شيئا من شعائر الحج أو العمرة، ومكثت يومين في منى ثم طهرت واغتسلت وأدت جميع مناسك العمرة وهي طاهرة، ثم عاد الدم إليها وهي في طواف الإفاضة للحج إلا أنها استحت وأكملت مناسك الحج، ولم تخبر وليها إلا بعد وصولها إلى بلدهم، فما حكم ذلك؟ .
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكره السائل، فعلى المرأة المذكورة أن تتوجه إلى مكة وتطوف بالبيت العتيق سبعة أشواط بنية الطواف عن حجها بدلا من الطواف الذي أصابها الدم فيه، وتصلي بعد الطواف ركعتين خلف المقام أو في أي مكان من الحرم، وبذلك يتم حجها.
وعليها دم يذبح في مكة لفقرائها إن كان لها زوج قد جامعها بعد الحج؛ لأن المحرمة لا يحل لزوجها جماعها إلا بعد طواف الإفاضة ورمي الجمرة يوم العيد والتقصير من رأسها.
وعليها السعي بين الصفا والمروة إن كانت لم تسع إذا(17/331)
كانت متمتعة بعمرة قبل الحج، أما إذا كانت قارنة أو مفردة للحج فليس عليها سعي ثان إذا كانت قد سعت مع طواف القدوم.
وعليها التوبة إلى الله سبحانه وتعالى مما فعلت من طوافها حين أصابها الدم، ومن خروجها من مكة قبل الطواف إن كان قد وقع، ومن تأخيرها الطواف هذه المدة الطويلة. نسأل الله أن يتوب عليها.(17/332)
185 - حكم جمع طواف الإفاضة مع طواف الوداع
س: هل يجوز جمع طواف الإفاضة مع طواف الوداع في حالة الخروج مباشرة من مكة والعودة إلى الوطن؟ .
ج: لا حرج في ذلك، لو أن إنسانا أخر طواف الإفاضة، فلما عزم على السفر طاف عند سفره بعدما رمى الجمار وانتهى من كل شيء، فإن طواف الإفاضة يجزئه عن طواف الوداع،(17/332)
وإن طافهما - طواف الإفاضة وطواف الوداع - فهذا خير إلى خير، ولكن متى اكتفى بواحد ونوى طواف الحج أجزأه ذلك.(17/333)
186 - من مات قبل طواف الإفاضة لا يطاف عنه
س: ما حكم من أتم أعمال الحج ما عدا طواف الإفاضة ثم توفي هل يطاف عنه؟ .
ج: من أتم أعمال الحج ما عدا طواف الإفاضة ثم مات قبل ذلك لا يطاف عنه؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما:
«بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وقع عن راحلته، فوقصته فمات، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإن الله تعالى يبعثه يوم القيامة ملبيا (1) » رواه
__________
(1) رواه البخاري في (الجنائز) باب الكفن في ثوبين برقم (1265) ، ومسلم في (الحج) باب ما يفعل بالمحرم إذا مات برقم (1206) .(17/333)
البخاري ومسلم وأصحاب السنن، فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالطواف عنه، بل أخبر بأن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا؛ لبقائه على إحرامه بحيث لم يطف ولم يطف عنه.(17/334)
باب صفة الحج والعمرة
(6) السعي
187 - حكم السعي
س: ما حكم السعي في الحج والعمرة؟ (1) .
ج: ركن من أركان الحج والعمرة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «خذوا عني مناسككم (2) » وفعله يفسر قوله، وقد سعى في حجه وعمرته عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في درس بلوغ المرام.
(2) رواه بنحوه مسلم في (الحج) باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا برقم (1297) .(17/335)
188 - المفرد والقارن لا يلزمهما سعي آخر
س: حججت مفردا وقمت بالطواف والسعي قبل عرفة، فهل يلزمني الطواف والسعي عند الإفاضة أو مع(17/335)
طواف الإفاضة؟ .
ج: هذا الذي حج مفردا وهكذا لو حج قارنا بالحج والعمرة جميعا، ثم قدم مكة وطاف وسعى وبقي على إحرامه؛ لكونه مفردا أو قارنا، ولم يتحلل فإنه يجزئه السعي ولا يلزمه سعي آخر، فإذا طاف يوم العيد أو بعده كفاه طواف الإفاضة إذا لم يتحلل من إحرامه حتى يوم النحر، والسعي الذي سعاه أولا مجزئ سواء كان معه هدي أو ليس معه هدي، إن كان لم يتحلل إلا بعد ما نزل من عرفة يوم العيد، فإن سعيه الأول يكفيه ولا يحتاج إلى سعي ثان إذا كان قارنا بالحج والعمرة أو كان مفردا للحج، وإنما السعي الثاني على المتمتع الذي أحرم بالعمرة وطاف وسعى لها وتحلل ثم أحرم بالحج، فهذا عليه سعي ثان للحج غير سعي العمرة.(17/336)
189 - حكم تقديم سعي الحج على طواف الإفاضة
س: هل يجوز تقديم سعي الحج قبل طواف(17/336)
الإفاضة؟ (1) .
ج: الأفضل بعد الطواف، ولا ينبغي التقديم، بل يطوف ثم يسعى كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إذا قدم الإنسان السعي ساهيا أو جاهلا أجزأه.
__________
(1) نشر في جريدة (عكاظ) العدد (11551) تاريخ 10 \ 12 \ 1418 هـ.(17/337)
190 - السنة أن يكون الطواف أولا ثم السعي
س: هل يجوز تقديم السعي على الطواف سواء كان في الحج أو في العمرة؟ .
ج: السنة أن يكون الطواف أولا ثم السعي بعده فإن سعى قبل الطواف جهلا منه فلا حرج في ذلك، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم «أنه سأله رجل فقال: سعيت قبل أن أطوف قال: لا حرج (1) » فدل ذلك على أنه إن قدم السعي أجزأه، لكن السنة أن يطوف ثم يسعى هذا هو السنة في العمرة والحج جميعا.
__________
(1) رواه أبو داود في (المناسك) باب فيمن قدم شيئا قبل شيء في حجه برقم (2015) .(17/337)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ: ع. س. م. القاضي بمحكمة التمييز بالمنطقة الغربية. . وفقه الله لما فيه رضاه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ في 8 \ 1 \ 1413 هـ وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من الأسئلة الخمسة كان معلوما:
س: رجل أحرم بالحج يوم التروية من مكة المكرمة، ثم ذهب بعد إحرامه في ذلك اليوم إلى الحرم، فطاف طواف الإفاضة فقط، واكتفى بسعيه الأول يوم التروية، فهل يجزئه ذلك السعي؟ حيث إنني رأيت بعض أهل العلم يشترط لصحة السعي أن يكون عقب طواف نسك، كطواف القدوم مثلا. وإذا كان هذا الشرط صحيحا فما مستند الأخذ به؟ (1) .
ج: قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في حجه وعمره يسعى بعد الطواف، ولم يثبت عنه صلى الله
__________
(1) من ضمن أسئلة موجهة لسماحته من فضيلة الشيخ \ ع. س. م. أجاب عنها سماحته في 7 \ 2 \ 1414 هـ.(17/338)
عليه وسلم فيما نعلم أنه سعى قبل الطواف في حج أو عمرة، كما أنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سعى بعد طواف ليس بنسك، وإنما كان سعيه بعد طواف القدوم في حجة الوداع، وهو نسك. وسعى في عمره بعد الطواف وهو نسك، بل من أركان العمرة.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى ج 26 ما يدل على أن فعل السعي بعد طواف النسك محل إجماع. ولكن قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع لما سئل عن أعمال يوم النحر من الرمي، والنحر، والحلق أو التقصير، والطواف والسعي، والتقديم والتأخير قال: «لا حرج (1) » .
وهذا الجواب المطلق يدخل فيه تقديم السعي على الطواف في الحج والعمرة، وبه قال جماعة من العلماء، ويدل عليه ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أسامة بن شريك، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن قدم السعي على الطواف. فقال: لا حرج. وهذا الجواب يعم سعي الحج والعمرة، وليس في الأدلة الصحيحة الصريحة ما يمنع
__________
(1) رواه أبو داود في (المناسك) باب فيمن قدم شيئا قبل شيء في حجه برقم (2015) .(17/339)
ذلك. فإذا جاز قبل الطواف الذي هو نسك، فجوازه بعد طواف ليس بنسك من باب أولى.
لكن يشرع أن يعيده بعد طواف النسك؛ احتياطا، وخروجا من خلاف العلماء، وعملا بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في حجه وعمره.
ويحمل ما ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله من كون السعي بعد الطواف محل وفاق على أن ذلك هو الأفضل، أما الجواز ففيه الخلاف الذي أشرنا إليه. وممن صرح بذلك صاحب المغني ج 3 ص 390 حيث نقل - رحمه الله - تعالى الجواز عن عطاء مطلقا وعن إحدى الروايتين عن أحمد في حق الناسي. اهـ.
ويدل على عدم مشروعية الطواف والسعي قبل الحج لمن أحرم بالحج من مكة أنه صلى الله عليه وسلم أمر المهلين بالحج أن يتوجهوا إلى منى من منازلهم في حجة الوداع، ولم يأمرهم بالطواف ولا بالسعي قبل خروجهم إلى منى، فدل ذلك على أن المشروع لمن أحرم بالحج من مكة أن يتوجه إلى منى قبل الطواف والسعي، فإذا رجع إلى مكة بعد عرفة ومزدلفة، طاف وسعى لحجه. والله ولي التوفيق.(17/340)
191 - حكم من حج ولم يسع
س: أنا من سكان مكة حججت العام الماضي وطفت ولكن لم أسع، فما الحكم؟ (1)
ج: عليك السعي، وهذا غلط منك، ولا بد من السعي سواء كنت من أهل مكة أو من غيرهم، لا بد من السعي بعد الطواف بعد النزول من عرفات تطوف وتسعى، فالذي ترك السعي يسعى الآن، وإذا كان أتى زوجته عليه ذبيحة يذبحها في مكة للفقراء؛ لأنه لن يحصل له التحلل الثاني إلا بالسعي، فعليه أن يسعى الآن بنية الحج السابق، وعليه دم إن كان قد أتى زوجته.
__________
(1) من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في دروس في المسجد الحرام بتاريخ 25 \ 12 \ 1418.(17/341)
192 - حكم الزيادة في السعي
س: لقد سعيت بين الصفا والمروة، ولكن عملت الشوط من الصفا إلى الصفا على أنه واحد، هل علي شيء في ذلك؟ (1) .
__________
(1) من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في دروس في المسجد الحرام بتاريخ 25 \ 12 \ 1418 هـ.(17/341)
ج: هذه زيادة منك فقد سعيت أربعة عشر شوطا والواجب سبعة، والسبعة الأخرى لا تجوز؛ لأنها خلاف الشرع لكنك معذور بالجهل، وعليك التوبة إلى الله من ذلك وعدم العود إلى مثلها إذا حججت أو اعتمرت؛ لأن الذي حصل به المقصود سبعة من الصفا للمروة ثم من المروة للصفا، تبدأ بالصفا وتختم بالمروة، سبعة أشواط.(17/342)
193 - حكم الفصل بين الطواف والسعي بزمن طويل
س: طفت طواف القدوم وطواف الإفاضة بدون سعي، هل يجوز الفصل بين الطواف والسعي بزمن طويل؟ (1) .
ج: لا حرج في الفصل بين السعي والطواف عند أهل العلم، فلو سعى بعد الطواف بزمن أو في يوم آخر فلا بأس بذلك ولا حرج فيه، ولكن الأفضل أن يتوالى السعي مع
__________
(1) نشر في مجلة (التوعية الإسلامية في الحج) العدد الحادي عشر في 15 \ 12 \ 1400 هـ.(17/342)
الطواف، فإذا طاف بعمرته سعى بعد ذلك من دون فصل، وهكذا في حجه ولو فصل فلا حرج في ذلك؛ لأن السعي عبادة مستقلة، فإذا فصل بينهما بشيء فلا يضر، ولهذا لو قدم الحاج أو القارن وطاف فقط وأجل السعي إلى ما بعد نزوله من عرفات فلا حرج في ذلك، وإن قدمه فلا حرج في ذلك.(17/343)
194 - لا تشترط الموالاة بين أشواط السعي
س: جماعة سعوا بين الصفا والمروة فأتوا بخمسة أشواط ثم خرجوا من المسعى ولم يذكروا الشوطين الباقيين إلا بعد أن تحولوا إلى رحالهم فما الحكم؟ .
ج: هؤلاء الذين سعوا خمسة أشواط ثم ذهبوا إلى رحالهم ولم يتذكروا الشوطين الآخرين عليهم الرجوع حتى يكملوا الشوطين ولا حرج، وهذا هو الصواب؛ لأن الموالاة بين أشواط السعي لا تشترط على الراجح، وإن أعادوه من أوله(17/343)
فلا بأس، لكن الصواب أنه يكفيهم أن يأتوا بالشوطين ويكملوا بهما السعي.(17/344)
195 - حكم من قصر ولبس ثيابه قبل إتمام السعي
س: إنسان سعى خمسة أشواط أو ستة ناسيا أو جاهلا، ثم قصر ولبس ثيابه فما الحكم؟ (1) .
ج: عليه أن يخلع ثيابه ويلبس الإزار والرداء ويتم ما بقي عليه إن كان الفاصل قليلا، ويحلق رأسه أو يقصر ثم يلبس ثيابه، ولا شيء عليه غير ذلك، أما إن كان الفاصل طويلا فعليه أن يعيد السعي ثم يحلق أو يقصر، ولا شيء عليه من أجل الجهل أو النسيان؛ لقول الله سبحانه: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (2) الآية من سورة البقرة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه قال:
__________
(1) إجابة صدرت من مكتب سماحته عندما كان رئيسا للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(2) سورة البقرة الآية 286(17/344)
" قد فعلت " (1) رواه مسلم في صحيحه. والله الموفق.
__________
(1) رواه مسلم في (الإيمان) باب بيان أن الله سبحانه لم يكلف إلا ما يطاق برقم (126) .(17/345)
196 - حكم من سافر ولم يكمل سعيه
س: الأخت ص. م. من حوطة سدير بالمملكة العربية السعودية تقول في سؤالها: حججت العام الماضي وفي أثناء السعي وكان قد بقي منه ثلاثة أشواط مرضت إحدى مرافقاتي، فذهبت بها إلى السكن ثم سافرت إلى البلد الذي أعمل فيه، فماذا علي يا سماحة الشيخ؟ (1) .
ج: يجب عليك أن تعودي إلى مكة، وأن تسعي سبعة أشواط بين الصفا والمروة بنية الحج السابق، وعليك دم يذبح في مكة للفقراء إن كان لديك زوج قد جامعك، فإن لم يكن لديك زوج أو لديك ولم يحصل جماع فليس عليك دم.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من (المجلة العربية) وقد أجاب عنها سماحته بتاريخ 24 \ 9 \ 1418 هـ.(17/345)
وعليك أن تطوفي للوداع عند السفر من مكة، مع التوبة إلى الله سبحانه مما وقع منك. غفر الله لنا ولك ولكل مسلم.(17/346)
باب صفة الحج والعمرة
(7) أعمال يوم النحر
197 - السنة ترتيب أعمال يوم النحر
س: ما هو الأفضل في أعمال يوم النحر، وهل يجوز التقديم والتأخير؟ (1) .
ج: السنة في يوم النحر أن يرمي الجمرات، يبدأ برمي جمرة العقبة وهي التي تلي مكة، ويرميها بسبع حصيات كل حصاة على حدة يكبر مع كل حصاة، ثم ينحر هديه إن كان عنده هدي، ثم يحلق رأسه أو يقصره، والحلق أفضل.
ثم يطوف ويسعى إن كان عليه سعي هذا هو الأفضل، كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم. فإنه «رمى ثم نحر ثم حلق ثم ذهب إلى مكة فطاف عليه الصلاة والسلام (2) » . هذا الترتيب هو الأفضل الرمي ثم النحر ثم الحلق أو التقصير ثم الطواف والسعي إن كان عليه سعي، فإن قدم بعضها على
__________
(1) نشر في جريدة (الندوة) العدد (9896) في 12 \ 12 \ 1411 هـ.
(2) صحيح البخاري الحج (1808) ، سنن النسائي مناسك الحج (2746) ، مسند أحمد بن حنبل (2/151) ، سنن الدارمي المناسك (1893) .(17/347)
بعض فلا حرج، أو نحر قبل أن يرمي، أو أفاض قبل أن يرمي، أو حلق قبل أن يرمي، أو حلق قبل أن يذبح كل هذا لا حرج فيه. النبي صلى الله عليه وسلم «سئل عن من قدم أو أخر فقال: لا حرج لا حرج (1) » .
__________
(1) رواه البخاري في (العلم) باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها برقم (83) ، ومسلم في (الحج) باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي برقم (1306) .(17/348)
س: هل يجوز أن نرجم ونعود إلى النحر قبل الطواف؟ (1) .
ج: السنة للحاج يوم العيد أربعة أمور، وقد تكون خمسة:
الأول: الرمي، برمي الجمرة، أي: جمرة العقبة يوم العيد بسبع حصيات إذا كان ما رماها في آخر الليل، يرميها بعد طلوع الشمس، كما رماها النبي صلى الله عليه وسلم، ومن رماها من الضعفة من النساء والمرضى وكبار السن ومن معهم في النصف الأخير من ليلة مزدلفة أجزأهم ذلك. أما الأقوياء فالمشروع لهم أن يرموها ضحى بعد طلوع الشمس، كما رماها
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها يوم التروية بمنى عام 1402 هـ.(17/348)
النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: النحر، نحر الهدي إذا كان عنده هدي، فإنه ينحره في منى، وهو الأفضل إذا وجد الفقراء، أو في مكة وفي بقية الحرم.
تنحر الإبل واقفة معقولة يدها اليسرى، وتذبح البقر والغنم على جنبها الأيسر موجهة إلى القبلة.
الثالث: الحلق أو التقصير، فالرجل يحلق رأسه أو يقصره والحلق أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم «دعا للمحلقين بالمغفرة والرحمة ثلاثا، وللمقصرين واحدة (1) » ، والمرأة تقصر فقط تقطع من أطراف شعر رأسها قليلا، وإن كان رأسها ضفائر فإنها تأخذ من طرف كل ضفيرة قليلا.
الرابع: وهو طواف الإفاضة، ويسمى طواف الحج. وإذا كان عليه سعي صار خامسا، هذا السعي للمتمتع فإنه عليه السعي لحجه والأول لعمرته، وهكذا المفرد والقارن إذا كانا لم يسعيا مع طواف القدوم، وهذه الأمور التي تفعل يوم العيد وهي خمسة: أولها الرمي، ثم الذبح، ثم الحلق أو التقصير، ثم الطواف، ثم السعي في حق من عليه سعي. وهذه الأمور قد شرع الله فعلها ورتبها النبي صلى الله عليه وسلم هكذا، فإنه صلى الله عليه وسلم رمى ثم نحر هديه ثم حلق رأسه ثم تطيب وتوجه إلى مكة للطواف عليه الصلاة والسلام. لكن لو قدم
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1303) ، مسند أحمد بن حنبل (6/403) .(17/349)
بعضها على بعض فلا حرج، فلو أنه نحر قبل أن يرمي أو طاف قبل أن ينحر فلا حرج في هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال: «لا حرج لا حرج (1) » عليه الصلاة والسلام. والنساء قد يحتجن إلى الذهاب إلى مكة للطواف قبل أن يحدث عليهن دورة الحيض، فلو ذهبت في آخر الليل وقدمت الطواف قبل أن يصيبها شيء على الرمي أو على النحر أو على التقصير فلا بأس بهذا، فالأمر في هذا واسع والحمد لله، وقد ثبت أن أم سلمة رضي الله عنها رمت الجمرة ليلة العيد قبل الفجر ثم مضت إلى مكة فطافت طواف الإفاضة، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سأله سائل فقال: «يا رسول الله، أفضت قبل أن أرمي فقال: لا حرج. وسأله آخر فقال: نحرت قبل أن أرمي. فقال: لا حرج (2) » قال الصحابي الراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم فما سئل يومئذ يعني - يوم النحر - عن شيء قدم أو أخر إلا قال: لا حرج لا حرج. عليه من ربه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. وهذا من لطف الله سبحانه بعباده، فلله الحمد والمنة.
__________
(1) رواه البخاري في (العلم) باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها برقم (83) ، ومسلم في (الحج) باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي برقم (1306) .
(2) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6666) ، صحيح مسلم الحج (1307) ، سنن النسائي مناسك الحج (3067) ، سنن أبو داود المناسك (1983) ، سنن ابن ماجه المناسك (3050) .(17/350)
198 - حكم من حلق قبل صلاة العيد
س: ما حكم من حلق قبل صلاة العيد في الحج؟ جزاكم الله خيرا (1) .
ج: هذا الأمر فيه تفصيل، فإن كان في الحج فإنه يشرع له إذا رمى جمرة العقبة أن يحلق أو يقصر، أما الصلاة فليس عليه صلاة، فيرمي الجمرة ثم يحلق، وإذا حلق قبل الرمي أجزأه ذلك، وقد «سئل النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد عمن قدم وأخر فقال: لا حرج لا حرج (2) » لكن السنة أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق أو يقصر والحلق أفضل ثم يطوف طواف الإفاضة، لكن إن قدم بعضها على بعض فلا حرج، وليس للحجاج صلاة يوم العيد؛ لأنه يقوم مقامها رمي الجمار.
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) ، العدد (1638) في 26 \ 12 \ 1418 هـ.
(2) رواه البخاري في (العلم) باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها برقم (83) ، ومسلم في (الحج) باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي برقم (1306) .(17/351)
199 - حكم من لم يعمم الرأس بالتقصير
س: ما الحكم فيمن اكتفى بالتقصير بشعرات أربع أو خمس؟ (1)
ج: الواجب على الحاج والمعتمر أن يعمم رأسه في الحلق والتقصير، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام، وكما فعل أصحابه رضي الله عنهم بأمره.
__________
(1) من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في درس بلوغ المرام.(17/352)
200 - حكم تقديم طواف الإفاضة والسعي قبل رمي جمرة العقبة
س: هل يجوز تقديم طواف الإفاضة والسعي قبل رمي جمرة العقبة الكبرى أو قبل الوقوف بعرفة؟ أفيدونا أفادكم الله.
ج: يجوز تقديم الطواف والسعي للحج قبل الرمي، لكن لا يجزئ طواف الحج قبل عرفات ولا قبل نصف الليل(17/352)
من ليلة النحر، بل إذا انصرف منها ونزل من مزدلفة ليلة العيد يجوز له أن يطوف ويسعى في النصف الأخير من ليلة النحر، وفي يوم النحر قبل أن يرمي «سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضت قبل أن أرمي؟ قال: لا حرج (1) » فإذا نزل من مزدلفة صباح العيد أو في آخر الليل، ولا سيما إذا كان من العجزة ونزلوا في آخر الليل كالنساء وأمثالهم - جاز لهم البدء بالطواف؛ لئلا تحيض المرأة، وهكذا الرجل الضعيف يبدأ بالطواف ثم يرمي بعد ذلك لا حرج في ذلك، ولكن الأفضل أن يرمي ثم ينحر الهدي إن كان عنده هدي، ثم يحلق أو يقصر والحلق أفضل، ثم يطوف فيكون الطواف هو الأخير، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حينما «رمى الجمرة يوم العيد ثم نحر هديه، ثم حلق رأسه، ثم تطيب، ثم ركب إلى البيت فطاف (2) » ، ولكن لو قدم بعضها على بعض بأن ينحر قبل أن يرمى، أو حلق قبل أن ينحر، أو حلق قبل أن يرمي، أو طاف قبل أن يرمي، أو طاف قبل أن يذبح، أو طاف قبل أن يحلق، كل ذلك مجزئ بحمد الله؛ لأن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام «سئل عن التقديم والتأخير فقال: لا حرج لا حرج (3) » .
__________
(1) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6665) ، صحيح مسلم الحج (1306) ، سنن الترمذي الحج (916) ، سنن أبو داود المناسك (2014) ، سنن ابن ماجه المناسك (3051) ، مسند أحمد بن حنبل (2/210) ، موطأ مالك الحج (959) ، سنن الدارمي المناسك (1907) .
(2) سنن الترمذي الحج (899) ، سنن ابن ماجه المناسك (3034) ، مسند أحمد بن حنبل (1/232) .
(3) رواه البخاري في (العلم) باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها برقم (83) ، ومسلم في (الحج) باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي برقم (1306) .(17/353)
201 - إذا كان الحاج ساكنا في أدنى الحل فلا حرج في الذهاب إلى مسكنه قبل الطواف والسعي
س: أنا أسكن على حدود الحرم من جهة التنعيم فهل يجوز أن أذهب إلى منزلي قبل الطواف والسعي للحج؟ أرجو التكرم بالإجابة أثابكم الله (1) .
ج: إذا كان الحاج ساكنا في أدنى الحل كالشرائع أو نحوها فلا حرج في الذهاب إلى مسكنه قبل الطواف والسعي.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من المستفتي ب. ب. ص. وقد أجاب عنه سماحته في 3 \ 11 \ 1413 هـ.(17/354)
202 - التحلل الأول والتحلل الثاني
س: ماذا يقصد بالتحلل الأول والتحلل الثاني؟ (1) .
ج: يقصد بالتحلل الأول إذا فعل اثنين من ثلاثة، إذا رمى وحلق أو قصر، أو رمى وطاف وسعى إن كان عليه سعي، أو طاف وسعى وحلق أو قصر، فهذا هو التحلل الأول.
__________
(1) نشر في مجلة (التوعية الإسلامية في الحج) العدد الحادي عشر في 15 \ 12 \ 1401 هـ.(17/354)
وإذا فعل الثلاثة: الرمي، والطواف، والسعي إن كان عليه سعي، والحلق أو التقصير، فهذا هو التحلل الثاني. فإذا فعل اثنين فقط لبس المخيط وتطيب، وحل له كل ما حرم عليه بالإحرام ما عدا الجماع، فإذا جاء بالثالث حل له الجماع.
وذهب بعض العلماء إلى أنه إذا رمى الجمرة يوم العيد يحصل له التحلل الأول وهو قول جيد، ولو فعله إنسان فلا حرج عليه إن شاء الله، لكن الأولى والأحوط ألا يعجل حتى يفعل معه ثانيا بعده الحلق أو التقصير، أو يضيف إليه الطواف والسعي إن كان عليه سعي؛ لحديث عائشة - وإن كان في إسناده نظر - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب وكل شيء إلا النساء (1) » ولأحاديث أخرى جاءت في الباب، ولأنه صلى الله عليه وسلم «لما رمى الجمرة يوم العيد ونحر هديه وحلق، طيبته عائشة (2) » . وظاهر النص أنه لم يتطيب إلا بعد أن رمى ونحر وحلق، فالأفضل والأحوط أن لا يتحلل التحلل الأول إلا بعد أن يرمى وحتى يحلق أو يقصر، وإن تيسر أيضا أن ينحر الهدي بعد الرمي وقبل الحلق فهو أفضل وفيه جمع بين الأحاديث.
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1978) ، مسند أحمد بن حنبل (6/143) .
(2) سنن الترمذي الحج (903) ، سنن النسائي مناسك الحج (3061) ، سنن ابن ماجه المناسك (3035) ، مسند أحمد بن حنبل (3/413) ، سنن الدارمي المناسك (1901) .(17/355)
س: ما هي الأمور التي يتحلل بها الحاج، التحلل الأول والثاني، وهل لا بد من ترتيبها؟ وما معنى " يسوق(17/355)
الهدي "؟ (1) .
ج: يحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة وهي: رمي جمرة العقبة يوم العيد، والحلق أو التقصير، وطواف الإفاضة مع السعي في حق من عليه سعي، فإذا رمى الحاج وحلق أو قصر حصل له التحلل الأول، فله لبس المخيط مطلقا وله الطيب، وقلم الأظافر ونحو ذلك، ومتى طاف طواف الإفاضة وسعى إن كان متمتعا أو مفردا أو قارنا ولم يسع مع طواف القدوم حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام من النساء والطيب ولبس المخيط وغير ذلك.
أما سوق الهدي فمعناه: أن يسوق معه ناقة أو أكثر، أو بقرة أو أكثر أو شاة أو أكثر هدية؛ ليذبحها في مكة، فليس له التحلل حتى ينحر هديه، سواء ساق الهدي من بلده أو من أثناء الطريق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم «أمر من كان معه هدي ألا يحل من إحرامه حتى ينحر هديه يوم العيد أو في أيام التشريق (2) » .
ولا يجب الترتيب بين هذه الأمور المذكورة، فله أن يقدم الطواف على الرمي، وله أن يقدم الحلق أو التقصير على الرمي والنحر، ولكن الأفضل هو الترتيب، كما فعل النبي
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1634) في 21 \ 11 \ 1418 هـ.
(2) سنن النسائي مناسك الحج (2804) ، مسند أحمد بن حنبل (6/194) .(17/356)
صلى الله عليه وسلم فيرمي ثم ينحر إن كان عنده هدي أو عليه هدي، ثم يحلق أو يقصر، ثم يطوف، ثم يسعى إن كان عليه سعي، هذا هو الترتيب المشروع.(17/357)
203 - متى تحل المرأة لزوجها الحاج
س: إذا طاف الحاج طواف الإفاضة فهل يحل له النساء مدة أيام التشريق؟ .
ج: إذا طاف الحاج طواف الإفاضة لا يحل له إتيان النساء إلا إذا كان قد استوفى الأمور الأخرى، كرمي جمرة العقبة، والحلق أو التقصير، وعند ذلك يباح له النساء وإلا فلا. الطواف وحده لا يكفي، ولا بد من رمي الجمرة يوم العيد، ولا بد من حلق أو تقصير، ولا بد من الطواف والسعي إن كان عليه سعي، وبهذا يحل له مباشرة النساء أما بدون ذلك فلا، لكن إذا فعل اثنين من ثلاثة بأن رمى وحلق أو قصر فإنه يباح له اللبس والطيب ونحو ذلك ما عدا النساء، وهكذا لو(17/357)
رمى وطاف أو طاف وحلق، فإنه يحل له الطيب واللباس المخيط، ومثله الصيد وقص الظفر وما أشبه ذلك، لكن لا يحل له جماع النساء إلا باجتماع الثلاثة: أن يرمي جمرة العقبة، ويحلق أو يقصر، ويطوف طواف الإفاضة ويسعى إن كان عليه سعي كالمتمتع، وبعد هذا تحل له النساء. والله أعلم.(17/358)
باب صفة الحج والعمرة
(8) المبيت بمنى أيام التشريق
204 - حكم المبيت خارج منى أيام التشريق
س: ما حكم المبيت خارج منى أيام التشريق سواء كان ذلك عمدا، أو لتعذر وجود مكان فيها؟ .
ج: المبيت في منى واجب على الصحيح ليلة إحدى عشرة، وليلة اثنتي عشرة، هذا هو الذي رجحه المحققون من أهل العلم على الرجال والنساء من الحجاج، فإن لم يجدوا مكانا سقط عنهم ولا شيء عليهم ومن تركه بلا عذر فعليه دم.(17/359)
205 - حكم ترك المبيت بمنى يومين أو ثلاثة
س: ما حكم من ترك المبيت في منى ثلاثة أيام أو اليومين المذكورين للمتعجل؟ فهل يلزمه دم عن كل يوم فاته المبيت فيه في منى، أم أنه عليه دم واحد فقط لكل الأيام الثلاثة التي لم يبت فيها بمنى؟ نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل؟ (1) .
ج: من ترك المبيت بمنى أيام التشريق بدون عذر فقد ترك نسكا شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وبدلالة ترخيصه لبعض أهل الأعذار مثل الرعاة وأهل السقاية، والرخصة لا تكون إلا مقابل العزيمة؛ ولذلك اعتبر المبيت بمنى أيام التشريق من واجبات الحج في أصح قولي أهل العلم، ومن تركه بدون عذر شرعي فعليه دم؛ لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «من ترك نسكا أو نسيه فليهرق دما (2) » ويكفيه دم واحد عن ترك المبيت أيام التشريق، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1538) في1 \ 12 \ 1416 هـ.
(2) رواه مالك في الموطأ في (الحج) باب التقصير برقم (905) ، وفي باب ما يفعل من نسي من نسكه شيئا برقم (957) .(17/360)
س: ما الحكم إذا لم يستطع الحاج المبيت في منى أيام التشريق؟ (1) .
ج: لا شيء عليه؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) سواء كان ترك المبيت لمرض، أو عدم وجود مكان، أو نحوهما من الأعذار الشرعية، كالسقاة، والرعاة، ومن في حكمهما.
__________
(1) نشر في مجلة (البحوث الإسلامية) العدد السابع، 1403 هـ.
(2) سورة التغابن الآية 16(17/361)
206 - حكم من ترك المبيت بمنى ليلة واحدة لمرض
س: ما حكم من ترك المبيت في منى ليلة واحدة وهي ليلة الحادي عشر، وذلك بأن كان الحاج مريضا ولم يستطع المبيت في منى تلك الليلة. ولكنه رمى الجمار نهارا بعد الزوال، أي أنه رمى جمار يوم الحادي عشر من أيام التشريق مع جمار اليوم الثاني عشر في النهار بعد الزوال. فهل يلزمه دم في هذه الحالة، حيث إنه ترك مبيت ليلة الحادي عشر بمنى، مع العلم أنه بات ليلة الثاني عشر في منى ورمى الجمار بعد الزوال من ذلك اليوم ثم(17/361)
ارتحل عن منى إلى مكة؟ نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل.
ج: ما دام ترك المبيت بمنى ليلة واحدة لعذر المرض فلا شيء عليه؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للسقاة والرعاة في ترك المبيت بمنى من أجل السقي والرعي. والله أعلم.
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(17/362)
207 - حكم من ترك المبيت بمنى لتعذر المكان
س: إذا لم يجد الحاج مكانا يبيت فيه بمنى فماذا يفعل؟ وهل إذا بات خارج منى عليه شيء؟ (1) .
ج: إذا اجتهد الحاج في التماس مكان في منى ليبيت فيه ليالي منى فلم يجد شيئا فلا حرج عليه أن ينزل في خارجها لقول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) ولا فدية عليه من جهة ترك المبيت في منى؛ لعدم قدرته عليه.
__________
(1) نشر في كتاب (الدعوة) الجزء الأول ص 128.
(2) سورة التغابن الآية 16(17/362)
سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز وفقه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أسعد الله أوقاتكم بالصحة والعافية، لدي سؤال يتعلق بالمبيت خارج منى في مزدلفة فما حكم المبيت في هذا الموقع؟ وهل صحيح أن اتصال مخيمات الحجاج بعضهم مع بعض من منى إلى مزدلفة يعد من كان خارج منى بمنزلة من كان بداخل منى؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا (1) .
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد:
المبيت في منى واجب من واجبات الحج، على كل حاج مع القدرة إلا السقاة والرعاة ومن في حكمهما، فمن عجز عن ذلك فلا شيء عليه؛ لقوله الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) وبذلك يعلم أن من لم يجد مكانا في منى فله أن ينزل خارجها في مزدلفة والعزيزية أو غيرهما؛ للآية المذكورة وغير هذه الأدلة الشرعية إلا وادي محسر فإنه لا ينبغي النزول فيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما مر عليه أسرع في الخروج منه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سؤال موجه من السائل خ. أ. ف. أجاب عنه سماحته في 17 \ 12 \ 1416 هـ.
(2) سورة التغابن الآية 16(17/363)
س: نظرا لكون مكان المخيم خاضعا لتوزيع وزارة الحج والأوقاف، وإمارة منطقة مكة حيث يتم توزيع الأراضي بمنى من قبلهم، ولا يحق لأي مخيم رفض الأرض التي أعطيت له ولو كانت خارج حدود منى.
وحيث إن الوزارة تقول: إن منى لا تستوعب أعداد الحجاج المتزايدة وإنها تضيق بهم، لذا فقد سلموا للحملة أرضا على حدود منى من الخارج، علما بأننا حاولنا استبدال الأرض ولكن دون جدوى، فوافقنا مضطرين على الموقع لما يتميز به من توفير كافة الخدمات ودورات المياه والكهرباء وغيرها.
فما الحكم الشرعي في هذا الأمر؟ وما توجيه فضيلتكم لنا ولحجاجنا؟ جزاكم الله خيرا.
ج: لا حرج عليكم في ذلك ولا فدية لقول الله سبحانه:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم (2) » . وفق الله الجميع.
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) رواه البخاري في (الاعتصام بالكتاب والسنة) باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم (7288) ، ومسلم في (الحج) باب فرض الحج مرة في العمر برقم (1337) .(17/364)
208 - حكم الجلوس نهارا خارج منى في يوم العيد وأيام التشريق
س: هذا شخص أفاض من عرفات، ثم رمى الجمرة الأولى، ثم طاف وسعى فجلس في منزل بمكة حتى العصر، ثم رجع لمنى وذبح هديه. هل عليه شيء في هذا الجلوس؟ (1)
ج: لا حرج عليه في ذلك، فمن جلس في مكة في نهار يوم العيد أو في أيام التشريق في بيته، أو عند بعض أصحابه فلا حرج عليه في ذلك، وإنما الأفضل البقاء في منى إذا تيسر ذلك؛ تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فإذا لم يتيسر له ذلك أو شق عليه ذلك ودخل مكة وأقام بها في النهار ثم رجع في الليل لمنى وبات فيها فلا بأس بهذا ولا حرج. أما الرمي في أيام التشريق فيكون بعد الزوال ولا يجوز قبله، ومن رمى في الليل فلا بأس في اليوم الذي
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها بمنى يوم التروية عام 1402 هـ.(17/365)
غابت شمسه لا عن اليوم المستقبل إذا لم يتيسر له الرمي بعد الزوال، فإن تيسر قبل الغروب فهو أفضل.(17/366)
باب صفة الحج والعمرة
(9) رمي الجمار أيام التشريق
209 - حكم الرمي بالليل (1) .
إن وقت رمي الجمار أيام التشريق من زوال الشمس إلى غروبها؛ لما رواه مسلم في صحيحه أن جابرا رضي الله قال: «رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى، ورمى بعد ذلك بعد الزوال (2) » ، وما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن ذلك فقال: كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا (3) وعليه جمهور العلماء، ولكن إذا اضطر إلى الرمي ليلا فلا بأس بذلك، ولكن الأحوط الرمي قبل الغروب لمن قدر على ذلك، أخذا بالسنة وخروجا من الخلاف، وأما الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في
__________
(1) نشر في جريدة (عكاظ) العدد (11563) في 22 \ 12 \ 1418 هـ.
(2) رواه البخاري معلقا في (الحج) باب رمي الجمار، ومسلم في (الحج) باب بيان وقت استحباب الرمي برقم (1299) .
(3) رواه البخاري في (الحج) باب رمي الجمار برقم (1746) .(17/367)
صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى فيقول: لا حرج فسأله رجل حلقت قبل أن أذبح قال: اذبح ولا حرج فقال رميت بعد ما أمسيت، فقال: لا حرج (1) » . فهذا ليس دليلا على الرمي بالليل؛ لأن السائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقوله: " بعد ما أمسيت " أي بعد الزوال، ولكن يستدل على الرمي بالليل بأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص صريح يدل على عدم جواز الرمي بالليل، والأصل جوازه، لكنه في النهار أفضل وأحوط، ومتى دعت الحاجة إليه ليلا فلا بأس به في رمي اليوم الذي غابت شمسه إلى آخر الليل. أما اليوم المستقبل فلا يرمى عنه في الليلة السابقة له ما عدا ليلة النحر في حق الضعفة في النصف الأخير، أما الأقوياء فالسنة لهم أن يكون رميهم جمرة العقبة بعد طلوع الشمس، كما تقدم في الأحاديث الواردة في ذلك. والله أعلم.
__________
(1) رواه البخاري في (العلم) باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها برقم (83) ، ومسلم في (الحج) باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي برقم (1306) .(17/368)
س: هل يجوز رمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق ليلا لمن ليس لديه عذر؟ (1) .
__________
(1) نشر في جريدة (الندوة) العدد (9869) في 12 \ 12 \ 1411 هـ.(17/368)
ج: يجوز الرمي بعد الغروب على الصحيح، لكن السنة أن يرمي بعد الزوال قبل الغروب، هذا هو الأفضل إذا تيسر، وإذا لم يتيسر فله الرمي بعد الغروب على الصحيح.(17/369)
210 - حكم من لم يرم اليوم الثاني عشر وهو ينوي التعجل
س: رجل حج هذا العام ولم يرم اليوم الثاني عشر وكان ينوي التعجل فماذا عليه؟ (1) .
ج: عليه التوبة والاستغفار وعليه دم، ذبيحة عن ترك الرمي، وذبيحة عن ترك الوداع؛ لأن الوداع لا يجزئ قبل الرمي. إذا كان وادع قبل الرمي لا يجزئ أما إذا كان وادع بعد ذهاب وقت الرمي فليس عليه شيء عن الوداع، ولكن عليه ذبيحة تذبح في مكة للفقراء عن تركه الرمي في اليوم الثاني عشر.
__________
(1) من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في دروس في المسجد الحرام بتاريخ 25 \ 12 \ 1418 هـ.(17/369)
211 - من بقي في منى حتى أدركه الليل من الليلة الثالثة عشرة لزمه المبيت والرمي
س: ما حكم من مكث يومين بعد العيد وبات ليلة اليوم الثالث، هل يجوز له أن يرمي بعد طلوع الفجر أو بعد طلوع الشمس إذا بدت له ظروف قاسية؟ .
ج: من بقي في منى حتى أدركه الليل في الليلة الثالثة عشرة لزمه المبيت، وأن يرمي بعد الزوال، ولا يجوز له الرمي قبل الزوال كاليومين السابقين، ليس له الرمي فيهما إلا بعد الزوال؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بقي في منى اليوم الثالث عشر ولم يرم إلا بعد الزوال وقال: «خذوا عني مناسككم (1) » صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) رواه بنحوه مسلم في (الحج) باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا برقم (1297) .(17/370)
212 - حكم من لم يستطع رمي الجمرات قبل غروب يوم الثالث عشر
س: لو لم يستطع أحد من الحجاج أن يرمي الجمرات يوم الثالث عشر، وهذا آخر أيام التشريق إلا بعد الغروب هل يجزئه ذلك؟ (1) .
ج: إذا غابت الشمس لم يبق رمي في اليوم الثالث عشر، فإذا كان مقيما حتى جاء اليوم الثالث عشر في منى فعليه الرمي، فإذا غابت الشمس ولم يرم فعليه دم؛ لأن الرمي ينتهي بغروب الشمس يوم الثالث عشر.
