي بينه وبينهم سبحانه وتعالى، فإذا كشف عن ساقه عرفوه وتبعوه. . وإن كانت الحرب يقال لها: كشفت عن ساق، إذا اشتدت. . وهذا معنى معروف لغويا قاله أئمة اللغة. ولكن في الآية الكريمة يجب أن يفسر بما جاء في الحديث الشريف، وهو كشف الرب عن ساقه سبحانه وتعالى، وهذه من الصفات التي تليق بجلال الله وعظمته، لا يشابهه فيها أحد جل وعلا، وهكذا سائر
__________
(1) سورة القلم الآية 42
(2) سورة القلم الآية 42(24/317)
الصفات كالوجه واليدين والقدم والعين وغير ذلك من الصفات الثابتة بالنصوص. ومن ذلك الغضب والمحبة والكراهة وسائر ما وصف به نفسه سبحانه في الكتاب العزيز، وفيما أخبر به عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها صفات حق، وكلها تليق بالله جل وعلا لا يشابهه فيها أحد سبحانه وبحمده، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (3) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (4) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (5) وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعهم بإحسان من أئمة العلم والهدى. . والله الموفق.
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة الإخلاص الآية 1
(3) سورة الإخلاص الآية 2
(4) سورة الإخلاص الآية 3
(5) سورة الإخلاص الآية 4(24/318)
98 - تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} (1)
س: قرأت في تفسير الصابوني عند قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} (2) فأولها وقال: في الحديث يسجد لله كل
__________
(1) سورة القلم الآية 42
(2) سورة القلم الآية 42(24/318)
مؤمن ومؤمنة، ولما رجعت إلى صحيح البخاري وجدت الحديث يقول: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة (1) » فقد حذف الصابوني الجزء الأول من الحديث فهل يجوز له ذلك، وماذا يسمى هذا العمل ولا سيما إذا كان متعمدا؟ (2)
ج: على كل حال هذا خطأ وغلط، الواجب عليه وعلى غيره بيان الحق فالحديث: يكشف عن ساقه العلماء اختلفوا في الآية عن ساقه قال بعضهم: عن شدة، ولكن جاء الحديث الصحيح فسر الآية بما لا يجوز معه خلاف الحديث، والمعنى يكشف عن ساقه، والله جل وعلا يوصف بذلك على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى كما يوصف بالوجه واليد والقدم والأصابع والعين كذلك يوصف بالساق على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى، لا يشابه الخلق في شيء من صفاته، ولا يجوز للعالم أن يخفي الحق أو يتأول التأويل الباطل، والله المستعان.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4919) ، سنن الدارمي الرقاق (2803) .
(2) من فتاوى الحج الشريط الرابع.(24/319)
99 - تفسير قوله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (1)
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2)
س: أرجو أن تتفضلوا بالإجابة عما يلي: ما الفرق بين الآيات الكريمة الآتية في الآية الخامسة عشرة من سورة الجن، قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (3) وفي الآية الثامنة من سورة الممتحنة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (4) وفي الآية الثانية والأربعين من سورة المائدة {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (5) (6) .
ج: القسط الذي أمر الله بالحكم به هو العدل، والمقسطون هم أهل العدل في حكمهم وفي أهليهم وفيما ولاهم الله عليهم، وأقسط أي: عدل في الحكم، وأدى الحق ولم يجر، أما القاسط فهو الجائر الظالم، يقال: قسط يقسط قسطا فهو قاسط إذا جار وظلم؛
__________
(1) سورة الجن الآية 15
(2) سورة الممتحنة الآية 8
(3) سورة الجن الآية 15
(4) سورة الممتحنة الآية 8
(5) سورة المائدة الآية 42
(6) نشر في هذا المجموع ج6 ص359.(24/320)
ولهذا قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (1) يعني الظالمين الجائرين المعتدين المتعدين لحدود الله، وهم الذين توعدهم الله بأن يكونوا حطبا لجهنم، أما المقسطون بالميم من أقسطوا من الرباعي فهؤلاء هم: أهل العدل الموفقون المهديون الذين يعدلون في حكمهم وفي أهليهم وفيمن ولاهم الله عليهم؛ ولهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2) يعني يحب أهل العدل والاستقامة والإنصاف، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا (3) » .