__________
(1) من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في دروس في المسجد الحرام بتاريخ 25 \ 12 \ 1418 هـ.(17/371)
213 - حكم الرمي قبل الزوال
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم م. ح. ج. وفقه الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
يا محب، كتابكم الكريم المؤرخ في 17 \ 12 \ 1388 هـ وصل وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من الإفادة عن حجك أنت وعائلتك المكونة من زوجتين وعدة أطفال، وأنك في اليوم الثالث من أيام التشريق رجمت عن الجميع قبل الزوال بسبب أنك مصاب بمرض الربو، ورغبتك في إفتائك عما يترتب عليك من كفارة كان معلوما.
والجواب: لا يجوز الرجم قبل الزوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بعد الزوال في جميع أيام التشريق، وقال: «خذوا عني مناسككم (1) » ولذلك يلزمك دم عنك وعن كل
__________
(1) رواه بنحوه مسلم في (الحج) باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا برقم (1297) .(17/372)
فرد من أفراد عائلتك الذين حجوا معك، والدم المذكور كالضحية سبع بدنة، أو سبع بقرة، أو ثني معز، أو جذع ضأن عن كل واحد يذبح في الحرم، ويقسم بين فقرائه، فإن كنت لم تنو الحج عن بعض الأطفال فليس على من لم تنو عنه الحج شيء.
وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح، إنه جواد كريم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(17/373)
214 - حكم تأخير رمي الجمار إلى آخر يوم ورميها دفعة واحدة
س: هل يجوز رمي الجمرات في آخر أيام التشريق دفعة واحدة، وفي فترة واحدة عن جميع أيام التشريق؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يكون الرمي؟ ومتى؟ ولمن؟ (1) .
ج: المشروع للمؤمن في الحج أن يرمي كما رمى النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فيرمي جمرة العقبة يوم العيد بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ثم يرمي يوم الحادي عشر الجمرات الثلاث بعد الزوال، ويرمي كل واحدة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويبدأ بالتي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة التي تلي مكة، وهي التي رماها يوم العيد، ثم يرمي في اليوم الثاني عشر الجمار الثلاث بعد الزوال، كما رماها في اليوم الحادي عشر، والمشروع له أن يقف بعد رمي الجمرة الأولى في اليوم الحادي عشر، واليوم الثاني عشر، ويرفع يديه ويدعو ويجعلها عن يساره، وهكذا بعد الثانية بعد الرمي يقف ويرفع يديه ويدعو، ويجعلها عن
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة من مجلة (الدعوة) أجاب عنه سماحته في 9 \ 3 \ 1419 هـ.(17/374)
يمينه؛ تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. أما الجمرة الثالثة وهي جمرة العقبة، فإنه يرميها ولا يقف عندها للدعاء. ثم إن شاء تعجل قبل الغروب وتوجه إلى مكة، وإن شاء بقي في منى، وبات بها في الليلة الثالثة عشرة، ورمى الجمرات الثلاث في اليوم الثالث عشر بعد الزوال، كما رماها في اليوم الحادي عشر وفي اليوم الثاني عشر، وهذا هو الأفضل إذا تيسر ذلك؛ تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يتعجل، ولو أخر الحاج رمي الحادي عشر والثاني عشر ورماها في اليوم الثالث عشر مرتبة بعد الزوال، أجزأه ذلك، ولكنه يعتبر مخالفا للسنة، وعليه أن يرتبها فيبدأ برمي الحادي عشر في جميع الجمرات الثلاث مرتبة، ثم يعود برميها عن اليوم الثاني عشر، ثم يعود ويرميها عن الثالث عشر كما نص على ذلك كثير من أهل العلم. والله ولي التوفيق.(17/375)
س: هل يجوز سماحة الشيخ للحاج أن يؤخر رمي جمار اليوم الأول من أيام التشريق واليوم الثاني إلى اليوم الثالث؟ .
ج: السنة أن يرمي الجمار الثلاث في اليوم الحادي عشر والثاني عشر يرمي كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، يبدأ بالأولى التي تلي مسجد الخيف، فيرميها بسبع حصيات يكبر(17/375)
مع كل حصاة، ثم يتقدم فيجعلها عن يساره، ثم يرفع يديه مستقبلا القبلة ويدعو، ثم يرمي الوسطى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم فيجعلها عن يمينه ويرفع يديه ويستقبل القبلة ويدعو، ثم يرمي الجمرة الثالثة، وهي التي تلي مكة، وهي جمرة العقبة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ولا يقف عندها. هذا هو المشروع الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أخر الرمي إلى اليوم الثالث ورتبه مبتدئا باليوم الأول، ثم الثاني، ثم اليوم الثالث أجزأه ذلك وليس عليه شيء، لكنه قد خالف السنة. إلا من كان له عذر، كالرعاة والمرضى.(17/376)
س: هل يجوز للحاج رمي جمار أيام التشريق كلها في يوم واحد، سواء كان ذلك اليوم هو أول يوم من أيام التشريق، أو كان النحر مثلا أو كان آخر يوم من أيام التشريق، ثم يبيت في منى اليومين أو الأيام الثلاثة بدون رمي، حيث إنه قد رمى جميع الجمار في يوم واحد، فهل يصح رميه هذا؟ أم أنه لا بد من ترتيب رمي الأيام كل يوم على حدة حتى ينتهي من رمي الأيام الثلاثة؟ نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل؟ (1) .
ج: رمي الجمار من واجبات الحج، ويجب في يوم
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1538) في 1 \ 12 \ 1416 هـ.(17/376)
العيد وأيام التشريق الثلاثة لغير المتعجل، وفي اليومين الأولين من أيام التشريق للمتعجل، ويرمي عن كل يوم بعد الزوال؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: «خذوا عني مناسككم (1) » إلا يوم العيد فكله وقت رمي، والأفضل أن يكون بعد طلوع الشمس إلا أهل الأعذار فلهم الرمي ليلا بعد نصف الليل من ليلة النحر. ولا يجوز تقديم رمي الجمار قبل وقته، أما التأخير فيجوز عند الحاجة الشديدة كالزحام عند جمع من أهل العلم قياسا على الرعاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهم بأن يرموا رمي يومين في اليوم الثاني منهما وهو الثاني عشر ويرتب ذلك بالنية أولها يوم العيد ثم رمي اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث إن لم يتعجل، ويكون طواف الوداع بعد ذلك، والله أعلم.
__________
(1) رواه بنحوه مسلم في (الحج) باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا برقم (1297) .(17/377)
215 - حكم من رمى الجمار دون ترتيب جهلا
س: رجل حج العام الماضي، وفي آخر يوم رجم الكبير قبل الصغير، فماذا عليه؟ (1)
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها في منى يوم التروية سنة 1402 هـ.(17/377)
ج: نرجو ألا يكون عليه شيء لأجل الجهل أو النسيان؛ لأنه قد حصل المقصود وهو رمي الجمرات الثلاث، لكنه نسي أو جهل الترتيب وقد قال الله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (1) وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله قال: «قد فعلت (2) » والمعنى أن الله قد أجاب دعوة المؤمنين. ولكن من نسيه أو ذكر قبل فوات الوقت لزمه رمي الثانية ثم جمرة العقبة حتى يحصل بذلك الترتيب.
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) رواه مسلم في (الإيمان) باب بيان أن الله سبحانه لم يكلف إلا ما يطاق برقم (126) .(17/378)
216 - حكم من رمى الشاخص
س: رميت الجمرات وكانت في العمود التي في وسط الدائرة ولم أدر هل سقطت بالداخل أم لا، هذا في الجمرة الكبرى فما الحكم؟ (1) .
__________
(1) من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في دروس في المسجد الحرام بتاريخ 25 \ 12 \ 1418 هـ.(17/378)
ج: لا بد أن يعلم الحاج أن الحصى سقط في الحوض أو يغلب على ظنه ذلك، أما إذا كان لا يعلم ولا يغلب على ظنه فإن عليه الإعادة في وقت الرمي، وإذا مضى وقت الرمي ولم يعد فعليه دم يذبحه في مكة للفقراء؛ لأنه في حكم التارك للرمي، ولا بد أن يتحقق وجود الحصى في الحوض، أما الشاخص فلا يرمى وإنما الرمي في الحوض فقط، وإذا لم يغلب على ظنه أنه وقع في الحوض فعليه دم إذا لم يكن أعاده، أما إذا كان في وقت الرمي فيعيد ولا شيء عليه.
والدم ذبيحة تذبح في مكة للفقراء مع التوبة والاستغفار، والرمي إذا فات وقته لا يقضى بعد نهاية غروب شمس الثالث عشر.(17/379)
217 - من ترك الرمي فعليه دم
س: في الحج الماضي رمت زوجتي الجمرة الأولى، والباقي قمت بالرمي عنها خوفا من الزحام ولم يكن هناك زحام، فهل يصح حجها والحال ما ذكر؟ (1) .
ج: الحج صحيح وعليها دم عن ترك الرمي يذبح في
__________
(1) سؤال موجه من السائل م. ع. أجاب عنه سماحته.(17/379)
مكة ويوزع بين الفقراء.
والدم الواجب سبع بدنة، أو سبع بقرة، أو رأس من الغنم يجزئ في الأضحية وهو جذع ضأن، أو ثني من المعز.(17/380)
218 - التوكيل في الرمي لمن معها أطفال
س: حججت في العام الماضي ولله الحمد، وقد رميت الجمرات عن زوجتي ولم تكن حاملا ولا مريضة، وكان معنا أربعة أطفال صغار، شاهدت الزحام فلم أرها تستطيع الرمي فهل يجوز التوكيل أم أنها تركت واجبا؟ وماذا عليها الآن؟ (1)
ج: إذا كان الحال كما ذكرتم فلا شيء عليها إذا كانت قد وكلتك في ذلك؛ لأن تعاطيها الرمي مع الأطفال فيه خطر عظيم عليها وعلى الأطفال.
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) .(17/380)
219 - الحكمة من رمي الجمرات
س: ما الحكمة من رمي الجمرات والمبيت في منى(17/380)
ثلاثة أيام نأمل من فضيلتكم إيضاح الحكمة من ذلك ولكم الشكر؟ (1) .
ج: على المسلم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع الشرع، وإن لم يعرف الحكمة، فالله أمرنا أن نتبع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأن نتبع كتابه، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (2) وقال سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} (3) وقال سبحانه: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (4) وقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (5) فإن عرفت الحكمة فالحمد لله، وإن لم تعرف فلا يضر ذلك، وكل ما شرعه الله هو لحكمة، وكل ما نهى عنه هو لحكمة، سواء علمناها أو جهلناها، فرمي الجمار واضح بأنه إرغام للشيطان وطاعة لله عز وجل، والمبيت في منى الله أعلم بحكمته سبحانه وتعالى ولعل الحكمة في ذلك تسهيل الرمي إذا بات في منى ليشتغل بذكر
__________
(1) من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في دروس في المسجد الحرام بتاريخ 25 \ 12 \ 1418 هـ.
(2) سورة الأعراف الآية 3
(3) سورة الأنعام الآية 155
(4) سورة النساء الآية 59
(5) سورة الحشر الآية 7(17/381)
الله، ويستعد للرمي في وقته لو شاء الذهاب في الوقت المحدد للرمي حسبما يتناسب معه، فلربما تأخر عن الرمي وربما فاته، وربما شغل بشيء لو لم يبت بمنى. والله جل وعلا أعلم بالحكمة سبحانه وتعالى في ذلك.(17/382)
220 - دعوة لعدم التعجل في رمي الجمرات (1) .
دعا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة، ورئيس هيئة كبار العلماء، والرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء حجاج بيت الله الحرام إلى ألا يتعجلوا في رمي الجمرات، وأن يبتعدوا عن الزحام والرفق ببعضهم البعض؛ لأن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يؤذيه.
جاء ذلك في إجابة سماحته عن سؤال " اليوم " حث فيها سماحته الجميع على ضرورة التراحم والتعاطف وعدم الإيذاء، وبين سماحته أن رمي الجمرات من واجبات الحج، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم (2) » وقال: إن الواجب على كل حاج أن يرمي الجمرة إذا استطاع إلا إذا كان عاجزا وكبير السن، فإنه يوكل من يرمي عنه، ومثل الطفل يرمي عنه وليه، والمشروع للمؤمنين عدم التزاحم والرفق
__________
(1) نشر في جريدة (اليوم) في يوم الثلاثاء 13 \ 12 \ 1416 هـ.
(2) رواه بنحوه مسلم في (الحج) باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا برقم (1297) .(17/383)
ببعضهم البعض، كل واحد يرفق بأخيه فلا يظلمه؛ لأن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يؤذيه، وإذا شق عليه الرمي في أول الزوال فعليه أن يتأخر ويرمي في العصر أو في الليل، والحمد لله كله رمي إلى طلوع الفجر من الزوال إلى آخر الليل، ويوم العيد كله رمي ويوم الحادي عشر والثاني عشر يرمي بعد الزوال إلى آخر الليل.
واختتم سماحته تصريحه سائلا الله سبحانه وتعالى التوفيق والهداية لحجاج بيت الله ولكافة المسلمين.(17/384)
221 - المراد باليومين للمتعجل
س: بعض الناس يمكثون بمنى ليلة واحدة وهي ليلة الحادي عشر ويرمون الثاني عشر في يوم الحادي عشر ويظنون أنهم قد مكثوا يومين، وذلك لأنهم يحسبون يوم العيد يوما من أيام التشريق، فيقولون نحن قد رمينا يوم العيد (يوم النحر) واليوم الثاني الذي بعده وهو يوم الحادي عشر، ويقولون إن هذين يومان استنادا إلى الآية الكريمة في قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (1) وبذلك يغادرون منى يوم الحادي عشر بعد أن يكونوا قد رموا اليوم الثاني عشر في يوم الحادي عشر، ويتركون بيات يوم الثاني عشر في منى، فهل هذا يجوز شرعا؟ وهل يصح للإنسان أن يحسب يوم العيد من اليومين، أم أنهم قد رموا يوم الثاني عشر في يوم الحادي عشر ثم انصرفوا من منى؟ نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل؟ (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 203
(2) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1538) الخميس 1 ذي الحجة 1416 هـ.(17/385)
ج: المراد باليومين اللذين أباح الله جل وعلا للمتعجل الانصراف من منى بعد انقضائهما هما ثاني وثالث العيد؛ لأن يوم العيد يوم الحج الأكبر، وأيام التشريق هي ثلاثة أيام تلي يوم العيد، وهي محل رمي الجمرات، وذكر الله جل وعلا، فمن تعجل انصرف قبل غروب الشمس يوم الثاني عشر، ومن غربت عليه الشمس في هذا اليوم وهو في منى لزمه المبيت والرمي في اليوم الثالث عشر، وهذا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والمنصرف في اليوم الحادي عشر قد أخل بما يجب عليه من الرمي، فعليه دم يذبح في مكة للفقراء، أما تركه المبيت في منى ليلة الثاني عشر فعليه عن ذلك صدقة بما يتيسر مع التوبة والاستغفار عما حصل منه من الخلل والتعجل في غير وقته، وإن فدى عن ذلك كان أحوط لما فيه من الخروج من الخلاف؛ لأن بعض أهل العلم يرى عليه دما بترك ليلة واحدة من ليلتي الحادي عشر والثاني عشر بغير عذر شرعي.(17/386)
222 - وقت النفر من منى
س: متى يبدأ الحاج بالنفير من منى؟ .(17/386)
ج: يبدأ الحاج بالنفير من منى إذا رمى الجمرات يوم الثاني عشر بعد الزوال فله الرخصة أن ينزل من منى.
وإن تأخر حتى يرمي الجمرات في اليوم الثالث عشر بعد الزوال فهو أفضل.(17/387)
س: جماعة في وقت الحج، وبعد رمي الجمرات لليوم الثاني عشر نووا الخروج من منى، ولكن لم يستطيعوا الخروج إلا بعد غروب الشمس بوقت، نظرا للزحام فهل يلزمهم المبيت لأداء الرمي من غد؟ (1)
ج: إذا كان الغروب أدركهم وقد ارتحلوا فليس عليهم مبيت، وهم في حكم النافرين قبل الغروب، أما إن أدركهم الغروب قبل أن يرتحلوا، فالواجب عليهم أن يبيتوا تلك الليلة، أعني ليلة ثلاث عشرة، وأن يرموا الجمار بعد الزوال في اليوم الثالث عشر، ثم بعد ذلك ينفرون متى شاءوا؛ لأن الرمي الواجب قد انتهى في اليوم الثالث عشر وليس عليهم حرج في المبيت في منى أو مكة، ولا رمي عليهم بعد رمي
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة من السائل س. ع. ح. وأجاب عنه سماحته في 20 \ 9 \ 1395 هـ.(17/387)
اليوم الثالث عشر سواء باتوا في مكة، أو في منى. وأسأل الله أن يمنحنا وإياكم الفقه في دينه، والثبات عليه، إنه جواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(17/388)
باب صفة الحج والعمرة
(10) طواف الوداع
223 - حكم طواف الوداع
س: هل طواف الوداع واجب على من أراد الخروج من مكة المكرمة في أي حالة أو مستحب أو سنة؟ (1) .
ج: طواف الوداع في وجوبه خلاف بين العلماء، والصحيح أنه واجب في حق الحاج ومستحب في حق المعتمر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للناس في حجة الوداع: «لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت (2) » . رواه مسلم، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف
__________
(1) فتوى صدرت من مكتب سماحته، عندما كان رئيسا عاما لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
(2) رواه مسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم (1327)(17/389)
عن المرأة الحائض (1) » وبذلك تعلم حكم طواف الوداع من هذين الحديثين الشريفين والعمرة تشبه الحج؛ لأنها حج أصغر. والحائض لا وداع عليها وهكذا النفساء؛ لأنها مثلها في الحكم. والله الموفق.
__________
(1) رواه البخاري في (الحج) باب طواف الوداع برقم (1755) ، ومسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم (1328) .(17/390)
224 - طواف الوداع خاص بالمسافر إلى أهله
س: إذا أدى الحاج العمرة وخرج بعد ذلك لزيارة أقربائه خارج الحرم، هل يلزمه طواف الوداع؟ وهل عليه شيء في ذلك؟ (1) .
ج: ليس على المعتمر وداع إذا أراد الخروج خارج الحرم في ضواحي مكة وهكذا الحاج، لكن متى أراد السفر إلى أهله أو غير أهله شرع له الوداع، ولا يجب عليه لعدم الدليل، وقد خرج الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم الذين حلوا من عمرتهم إلى منى وعرفات ولم يؤمروا بطواف الوداع أما
__________
(1) نشر في كتاب (الدعوة) ج 1 ص 130، وفي (المجلة العربية) جمادى الأولى لعام 1412 هـ.(17/390)
الحاج فيلزمه طواف الوداع عند مغادرته مكة مسافرا إلى أهله أو غير أهله لقول ابن عباس رضي الله عنهما: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (1) » متفق عليه، وقوله أمر الناس يعني بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم، ولهذا جاء في الرواية الأخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت (2) » رواه مسلم. ومن هذا الحديث يعلم أن الحائض ليس عليها وداع لا في الحج ولا في العمرة، وهكذا النفساء. لأنها مثلها في الحكم عند أهل العلم.
__________
(1) رواه البخاري في (الحج) باب طواف الوداع برقم (1755) ، ومسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم (1328) .
(2) رواه مسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم (1327) .(17/391)
س: أنا مقيم وأعمل في الرياض، وكل سنة أذهب إلى مكة مع عائلتي، وشاء الله تعالى أن تم لي الحج وحدي فأرسلت زوجتي وأولادي إلى بيت أهلها في جدة، وعندما انتهيت من الحج قمت بطواف الإفاضة والسعي ثم نزلت إلى مكة. فهل يجوز لي الذهاب إلى جدة(17/391)
(دون طواف الوداع) لإحضار زوجتي وأولادي، والجلوس في مكة إلى حين السفر إلى الرياض حيث إقامتي وعملي؟ (1)
ج: يجوز لك الذهاب إلى جدة لإحضار أهلك إلى مكة قبل طواف الإفاضة والسعي في أيام منى، وليس عليك طواف وداع، حتى ترمي الجمار يوم الثاني عشر بعد الزوال، فإذا أردت الخروج إلى جدة أو غيرها فعليك أن تطوف للوداع إذا كنت قد طفت طواف الإفاضة والسعي.
أما إذا كنت لم تطف طواف الإفاضة ولم تسع، فلا حرج أن تذهب إلى جدة لإحضار زوجتك إلى مكة، وليس عليك طواف وداع؛ لأنك والحال ما ذكر لم تكمل الحج، وطواف الوداع إنما يجب بعد إتمام مناسك الحج إذا أراد الحاج السفر إلى بلده أو إلى غيره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت (2) » أخرجه مسلم في صحيحه، ولقول ابن عباس رضي الله عنهما: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من مجلة (الدعوة) .
(2) رواه مسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم (1327) .(17/392)
الحائض (1) » متفق على صحته. والنفساء مثل الحائض ليس عليهما طواف وداع.
__________
(1) رواه البخاري في (الحج) باب طواف الوداع برقم (1755) ، ومسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم (1328) .(17/393)
س: هل على أهل مكة طواف وداع خلاف طواف الإفاضة؟ (1)
ج: ليس على أهل مكة طواف وداع.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من السائل ب. ب. ص. أجاب عنه سماحته في 3 \ 11 \ 1413 هـ.(17/393)
325 - من ترك طواف
الوداع فعليه دم مع التوبة والاستغفار
س: ما حكم من ترك طواف الوداع، وهل يجوز للحاج أن يوكل أحدا عنه بذلك؟ (1)
ج: من ترك طواف الوداع عليه التوبة والاستغفار، وعليه دم يذبح في مكة المكرمة ويطعم فقراءها مع التوبة
__________
(1) نشر في جريدة (عكاظ) العدد (11551) يوم الثلاثاء 10 ذي الحجة 1418 هـ.(17/393)
والاستغفار، وليس له التوكيل، وأن يطوف بنفسه.(17/394)
س: قبل سبع سنين حججنا وتركنا طواف الوداع، ورجعنا إلى جدة فهل حجنا صحيح وماذا يلزمنا؟ (1)
ج: الحج صحيح، ولكن أسأتم في ترك الوداع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الحاج بالوداع قال صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت (2) » ، وهذا خطاب للحجاج يشمل أهل جدة وغيرهم، فالواجب على جميع أهل البلدان - سواء في جدة أو الطائف وغيرهم - أن يودعوا البيت، وقد تسامح بعض العلماء في هذا بالنسبة لمن منزله دون مسافة قصر كأهل بحرة وأشباههم، وقالوا إنه لا وداع عليه، والأحوط لكل من كان خارج الحرم أن يودع إذا انتهى حجه، وأهل جدة بعيدون وهكذا أهل الطائف فالواجب عليهم أن يودعوا قبل أن يخرجوا؛ لأنهم يشملهم الحديث، وعليهم دم يذبح في مكة عن كل واحد منهم ترك طواف الوداع توزع على الفقراء شاة أو سبع بدنة، أو سبع بقرة.
__________
(1) نشر في مجلة (التوعية الإسلامية في الحج) العدد التاسع عام 1409 هـ.
(2) رواه مسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم (1327) .(17/394)
س: هل يجوز للحاج أن يسافر إلى جدة دون أن يطوف طواف الوداع؟ وما الذي يلزم من فعل ذلك؟ (1)
ج: لا يجوز للحاج أن ينفر من مكة بعد الحج إلا بعد طواف الوداع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت (2) » رواه مسلم وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (3) » فلا يجوز لأهل جدة، ولا لأهل الطائف ولا غيرهم الخروج من مكة بعد الحج إلا بعد الوداع، فمن سافر قبل الوداع فإن عليه دما؛ لكونه ترك واجبا، وقيل في ذلك أقوال أخرى، ولكن هذا هو الصواب عند أهل العلم في هذه المسألة. وقال بعض أهل العلم لو رجع بنية طواف الوداع أجزأه ذلك وسقط عنه الدم، ولكن هذا فيه نظر، والأحوط
__________
(1) نشر في مجلة (التوعية الإسلامية في الحج) العدد الثامن في 5 \ 12 \ 1404 هـ.
(2) رواه مسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم (1327) .
(3) رواه البخاري في (الحج) باب طواف الوداع برقم (1755) ، ومسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم (1328) .(17/395)
للمؤمن ما دام سافر مسافة قصر ولم يودع البيت فإن عليه دما يجبر به حجه.(17/396)
س: هل يجوز الخروج بعد الحج إلى جدة بدون وداع، وإن خرج ولم يودع فما الحكم؟
ج: الخروج بعد الحج إلى جدة بدون وداع فيه تفصيل، أما من كان من سكان جدة فليس لهم الخروج إلا بوداع بدون شك؛ لعموم الحديث الصحيح، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » رواه مسلم، وقول ابن عباس رضي الله عنهما: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (2) » متفق عليه، وأما من خرج إليها لحاجة وقصده الرجوع إلى مكة؛ لأنها محل إقامته أيام الحج، فهذا فيه نظر وشبهة، والأقرب أنه لا ينبغي له الخروج إلا بوداع عملا بعموم الحديث
__________
(1) رواه مسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم (1327) .
(2) رواه البخاري في (الحج) باب طواف الوداع برقم (1755) ، ومسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم (1328) .(17/396)
المذكور، ويكفيه هذا الوداع عن وداع آخر إذا أراد الخروج إليها مرة أخرى؛ لكونه قد أتى بالوداع المأمور به، لكن إذا أراد الخروج إلى بلاده فالأحوط له أن يودع مرة أخرى للشك في إجزاء الوداع الأول، أما من ترك الوداع ففيه تفصيل، فإن كان من النوع الأول، فالأقرب أن عليه دما؛ لكونه ترك نسكا واجبا، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: من ترك نسكا أو نسيه فليهرق دما فهذا الأثر هو عمدة من أوجب الدم في سائر واجبات الحج، وهو أثر صحيح، وقد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الموقوف أصح، والأقرب أنه في حكم الرفع؛ لأن مثل هذا الحكم يبعد أن يقوله ابن عباس من جهة رأيه، والله سبحانه وتعالى أعلم، وأما إن كان من النوع الثاني: وهو الذي خرج إلى جدة أو الطائف أو نحوهما لحاجة، وليسا بلده وإنما خرج إليهما لحاجة عارضة ونيته الرجوع إلى مكة ثم الوداع إذا أراد الخروج إلى بلده، فهذا لا يظهر لي لزوم الدم له، فإن فدى على سبيل الاحتياط فلا بأس، والله أعلم.(17/397)
س: نحن من سكان جدة قدمنا العام الماضي للحج، وأكملنا جميع المناسك ما عدا طواف الوداع، فقد أجلناه(17/397)
إلى نهاية شهر ذي الحجة، وبعد أن خف الزحام عدنا، هل حجنا صحيح؟ (1)
ج: إذا حج الإنسان وأخر طواف الوداع إلى وقت آخر فحجه صحيح، وعليه أن يطوف للوداع عند خروجه من مكة، فإن كان في خارج مكة كأهل جدة وأهل الطائف والمدينة وأشباههم فليس له النفير حتى يودع البيت بطواف سبعة أشواط حول الكعبة فقط ليس فيه سعي؛ لأن الوداع ليس فيه سعي بل طواف فقط، فإن خرج ولم يودع البيت فعليه دم عند جمهور أهل العلم، يذبح في مكة ويوزع على الفقراء والمساكين وحجه صحيح كما تقدم، هذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم، فالحاصل أن طواف الوداع نسك واجب في أصح أقوال أهل العلم، وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: " من ترك نسكا أو نسيه فليهرق دما " وهذا نسك تركه الإنسان عمدا، فعليه أن يريق دما يذبحه في مكة للفقراء والمساكين، وكونه يرجع بعد ذلك لا يسقطه عنه، هذا هو المختار، وهذا هو الأرجح عندي والله أعلم.
__________
(1) نشر في مجلة (التوعية الإسلامية في الحج) العدد الثامن في 5 \ 12 \ 1404 هـ.(17/398)
226 - حكم من سافر ولم يكمل طواف الوداع
س: امرأة كبيرة في السن عليها طواف وداع، ولكنها طافت ثلاثة أشواط ولم تتم الباقي نظرا لتعبها وشدة الزحام في الحج وقرب وقت سفرها بالطائرة، فماذا يجب عليها؟ (1) جزاكم الله خيرا.
ج: على كل محرم بالحج أو العمرة، أن يطوف الطواف الواجب، ولو محمولا أو في عربة، وليس له ترك الطواف ولا شيء منه، وهكذا السعي، لقول الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) ولما ثبت عن أم سلمة رضي الله عنها، أنها اشتكت للنبي صلى الله عليه وسلم عجزها عن الطواف ماشية لمرضها فأمرها أن تطوف وهي راكبة، وإذا سافر الرجل والمرأة ولم يطف طواف الوداع بعد الحج فعليه التوبة إلى الله سبحانه مع الفدية، وهي ذبيحة تذبح في مكة توزع على الفقراء ويجزئ فيها ما يجزئ في الأضحية، وهو رأس من الغنم أو سبع بدنة، أو سبع بقرة. والله ولي التوفيق.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من مجلة (الدعوة) .
(2) سورة التغابن الآية 16(17/399)
س: حجت والدتي عن والدها، وعند طواف الوداع كان حالها لا يساعد على إتمامه بسبب شدة الزحام والمرض، فقال لها بعضهم لا تطوفي وتكتفي بقراءة الفاتحة لوالدها، وفعلت ذلك معتمدة على فتوى هذا الجاهل، فهل يجزئ أن أطوف عنها الآن طواف وداع أم لا؟ (1)
ج: هذه فتوى باطلة وغلط، وطواف الوداع واجب ولا تجزئ عنه الفاتحة بل هذا جهل صرف، وعليها دم عن ترك الوداع؛ لأنه واجب، والواجب يفدى بدم إذا تركه المحرم ولم يتمكن من أدائه وسافر، فإنه يفديه بدم يذبح بمكة ويوزع بين الفقراء بدلا عن تركه طواف الوداع، ولا يجزئ طوافك عنها، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة (التوعية الإسلامية في الحج) العدد التاسع عام 1401هـ.(17/400)
227 - وداع الحائض والنفساء
س: كيف يتم وداع الحائض والنفساء؟ (1)
ج: ليس على الحائض والنفساء وداع؛ لما ثبت عن ابن
__________
(1) نشر في كتاب (الدعوة) الجزء الأول ص 137.(17/400)
عباس رضي الله عنهما قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (1) » ، متفق عليه. والنفساء في حكمها عند أهل العلم.
__________
(1) رواه البخاري في (الحج) باب طواف الوداع برقم (1755) ، ومسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم (1328) .(17/401)
228 - التأخر اليسير عن السفر بعد طواف الوداع يعفي عنه
س: حججت العام الماضي والحمد لله، وعندما أخذت طواف الوداع قبل المغرب بساعة. بعد صلاة العشاء خرجت، ولظرف غير مقصود تأخرت، فهل يلزمني شيء؟ (1) أرجو التوجيه جزاكم الله خيرا.
ج: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال للحجاج: «لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) الشريط الثاني.(17/401)
بالبيت (1) » خرجه مسلم في صحيحه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (2) » متفق عليه.
وقوله: " أمر الناس " يعني أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز للحاج أن يخرج من مكة إلا بعد طواف الوداع إذا أراد السفر إلى بلده، أو إلى بلاد أخرى، وإذا ودع قبل الغروب ثم جلس بعد المغرب لحاجة أو لسماع الدرس أو ليصلي العشاء فلا حرج في ذلك، فالمدة اليسيرة يعفي عنها. وقد طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع طواف الوداع في آخر الليل، ثم صلى بالناس الفجر ثم سافر بعد ذلك عليه الصلاة والسلام. فالتخلف اليسير يعفي عنه بعد الوداع، وإذا كنت سافرت بعد العشاء فلا حرج في ذلك، أما إن كنت أقمت إقامة طويلة فينبغي لك أن تعيد طواف الوداع، وإن كنت لم تعد طواف الوداع فلا حرج عليك إن شاء الله؛ لأن المدة
__________
(1) رواه مسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم (1327) .
(2) رواه البخاري في (الحج) باب طواف الوداع برقم (1755) ، ومسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم (1328) .(17/402)
وإن كان فيها بعض الطول إلا أنها مغتفرة إن شاء الله من أجل الجهل بواجب المبادرة والمسارعة إلى الخروج بعد طواف الوداع.(17/403)
229 - التأخر إلى ما بعد
ذي الحجة لا يؤثر على طواف الوداع
س: حججت هذا العام وسأتأخر في العودة إلى ما بعد ذي الحجة هل هذه الإقامة الطويلة بعد الحج لا تؤثر على طواف الوداع جزاكم الله خيرا (1) .
ج: هذه المدة لا تؤثر؛ لأن طواف الوداع إنما يشرع عند عزم الحاج على الخروج من مكة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم - يخاطب الحجاج في حجة الوداع -: «لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت (2) » أخرجه مسلم في صحيحه. ولقول ابن عباس رضي الله عنهما: «أمر الناس -
__________
(1) من ضمن أسئلة موجهة لسماحته بعد درس ألقاه في المسجد الحرام في 25 \ 12 \ 1418 هـ.
(2) رواه مسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم (1327) .(17/403)
يعني الحاج - أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (1) » متفق عليه. ومن هذا الحديث يعلم أن الحائض ليس عليها وداع وهكذا النفساء، والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه البخاري في (الحج) باب طواف الوداع برقم (1755) ، ومسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم (1328) .(17/404)
باب صفة الحج والعمرة
(11) صفة الزيارة
230 - ما يفعله الزائر للمدينة المنورة
س: ما الذي ينبغي للحاج أن يفعله بالمدينة، وما الفرق بين زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم والطواف به؟ (1)
ج: السنة لمن زار المدينة أن يقصد المسجد ويصلي فيه ركعتين أو أكثر، ويكثر من الصلاة فيه، ويكثر من ذكر الله وقراءة القرآن وحضور حلقات العلم، وإذا تيسر له أن يعتكف ما شاء الله فهذا حسن، ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه.
هذا ما يشرع لزائر المدينة، وإذا أقام بها أوقاتا يصلي بالمسجد النبوي فذلك خير عظيم؛ لأن النبي صلى الله عليه
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة) لسماحته ص 139.(17/405)
وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام (1) » فالصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم مضاعفة. أما ما شاع بين الناس من أن الزائر يقيم ثمانية أيام حتى يصلي أربعين صلاة فهذا وإن كان قد روي في بعض الأحاديث: «إن من صلى فيه أربعين صلاة كتب الله له براءة من النار، وبراءة من النفاق (2) » إلا أنه حديث ضعيف عند أهل التحقيق لا تقوم به الحجة؛ لأنه قد انفرد به إنسان لا يعرف بالحديث والرواية، ووثقه من لا يعتمد على توثيقه إذا انفرد، فالحاصل أن الحديث الذي فيه فضل أربعين صلاة في المسجد النبوي حديث ضعيف لا يعتمد عليه. والزيارة ليس لها حد محدود، وإذا زارها ساعة أو ساعتين، أو يوما أو يومين، أو أكثر من ذلك فلا بأس.
ويستحب للزائر أن يزور البقيع ويسلم على أهله ويدعو لهم بالمغفرة والرحمة، ويستحب له أن يزور الشهداء ويدعو لهم بالمغفرة والرحمة. ويستحب له أيضا أن يتطهر في بيته
__________
(1) رواه البخاري في (الجمعة) باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة برقم (1190) ، ومسلم في (الحج) باب فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة برقم (1394) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند أنس بن مالك برقم (12173) .(17/406)
ويحسن الطهور ثم يزور مسجد قباء ويصلي فيه ركعتين كما كان النبي يزوره عليه الصلاة والسلام، أما الطواف بمنبر النبي فهذا لا يجوز، وإذا طاف بقصد التقرب إلى النبي فهذا شرك بالله عز وجل، فالطواف عبادة حول الكعبة لا تصلح إلا لله وحده، ومن طاف بقبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الناس يتقرب إليهم بالطواف صار مشركا بالله عز وجل، وإن ظن أنه طاعة لله، وفعله من أجله يتقرب به إليه صار بدعة، وهكذا حكم الطواف عند قبر غير النبي صلى الله عليه وسلم مثل قبر الحسين، أو البدوي في مصر، أو ابن عربي في الشام أو قبر الشيخ عبد القادر الجيلانى، أو موسى الكاظم في العراق، أو غير ذلك.
وينبغي أن نفرق بين الزيارة للميت وبين عبادة الله وحده، فالعبادة لله وحده، والميت يزار لتذكر الآخرة أو الزهد في الدنيا والدعاء والترحم عليه، أما أنه يعبد من دون الله، أو يدعى من دون الله، أو يستغاث به أو ما أشبه ذلك، فذلك لا يجوز بل هو من المحرمات الشركية. ونسأل الله لنا ولجميع المسلمين العافية من ذلك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(17/407)
231 - صفة السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
س: ما حكم السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم للزائر للمسجد النبوي؟ وهل هناك صفة للسلام عليه صلى الله عليه وسلم أمام قبره واستدبار القبلة؟ (1)
ج: بسم الله، والحمد لله، يسن لمن زار المدينة أن يزور المسجد النبوي ويصلي فيه، وإذا تيسر له أن يصلي في الروضة كان أفضل، ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه رضي الله عنهما، والسنة أن يستقبل الزائر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما حين السلام عليهم ويقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله عليك وبركاته. وإن دعا له صلى الله عليه وسلم كأن يقول: جزاك الله عن أمتك خيرا، وضاعف لك الحسنات، وأحسن إليك كما أحسنت إلى الأمة. فلا حرج في ذلك. وهكذا لو قال: أشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق الجهاد. فلا حرج في ذلك؛ لأن هذا كله حق، ثم يسلم على صاحبيه رضي الله عنهما، ويدعو لهما
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1394) في 8 \ 11 \ 1413 هـ.(17/408)
بالدعوات المناسبة.
أما إذا أراد الدعاء لنفسه، فإنه يتحول لمكان آخر ويستقبل القبلة ويدعو كما نص على ذلك أهل العلم. ويستحب للمسلم زيارة المسجد النبوي قصدا من بلاده أو غيرها، كما شرع له زيارة المسجد الحرام وزيارة المسجد الأقصى إذا تيسر ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (1) » وقال عليه الصلاة والسلام: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، والصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة (2) » وبذلك يعلم أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه ما عدا المسجد النبوي. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أن الصلاة في المسجد الأقصى أفضل من خمسمائة صلاة فيما سواه، والمعنى غير المسجد الحرام والمسجد النبوي، والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه البخاري في (الحج) باب حج النساء برقم (1864) ، ومسلم في (الحج) باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد برقم (1397) .
(2) رواه الإمام أحمد في (أول مسند المدنيين) حديث عبد الله بن الزبير بن العوام برقم (15685) .(17/409)
س: ما هي كيفية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ (1)
ج: يزوره ويصلي ويسلم عليه، والسنة أن يستقبل القبر ويسلم عليه ثم يسلم على صاحبيه رضي الله عنهما، وإذا أراد الدعاء لنفسه فإنه يستقبل القبلة في مكان آخر.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء على كتاب بلوغ المرام.(17/410)
س: إذا سافر الإنسان إلى المدينة المنورة فهل يلزمه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما أم لا؟ وإذا أراد السلام عليهم فما هي الطريقة الصحيحة لذلك. أقصد: هل لا بد من المبادرة بالسلام عليهم، أو أنه لا بأس من تأخيره، وهل لا بد من الدخول من خارج المسجد ليكونوا عن يمينه أو لا بأس بسلامه عليهم وهو خارج من المسجد وهم بذلك سيكونون عن شماله، وما هي الصيغة الشرعية للسلام، وهل يتساوى في ذلك الرجل والمرأة؟ أرشدونا جزاكم الله خيرا (1) .
ج: السنة لمن زار المدينة المنورة أن يبدأ بالمسجد النبوي، فيصلي فيه ركعتين والأفضل أن يكون فعلهن في
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من (المجلة العربية) .(17/410)
الروضة النبوية إذا تيسر ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة (1) » . ثم يأتي القبر الشريف فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، من قبل القبلة، يستقبلهما استقبالا، وصفة السلام أن يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، وإن زاد فقال: صلى الله وسلم عليك وعلى آلك وأصحابك، وجزاك الله عن أمتك خيرا، اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، فلا بأس، ثم يتأخر عن يمينه قليلا، فيسلم على الصديق فيقول: السلام عليك يا أبا بكر ورحمة الله وبركاته رضي الله عنك، وجزاك عن أمة محمد خيرا، ثم يتأخر قليلا عن يمينه ثم يسلم على عمر رضي الله عنه مثل سلامه على الصديق رضي الله عنهما. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (2) » وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1195) ، صحيح مسلم الحج (1390) ، سنن النسائي المساجد (695) ، مسند أحمد بن حنبل (4/39) ، موطأ مالك النداء للصلاة (463) .
(2) رواه البخاري في (الحج) باب حج النساء برقم (1864) ، ومسلم في (الحج) باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد برقم (1397) .(17/411)
الحرام (1) » متفق عليه. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (2) » وكان عليه الصلاة والسلام يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين (3) » وهذه الزيارة خاصة بالرجال أما النساء فلا تجوز لهن زيارة القبور؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور، ويدخل في ذلك قبره صلى الله عليه وسلم وغيره، لكن يشرع للرجال والنساء جميعا الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مكان لعموم قول الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (4) وقول النبي
__________
(1) رواه البخاري في (الجمعة) باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة برقم (1190) ، ومسلم في (الحج) باب فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة برقم (1394) .
(2) رواه مسلم في (الجنائز) باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه برقم (976) ، وابن ماجه في (الجنائز) باب ما جاء في زيارة القبور برقم (1569) .
(3) رواه مسلم في (الجنائز) باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء؟ لأهلها برقم (975) .
(4) سورة الأحزاب الآية 56(17/412)
صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا (1) » والأحاديث في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة. ولا حرج على النساء في الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم وغيره من المساجد، لكن بيوتهن خير لهن وأفضل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن (2) » ، ولأن ذلك أستر لهن وأبعد عن الفتنة منهن وبهن، والله الموفق.
__________
(1) رواه مسلم في (الصلاة) باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد برقم (408) .