__________
(1) سورة الجن الآية 15
(2) سورة الممتحنة الآية 8
(3) أخرجه مسلم في كتاب (الإمارة) باب: فضيلة الإمام العادل برقم (3406) .(24/321)
100 - تفسير قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ} (1) . . . الآيات
س: أرجو تفسر قوله تعالى من سورة النازعات: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} (2) {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (3)
__________
(1) سورة النازعات الآية 40
(2) سورة النازعات الآية 40
(3) سورة النازعات الآية 41(24/321)
وما هي الأمور التي تنهى النفس عن الهوى، وهل يكون عمل المرأة من هذه الأمور التي، يجب نهي النفس عنها في حالة عدم احتياجها للعمل ماديا؟
ج: هذه الآية آية عظيمة ومعناها واضح، وقبلها يقول تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} (1) {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (2) {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (3) {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} (4) الآية، أي: خاف القيام بين يدي الله؛ فلهذا نهى نفسه عن هواها المحرم، أي: نهاها عن المعاصي التي تهواها النفس، وهذا هو الذي له الجنة والكرامة، فإن النفس قد تميل إلى الزنا والخمر والربا، وإلى أشياء أخرى مما حرم الله، وتهوى ذلك لأسباب، فإذا وفق الله المؤمن أو المؤمنة لمحاربة هذا الهوى ومخالفته وعدم الانصياع إليه صار هذا من أسباب دخول الجنة. وعمل المرأة لا بأس به إذا كان مباحا أو مشروعا، ولا يترتب عليه شيء من المعاصي كالخلوة بالرجل الأجنبي، أو عصيان الزوج، أو نحو ذلك مما حرم الله عليها.
__________
(1) سورة النازعات الآية 37
(2) سورة النازعات الآية 38
(3) سورة النازعات الآية 39
(4) سورة النازعات الآية 40(24/322)
101 - تفسير قوله تعالى: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (1)
س: المعروف أن الكتب السماوية المنزلة هي أربعة التوراة - الزبور - الإنجيل - القرآن. فماذا عن صحف إبراهيم وموسى التي جاء ذكرها في القرآن الكريم الآيتان رقم 18، 19 من سورة الأعلى. أرجو إعطائي نبذة وتعريفا عن هذه الصحف المطهرة؟
ج: قد أخبر الله سبحانه أنه أرسل رسله بالبينات والزبر، كما قال عز وجل {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} (3) الآية من سورة النحل، والزبر: هي الكتب.
وقال سبحانه في سورة الحديد: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (4) الآية ونص سبحانه على صحف إبراهيم وموسى في سورة: سبح اسم
__________
(1) سورة الأعلى الآية 19
(2) سورة النحل الآية 43
(3) سورة النحل الآية 44
(4) سورة الحديد الآية 25(24/323)
ربك الأعلى، وبين سبحانه من هذه الكتب والصحف: التوراة المنزلة على موسى، والزبور المنزل على داود، والإنجيل المنزل على عيسى، والقرآن المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم.
وليس للعباد من العلم إلا ما علمهم الله إياه في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - والله ولي التوفيق.(24/324)
102 - تفسير قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (1)
س: فسروا لنا قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (2) (3)
ج: جاء في الأحاديث الصحيحة أن الله وعد رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يرضيه في أمته، ومن ذلك أنه يأذن له بالشفاعة فيشفع لهم في دخول الجنة، ويشفع لكثير منهم دخل النار أن يخرج منها، وهذا مما أعطاه الله له عليه الصلاة والسلام لأهل الموقف حتى يقضي بينهم، وهو المقام المحمود الذي وعده الله به.
__________
(1) سورة الضحى الآية 5
(2) سورة الضحى الآية 5
(3) من برنامج (نور على الدرب) الشريط الأول.(24/324)
103 - تفسير قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (1)
س: قال تعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (2) فإذا كان الإنسان لديه القدرة على العيش في رغد فهل تنطبق عليه هذه الآية الكريمة. وما معنى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (3) ؟
ج: معنى الآية: أن الله أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتحدث بنعم الله، فيشكر الله قولا كما يشكره عملا، فالتحدث بالنعم كأن يقول المسلم: إننا بخير والحمد لله، وعندنا خير كثير، وعندنا نعم كثيرة، نشكر الله على ذلك. لا يقول: نحن ضعفاء، وليس عندنا شيء. . لا. . بل يشكر الله ويتحدث بنعمه، ويقر بالخير الذي أعطاه الله، لا يتحدث بالتقتير كأن يقول: ليس عندنا مال ولا لباس. . ولا كذا ولا كذا لكن يتحدث بنعم الله، ويشكر ربه عز وجل، والله سبحانه إذا أنعم على عبده نعمة يحب أن يرى
__________
(1) سورة الضحى الآية 11
(2) سورة الضحى الآية 11
(3) سورة الضحى الآية 11(24/325)
أثرها عليه في ملابسه وفي أكله وفي شربه، فلا يكون في مظهر الفقراء، والله قد أعطاه المال ووسع عليه، لا تكون ملابسه ولا مأكله كالفقراء بل يظهر نعم الله في مأكله ومشربه وملبسه. ولكن لا يفهم من هذا الزيادة التي فيها الغلو، وفيها الإسراف والتبذير.(24/326)
104 - تفسير قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (1) . . . .)
س: أرجو تفسير قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (2) {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (3) {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} (4) {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (5) ؟
ج: الآية الكريمة المذكورة على ظاهرها، والويل إشارة إلى شدة العذاب، والله سبحانه يتوعد المصلين الموصوفين بهذه الصفات التي ذكرها عز وجل وهي قوله {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (6) {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} (7) {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (8) السهو عن الصلاة: هو الغفلة عنها والتهاون بشأنها، وليس المراد تركها؛ لأن
__________
(1) سورة الماعون الآية 4
(2) سورة الماعون الآية 4
(3) سورة الماعون الآية 5
(4) سورة الماعون الآية 6
(5) سورة الماعون الآية 7
(6) سورة الماعون الآية 5
(7) سورة الماعون الآية 6
(8) سورة الماعون الآية 7(24/326)
الترك كفر أكبر، وإن لم يجحد وجوبها في أصح قولي العلماء. نسأل الله العافية.
أما التساهل عنها: فهو التهاون ببعض ما أوجب الله فيها كالتأخر عن أدائها في الجماعة في أصح قولي العلماء، وهذا فيه الوعيد المذكور.
أما إن تركها عمدا فإنه يكون كافرا كفرا أكبر، وإن لم يجحد وجوبها في أصح قولي العلماء كما تقدم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر (1) » . خرجه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (2) » . خرجه الإمام مسلم في صحيحه، فهذان الحديثان وما جاء بمعناهما حجة قائمة وبرهان ساطع على كفر تارك الصلاة وإن لم يجحد وجوبها.
__________
(1) أخرجه أحمد في (باقي مسند الأنصار) من حديث بريدة الأسلمي - رضي الله عنه - برقم (21859) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب (الإيمان) باب: بيان بطلاق اسم الكفر على تارك الصلاة برقم (116، 117) .(24/327)
أما إن جحد وجوبها فإنه يكفر بإجماع العلماء ولو صلى، أما السهو فيها فليس هو المراد في هذه الآية، وليس فيه الوعيد المذكورة؛ لأنه ليس في مقدور الإنسان السلامة منه، وقد سها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة غير مرة، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وهكذا غيره من الناس يقع منه السهو من باب أولى، ومن السهو عنها الرياء فيها كفعل المنافقين.
فالواجب أن يصلي المؤمن لله وحده، يريد وجهه الكريم، ويريد الثواب عنده سبحانه وتعالى؛ لعلمه بأن الله فرض عليه الصلوات الخمس فيؤديها؛ إخلاصا لله، وتعظيما له، وطلبا لمرضاته عز وجل، وحذرا من عقابه.
ومن صفات المصلين الموعودين بالويل: أنهم يمنعون الماعون، والماعون، فسر بالزكاة، وأنهم يمنعون الزكاة؛ لأن الزكاة قرينة الصلاة، كما قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} (1) وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (2)
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سورة البقرة الآية 43(24/328)
وقال آخرون من أهل العلم: إنه العارية، وهي التي يحتاج إليها الناس ويضطرون إليها.
وفسره قوم بالدلو لجلب الماء، وبالقدر للطبخ ونحوه. ولكن منع الزكاة أعظم وأكبر.