(2) رواه البخاري في (الجمعة) باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل برقم (900) ، ومسلم في (الصلاة) باب خروج النساء إلى المساجد برقم (442) .(17/413)
232 - زيارة المسجد النبوي سنة
س: يعتقد بعض الحجاج أنه إذا لم يتمكن الحاج من زيارة المسجد النبوي فإن حجه ينقص، فهل هذا صحيح؟(17/413)
ج: الزيارة للمسجد النبوي سنة وليست واجبة، وليس لها تعلق بالحج، بل السنة أن يزار المسجد النبوي في جميع السنة، ولا يختص ذلك بوقت الحج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (1) » متفق عليه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام (2) » متفق عليه، وإذا زار المسجد النبوي شرع له أن يصلي في الروضة ركعتين، ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، كما يشرع زيارة البقيع والشهداء للسلام على المدفونين هناك من الصحابة وغيرهم والدعاء لهم والترحم عليهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزورهم. وكان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم
__________
(1) رواه البخاري في (الحج) باب حج النساء برقم (1864) ، ومسلم في (الحج) باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد برقم (1397) .
(2) رواه البخاري في (الجمعة) باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة برقم (1190) ، ومسلم في (الحج) باب فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة برقم (1394) .(17/414)
لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية (1) »
وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم أنه «كان يقول إذ زار البقيع: يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد (2) » ويشرع أيضا لمن زار المسجد النبوي أن يزور مسجد قباء ويصلي فيه ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزوره كل سبت ويصلي فيه ركعتين، وقال عليه الصلاة والسلام: «من تطهر في بيته فأحسن الطهور ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه كان كعمرة (3) » هذه هي المواضع التي تزار في المدينة المنورة، أما المساجد السبعة ومسجد القبلتين وغيرها من المواضع التي يذكر بعض المؤلفين في المناسك زيارتها فلا أصل لذلك، ولا دليل عليه. والمشروع للمؤمن دائما هو الاتباع دون الابتداع. والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه مسلم في (الجنائز) باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم (975) .
(2) رواه مسلم في (الجنائز) باب ما يقال عند دخول القبور برقم (974) .
(3) رواه ابن ماجه في (إقامة الصلاة والسنة فيها) باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء برقم (1412) .(17/415)
233 - زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم
س: أرجو الإفادة عن صحة الأحاديث الآتية:
الأول: «من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني» .
الثاني: «من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي» .
الثالث: «من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا شهيدا يوم القيامة» .
لأنها وردت في بعض الكتب وحصل منها إشكال واختلف فيها على رأيين: أحدهما يؤيد هذه الأحاديث. والثاني لا يؤيدها
ج: أما الحديث الأول: فقد رواه ابن عدي والدارقطني من طريق عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: «من حج ولم يزرني فقد جفاني» وهو حديث ضعيف، بل قيل عنه: إنه موضوع، أي مكذوب؛ ذلك أن في سنده محمد بن النعمان بن شبل الباهلي عن أبيه وكلاهما ضعيف جدا. وقال(17/416)
الدارقطني: الطعن في هذا الحديث على ابن النعمان لا على النعمان، وروى هذا الحديث البزار أيضا وفي إسناده إبراهيم الغفاري وهو ضعيف، ورواه البيهقي عن عمر وقال: وإسناده مجهول.
أما الحديث الثاني: فقد أخرجه الدارقطني عن رجل من آل حاطب عن حاطب عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ وفي إسناده الرجل المجهول، ورواه أبو يعلى في مسنده، وابن عدي في كامله، وفي إسناده حفص بن داود، وهو ضعيف الحديث.
أما الحديث الثالث: فقد رواه ابن أبي الدنيا من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ وفي إسناده سليمان بن زيد الكعبي وهو ضعيف الحديث، ورواه أبو داود الطيالسي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي إسناده مجهول.
وقد بسط الكلام على هذه الأحاديث وما جاء في معناها العلامة الشيخ محمد بن عبد الهادي رحمه الله في كتابه " الصارم المنكي في الرد على السبكي " وقبله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رده على الأخنائي. فأوصي بمراجعة الكتابين المذكورين للمزيد من العلم.(17/417)
هذا وقد وردت أحاديث صحيحة في الحث على زيارة القبور عامة للعبرة والاتعاظ والدعاء للميت. أما الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم خاصة فكلها ضعيفة كما تقدم، بل قيل إنها موضوعة، فمن رغب في زيارة القبور أو في زيارة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام زيارة شرعية للعبرة والاتعاظ والدعاء للميت والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والترضي عن صاحبيه من دون أن يشد الرحال لها وينشئ سفرا لذلك فزيارته مشروعة ويرجى له فيها الأجر.
وأما من شد لها الرحال أو زارها يرجو بركتها والانتفاع بها أو جعل لزيارتها مواعيد خاصة فزيارته مبتدعة، لم يصح فيها نص ولم تعرف عن سلف هذه الأمة، بل وردت النصوص بالنهي عنها كحديث: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (1) » رواه البخاري ومسلم، وحديث: «لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن تسليمكم
__________
(1) رواه البخاري في (الحج) باب حج النساء برقم (1864) ، ومسلم في (الحج) باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد برقم (1397) .(17/418)
يبلغني أين ما كنتم (1) » رواه محمد بن عبد الواحد المقدسي رحمه الله في كتابه " الأحاديث المختارة " وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) باقي مسند أبي هريرة برقم (8586) .(17/419)
س: هل يجوز للنساء زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ (1)
ج: لا يجوز لهن ذلك لعموم الأحاديث الواردة في نهي النساء عن زيارة القبور ولعنهن على ذلك، والخلاف في زيارة النساء لقبر النبي صلى الله عليه وسلم مشهور، ولكن تركهن لذلك أحوط وأوفق للسنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستثن قبره ولا قبر غيره، بل نهاهن نهيا عاما، ولعن من فعل ذلك منهن، والواجب الأخذ بالتعميم ما لم يوجد نص يخص قبره بذلك وليس هناك ما يخص قبره. والله ولي التوفيق.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء على كتاب بلوغ المرام.(17/419)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ع. م. ع. وفقه الله آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده:
كتابكم الكريم المؤرخ في 3 \ 3 \ 1974 م وصل وصلكم الله بهداه وما تضمنه كان معلوما (1) ، ونبارك لكم في الزواج جعله الله زواجا مباركا، وقد ذكرتم في كتابكم أن ندعو لكم عند قبر الرسول عليه الصلاة والسلام.
ونفيدكم أن الدعاء عند القبور غير مشروع سواء كان القبر قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره، وليست محلا للإجابة، وإنما المشروع زيارتها والسلام على الموتى والدعاء لهم، وذكر الآخرة والموت. أحببنا تنبيهك على هذا حتى تكون على بصيرة، وفي إمكانك أن تراجع أحاديث الزيارة في آخر كتاب الجنائز من بلوغ المرام حتى تعلم ذلك. وفقنا الله وإياكم لاتباع السنة والعمل بما يرضي الله سبحانه ويقرب لدينه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) رسالة أجاب عليها سماحته في 25 \ 2 \ 1394 هـ عندما كان رئيسا للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(17/420)
حكم تتبع آثار الأنبياء ليصلى فيها أو ليبنى عليها مساجد
س: الأماكن التي صلى بها الرسول عليه الصلاة والسلام هل من الأفضل بناء مساجد عليها، أم بقاؤها كما هي، أو عمل حدائق عامة بها؟ (1)
ج: لا يجوز للمسلم تتبع آثار الأنبياء ليصلي فيها أو ليبني عليها مساجد؛ لأن ذلك من وسائل الشرك، ولهذا كان عمر رضي الله عنه ينهى الناس عن ذلك ويقول: (إنما هلك من كان قبلكم بتتبعهم آثار أنبيائهم) ، وقطع رضي الله عنه الشجرة التي في الحديبية التي بويع النبي صلى الله عليه وسلم تحتها؛ لما رأى بعض الناس يذهبون إليها ويصلون تحتها، حسما لوسائل الشرك، وتحذيرا للأمة من البدع، وكان رضي الله عنه حكيما في أعماله وسيرته، حريصا على سد ذرائع الشرك وحسم أسبابه، فجزاه الله عن أمة محمد خيرا؛ ولهذا لم يبن الصحابة رضي الله عنهم على آثاره صلى الله عليه وسلم في
__________
(1) نشر في المجلد الثامن من هذا المجموع ص 323، وفي مجلة (الدعوة) العدد (1639) في 4\1\1419 هـ.(17/421)
طريق مكة وتبوك وغيرهما مساجد؛ لعلمهم بأن ذلك يخالف شريعته، ويسبب الوقوع في الشرك الأكبر، ولأنه من البدع التي حذر الرسول منها عليه الصلاة والسلام، بقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » رواه مسلم في صحيحه، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في خطبة الجمعة: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (3) » خرجه مسلم في صحيحه. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) رواه الخاري معلقا في النجش، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم (1718) .
(3) رواه مسلم في (الجمعة) باب تخفيف الصلاة والخطبة برقم (867) .(17/422)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة المكرمة السيدة \ ت. أ. ر. حفظها الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد تلقيت رسالتك المؤرخة في 16 \ 12 \ 1391 هـ. وعلمت ما تضمنته من الأسئلة وإليك الإجابة عنها (1) .
أولا: بالنسبة لحجك مع عمك فلا بأس به؛ لأن العم محرم شرعي ونرجو من الله أن يتقبل منك ويثيبك ثواب الحج المبرور.
وأما ميقات الحجاج القادمين من أفريقيا، فهو الجحفة أو ما يحاذيها من جهة البر والبحر والجو إلا إذا قدموا من طريق المدينة فميقاتهم ميقات أهل المدينة، ومن أحرم من رابغ فقد أحرم من الجحفة؛ لأن الجحفة قد ذهبت آثارها وصارت بلدة رابغ في محلها أو قبلها بقليل.
وأما من ناحية المساجد الموجودة بالمدينة المعروفة حاليا فكلها حادثة ما عدا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء وليس لهذه المساجد غير المسجدين المذكورين خصوصية من صلاة أو دعاء أو غيرهما بل هي كسائر المساجد
__________
(1) رسالة أجاب عليها سماحته في 20 \1 \ 1392 هـ عندما كان رئيسا للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(17/423)
من أدركته الصلاة فيها صلى مع أهلها، أما قصدها للصلاة فيها والدعاء والقراءة أو نحو ذلك لاعتقاده خصوصية فيها فليس لذلك أصل بل هو من البدع التي يجب إنكارها لقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » ، أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها. وتحقيقا لرغبتك يسرنا أن نبعث إليك برفقه بعضا من الكتب التي توزعها الجامعة حسب البيان المرفق، نسأل الله أن ينفع بها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) رواه البخاري معلقا في النجش، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم (1718) .(17/424)
باب صفة الحج والعمرة
(12) صفة العمرة
235 - أعمال مناسك العمرة
الحمد لله وحده وبعد: فهذه نبذة مختصرة عن أعمال مناسك العمرة وإلى القارئ بيان ذلك (1) :
1 - إذا وصل من يريد العمرة إلى الميقات استحب له أن يغتسل ويتنظف، وهكذا تفعل المرأة، ولو كانت حائضا أو نفساء، غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر وتغتسل.
ويتطيب الرجل في بدنه دون ملابس إحرامه. فإن لم يتيسر الاغتسال في الميقات فلا حرج ويستحب أن يغتسل إذا وصل مكة قبل الطواف إذا تيسر ذلك.
2 - يتجرد الرجل من جميع الملابس المخيطة ويلبس إزارا ورداء. ويستحب أن يكونا أبيضين نظيفين. أما المرأة
__________
(1) نبذة مختصرة من أعمال مناسك العمرة صدرت من مكتب سماحته في 13 \ 2 \ 1416 هـ.(17/425)
فتحرم في ملابسها العادية التي ليس فيها زينة ولا شهرة.
3 - ثم ينوي الدخول في النسك بقلبه ويتلفظ بلسانه قائلا لبيك عمرة أو اللهم لبيك عمرة وإن خاف المحرم ألا يتمكن من أداء نسكه لكونه مريضا أو خائفا من عدو ونحوه، شرع له أن يشترط عند إحرامه فيقول: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني لحديث ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها. ثم يلبي بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم وهي: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ويكثر من هذه التلبية ومن ذكر الله سبحانه ودعائه حتى يصل إلى البيت " الكعبة ".
4 - فإذا وصل إلى المسجد الحرام قدم رجله اليمنى عند الدخول، وقال: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك.
5 - فإذا وصل إلى البيت قطع التلبية ثم قصد الحجر الأسود(17/426)
واستقبله ثم يستلمه بيمينه ويقبله إن تيسر ذلك ولا يؤذي الناس بالمزاحمة. ويقول عند استلامه: " بسم الله والله أكبر " فإن شق التقبيل استلمه بيده أو بعضا أو نحوها، وقبل ما استلمه به فإن شق استلامه أشار إليه وقال: " الله أكبر " ولا يقبل ما يشير به. ويشترط لصحة الطواف أن يكون الطائف على طهارة من الحدث الأصغر والأكبر؛ لأن الطواف مثل الصلاة غير أنه رخص فيه في الكلام.
6 - يجعل البيت عن يساره ويطوف به سبعة أشواط، وإذا حاذى الركن اليماني استلمه بيمينه إن تيسر ويقول: " بسم الله والله أكبر " ولا يقبله. فإن شق عليه استلامه تركه ومضى في طوافه ولا يشير إليه ولا يكبر؛ لأن ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما الحجر الأسود فكلما حاذاه استلمه وقبله كما ذكرنا سابقا، وإلا أشار إليه وكبر. ويستحب الرمل - وهو الإسراع في المشي مع تقارب الخطى - في الثلاثة الأشواط الأولى من طواف القدوم للرجل خاصة. كما يستحب للرجل أن يطبع في طواف القدوم في جميع الأشواط، والاضطباع: أن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر، ويستحب الإكثار من الذكر والدعاء بما تيسر في جميع الأشواط. وليس في الطواف(17/427)
دعاء مخصوص ولا ذكر مخصوص، بل يدعو ويذكر الله بما تيسر من الأذكار والأدعية ويقول بين الركنين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (1) في كل شوط؛ لأن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويختم الشوط السابع باستلام الحجر الأسود وتقبيله إن تيسر أو الإشارة إليه مع التكبير حسب التفصيل المذكور آنفا وبعد فراغه من هذا الطواف يرتدي بردائه فيجعله على كتفيه، وطرفيه على صدره.
7 - ثم يصلي ركعتين خلف المقام إن تيسر، فإن لم يتمكن من ذلك صلاهما في أي موضع من المسجد يقرأ فيهما بعد الفاتحة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (2) في الركعة الأولى، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) في الركعة الثانية، هذا هو الأفضل وإن قرأ بغيرهما فلا بأس. ثم بعد أن يسلم من الركعتين يقصد الحجر الأسود إن تيسر ذلك.
8 - ثم يخرج إلى الصفا فيرقاه أو يقف عنده والرقي أفضل إن تيسر ويقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (4) ويستحب أن يستقبل القبلة ويحمد الله ويكبره ويقول: لا إله إلا الله والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا
__________
(1) سورة البقرة الآية 201
(2) سورة الكافرون الآية 1
(3) سورة الإخلاص الآية 1
(4) سورة البقرة الآية 158(17/428)
شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ثم يدعو بما تيسر رافعا يديه ويكرر هذا الذكر والدعاء ثلاث مرات، ثم ينزل فيمشي إلى المروة حتى يصل إلى العلم الأول، فيسرع الرجل في المشي إلى أن يصل إلى العلم الثاني.
أما المرأة فلا يشرع لها الإسراع؛ لأنها عورة، ثم يمشي فيرقى المروة أو يقف عندها والرقي أفضل إن تيسر، ويقول ويفعل على المروة كما قال وفعل على الصفا. ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسرع في موضع الإسراع حتى يصل إلى الصفا يفعل ذلك سبع مرات ذهابه شوط ورجوعه شوط. وإن سعى راكبا فلا حرج ولا سيما عند الحاجة. ويستحب أن يكثر في سعيه من الذكر والدعاء بما تيسر، وأن يكون متطهرا من الحدث الأكبر والأصغر ولو سعى على غير طهارة أجزأه ذلك.
9 - فإذا كمل السعي يحلق الرجل رأسه أو يقصره والحلق أفضل وإذا كان قدومه مكة قريبا من وقت الحج فالتقصير في حقه أفضل ليحلق بقية رأسه في الحج، أما المرأة فتجمع شعرها وتأخذ منه قدر أنملة فأقل، فإذا فعل المحرم ما ذكر فقد تمت عمرته والحمد لله وحل له كل(17/429)
شيء حرم عليه بالإحرام.
وفقنا الله وسائر إخواننا المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه وتقبل من الجميع إنه سبحانه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء
وإدارة البحوث العلمية والإفتاء(17/430)
236 - أفضل زمان تؤدى فيه العمرة رمضان
س: هل ثبت فضل خاص للعمرة في أشهر الحج يختلف عن فضلها في غير تلك الأشهر؟ .
ج: أفضل زمان تؤدى فيه العمرة شهر رمضان لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عمرة في رمضان تعدل حجة (1) » متفق على صحته، وفي رواية أخرى في البخاري: «تقضي حجة معي (2) » وفي مسلم: «تقضي حجة أو حجة معي (3) » هكذا بالشك - يعني معه عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك العمرة في ذي القعدة، لأن عمره صلى الله عليه وسلم كلها وقعت في ذي القعدة، وقد قال الله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (4)
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) بداية مسند عبد الله بن عباس برقم (2804) ، وابن ماجه في (المناسك) باب العمرة في رمضان برقم (2994) .
(2) رواه البخاري في (الحج) باب حج النساء برقم (1863) .
(3) رواه مسلم في (الحج) باب فضل العمرة في رمضان رقم (1256) .
(4) سورة الأحزاب الآية 21(17/431)
وبالله التوفيق.(17/432)
237 - تكرار العمرة في رمضان
س: هل يجوز تكرار العمرة في رمضان طلبا للأجر المترتب على ذلك؟ (1)
ج: لا حرج في ذلك، النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (2) » متفق عليه.
فإذا اعتمر ثلاث أو أربع مرات فلا حرج في ذلك. فقد اعتمرت عائشة رضي الله عنها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع عمرتين في أقل من عشرين يوما.
__________
(1) نشر في مجلة (اليمامة) العدد (1151) بتاريخ 25 \ 9 \ 1411 هـ.
(2) رواه البخاري في (الحج) باب وجوب العمرة وفضلها برقم (1773) ، ومسلم في (الحج) باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم (1349) .(17/432)
س: دخلت إلى مكة محرما في رمضان وعملت العمرة وحجيت بحول الله وفضله، فهل علي عمرة أخرى؟ وما(17/432)
الحكم؟ (1)
ج: ليس عليك عمرة أخرى، فقد أديت العمرة والحمد لله في رمضان في أشرف وقت وحجك يكون مفردا؛ لأن العمرة إنما تجب في العمر مرة واحدة كالحج، وما زاد على ذلك فهو تطوع.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته بعد الدرس الذي ألقاه في المسجد الحرام بتاريخ 25 \ 12 \ 1418 هـ.(17/433)
238 - عمرة الرسول صلى الله عليه وسلم في رجب
س: هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر عمرة في شهر رجب؟ (1)
ج: المشهور عند أهل العلم أنه لم يعتمر في شهر رجب وإنما عمره صلى الله عليه وسلم كلها في ذي القعدة، وقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب وذكرت عائشة رضي الله عنها " أنه قد وهم في ذلك " وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رجب، والقاعدة في الأصول أن المثبت مقدم على النافي، فلعل عائشة ومن قال بقولها لم يحفظوا ما حفظ ابن عمر، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1664) في 2 \ 7 \ 1419 هـ.(17/433)
239 - حكم التقصير في العمرة
س: ما الحكم في التقصير من الشعر بعد العمرة أهو على التعميم من جميع الشعر أم يكفي من جزء منه فقط؟ (1)
ج: التقصير من جميع الشعر في العمرة والحج جميعا مثل ما يحلقه كله يقصره كله، ويأخذ من أطراف الشعر حتى يعم الرأس ولا يكون معناه شعرة شعرة، معناه يعمم ظاهر الرأس ويكفي، يعممه بالتقصير كما يعممه بالحلق هذا هو المشروع وهذا هو الواجب.
__________
(1) من أسئلة حج عام 1407 هـ، شريط رقم (1) .(17/434)
240 - حكم من لبس المخيط بعد ستة أشواط جهلا منه
س: رجل قدم من الرياض وأحرم من الميقات للعمرة، وفي السعي سعى ستة أشواط جهلا منه، ثم قصر شعر رأسه ولبس المخيط وسافر إلى جدة. ماذا يجب عليه الآن؟(17/434)
والمذكور إذا رجع إلى مكة بنية العمرة من جديد بدل العمرة السابقة التي لم يكمل سعيها، هل عليه شيء؟
وماذا يجب عليه الآن للعمرة التي لم يكمل سعيها ولبس المخيط؟ (1)
ج: على المذكور أن يرجع إلى مكة ويكمل السعي ثم يعيد التقصير، وإن أعاد السعي كله فهو أفضل وأحوط بعد خلع المخيط ولبس ملابس الإحرام، ولا شيء عليه بسبب الجهل، وهكذا الناسي، لقول الله سبحانه: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (2) الآية وقد صح «عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في تفسير هذه الآية: إن الله سبحانه قال: قد فعلت (3) » والله ولي التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.
__________
(1) سؤال مقدم من \ م. ع. س. أجاب عنه سماحته.
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) رواه مسلم في (الإيمان) باب بيان أن الله سبحانه لم يكلف إلا ما يطاق برقم (126) .(17/435)
241 - حكم من أحس بتعب قبل إكمال الطواف
س: أنا امرأة مريضة ذهبت إلى العمرة وعندما طفت(17/435)
ثلاثة أشواط أصبت بالدوخة ماذا يجب علي أن أفعل؟ (1)
ج: عليك أن تستريحي وتكملي الطواف، فإن طال الفصل فأعيدي الطواف من أوله. أما إذا زالت الدوخة بسهولة وسرعة فكملي الطواف ويكفي والحمد لله.
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) ، الشريط رقم (15) .(17/436)
242 - حكم من نسي الحلق أو التقصير في العمرة
س: ما حكم من نسي الحلق أو التقصير في العمرة فلبس المخيط ثم ذكر أنه لم يقصر أو يحلق؟
ج: من نسي الحلق أو التقصير في العمرة فطاف وسعى ثم لبس قبل أن يحلق أو يقصر فإنه ينزع ثيابه إذا ذكر ويحلق أو يقصر ثم يعيد لبسهما، فإن قصر أو حلق وثيابه عليه جهلا منه أو نسيانا فلا شيء عليه، وأجزأه ذلك، ولا حاجة إلى الإعادة للتقصير أو الحلق، لكن متى تنبه فإن الواجب عليه أن يخلع حتى يحلق أو يقصر وهو محرم.(17/436)
س: امرأة اعتمرت ونسيت أن تقصر شعرها ثم تذكرت بعد يومين فماذا تفعل؟ (1)
ج: إذا طاف المعتمر وسعى ثم نسي التقصير، قصر متى ذكره في بلده أو غيرها.
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) .(17/437)
س: إذا لبس المخيط قبل أن يحلق أو يقصر في العمرة ونسي ذلك؟ (1)
ج: إذا لبس المخيط ناسيا قبل أن يقصر وجب عليه خلعه متى ذكر، ثم يحلق أو يقصر ولا شيء عليه؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (2)
__________
(1) نشر في جريدة (عكاظ) العدد (11551) في 10 \ 12 \ 1418 هـ.
(2) سورة البقرة الآية 286(17/437)
س: أخذت عمرة أنا وزوجتي، وعند الانتهاء من السعي حلقت رأسي، أما زوجتي فلم تقصر من شعرها ناسية، وغادرنا مكة ورجعنا إلى بلادنا، ثم حدث الجماع بيني وبين زوجتي، فما حكم عمرتنا جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: العمرة صحيحة إن شاء الله، وليس على زوجتك
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1635) في 28 \ 11 \ 1418 هـ.(17/437)
شيء مادامت ناسية. ولكن عليها أن تقصر من شعرها متى نبهت لذلك والحمد لله.(17/438)
243 - حكم أخذ حبوب منع نزول الدورة لمن أرادت العمرة
س: سائلة تقول: أنا امرأة تناولت حبوب منع نزول الدورة في الكويت، وأحسست بألم شديد ثم قطعت هذه الحبوب، ثم بعدها بأربعة أيام ألا وهو يوم الاثنين الماضي نزلت علي الدورة واستمرت الثلاثاء والأربعاء، خرجنا من الكويت صباحا ألا وهو ثالث يوم من الدورة، وفي منتصف الطريق في الساعة 8.30 ليلا تناولت حبتين من نفس الحبوب مع العلم أن مفعولها يتبين بعد 24 ساعة، ووصلنا إلى الميقات في الساعة الثانية صباحا يوم الخميس، أي مضى على تناولي الحبوب 5 ساعات ونصف، ولكن عند وصولي للميقات منذ ذلك الوقت لم ينزل علي دم، وأحرمت وذهبت إلى الحرم وأنا على شك من أمري لأني لم أدقق هل الدم وقف أم لا؟ وقبل دخولي الحرم بدقائق ذهبت إلى الحمام ولم يكن نزل مني دم واعتمرت ولكن عندما ذهبت إلى السكن نزل علي قليل من الدم هذا ولم تطمئن نفسي فهل عمرتي صحيحة(17/438)
أم لا؟ جزاكم الله خيرا (1)
ج: من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخت في الله ش. س. وفقها الله لما فيه رضاه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده:
لقد فهمت سؤالك الموضح في الورقة المرفقة، وأفيدك أن عمرتك بحمد الله صحيحة، إذا كان الواقع هو ما ذكرت تقبل الله منا ومنك ومن كل مسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
__________
(1) سؤال موجه من الأخت ش. س. من الكويت أجاب عنه سماحته في تاريخ 5 \ 12 \ 1417 هـ.(17/439)
س: ما حكم من أخذ من مقدمة رأسه بالحلق في العمرة وماذا يجب عليه؟ (1)
ج: الواجب التعميم وعليه التوبة من ما مضى.
__________
(1) نشر في جريدة (عكاظ) العدد (11551) في الثلاثاء 10 ذي الحجة 1418 هـ.(17/440)
س: إذا اعتمرت وقضيت العمرة، هل يجوز لي العمرة عن من أريد من أقاربي علما أنه ليس في الحج، وما هو المكان الذي أحرم منه عند ذلك؟ (1)
ج: لا أعلم مانعا شرعيا من عمرتك لمن ترى من أقاربك بعد اعتمارك عن نفسك العمرة الواجبة، سواء كان ذلك في وقت الحج أو في غيره، أما ميقات العمرة لمن كان في داخل الحرم فهو الحل، كالتنعيم والجعرانة ونحوهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر عائشة بالاعتمار أمر عبد الرحمن أخاها أن يعمرها من خارج الحرم.
__________
(1) سؤال موجه من السائل س. ع. ح. أجاب عنه سماحته في هـ 20 \ 9 \ 1395 هـ.(17/440)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ع. ث. أوفقه الله لما فيه رضاه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده:
وصلنا كتابك المتضمن رغبة والدك في أداء العمرة في المولد وطلبك المساعدة له في ذلك. . . إلخ (1)
وعليه نشكرك على العناية بوالدك، ونحب أن نلفت نظرك إلى شيء مهم، وهو أن الاحتفال بالموالد غير مشروع وليس له أصل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه رضوان الله عليهم، وهكذا العمرة وقت الموالد غير مشروعة، ولكنها تشرع في جميع السنة من غير تحر لوقت المولد، وأفضل ذلك أن تكون في رمضان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عمرة في رمضان تعدل حجة (2) » متفق على صحته. وهي لا تجب في العمر إلا مرة كالحج.
__________
(1) سؤال مقدم من السائل ع. ث. أ. أجاب عنه سماحته في 4 \ 4 \ 1409 هـ.
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) بداية مسند عبد الله بن عباس برقم (2804) ، وابن ماجه في (المناسك) باب العمرة في رمضان برقم (2994) .(17/441)
هذا ونسأل الله لنا ولكم وللمسلمين التوفيق لما يرضيه وصلاح النية والعمل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(17/442)
244 - حكم طواف الوداع في العمرة
س: هل طواف الوداع واجب في العمرة، وهل يجوز شراء شيء من مكة بعد طواف الوداع سواء كان حجا أو عمرة؟
ج: طواف الوداع ليس بواجب في العمرة، ولكن فعله أفضل، فلو خرج ولم يودع فلا حرج. أما في الحج فهو واجب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » وهذا كان خطابا
__________
(1) رواه مسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم (1327) .(17/442)
للحجاج. وله أن يشتري ما يحتاج إليه بعد الوداع من جميع الحاجات، حتى ولو اشترى شيئا للتجارة ما دامت المدة قصيرة لم تطل، أما إن طالت المدة فإنه يعيد الطواف، فإن لم تطل عرفا فلا إعادة عليه مطلقا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
انتهى الجزء السابع عشر
ويليه بمشيئة الله تعالى الجزء
الثامن عشر وأوله باب
الفوات والإحصار(17/443)
صفحة فارغة(18/1)
صفحة فارغة(18/2)
بسم الله الرحمن الرحيم(18/3)
صفحة فارغة(18/4)
القسم الثالث والأخير من الحج
باب الفوات والإحصار(18/5)
صفحة فارغة(18/6)
1 - الإحصار يكون بالعدو وبغير العدو كالمرض
س: إذا تجاوز الحاج الميقات ملبيا بحج وعمرة ولم يشترط، وحصل له عارض، كمرض ونحوه، يمنعه من إتمام نسكه، فماذا يلزمه أن يفعل؟ .
ج: هذا يكون محصرا إذا كان لم يشترط ثم حصل له حادث يمنعه من الإتمام، إن أمكنه الصبر رجاء أن يزول المانع ثم يكمل صبر، وإن لم يتمكن من ذلك فهو محصر على الصحيح، والله قال في المحصر: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) والصواب أن الإحصار يكون بالعدو، ويكون بغير العدو كالمرض. فيهدي ثم يحلق أو يقصر ويتحلل، هذا هو حكم المحصر، يذبح ذبيحة في محله الذي أحصر فيه، سواء كان في الحرم أو في الحل، ويعطيها للفقراء في محله ولو كان خارج الحرم، فإن لم يتيسر حوله أحد نقلت إلى فقراء الحرم، أو إلى من حوله من الفقراء، أو إلى فقراء بعض القرى ثم يحلق أو يقصر ويتحلل، فإن لم يستطع الهدي صام عشرة أيام ثم حلق أو قصر وتحلل.
__________
(1) سورة البقرة الآية 196(18/7)
2 - حكم من حبسه حابس عن الطواف والسعي
س: ما حكم من أحرم من الميقات للحج أو العمرة ثم حبسه حابس عن الطواف والسعي؟ .
ج: الذي أحرم بالحج أو العمرة ثم حبسه حابس عن الطواف والسعي يبقى على إحرامه إذا كان يرجو زوال هذا الحابس قريبا، كأن يكون المانع سيلا، أو عدوا يمكن التفاوض معه في الدخول وأداء الطواف والسعي، ولا يعجل في التحلل، كما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه (حيث مكثوا مدة) يوم الحديبية للمفاوضة مع أهل مكة لعلهم يسمحون لهم بالدخول لأداء العمرة بدون قتال، فلما لم يتيسر ذلك وصمموا على المنع إلا بالحرب، وتم الصلح بينه وبينهم على أن يرجع للمدينة ويعتمر في العام القادم، «نحر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هديهم وحلقوا وتحللوا» . وهذا هو المشروع للمحصر، يتمهل، فإن تيسر فك الحصار استمر على(18/8)
إحرامه وأدى مناسكه، وإن لم يتيسر ذلك وشق عليه المقام تحلل من هذه العمرة أو الحج إن كان حاجا، ولا شيء عليه سوى التحلل بإهراق دم يجزئ في الأضحية، ثم الحلق أو التقصير كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم الحديبية، وبذلك يتحلل، كما قال جل وعلا: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1) فالحلق يكون بعد الذبح ويقوم مقامه التقصير، فينحر أولا، ثم يحلق أو يقصر، ثم يتحلل ويعود إلى بلاده، فمن لم يجد هديا صام عشرة أيام ثم يحلق أو يقصر ثم يحل.
__________
(1) سورة البقرة الآية 196(18/9)
3 - من اشترط عند إحرامه لم يلزمه الهدي
س: إذا عزم المسلم على الحج وبعد الإحرام تعذر حجه، ماذا يلزمه؟ (1) .
ج: إذا أحصر الإنسان عن الحج بعدما أحرم بمرض أو غيره جاز له التحلل بعد أن ينحر هديا ثم يحلق رأسه أو يقصره؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (2)
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1540) في 22 ذي الحجة 1416 هـ.
(2) سورة البقرة الآية 196(18/9)
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم «لما أحصر عن دخول مكة يوم الحديبية نحر هديه وحلق رأسه ثم حل، وأمر أصحابه بذلك، (1) » لكن إذا كان المحصر قد قال في إحرامه: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، حل ولم يكن عليه شيء لا هدي ولا غيره؛ لما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها «أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب قالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني (2) » .
__________
(1) صحيح البخاري الشروط (2734) ، سنن النسائي مناسك الحج (2771) ، سنن أبو داود الجهاد (2765) ، مسند أحمد بن حنبل (4/332) .
(2) رواه البخاري في (النكاح) باب الأكفاء في الدين برقم (5089) ، ومسلم في (الحج) باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه برقم (1207) .(18/10)
س: رجل سافر هو وزوجته بنية العمرة بالطائرة، وعندما وصلا إلى جدة مرضت المرأة في المطار، ولم يلبثا أن عادا إلى الرياض في نفس اليوم ولم يؤديا مناسكهما، مع العلم أنهما اشترطا عند إعلانهما نية العمرة. فهل عليهما إثم في ذلك؟ جزاكم الله خيرا، وما المطلوب منهما؟ (1) .
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1561) في 21 \ 5 \ 1417 هـ.(18/10)
ج: بسم الله والحمد لله، إذا كانا قد اشترطا عند الإحرام إن أصابهما حابس فمحلهما حيث حبسا، أو ما هذا معناه، فإنهما يحلان ولا شيء عليهما؛ بسبب المرض الذي يشق على المرأة معه أداء مناسك العمرة، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «قال لضباعة بنت الزبير رضي الله عنها لما قالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية، قال: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني (1) » . متفق على صحته.
__________
(1) رواه البخاري في (النكاح) باب الأكفاء في الدين برقم (5089) ، ومسلم في (الحج) باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه برقم (1207) .(18/11)
س: هناك امرأة جاءت للحج مع أمها، ولكن أمها مرضت فبقيت معها في الغرفة يوم عرفات فما وقفت يوم عرفة لا هي ولا أمها ولكن ذهبت بعد الحج فوقفت من الظهر إلى المغرب، فما حكم حجها، وماذا عليهما جميعا؟ (1) .
ج: عليهما أن يتحللا بأعمال العمرة، وهي أن تطوف كل واحدة منهما وتسعى وتقصر وتتحلل، وعليهما القضاء من العام الآتي مع فدية ذبيحة تذبح في مكة للفقراء على كل
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته في دروس في المسجد الحرام عام 1418 هـ.(18/11)
واحدة إن استطاعتا ذلك، أما وقوفها بعد يوم عرفة من الظهر إلى المغرب يوم العيد فهذا بدعة، ولا عمل عليه، ولا يجزئ، ولا يجوز.(18/12)
4 - المحصر ينحر الهدي
في المكان الذي أحصر فيه
س: هل نحر الهدي في غير الحرم خاص بالمحصر؟ (1) .
ج: المحصر ينحر الهدي في محله، سواء كان في الحرم أو في الحل.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته في درس بلوغ المرام.(18/12)
5 - صيام عشرة أيام لمن عجز عن الذبح
س: ما حكم من أراد الحج والعمرة، وبعد وصوله إلى مكة ضاعت نفقته ولم يستطع أن يفدي، وغير نيته إلى حج مفرد. هل يصح ذلك؟ وإذا كانت الحجة لغيره ومشترطا عليه التمتع فماذا يفعل؟ (1) .
ج: ليس له ذلك ولو ضاعت نفقته، فإذا عجز عن الدم يصوم عشرة أيام والحمد لله، ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1542) في 6 \ 1 \ 1417 هـ.(18/12)
رجع إلى أهله، ويبقى على تمتعه، وعليه أن ينفذ الشرط بأن يحرم بالعمرة ويطوف ويسعى ويقصر ويحل، ثم يلبي بالحج ويفدي، فإن عجز صام عشرة أيام، ثلاثة في الحج قبل عرفة وسبعة إذا رجع إلى أهله؛ لأن الأفضل للحاج أن يكون يوم عرفة مفطرا؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه وقف بها مفطرا.(18/13)
س: إنسان أحصر عن إتمام أعمال الحج أو العمرة بسبب مرض أو نحوه ولم يجد هديا ذلك الوقت، فماذا يجب عليه؟ (1) .
ج: عليه صيام عشرة أيام قبل أن يحلق رأسه أو يقصر؛ لقول الله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (2) الآية، ولفعله صلى الله عليه وسلم لما أحصر عن العمرة عام الحديبية سنة ست من الهجرة النبوية، والله الموفق.
__________
(1) إجابة عن أسئلة صدرت من مكتب سماحته عندما كان رئيسا للجامعة الإسلامية.
(2) سورة البقرة الآية 196(18/13)
6 - حكم من بدأ العمرة ولم يتمها
س: قدر الله أن أذهب لأداء العمرة في شهر رمضان(18/13)
المبارك الفائت، ولما بدأت الطواف ولشدة الزحام لم أكمله فخرجت من مكة وعدت إلى مدينتي وكان ذلك ليلة سبع وعشرين. وأسأل سماحة شيخنا - حفظه الله - عما يترتب علي مع العلم أنني والحمد لله أتمتع بصحة جيدة أفيدونا أفادكم الله؟ (1) .
ج: قد أخطأت فيما عملت عفا الله عنا وعنك، وكان الواجب عليك أن تكمل العمرة في وقت آخر غير وقت الزحام؛ لقول الله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (2) وقد أجمع العلماء على أنه يجب على من أحرم بحج أو عمرة أن يكمل ذلك، وأن لا يتحلل منهما إلا بعد الفراغ من أعمال العمرة ومن الأعمال التي تبيح له التحلل من أعمال الحج، إلا المحصر والمشترط إذا تحقق شرطه. فعليك التوبة مما فعلت، وعليك مع ذلك أن تعيد ملابس الإحرام، وتتجنب محظورات الإحرام، وتذهب إلى مكة لإكمال العمرة للطواف والسعي والحلق أو التقصير، وعليك مع ذلك دم وهو سبع بدنة أو سبع بقرة أو رأس من الغنم ثني معز أو جذع ضأن إن كنت جامعت امرأتك في المدة المذكورة، وعليك أن تذهب إلى الميقات الذي أحرمت منه بالأول، وتحرم بعمرة جديدة وتؤدي
__________
(1) من كتاب (فتاوى إسلامية) جمع الشيخ محمد المسند ج 2.
(2) سورة البقرة الآية 196(18/14)
مناسكها قضاء للعمرة الفاسدة بالجماع، مع التوبة مما فعلت كما تقدم، وإن كنت تعلم الحكم وأنه لا يجوز لك هذا العمل فعليك إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من قوت البلد من بر أو أرز أو غيرهما، أو ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام عن لبس المخيط، ومثل ذلك عن تغطية الرأس، ومثل ذلك عن الطيب، ومثل ذلك عن قلم الأظفار، ومثل ذلك عن حلق الشعر في المدة المذكورة، أما إن كنت جاهلا فليس عليك شيء من الفدية المذكورة؛ لقول الله سبحانه: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (1) وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله أجاب هذه الدعوة، ولأدلة أخرى في ذلك. والله الموفق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 286(18/15)
س: في العام الماضي حجت والدتي ومعها أبناؤها وبناتها بنسك التمتع، وبعدما دخلوا في الطواف أصيبت بحالة إغماء ولم تتمكن من الطواف والسعي، وحيث إنها مصابة بمرض السكر والضغط أدخلت المستشفى، قال الطبيب لها: ما تستطيع إكمال الحج، ونظرا لهذه الحالة رجعوا جميعا إلى مدينتهم، فماذا يترتب عليهم؟ (1) .
__________
(1) من فتاوى سماحته في حج عام 1415 هـ.(18/15)
ج: هذه عملها عمل المحصر، هي نفسها تعتبر كالمحصر عليها أن تذبح هديا؛ لأنها أحصرت في مكة، ودم الإحصار يذبح في مكان الإحصار سواء في مكة أو في غيرها للفقراء، وعليها أن تقصر من شعرها ويتم حلها، وإذا كان حجها فريضة تحج بعد حين؛ لأنها محصرة إلا إذا صحت قبل الحج، وتيسر لها الرجوع، وتطوف وتسعى وتكمل حجها فلا بأس، وظاهر الحال أنهم أصابهم هذا الأمر في طواف العمرة، وهم متمتعون، فعليها أن ترجع وتكمل عمرتها إذا كانت تستطيع ويكفي.
وإن كانت لا تستطيع فعليها دم الإحصار ذبيحة تذبح في مكة للفقراء مع التقصير، وبذلك تم أمر الإحصار ولا شيء عليها؛ لأن الإحصار يكون بالمرض ويكون بالعدو على الصحيح، أما إن تيسر لها أن ترجع فهي لا تزال في الإحرام ترجع وتطوف وتسعى وتقصر لعمرتها، وعليها دم إن كان لها زوج وطأها يذبح في مكة للفقراء، وعليها الإتيان بعمرة جديدة من الميقات الذي أحرمت منه في الأول قضاء لعمرتها التي فسدت بالجماع، وإن كان ما عندها زوج ما عليها شيء، ترجع وتطوف وتسعى وتقصر لعمرتها السابقة وتمت عمرتها ولا شيء عليها، أما إن كانت لا تستطيع فهي في حكم المحصر تذبح شاة في مكة للفقراء؛ لأن الإحصار وقع في مكة، وعليها أن تقصر أيضا من شعرها، وبهذا تحللت من عمرتها، وعليها عمرة(18/16)
الإسلام فيما بعد إذا قدرت إذا لم تعتمر سابقا، وعليها الحج أيضا إن كانت لم تحج، والذين معها إذا كانوا رجعوا ولم يكملوا عليهم مثلها، عليهم أن يرجعوا ويكملوا عمرتهم وليسوا محصرين، وإن لبسوا وتطيبوا هذا من الجهل، لا شيء عليهم، وإن كان فيهم امرأة قد وطأها زوجها فعليها شاة عن الوطء، وتكمل عمرتها، وتأتي بعمرة جديدة أيضا من الميقات الذي أحرمت بالعمرة منه بدل العمرة التي أفسدتها بالوطء ولا حرج، والذين معها من ذكور وإناث يرجعون ويكملون عمرتهم هذه التي رجعوا منها، وما لبسوا أو تطيبوا لا شيء عليهم؛ لأجل الجهل، والذي منهم قد وطئ زوجته أو الزوجة التي وطئت قد أفسدت عمرتها، وكذا عمرة الزوج عليه أن يكملها ويأتي بعمرة جديدة من الميقات الأول الذي أحرم منه، وعلى الذي وطئ أو وطئت عليهما دم يذبح في مكة للفقراء.(18/17)
س: يقول هذا السائل أنه في عام 1400 هـ أحرم للعمرة من الطائف وقال: لبيك اللهم لبيك عمرة إن شاء الله، وعندما وصل إلى الحرم منعه الجنود من دخول الحرم وأمروه بالرجوع، وعندما رجع إلى الطائف أخبره بعض أهل مكة أن في الحرم حرب وإطلاق نار فما كان منه إلا أن نزع إحرامه ولبس ثوبه ورجع إلى بلده، فماذا عليه في ذلك؟ وهل هدي الإحصار يذبح في الحرم أو في أي(18/17)
مكان؟ (1) .