فينبغي للمسلم أن يكون حريصا على أداء ما أوجب الله عليه، وعلى مساعدة إخوانه عند الحاجة للعارية؛ لأنها تنفعهم وتنفعه أيضا ولا تضره.(24/329)
105 - كتب التفسير المفيدة
س: أريد أن تدلوني على بعض أسماء الكتب في التفسير والحديث والفقه للإفادة منها؟ وجزاكم الله خيرا (1) .
ج: من الكتب المفيدة في التفسير: تفسير ابن جرير، وتفسير ابن كثير، والبغوي، وابن سعدي، والشنقيطي، ومن كتب الحديث المفيدة: الصحيحان، والسنن الأربعة، ومنتقى الأخبار، وعمدة الحديث، وبلوغ المرام، والأربعون النووية، وتتمتها للحافظ ابن رجب، الجميع خمسون حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1647) في 1\3\1419هـ.(24/329)
جوامع الكلم. ومن كتب الفقه المفيدة: المغني للإمام العلامة أبي محمد عبد الله بن قدامة - رحمه الله - والمقنع له أيضا، والروض المربع شرح زاد المستقنع بحاشية العلامة الشيخ: عبد الرحمن بن قاسم - رحمه الله - وشرح المهذب للنووي - رحمه الله - والله الموفق.(24/330)
106 - ملاحظات حول كتاب صفوة التفاسير للصابوني وتأويله لآيات الصفات
س: ما رأيكم في كتاب صفوة التفاسير، وقد نقل عن الصاوي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - منبع الرحمات والتجليات، والصاوي يقول: الأخذ بظواهر القرآن والسنة كفر؟
ج: كل هذا غلط كله خطأ، ليس الرسول منبع الرحمات إلا بالتأويل إذا كان من جهة الشريعة، وإلا الرحمة من الله عز وجل، هذه العبارة عبارة خاطئة غلط، وكذلك قوله: إن الأخذ بظاهر النصوص كفر، وأن الصاوي كلامه وقوله قبيح منكر، نسأل الله العافية، فالكفر هو الضلال لو عقله ولو كان يعقل ما يقول. هذا المنكر من المقالتين، لا قوله: منبع الرحمات والتجليات، ولا قوله: إنه لا يؤخذ بظاهر النصوص. كل هذا منكر عظيم، نعوذ بالله من ذلك.(24/330)
107 - جمع المصحف على حرف واحد
س: هل صحيح أن عثمان - رضي الله عنه - عندما جمع القرآن في مصحف واحد حذف بعض الأحرف أم أنه أثبت بعض القراءات دون بعض؟ (1) .
ج: ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه (2) » . وقال المحققون من أهل العلم: إنها متقاربة في المعنى مختلفة في الألفاظ.
وعثمان - رضي الله عنه - لما بلغه اختلاف الناس، وجاءه حذيفة - رضي الله عنه - وقال: أدرك الناس. استشار الصحابة الموجودين في زمانه كعلي وطلحة والزبير وغيرهم، فأشاروا بجمع القرآن على حرف واحد حتى لا يختلف الناس، فجمعه - رضي الله عنه - وكون لجنة رباعية لهذا، ويرأسهم زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فجمعوا القرآن على حرف واحد، وكتبه ووزعه في الأقاليم حتى يعتمده
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) شريط رقم (20) ونشر في المجموع ج9 ص361.
(2) رواه البخاري في الخصومات برقم (2241) ، وفي فضائل القرآن برقم (4653) ومسلم في صلاة المسافرين برقم (1354) ، والترمذي في القراءات برقم (2867) .(24/331)
الناس وحتى ينقطع النزاع. أما القراءات السبع أو القراءات العشر فهي موجودة في نفس ما جمعه عثمان - رضي الله عنه - في زيادة حرف أو نقص حرف أو مد أو شكل للقرآن، كل هذا داخل في الحرف الواحد الذي جمعه عثمان - رضي الله عنه - والمقصود من ذلك حفظ كلام الله ومنع الناس من الاختلاف الذي قد يضرهم ويسبب الفتنة بينهم. والله جل وعلا لم يوجب القراءة بالأحرف السبعة؛ بل قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فاقرءوا ما تيسر منه (1) » فجمع الناس على حرف واحد عمل طيب ويشكر عليه عثمان والصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم - لما فيه من التيسير والتسهيل وحسم مادة الخلاف بين المسلمين.
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (4992) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (818) ، سنن الترمذي القراءات (2943) ، سنن النسائي الافتتاح (938) ، سنن أبو داود الصلاة (1475) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) ، موطأ مالك النداء للصلاة (472) .(24/332)
108 - تعدد القراءات لا يغير المعنى
س: يقولون: إن تعدد القراءات في القرآن معناه اختلاف في القرآن، حيث يؤدي إلى معان ثانية مثل آية الإسراء {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} (1) ؟ .
ج: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن القرآن نزل من عند الله على سبعة أحرف، أي لغات من لغات العرب ولهجاتها تيسيرا لتلاوتها عليهم، ورحمة من الله بهم، ونقل ذلك نقلا متواترا وصدق ذلك واقع القرآن وما وجد فيه من القراءات، فهي كلها تنزيل من حكيم حميد.
ليس تعددها من تحريف أو تبديل، ولا لبس في معانيها، ولا تناقض في مقاصدها ولا اضطراب، بل بعضها يصدق بعضا ويبن مغزاه، وقد تتنوع معاني بعض القراءات فيفيد كل منها حكما يحقق مقصدا من مقاصد الشرع، ومصلحة من مصالح العباد، مع اتساق معانيها وائتلاف مراسيها، وانتظامها في وحدة تشريع محكمة كاملة، لا تعارض بينها ولا تضارب فيها.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 13(24/333)
فمن ذلك ما ورد من القراءات في الآية التي ذكرها السائل، وهي قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} (1) فقد قرئ " ونخرج " بضم النون وكسر الراء، وقرئ " يلقاه " بفتح الياء والقاف مخففة، والمعنى: ونحن نخرج للإنسان يوم القيامة كتابا، هو صحيفة عمله، يصل إليه حال كونه مفتوحا فيأخذه بيمينه إن كان سعيدا، أو بشماله إن كان شقيا، وقرئ " يلقاه منشورا " بضم الياء وتشديد القاف. والمعنى: ونحن نخرج للإنسان يوم القيامة كتابا - هو صحيفة عمله - يعطى الإنسان ذلك الكتاب حال كونه مفتوحا، فمعنى كل من القراءتين يتفق في النهاية مع الآخر، فإن من يلقى إليه الكتاب فقد وصل إليه، ومن وصل إليه الكتاب فقد ألقي إليه.
ومن ذلك قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (2) قرئ " يكذبون " بفتح الياء وسكون الكاف وكسر الذال بمعنى: يخبرون بالأخبار الكاذبة عن الله والمؤمنين، وقرئ " يكذبون " بضم الياء وفتح الكاف
__________
(1) سورة الإسراء الآية 13
(2) سورة البقرة الآية 10(24/334)
وتشديد الذال المكسورة، بمعنى: يكذبون الرسل فيما جاءوا به من عند الله من الوحي، فمعنى كل من القراءتين لا يعارض الآخر ولا يناقضه، بل كل منهما ذكر وصفا من أوصاف المنافقين، وصفتهم الأولى بالكذب في الخبر عن الله ورسله وعن الناس، وصفتهم الثانية بتكذيبهم رسل الله فيما أوحى إليهم من التشريع، وكل حق فإن المنافقين جمعوا بين الكذب والتكذيب.
ومن ذلك يتبين أن تعدد القراءات كان بوحي من الله لحكمة، لا عن تحريف وتبديل، وأنه لا يترتب عليه أمور شائنة، ولا تناقض أو اضطراب، بل معانيها ومقاصدها متفقة. والله الموفق.(24/335)
109 - قراءة القرآن بدون وضوء
س: هل يجوز قراءة القرآن بدون وضوء؟ ومن هم المطهرون؟ (1)
ج: تجوز قراءة القرآن بدون وضوء إذا كان لا يمس المصحف، بل يقرأ عن ظهر قلب، أما مس المصحف فلا يجوز إلا على - طهارة، والمطهرون المذكورون في قوله تعالى:
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1690) في 20\1\1420هـ.(24/335)
{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (1) هم المتطهرون من الحدث الأكبر والأصغر في قول بعض العلماء، والصحيح أن المراد بهم الملائكة، وأما الجنب فلا يقرأ شيئا من القرآن، لا حفظا ولا من المصحف؛ لما ثبت عن علي رض الله عنه أنه قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحجزه شيء عن القرآن سوى الجنابة (2) » .