ج: هذا يسمى محصرا للحادث الذي استحل فيه الحرم والواجب على السائل أن لا يعجل في التحلل حتى ينحر هديا، ثم يحلق أو يقصر قبل أن يخلع ثيابه، أو يتحلل، هذا هو الواجب عليه. فإن كان قصده في قوله: " لبيك عمرة إن شاء الله " يقصد بها إن حبسه يعني إن شئت يا رب إمضاءها، هذا قصده الاستثناء فليس عليه شيء، أما إن قال: إن شاء الله من غير قصد، فهذا يلزمه أن يعيد ملابس الإحرام، وأن يذبح هديا ذبيحة، ثم يحلق أو يقصر، ثم يتحلل يلبس ملابسه العادية، ولو بعد هذه المدة؛ لأنه محصر ممنوع من الوصول للحرم، إلا أن يكون تمم حجه بعد ذلك جاء إلى مكة في السنة الثانية أو الثالثة بعد ذلك وتمم: أي أحرم وتمم حجه أو عمرته، فليس عليه شيء إذا كان جاء بعد الإحصار هذا وأدى عمرة فليس عليه شيء، والهدي إذا لزمه يذبح في مكانه الذي أحصر فيه.
__________
(1) من فتاوى سماحته في حج عام 1407 هـ.(18/18)
س: وإذا كان مثل هذا نسي الحكم ولا عرفه إلا فيما بعد؟ (1) .
ج: يلبس ملابس الإحرام ويذبح هديه، ويحلق أو يقصر، ويحل من حيث بلغه الحكم.
__________
(1) من فتاوى سماحته في حج عام 1407 هـ.(18/18)
باب الهدي والأضحية والعقيقة(18/19)
صفحة فارغة(18/20)
7 - حكم المتمتع الذي ضاعت نقوده
س: لقد أحرمت الإحرام الذي يلزم معه الهدي، ولكنها ضاعت نقودي وفقدت كل مالي الذي معي، فما حكمي في هذه الحالة؟ علما بأن زوجتي ترافقني أيضا.
ج: إذا أحرم الإنسان بالعمرة في أيام الحج متمتعا بها إلى الحج، أو بالحج والعمرة جميعا قارنا، فإنه يلزمه دم، وهو رأس من الغنم ثني من المعز أو جذع من الضأن، أو سبع بدنة أو سبع بقرة، يذبحها في أيام النحر بمكة أو منى، فيعطيها الفقراء والمساكين، ويأكل منها ويهدي، هذا هو الواجب عليه، فإذا عجز عن ذلك؛ لذهاب نفقته، أو لفقره وعسره وقلة النفقة، فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله كما أمره الله بذلك، ويجوز أن يصوم عن الثلاثة اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وذلك مستثنى من النهي عن صيامها لجميع الناس إلا من فقد الهدي فإنه يصوم هذه الأيام الثلاثة؛ لما روى البخاري في صحيحه عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما، قالا: «لم يرخص في أيام التشريق أن(18/21)
يصمن إلا لمن لم يجد الهدي (1) » . وإن صامها قبل يوم عرفة فهو أفضل إذا كان فقد النفقة متقدما، ويصوم السبعة عند أهله.
__________
(1) رواه البخاري في (الصوم) باب صيام أيام التشريق برقم (1998) .(18/22)
8 - حكم المتمتع الذي صام ثلاثة أيام ثم وجد قيمة الهدي
س: إنسان استحق عليه الهدي في الحج، ولكنه لم يستطع شراءه بسبب العسر فصام ثلاثة أيام في الحج كما أمر الله، وبعد أن صامها أو صام بعضها وجد من يقرضه أو يسر الله الهدي فماذا يفعل؟ (1) .
ج: إذا تيسر له القيمة التي يشتري بها الهدي ولو بعد أيام الحج فهو مخير بين ذبحها ولا حاجة إلى صيام السبعة الأيام عند أهله، أو صيام السبعة الأيام الباقية؛ لأنه قد شرع في الصيام وسقط عنه الهدي، لكن متى ذبح سقط عنه بقية الأيام. مع العلم بأن الواجب ذبحه في الأيام الأربعة؛ وهي يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة مع القدرة، ويصير ذبحه بعدها قضاء.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته على محاضرة في الحج عام 1402 هـ في منى.(18/22)
9 - ليس على الحاج المفرد هدي
س: هل يجب على الحاج المفرد هدي إذا كان حجه فرضا؟ (1) .
ج: ليس على المفرد هدي سواء كان حجه فرضا أو نفلا، وإن أهدى فهو أفضل.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته على محاضرة في الحج عام 1402 هـ في منى.(18/23)
10 - حكم الهدي الذي يهدى ولا يستفاد منه
س: هذا الهدي الذي يهدى ولا يستفاد منه إلا قليلا أليس من الأفضل أن يصوم الحاج القادر على الهدي وعند عودته يخرج قيمة الهدي لمساكين وطنه ثم يتم صيام باقي العشرة أيام فما رأيكم أثابكم الله؟ .
ج: من المعلوم أن الشرائع تتلقى عن الله وعن رسوله لا عن آراء الناس، والله سبحانه وتعالى شرع لنا في الحج إذا كان الحاج متمتعا أو قارنا أن يهدي، فإذا عجز عن الهدي صام(18/23)
عشرة أيام، ثلاثة منها في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وليس لنا أن نشرع شيئا من قبل أنفسنا، بل الواجب أن يعدل ما يقع من الفساد في الهدي بأن يذكر ولاة الأمور لتصريف اللحوم وتوزيعها على الفقراء والمساكين، والعناية بأماكن الذبح وتوسعتها للناس، وتعدادها في الحرم؛ حتى يتمكن الحجاج من الذبح في أوقات متسعة وفي أماكن متسعة. وعلى ولاة الأمور أن ينقلوا اللحوم إلى المستحقين لها، أو يضعوها في أماكن مبردة حتى توزع بعد على الفقراء في مكة وغيرها.
أما أن يغير نظام الهدي بأن يصوم وهو قادر، أو يشتري هديا في بلاده للفقراء، أو يوزع قيمته فهذا تشريع جديد لا يجوز للمسلم أن يفعله؛ لأن المشرع هو الله سبحانه وتعالى وليس لأحد تشريع {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) فالواجب على المسلمين أن يخضعوا لشرع الله وأن ينفذوه، وإذا وقع خلل من الناس في تنفيذه وجب الإصلاح والعناية بذلك، مثل ما وقع في الهدي في ذبح بعض الهدايا وعدم وجود من يأكلها، وهذا خلل وخطأ يجب أن يعالج من جهة ولاة الأمور ومن جهة الناس. فكل مسلم يعتني بهديه حتى يوزعه على المساكين أو يأكله أو يهديه إلى بعض
__________
(1) سورة الشورى الآية 21(18/24)
إخوانه. وأما أن يدعه في أماكن لا يستفاد منه فلا يجزئه ذلك. وهكذا في المذبح يجب على صاحب الهدي أن يعتني بهذا المقام، وأن يحرص كل الحرص على توزيعه إذا أمكن، وعلى ولاة الأمور أن يعينوا على ذلك بأن ينقلوا اللحوم إلى الفقراء في وقتها أو ينقلوها إلى أماكن مبردة يستفاد منها بعد ذلك، ولا تفسد، هذا هو الواجب على ولاة الأمور، وهم - إن شاء الله - ساعون بهذا الشيء، ولا يزال أهل العلم ينصحون بذلك، ويذكرون ولاة الأمور هذا الأمر، ونسأل الله أن يعين الجميع على ما فيه المصلحة العامة للمسلمين في هذا الباب وغيره.(18/25)
11 - حكم من نسي أن يذبح هدي القران
س: إنسان نوى في الحج نسك القران ولكنه لم يذبح هديا جهلا منه، وبعد مدة طويلة ذكر أن عليه هديا، فماذا يجب عليه؟ (1) .
ج: عليه أن يذبح الهدي متى علم في مكة أو منى، ولا بأس أن يأكل هو وأهله ورفقاؤه منه.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته على محاضرة في الحج عام 1402 هـ في منى.(18/25)
12 - صفة تذكية بهائم الأنعام
س: ما هي التذكية الشرعية وطريقة ذبح الإبل خاصة؟ (1) .
ج: التذكية الشرعية للإبل والغنم والبقر أن يقطع الذابح الحلقوم والمريء والودجين وهما العرقان المحيطان بالعنق، وهذا هو أكمل الذبح وأحسنه، فالحلقوم مجرى النفس، والمريء مجرى الطعام والشراب، والودجان عرقان يحيطان بالعنق إذا قطعهما الذابح صار الدم أكثر خروجا، فإذا قطعت هذه الأربعة فالذبح حلال عند جميع العلماء.
الحالة الثانية: أن يقطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين، وهذا أيضا حلال صحيح وطيب، وإن كان دون الأول.
والحالة الثالثة: أن يقطع الحلقوم والمريء فقط دون الودجين وهو أيضا صحيح، وقال به جمع من أهل العلم، ودليلهم قوله عليه الصلاة والسلام: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ليس السن والظفر (2) » . وهذا هو المختار في
__________
(1) إجابة صدرت من مكتب سماحته.
(2) رواه البخاري في (الشركة) باب من عدل عشرا من الغنم بجزور في القسم برقم (2507) ، ومسلم في (الأضاحي) باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن برقم (1968) .(18/26)
هذه المسألة.
والسنة نحر الإبل قائمة على ثلاث، معقولة يدها اليسرى وذلك بطعنها في اللبة التي بين العنق والصدر. أما البقر والغنم فالسنة أن تذبح وهي على جنبها الأيسر، كما أن السنة عند الذبح والنحر توجيه الحيوان إلى القبلة. وليس ذلك واجبا بل هو سنة فقط، فلو ذبح أو نحر إلى غير القبلة حلت الذبيحة، وهكذا لو نحر ما يذبح أو ذبح ما ينحر حلت لكن ذلك خلاف السنة. وبالله التوفيق.(18/27)
س: هل هناك مكان محدد في الرقبة؟ (1) .
ج: نعم، فالرقبة كلها محل للذبح والنحر أعلاها وأسفلها، لكن في الإبل السنة نحرها في اللبة، أما البقر والغنم فالسنة ذبحها في أعلى العنق حتى يقطع بذلك الحلقوم والمريء والودجين كما تقدم.
__________
(1) إجابة صدرت من مكتب سماحته.(18/27)
13 - حكم الذبح عن طريق البنك الإسلامي بواسطة شركة الراجحي
س: ما رأيكم في الشركة التي تقوم بذبح الهدي، هل يجوز توكيلها في الهدي، حيث إننا لا نرى الذبيحة.(18/27)
وهل هي مكتملة الشروط أم لا؟ حيث نأخذ الرقم فقط، ولا ندري عن بقية الأشياء؟ (1) .
ج: لا بأس بها فيما نعلم، أعني البنك الإسلامي بواسطة شركة الراجحي للصرافة، فإنها تقوم بالذبح والتقسيم بين الفقراء، والدفع إليها مجزئ إن شاء الله.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته على محاضرة في الحج عام 1402 هـ في منى.(18/28)
س: ما هو الأفضل الذبح عند الشركة أو أني أذبح الهدي بيدي وأقوم بتوزيعه؟ (1) .
ج: من أعطى قيمة الهدي شركة الراجحي أو البنك الإسلامي فلا بأس؛ لأنه لا مانع من دفع ثمن الضحية والهدي إليهم، فهم وكلاء مجتهدون وموثوقون، ونرجو أن ينفع الله بهم ويعينهم، ولكن من تولى الذبح بيده ووزعه على الفقراء بنفسه فهو أفضل وأحوط؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذبح الضحية بنفسه، وهكذا الهدي ووكل في بقيته.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته على محاضرة في الحج عام 1402 هـ في منى.(18/28)
14 - حكم ذبح الهدي قبل يوم العيد
س: أحرمنا ونحن جماعة متمتعين فأدينا العمرة وتحللنا، وأشار بعضهم بذبح الهدي وتوزيعه في مكة، وفعلا تم الذبح في مكة. ثم علمنا بعد ذلك أن الذبح لا يكون إلا بعد رمي جمرة العقبة. وكنت أعلم بذلك وأشرت عليهم بتأجيل الذبح إلى يوم النحر أو بعده، ولكنهم أصروا على الذبح بعد وصولنا وأدائنا العمرة بيوم واحد، فما حكم ذلك؟ وماذا يلزمنا في هذه الحالة؟ .
ج: من ذبح قبل يوم العيد دم التمتع فإنه لا يجزئه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يذبحوا إلا في أيام النحر، وقد قدموا وهم متمتعون في اليوم الرابع من ذي الحجة، وبقيت الغنم والإبل التي معهم موقوفة حتى جاء يوم النحر. فلو كان ذبحها جائزا قبل ذلك لبادر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إليه في الأيام الأربعة التي أقاموها قبل خروجهم إلى عرفات؛ لأن الناس بحاجة إلى اللحوم في ذلك الوقت. فلما لم يذبح النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه حتى جاء يوم(18/29)
النحر دل ذلك على عدم الإجزاء، وأن الذي ذبح قبل يوم النحر قد خالف السنة وأتى بشرع جديد فلا يجزئ؛ كمن صلى أو صام قبل الوقت، فلا يصح صوم رمضان قبل وقته، ولا الصلاة قبل وقتها ونحو ذلك.
فالحاصل أن هذه عبادة أداها قبل الوقت فلا تجزئ، فعليه أن يعيد هذا الذبح إن قدر، وإن عجز صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله؛ فتكون عشرة أيام بدلا من الذبح؛ لقول الله سبحانه: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 196(18/30)
15 - أيام العيد كلها أيام ذبح وأفضلها يوم النحر
س: أريد أن أفدي إن شاء الله، فهل يجوز لي أن أؤخره إلى اليوم الحادي عشر أو اليوم الثاني عشر؟ وهل تذبح الهدي في منى أو في أي جزء من مكة؟ وما هي كيفية توزيعه؟ (1) .
ج: يجوز ذبح الهدي يوم النحر وفي الأيام الثلاثة
__________
(1) السؤال من ب. ب. ص. وقد أجاب عنه سماحته بتاريخ 3 \ 11 \ 1413 هـ.(18/30)
بعده، لكن ذبحه يوم النحر أفضل إن تيسر ذلك، ولا حرج في ذبحه في منى أو في مكة. والسنة في توزيعه - أعني هدي التمتع أو القران - أن يأكل منه ويتصدق ويهدي إلى من شاء من أصحابه وإخوانه.(18/31)
16 - حكم ذبح هدي التمتع والقران في عرفات
س: ذبح حاج هديه في عرفات أيام التشريق، ووزعها على من فيها فهل يجوز ذلك، وماذا يجب عليه إذا كان جاهلا الحكم أو عامدا، وإذا ذبح هديه في عرفات ثم وزع لحمه داخل الحرم هل يجوز ذلك؟ وما هو المكان الذي لا يجوز ذبح الهدي إلا فيه؟ ولكم الشكر.
ج: هدي التمتع والقران لا يجوز ذبحه إلا في الحرم فإذا ذبحه في غير الحرم كعرفات وجدة وغيرهما فإنه لا يجزئه، ولو وزع لحمه في الحرم وعليه هدي آخر يذبحه في الحرم سواء كان جاهلا أو عالما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه في الحرم وقال: «خذوا عني مناسككم (1) » ، وهكذا
__________
(1) رواه بنحوه مسلم في (الحج) باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا برقم (1297) .(18/31)
أصحابه رضي الله عنهم إنما نحروا هديهم في الحرم؛ تأسيا به صلى الله عليه وسلم.(18/32)
17 - حكم شراء النسك من الجبل وذبحه وتركه
س: هناك الكثير من الحجاج يشتري النسك من الجبل ويذبحها ويتركها في مكانها بدون نزع جلدها، فما رأي فضيلتكم في ذلك؟ وهل يجزئ هذا النسك وفقكم الله؟ (1) .
ج: أما اشتراء النسك من الجبل إذا أريد بهذا عرفات فلا بأس بالشراء منها أو من غيرها، لكن لا يذبحه إلا في الحرم، فلا يذبح في عرفات؛ لأنها ليست من الحرم فإذا ذبحه في الحرم واشتراه من عرفات أو من أي مكان من الحل وذبحه في منى أو في بقية الحرم عن التمتع والقران وتطوعا فلا بأس، ويجزئ نسكا. أما أن يذبحه في عرفات أو في غيرها من الحل كالشرائع أو جدة أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يجزئ؛ لأن الهدايا لا بد أن تذبح في الحرم والرسول صلى الله عليه
__________
(1) نشر في مجلة (التوعية الإسلامية) العدد (11) في 15 ذي الحجة 1400 هـ.(18/32)
وسلم قال: «نحرت هاهنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم (1) » ، فالأنساك تذبح في منى وفي بقية الحرم ولا تذبح في خارجه. فإذا ذبحه في الحرم وتركه للفقراء ليأخذوه فلا حرج، ولكن ينبغي له أن يتحرى الفقراء، ويجتهد في إيصاله إليهم حتى تبرأ ذمته بيقين. أما إذا ذبحه وتركه للفقراء يأخذونه فإنه يجزئ، والفقير بإمكانه أن يسلخه وينتفع بلحمه وجلده، ولكن من التمام والكمال أن يعنى بسلخه وتوزيعه بين الفقراء وإيصاله إليهم ولو في بيوتهم، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نحر بدنات وتركها للفقراء. ولكن هذا محمول على أنه تركه لفقراء موجودين يأخذونه ويستفيدون منه، أما أن يترك في محل ليس فيه فقراء فهذا في إجزائه نظر، ولا يبعد أن يقال: إنه لا يجزئ؛ لأنه ما وصل إلى مستحقه.
__________
(1) رواه مسلم في (الحج) باب ما جاء في عرفة كلها موقف برقم (1218) .(18/33)
18 - حكم المستوطن في مكة وهو ليس من أهلها
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم أ. ع. ب. وفقه الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده: كتابكم المؤرخ في 27 \ 4 \ 1391 هـ وصل وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من الأسئلة، كان معلوما، وهذا نصها وجوابها:
ما حكم الشرع الشريف في رجل ساكن مكة المكرمة منذ سنين ويحج مع أهل مكة يحرم من مكة بالحج، وأهله في حضرموت، فهل حكمه حكم الحاج الآفاقي في الهدي والصيام؛ لأن الله يقول في كتابه العزيز: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (1) أم حكمه حكم أهل مكة بذلك؟ (2) .
ج: إذا كان مستوطنا مكة فحكمه حكم أهل مكة، ليس
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) إجابة صدرت من مكتب سماحته عندما كان رئيسا للجامعة الإسلامية برقم (956) وتاريخ 2 \ 6 \ 1391 هـ.(18/34)
عليه هدي ولا صيام، أما إن كان إنما أقام لحاجة ونيته العود إلى بلده فهذا حكمه حكم الآفاقيين، فإذا اعتمر من الحل بعد رمضان ثم حج في ذلك العام، فإنه يكون متمتعا بالعمرة إلى الحج، وعليه هدي التمتع، فإن لم يجد صام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة بعد الفراغ من الحج أو بعد الرجوع إلى أهله إن سافر إلى أهله.(18/35)
19 - حكم الأضحية مع الاستطاعة
حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: أرجو التكرم بإفتائنا عما يلي مأجورين:
س: ما حكم الضحية وهل يأثم من تركها مع الاستطاعة؟ (1) .
ج: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: فحكم الضحية أنها سنة مع اليسار وليست واجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين أملحين، وكان الصحابة يضحون في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، وهكذا المسلمون بعدهم، ولم يرد في الأدلة الشرعية ما يدل على وجوبها، والقول بالوجوب قول ضعيف.
__________
(1) أجاب سماحته عن هذا السؤال المقدم من س. م. ذ. عندما كان نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية.(18/36)
20 - الأضحية سنة وليست واجبة
س: أفيدكم بأني متزوج ولله الحمد ولي أولاد، وأسكن في مدينة غير المدينة التي يسكن فيها أهلي، وفي الإجازات نأتي إلى المدينة التي بها أهلي. وفي عيد الأضحى هذا أتيت أنا وأولادي قبل العيد بخمسة أيام ولم نضح على الرغم من أنني قادر ولله الحمد.
فهل يجوز لي أن أضحي؟ وهل تجزئ أضحية الوالد عني وعن زوجتي وأولادي؟ وما حكم الأضحية على من كان قادرا؟ وهل تجب على غير القادر؟ وهل يجوز أخذ الأضحية دينا على الراتب؟ (1) . ع. ع. ش- رفحاء بالمملكة العربية السعودية.
ج: الأضحية سنة وليست بواجبة، وتجزئ الشاة الواحدة عن الرجل وأهل بيته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي كل سنة بكبشين أملحين أقرنين يذبح أحدهما عنه وعن أهل بيته، والثاني عمن وحد الله من أمته صلى الله عليه وسلم. وإذا كنت في بيت مستقل أيها السائل فإنه يشرع لك أن تضحي عنك وعن أهل بيتك، ولا تكفي عنك أضحية والدك
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1495) في 17 \ 1 \ 1416 هـ.(18/37)
عنه وعن أهل بيته؛ لأنك لست معهم في البيت، بل أنت في بيت مستقل. ولا حرج أن يستدين المسلم ليضحي إذا كان عنده قدرة على الوفاء. وفق الله الجميع.(18/38)
21 - من أحكام الأضحية
س: الأضحية هل هي للأسرة ككل أم لكل فرد فيها بالغ، ومتى يكون ذبحها؟ وهل يشترط لصاحبها عدم أخذ شيء من أظافره وشعره قبل ذبحها؟ وإذا كانت لامرأة وهي حائض ما العمل؟ وما الفرق بين الأضحية والصدقة في مثل هذا الأمر؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا (1) .
ج: الأضحية سنة مؤكدة، تشرع للرجل والمرأة وتجزئ عن الرجل وأهل بيته، وعن المرأة وأهل بيتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي كل سنة بكبشين أملحين أقرنين أحدهما عنه وعن أهل بيته، والثاني عمن وحد الله من أمته. ووقتها يوم النحر وأيام التشريق في كل سنة، والسنة للمضحي أن يأكل منها، ويهدي لأقاربه وجيرانه منها، ويتصدق منها. ولا يجوز لمن أراد أن يضحي أن يأخذ من شعره ولا من أظفاره ولا من بشرته شيئا، بعد دخول شهر ذي
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من مجلة (الدعوة) .(18/38)
الحجة حتى يضحي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل شهر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره ولا من بشرته شيئا حتى يضحي (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه، عن أم سلمة رضي الله عنها. أما الوكيل على الضحية، أو على الوقف الذي فيه أضاحي، فإنه لا يلزمه ترك شعره ولا ظفره ولا بشرته؛ لأنه ليس بمضح، وإنما هذا على المضحي الذي وكله في ذلك، وهكذا الواقف هو المضحي. والناظر على الوقف وكيل منفذ وليس بمضح. والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه بنحوه مسلم في (الأضاحي) باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة.. برقم (1977) .(18/39)
22 - وقت الأضاحي يذهب بغروب شمس اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة
س: امرأة ميسورة الحال انشغلت ولم تنو الأضحية إلا في اليوم الخامس عشر من شهر ذي الحجة فذبحت أضحية. فهل تصبح أضحية أم لا؟ (1) .
ج: الذبيحة المذكورة لا تكون أضحية؛ لأن وقت الأضاحي ذهب بغروب الشمس في اليوم الثالث عشر من شهر
__________
(1) إجابة صدرت من مكتب سماحته.(18/39)
ذي الحجة، ولكنها تعتبر صدقة تأكل منها وتتصدق على الفقراء، وتهدي منها لمن أحبت من الجيران والأقارب. والله ولي التوفيق.(18/40)
23 - الأضحية عن الميت
س: ما حكم الأضحية، وهل تجوز عن الميت؟ (1) .
ج: الأضحية سنة مؤكدة في قول أكثر العلماء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ضحى وحث أمته على الأضحية، والأصل أنها مطلوبة في وقتها من الحي عن نفسه وأهل بيته، وله أن يشرك في ثوابها من شاء من الأحياء والأموات.
أما الأضحية عن الميت فإن كان أوصى بها في ثلث ماله مثلا، أو جعلها في وقف له وجب على القائم على الوقف أو الوصية تنفيذها، وإن لم يكن أوصى بها ولا جعل لها وقفا وأحب إنسان أن يضحي عن أبيه أو أمه أو غيرهما فهو حسن. ويعتبر هذا من أنواع الصدقة عن الميت، والصدقة عنه مشروعة في قول أهل السنة والجماعة.
وأما الصدقة بثمن الأضحية بناء على أنه أفضل من
__________
(1) نشر في (نشرة الحسبة) العدد (17) في شهري ذي القعدة وذي الحجة 1417 هـ.(18/40)
ذبحها، فإن كانت الأضحية منصوصا عليها في الوقف أو الوصية لم يجز للوكيل العدول عن ذلك إلى الصدقة بثمنها، أما إن كانت تطوعا عن غيره فالأمر في ذلك واسع، وأما الأضحية عن نفس المسلم الحي وعن أهل بيته فسنة مؤكدة للقادر عليها، وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، وبالله التوفيق.(18/41)
س: ما قولكم في الأضحية عن الميت بدون وصية، هل يجوز أن يشترك فيها الأحياء مع الأموات أم لا؟ .
ج: الأضحية سنة مؤكدة إلا إذا كانت وصية، فإنه يجب تنفيذها، ويشرع للإنسان أن يبر ميته بالأضحية، ويجوز أن يشترك الأموات مع الأحياء من أهل بيت المضحي، والأصل في ذلك حديث أنس رضي الله عنه: «ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر (1) » متفق عليه. وفي رواية أخرى: بيان أنه ذبح أحدهما عنه وعن أهل بيته، والثاني عمن وحد الله من أمته، وذلك يشمل الحي والميت. وعن عبد الله بن عمر رضي الله
__________
(1) رواه البخاري في (الأضاحي) باب التكبير عند الذبح برقم (5565) ، ومسلم في (الأضاحي) باب استحباب الضحية وذبحها مباشرة برقم (1966) .(18/41)
عنهما «أن رجلا سأل ابن عمر عن الأضحية أواجبة هي؟ فقال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون. فأعادها عليه فقال: أتعقل؟ ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون. فأعادها عليه فقال: أتعقل؟ ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون (1) » أخرجه الترمذي، ومراده رضي الله عنه بيان أن الأضحية مشروعة من كل مسلم تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
__________
(1) رواه الترمذي في (الأضاحي) باب الدليل على أن الأضحية سنة برقم (1506) .(18/42)
24 - السنة أن الحي يضحي عن نفسه وأهل بيته
س: سماحة الشيخ \ كثيرا ما نسمع في المجتمع أن الناس تنوي الأضاحي عن الأموات فقط. فما توجيه سماحتكم حول هذا المعتقد؟ (1) .
ج: السنة أن الحي يضحي عن نفسه وأهل بيته بكبش كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أنه كان يضحي بكبشين أملحين، أحدهما قال: عن محمد صلى الله عليه وسلم وآل محمد، والثاني عمن وحد الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وإن ضحى الإنسان عن بعض الأموات فلا بأس.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من مكتب جريدة (الجزيرة) بالسليل.(18/42)
س: أنا أضحي عني وعن زوجتي والأضحية من مالي، هل يجوز لزوجتي أن تشرك أباها وأمها الميتين؟ (1) .
ج: إذا ضحيت من مالك عن نفسك وأهل بيتك فهذا عمل مشروع، فإذا رأيت أن تشرك أبا زوجتك أو أم زوجتك فلا بأس، وأما هي فليس لها ذلك، ليس لها التصرف في أضحيتك، فأنت المضحي عن نفسك وأهل بيتك. فإذا رأيت أن تضم أبا زوجتك وأمها إلى أهل بيتك فلا بأس بذلك.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته على محاضرة في الحج عام 1402 هـ في منى.(18/43)
25 - أيهما أفضل في الأضحية الكبش أم البقرة
س: أيهما أفضل في الأضحية، الكبش أم البقرة؟ (1) .
ج: الأضحية من الغنم أفضل، وإذا ضحى بالبقر أو بالإبل فلا حرج، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين، وأهدى يوم حجة الوداع مائة من الإبل. والمقصود أن ضحى بالغنم فهي أفضل، ومن ضحى بالبقر أو بالإبل -الناقة عن سبعة، والبقرة عن سبعة- فكله طيب ولا حرج.
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1638) في 26 \ 12 \ 1418 هـ.(18/43)
حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: أرجو التكرم بإفتائنا، هل يجزئ السبع من البقرة أو البدنة عن الرجل وأهل بيته؟ أرجو أن تتفضلوا بالجواب مشكورين؛ لأن عندنا بعض الناس لا يرون هذا مجزئا والعيد على الأبواب، ونحب أن نكون على بصيرة في هذا الأمر والسلام.
ج: قد دلت السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الرأس الواحد من الإبل والبقر والغنم يجزئ عن الرجل وأهل بيته وإن كثروا، أما السبع من البدنة والبقرة ففي إجزائه عن الرجل وأهل بيته تردد وخلاف بين أهل العلم.
والأرجح أنه يجزئ عن الرجل وأهل بيته؛ لأن الرجل وأهل بيته كالشخص الواحد، ولكن الرأس من الغنم أفضل. والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.(18/44)
س: كثيرا ما نجد أن البدنة عن سبع شياه فهل أضحية البدنة يشرك بها كما يشرك في أضحية الشاة؟ (1) .
ج: في إجزاء السبع من البدنة والبقرة عن الرجل وأهل بيته توقف من بعض أهل العلم، والراجح أنه يجزئ عن الرجل وأهل بيته؛ لأنهم في معنى الشخص الواحد.
__________
(1) سؤال شخصي من أ. ع. ن.(18/45)
26 - حكم إزالة الشعر لمن أراد العمرة والحج وهو ينوي الأضحية
س: لقد كنت ناويا أن أحج متمتعا، ولكن عندما قدمت إلى الطائف غيرت رأيي ولبيت بالحج مفردا. فإذا أردت أن أضحي يوم العيد هل ذلك جائز؟ علما بأني قصرت شعري في يوم أربعة ذي الحجة، أسأل الله أن يجزيكم عنا خيرا (1) .
ج: إذا أراد الحاج أو غيره أن يضحي ولو كان قد حلق رأسه أو قصر أو قلم أظفاره فلا حرج عليه في ذلك، ولكن عليه إذا عزم على الأضحية بعد دخول شهر ذي الحجة أن
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته على محاضرة في الحج عام 1402 هـ في منى.(18/45)
يمتنع من أخذ شيء من الشعر أو الظفر أو شيء من البشرة حتى يضحي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل شهر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من بشرته ولا من أظفاره شيئا (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه.
أما إحرامه بالحج مفردا وقد كان نوى أن يحرم بعمرة ثم بدا له بعدما وصل الميقات أن يحرم بالحج فلا حرج في ذلك، ولكن التمتع بالعمرة إلى الحج أفضل إذا كان قدومه في أشهر الحج، أما إذا كان قدومه إلى مكة قبل دخول شهر شوال فإن المشروع له أن يحرم بالعمرة فقط.
__________
(1) رواه بنحوه مسلم في (الأضاحي) باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة.. برقم (1977) .(18/46)
س: المرأة التي ترى أنها لا تستطيع الإمساك عن كد شعرها وتملك المال هل يجوز أن تدفعه لأحد أقاربها لشراء الأضحية وعقد النية عنها؟ (1) .
ج: يلزم من أراد أن يضحي عن نفسه أو عن والديه أو عن غيره متطوعا ألا يأخذ من شعره أو أظفاره أو من بشرته شيئا إذا دخل شهر ذي الحجة حتى يضحي. أما الوكيل فليس عليه حرج أن يأخذ من شعره أو بشرته أو أظفاره؛ لقول النبي
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته من مكتب جريدة (الجزيرة) بالسليل.(18/46)
صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل شهر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته شيئا حتى يضحي (1) » ، رواه مسلم في الصحيح.
__________
(1) رواه بنحوه مسلم في (الأضاحي) باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة.. برقم (1977) .(18/47)
س: سماحة الشيخ \ ماذا يجوز للمرأة التي تنوي الأضحية عن نفسها وأهل بيتها أو عن والديها بشعرها إذا دخلت عشر ذي الحجة؟ (1) .
ج: يجوز لها أن تنقض شعرها وتغسله ولكن "لا تكده" وما سقط من الشعر عند نقضه وغسله فلا يضر.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته من مكتب جريدة (الجزيرة) بالسليل.(18/47)
27 - حكم إعطاء غير المسلم من لحم الأضحية
س: هل يجوز إعطاء غير المسلم من لحم الأضحية؟ (1) .
ج: لا حرج؛ لقوله جل وعلا: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} (2)
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1638) في 26\12\1418 هـ.
(2) سورة الممتحنة الآية 8(18/47)
فالكافر الذي ليس بيننا وبينه حرب كالمستأمن أو المعاهد يعطى من الأضحية ومن الصدقة.(18/48)
28 - حكم ذبح الأضحية بمكة
س: هل ذبح الأضحية بمكة له فضل عن خارج مكة؟ (1) .
ج: كل الأعمال الصالحة بمكة أفضل، لكن إذا لم يجد في مكة من يأكل الضحية فإن ذبحها في مكان آخر فيه فقراء يكون أولى.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته على محاضرة في الحج عام 1402 هـ في منى.(18/48)
29 - حكم العقيقة
س: الأخ ع. م. س. - الرياض يقول في سؤاله: إذا مات الجنين في بطن أمه فهل يلزم والده أن يذبح عنه عقيقة؟ (1) .
ج: العقيقة سنة مؤكدة وليست واجبة، عن الذكر شاتان وعن الأنثى واحدة. والسنة أن تذبح في اليوم السابع ولو سقط ميتا، والسنة أن يسمى أيضا، ويحلق رأسه في اليوم السابع، وإن
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من (المجلة العربية) .(18/48)
سمي في اليوم الأول فلا بأس؛ لأن الأحاديث الصحيحة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سمى ابنه إبراهيم يوم ولد، وسمى عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري يوم ولد، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قال: «كل غلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى (1) » أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن الأربع بإسناد صحيح، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وأم كرز الكعبية رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم «أمر أن يعق عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الأنثى شاة، (2) » وثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة (3) » وهذه الأحاديث تعم السقط وغيره إذا كان قد نفخت فيه الروح وهو الذي ولد في الشهر الخامس وما بعده. والمشروع أن يغسل
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند البصريين) حديث سمرة بن جندب برقم (19681) ، وابن ماجه في (الذبائح) باب العقيقة برقم (3165) .
(2) سنن الترمذي الأضاحي (1516) ، سنن النسائي العقيقة (4217) ، سنن أبو داود الضحايا (2835) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3162) ، مسند أحمد بن حنبل (6/422) ، سنن الدارمي الأضاحي (1966) .
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه برقم (6674) ، وأبو داود في (الضحايا) باب في العقيقة برقم (2842) .(18/49)
ويكفن ويصلى عليه إذا سقط ميتا، ويشرع أيضا أن يسمى ويعق عنه؛ لعموم الأحاديث المذكورة. والله ولي التوفيق.(18/50)
30 - صفة العقيقة المشروعة
س: ما حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في قوم إذا توفي أحد منهم قام أقرباؤه بذبح شاة يسمونها العقيقة، ولا يكسرون من عظامها شيئا ثم بعد ذلك يقبرون عظامها وفرثها، ويزعمون أن ذلك حسنة ويجب العمل به؟ (1) .
ج: إن هذا العمل بدعة، لا أساس له في الشريعة الإسلامية، فالواجب تركه والتوبة إلى الله منه كسائر البدع والمعاصي، فإن التوبة إلى الله سبحانه تجب منها جميعا، كما قال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (3) وإنما العقيقة المشروعة التي جاءت بها السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي ما يذبح عن المولود في يوم سابعه، وهي شاتان عن الذكر وشاة واحدة عن الأنثى. وقد عق النبي عن الحسن
__________
(1) سؤال مقدم من الأخ ص. ب. ي. ونشر في كتاب (الأجوبة المفيدة عن بعض مسائل العقيدة) لسماحته عام 1414 هـ.
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة التحريم الآية 8(18/50)
والحسين رضي الله عنهما، وصاحبها مخير إن شاء وزعها لحما بين الأقارب والأصحاب والفقراء، وإن شاء طبخها ودعا إليها من شاء من الأقارب والجيران والفقراء. هذه هي العقيقة المشروعة، وهي سنة مؤكدة، ومن تركها فلا إثم عليه.(18/51)
31 - الواجب تغيير الأسماء المخالفة للشرع
س: إذا تسمى الإنسان باسم واكتشف أنه اسم غير شرعي ما توجيهكم؟ (1) .
ج: الواجب التغيير مثل من سمى نفسه عبد الحسين أو عبد النبي أو عبد الكعبة، ثم علم أن التعبيد لا يجوز لغير الله، وليس لأحد أن يعبد لغير الله، بل العبادة لله عز وجل مثل عبد الله، عبد الرحمن، عبد الملك، وعليه أن يغير الاسم مثل عبد النبي أو عبد الكعبة إلى عبد الله أو عبد الرحمن أو محمد أو أحمد أو صالح أو نحو ذلك من الأسماء الشرعية، هذا هو الواجب والنبي صلى الله عليه وسلم غير أسماء كثيرة. أما إذا كان الاسم للأب فإذا كان الأب حيا فيعلم حتى يغير اسمه، أما إن كان ميتا فلا حاجة إلى التغيير ويبقى كما هو؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغير اسم عبد المطلب ولا غير أسماء الآخرين المعبدة لغير الله كعبد مناف؛ لأنهم عرفوا بها.
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) .(18/51)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم مدير الجوازات والجنسية برابغ وفقه الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده:
حضر عندي من سمى نفسه عبد الله بن عبد الجزى، وسألني هل تجوز التسمية بعبد الجزى؟ ؛ لأن الجوازات قد توقفت في تجديد تابعيته حتى تعرف حكم الشرع في اسم أبيه؟ (1) .
والجواب: قد أجمع العلماء على أنه لا يجوز التعبيد لغير الله سبحانه، فلا يجوز أن يقال: عبد النبي، أو عبد الحسين، أو عبد الكعبة أو نحو ذلك؛ لأن العبيد كلهم عبيد الله عز وجل.
ومعلوم أن الجزى ليس من أسماء الله سبحانه فلا يجوز التعبيد إليه، والواجب تغيير هذا الاسم باسم معبد لله سبحانه، أو باسم آخر غير معبد كأحمد ومحمد وإبراهيم ونحو ذلك، ويجب عند التغيير أن يوضح في التابعية الاسم الأول مع الاسم الجديد حتى لا تضيع الحقوق المتعلقة بالاسم الأول.
هذا ما أعلمه من الشرع المطهر. ويذكر عبد الله المذكور أن أباه قد وافق على تغيير اسمه من عبد الجزى إلى عبد الرحمن، فليعتمد ذلك عند موافقة أبيه عليه، ونسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سؤال مقدم من ع. ع. وأجاب عنه سماحته عندما كان نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(18/52)
س: هل هذه الأسماء، هدى ورحمة وبركة وإيمان من الأسماء المكروهة في الدين؟ (1) .
ج: لا حرج فيها مثل عامر، صالح، سعيد كلها أسماء جائزة فلا حرج فيها إن شاء الله.
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) الشريط رقم (1) .(18/53)
س: هل يجوز للمسلم أن يسمى بهذه الأسماء: طه، ياسين، خباب، عبد المطلب، الحباب، قارون، الوليد؟ وهل طه وياسين من أسماء النبي محمد صلى الله عليه وسلم أم لا؟ (1) . ج: يجوز التسمي بهذه الأسماء لعدم الدليل على ما يمنع منها، لكن الأفضل للمؤمن أن يختار أحسن الأسماء المعبدة لله مثل عبد الله وعبد الرحمن وعبد الملك ونحوها، والأسماء المشهورة كصالح ومحمد ونحو ذلك بدلا من قارون وأشباهه، أما عبد المطلب فالتسمي به جائز بصفة استثنائية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر بعض الصحابة على هذا الاسم. ولا يجوز التعبيد لغير الله كائنا من كان كعبد النبي وعبد الحسين وعبد الكعبة ونحو ذلك، وقد حكى أبو محمد ابن
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) جمع الشيخ محمد المسند ج 4 ص 402.(18/53)
حزم إجماع أهل العلم على تحريم ذلك. وليس طه وياسين من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم في أصح قولي العلماء، بل هما من الحروف المقطعة في أوائل السور مثل ص وق ون ونحوها، وبالله التوفيق.(18/54)
32 - حكم تصغير بعض الأسماء كعبد الله وعبد الرحمن
س: كثيرا ما نسمع من عامي ومتعلم تصغير الأسماء المعبدة أو قلبها إلى أسماء تنافي الاسم الأول فهل فيه من بأس؟ وذلك نحو عبد الله تجعل "عبيد" و "عبود" و "العبدي" بكسر العين وسكون الباء. وفي عبد الرحمن "دحيم" بالتخفيف والتشديد، وفي عبد العزيز "عزيز" و "عزوز" و "العزي" وما أشبه ذلك. أما في محمد "محيميد، وحمدا، والحمدي " وما أشبهه؟ (1) . ج: لا بأس بالتصغير في الأسماء المعبدة وغيرها، ولا أعلم أن أحدا من أهل العلم منعه، وهو كثير في الأحاديث
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) جمع الشيخ محمد المسند ج 4 ص 403.(18/54)
والآثار كأنيس وحميد وعبيد وأشباه ذلك، لكن إذا فعل ذلك مع من يكرهه فالأظهر تحريم ذلك؛ لأنه حينئذ من جنس التنابز بالألقاب الذي نهى الله عنه في كتابه الكريم إلا إن يكون لا يعرف إلا بذلك، فلا بأس كما صرح به أئمة الحديث في رجال كالأعمش والأعرج ونحوهما.(18/55)
33 - حكم تغيير الاسم بعد الإسلام
س: هل يلزم من أعلن إسلامه أن يغير اسمه السابق مثل جورج وجوزيف وغيرهما؟ (1) . ج: لا يلزمه تغيير اسمه إلا إن كان معبدا لغير الله، ولكن تحسينه مشروع. فكونه يحسن اسمه من أسماء أعجمية إلى أسماء إسلامية هذا طيب، أما الواجب فلا. فإذا كان اسمه عبد المسيح وأشباهه يغير، أما إذا كان لم يعبد لغير الله مثل جورج وبولس وغيرهما فلا يلزمه تغييره؛ لأن هذه أسماء مشتركة تكون للنصارى، وتكون لغيرهم وبالله التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) جمع الشيخ محمد المسند ج 4 ص 404.(18/55)
34 - حكم التسمية بأسماء من الآيات
س: بعض الناس يسمون أبناءهم بأسماء من الآيات كأفنان وآلاء- إلخ فما رأي سماحتكم؟ . ج: ليس في ذلك بأس وهذه مخلوقات، الآلاء هي النعم، والأفنان هي الأغصان، والناس صاروا يتنوعون في الأسماء، ويبحثون لأبنائهم وبناتهم عن أسماء جديدة.(18/56)
35 - حكم أعياد الميلاد
س: ما هو توجيه فضيلتكم في حفلات أعياد الميلاد، وما رأيكم فيها؟ (1) . ج: حفلات الميلاد من البدع التي بينها أهل العلم وهي داخلة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » متفق عليه من حديث عائشة
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) الشريط رقم (1) .