__________
(1) سورة الواقعة الآية 79
(2) سنن الترمذي الطهارة (146) ، سنن النسائي الطهارة (265) ، سنن أبو داود الطهارة (229) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (594) ، مسند أحمد بن حنبل (1/107) .(24/336)
110 - لا يمس القرآن إلا طاهر
س: ما حكم مس المصحف بدون وضوء أو نقله أو تحريكه من مكان إلى آخر، علما بأن الذي مسه طاهر في جسمه؟ (1) .
ج: مس المصحف على غير وضوء لا يجوز عند جمهور أهل العلم، والذي عليه الأئمة الأربعة - رحمة الله عليهم - وهو الذي كان يفتي به أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام -أنه لا يمس القرآن إلا طاهر، وقد ورد في ذلك حديث صحيح لا بأس به من حديث عمرو بن حزم - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) جمع محمد المسند ج4 ص23.(24/336)
«كتب إلى أهل اليمن أن لا يمس القرآن إلا طاهر (1) » .
وهو حديث جيد له طرق يشد بعضها بعضا، هذا هو الواجب، وكذلك نقل المصحف أو تحريكه من مكان إلى مكان، لا ينقله إلا من كان طاهرا، أو إذا تم ذلك بواسطة، كأن يأخذه في لفافة أو يكون المصحف في لفافة فيأخذه بالعلاقة، أما أخذه مباشرة بيديه وهو على غير طهارة فلا يجوز على الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم، وأما القراءة فلا بأس أن يقرأ وهو محدث عن ظهر قلب، أو يقرأ ويمسك عليه القرآن من يرد عليه.. ويفتح عليه فلا بأس، لكن الجنب لا يقرأ؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه لا يحجزه شيء عن القراءة إلا الجنابة، فروى أحمد بإسناد جيد عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الغائط وتلا شيئا من القرآن وقال: «هذا لمن ليس بجنب أما الجنب فلا ولا آية (2) »
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ برقم (419) في كتاب (النداء للصلاة) باب (الأمر بالوضوء لمن مس القرآن) والدارمي برقم (1266) في كتاب (الطلاق) باب (لا طلاق قبل نكاح) .
(2) أخرجه أحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) برقم (830) .(24/337)
المقصود أن من عليه الجنابة لا يقرأ لا من المصحف ولا عن ظهر قلب، حتى يغتسل، وأما من عليه الحدث الأصغر وليس بجنب فهذا يقرأ عن ظهر قلب، ولا يمس المصحف.
وهنا مسألة تتعلق بهذا وهي الحائض والنفساء وهل تقرآن أم لا تقرآن؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: لا تقرآن، ومنهم من قال: تقرآن عن ظهر قلب دون مس المصحف؛ لأن مدتهما تطول أي مدة الحيض والنفاس وليس مثل الجنب حيث يغتسل في الحال ويقرأ، لكن فترة الحيض قد تطول وتصل إلى عشرة أيام أو نحوها، والنفساء كذلك تطول فترتها أكثر، فالصواب لا مانع من قراءتهما عن ظهر قلب، وهذا هو الأرجح فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة لما حاضت في الحج: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري (1) » .
والحاج يقرأ القرآن ولم يستثنه النبي صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على جواز القراءة لها، وهكذا قال لأسماء بنت عميس لما ولدت محمد بن أبي بكر في الميقات في حجة الوداع، هذا يدل
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب (الحيض) برقم (294، 1540) باب (تقضي الحائض المناسك إلا الطواف بالبيت) ومسلم في (الحج) برقم (2114، 2115)(24/338)
على أنها تقرأ ولكن دون مس المصحف.. وأما حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (1) » ، فهو حديث ضعيف في إسناده موسى بن عتبة، وفي إسناده ابن عياش عن موسى بن عتبة، وأهل العلم بالأحاديث يضعفون رواية موسى، ويقولون: إنه جيد في روايته عن أهل الشام بلاده، ولكنه ضعيف في روايته عن أهل الحجاز، وهذا الحديث من روايته عن أهل الحجاز فيكون ضعيفا.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب (الطهارة) برقم (121) باب ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا تقرآن القرآن، وابن ماجه في كتاب (الطهارة وسننها) برقم (588) باب (ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة)(24/339)