(2) رواه البخاري في (الصلح) باب إذا اصطلحوا على صلح جور برقم (2697) ، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم (1718) .(18/56)
رضي الله عنها. وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه. وقال عليه الصلاة والسلام في خطبة الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (2) » أخرجه مسلم في صحيحه، زاد النسائي بإسناد صحيح: «وكل ضلالة في النار (3) » . فالواجب على المسلمين ذكورا كانوا أو إناثا الحذر من البدع كلها، والإسلام بحمد الله فيه الكفاية وهو كامل. قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (4) فقد أكمل الله لنا الدين بما شرع من الأوامر وما نهى عنه من النواهي، فليس الناس في حاجة إلى بدعة يبتدعها أحد لا
__________
(1) رواه البخاري معلقا في باب النجش، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم (1718) .
(2) رواه مسلم في (الجمعة) باب تخفيف الصلاة والخطبة برقم (867) .
(3) رواه البخاري في (الصلاة) باب كراهية الصلاة في المقابر برقم (432) ، ومسلم في (صلاة المسافرين وقصرها) باب استحباب صلاة النافلة في بيته برقم (777) .
(4) سورة المائدة الآية 3(18/57)
الاحتفال بالميلاد ولا غيره. فالاحتفالات بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم أو بميلاد الصديق أو عمر أو عثمان أو علي أو الحسن أو الحسين أو فاطمة أو البدوي أو الشيخ عبد القادر الجيلاني أو فلان أو فلانة كل ذلك لا أصل له، وكله منكر وكله منهي عنه، وكله داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «وكل بدعة ضلالة (1) » . فلا يجوز للمسلمين تعاطي هذه البدع ولو فعلها من فعلها من الناس فليس فعل الناس تشريعا للمسلمين، وليس فعل الناس قدوة إلا إذا وافق الشرع، فأفعال الناس وعقائدهم كلها تعرض على الميزان الشرعي وهو: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فما وافقهما قبل، وما خالفهما ترك، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) وفق الله الجميع وهدى الجميع صراطه المستقيم.
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) .
(2) سورة النساء الآية 59(18/58)
كتاب الجهاد(18/59)
صفحة فارغة(18/60)
36 - فضل الجهاد والمجاهدين
الحمد لله الذي أمر بالجهاد في سبيله، ووعد عليه الأجر العظيم والنصر المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه الكريم: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله، أفضل المجاهدين، وأصدق المناضلين، وأنصح العباد أجمعين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الكرام الذين باعوا أنفسهم لله وجاهدوا في سبيله حتى أظهر الله بهم الدين، وأعز بهم المؤمنين، وأذل بهم الكافرين رضي الله عنهم وأكرم مثواهم، وجعلنا من أتباعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الجهاد في سبيل الله من أفضل القربات، ومن أعظم الطاعات: بل هو أفضل ما تقرب به المتقربون
__________
(1) سورة الروم الآية 47(18/61)
وتنافس فيه المتنافسون بعد الفرائض، وما ذاك إلا لما يترتب عليه من نصر المؤمنين وإعلاء كلمة الدين، وقمع الكافرين والمنافقين وتسهيل انتشار الدعوة الإسلامية بين العالمين، وإخراج العباد من الظلمات إلى النور، ونشر محاسن الإسلام وأحكامه العادلة بين الخلق أجمعين، وغير ذلك من المصالح الكثيرة والعواقب الحميدة للمسلمين، وقد ورد في فضله وفضل المجاهدين من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ما يحفز الهمم العالية، ويحرك كوامن النفوس إلى المشاركة في هذا السبيل، والصدق في جهاد أعداء رب العالمين، وهو فرض كفاية على المسلمين إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين. وقد يكون في بعض الأحيان من الفرائض العينية التي لا يجوز للمسلم التخلف عنها إلا بعذر شرعي، كما لو استنفره الإمام أو حصر بلده العدو أو كان حاضرا بين الصفين. والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة معلومة، ومما ورد في فضل الجهاد والمجاهدين من الكتاب المبين قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (2) {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (3) {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (4) {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (5)
__________
(1) سورة التوبة الآية 41
(2) سورة التوبة الآية 42
(3) سورة التوبة الآية 43
(4) سورة التوبة الآية 44
(5) سورة التوبة الآية 45(18/62)
ففي هذه الآيات الكريمات يأمر الله عباده المؤمنين أن ينفروا إلى الجهاد خفافا وثقالا أي شيبا وشبابا، وأن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، يخبرهم عز وجل بأن ذلك خير لهم في الدنيا والآخرة، ثم يبين سبحانه حال المنافقين وتثاقلهم عن الجهاد وسوء نيتهم، وأن ذلك هلاك لهم بقوله عز وجل: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} (1) ثم يعاتب نبيه صلى الله عليه وسلم عتابا لطيفا على إذنه لمن طلب التخلف عن الجهاد بقوله سبحانه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} (2) ويبين عز وجل أن في عدم الإذن لهم تبيينا للصادقين وفضيحة للكاذبين، ثم يذكر عز وجل أن المؤمن بالله واليوم الآخر لا يستأذن في ترك الجهاد بغير عذر شرعي؛ لأن إيمانه الصادق بالله واليوم الآخر يمنعه من ذلك، ويحفزه إلى المبادرة إلى الجهاد والنفير مع أهله، ثم يذكر سبحانه أن الذي يستأذن في ترك الجهاد هو عادم الإيمان بالله
__________
(1) سورة التوبة الآية 42
(2) سورة التوبة الآية 43(18/63)
واليوم الآخر، المرتاب فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك أعظم حث وأبلغ تحريض على الجهاد في سبيل الله، والتنفير من التخلف عنه. وقال تعالى في فضل المجاهدين: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) ففي هذه الآية الكريمة الترغيب العظيم في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وبيان أن المؤمن قد باع نفسه وماله على الله عز وجل، وأنه سبحانه قد تقبل هذا البيع وجعل ثمنه لأهله الجنة، وأنهم يقاتلون في سبيله فيقتلون ويقتلون، ثم ذكر سبحانه أنه وعدهم بذلك في أشرف كتبه وأعظمها التوراة والإنجيل والقرآن، ثم بين سبحانه أنه لا أحد أوفى بعهده من الله؛ ليطمئن المؤمنون إلى وعد ربهم، ويبذلوا السلعة التي اشتراها منهم، وهي نفوسهم وأموالهم في سبيله سبحانه عن إخلاص وصدق وطيب نفس حتى يستوفوا أجرهم كاملا في الدنيا والآخرة، ثم يأمر سبحانه المؤمنين أن يستبشروا بهذا
__________
(1) سورة التوبة الآية 111(18/64)
البيع؛ لما فيه من الفوز العظيم، والعاقبة الحميدة، والنصر للحق، والتأييد لأهله، وجهاد الكفار والمنافقين، وإذلالهم ونصر أوليائه عليهم، وإفساح الطريق لانتشار الدعوة الإسلامية في أرجاء المعمورة. وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (4) في هذه الآيات الكريمات الدلالة من ربنا عز وجل على أن الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله هما التجارة العظيمة المنجية من العذاب الأليم يوم القيامة، ففي ذلك أعظم ترغيب وأكمل تشويق إلى الإيمان والجهاد، ومن المعلوم أن الإيمان بالله ورسوله يتضمن توحيد الله وإخلاص العبادة له سبحانه، كما يتضمن أداء الفرائض، وترك المحارم، ويدخل في ذلك الجهاد في سبيل الله؛ لكونه من أعظم الشعائر الإسلامية ومن أهم الفرائض، ولكنه سبحانه خصه بالذكر لعظم شأنه، وللترغيب فيه لما يترتب عليه من المصالح العظيمة والعواقب
__________
(1) سورة الصف الآية 10
(2) سورة الصف الآية 11
(3) سورة الصف الآية 12
(4) سورة الصف الآية 13(18/65)
الحميدة التي سبق بيان الكثير منها، ثم ذكر سبحانه ما وعد الله به المؤمنين المجاهدين من المغفرة والمساكن الطيبة في دار الكرامة؛ ليعظم شوقهم إلى الجهاد وتشتد رغبتهم فيه، وليسابقوا إليه ويسارعوا في مشاركة القائمين به، ثم أخبر سبحانه أن من ثواب المجاهدين شيئا معجلا يحبونه وهو النصر على الأعداء والفتح القريب على المؤمنين، وفي ذلك غاية التشويق والترغيب. والآيات في فضل الجهاد والترغيب فيه وبيان فضل المجاهدين كثيرة جدا، وفيما ذكر سبحانه في هذه الآيات التي سلف ذكرها ما يكفي ويشفي ويحفز الهمم، ويحرك النفوس إلى تلك المطالب العالية والمنازل الرفيعة والفوائد الجليلة والعواقب الحميدة، والله المستعان. أما الأحاديث الواردة في فضل الجهاد والمجاهدين، والتحذير من تركه والإعراض عنه فهي أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، ولكن نذكر منها طرفا يسيرا ليعلم المجاهد الصادق شيئا مما قاله نبيه ورسوله الكريم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم في فضل الجهاد ومنزلة أهله. ففي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير(18/66)
من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله، أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها (1) » ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المجاهد في سبيل الله -والله أعلم بمن يجاهد في سبيله- كمثل الصائم القائم، وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة (2) » أخرجه مسلم في صحيحه. وفي لفظ له: «تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة (3) » ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي، اللون لون الدم والريح ريح المسك (4) » متفق عليه، وعن أنس رضي الله عنه
__________
(1) رواه البخاري في (الجهاد والسير) باب فضل رباط يوم في سبيل الله برقم (2892) .
(2) رواه البخاري في (الجهاد والسير) باب أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله برقم (2787) ، ومسلم في (الإمارة) باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله برقم (1876) .
(3) رواه مسلم في (الإمارة) باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله برقم (1876) .
(4) رواه البخاري في (الذبائح والصيد) باب المسك برقم (5533) ، ومسلم في (الإمارة) باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله برقم (1876) .(18/67)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (1) » رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه سئل أي العمل أفضل، قال: "إيمان بالله ورسوله" قيل: ثم ماذا، قال: "الجهاد في سبيل الله" قيل: ثم ماذا، قال: حج مبرور (2) » . وعن أبي عبس بن جبر الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار (3) » رواه البخاري في صحيحه، وفيه أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه به مات على شعبة من نفاق (4) » ، وعن ابن
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين من الصحابة) مسند أنس بن مالك برقم (11837) ، وأبو داود في (الجهاد) باب كراهية ترك الغزو برقم (2504) .
(2) رواه البخاري في (الإيمان) باب من قال: إن الإيمان هو العمل برقم (26) ، ومسلم في (الإيمان) باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال برقم (83) .
(3) رواه البخاري في (الجهاد والسير) باب من اغبرت قدماه في سبيل الله برقم (2811) .
(4) رواه مسلم في (الإمارة) باب ذم من مات ولم يغز.. برقم (1910) .(18/68)
عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم (1) » رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن القطان، وقال الحافظ في البلوغ: رجاله ثقات. والأحاديث في فضل الجهاد والمجاهدين وبيان ما أعد الله للمجاهدين الصادقين من المنازل العالية، والثواب الجزيل، وفي الترهيب من ترك الجهاد والإعراض عنه كثيرة جدا، وفي الحديثين الأخيرين، وما جاء في معناهما الدلالة على أن الإعراض عن الجهاد وعدم تحديث النفس به من شعب النفاق، وأن التشاغل عنه بالتجارة والزراعة والمعاملة الربوية من أسباب ذل المسلمين، وتسليط الأعداء عليهم كما هو الواقع، وأن ذلك الذل لا ينزع عنهم حتى يرجعوا إلى دينهم بالاستقامة على أمره والجهاد في سبيله، فنسأل الله أن يمن على المسلمين جميعا بالرجوع إلى دينه، وأن يصلح قادتهم ويصلح لهم البطانة، ويجمع كلمتهم على الحق، ويوفقهم جميعا للفقه في الدين والجهاد في سبيل رب العالمين حتى يعزهم الله ويرفع عنهم الذل، ويكتب لهم النصر
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمر برقم (4987) ، وأبو داود في (البيوع) باب في النهي عن العينة برقم (3462) .(18/69)
على أعدائه وأعدائهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.(18/70)
أ - المقصود من الجهاد: الجهاد جهادان: جهاد طلب، وجهاد دفاع، والمقصود منهما جميعا هو تبليغ دين الله، ودعوة الناس إليه، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وإعلاء دين الله في أرضه، وأن يكون الدين كله لله وحده كما قال عز وجل في كتابه الكريم في سورة البقرة: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (1) وقال في سورة الأنفال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (2) وقال عز وجل في سورة التوبة: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل (4) » متفق على صحته من
__________
(1) سورة البقرة الآية 193
(2) سورة الأنفال الآية 39
(3) سورة التوبة الآية 5
(4) رواه البخاري في (الإيمان) باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة برقم (25) ، ومسلم في (الإيمان) باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله برقم (22) .(18/70)
حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله (1) » وفي صحيح مسلم عنه أيضا رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به (2) » وفي صحيح مسلم أيضا عن طارق الأشجعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل (3) » ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وفي هذه الآيات الكريمات والأحاديث الصحيحة الدلالة الظاهرة على وجوب
__________
(1) رواه ابن حبان في (فرض الإيمان) باب ذكر البيان بأن المرء إنما يحقن دمه برقم (218) ، والبيهقي في السنن الكبرى في (الفيء والغنيمة) باب التسوية في الغنيمة والقوم يهبون الغنيمة برقم (13087) .
(2) رواه مسلم في (الإيمان) باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله برقم (21) .
(3) رواه مسلم في (الإيمان) باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله برقم (23) .(18/71)
جهاد الكفار والمشركين وقتالهم بعد البلاغ والدعوة إلى الإسلام، وإصرارهم على الكفر حتى يعبدوا الله وحده، ويؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويتبعوا ما جاء به، وأنه لا تحرم دماؤهم وأموالهم إلا بذلك، وهي تعم جهاد الطلب، وجهاد الدفاع، ولا يستثنى من ذلك إلا من التزم بالجزية بشروطها إذا كان من أهلها؛ عملا بقول الله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الجزية من مجوس هجر، فهؤلاء الأصناف الثلاثة من الكفار وهم اليهود والنصارى والمجوس، ثبت بالنص أخذ الجزية منهم، فالواجب أن يجاهدوا ويقاتلوا مع القدرة حتى يدخلوا في الإسلام أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، أما غيرهم فالواجب قتالهم حتى يسلموا في أصح قولي العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل العرب حتى دخلوا في دين الله أفواجا، ولم يطلب منهم الجزية، ولو كان أخذها منهم جائزا تحقن به دماؤهم وأموالهم لبينه لهم، ولو وقع ذلك لنقل. وذهب بعض أهل العلم إلى جواز أخذها من جميع
__________
(1) سورة التوبة الآية 29(18/72)
الكفار؛ لحديث بريدة المشهور في ذلك المخرج في صحيح مسلم، والكلام في هذه المسألة وتحرير الخلاف فيها، وبيان الأدلة مبسوط في كتب أهل العلم من أراده وجده، ويستثنى من الكفار في القتال النساء والصبيان والشيخ الهرم ونحوهم ممن ليس من أهل القتال ما لم يشاركوا فيه، فإن شاركوا فيه وساعدوا عليه بالرأي والمكيدة قوتلوا كما هو معلوم من الأدلة الشرعية، وقد كان الجهاد في الإسلام على أطوار ثلاثة. الطور الأول: الإذن للمسلمين في ذلك من غير إلزام لهم كما في قوله سبحانه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (1) الطور الثاني: الأمر بقتال من قاتل المسلمين، والكف عمن كف عنهم، وفي هذا النوع نزل قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (2) وقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (3) وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (4) في قول جماعة من أهل العلم، وقوله تعالى
__________
(1) سورة الحج الآية 39
(2) سورة البقرة الآية 256
(3) سورة الكهف الآية 29
(4) سورة البقرة الآية 190(18/73)
في سورة النساء: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (1) والآية بعدها. الطور الثالث: جهاد المشركين مطلقا وغزوهم في بلادهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله؛ ليعم الخير أهل الأرض، وتتسع رقعة الإسلام، ويزول من طريق الدعوة دعاة الكفر والإلحاد، وينعم العباد بحكم الشريعة العادل، وتعاليمها السمحة، وليخرجوا بهذا الدين القويم من ضيق الدنيا إلى سعة الإسلام، ومن عبادة الخلق إلى عبادة الخالق سبحانه، ومن ظلم الجبابرة إلى عدل الشريعة وأحكامها الرشيدة. وهذا هو الذي استقر عليه أمر الإسلام، وتوفي عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله فيه قوله عز وجل في سورة براءة -وهي من آخر ما نزل-: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (2) وقوله سبحانه في سورة الأنفال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (3) والأحاديث السابقة كلها تدل على هذا القول وتشهد له بالصحة.
__________
(1) سورة النساء الآية 89
(2) سورة التوبة الآية 5
(3) سورة الأنفال الآية 39(18/74)
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الطور الثاني وهو القتال لمن قاتل المسلمين، والكف عمن كف عنهم قد نسخ؛ لأنه كان في حال ضعف المسلمين، فلما قواهم الله وكثر عددهم وعدتهم أمروا بقتال من قاتلهم ومن لم يقاتلهم، حتى يكون الدين كله لله وحده، أو يؤدوا الجزية إن كانوا من أهلها. وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن الطور الثاني لم ينسخ بل هو باق يعمل به عند الحاجة إليه، فإذا قوي المسلمون واستطاعوا بدء عدوهم بالقتال وجهاده في سبيل الله، فعلوا ذلك عملا بآية التوبة وما جاء في معناها، أما إذا لم يستطيعوا ذلك فإنهم يقاتلون من قاتلهم واعتدى عليهم، ويكفون عمن كف عنهم عملا بآية النساء وما ورد في معناها. وهذا القول أصح وأولى من القول بالنسخ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وبهذا يعلم كل من له أدنى بصيرة أن قول من قال من كتاب العصر وغيرهم: أن الجهاد شرع للدفاع فقط، قول غير صحيح، والأدلة التي ذكرنا وغيرها تخالفه، وإنما الصواب هو ما ذكرنا من التفصيل كما قرر ذلك أهل العلم والتحقيق. ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه رضي الله عنهم في جهاد المشركين اتضح له ما ذكرنا، وعرف مطابقة ذلك لما أسلفنا من الآيات والأحاديث. والله ولي التوفيق.(18/75)
ب - وجوب الإعداد للأعداء:
وقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يعدوا للكفار ما استطاعوا من القوة، وأن يأخذوا حذرهم كما في قوله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (2) وذلك يدل على وجوب العناية بالأسباب والحذر من مكائد الأعداء، ويدخل في ذلك جميع أنواع الإعداد المتعلقة بالأسلحة والأبدان، كما يدخل في ذلك إعداد جميع الوسائل المعنوية والحسية، وتدريب المجاهدين على أنواع الأسلحة وكيفية استعمالها، وتوجيههم إلى كل ما يعينهم على جهاد عدوهم والسلامة من مكائده، في الكر والفر والأرض والجو والبحر وفي سائر الأحوال؛ لأن الله سبحانه أطلق الأمر بالإعداد وأخذ الحذر، ولم يذكر نوعا دون نوع ولا حالا دون حال، وما ذلك إلا؛ لأن الأوقات تختلف والأسلحة تتنوع، والعدو يقل ويكثر ويضعف ويقوى، والجهاد قد يكون ابتداء وقد يكون دفاعا؛ فلهذه الأمور وغيرها أطلق الله سبحانه الأمر بالإعداد وأخذ الحذر، ليجتهد قادة المسلمين وأعيانهم ومفكروهم في إعداد ما يستطيعون من القوة؛ لقتال أعدائهم وما يرونه من المكيدة في ذلك. وقد صح عن رسول
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60
(2) سورة النساء الآية 71(18/76)
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحرب خدعة (1) » ، ومعناه: أن الخصم قد يدرك من خصمه بالمكر والخديعة في الحرب ما لا يدركه بالقوة والعدد، وذلك مجرب معروف. وقد وقع في يوم الأحزاب من الخديعة للمشركين واليهود والكيد لهم على يد نعيم بن مسعود رضي الله عنه، بإذن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان من أسباب خذلان الكافرين، وتفريق شملهم، واختلاف كلمتهم، وإعزاز المسلمين ونصرهم عليهم، وذلك من فضل الله ونصره لأوليائه، ومكره لهم كما قال عز وجل: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (2)
ومما تقدم يتضح لذوي البصائر أن الواجب امتثال أمر الله، والإعداد لأعدائه، وبذل الجهود في الحيطة والحذر، واستعمال كل ما أمكن من الأسباب المباحة الحسية والمعنوية مع الإخلاص لله والاعتماد عليه والاستقامة على دينه، وسؤاله المدد والنصر، فهو سبحانه وتعالى الناصر لأوليائه والمعين لهم إذا أدوا حقه، ونفذوا أمره وصدقوا في جهادهم وقصدوا بذلك إعلاء كلمته وإظهار دينه، وقد وعدهم الله بذلك في كتابه
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند أنس بن مالك برقم (12928) ، والترمذي في (الجهاد) باب ما جاء في الرخصة في الكذب والخديعة في الحرب برقم (1675) .
(2) سورة الأنفال الآية 30(18/77)
الكريم وأعلمهم أن النصر من عنده؛ ليثقوا به ويعتمدوا عليه مع القيام بجميع الأسباب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) وقال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) وقال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4) وقال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (5) الآية، وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (6) وقال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (7) {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (8)
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة الروم الآية 47
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة النور الآية 55
(6) سورة آل عمران الآية 120
(7) سورة الأنفال الآية 9
(8) سورة الأنفال الآية 10(18/78)
وقد سبق في هذا المعنى آية سورة الصف وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (4) والآيات في هذا المعنى كثيرة. ولما قام سلفنا الصالح بما أمرهم الله به ورسوله وصبروا وصدقوا في جهاد عدوهم نصرهم الله وأيدهم، وجعل لهم العاقبة مع قلة عددهم وعدتهم وكثرة أعدائهم، كما قال عز وجل: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (5) وقال عز وجل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (6) ولما تغير المسلمون وتفرقوا ولم يستقيموا على تعاليم ربهم، وآثر أكثرهم أهواءهم، أصابهم من الذل والهوان وتسلط الأعداء ما لا يخفى على أحد. وما ذاك إلا بسبب الذنوب والمعاصي، والتفرق والاختلاف، وظهور الشرك والبدع والمنكرات في غالب البلاد، وعدم تحكيم أكثرهم الشريعة، كما قال الله سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (7)
__________
(1) سورة الصف الآية 10
(2) سورة الصف الآية 11
(3) سورة الصف الآية 12
(4) سورة الصف الآية 13
(5) سورة البقرة الآية 249
(6) سورة آل عمران الآية 160
(7) سورة الشورى الآية 30(18/79)
وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) وقال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2) ولما حصل من الرماة ما حصل يوم أحد من النزاع والاختلاف، والإخلال بالثغر الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلزومه، جرى بسبب ذلك على المسلمين من القتل والجراح والهزيمة ما هو معلوم، ولما استنكر المسلمون ذلك أنزل الله قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3) ولو أن أحدا يسلم من شر المعاصي وعواقبها الوخيمة لسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام يوم أحد وهم خير أهل الأرض، ويقاتلون في سبيل الله، ومع ذلك جرى عليهم ما جرى بسبب معصية الرماة التي كانت عن تأويل لا عن قصد للمخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والتهاون بأمره، ولكنهم لما رأوا هزيمة المشركين ظنوا أن الأمر قد انتهى، وأن الحراسة لم
__________
(1) سورة الأنفال الآية 53
(2) سورة الروم الآية 41
(3) سورة آل عمران الآية 165(18/80)
يبق لها حاجة، وكان الواجب عليهم أن يلزموا الموقف حتى يأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بتركه، ولكن الله سبحانه قد قدر ما قدر وقضى ما قضى لحكم بالغة وأسرار عظيمة، ومصالح كثيرة قد بينها في كتابه سبحانه وعرفها المؤمنون، وكان ذلك من الدلائل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله حقا، وأنه بشر يصيبه ما يصيب البشر من الجراح والآلام ونحو ذلك، وليس بإله يعبد، وليس مالكا للنصر، بل النصر بيد الله سبحانه ينزله على من يشاء، ولا سبيل إلى استعادة المسلمين لمجدهم السالف واستحقاقهم النصر على عدوهم إلا بالرجوع إلى دينهم والاستقامة عليه وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، وتحكيمهم شرع الله سبحانه في أمورهم كلها، واتحاد كلمتهم على الحق، وتعاونهم على البر والتقوى، كما قال الإمام مالك بن أنس رحمة الله عليه: " لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها " وهذا هو قول جميع أهل العلم، والله سبحانه إنما أصلح أول هذه الأمة باتباع شرعه والاعتصام بحبله والصدق في ذلك والتعاون عليه، ولا صلاح لآخرها إلا بهذا الأمر العظيم.(18/81)
ج- فضل الرباط والحراسة في سبيل الله:
الرباط هو الإقامة في الثغور وهي الأماكن التي يخاف على أهلها من أعداء الإسلام، والمرابط هو المقيم فيها، المعد(18/81)
نفسه للجهاد في سبيل الله والدفاع عن دينه وإخوانه المسلمين. وقد ورد في فضل المرابط والحراسة في سبيل الله أحاديث كثيرة. إليك أيها الأخ المسلم الراغب في الرباط في سبيل الله طرفا منها، نقلا من كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري رحمه الله.
عن سهل بن سعد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها (1) » رواه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم.
وعن سلمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن من الفتان (2) » رواه مسلم واللفظ له، والترمذي، والنسائي، والطبراني وزاد: «وبعث يوم القيامة شهيد» .
__________
(1) رواه البخاري في (الجهاد والسير) باب فضل رباط يوم في سبيل الله برقم (2892) .
(2) رواه مسلم في (الإمارة) باب فضل الرباط في سبيل الله برقم (1913) .(18/82)
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل الميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتان القبر (1) » رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وابن حبان في صحيحه وزاد في آخره قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل» وهذه الزيادة في بعض نسخ الترمذي.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رباط شهر خير من صيام دهر، ومن مات مرابطا في سبيل الله أمن الفزع الأكبر، وغدي عليه وريح برزقه من الجنة، ويجرى عليه أجر المرابط حتى يبعثه الله عز وجل (2) » رواه الطبراني ورواته ثقات.
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ينقطع عن صاحبه إذا مات إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمى له عمله، ويجرى
__________
(1) رواه أبو داود في (الجهاد) باب في فضل الرباط برقم (2500) .
(2) ذكره السيوطي في الفتح الكبير في (حرف الراء) برقم (6540) ، والهيثمي في مجمع الزوائد في (الجهاد) باب في الرباط برقم (4059) .(18/83)
عليه رزقه إلى يوم القيامة (1) » رواه الطبراني في الكبير بإسنادين، رواة أحدهما ثقات.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات مرابطا في سبيل الله أجرى عليه أجر عمله الصالح الذي كأن يعمل، وأجرى عليه رزقه، وأمن من القتان، وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع الأكبر (2) » رواه ابن ماجه بإسناد صحيح، والطبراني في الأوسط أطول منه، وقال فيه: «المرابط إذا مات في رباطه كتب له أجر عمله إلى يوم القيامة، وغدي عليه وريح برزقه، ويزوج سبعين حوراء، وقيل له: قف فاشفع إلى أن يفرغ من الحساب (3) » . وإسناده متقارب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله (4) » رواه
__________
(1) ذكره السيوطي في الفتح الكبير في (حرف الكاف) برقم (8750) ، والهيثمي في مجمع الزوائد في (الجهاد) باب في الرباط برقم (5059) .
(2) رواه ابن ماجه في (الجهاد) باب فضل الرباط في سبيل الله برقم (2767) .
(3) ذكره السيوطي في الفتح الكبير (حرف الشين) برقم (7173) .
(4) رواه الترمذي في (فضائل الجهاد) باب ما جاء في فضل الحرس في سبيل الله برقم (1639) .(18/84)
الترمذي، وقال حديث حسن غريب.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عينان لا تمسهما النار أبدا: عين باتت تكلأ في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله (1) » رواه أبو يعلى ورواته ثقات، والطبراني في الأوسط إلا أنه قال: «عينان لا تريان النار (2) » .
وعن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها (3) » رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية للراغب في الخير.
ونسأل الله أن يوفق المسلمين للفقه في دينه، وأن
__________
(1) رواه أبو يعلى في مسند جعفر بن أبي عمرو بن أمية برقم (4349) ، والهيثمي في مجمع الزوائد في (الجهاد) باب الحرس في سبيل الله برقم (8849) .
(2) ذكره السيوطي في الفتح الكبير (حرف العين) برقم (7920) .
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) مسند عثمان بن عفان رضي الله عنه برقم (435) ، (465) .(18/85)
يجمعهم على الهدى، وأن يوحد صفوفهم وكلمتهم على الحق، وأن يمن عليهم بالاعتصام بكتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وتحكيم شريعته والتحاكم إليها، والاجتماع على ذلك والتعاون عليه، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(18/86)
37 - وصية موجهة للمرابطين
في الحدود ضد اعتداء دولة العراق
بسم الله والحمد لله والصلاة السلام على رسول الله وعلى آله وصحبه (1) .
أيها المرابطون على الحدود، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، والإكثار من ذكره، والصبر والمصابرة والصدق في اللقاء عند أي عدوان من دولة العراق، كما أوصيكم بالاتفاق وعدم التنازع، والاستقامة على طاعة الله ورسوله، والثبات في مواطن اللقاء؛ عملا بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (3) كما أوصيكم بالإخلاص لله ودعائه، والضراعة إليه بطلب النصر، والتوكل عليه سبحانه وعدم الرياء والعجب، فهو سبحانه هو الناصر. وهو الذي بيده أزمة الأمور، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (4)
__________
(1) نشرت في مجلة (البحوث الإسلامية) العدد (30) ص 293.
(2) سورة الأنفال الآية 45
(3) سورة الأنفال الآية 46
(4) سورة محمد الآية 7(18/87)
وقال عز وجل في سورة الأنفال يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (1) {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (3) وقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (4) كما أوصيكم بالصدق عند اللقاء وعدم الفرار من الزحف؛ لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} (5) {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (6)
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات (7) » وذكر منها صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) سورة الأنفال الآية 9
(2) سورة الأنفال الآية 10
(3) سورة البقرة الآية 186
(4) سورة غافر الآية 60
(5) سورة الأنفال الآية 15
(6) سورة الأنفال الآية 16
(7) صحيح البخاري الوصايا (2767) ، صحيح مسلم الإيمان (89) ، سنن النسائي الوصايا (3671) ، سنن أبو داود الوصايا (2874) .(18/88)
«التولي يوم الزحف (1) » .
وقد وعد الله أولياءه المجاهدين في سبيله بإحدى الحسنيين، إما النصر وإما الشهادة، كما قال عز وجل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} (2) وأوصيكم أيضا أيها المسلمون المرابطون بالمحافظة على الصلوات الخمس والعناية بها، فإنها عمود الإسلام، وأعظم الفرائض بعد الشهادتين، قال الله عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (3) وأثنى على المحافظين عليها في كتابه الكريم فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (4) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (5) ثم ذكر صفات عظيمة ختمها بقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (6) {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} (7) {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (8) وهي من أعظم ما يعين على جهاد الأعداء
__________
(1) رواه البخاري في (الوصايا) باب قول الله: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) برقم (2767) ، وفي (الحدود) باب رمي المحصنات برقم (6857) ، ومسلم في (الإيمان) باب بيان الكبائر وأكبرها برقم (89) .
(2) سورة التوبة الآية 52
(3) سورة البقرة الآية 238
(4) سورة المؤمنون الآية 1
(5) سورة المؤمنون الآية 2
(6) سورة المؤمنون الآية 9
(7) سورة المؤمنون الآية 10
(8) سورة المؤمنون الآية 11(18/89)
ومصابرتهم، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1)
كما أوصيكم بحسن الظن بالله، وأنه سبحانه الصادق في وعده. وقد وعد سبحانه أنه ينصر من نصر دينه، ووعد أنه مع المتقين، فقال عز وجل: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (2) وقال سبحانه في سورة البقرة: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (3) وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني (4) » .
وأوصيكم جميعا بالتناصح بينكم والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، كما قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (5) وقال سبحانه:
__________
(1) سورة البقرة الآية 153
(2) سورة محمد الآية 7
(3) سورة البقرة الآية 194
(4) رواه مسلم في (الذكر والدعاء والتوبة) باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى برقم (2675) .
(5) سورة المائدة الآية 2(18/90)
{وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله. قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (4) » .
والله المسئول أن يمنحكم التوفيق، وأن يعينكم على كل ما فيه رضاه، وأن ينصر بكم الحق وحزبه، ويخذل بكم الباطل وأهله، وأن يجعل دائرة السوء على الظالمين المعتدين، وأن يحسن العاقبة لعباده المؤمنين إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الرئيس العام لرابطة
العالم الإسلامي بمكة المكرمة
والرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
في المملكة العربية السعودية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3
(4) رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) حديث تميم الداري برقم (16499) ، ومسلم في (الإيمان) باب بيان أن الدين النصيحة برقم (55) .(18/91)
38 - دفاع المسلمين عن بلادهم من الجهاد
س: أبناؤكم المرابطون على الجبهة يسألون سماحتكم عما إذا كان لهم أجر المرابط في سبيل الله.. وأنتم تعلمون أنهم يواجهون عدوا ثبت من سلوكياته أنه لا يرعى عهدا ولا يحفظ حقا..؟ ويسألون أيضا هل يدخل في الجهاد الدفاع عن الوطن والعرض والممتلكات؟ كما يأملون توجيه نصيحة لهم؟ (1) .
ج: قد دل الكتاب والسنة الصحيحة على أن الرباط في الثغور من الجهاد في سبيل الله لمن أصلح الله نيته؛ لقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجرى عليه رزقه، وأمن الفتان (3) » رواه الإمام مسلم في صحيحه، وفي الصحيحين عن
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج 2 ص 259.
(2) سورة آل عمران الآية 200
(3) رواه مسلم في (الإمارة) باب فضل الرباط في سبيل الله برقم (1913) .(18/92)
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها (1) » .
وفي صحيح البخاري - رحمه الله - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار (2) » .
ولا شك أن الدفاع عن الدين والنفس والأهل والمال والبلاد وأهلها من الجهاد المشروع، ومن يقتل في ذلك وهو مسلم يعتبر شهيدا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد (3) » .
ونوصيكم أيها المرابطون في الجبهة بتقوى الله والإخلاص لله في جميع أعمالكم، والمحافظة على الصلوات الخمس في الجماعة، والإكثار من ذكر الله عز وجل، والاستقامة على طاعة
__________
(1) رواه البخاري في (الجهاد والسير) باب فضل رباط يوم في سبيل الله برقم (2892) .
(2) رواه البخاري في (الجمعة) باب المشي إلى الجمعة برقم (907) .
(3) رواه الترمذي في (الديات) باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد برقم (1421) .(18/93)
الله ورسوله، والحرص على اتفاق الكلمة، وعدم التنازع، والصبر والمصابرة في ذلك بنفس مطمئنة، وحسن الظن بالله، والحذر من جميع معاصيه.
ومن أجمع الآيات فيما ذكرنا قوله عز وجل في سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2) سدد الله خطاكم وثبتكم على دينه، ونصر بكم وبمن معكم الحق، وخذل بكم الباطل وأهله، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة
__________
(1) سورة الأنفال الآية 45
(2) سورة الأنفال الآية 46(18/94)
39 - حكم الله تعالى في جهاد أعدائه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فنرى أن من المهم بيان حكم الله سبحانه وتعالى في جهاد أعدائه بالمال والنفس واللسان. وقد أكثر الله سبحانه من ذكر الجهاد في كتابه الكريم، وهكذا نبيه عليه الصلاة والسلام جاءت عنه الأحاديث الصحيحة تأمر بالجهاد وتدعو إليه وتشجع عليه، وتذكر فضل أهله وما لهم عند الله من المثوبة العظيمة.
ومن هذا قوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) فأمر سبحانه بالجهاد بالمال، والنفس، وبالنفير خفافا وثقالا، وما ذاك إلا لعظم شأن الجهاد وشدة الحاجة إليه؛ لما يحصل به من رفع راية الإسلام ورفع أعلامه وتنفيذ أحكامه، وإزاحة
__________
(1) سورة التوبة الآية 41(18/95)
العقبات عن طريق دعوته. ولما في الجهاد أيضا من نشر دين الله، وبيان حقه على عباده، ولما فيه أيضا من إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وإخراجهم من حكم الطاغوت إلى حكم الله عز وجل، ومن ضيق الدنيا وظلمها وجورها إلى سعة الإسلام وعدل الإسلام.
وقال جل وعلا في كتابه الكريم أيضا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) فأخبر سبحانه وتعالى أن التجارة المنجية من العذاب الأليم هي الإيمان والجهاد، وشوق إليها سبحانه وتعالى بقوله: {تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) وبقوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ} (4)
فالداعي هو الله سبحانه وتعالى، والواسطة هو محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الذي أنزل الله عليه الكتاب العظيم وبلغه إلينا. والتجارة المنجية من عذاب أليم هي إيماننا بالله سبحانه وبرسوله إيمانا صادقا، يتضمن توحيده والإخلاص له، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، والوقوف عند حدوده سبحانه وتعالى، ومن جملة طاعته وطاعة رسوله الجهاد في سبيل الله عز وجل، ولهذا ذكر الجهاد بعد الإيمان تنبيها على عظم شأنه
__________
(1) سورة الصف الآية 10
(2) سورة الصف الآية 11
(3) سورة الصف الآية 10
(4) سورة الصف الآية 10(18/96)
وشدة الحاجة إليه، وإلا فمن المعلوم أنه من شعب الإيمان، حتى قال بعض أهل العلم: أن الجهاد هو الركن السادس من أركان الإسلام، وما ذاك إلا لعظم ما يترتب عليه من المصالح العظيمة، فهو شعبة عظيمة، وفرض عظيم من فروض الإيمان، وهو يكون بالنفس، ويكون بالمال، ويكون باللسان، ويكون بأنواع التسهيل الذي يعين المجاهدين على قتال عدوهم.
فالدعوة إلى الله والإرشاد إليه والتشجيع على الجهاد والتحذير من التخلف والجبن، كل هذا من الجهاد باللسان، ونصيحة المجاهدين، وبيان ما أعد الله لهم من الخير والعاقبة الحميدة، كله من الجهاد باللسان، والإنفاق في سبيل الله في مصالح الجهاد، وفي حاجة المجاهدين وتجهيزهم، وإعطائهم السلاح والآلة المركوبة من طائرة ومن سيارة ومن غير ذلك، كل ذلك من الجهاد في سبيل الله بالمال.
وبين سبحانه وتعالى في الآية الكريمة أن الإيمان والجهاد هما التجارة المنجية من عذاب الله، فما أشرفه من عمل وما أعظمه من عمل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله (1) » ، وقال
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند الأنصار) حديث معاذ بن جبل برقم (21511) ، والترمذي في (الإيمان) باب ما جاء في حرمة الصلاة برقم (2616) .(18/97)
عليه الصلاة والسلام: «غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما عليها (1) » ، ولكن الجهاد بالمال له شأن عظيم، فهو أوسع أنواع الجهاد؛ لأن المال يستعان به على استخدام الرجال، واستخدام السلاح، واستخدام الدعاة، فالمال أوسعها وأكثرها نفعا، ولهذا بدأ به الله في الآيات قبل النفس في أغلب الآيات، بدأ الله بالمال قبل النفس، وما ذاك إلا لعظم نفعه وكثرة ما يحصل به من الخير والعون للمجاهدين.
فالجهاد بالمال جهاد عظيم ينفع المجاهدين ويعينهم على عدوهم؛ بصرفه في استخدام المجاهدين وتجهيزهم وتفريغهم للجهاد، والإحسان إلى عوائلهم، ويصرف أيضا في شراء السلاح الذي يجاهد به، ويصرف أيضا في حاجتهم من اللباس والطعام والخيام وغير ذلك، ومصالحه كثيرة؛ ولهذا بدأ الله به في أغلب الآيات، كما في قوله سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) وفي هذه الآيات يقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (5) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (6)
__________
(1) رواه البخاري في (الجهاد والسير) باب فضل رباط يوم في سبيل الله برقم (2892) .
(2) سورة التوبة الآية 41
(3) سورة الصف الآية 10
(4) سورة الصف الآية 11
(5) سورة الصف الآية 12
(6) سورة الصف الآية 13(18/98)
وهذا فضل من الله عز وجل أن المجاهدين تحصل لهم هذه الأمور العظيمة: غفران الذنوب، ودخول الجنة، والنجاة من النار، ومع كل ذلك فتح قريب ينصرهم الله ويؤيدهم على أعدائهم إذا صدقوا واستقاموا وصابروا، كما قال عز وجل في حق المجاهدين: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (1) هذا وعده لأهل الإيمان إذا جاهدوا عدوهم وصبروا واتقوا ربهم، فالله ينصرهم ويعينهم ويكفيهم شر أعدائهم، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (2)
ويقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3) ويقول سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (4) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (5)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 120
(2) سورة آل عمران الآية 120
(3) سورة محمد الآية 7
(4) سورة الحج الآية 40
(5) سورة الحج الآية 41(18/99)
العاقبة لله سبحانه وتعالى يجعلها لمن يشاء سبحانه وتعالى، فإذا صبر أهل الإيمان واتقوا ربهم وجاهدوا في سبيله عن إيمان وإخلاص، وأعدوا العدة اللازمة فإن الله ينصرهم ويعينهم، ويجعل العاقبة لهم سبحانه وتعالى، كما وعد سبحانه وتعالى بذلك.
ويقول جل وعلا: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} (1) {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} (2) {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (3) فالصبر والصدق والتقوى لله عز وجل هي أسباب النصر وعناصر الفوز.
والله المسئول سبحانه أن ينصر دينه ويعلي كلمته، إنه سبحانه وتعالى جواد كريم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة الصافات الآية 171
(2) سورة الصافات الآية 172
(3) سورة الصافات الآية 173(18/100)
ليس الجهاد للدفاع فقط
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخيرته من خلقه، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، ونسأله عز وجل التوفيق لإصابة الحق إنه على كل شيء قدير
أما بعد: فلما كان الكثير من كتاب العصر قد التبس عليهم الأمر في أمر الجهاد، وخاض كثير منهم في ذلك بغير علم، وظنوا أن الجهاد إنما شرع للدفاع عن الإسلام، وعن أهل الإسلام، ولم يشرع ليغزو المسلمون أعداءهم في بلادهم، ويطالبوهم بالإسلام ويدعوهم إليه، فإن استجابوا وإلا قاتلوهم على ذلك، حتى تكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر.
لما كان هذا واقعا من بعض الناس، وصدر فيه رسائل وكتابات كثيرة، رأيت أن من المستحسن بل مما ينبغي أن تكون محاضرتي في هذه الليلة، في هذا الشأن بعنوان:(18/101)
ليس الجهاد للدفاع فقط، فأقول والله سبحانه وتعالى هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل: إن الله عز وجل وله الحمد والمنة بعث الرسل وأنزل الكتب لهداية الثقلين من الجن والإنس، ولإخراجهم من الظلمات إلى النور فضلا منه وإحسانا. وكان الله عز وجل قد فطر العباد على معرفته، وتوحيده وخلقهم لهذا الأمر. خلقهم ليعبدوه ويطيعوه. ولكنه سبحانه لعلمه بأحوالهم وأن عقولهم لا يمكن أن تستقل بمعرفة تفاصيل عبادته التي ترضيه عز وجل، ولا يمكن أن تستقل بمعرفة الأحكام العادلة التي ينبغي أن يسيروا عليها، ولا يمكن أن تستقل بمعرفة الأخلاق والصفات التي ينبغي أن يتخلقوا بها، أرسل سبحانه وتعالى رسلا مبشرين ومنذرين، ليوجهوا أهل الأرض من المكلفين، إلى توحيده سبحانه والإخلاص له، وبيان الأخلاق والأعمال التي ترضيه سبحانه، وليحذروهم من الأعمال والأخلاق التي تغضبه عز وجل، وليرسموا لهم النظم والخطط التي ينبغي أن يسيروا عليها، وأنزل الكتب لإيضاح هذا الأمر وبيانه؛ لأنه سبحانه هو العالم بأحوال عباده، العالم بما يصلحهم، العالم بما فيه سعادتهم العاجلة والآجلة، فهو عالم بأحوالهم الحاضرة، وبأحوالهم الماضية، وبأحوالهم المستقبلة، فلهذا أرسل الرسل، وأنزل الكتب لبيان حقه والإرشاد إليه، وتوجيه(18/102)
الناس إلى أسباب النجاة وإلى طرق السعادة في المعاش والمعاد، وأنزل الكتب لبيان هذا الأمر العظيم، قال جل وعلا في كتابه المبين: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} (1) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (2) {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (3) {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (4) {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} (5) وقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (6) وقال سبحانه وتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (7)
وبين الله سبحانه وتعالى أنه هو الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وبين أن رسله أرسلوا بالبينات، وأنزل معهم سبحانه الكتاب والميزان بالقسط.
__________
(1) سورة البقرة الآية 257
(2) سورة الأحزاب الآية 41
(3) سورة الأحزاب الآية 42
(4) سورة الأحزاب الآية 43
(5) سورة الأحزاب الآية 44
(6) سورة الذاريات الآية 56
(7) سورة الحديد الآية 25(18/103)
والمراد بالكتاب: الكتب السماوية وهي كلامه جل وعلا، وهو الذي لا أصدق منه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} (1)
والميزان وهو العدل يعني الشرائع المستقيمة، والأحكام العادلة التي تشتمل على أسباب السعادة في الدنيا والآخرة.
هكذا أرسل الرسل، وهكذا أنزل الكتب، أنزل الكتب السماوية التي أشرفها وأعظمها كتاب الله العظيم القرآن، وأنزل قبل ذلك التوراة والإنجيل وكتبا أخرى على أنبيائه ورسله، عليهم الصلاة والسلام، فيها الشرائع والأحكام والتوجيه إلى الخير والتحذير من الشر، وكان فيما مضى يرسل سبحانه وتعالى إلى كل قوم رسولا منهم، يوجههم إلى الخير، ويأمرهم بتوحيد الله وينذرهم من الشرك بالله، ويشرع سبحانه لهم الشرائع وهو الحكيم العليم الرحيم جل وعلا، وكل رسول أرسله الله إلى أمة، أرسله بالتوحيد الذي هو زبدة دعوة الرسل كلهم، وأمرهم بحب الله جل وعلا، والإخلاص له، وتوجيه القلوب إليه سبحانه، وشرع لهم من الشرائع على لسان رسولهم ما يليق بهم، وبمجتمعهم وزمانهم وظروفهم على ما تقتضيه حكمة الرب عز وجل، ورحمته ولطفه جل وعلا، وعلمه بأحوالهم سبحانه وتعالى.
__________
(1) سورة النساء الآية 122(18/104)
ولما كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رسالة عامة إلى جميع أهل الأرض من جن وإنس، أرسله الله عز وجل بشريعة صالحة لجميع أهل الأرض في زمانه، وبعد زمانه إلى يوم القيامة، عليه الصلاة والسلام.
هكذا اقتضت حكمة الله عز وجل، واجتمعت الرسل على الأصول والأسس عليهم الصلاة والسلام، وتنوعت الشرائع على حسب ظروف الأمم وأحوالهم وبيئاتهم، على ما تقتضيه حكمة الخالق العليم، ورحمته عز وجل، وإحسانه إليهم ولطفه بهم جل وعلا.
أما جنس التوحيد الذي هو أصل الأصول، فقد اجتمعت الرسل عليه، وهكذا بقية الأصول كوجوب الصدق والعدل وتحريم الكذب والظلم والأمر بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، والنهي عن ضدها فهذه الأصول اجتمعت عليها الرسل عليهم الصلاة والسلام، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) وقال عز وجل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (3)
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25
(3) سورة النساء الآية 165(18/105)
ومن الأصول الأساسية: الإيمان بالله ورسوله وتوحيده، والإخلاص له، والإيمان باليوم الآخر، وبالجنة والنار، والإيمان بجميع الرسل، وعدم التفريق بينهم، وما أشبه هذه الأصول هذا كله مما اجتمعت عليه الرسل جميعا، وقد جاءت الكتب الإلهية كلها يصدق بعضها بعضا، ويؤيد بعضها بعضا.
أما جنس الفروع فقد تنوعت بها الشرائع، فقد يباح في شريعة من المسائل الفرعية ما يحرم في الشريعة الأخرى، وقد يحرم في شريعة سابقة ما يباح في شريعة لاحقة، ومن هذا أن الله جل وعلا بعث عيسى عليه الصلاة والسلام بشريعة التوراة مع التخفيف والتيسير لبعض ما فيها، وإخبارهم ببعض ما اختلفوا فيه، وإحلال بعض ما حرم عليهم في التوراة، كل هذا من لطفه وتيسيره جل وعلا، كما قال سبحانه وتعالى لما ذكر التوراة والإنجيل والقرآن قال بعد هذا كله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (1) وهو سبحانه حكيم في شرعه عليم بما يصلح عباده وما يستطيعون، كما أنه حكيم في أقداره سبحانه وتعالى، قال جل وعلا:
__________
(1) سورة المائدة الآية 48(18/106)
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1) {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2) هذا كله في شريعة التوراة، وقد أقره الله لهذه الأمة وبينه لهم مقرا له ومشرعا في هذه الأمة، وجاءت السنة تؤيد ذلك وتبين أن هذا شرع الله لهذه الأمة في النفس والعين والأنف والأذن والسن، كما هو في شريعة الله المعلومة من كتابه سبحانه، ومن سنة رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام، ثم قال بعد ذلك: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (3) فدل ذلك على أن هذا الكتاب العظيم وهو الإنجيل، فيه هدى ونور وفيه مواعظ وتوجيهات، ثم قال بعد ذلك: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} (4) فدل على أن فيه أحكاما يحكم بها أهل الإنجيل من
__________
(1) سورة المائدة الآية 44
(2) سورة المائدة الآية 45
(3) سورة المائدة الآية 46
(4) سورة المائدة الآية 47(18/107)
علماء بني إسرائيل ومعلوم أن عيسى عليه الصلاة والسلام أرسل بشريعة التوراة، ومع ذلك أرسل بأشياء غير ما في التوراة. . وفي شريعته أيضا تخفيف وتيسير لبعض ما في التوراة، ثم قال بعد هذا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) ثم قال عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (2)
هكذا قال لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام، وأنزل كتابه القرآن بالحق؛ لأن الله أنزله بالحق وللحق، فهو جاء مشتملا على الحق ومؤيدا للحق، وشارعا للحق ومصدقا لما بين يديه من الكتب الماضية، والرسل الماضين فيما جاءوا به.
فكتاب الله العظيم القرآن مصدق للرسل الماضين، ومصدق للكتب الماضية، وشاهد أنها من عند الله عز وجل: التوراة والإنجيل والزبور وصحف موسى وإبراهيم وغيرها من الكتب التي أنزلها الله على الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم بين الله جل وعلا أن لكل منهم شرعة ومنهاجا، فدل ذلك على أن الشرائع التي جاء بها الأنبياء والرسل متنوعة الأسس من الإيمان بالله ورسله والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالجنة
__________
(1) سورة المائدة الآية 47
(2) سورة المائدة الآية 48(18/108)
والنار، وغير هذا من الأحكام العامة التي توجب العدل والصدق، وتحريم الظلم والكذب ونحو ذلك.
فهذه أصول عامة متبعة، وكان من حكمته عز وجل أن أرسل كل رسول بلسان قومه، حتى يفقههم ويفهمهم، ما بعث به إليهم بصورة واضحة، وبيان واضح، ولهذا قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (1) الآية.
ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم من العرب، وكان العرب هم أول الناس يستمعون دعوته، ويواجههم بدعوته، أرسله الله بلسانهم، وإن كان رسولا للجميع عليه الصلاة والسلام، ولكن الله أرسله بلسان قومه، وجعل قومه مبلغين ودعاة إلى من وراءهم من الأمم، وأمر الناس جميعا باتباع هذا النبي عليه الصلاة والسلام والسير على منهاجه، فوجب عليهم أن يتبعوه، وأن يعرفوا لغته ولغة كتاب الله العظيم، وهذا النبي العظيم هو محمد عليه الصلاة والسلام بعثه الله رحمة للعالمين جميعا، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2)
فكما أرسل الرسل قبله رحمة لمن أرسلوا إليه ليواجهوهم وليزيلوا عنهم الظلم، والفساد وأحكام الطواغيت، وليحلوا مكان
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 4
(2) سورة الأنبياء الآية 107(18/109)
ذلك النظم الصالحة والأحكام العادلة، وهكذا أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم أيضا، ليقضي على النظم الفاسدة في المجتمع الإنساني، والأخلاق المنحرفة، والظلم والجور، وليحل محلها نظما صالحة، وأحكاما عادلة، فبعثه صلى الله وسلم ربه ليزيل ما في الأرض من الظلم والطغيان، وليقضي على الفساد، وليزيح النظم الفاسدة والطواغيت المستبدة، الذين يتحكمون في الناس بالباطل، ويظلمونهم ويتعدون على حقوقهم، ويستعبدونهم.
فبعث الله هذا النبي عليه الصلاة والسلام، ليزيل هذه النظم الفاسدة، والأخلاق الظالمة، وليقضي على الطغاة المتجبرين، والقادة المفسدين، وليحل محل ذلك قادة مصلحين، ونظما عادلة مستقيمة، وشرائع حكيمة عادلة، توقف الناس عند حدهم، ولا تفرق بين أبيض وأسود، ولا بين أحمر وغيره، ولا بين غني وففير، ولا بين شريف عند الناس، ووضيع عندهم، بل جعل شريعته لا تفرق بين الناس، بل توجههم جميعا وتأمرهم وتنهاهم جميعا، وبين الله سبحانه وتعالى أن أكرم الناس عند الله هو أتقاهم، كما قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (1) ولم يقل لتتفاخروا
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13(18/110)
أو ليترفع بعضكم على بعض، أو يستعبد بعضكم بعضا، أو يفخر بعضكم على بعض، ولكن قال: لتعارفوا، ثم قال سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد (2) » خرجه مسلم في صحيحه.
وقال الله جل وعلا في القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (3) فهذا النبي العظيم عليه الصلاة والسلام أرسله الله برسالة عامة ونظام شامل عام في جميع الشئون العبادية والسياسية، والاقتصادية والاجتماعية، والحربية وغير ذلك من شئون الناس، فما ترك شيئا إلا وأرشد إلى حكم الله فيه، وقال فيه عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (4) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (5) {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (6) فبين الله سبحانه وتعالى أن هذا الرسول سراج منير للناس ينير
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13
(2) رواه مسلم في الجنة وضفة نعيمها وأهلها باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة برقم 2865
(3) سورة لقمان الآية 18
(4) سورة سبأ الآية 28
(5) سورة الأحزاب الآية 45
(6) سورة الأحزاب الآية 46(18/111)
لهم الطريق ويهديهم السبيل إلى ربهم سبحانه، عليه الصلاة والسلام الذي من استقام على دينه نجا وفاز بالخير والعاقبة الحميدة ومن حاد عنه باء بالخيبة والخسارة والذل والهوان، وقال عز وجل: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (1) {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) هكذا قال جل وعلا في هذا النبي العظيم وكتابه المبين.
إن هذا الكتاب وهذا الرسول يخرج الله بهما الناس من الظلمات إلى النور من ظلمات الكفر والجهل والظلم والاستبداد والاستعباد إلى نور التوحيد والإيمان، إلى نور الهدى والعدل، إلى سعة الإسلام بدلا من جور الملوك والطغاة، وبدلا من أحكامهم الظالمة الجائرة، فشريعة الله التي بعث بها نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - شريعة كاملة، شريعة فيها الهدى والنور، وفيها العدل والحكمة، وفيها إنصاف المظلوم من الظالم، وتوجيه الناس إلى أسباب السعادة، وإلزامهم بالحق والعدل، ومنعهم من الظلم والجور، وربطهم بالأخوة الإيمانية، وأمرهم بالتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه والتآخي، والنصح من بعضهم
__________
(1) سورة المائدة الآية 15
(2) سورة المائدة الآية 16(18/112)
لبعض، وفيها تخليصهم من الظلم والجور والبغي والكذب وسائر أنواع الفساد حتى يكونوا جميعا إخوة متحابين في الله متعاونين على البر والتقوى، ينصح كل واحد الآخر، ويؤدي الأمانة ولا يغش أخاه ولا يخونه، ولا يكذبه، ولا يحقره، ولا يغتابه ولا ينم عليه، بل يحب له كل خير ويكره له كل شر، كما قال جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (1) وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (2) » وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (3) » . وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (4) » خرجه مسلم في صحيحه.
__________
(1) سورة الحجرات الآية 10
(2) رواه البخاري في الإيمان باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه برقم 13 ومسلم في الإيمان باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه برقم 45
(3) رواه البخاري في الإيمان باب الدين النصيحة برقم 57 ومسلم في الإيمان باب بيان أن الدين النصيحة برقم 56
(4) رواه أحمد في مسند الشاميين حديث تميم الداري برقم 16499، ومسلم في الإيمان باب بيان أن الدين النصيحة برقم 55(18/113)
وقال سبحانه في كتابه العزيز في عموم الرسالة: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1)
وأخبر سبحانه وتعالى أن هذا الرسول يزكيهم من أخلاقهم الذميمة وأعمالهم المنكرة إلى أخلاق صالحة، وإلى أعمال مستقيمة قال جل وعلا: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (2) وقال جل وعلا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (3) إلى غير ذلك من الآيات الدالات على نصحه عليه الصلاة والسلام، وأن الله بعثه ليعلم الناس ويرشد الناس ويزكي الناس ويخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ من ظلمات جهلهم وكفرهم وأخلاقهم الذميمة، إلى نور الإيمان والتوحيد وإلى سعادة الأخلاق الكريمة، والعدل والصلاح والإصلاح.
ولما كانت الأرض قبل بعثته عليه الصلاة والسلام
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة آل عمران الآية 164
(3) سورة التوبة الآية 128(18/114)
مملوءة من الظلم والجهل والكفر، وكان الشرك قد عم الناس وعم البلاد وانتشر فيها الفساد إلا ما شاء الله من بقايا يسيرة من أهل الكتاب ماتوا أو معظمهم قبل بعثته عليه الصلاة والسلام، لما كان الأمر هكذا رحم الله أهل الأرض ولطف بهم سبحانه وبعث فيهم هذا الرسول العظيم محمدا عليه الصلاة والسلام وهم في أشد الحاجة بل الضرورة إلى بعثته وإرساله، فبعثه الله بأشرف كتاب وأشرف رسالة وأعمها فأنقذ الله به الأمة. وأخرج الله به أهل الأرض من الظلمات إلى النور، أخرجهم الله به من الضلالة إلى الهدى، أخرجهم الله به من الجور والظلم والعسف إلى العدل والإنصاف والحرية الكاملة المقيدة بقيود الشريعة.
وأمره سبحانه وتعالى حينما بعثه بالدعوة إلى الله عز وجل والإرشاد إليه، وإقامة الحجج على ما بعثه الله به من الدين الحق والصراط المستقيم، فلم يزل هكذا يدعو إلى الله ويرشد في مكة عليه الصلاة والسلام، وهكذا من أسلم معه من أهل مكة يقوم بدوره في الدعوة على حسب حاله تارة في السر وتارة في العلن كما هو معلوم، فمكث في مكة عليه الصلاة والسلام ثلاثة عشر عاما يدعو إلى الله عز وجل وينذر قومه ويوجههم إلى الخير ويتلو عليهم كتاب الله، ويدعوهم إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولم يأمره الله بقتالهم، وإنما هي دعوة فقط ليس فيها قتال بل توجيه وإرشاد وإيضاح(18/115)
للحق والخلق الكريم، وتحذير من خلافه بالكلام الطيب واللطف والجدال بالتي هي أحسن كما قال جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) وقال جل وعلا: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (2) وقال سبحانه: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (3) وقال سبحانه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (4) إلى أمثال هذه الآيات التي فيها الأمر بالصفح والإعراض عنهم والجدال بالتي هي أحسن إلى غير ذلك، وليس فيها الأمر بقتالهم؛ لأن المقام لا يتحمل ذلك؛ لأن المسلمين قليلون وأعداؤهم كثيرون وبأيديهم السلطان والقوة فكان من حكمة الله أن منع رسوله والمسلمين من الجهاد باليد وأمرهم بالاكتفاء بالجهاد باللسان والدعوة وأمرهم أن يكفوا أيديهم عن القتال، فهدى الله بذلك من هدى من المسلمين كالصديق - رضي الله عنه - وعمر الفاروق - رضي الله عنه - وعثمان - رضي الله عنه - وعلي - رضي الله عنه - والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وجم غفير من
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة الحجر الآية 85
(3) سورة المزمل الآية 10
(4) سورة الحجر الآية 94(18/116)
الصحابة، رضي الله عن الجميع وأرضاهم.(18/117)
ولما صدع النبي بالدعوة وبين بطلان آلهتهم التي يعبدونها من دون الله وأرشدهم إلى توحيد الله والإخلاص له، عظم على أهل مكة ذلك واشتد عليهم الأمر؛ لأنهم يعظمون تلك الآلهة، ولأن كثيرا منهم يرى في عبادتها والتعلق بها حفظا لرئاسته ومنزلته وسيطرته على الضعفاء، وصاروا يحاولون الذود عنها ويكذبون على الرسول صلى الله عليه وسلم أكاذيب كثيرة وينفرون الناس عنه ويقولون عنه إنه شاعر وتارة مجنون وتارة ساحر وتارة كذاب إلى غير ذلك، وهي أقاويل كلها باطلة وهم يعلمون أنها باطلة، أعني أعيانهم ورؤساءهم وأهل الحل والعقد منهم كما قال سبحانه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (1) ولكن ليس لهم حيلة إلا أن يقولوا هكذا من الكذب والفرية والتزييف على الضعفاء من أهل مكة ومن غيرهم فأبى الله إلا أن يتم نوره، ويظهر الحق ويدفع الباطل ولو كره الكافرون. فلم يزل يدعوهم عليه الصلاة والسلام ولم يزل يناظر الناس ويتلو عليهم كتاب الله ويرشدهم إلى ما بعثه الله به ويصدع بأمر ربه عز وجل، حتى
__________
(1) سورة الأنعام الآية 33(18/117)
ظهرت الدعوة في مكة وانتشرت وسمع بها الناس، العرب وغيرهم في البوادي والمدن، فصارت الوفود تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويتصلون به سرا ويسمعون منه عليه الصلاة والسلام حتى فشى الإسلام وظهر وبان لأهل مكة، فعند ذلك شمروا عن ساعد العداوة وآذوا الرسول وآذوا أصحابه إيذاءا شديدا، وأمرهم معروف في السير والتاريخ فمنهم من عذب بالرمضاء ومنهم من عذب بغير ذلك.
فلما اشتد الأمر بأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم واشتد بهم الأذى أذن لهم صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة، فهاجر من هاجر إلى الحبشة ومكثوا هناك ما شاء الله ثم بلغهم أن هناك تساهلا من المشركين، وروي أنه بلغهم أنهم أسلموا لما سجدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النجم فرجع من رجع منهم فاشتد عليهم الأذى، فهاجروا الهجرة الثانية إلى الحبشة وبقوا هناك إلى أن قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر من الحبشة مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وعنهم.
ثم استمرت الحال والشدة على الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة. . وجرى ما جرى في حصاره في شعب أبي طالب وغير هذا من الأذى، ثم إن الله جل وعلا بعد ذلك أذن له بالهجرة إلى المدينة بعدما يسر الله له من الأنصار من يساعده ويحميه ويؤويه، فإن الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، من الأوس(18/118)
والخزرج لما بلغتهم الدعوة اتصلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واجتمعوا به عند العقبة في منى مرات ثم في المرة الأخيرة بايعوه، بايعه منهم جماعة فوق السبعين، فبايعوه على الإسلام وعلى أن ينصروه ويحموه مما يحموا منه نساءهم وذرياتهم، وطلبوا منه أن يهاجر إليهم فوافق على ذلك عليه الصلاة والسلام. وأذن لأصحابه بالهجرة ثم انتظر أمر ربه فأذن الله له بعد ذلك فهاجر إلى المدينة فلله الحمد والمنة.
وكان صلى الله عليه وسلم في مكة - كما هو معلوم - لم يكن يجاهدهم باليد ولا بالسيف، ولكنه كان يجاهد بالدعوة والتوجيه والإرشاد والتبصير والعظة والتذكير وتلاوة القرآن، كما قال الله تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (1) وهكذا كان أصحابه صلى الله عليه وسلم الذين بقوا في مكة كانوا هكذا إذا تمكنوا من الدعوة بذلوها لمن يتصل بهم في التوجيه والإرشاد والنصيحة، ولكن مع هذا كله فالمسلمون قليلون والكفار أكثر ولهم السلطة، ولهم اليد في مكة، ولهذا قال الشاعر ويروى ذلك لحسان رضي الله عنه:
دعا المصطفى دهرا بمكة لم يجب ... وقد لان منه جانب وخطاب
__________
(1) سورة الفرقان الآية 52(18/119)
فلما دعا والسيف صلت بكفه ... له أسلموا واستسلموا وأنابوا
هكذا كانت الحال بمكة، إنما أجاب القليل وامتنع الأكثرون بسبب المآكل والرئاسة والكبر والحسد والبغي لا عن جهل بالحق ولا عن رغبة في الباطل؛ لأنهم يعرفون أنه رسول الله وأنه صادق، وكانوا يسمونه الأمين عليه الصلاة والسلام، ولكن الحسد والبغي وحب الرئاسة والتسلط على الأمة يمنع الكثير من الناس عن قبول الحق.
وهكذا فعل الروم وفارس ورؤساؤهم وأعيانهم ليس يخفى عليهم الحق وأدلته وبراهينه، ولكن السلطان والرئاسة واستعباد الناس وما يلتحق بهذا يمنعهم من الخضوع إلى الحق، ولما سأل هرقل أبا سفيان عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره أبو سفيان بذلك عرف أنه رسول الله واتضح له أنه نبي الله ودعا أمته لذلك، فلما رأى منهم النفرة وعدم الاستجابة نكس على عقبيه ورجع عما أظهر وقال: " إنما فعلت هذا وقلت ما قلت لأمتحنكم وأعرف صلابتكم في دينكم " ثم استمر على دين قومه وطغيانه وكفره. نسأل الله العافية، فآثر الدنيا على الآخرة. وهكذا أشباهه ونظراؤه يحملهم البغي والحسد وحب الرئاسة على خلاف الحق وعلى التنكر له ولأهله كما سبق في قوله جل وعلا: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (1)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 33(18/120)
هكذا يقول ربنا عز وجل عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (1) وقال الله عز وجل عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه قال لفرعون: {قال لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} (2) فهؤلاء الكفرة من الكبراء والأعيان يعرفون الحق وأن ما جاءت به الرسل هو الحق، ولكن تمنعهم الرئاسات والتسلط على العباد وظلم العباد والاستبداد بالخيرات، يمنعهم ذلك من قبول الحق؛ لأنهم يعرفون أنهم إذا قبلوا صاروا أتباعا وهم لا يرضون بذلك إنما يريدون أن يكونوا متبوعين ورؤساء ومتحكمين ومتسلطين.
فالإسلام جاء ليحارب هؤلاء ويقضي عليهم ليقيم دولة صالحة بقيادة صالحة يؤثرون حق الله وإنصاف الناس ويرضون بما يرضى به إخوانهم، ولا يتجبرون ولا يتكبرون بل ينصفون إخوانهم ويسعون في صلاحهم وفلاحهم ويحكمون بينهم بالعدل، ويشتركون معهم في الخيرات ولا يستبدون بها عنهم.
هكذا بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بدين شامل ونظام عادل وشرائع مستقيمة تكسح نظم الفساد وتزيل
__________
(1) سورة النمل الآية 14
(2) سورة الإسراء الآية 102(18/121)
أحكام الطغاة وتقضي على طرق الفساد وأخلاق المفسدين، وتوجب على المسلمين اتباع هذا النظام المنزل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما توجب عليهم هذه الشريعة أن يتخلقوا بالعدل والإنصاف وأن يستقيموا على ما شرعه الله لهم وأن يحافظوا على ذلك، وأن ينصف بعضهم بعضا وأن يؤدي الأمانة بعضهم لبعض، وأن يحكموا فيما بينهم بشرع الله وأن يحاربوا الفساد والضلال وطرق الغي والغواية،
فلما هاجر عليه الصلاة والسلام واستقر به القرار في المدينة المنورة أمره الله بالتقوى وتطهيرها من الفساد وأهل الفساد وعمارتها بالمصلحين والصالحين، فلما استقر به القرار في هذه البلاد المقدسة وحوله الأنصار والمهاجرون، استمر في الدعوة عليه الصلاة والسلام ونشر ما بعثه الله به من الهدى، وأذن الله له ولأصحابه في القتال والجهاد، وأنزل في ذلك قوله سبحانه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (1) ففي هذه الآية أذن لهم في الجهاد لأنهم مظلومون، والمقصود أن الله جل وعلا أذن لهم بالقتال والجهاد، ثم فرض الله ذلك سبحانه وتعالى وأوجبه بقوله جل وعلا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (2) الآية، وأوجب عليهم سبحانه
__________
(1) سورة الحج الآية 39
(2) سورة البقرة الآية 216(18/122)
وتعالى الجهاد والقتال وأنزل فيه الآيات الكثيرات وحرض عليه سبحانه وتعالى وأمر به في كتابه العظيم وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فكان أولا مباحا مأذونا فيه ثم فريضة على الكفاية كما قاله أهل العلم.
وقد يجب على الأعيان إذا اقتضت الأسباب ذلك كما لو حضر الصف، أو حصر بلده أو استنفره الإمام، ففي هذه المسائل الثلاث يتعين القتال، إذا حضر الصفين ليس له أن ينصرف ولا أن يفر.
وكذلك إذا حاصر بلده العدو وجب عليه وعلى أهل البلد أن يقاتلوا ويدافعوا بكل ما يستطيعون من قوة، وكذلك إذا استنفره الإمام وجب النفير كما هو معروف في محله، فالمقصود أن الله فرض الجهاد وجعله فرضا على المسلمين وهو فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وصار في حقهم سنة مؤكدة.
وقد يجب على الأعيان للأسباب التي تقتضي ذلك كما سبق، فكان عليه الصلاة والسلام أولا يقاتل إذا رأى المصلحة في ذلك ويكف إذا رأى المصلحة في الترك، ثم أمره الله سبحانه بقتال من قاتله وبالكف عمن كف عنه، كما قال الله جل وعلا: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 190(18/123)
قال بعض السلف في هذه الآية: إنه أمر في هذه الآية بقتال من قاتله والكف عمن كف عنه، وقال آخرون في هذه الآية: إن هذه الآية ليس فيها ما يدل على هذا المعنى وإنما فيها أنه أمر بالقتال للذين يقاتلون، أي: من شأنهم أن يقاتلوا. . . ويصدوا عن سبيل الله وهم الرجال المكلفون القادرون على القتال بخلاف الذين ليس من شأنهم القتال كالنساء والصبيان والرهبان والعميان والزمناء وأشباههم فهؤلاء لا يقاتلون لأنهم ليسوا من أهل القتال.
وهذا التفسير كما سيأتي إن شاء الله تعالى أظهر وأوضح في معنى الآية، ولهذا قال بعدها بقليل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (1) فعلم بذلك أنه أراد قتال الكفار لا من قاتل فقط بل أراد قتال الكفار جميعا حتى يكون الدين كله لله وحتى لا تكون فتنة والفتنة الشرك، وأن يفتن الناس بعضهم بعضا عن دينهم فتطلق الفتنة على الشرك كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} (2) يعني الشرك، وتطلق على ما يقوم به بعض الكفار من قتل بعض الناس والتعدي عليهم وإلجائهم إلى أن يكفروا بالله عز وجل.
فالله أمر بقتالهم حتى لا تكون فتنة، يعني حتى لا يقع شرك في الأمة وحتى لا يقع ظلم من الكفار للمسلمين بصدهم وقتالهم
__________
(1) سورة البقرة الآية 193
(2) سورة البقرة الآية 191(18/124)
حتى يرجعوا عن الحق، وقال عز وجل في سورة النساء: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (1) {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (2) {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} (3) قالوا: فهذه الآيات فيها الدلالة على أن الله جل وعلا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يقاتلوا من قاتلهم وأن يكفوا عمن اعتزل القتال وكف عنهم، ثم أنزل الله بعد ذلك آية السيف في سورة براءة وهي قوله جل وعلا: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4)
قال العلماء - رحمة الله عليهم -: إن هذه الآية ناسخة لجميع الآيات التي فيها الصفح والكف عن المشركين والتي فيها
__________
(1) سورة النساء الآية 89
(2) سورة النساء الآية 90
(3) سورة النساء الآية 91
(4) سورة التوبة الآية 5(18/125)
الكف عن قتال من لم يقاتل. قالوا: فهذه آية السيف هي آية القتال آية الجهاد آية التشمير عن ساعد الجد وعن المال والنفس لقتال أعداء الله حتى يدخلوا في دين الله وحتى يتوبوا من شركهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام.
هذا هو المعروف في كلام أهل العلم من المفسرين وغير المفسرين، كلهم قالوا فيما علمنا واطلعنا عليه من كلامهم إن هذه الآية وما جاء في معناها ناسخة لما مضى قبلها من الآيات التي فيها الأمر بالعفو والصفح وقتال من قاتل والكف عمن كف، ومثلها قوله جل وعلا في سورة الأنفال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (1) ومثلها قوله جل وعلا في سورة براءة بعد ذلك: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (2) ومثلها قوله جل وعلا: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (3) فأمر الله سبحانه وتعالى بقتال أهل الكتاب ولم يأمر بالكف عنهم إلا إذا
__________
(1) سورة الأنفال الآية 39
(2) سورة التوبة الآية 36
(3) سورة التوبة الآية 29(18/126)
أدوا الجزية عن صغار ولم يقل: حتى يعطوا الجزية أو يكفوا عنا، بل قال: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، واكتفى بذلك وقال في الآية السابقة آية السيف: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (1) وقال في آية أخرى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (2)
فدل ذلك على أنه لا يكف عن الكفار إلا إذا تابوا من كفرهم ورجعوا إلى دين الله واستمسكوا بما شرع الله. فهؤلاء هم الذين يكف عنهم ويكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا، لكن أهل الكتاب إذا بذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون كففنا عنهم وإن لم يسلموا.
أما من سواهم فلا بد من الإسلام أو السيف ويلحق بأهل الكتاب المجوس لما رواه البخاري في صحيحه - رحمه الله - عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر (3) » ، فصار المجوس ملحقين بأهل الكتاب في أخذ الجزية فقط لا في حل طعامهم ونسائهم.
فهذه الطوائف الثلاث تؤخذ منهم الجزية، هذا محل وفاق بين أهل العلم فإما أن يسلموا وإما أن يؤدوا الجزية، وإما القتال، وفي آخر الزمان إذا نزل عيسى - عليه الصلاة والسلام - زال هذا الأمر، فأخذ الجزية مؤجل ومؤقت
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) سورة التوبة الآية 11
(3) صحيح البخاري الجزية (3157) ، سنن الترمذي السير (1586) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3043) ، مسند أحمد بن حنبل (1/194) ، سنن الدارمي السير (2501) .(18/127)
إلى نزول عيسى، فإذا نزل عيسى - عليه الصلاة والسلام - انتهى هذا الشرع ووجب بعد ذلك إما الإسلام وإما السيف.
هكذا يحكم عيسى عليه السلام بهذه الشريعة المحمدية، والأحاديث الواردة في ذلك تدل على أن أخذ الجزية مؤقت إلى نزوله عليه الصلاة والسلام، وقد أوضح عليه الصلاة والسلام أن أخذ الجزية مؤقت إلى نزول عيسى، فإذا نزل عيسى حكم فيهم بالسيف أو الإسلام وترك الجزية، وذلك بتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - وشرعه؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك وأقره فدل ذلك على أن هذا هو شرعه في آخر الزمان.(18/128)
واختلف أهل العلم فيما عدا هذه الطوائف الثلاث من العجم وعباد الأوثان، فقال بعض أهل العلم: تؤخذ الجزية من جميع المشركين عربهم وعجمهم ولا يستثنى أحد، وهذا هو المنقول عن مالك ونسبه إليه القرطبي - رحمه الله - في تفسيره والحافظ ابن كثير في تفسيره وهو: أن الجزية تؤخذ من الجميع من العرب والعجم. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: تؤخذ من العجم جميعا كاليهود والنصارى والمجوس ولا تؤخذ من العرب.
وقال أحمد - رضي الله عنه - والشافعي - رضي الله عنه - وجماعة من العلماء: إنما تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس فقط؛ لأن الأصل قتال الكفار وعدم رفع السيف عنهم حتى يسلموا ولم يأت رفع السيف بعد بذل الجزية إلا في هذه الطوائف الثلاث(18/128)
اليهود والنصارى والمجوس. جاء الكتاب في اليهود والنصارى، وجاءت السنة الصريحة في المجوس ومن سواهم لا يرفع عنهم السيف بل لا بد من الإسلام أو السيف فقط؛؛ لأن الله جل وعلا قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (1) ولم يقل: أو كفوا عنكم وقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} (2) فعمم بقتالهم جميعا. وتعليق الحكم بالوصف المشتق يدل على أنه هو العلة، فلما علق الحكم بالمشركين والكفار ولمن ترك الدين ولم يدن بالحق عرف أن هذا هو العلة وأنه هو المقتضي لقتالهم.
فالعلة الكفر بالله مع شرط كونه من أهل القتال لا من غيرهم، فإذا كانوا من أهل القتال قاتلناهم حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية إن كانوا من اليهود والنصارى والمجوس، أو حتى يسلموا فقط إذا كانوا من غير هؤلاء الطوائف الثلاث وإلا فالسيف.
لكن من ليس من أهل القتال؛ كالنساء والصبيان والعميان والمجانين والرهبان وأرباب الصوامع والزمناء ومن ليس من شأنهم القتال لكونهم لا يستطيعون كمن تقدم ذكرهم، وهكذا الشيوخ الفانون فهؤلاء لا يقاتلون عند جمهور العلماء؛ لأنهم ليسوا من أهل القتال فمن محاسن الإسلام
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) سورة التوبة الآية 5(18/129)
تركهم وعدم قتالهم، وفيه أيضا دعوة لهم ولأهاليهم وقومهم إلى الإسلام إذا عرفوا أن الإسلام يرحم هؤلاء ويعطف عليهم ولا يقتلهم. فهذا من أسباب دخولهم في الإسلام أو عدم تفانيهم في العداء له.
وبعض أهل العلم حكى الإجماع على عدم قتل النساء والصبيان، وقد ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام النهي عن قتل النساء والصبيان في الأحاديث الصحيحة، وقد جاء في أحاديث السنن النهي عن قتل الرهبان والشيوخ الفانين وأشباههم، وذكر بعض أهل العلم أن آية السيف وهي قوله جل وعلا: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (1) الآية، ليست ناسخة ولكن الأحوال تختلف، وهكذا قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (2) الآية، وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (3) وهكذا قوله سبحانه: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (4) وهكذا قوله سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (5)
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) سورة التوبة الآية 73
(3) سورة التوبة الآية 123
(4) سورة التوبة الآية 36
(5) سورة الأنفال الآية 39(18/130)
فهذه الآيات وما في معناها قال بعض أهل العلم ليست ناسخة لآيات الكف عمن كف عنا وقتال من قاتلنا وليست ناسخة لقوله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (1) ولكن الأحوال تختلف فإذا قوي المسلمون وصارت لهم السلطة والقوة والهيبة استعملوا آية السيف وما جاء في معناها وعملوا بها وقاتلوا جميع الكفار حتى يدخلوا في دين الله أو يؤدوا الجزية إما مطلقا كما هو قول مالك - رحمه الله - وجماعة، وإما من اليهود والنصارى والمجوس على القول الآخر.
وإذا ضعف المسلمون ولم يقووا على قتال الجميع فلا بأس أن يقاتلوا بحسب قدرتهم ويكفوا عمن كف عنهم إذا لم يستطيعوا ذلك فيكون الأمر إلى ولي الأمر إن شاء قاتل وإن شاء كف، وإن شاء قاتل قوما دون قوم على حسب القوة والقدرة والمصلحة للمسلمين لا على حسب هواه وشهوته، ولكن ينظر للمسلمين وينظر لحالهم وقوتهم، فإن ضعف المسلمون استعمل الآيات المكية، لما في الآيات المكية من الدعوة والبيان والإرشاد والكف عن القتال عند الضعف. وإذا قوي المسلمون قاتلوا حسب القدرة فيقاتلون من بدأهم بالقتال وقصدهم في بلادهم ويكفون عمن كف عنهم فينظرون في المصلحة التي
__________
(1) سورة البقرة الآية 256(18/131)
تقتضيها قواعد الإسلام وتقتضيها الرحمة للمسلمين والنظر في العواقب كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة وفي المدينة أول ما هاجر، وإذا صار عندهم من القوة والسلطان والقدرة والسلاح ما يستطيعون به قتال جميع الكفار أعلنوها حربا شعواء للجميع، وأعلنوا الجهاد للجميع كما أعلن الصحابة ذلك في زمن الصديق وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - وكما أعلن ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته بعد نزول آية السيف، وتوجه إلى تبوك لقتال الروم وأرسل قبل ذلك جيش مؤتة لقتال الروم عام 8 من الهجرة وجهز جيش أسامة في آخر حياته - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا القول ذكره أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - واختاره، وقال: إنه ليس هناك نسخ ولكنه اختلاف في الأحوال؛ لأن أمر المسلمين في أول الأمر ليس بالقوي وليس عندهم قدرة كاملة أذن لهم بالقتال فقط، ولما كان عندهم من القدرة بعد الهجرة ما يستطيعون به الدفاع أمروا بقتال من قاتلهم وبالكف عمن كف عنهم، فلما قوي الإسلام وقوي أهله وانتشر المسلمون ودخل الناس في دين الله أفواجا أمروا بقتال جميع الكفار ونبذ العهود وألا يكفوا إلا عن أهل الجزية من اليهود والنصارى والمجوس إذا بذلوها عن يدهم صاغرون. وهذا القول اختاره جمع من أهل العلم واختاره الحافظ ابن كثير - رحمه الله -(18/132)
عند قوله جل وعلا في كتابه العظيم: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1)
وهذا القول أظهر وأبين في الدليل؛ لأن القاعدة الأصولية أنه لا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع بين الأدلة، والجمع هنا غير متعذر، كما تقدم بيانه، والله ولي التوفيق.
أما ما يتعلق بالجزية فقول من قال إنها تؤخذ من الجميع أظهر إلا من العرب خاصة.
ووجه ذلك ما ثبت في الصحيح عن بريدة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله (2) » فعلق الحكم بالكفر، فدل ذلك على أنهم يقاتلون لكفرهم، إذا كانوا من أهل القتال، كما تدل عليه آيات أخرى.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا (3) » ثم قال بعد هذا: «وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث
__________
(1) سورة الأنفال الآية 61
(2) رواه مسلم في الجهاد والسير باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث برقم 1731.
(3) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731) ، سنن الترمذي السير (1617) ، سنن أبو داود الجهاد (2613) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2858) ، مسند أحمد بن حنبل (5/358) ، سنن الدارمي السير (2439) .(18/133)
خصال: أو خلال فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام (1) » ثم قال بعد ذلك: «فإن أبوا فاسألهم الجزية (2) » ثم قال بعد ذلك: «فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم (3) » فأمر صلى الله عليه وسلم أميره على الجيش والسرية أن يدعو الأعداء أولا للإسلام، فإن أجابوا كف عنهم، فإن أبوا دعاهم إلى الجزية، فإن أجابوا كف عنهم، وإلا فاستعان بالله وقاتلهم، ولم يفرق بين اليهود والنصارى وغيرهم، بل قال: «عدوك من المشركين (4) » .
وهذا يظهر منه العموم، ولكن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن عامة العلماء لم يروا أخذها من العرب. قالوا: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي تنزل عليه الآيات، وهو أعلم بمعناها لم يأخذها من العرب، بل قاتلهم حتى دخلوا في الإسلام. وهكذا الصحابة بعده لم يقبلوها من عربي، بل قاتلوا العرب في الجزيرة حتى دخلوا كلهم في دين الله. والله جل وعلا قال في حقهم وغيرهم: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (5) وقال في الآية الأخرى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (6) ولم يذكر الجزية في هذا المكان.
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731) ، سنن الترمذي السير (1617) ، سنن أبو داود الجهاد (2612) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2858) ، مسند أحمد بن حنبل (5/352) .
(2) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731) ، سنن الترمذي السير (1617) ، سنن أبو داود الجهاد (2612) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2858) ، مسند أحمد بن حنبل (5/352) ، سنن الدارمي السير (2439) .
(3) رواه مسلم في الجهاد والسير باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث برقم 1731.
(4) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731) ، سنن الترمذي السير (1617) ، سنن أبو داود الجهاد (2612) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2858) ، مسند أحمد بن حنبل (5/358) .
(5) سورة التوبة الآية 5
(6) سورة التوبة الآية 11(18/134)
فالقول بأنها لا تؤخذ من العرب هو الأقوى والأظهر والأقرب، وأما من سواهم فقول من قال: بعموم النص: أعني حديث بريدة: أظهر أخذا بالأدلة من القرآن والسنة جميعا؛ ولأن المقصود من الجهاد هو إخضاعهم للحق، ودعوتهم إليه، وأن يكفوا عنا أذاهم وظلمهم، فإذا فعلوا ذلك ودخلوا في دين الله، فالحمد لله، وإن أبوا طالبناهم بالجزية، فإن بذلوها والتزموا الصغار والشروط التي تملى عليهم قبلناها منهم وكففنا عنهم.
فإن أبوا أن يدخلوا في الإسلام، وأن يبذلوا الجزية قاتلناهم، لما في ذلك من المصلحة لهم وللمسلمين؛ ولأن ذلك هو الموافق لحديث بريدة رضي الله عنه مع الآيات في اليهود والنصارى، ومع حديث عبد الرحمن في المجوس.
أما العرب فإن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لم يأخذوها منهم، وهكذا من بعدهم الأئمة، ويتضح من سيرتهم وعملهم أنه لا يجوز أن يبقى العرب على الشرك بالله أبدا، بل إما أن يحملوا هذه الرسالة، ويبلغوها الناس، وإما أن يقضى عليهم، فلا يبقوا في الأرض.
أما بقاؤهم بالجزية فغير لائق. . ولهذا جرى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخلفاؤه، على عدم قبولها من العرب، وإنما قبلوها من الأعاجم كالمجوس وأشباههم، كما قبلوها من(18/135)
اليهود والنصارى.
أما قول من قال بأن القتال للدفاع فقط، فهذا القول ما علمته لأحد من العلماء القدامى، أن الجهاد شرع في الإسلام بعد آية السيف للدفاع فقط، وأن الكفار لا يبدءون بالقتال وإنما يشرع للدفاع فقط.
وقد كتب بعض إخواننا رسالة في الرد على هذا القول، وفي الرد على رسالة افتراها بعض الناس على شيخ الإسلام ابن تيمية، زعم فيها أنه يرى أن الجهاد للدفاع فقط. وهذا الكاتب هو فضيلة العلامة: الشيخ سليمان بن حمدان رسالة ذكر فيها أن هذا القول منقول عن بعض أهل الكوفة، وإنما اشتهر بين الكتاب مؤخرا. . وأما العلماء فلم يشتهر بينهم، وإنما المعروف بين العلماء أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما هاجر أذن له في القتال مطلقا، ثم فرض عليه الجهاد وأمر بأن يقاتل من قاتل، ويكف عمن كف، ثم بعد ذلك أنزل الله عليه الآيات الآمرة بالجهاد مطلقا، وعدم الكف عن أحد حتى يدخل في دين الله، أو يؤدي الجزية إن كان من أهلها كما تقدم.
وهذا هو المعروف في كلام أهل العلم، وقد تقدم ذكر قول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الجمع بين النصوص وأنه هو الأقرب ولا نسخ، وإنما تختلف الأحوال بقوة المسلمين وضعفهم: فإذا ضعف المسلمون جاهدوا بحسب(18/136)
حالهم، وإذا عجزوا عن ذلك اكتفوا بالدعوة، وإذا قووا بعض القوة قاتلوا من بدأهم ومن قرب منهم، وكفوا عمن كف عنهم، وإذا قووا وصار لهم السلطان والغلبة، قاتلوا الجميع وجاهدوا الجميع حتى يسلموا، أو يؤدوا الجزية، إلا من لا تؤخذ منهم كالعرب. عند جمع من أهل العلم.
وقد تعلق بعض الكتاب الذين قالوا: إن الجهاد للدفاع فقط، بآيات لا حجة لهم فيها، وقد سبق الجواب عنها، ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله.
ومعلوم أن الدفاع قد أوجبه الله على المسلمين ضد من اعتدى عليهم، كما قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (1) وكما في الآيات السابقة.
والإسلام جاء بدعوة الكفار أولا إلى الدخول فيه، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا وجب قتالهم مع القدرة كما تقدم في حديث بريدة، وإن رأى ولي الأمر المصالحة، وعدم القتال لأسباب تتعلق بمصلحة المسلمين، جاز ذلك لقوله سبحانه: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (2) الآية، ولفعله صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة يوم الحديبية.
__________
(1) سورة البقرة الآية 194
(2) سورة الأنفال الآية 61(18/137)
وبذلك يعلم أنه لا حاجة للقتال إذا نجحت الدعوة، وأجاب الكفار إلى الدخول في الإسلام.
فإن احتيج للقتال قوتل الكفار حينئذ بعد الدعوة والبيان والإرشاد فإن أبوا فالجزية إن كانوا من أهلها، فإن أبوا وجب القتال أو المصالحة حسبما يراه ولي الأمر للمسلمين، إذا لم يكن لدى المسلمين قدرة على القتال، كما تقدم. وقد تعلق القائلون بأن الجهاد للدفاع فقط بآيات ثلاث:
الأولى قوله جل وعلا: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} (1) والجواب عن ذلك كما تقدم أن هذه الآية ليس معناها القتال للدفاع، وإنما معناها القتال لمن كان شأنه القتال: كالرجل المكلف القوي، وترك من ليس شأنه القتال: كالمرأة والصبي ونحو ذلك، ولهذا قال بعدها: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (2)
فاتضح بطلان هذا القول، ثم لو صح ما قالوا، فقد نسخت بآية السيف وانتهى الأمر بحمد الله.
والآية الثانية التي احتج بها من قال بأن الجهاد للدفاع هي قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (3) وهذه لا حجة فيها
__________
(1) سورة البقرة الآية 190
(2) سورة البقرة الآية 193
(3) سورة البقرة الآية 256(18/138)
لأنها على الأصح مخصوصة بأهل الكتاب والمجوس وأشباههم، فإنهم لا يكرهون على الدخول في الإسلام إذا بذلوا الجزية، هذا هو أحد القولين في معناها.
والقول الثاني أنها منسوخة بآية السيف ولا حاجة للنسخ بل هي مخصوصة بأهل الكتاب، كما جاء في التفسير عن عدة من الصحابة والسلف، فهي مخصوصة بأهل الكتاب ونحوهم، فلا يكرهون إذا أدوا الجزية. وهكذا من ألحق بهم من المجوس وغيرهم إذا أدوا الجزية فلا إكراه، ولأن الراجح لدى أئمة الحديث والأصول أنه لا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع، وقد عرفت أن الجمع ممكن بما ذكرنا. فإن أبوا الإسلام والجزية قوتلوا كما دلت عليه الآيات الكريمات الأخرى.
والآية الثالثة التي تعلق بها من قال أن الجهاد للدفاع فقط قوله تعالى في سورة النساء: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (1) قالوا: من اعتزلنا وكف عنا لم نقاتله. وقد عرفت أن هذا كان في حال ضعف المسلمين أول ما هاجروا إلى المدينة ثم نسخت بآية السيف، وانتهى أمرها أو أنها محمولة على أن هذا كان في حالة ضعف المسلمين فإذا قووا أمروا بالقتال كما هو القول الآخر كما
__________
(1) سورة النساء الآية 90(18/139)
عرفت وهو عدم النسخ. وبهذا يعلم بطلان هذا القول وأنه لا أساس له ولا وجه له من الصحة، وقد ألف بعض الناس رسالة افتراها على شيخ الإسلام ابن تيمية وزعم أنه لا يرى القتال إلا لمن قاتل فقط. وهذه الرسالة لا شك أنها مفتراة وأنها كذب بلا ريب.
وقد انتدب لها الشيخ العلامة سليمان بن سحمان - رحمة الله عليه - ورد عليها منذ أكثر من خمسين سنة وقد أخبرني بذلك بعض مشايخنا، ورد عليه أيضا أخونا العلامة الشيخ سليمان بن حمدان - رحمه الله - القاضي سابقا في المدينة المنورة كما ذكرنا آنفا ورده موجود بحمد الله وهو رد حسن واف بالمقصود. فجزاه الله خيرا.
وممن كتب في هذا أيضا أخونا الشيخ صالح بن أحمد المصوعي - رحمه الله - فقد كتب فيها رسالة صغيرة، فند فيها هذه المزاعم وأبطل ما قاله هؤلاء الكتبة بأن الجهاد في الإسلام للدفاع فقط. وصنف أيضا أخونا العلامة أبو الأعلى المودودي - رحمه الله - رسالة في الجهاد وبين فيها بطلان هذا القول وأنه قول لا أساس له من الصحة.
ومن تأمل أدلة الكتاب والسنة ونظر في ذلك بعين البصيرة وتجرد عن الهوى والتقليد عرف قطعا بطلان هذا القول وأنه لا أساس له ومما جاء في السنة في هذا الباب مؤيدا للكتاب العزيز ما رواه الشيخان عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل(18/140)
الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله (1) » . . . وما رواه الشيخان أيضا من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وصلوا صلاتنا وأكلوا ذبيحتنا واستقبلوا قبلتنا فلهم ما لنا وعليهم ما علينا (2) » .
ومن ذلك ما رواه مسلم في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله (3) » . . . ومن هذا ما رواه مسلم في الصحيح أيضا عن طارق بن أشيم الأشجعي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قال لا
__________
(1) رواه البخاري في الإيمان باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة برقم 25، ومسلم في الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله برقم22
(2) رواه البخاري في الصلاة باب فضل استقبال القبلة برقم393
(3) رواه مسلم في الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله برقم 20، 21(18/141)
إله إلا الله (1) وفي لفظ «من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله (2) » . .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وكلها تدل على أن القتال شرع لإزالة الكفر والضلال ودعوة الكفار للدخول في دين الله - لا لأنهم اعتدوا علينا فقط ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها (3) » ولم يقل فإذا كفوا عنا أو اعتزلونا، بل قال: «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك (4) » الحديث.
فدل ذلك على أن المطلوب دخولهم في الإسلام وإلا فالسيف، إلا أهل الجزية كما تقدم، وإنما اقتصر عليه الصلاة والسلام على الشهادتين والصلاة والزكاة لأنها الأسس العظيمة والأركان الكبرى فمن أخذ بها ودان بها وتمسك بها فإنه يؤدي ما وراءها عن إيمان وعن اطمئنان وإذعان من باب أولى.
__________
(1) رواه مسلم في الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله برقم 23
(2) رواه مسلم في الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله برقم 23
(3) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .
(4) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .(18/142)
وهذا ما أردت التنبيه عليه باختصار وإيجاز، وأرجو أن يكون وافيا بالمطلوب من بيان الحق وإزهاق الباطل، وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعا للفقه في دينه والاستقامة عليه وأن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يعلمنا ما ينفعنا ويهدينا لما فيه السعادة والنجاة، وأن يوفق المسلمين جميعا للاستقامة على دينه والجهاد في سبيله، والحذر من مكائد الأعداء إنه على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.(18/143)
نداء من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
للمسلمين كافة من العرب وغيرهم في كل مكان لجهاد اليهود
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فأيها المسلمون في كل قطر. أيها العرب في كل مكان. أيها القادة والزعماء، إن المعركة الحالية بين العرب واليهود ليست معركة العرب فحسب بل هي معركة إسلامية عربية، معركة بين الكفر والإيمان، بين الحق والباطل، بين المسلمين واليهود، وعدوان اليهود على المسلمين في بلادهم وعقر دورهم أمر معلوم مشهور من نحو تسعة عشر عاما، والواجب على المسلمين في كل مكان مناصرة إخوانهم المعتدى عليهم، والقيام في صفهم ومساعدتهم على استرجاع حقهم ممن(18/144)
ظلمهم وتعدى عليهم بكل ما يستطيعون من نفس وجاه وعتاد ومال كل بحسب وسعه وطاقته، كما قال عز وجل: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (1) وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2)
ومواقف اليهود ضد الإسلام وضد بني الإسلام معلومة مشهورة قد سجلها التاريخ وتناقلها رواة الأخبار، بل قد شهد بها أعظم كتاب وأصدق كتاب ألا وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. قال الله عز وجل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (3)
فنص الله عز وجل في هذه الآية الكريمة على أن اليهود والمشركين هم أشد الناس عداوة للمؤمنين.
وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (4) {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} (5)
__________
(1) سورة الأنفال الآية 72
(2) سورة التوبة الآية 29
(3) سورة المائدة الآية 82
(4) سورة البقرة الآية 89
(5) سورة البقرة الآية 90(18/145)
قال أهل التفسير في تفسير هاتين الآيتين الكريمتين: كانت اليهود تستفتح على كفار العرب تقول لهم إنه قد أظل زمان نبي يبعث في آخر الزمان نقاتلكم معه. فلما بعث الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أنكروه وكفروا به وجحدوا صفته وبذلوا جهودهم في محاربته والتأليب عليه والقضاء على دعوته حسدا منهم وبغيا وجحدا للحق الذي يعرفونه، فأبطل الله كيدهم وأضل سعيهم.
ثم إنهم لم يزالوا يسعون جاهدين في الكيد للإسلام والعداء لأهله ومساعدة كل عدو عليهم سرا وجهرا. أليسوا القائلين لكفار أهل مكة: أنتم خير وأهدى سبيلا من محمد وأصحابه، أليسوا هم الذين ألبوا كفار قريش ومن سار في ركابهم على قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين يوم أحد، أليسو هم الذين هموا بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأطلعه الله على ذلك وأنجاه من كيدهم، أليسو هم الذين ظاهروا الكفار يوم الأحزاب ونقضوا العهد في نفس المدينة بين المسلمين، حتى أحبط الله كيدهم وأذل جندهم من الكفار وسلط الله عليهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين فقتل مقاتلتهم وسبى ذريتهم ونساءهم وأموالهم؛ لغدرهم ونقضهم العهد ومشايعتهم(18/146)
لأهل الكفر والضلال على حزب الحق والهدى.
فيا معشر المسلمين من العرب وغيرهم في كل مكان، بادروا إلى قتال أعداء الله من اليهود، وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، بادروا إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين والمجاهدين الصابرين وأخلصوا النية لله واصبروا وصابروا واتقوا الله عز وجل تفوزوا بالنصر المؤزر أو شرف الشهادة في سبيل الحق ودحر الباطل، وتذكروا دائما ما أنزله ربكم سبحانه في كتابه المبين في فضل المجاهدين، وما وعدهم الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (4)
وقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) وقال تعالى:
__________
(1) سورة الصف الآية 10
(2) سورة الصف الآية 11
(3) سورة الصف الآية 12
(4) سورة الصف الآية 13
(5) سورة التوبة الآية 41(18/147)
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1) {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (2) {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} (3) {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (4) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (5)
أيها المجاهدون لقد بين الله سبحانه في هذه الآيات فضل الجهاد وعاقبته الحميدة للمؤمنين وأنها النصر والفتح القريب في الدنيا مع الجنة والرضوان من الله سبحانه والمنازل العالية في الآخرة، ودلت الآية الثانية وهي قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} (6) على وجوب النفير للجهاد على الشبان والشيوخ إذا دعى الواجب لذلك؛ لإعلاء كلمة الله وحماية أوطان المسلمين وصد العدوان عنهم، مع ما يحصل بالجهاد للمسلمين من العزة والكرامة والخير العظيم والأجور الجزيلة وإعلاء كلمة الحق وحفظ كيان الأمة والحفاظ على دينها وأمنها.
وأخبر سبحانه في الآية الثالثة والرابعة أن الجهاد في سبيله أفضل من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام بالصلاة
__________
(1) سورة التوبة الآية 19
(2) سورة التوبة الآية 20
(3) سورة التوبة الآية 21
(4) سورة التوبة الآية 22
(5) سورة التوبة الآية 123
(6) سورة التوبة الآية 41(18/147)
والطواف ونحو ذلك، وأن أهله أعظم درجة عند الله وأنهم الفائزون، كما أخبر سبحانه أنه يبشرهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم. وأخبر في الآية الخامسة أنه مع المتقين، والمعنى: بنصره وتأييده وحفظه وكلاءته لهم.
وقد ورد في القرآن الكريم من الآيات الكريمات في فضل الجهاد والحث عليه والوعد بالنصر للمؤمنين والدمار على الكافرين، سوى ما تقدم ما يملأ قلب المؤمن نشاطا وقوة ورغبة صادقة في النزول إلى ساحة الجهاد والاستبسال في نصرة الحق ثقة بوعد الله وإيمانا بنصره ورجاء للفوز بإحدى الحسنيين، وهما: النصر والمغنم، أو الشهادة في سبيل الحق، كما قال الله عز وجل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} (1) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (2) وقال عز وجل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (3) وقال سبحانه وتعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (4) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} (5)
__________
(1) سورة التوبة الآية 52
(2) سورة محمد الآية 7
(3) سورة الروم الآية 47
(4) سورة الحج الآية 40
(5) سورة الحج الآية 41(18/149)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (1) إلى أن قال سبحانه: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (2)
ففي هذه الآيات التصريح من الله عز وجل بوعد عباده النصر على أعدائهم والسلامة من كيدهم مهما كانت قوتهم وكثرتهم؛ لأنه عز وجل أقوى من كل قوي وأعلم بعواقب الأمور وهو عليهم قدير وبكل أعمالهم محيط، ولكنه عز وجل شرط لهذا الوعد شرطا عظيما وهو الإيمان به وتقواه ونصر دينه والاستقامة عليه مع الصبر والمصابرة، فمن قام بهذا الشرط أوفى لهم الوعد وهو الصادق في وعده: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} (3) ومن قصر في ذلك أو لم يرفع به رأسا فلا يلومن إلا نفسه.
وينبغي لك أيها المؤمن المجاهد أن تتدبر كثيرا قوله عز
__________
(1) سورة آل عمران الآية 118
(2) سورة آل عمران الآية 120
(3) سورة الزمر الآية 20(18/150)
وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (1) إنها والله كلمة عظيمة ووعد صادق من ملك قادر جليل، إذا صبرت على مقاتلة عدوك وجهاده ومنازلته مع قيامك بتقوى الله عز وجل وهي: تعظيمه سبحانه والإخلاص له وطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والحذر مما نهى الله عنه ورسوله، هذه حقيقة التقوى والصبر على جهاد النفس؛ لأن الله سبحانه قد أمر بذلك ورسوله.
ونص سبحانه على الصبر وإفراده بالذكر لعظم شأنه وشدة الحاجة إليه، وقد ذكره الله في كتابه الكريم في مواضع كثيرة جدا، منها: قوله جل وعلا: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2) وقوله سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (3) وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4)
وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء هو خيرا وأوسع من الصبر (5) » . فاتقوا الله
__________
(1) سورة آل عمران الآية 120
(2) سورة الأنفال الآية 46
(3) سورة الزمر الآية 10
(4) سورة آل عمران الآية 200
(5) رواه البخاري في الزكاة باب الاستعفاف عن المسألة برقم 1469، ومسلم في الزكاة باب فضل التعفف والصبر برقم 1053(18/151)
معاشر المسلمين والمجاهدين في ميادين الحرب وفي كل مكان، واصبروا وصابروا في جهاد النفس على طاعه الله وكفها عن محارم الله، وفي جهادها على قتال الأعداء ومنازلة الأقران وتحمل المشاق في تلك الميادين المهولة تحت أزيز الطائرات وأصوات المدافع، وتذكروا أسلافكم الصالحين من الأنبياء والمرسلين وصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين ومن تبعهم من المجاهدين الصادقين. فلكم فيهم أسوة وفيهم لكم عظة وعبرة، فقد صبروا كثيرا وجاهدوا طويلا ففتح الله بهم البلاد وهدى بهم العباد، ومكن لهم في الأرض، ومنحهم السيادة والقيادة بإيمانهم العظيم وإخلاصهم لمولاهم الجليل وصبرهم في مواطن اللقاء، وإيثارهم الله والدار الآخرة على الدنيا وزهرتها ومتاعها الزائل، كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) وقال جل شأنه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (2)
وصح عن
__________
(1) سورة التوبة الآية 111
(2) سورة السجدة الآية 24(18/152)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها (1) » وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل «أي العمل أفضل؟ قال إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم أي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله (2) » ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المجاهد في سبيل الله- والله أعلم بمن يجاهد في سبيله - كمثل الصائم القائم وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة (3) » .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق (4) » .
وسأله - صلى الله عليه وسلم - رجل عن
__________
(1) رواه البخاري في الجهاد والسير باب فضل رباط يوم في سبيل الله برقم 2892.
(2) رواه البخاري في الاستئذان باب من رد فقال: عليك السلام برقم 6251، ومسلم في الصلاة باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة برقم 397.
(3) رواه البخاري في الجهاد والسير باب أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله برقم 2787، ومسلم في الإمارة باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله برقم 1876.
(4) رواه مسلم في الإمارة باب ذم من مات ولم يغز. برقم 1910.(18/153)
عمل يعدل فضل الجهاد فقال - صلى الله عليه وسلم -: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم فلا تفطر وتقوم فلا تفتر، فقال السائل: ومن يستطيع ذلك يا رسول الله؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أما إنك لو طوقت ذلك لم تبلغ فضل المجاهدين (1) » الحديث.
والأحاديث في فضل الجهاد والحث عليه وبيان ما وعد الله به أهله من العزة في الدنيا والنصر والعواقب الحميدة، وما أعد لهم في الآخرة من المنازل العالية في دار الكرامة كثيرة جدا.
فاتقوا الله يا معشر المسلمين جميعا ويا معشر العرب خصوصا جماعات وفرادى، واصدقوا في جهاد عدو الله وعدوكم من اليهود وأنصارهم وأعوانهم، وحاسبوا أنفسكم وتوبوا إلى ربكم من كل ما يخالف دين الإسلام من مبادئ وعقائد وأعمال، واصدقوا في مواطن اللقاء وآثروا الله والدار الآخرة، واعلموا أن النصر المبين والعاقبة الحميدة ليست للعرب دون العجم ولا للعجم دون العرب ولا لأبيض دون أسود ولا لأسود دون أبيض، ولكن النصر بإذن الله لمن اتقاه واتبع هداه وجاهد نفسه لله وأعد لعدوه ما استطاع من القوة كما أمره بذلك مولاه، حيث قال عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (2)
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (3)
__________
(1) رواه بنحوه البخاري في الجهاد والسير باب فضل الجهاد والسير برقم 2785.
(2) سورة الأنفال الآية 60
(3) سورة النساء الآية 71(18/154)
وقال عز وجل يخاطب رسوله الأمين - عليه أفضل الصلاة والسلام -: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (1)
فتأمل يا أخي أمر الله لعباده أن يعدوا لعدوهم ما استطاعوا من القوة، ثم تأمل أمره لنبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين عند مقاتلة الأعداء والقرب منهم أن يقيموا الصلاة ويحملوا السلاح وكيف كرر الأمر سبحانه في أخذ السلاح والحذر لئلا يهجم عليهم العدو في حال الصلاة، لتعرف بذلك أنه يجب على المجاهدين قادة وجنودا أن يهتموا بالعدو، وأن يحذروا غافلته، وأن يعدوا له ما استطاعوا من قوة، وأن يقيموا الصلاة ويحافظوا عليها مع الاستعداد للعدو والحذر من كيده، وفي ذلك جمع بين الأسباب الحسية والمعنوية، وهذا هو الواجب على المجاهدين في كل زمان ومكان أن يتصفوا
__________
(1) سورة النساء الآية 102(18/155)
بالأخلاق الإيمانية، وأن يستقيموا على طاعة ربهم ويعدوا له ما استطاعوا من قوة ويحذروا مكائده، مع الصبر على الحق عليه والثبات عليه وهذا هو السبب الأول والأساس المتين والأصل العظيم، وهو قطب رحى النصر وأساس النجاة والفلاح، وهذا هو السبب المعنوي الذي خص الله به عباده المؤمنين وميزهم به عن غيرهم، ووعدهم عليه النصر إذا قاموا به مع السبب الثاني حسب الطاقة وهو إعدادهم لعدوهم ما استطاعوا من القوة، والعناية بشئون الحرب والقتال، والصبر والمصابرة في مواطن اللقاء مع الحذر من مكائد الأعداء. وبهذين الأمرين يستحقون النصر من ربهم عز وجل فضلا منه وكرما ورحمة وإحسانا ووفاء بوعده وتأييدا لحزبه، كما قال عز وجل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (2)
وقال تعالى: {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) وقال عز وجل: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (4)
ومما تقدم أيها الأخ المسلم أيها الأخ المجاهد تعلم أن
__________
(1) سورة الروم الآية 47
(2) سورة آل عمران الآية 120
(3) سورة المجادلة الآية 22
(4) سورة الصافات الآية 173(18/156)
ما يتكرر كثيرا في بعض الإذاعات العربية من قولهم: (النصر لنا) (الله معنا) (النصر للعرب) (النصر للعرب والإسلام) وما أشبه ذلك، أن هذه كلها ألفاظ خاطئة ومخالفة للصواب، فليس النصر مضمونا للعرب ولا لغيرهم من سائر أجناس البشر، وإنما النصر معلق بأسبابه التي أوضحها الله في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم -، وأسبابه كما تقدم هي: تقوى الله، والإيمان به، والصبر والمصابرة لأعدائه، والإخلاص لله، والاستعانة به، مع الأخذ بالأسباب الحسية وإعداد ما يستطاع من العدة، فينبغي التنبيه لهذا الأمر العظيم والحذر من الألفاظ التقليدية المخالفة للشرع المطهر.
أما المعية فهي قسمان: معية عامة، ومعية خاصة.
فأما المعية العامة: فهي لجميع البشر وليست خاصة بأهل الإيمان، كما قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2)
__________
(1) سورة الحديد الآية 4
(2) سورة المجادلة الآية 7(18/157)
فهاتان الآيتان صريحتان في أن الله سبحانه عالم بأحوال العباد مطلع على شئونهم محيط بهم ولا يخفى عليه من أمرهم خافية، ولهذا بدأ سبحانه هاتين الآيتين بالعلم وختمهما بالعلم، تنبيها للعباد على أن المراد بالمعية هو العلم والإحاطة والاطلاع على كل شيء من أمر العباد ليخافوه ويعظموه ويبتعدوا عن أسباب غضبه وعذابه، وليس معنى ذلك أنه مختلط بالخلق أو أنه في كل مكان، كما يقول ذلك بعض المبتدعين الضالين تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقولهم هذا باطل بالنص والإجماع، بل هو سبحانه وتعالى فوق العرش قد استوى عليه استواء يليق بجلاله لا يشابه فيه خلقه، كما صرح بذلك في كتابه الكريم في سبع آيات من القرآن الكريم، منها قوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وهو سبحانه لا شبيه له ولا مثل له في جميع صفاته، كما قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) وقال سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (3) فهو عز وجل فوق العرش عال فوق خلقه كما أخبر بذلك عن نفسه، وعلمه في كل مكان لا يخفى عليه خافية، كما قال سبحانه:
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) سورة الإخلاص الآية 4(18/158)
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} (1) {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2) وقال سبحانه: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (3)
فهذه الآيات المحكمات وما جاء في معناها كلها ترشد العباد إلى أن ربهم سبحانه فوق العرش وأعمالهم ترفع إليه وهو معهم بعلمه أينما كانوا لا يخفى عليه منهم خافية.
أما المعية الخاصة: فهي للأنبياء والمرسلين عليهم - الصلاة والسلام - وأتباعهم بإحسان وهم أهل التقوى والإيمان والصبر والمصابرة، وهذه المعية الخاصة تقتضي الحفظ والكلاءة والنصر والتأييد، كما قال عز وجل عن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لصاحبه في الغار وهو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (4) ولما أرسل الله موسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - إلى فرعون اللعين قال لهما مثبتا ومطمئنا: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (5)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 5
(2) سورة آل عمران الآية 6
(3) سورة يونس الآية 61
(4) سورة التوبة الآية 40
(5) سورة طه الآية 46(18/159)
وقال عز وجل في كتابه المبين يخاطب المشركين: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} (1) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (2) وقال عز وجل: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (3) وقال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (4) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فينبغي أن يكون شعار المسلمين في إذاعاتهم وصحفهم وعند لقائهم لأعدائهم في جميع الأحوال هو الشعار القرآني الإسلامي الذي أرشد الله إليه عباده، وذلك بأن يقولوا: الله مع المتقين، الله مع المؤمنين، الله مع الصابرين، وما أشبه هذه العبارات حتى يكونوا قد تأدبوا بآداب الله وعلقوا النصر بأسبابه التي علقه الله بها، لا بالعروبة ولا بالوطنية ولا بالقومية ولا بأشباه ذلك من الألفاظ والشعارات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
أيها المجاهد إنك في معركة عظيمة مع عدو لدود عظيم
__________
(1) سورة الأنفال الآية 19
(2) سورة التوبة الآية 123
(3) سورة الأنفال الآية 46
(4) سورة البقرة الآية 249(18/160)
الحقد على الإسلام وأهله، فوطن نفسك على الجهاد والصبر والمصابرة، وأخلص عملك لله واستعن به وحده، وأبشر إذا صدقت في ذلك بإحدى الحسنين إما النصر والغنيمة والعاقبة الحميدة في الدنيا، وإما الشهادة والنعيم المقيم والقصور العالية والأنهار الجارية والحور الحسان في دار الكرامة.
أيها العربي لا تظن أن النصر على عدوك معلق بعروبتك، وإنما ذلك بإيمانك بالله، وصبرك في مواطن اللقاء، واستقامتك على الحق، وتوبتك من سالف ذنوبك، وإخلاصك لله في كل أعمالك، فاستقم على ذلك وتمسك بالإسلام الصحيح الذي حقيقته الإخلاص لله والاستقامة على شرعه والسير على هدي رسوله ونبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في الحرب والسلم وفي جميع الأحوال.
أيها المسلم أيها المجاهد تذكر ما أصاب المسلمين يوم أحد بسبب إخلال بعض الرماة بطاعة القائد العظيم محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفشل والتنازع، ثم الهزيمة، ولما استنكر المسلمون ذلك أنزل الله في ذلك قوله عز وجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) وقال عز وجل:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 165(18/161)
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (1)
وقال سبحانه في هذا المعنى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (2) ولما أعجب المسلمون بكثرتهم يوم حنين هزموا ثم أنزل الله عليهم السكينة وأيدهم بجنود من عنده فتراجعوا وصدقوا الحملة على عدوهم واستغاثوا بربهم واستنصروا به، فنصرهم وأيدهم وهزم عدوهم، كما قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (3) {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} (4)
فكل ما أصاب المسلمين في الجهاد أو غيره من هزيمة أو جراح أو غير ذلك مما يكرهون، فهو بأسباب تقصيرهم وتفريطهم فيما يجب من إعداد القوة والعناية بأمر الحرب، أو
__________
(1) سورة آل عمران الآية 152
(2) سورة الشورى الآية 30
(3) سورة التوبة الآية 25
(4) سورة التوبة الآية 26(18/162)
بأسباب معاصيهم ومخالفتهم لأمر الله.
فاستعينوا بالله أيها المجاهدون واستقيموا على أمره وأعدوا لعدوكم ما استطعتم من قوة، واصدقوا الله يصدقكم وانصروه ينصركم ويثبت أقدامكم، واحذروا الكبر والرياء وسائر المعاصي، واحذروا أيضا التنازع والاختلاف وعصيان قادتكم في تدبير شئون الحرب وغير ذلك ما لم يكن معصية لله عز وجل عملا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2) {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (3)
أيها المسلمون أيها المجاهدون إليكم نماذج من كلمات أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم - حين مقابلتهم لجيش الروم يوم اليرموك لما فيها من العبرة والذكرى:
كلام خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لما جمع خالد - رضي الله عنه - الجيوش يوم اليرموك لقتال الروم قام فيهم خطيبا فقال: (إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر
__________
(1) سورة الأنفال الآية 45
(2) سورة الأنفال الآية 46
(3) سورة الأنفال الآية 47(18/163)
ولا البغي، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، وإن هذا يوم له ما بعده) .
وقام أبو عبيدة - رضي الله عنه - في الناس خطيبا فقال: عباد الله انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، يا معشر المسلمين اصبروا، فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة للرب ومدحضة للعار، ولا تبرحوا مصافكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدأوهم بالقتال، وأشرعوا الرماح، واستتروا بالدرق، والزموا الصمت إلا من ذكر الله في أنفسكم حتى آمركم أن شاء الله تعالى.
وقام معاذ بن جبل - رضي الله عنه - في الناس خطيبا ذلك اليوم فجعل يذكرهم ويقول: (يا أهل القرآن ومتحفظي الكتاب وأنصار الهدى والحق، إن رحمة الله لا تنال، وجنته لا تدخل بالأماني، ولا يؤتي الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادق المصدق، ألم تسمعوا بقول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (1) فاستحوا رحمكم الله من ربكم أن يراكم فرارا من عدوكم وأنتم في قبضته وليس لكم ملتحد من دونه ولا عز بغيره) .
وقام عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في الناس فقال:
__________
(1) سورة النور الآية 55(18/164)
(يا أيها المسلمون غضوا الأبصار، واجثو على الركب، وأشرعوا الرماح، فإذا وثبوا عليكم فأمهلوهم، حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا إليهم وثبة الأسد. فوالذي يرضى الصدق ويثيب عليه، ويمقت الكذب ويجزي بالإحسان إحسانا لقد سمعت أن المسلمين سيفتحونها كفرا كفرا وقصرا قصرا، فلا يهولنكم جمعهم ولا عددهم فإنكم لو صدقتموهم الشد تطايروا تطاير أولاد الحجل) .
وقام أبو سفيان بن حرب - رضي الله عنه - في الناس فتكلم كلاما حسنا من ذلك قوله: (والله لا ينجيكم من هؤلاء القوم ولا تبلغن رضوان الله غدا إلا بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة) .
هذه نماذج حية عظيمة نقلتها لكم أيها المجاهدون من كلام أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتعلموا أن النصر في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة لا يدركان بالأماني ولا بالتفريط وإضاعة الواجب، وإنما يدركان بتوفيق الله بالصدق في اللقاء ومصابرة الأعداء والاستقامة على دين الله وإيثار حقه على ما سواه.
والله المسئول أن ينصر المسلمين على عدوهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يوفق قادتهم للاستقامة على أمره، والصدق في جهاد أعدائه، والتوبة إليه من كل ما يغضبه، كما نسأله عز وجل أن يهزم اليهود وأنصارهم وأعوانهم، وأن يكبت أعداء الإسلام أينما كانوا، وأن ينزل بهم(18/165)
بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه، إمام الفاتحين وسيد المرسلين وخير عباد الله أجمعين، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسيرته إلى يوم الدين.(18/166)
عمل صدام عدوان أثيم
فلا شك أن عمل الزعيم العراقي من اجتياحه الدولة الكويتية وما ترتب على ذلك من سفك الدماء ونهب الأموال وانتهاك الأعراض، لا شك أن هذا عدوان أثيم وجريمة عظيمة ومنكر شنيع يجب عليه التوبة إلى الله من ذلك والبدار بإخراح جيشه من الدولة الكويتية؛ لأن هذا الإقدام والاجتياح أمر منكر بل مخالف للشرع ولجميع القوانين العرفية، ولما تم عليه التعاهد بينه وبين قادة العرب في جامعتهم العربية.
والواجب عليه حل المشاكل بالطرق السلمية والمفاوضات، وإذا لم تنجح المفاوضات والطرق السلمية وجب رد الأمر إلى محكمة شرعية - لا قانونية- ويجب أن ترد جميع المنازعات بين الدول والأفراد والقبائل إلى الحكم الشرعي، بأن تشكل محكمة شرعية من علماء أهل الحق والسنة حتى يحكموا بما تنازع عليه المسلمون من دولتين أو قبيلتين أو أفراد.(18/167)
وإن هذا العمل الذي قام به صدام ضد الكويت هو عمل إجرامي يجب التوبة منه وعدم التمادي، والرجوع إلى الحق فضيلة وحق، خير من التمادي في الرذيلة والخطأ.
وقد صدر بيان من مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية يبين خطأ هذا العمل، وأنه عدوان وجريمة وخيانة. ووضح في بيان العلماء- والذي أنا أحد أعضائه- أنه لا مانع من الاستعانة ببعض الكفار للجيوش الإسلامية والعربية، ولا بأس من الاستعانة لصد عدوان المعتدي والدفاع عن البلاد وعن حرمة الإسلام والمسلمين.
أما الإشاعات حول الحرمين الشريفين فإنهما بحمد الله بمنأى عن الزعيم العراقي وغيره، وهما آمنان بحمد الله.
وكل ما في الأمر أن الدولة السعودية احتاجت إلى الاستعانة ببعض الجيوش من جنسيات متعددة، ومن جملتهم الولايات المتحدة، وإنما ذلك للدفاع المشترك مع القوات السعودية عن البلاد والإسلام وأهله، ولا حرج في ذلك؛ لأنه استعانة لدفع الظلم وحفظ البلاد وحمايتها من شر الأشرار وظلم الظالمين وعدوان المعتدين، فلا حرج كما قرره أهل العلم وبينوه.
وأما ما أشاعته بعض الأقليات الإسلامية التي صدقت أقوال صدام وأكاذيبه حول تدخل الإمبريالية في شئون المسلمين ومقدساتهم وغيرها من الإشاعات الباطلة، فإن هذا(18/168)
خطأ كبير، والذي أشاعه هو حزب صدام وهو حزب قومي وليس حزبا إسلاميا، وحتى لو كانوا مسلمين إذا تعدوا وجب ردعهم ولو بالاستعانة ببعض الكفرة، وعلى طريقة سلمية كما هي، يدفع بها الشر وتحمى بها البلاد، والرسول - صلى الله عليه وسلم - استعان بصفوان بن أمية يوم حنين لحرب أهل الطائف. وبذلك فإن الاستعانة بالكفار على من تعدى وظلم يجوز على الكفار أو على أي متعد وظالم.
والذي لا يجوز هو أن ينصر كفار على مسلمين، أما هذا الوضع فهو يحمي المسلمين وأراضيهم من المجرمين والمعتدين والكافرين، وفرق بين الاثنين، بين إنسان ينصر الكفار على المسلمين ويعينهم على المسلمين وهذه هي الردة، لا تجوز، وهذا منكر. أما كما هو الحال بالمملكة من الاستعانة بالكفار لردع المعتدي وصده، سواء كان كافرا أو مسلما عن بلاد الإسلام والمقدسات فهذا أمر مطلوب ولازم؛ لأنه لحماية المسلمين ورد الأذى عنهم، سواء كان كافرا أو مسلما.
والواجب على الزعيم العراقي أن يتوب إلى الله ويرجع عما هو عليه من الباطل، ويترك حزب الشيطان، وعليه أن يلتزم بالإسلام، وأن يسود الرعية ويحكم فيهم بالإسلام وندعو له بالهداية.
وأكد سماحته في إجابته على سؤال للجزيرة حول إمكانية(18/169)
إيجاد محكمة دولية شرعية لحل المنازعات بين الدول، فقال: يجب على جميع الدول الإسلامية والعربية حل منازعاتهم بالطرق الشرعية بمحكمات شرعية في كل بلد محكمة أخرى تكون دولية تحكم بين الدول. وفي البلدان الإسلامية يجب أن يكون هناك محكمة شرعية؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) ويقول جل وعلا: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (2) ويقول سبحانه وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) فإذا تنازعت دولتان أو أكثر وجب أن يحكم بينهما علماء الإسلام بحكم الشريعة فيما تنازعوا به على ضوء الكتاب والسنة، لا بقوانين في البلدان أو بآراء الرجال بل بشرع الله.
ووجه سماحته النصح للجيش العراقي وعدم التمادي في الأعمال المنكرة. والواجب على الجنود العراقيين وعلى كل مسلم أن يحترم مال المسلم ودمه وعرضه وأهله، ولا يجوز التعدي على أي مسلم لا في الكويت ولا في غيره، لا في ماله ولا في عرضه، ولا في دمه. قال عليه الصلاة والسلام:
__________
(1) سورة الشورى الآية 10
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة النساء الآية 65(18/170)
«كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (1) » (2) .
وهذا العدوان من العراق لا يبرر للجنود وأفراد الجيش أن يتعدوا على الكويتيين أو غيرهم، ويأخذوا أموالهم، أو يضربوا أجسادهم، أو يقتلوهم أو يقتلوا صبيانهم، أو يتعدوا على نسائهم، كل ذلك منكر وحرام لا يجوز، والواجب أن يتقوا الله وأن يحذروا ما حرم الله وأن لا يقدموا على أمر يغضب الله عليهم ويسبب دخولهم النار والبعد عن رحمته ورضوانه.
وأوصى سماحته الأشقاء الكويتيين في تصريحه لـ (الجزيرة) بالاستعانة بالصبر وتقوى الله فقال:
أوصي شعب الكويت المظلوم بتقوى الله، وأن يستقيموا على دينه، وأن يتوبوا إليه عن سالف ذنوبهم، وأن يسألوا الله النصر على العدو، وأن يعيدهم إلى بلادهم سالمين. وسوف يعوضهم الله خيرا مما أخذ منهم بالتوبة النصوح، يعطيهم الله ما فاتهم ويعوضهم خيرا منه سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (4)
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، مسند أحمد بن حنبل (2/277) .
(2) رواه مسلم في البر والصلة والآداب باب تحريم ظلم المسلم وخذله برقم 2564
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة التحريم الآية 8(18/171)
ونسأل الله أن يمن علينا وعليهم بالتوبة، وكل منا على خطر، وكل مسلم في أي مكان في السعودية أو الكويت أو الشام أو اليمن، وفي كل مكان، عليه محاسبة النفس ومجاهدتها في الله، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
لذلك فإن على جميع إخواننا بالكويت وعلى جميع المسلمين بالمملكة العربية السعودية وكل مكان عليهم تقوى الله، وأن يجاهدوا أنفسهم في طاعة الله وأن يصبروا على ما أصابهم من مصائب، كما أن عليهم الاستقامة على الحق والتواصي به، والتناصح في الله، أصلح الله لهم ما كان فاسدا، ورد عليهم ما كان شاردا، وعوضهم خيرا مما أصابهم، وجعل لهم العاقبة الحميدة سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1) وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (2) ومن يتق الله يوفقه الله ويعوضه خيرا مما أخذ منه، ويسأله الرحمة العامة والشاملة التي تعم أمر دينه ودنياه وآخرته.
وفي ختام تصريح سماحته قال:
كلمتي نصيحة عامة للمسلمين جميعا: أن يتقوا الله وأن يلتزموا بشرع الله، وأن يتدبروا القرآن العظيم ويعتنوا بالسنة المطهرة، وأن ينظموا
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 69
(2) سورة آل عمران الآية 120(18/172)
أعمالهم على ضوء الكتاب والسنة، وأن تكون أعمالهم وأقوالهم وخلافاتهم كلها ترجع إلى الكتاب والسنة لا إلى القوانين الوضعية، بل يجب أن تكون كلها محكومة بكتاب الله وسنة رسوله، وأن يلتزموا بهذا أفرادا وجماعات ودولا، وهذا هو الواجب على المسلمين أن يتحاكموا إلى شرع الله، وأن يستقيموا على دين الله، وأن يعملوا بما أمر دين الله، ويدعوا ما حرم الله؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} (1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (2) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (3)
فمأمورون بتقوى الله جميعا والحفاظ على دينه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (4) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (6) {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (7) {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} (8)
__________
(1) سورة النساء الآية 1
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة الحج الآية 1
(4) سورة الأحزاب الآية 70
(5) سورة الأحزاب الآية 71
(6) سورة الحشر الآية 18
(7) سورة الحشر الآية 19
(8) سورة الحشر الآية 20(18/173)
وهذا هو الواجب على الناس جميعا أن يتقوا الله ويعبدوه وحده ويحكموا شريعته وينقادوا لأمره ويحذروا نهيه سبحانه، وأن يقفوا عند حدوده، وأن يتواصوا بهذا ويتناصحوا كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) ويقول سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) ويقول- صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (5) » ، ويقول جرير بن عبد الله البجلي: «بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة وعلى وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (6) » .
وهذا هو الواجب على مستوى الشعوب ورؤساء الدول
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) رواه أحمد في مسند الشاميين حديث تميم الداريبرقم16499، ومسلم في الإيمان باب بيان أن الدين النصيحة برقم 55.
(6) صحيح البخاري الزكاة (1401) ، صحيح مسلم الإيمان (56) ، سنن الترمذي البر والصلة (1925) ، سنن النسائي البيعة (4175) ، مسند أحمد بن حنبل (4/364) ، سنن الدارمي البيوع (2540) .(18/174)
الإسلامية، أن يتناصحوا وأن يتواصوا بالحق، وأن يحكموا بشرع الله لا بالقوانين التي يضعونها بأنفسهم.
ودعا سماحته في ختام تصريحه الله عز وجل بالهداية للجميع والتوفيق للمسلمين، وأن يصلح قادتهم ويولي عليهم خيارهم وأن يعيذهم من شر الأشرار.
ونسأل الله أن يكفينا شر كل ذي شر، وأن يرد كيد كل عدو في نحره، وأن يكشف شره أينما كان. والله ولي التوفيق.(18/175)
موقف الشريعة الإسلامية
من الغزو العراقي للكويت (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه.
أما بعد: أيها الإخوان المسلمون في كل مكان؛ نظرا لما جرى من حوادث في اليوم الحادي عشر من هذا الشهر من شهر الله المحرم عام 1411 هـ من العدوان الأثيم والظلم العظيم من رئيس دولة العراق على دولة الكويت، وذلك باجتياحه بلاد الكويت بجيوشه مزودة بأنواع الأسلحة المدمرة، وما حصل بسبب ذلك من الفساد العظيم، وسفك الدماء ونهب الأموال، وهتك الأعراض وتشريد الآمنين.
بسبب هذا كله كثر السؤال عن هذا الحادث، وعما ينبغي نحوه، ورأيت أنه من الواجب إخبار المسلمين فيما يتعلق بهذا الحادث، وما يجب على المسلم نحوه فأقول:
لا شك أن هذا الحادث من رئيس دولة العراق حادث
__________
(1) نشرت في جريدة البلاد بتاريخ 29\1\1411 هـ وغيرها من الصحف المحلية، ونشرت في هذا المجموع ج 6 ص 75.(18/176)
أليم وعدوان كبير على دولة مجاورة آمنة، يجب على جميع الدول الإسلامية وغيرها، وعلى جميع المسلمين إنكار ذلك وشجبه، وبيان أنه عدوان أثيم وظلم كبير.
يجب على رئيس دولة العراق أن يبادر بسحب جيشه من دولة الكويت، وأن يحذر مغبة ذلك في الدنيا والآخرة، والظلم عاقبته وخيمة، والله عز وجل يقول في كتابه المبين: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (1) ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} (2) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة (3) » ، ويقول عز وجل فيما رواه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا (4) » (5) .
لا شك أن هذا العدوان من أقبح الظلم ولا شك أيضا أنه مخالف للتعاليم الإسلامية والمواثيق الدولية حري صاحبه بالعقوبة العادلة العاجلة.
والمشاكل بين الجيران وبين القبائل وبين الدول لا تحل
__________
(1) سورة الشورى الآية 8
(2) سورة الفرقان الآية 19
(3) رواه البخاري في المظالم والغضب باب الظلم ظلمات يوم القيامة برقم 2447، ومسلم في البر والصلة والآداب باب تحريم الظلم برقم 2578.
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2577) .
(5) رواه ومسلم في البر والصلة والآداب باب تحريم الظلم برقم 2577.(18/177)
بالظلم والعدوان، ولكن تحل بالطرق السلمية والصلح أو بالحكم الشرعي، أما حلها بالظلم والعدوان والسلاح وقتل الأبرياء ونهب الأموال وغير هذا من أنواع الفساد، فهذا لا تقره شريعة إسلامية، ولا يقره ميثاق دولي، ولا عرف بين الناس، بل مخالف للأعراف ومخالف للمواثيق الدولية، كما أنه مخالف لشرع الله المطهر.
والواجب على الدول الإسلامية وغيرها، والعربية وغيرها، إنكاره، وقد وقع ذلك وأجمع العالم على إنكاره، ولا شك أنه جدير بالإنكار، فالواجب على دولة العراق أن تسحب جيوشها من دولة الكويت، وأن تبادر بذلك، وأن تلغي هذه المشكلة الخطيرة، وأن تحل المشكلة بينها وبين الكويت بالطرق السلمية التي أوضحها الإسلام، ودرج عليها المسلمون، ودرج عليها كل من له أدنى بصيرة وأدنى رغبة في الحق والعدل والإنصاف.
وهذه المسألة كغيرها من المسائل التي تقع بين الناس، سواء كان ذلك بين دول وقبائل أو غير ذلك، يجب أن تحل بالطرق الشرعية، ويحرم حلها بالظلم والعدوان، والصلح جائز بين المسلمين كما قال جل وعلا: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (1) وفي الحديث الشريف يقول عليه الصلاة والسلام: «الصلح جائز
__________
(1) سورة النساء الآية 128(18/178)
بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما (1) » فإذا تيسر الصلح الذي لا يخالف شرع الله، بل يتحرى فيه العدل والإنصاف والقسط فذلك جائز، فإن لم يتيسر وجب الرجوع إلى حكم الله، كما قال عز وجل في كتابه المبين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2)
فقد أجمع العلماء على أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه العظيم القرآن، وأن الرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه في حياته عليه الصلاة والسلام، والرد إلى سنته الثابتة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، وهذا هو خير للمسلمين، وفيه العاقبة الحميدة، وهو الواجب على كل من آمن بالله واليوم الآخر، وقال الله عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (3) وهذا عام في جميع المسائل بين الدول والشعوب وغير ذلك، وقال سبحانه وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (4) يعني
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1352) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2353) .
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة الشورى الآية 10
(4) سورة النساء الآية 65(18/179)
النبي صلى الله عليه وسلم ويقول سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1)
فالواجب على جميع الدول وجميع الجماعات وجميع القبائل وجميع المسلمين في كل مكان أن يرجعوا إلى حكم الله فيما يتنازعون فيه ويختلفون فيه، وأن يحذروا العدوان والظلم، وأن تحل المشاكل بينهم بالطرق السلمية والوسائط العاقلة الطيبة، فإن لم يتيسر ذلك وجب الحل بالحكم الشرعي لا بالعدوان والظلم.
وهذه المسألة التي بين الكويت والعراق يجب أن تحل بمحكمة شرعية من العلماء المعروفين بالعلم والفضل والاستقامة ليحلوها على ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إذا لم يتيسر الصلح.
وهكذا جميع المشاكل التي تعم وتعرض بالدول الإسلامية أو العربية في كل مكان تحل بهذه الطريقة. بالصلح إن تيسر لا بالعدوان والظلم.
ولا شك أن كل ما يجري بين الناس من الفساد والشرور والظلم، كل ذلك بأسباب الذنوب والمعاصي، كما قال الله عز وجل في كتابه العظيم: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (2)
__________
(1) سورة المائدة الآية 50
(2) سورة الشورى الآية 30(18/180)
وقال سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (1) وقال جل وعلا: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2)
فالواجب على جميع المسلمين التوبة إلى الله من جميع الذنوب، وذلك بالندم على الماضي منها والإقلاع عنها والعزم الصادق على عدم العودة فيها، وهذه هي التوبة النصوح، وإذا كان الذنب يتعلق بحق المخلوق فلا بد من التحلل من المخلوق وسماحه إذا كان مرشدا، أو رد مظلمته إليه وإعطائه حقه، ولا تتم التوبة إلا بذلك، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) ففي التوبة الفلاح والظفر بكل خير والسلامة من كل شر في الدنيا والآخرة وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (4) والنبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة النساء الآية 79
(2) سورة الروم الآية 41
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة التحريم الآية 8(18/181)
يقول: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (1) » (2) .
فعلى جميع المسلمين في كل مكان أن يراقبوا الله، وأن يستقيموا على دينه، وأن يسارعوا إلى ما أوجب عليهم وإلى ترك ما حرم الله عليهم، وأن يتناصحوا فيما بينهم، ويتعاونوا على البر والتقوى، ويتواصوا بالحق والصبر عليه؛ عملا بقول الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5) وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (6) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه (7) » .
فالتناصح في الله والتواصي بالحق من أهم المهمات وأعظم الواجبات في حق الأفراد والجماعات والشعوب.
__________
(1) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .
(2) رواه ابن ماجه في الزهد باب ذكر التوبة برقم 4250.
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3
(6) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(7) صحيح البخاري المظالم والغصب (2446) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) .(18/182)
ويجب على رئيس دولة العراق أن يتوب إلى الله وأن يبادر بالرجوع إليه والتوبة بما وقع منه من ظلم والمسارعة إلى إخراج جيشه من الكويت حتى تهدأ الفتنة، وحتى تعود الأمور إلى نصابها، ويحصل التقارب في حل المشكلة بالطريقة التي ذكرتها.
وهذا قول جميع أهل العلم ليس في هذا نزاع، وهو أن جميع المشاكل بين الدول والجماعات والقبائل والأفراد يجب أن تحل بالطريق الشرعي إذا لم يحسن حلها بالطرق السلمية والصلح الشرعي الذي لا يخالف شرع الله.
وأما ما حصل من الحكومة السعودية لأسباب هذه الحوادث المرتبة على الظلم الصادر من رئيس دولة العراق لدولة الكويت من استعانتها بجملة من الجيوش التي حصلت من جنسيات متعددة من المسلمين وغيرهم لصد العدوان وللدفاع عن البلاد - فذلك أمر جائز بل تحتمه وتوجبه الضرورة وأن على المملكة أن تقوم بهذا الواجب؛ لأن الدفاع عن الإسلام والمسلمين وعن حرمة البلاد وأهلها أمر لازم بل متحتم فهي معذورة في ذلك ومشكورة على مبادرتها لهذا الاحتياط والحرص على حماية البلاد من الشر وأهله، والدفاع عنها من عدوان متوقع قد يقوم به رئيس دولة العراق؛ لأنه لا يؤمن بسبب ما حدث منه مع دولة الكويت فخيانته متوقعة.(18/183)
فلذلك دعت الضرورة إلى الأخذ بالاحتياط والاستعانة بالجيوش المتعددة الأجناس حماية للبلاد وأهلها وحفظا للأمن وحرصا على سلامة البلاد وأهلها من كل شر.
ونسأل الله أن يثيبها على ذلك ويوفقها لكل خير، وأن ينفع بالأسباب ويحسن العاقبة وأن يكبت كل ذي شر ويشغله في نفسه، وأن يجعل كيد أعداء الله في نحورهم، ويكفي المسلمين شرهم إنه جل وعلا خير مسئول.
وأسأل الله عز وجل أن يصلح أحوال المسلمين وأن يهديهم الصراط المستقيم وأن يكبت كل عدو للإسلام والمسلمين، وأن يشغله في نفسه وأن يعيذ المسلمين من شره، وأن يجعل فيما أجرته الحكومة السعودية الخير للمسلمين والعاقبة الحميدة، وأن يبارك في جهودها ويسدد خطاها، وأن يحسن العاقبة لها ولجميع المسلمين، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(18/184)
الغزو العراقي جريمة عظيمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه (1) ، أما بعد:
فبمناسبة ما جرى من الحوادث هذه الأيام بسبب احتلال الرئيس العراقي دولة الكويت واجتياحه لها بالقوات المسلحة المتنوعة، وما جرى بسبب ذلك من الفساد العظيم وسفك الدماء ونهب الأموال وانتهاك الأعراض، رأيت أن أبين لإخواني المسلمين في هذا الحديث ما يجب حول هذا الحادث فأقول: -
لا شك أن هذا الحادث حادث مؤلم، ويحزن كل مسلم، ولا شك أنه جريمة عظيمة وعدوان شديد من الزعيم العراقي على دولة مجاورة مسلمة، فالواجب عليه التوبة إلى الله سبحانه من ذلك، وسحب جميع جيوشه من دولة الكويت، وحل المشاكل بالطرق السلمية التي شرعها الله لعباده، كما قال جل وعلا: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (2) وقال في الفئة الباغية:
__________
(1) نشرت في مجلة الدعوة في 10\2\1411 هـ بعددها 1255 ونشرت في هذا المجموع ج 6 ص 142.
(2) سورة النساء الآية 128(18/185)
{فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1)
فالمشاكل التي تقع بين الدولتين أو الدول أوالقبيلتين أو الأفراد يجب أن تحل بالوسائل الشرعية لا بالقوة والعدوان والظلم، يقول الله سبحانه في كتابه العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2)
قال العلماء: الرد إلى الله تعالى: الرد إلى كتابه العظيم القرآن الكريم. والرد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -: الرد إليه في حياته عليه الصلاة والسلام، وبعد وفاته: الرد إلى سنته.
قال عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (3) فالواجب على المتنازعين، سواء كانا دولتين أو قبيلتين أو جماعتين أو فردين رد النزاع والمشاكل إلى حكم الله إلا أن يتيسر الصلح فالصلح خير.
والواجب على الرئيس العراقي حل الخلاف بالصلح والمفاوضة السلمية وتوسيط الأخيار، فإن لم يتيسر الصلح وجب الرد إلى الكتاب والسنة عن طريق محكمة شرعية يتولاها
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة الشورى الآية 10(18/186)
علماء الحق، تعرض عليهم المشكلة ويحكمون فيها بشرع الله كما أمر سبحانه، هذا هو الواجب على كل دولة منتسبة إلى الإسلام؛ لأن الله جل وعلا يقول: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) ويقول جل وعلا: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) فالذي ننصح به رئيس العراق أن يتقي الله وأن يسحب جيوشه من دولة الكويت وينهي هذه المشكلة، وأن يرضى بحكم الله في ذلك إذا لم يتيسر الصلح.
ولا شك أن الرجوع إلى الحق خير وفضيلة، ويشكر صاحبه عليه، وهو خير له من التمادي في الخطأ والباطل، وننصح الجميع بالاستقامة على دين الله، والحكم بشريعته والتواصي بطاعته وترك معصيته، وعدم تحكيم القوانين الوضعية وآراء الرجال، وهذا هو طريق العزة وطريق العدالة وطريق السعادة والكرامة.
ولا شك أن كل بلاء يحصل للمسلمين وكل شر ومصيبة فأسبابها الذنوب والمعاصي، كما قال الله تعالى:
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) سورة المائدة الآية 50(18/187)
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) وقال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2) وقال سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (3)
فالواجب على الجميع التوبة إلى الله والرجوع إليه والاستقامة على دينه والندم على ما مضى من السيئات والمخالفات والعدوان.
هذا هو الواجب على جميع الدول الإسلامية والعربية وعلى جميع المسلمين.
وعلى الجميع أن يتقوا الله وأن يعظموا شرعه، وأن يتوبوا إليه من تقصيرهم وذنوبهم، وأن يعلموا أن ما أصابهم فهو بسبب ذنوبهم وسيئاتهم، فالتوبة إلى الله فيها الخير العظيم والسعادة في الدنيا والآخرة، والله جل وعلا قد يملي للظالم ولا يأخذه بسرعة، بل يملي ولا يغفل سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (4) وقال النبي - صلى الله عليه
__________
(1) سورة الشورى الآية 30
(2) سورة الروم الآية 41
(3) سورة النساء الآية 79
(4) سورة إبراهيم الآية 42(18/188)
وسلم -: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته (1) » ، ثم تلا قوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (2)
فنصيحتي لنفسي ولجميع المسلمين في كل مكان، أن يتقوا الله ويتوبوا إليه، ويستقيموا على دينه، وأن يخلصوا له العبادة، وأن يحذروا ما حرم عليهم سبحانه؟
ولا شك أن الرجوع إلى الحق والحرص على تحكيم الشرع والحذر مما يخالفه هو طريق أهل الإيمان وسبيلهم، وهو طريق العزة والكرامة، وهو طريق الإنصاف والحكمة، وهو الواجب على كل المسلمين دولا وشعوبا وأفرادا وجماعات.
وأما ما وقع من الحكومة السعودية من طلب الاستعانة من دول شتى للدفاع وحماية أقطار المسلمين؛ لأن عدوهم لا يؤمن هجومه عليهم، كما هجم على دولة الكويت - فهذا لا بأس به، وقد صدر من هيئة كبار العلماء- وأنا واحد منهم- بيان بذلك أذيع في الإذاعة ونشر في الصحف، وهذا لا شك في جوازه، إذ لا بأس أن يستعين المسلمون بغيرهم للدفاع عن
__________
(1) روا البخاري في تفسير القرآن باب قوله تعالى '' وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى '' برقم 4686، ومسلم في البر والصلة والآداب باب تحريم الظلم برقم 2583.
(2) سورة هود الآية 102(18/189)
بلاد المسلمين وحمايتهم وصد العدوان عنهم، وليس هذا من نصر الكفار على المسلمين الذي ذكره العلماء في باب حكم المرتد، فذاك أن ينصر المسلم الكافر على إخوانه المسلمين، فهذا هو الذي لا يجوز، أما أن يستعين المسلم بكافر ليدفع شر كافر آخر أو مسلم معتد، أو يخشى عدوانه فهذا لا بأس به.
وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه استعان بدروع أخذها من صفوان بن أمية استعارها منه - وكان صفوان كافرا - في قتال له لثقيف يوم حنين، وكانت خزاعة مسلمها وكافرها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتاله لكفار قريش يوم الفتح، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنكم تصالحون الروم صلحا آمنا ثم تقاتلون أنتم وهم عدوا من ورائكم (1) » فهذا معناه الاستعانة بهم على قتال العدو الذي من ورائنا.
والمقصود أن الدفاع عن المسلمين وعن بلادهم يجوز أن يكون ذلك بقوة مسلمة، وبمساعدة من نصارى أو غيرهم عن طريق السلاح، وعن طريق الجيش الذي يعين المسلمين على صد العدوان عنهم، وعلى حماية بلادهم من شر أعدائهم ومكائدهم.
__________
(1) رواه أبو داود في الملاحم باب ذكر ما يذكر من ملاحم الروم برقم 4292.(18/190)
والله جل وعلا يقول في كتابه العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (1) فأمرنا بأخذ الحذر من أعدائنا، وقال عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ} (2) أي للأعداء الكفار {مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (3) وهكذا من يعتدي علينا ولو كان مسلما أو ينتسب إلى الإسلام، فإذا خشي المسلمون عدوانه جاز لهم أيضا أن يستعينوا بمن يستطيعون الاستعانة به؛ لصد عدوان الكافر ولصد عدوان المعتدي وظلمه عن بلاد المسلمين وعن حرماتهم.
والواجب على المسلمين التكاتف والتعاون على البر والتقوى ضد أعدائهم، وإذا احتاجوا فيما بينهم لمن يساعدهم على عدوهم أو على من يريد الكيد لهم والعدوان عليهم ممن ينتسب للإسلام، فإن لهم أن يستعينوا بمن يعينهم على صد العدوان وحماية أوطان المسلمين وبلادهم كما تقدم.
وأكرر نصيحتي لجميع زعماء المسلمين ولجميع الدول العربية والإسلامية أن يتقوا الله ويحكموا شريعته في كل شيء، وأن يحذروا ما يخالف شرعه، وأن يبتعدوا عن الظلم مهما كان نوعه، هذا هو طريق النجاة وهذا هو طريق السعادة والسلامة.
__________
(1) سورة النساء الآية 71
(2) سورة الأنفال الآية 60
(3) سورة الأنفال الآية 60(18/191)
رزق الله الجميع التوفيق والهداية، ووفق جميع المسلمين للاستقامة على دينه، والتوبة إليه من جميع الذنوب، وأصلح أحوالنا جميعا، ووفق قادة المسلمين جميعا وعامة المسلمين لكل ما فيه رضاه، ولكل ما فيه صلاح الدنيا والآخرة إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان.(18/192)
وصية لجميع المسلمين
بمناسبة غزو العراق للكويت
س: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز هناك هلع وفزع أصاب بعض المسلمين في هذا البلد من جراء قرب توقع الحرب، حيث بادر الكثير بشراء السلع والمواد الغذائية بكميات كبيرة بغية تخزينها إضافة إلى قيام البعض الآخر بالاستعداد لمغادرة مدينة الرياض خوفا من نشوب الحرب، فهل هناك من كلمة توجهونها لهم بهذا الشأن؟ (1)
جـ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فإن وصيتي لجميع المسلمين في المملكة العربية السعودية، وفي دول الخليج، وفي كل مكان، أن يتقوا الله عز وجل وأن يستقيموا على دينه في جميع الأوقات، ولا سيما في مثل هذه الظروف التي لا تخفى على الجميع، وهي ما جرى من الأحداث في الخليج بأسباب عدوان حاكم العراق على دولة الكويت.
__________
(1) إجابة صدرت من مكتب سماحته ونشرت في المجموع في ج6 من هذا المجموع ص 137(18/193)
والواجب على المسلمين دائما أن يتقوا الله سبحانه وتعالى، وأن يستقيموا على دينه، وأن يحذروا ما حرم الله عليهم من قول وعمل؛ لأن الطاعات هي سبب الخير في الدنيا والآخرة، وهي سبب الأمن والسعادة وإطفاء الفتن.
أما المعاصي فهي أسباب الشر في الدنيا والآخرة.
وكل خير في الدنيا والآخرة فسببه طاعة الله واتباع شريعته، وكل شر في الدنيا والآخرة فسببه معصية الله والكفر به والانحراف عن دينه.
وهذه الأحداث التي وقعت في الخليج أسبابها ما قدمته أيدي العباد من مخالفة لأمر الله وانتهاك لمحارم الله، كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) وقال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2) وقال سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (3) الآية.
فالواجب على كل مسلم أن يحاسب نفسه، وأن يراقب ربه، وذلك بفعل الأوامر وترك النواهي، والمبادرة بالتوبة الصادقة من جميع الذنوب، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4)
__________
(1) سورة الشورى الآية 30
(2) سورة الروم الآية 41
(3) سورة النساء الآية 79
(4) سورة النور الآية 31(18/194)
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (1) والتوبة النصوح هي مشتملة على الندم على ما مضى من المعاصي، وعلى الإقلاع منها وتركها، والحذر منها، وعلى العزم الصادق على عدم العودة إليها طاعة لله وتعظيما له وإخلاصا له ورغبة فيما عنده وحذرا من عقابه سبحانه وتعالى.
وبهذا تدفع الشرور ويحصل الأمن، ويشتت الله الأعداء ويذلهم ويجعل دائرة السوء عليهم، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (2)
ومن نصر الله الاستقامة على طاعته والتوبة إليه من جميع المعاصي والإعداد لجهاد الأعداء والصبر والمصابرة في جهادهم، وبذلك يحصل النصر والتأييد لأولياء الله وأهل طاعته. ويحصل الإذلال والهزيمة على أعداء الله.
يقول الله سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4)
__________
(1) سورة التحريم الآية 8
(2) سورة محمد الآية 7
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41(18/195)
فوصيتي للجميع التوبة إلى الله والضراعة إليه، وطلب النصر والتأييد على أعداء الله، والمبادرة بكل ما يرضي الله ويقرب إليه ظاهرا وباطنا. والإيمان بأنه سبحانه هو الذي بيده النصر كما قال سبحانه: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (1) ليس النصر بالأسباب، وإنما هي أسباب، وليس النصر بالجيوش وإنما هي أسباب، قال جل وعلا في كتابه العظيم: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (2) {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3)
فالنصر من عنده عز وجل، ولكنه سبحانه أمر بالأسباب، وأمر بالإعداد للعدو وأخذ الحذر، وأمر بإعداد الجيوش والسلاح المناسب، كما قال سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (4) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (5)
هكذا يجب على المسلمين أن يعدوا العدة وأن يجاهدوا عدوهم بكل ما يستطيعون من أنواع السلاح والمصابرة، وأبشر
__________
(1) سورة آل عمران الآية 126
(2) سورة الأنفال الآية 9
(3) سورة الأنفال الآية 10
(4) سورة الأنفال الآية 60
(5) سورة النساء الآية 71(18/196)
إخواني جميعا أن الله سينصر دينه، وسينصر حزبه، وسيهزم عدوه.
ولا شك أن حاكم العراق تعدى وظلم وبغى على جيرانه، وأحدث فتنة عظيمة سوف يجد عقابها وجزاءها إلا أن يتوب إلى الله توبة صادقة ويؤدي الحق لأهله.
والواجب جهاده حتى يخرج من الكويت ويرجع إلى الحق والصواب، والمجاهدون لهذا الطاغية على خير عظيم، فمن أخلص لله في جهاده فهو إن عاش عاش حميدا مأجورا عظيم الأجر، وإن قتل قتل شهيدا لكونه جاهد في سبيل الله لإنقاذ وطن مسلم ولنصر مظلومين ولردع ظالم تعدى وبغى وظلم مع كفره وخبث عقيدته الإلحادية.
ووصيتي للمسلمين جميعا أن يحسنوا ظنهم بالله وأن يطمئنوا لنصره عز وجل، فهو سبحانه الناصر لأوليائه وأهل طاعته، وهو الذي يقول جل وعلا: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (1) فالعاقبة لأهل الإيمان المتقين لله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (2)
وقد خان الأمانة هذا الطاغية- طاغية العراق - وكفر النعمة وأساء إلى جيرانه بعدما أحسنوا إليه وساعدوه في أوقاته الحرجة، ولكنه كفر النعمة وأساء الجوار وظلم وتعدى، وسوف يجد العاقبة الوخيمة.
__________
(1) سورة هود الآية 49
(2) سورة الحج الآية 38(18/197)
يقول النبي- صلى الله عليه وسلم -: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم (1) » وهذا قد بغى وظلم، والله جل وعلا يقول: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} (2) ويقول سبحانه: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (3)
ولا مانع من أخذ الأسباب وقت الحرب، ولا مانع من كون المسلمين يتخذوا الأسباب التي تنفعهم في وقت الحرب، فهم مأمورون بأخذ الأسباب في جميع الأمور، كما أنهم مأمورون بأخذ السلاح والإعداد للعدو، فهم مأمورون أيضا بالأسباب الأخرى كحاجتهم وحاجات بيوتهم من الطعام والزاد وغير ذلك.
كل ذلك مأمورون به ولا حرج فيه، لكن مع حسن ظنهم بالله ومع الاستقامة على دينه ومع التوبة إليه سبحانه من جميع الذنوب، هذا هو الواجب على الجميع، والأسباب هم مأمورون بها وهي حق ولكنها من التوكل، والتوكل على الله واجب في جميع الأمور، وهو يشمل أمرين: -.
أحدهما: الثقة بالله والاعتماد عليه، والإيمان بأنه الناصر
__________
(1) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2511) ، سنن أبو داود الأدب (4902) ، سنن ابن ماجه الزهد (4211) ، مسند أحمد بن حنبل (5/38) .
(2) سورة الفرقان الآية 19
(3) سورة الشورى الآية 8(18/198)
وأنه مصرف الأمور، وأن بيده كل شيء سبحانه وتعالى.
والأمر الثاني: الأخذ بالأسباب من جميع الوجوه؛ لأن الله أمر بها، قال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (2) وقال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} (3) الآية، وقد لبس النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد درعين، وأخذ بالأسباب يوم الخندق، وهكذا يوم الفتح، كل هذا من باب الأسباب، فالإعداد للعدو وهكذا بقية الأسباب من توقي شر الحروب وإعداد ما يحتاجه العوائل والبيوت، كل ذلك أمر مطلوب وليس فيه مخالفة لأمر الله، وليس فيه أيضا إخلال بالتوكل، بل التوكل يشمل الأمرين: الثقة بالله والاعتماد عليه، والإيمان بأنه الناصر جل وعلا مع الأخذ بالأسباب، هذا ما يجب على المسلمين.
ونسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يهزم حاكم العراق ويشتت شمله، وأن يدير عليه دائرة السوء، وينصر المسلمين عليه ويعينهم على كل خير، وأن ينصر المظلومين ويعيد إليهم بلادهم، وأن يهديهم وجميع المسلمين سواء السبيل.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60
(2) سورة النساء الآية 71
(3) سورة النساء الآية 102(18/199)
ونسأل الله أن يجعل العاقبة حميدة للجميع، وأن يجعل هذه الحوادث عظة للمؤمنين وسببا لاستقامتهم على دينهم، وسببا لتوبة الجميع من كل ذنب إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(18/200)
محاضرة مهمة بسبب اجتياح حاكم العراق للكويت
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فإن الله جل وعلا - وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة - يبتلي عباده بالسراء والضراء والشدة والرخاء؛ حتى يميز الخبيث من الطيب، وحتى يتضح أهل الإيمان والتقوى من أهل النفاق والزيغ والكفر والضلال، وحتى يتبين الصابرون المجاهدون من غيرهم، وحتى يظهر للناس من يريد الحق ويطلب إقامته ممن يريد خلاف ذلك. قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (1) ومعنى الفتنة هنا: الاختبار والامتحان ليتبين بعد الامتحان الصادقون من الكاذبين والأبرار من الفجار والأخيار من الأشرار، وطالب الحق من طالب غيره، ويرجع من أراد الله له
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 35(18/201)
السعادة إلى ما عرفه من الحق، ويستمر من سبقت له الشقاوة في باطله وضلاله، وقال جل وعلا: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1) ومعنى بلوناهم: اختبرناهم بالحسنات بالنعم؛ من العز والظهور في الأرض والمال والثروة وغير هذا مما يعتبر من النعم، والسيئات: يعني المصائب التي تصيب الناس من فقر وحاجة وخوف وحروب وغير ذلك. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2) المعنى ليرجعوا إلى الحق والصواب ويستقيموا على الهدى، وقال جل وعلا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3) يعني: اتقوها بالعمل الصالح والاستقامة على طاعة الله والجهاد في سبيله ولزوم الحق.
والفتنة يدخل فيها الحروب ويدخل فيها الشبهات التي يزيغ بها كثير عن الحق ويدخل فيها الشهوات المحرمة إلى أنواع أخرى من الفتن.
فأهل الإيمان يتقونها بطاعة الله ورسوله والفقه في الدين والإعداد لها قبل وقوعها حتى إذا وقعت فإذا هم على بينة وبصيرة وعلى عدة ويقول جل وعلا
__________
(1) سورة الأعراف الآية 168
(2) سورة الأعراف الآية 168
(3) سورة الأنفال الآية 25(18/202)
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) المعنى أنه شديد العقاب لمن خالف أمره وارتكب نهيه ولم ينقد لشرعه سبحانه، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (2) فالإنسان يفتن بالمال والولد ويمتحن، فإن اتقى الله في المال والولد فله السعادة، وإن مال مع المال إلى الشهوات المحرمة وإيثار العاجلة هلك، وهكذا إن مال مع الولد إلى ما حرم الله وإلى متابعة الهوى هلك مع من هلك.
وقال سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (3) ومعنى ولنبلونكم: لنختبرنكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (4) حتى نعلم علما ظاهرا، والله سبحانه يعلم كل شيء ولا يخفى عليه شيء، وقد سبق علمه بكل شيء كما قال تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (5)
وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (6) فهو
__________
(1) سورة الأنفال الآية 25
(2) سورة التغابن الآية 15
(3) سورة محمد الآية 31
(4) سورة محمد الآية 31
(5) سورة الطلاق الآية 12
(6) سورة المجادلة الآية 7(18/203)
سبحانه وتعالى عليم بكل شيء، ولكنه يبلوهم حتى يعلم المجاهدين منهم والصابرين علما ظاهرا يشاهده الناس، ويعلمه هو سبحانه علما ظاهرا موجودا بعدما كان في الغيب، يعلمه ظاهرا موجودا في الوجود، وهذا معنى قوله سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} (1) حتى نعلمه علما ظاهرا موجودا في العالم.
وفي هذه الأيام جرى ما جرى من الفتنة في الحادي عشر من المحرم من السنة الهجرية 1411 هـ الثاني من أغسطس من الشهور الميلادية 1990 م جرى ما جرى من عدوان حاكم العراق على دولة الكويت المجاورة له، واجتاحها بجيوشه المدمرة الظالمة، واستحل الدماء والأموال، وانتهك الأعراض، وشرد أهل البلاد، وجرت فتنة عظيمة بسبب هذا الظلم والعدوان، واستنكر العالم هذا البلاء وهذا الحدث الظالم، وحشد الجيوش على الحدود السعودية، وبذل الناس الجهود الكبيرة: من رؤساء الدول ومن مجلس الأمن ومن غيرهم لحاكم العراق ليخرج من هذا الظلم ويسحب جيشه من هذه البلاد التي احتلها ظلما، فلم يستجب، وأصر على ظلمه وعدوانه؛ لحكمة بالغة: إن ربك حكيم عليم له سبحانه
__________
(1) سورة محمد الآية 31(18/204)
الحكمة البالغة في كل شيء، قد سبق في علمه جل وعلا أنه لا بد من حرب، وأن هذا البلاء الذي وقع لا يتخلص منه بمجرد الحلول السلمية، وهو القائل سبحانه في كتابه العظيم: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (1) ويقول سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) ونرجو أن يكون فيما وقع الخير وأن يكون في ذلك الخير لنا وللمسلمين جميعا والشر على أعداء الإسلام؛ لأنه سبحانه أعلم وأحكم، ونرجو أن يكون فيما حدث عظة لنا ولغيرنا في الرجوع إلى الله والاستقامة على دينه وحساب النفوس وجهادها لله والإعداد الكامل لأعدائنا أعداء الإسلام.
فالامتحان يفيد المؤمنين والعقلاء، ويوجب حساب النفس وجهادها، ويوجب على كل مسلم أن يحاسب نفسه ويجاهدها لله، وأن يستقيم على أمره، وأن يتباعد عن نهيه، ويوجب على الدول الإسلامية أن تحاسب أنفسها أيضا، وأن تستقيم على دين الله، ومتى استقام العباد على الحق وأصلحوا أنفسهم وجاهدوها لله وبذلوا المستطاع في نصر الحق يسر
__________
(1) سورة النساء الآية 19
(2) سورة البقرة الآية 216(18/205)
الله أمورهم ونصرهم على عدوهم، كما قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) ويقول سبحانه وتعالى {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) ويقول سبحانه وبحمده: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4) ويقول سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (5) يعني: بسبب إيمانهم الصادق وعملهم الصالح يستخلفون في الأرض، ويمكن الله لهم دينهم، ويبدلهم من بعد خوفهم أمنا.
فالواجب هو الاستقامة على أمر الله، وعلاج الفتن بما أمر الله به من التقوى، والاستقامة والجهاد الصادق والإخلاص لله والصبر والمصابرة. هكذا يجب.
وقد بين الله لعباده أسباب النجاة ووسائل النصر، فقال
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة الروم الآية 47
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة النور الآية 55(18/206)
جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2) {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (3)
فأمرهم سبحانه عند لقاء الأعداء وعند وجود العدوان وعند مباشرة الجهاد بصفات عظيمة:
أولها: الثبات على الحق والاستقامة عليه، فقال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (4) فالثبات على الحق لا بد منه، والصبر عليه كما في الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (5) وأهل الأيمان لا تشغلهم الشدائد عن الحق بل يلزمون الحق في الشدة والرخاء.
والثاني: ذكر الله جل وعلا: ذكر الله بالقلب واللسان والعمل بالقلب؛ تعظيما له سبحانه ومحبة له وخوفا منه، وثقة به وإخلاصا له. واعتمادا عليه سبحانه وتعالى، وإيمانا بأنه الناصر والنصر من عنده، كما قال سبحانه:
__________
(1) سورة الأنفال الآية 45
(2) سورة الأنفال الآية 46
(3) سورة الأنفال الآية 47
(4) سورة الأنفال الآية 45
(5) سورة آل عمران الآية 200(18/207)
{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (1) وإنما الأسباب تعين على ذلك، فما شرع الله من إعداد وسلاح وغير ذلك من الأسباب كلها تعين على ذلك، وهي بشرى من عند الله، كما قال الله عندما أمد رسوله صلى الله عليه وسلم بالملائكة: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) وفي آية آل عمران: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (3)
فالمؤمن عند الشدائد يذكر الله ويعظمه، ويعلم أنه الناصر، وأنه الضار النافع، وأن بيده كل شيء، فبيده سبحانه الضر والنفع، وبيده سبحانه العز والنصر، وبيده جل وعلا تصريف الأمور، لا يغيب عن علمه شيء، ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى.
وعلق على ذلك الفلاح فقال عز من قائل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) فبذكر الله بالقلب واللسان والعمل؛ الفلاح والظفر والخير كله.
فالمؤمنون في الشدة والرخاء يلزمون ذكر الله وتعظيمه، والإخلاص له، وإقامة حقه، وترك معصيته، فيذكرون الله بإقامة الصلوات، والمحافظة عليها، وحفظ الجوارح عما حرم الله
__________
(1) سورة الأنفال الآية 10
(2) سورة الأنفال الآية 10
(3) سورة آل عمران الآية 126
(4) سورة الأنفال الآية 45(18/208)
وحفظ اللسان عما حرم الله، وذلك بأداء الحقوق والكف عما حرم الله، إلى غير ذلك مما يرضيه سبحانه ويباعد عن غضبه.
وذكر الله سبحانه يكون بالقلب واللسان والعمل كما تقدم، وفي ذلك الفلاح والفوز والسعادة والظفر، ثم قال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) هذه هي الصفة الثالثة، وطاعة الله ورسوله هي من ذكر الله جل وعلا، ولكن نص عليها لعظمها، وذلك بفعل الأوامر وترك النواهي، في الجهاد وغيره.
ثم ذكر جل وعلا الصفة الرابعة: وهي الالتفاف والاجتماع والتعاون وعدم الفشل، فقال سبحانه: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (2) فالواجب على المسلمين التعاون والاتفاق والصدق في جهاد الأعداء، وإخراج الظلمة مما وقعوا فيه، لا بد من الاتفاق والصبر، وذكر الله والتعاون ضد العدو.
والعدو قد يكون مسلما، وقد يكون كافرا، وقد يكون مسلما باغيا، وقد أمر الله بقتال الباغي حتى يفيء إلى أمر الله، كما قال جل وعلا: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (3) هذا إن كان مؤمنا فكيف إذا كان كافرا بعثيا ظالما.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 46
(2) سورة الأنفال الآية 46
(3) سورة الحجرات الآية 9(18/209)
ومعنى حتى تفيء إلى أمر الله: حتى ترجع إلى الحق، وترد ما ظلمت، وتستقيم مع العدالة. ثم قال سبحانه: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1) وهذه صفة خامسة. فلا بد من الصبر في جهاد الأعداء وقتالهم، وبذل المستطاع في ذلك، وقال سبحانه في آية البقرة في صفة المؤمنين: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} (2) يعني حين القتال، ثم قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (3) وقال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (4)
والصبر أنواع ثلاثة:
- صبر على طاعة الله بالجهاد وأداء الحقوق.
- وصبر عن معاصي الله، بالكف عما حرم الله قولا وعملا.
- ونوع ثالث هو الصبر على قضاء الله وقدره مما يصيب الناس من جراح أو قتل أو مرض أو غير ذلك. لا بد من الصبر وتعاطي أسباب النصر. وأسباب العافية.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 46
(2) سورة البقرة الآية 177
(3) سورة البقرة الآية 177
(4) سورة النحل الآية 127(18/210)
ثم ذكر سبحانه صفة سادسة وسابعة فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} (1) أي لا تكونوا في جهادكم متكبرين ولا مرائين، بل يجب على المؤمنين في جهادهم لعدوهم الإخلاص لله، والصدق والتواضع لله، وسؤاله النصر جل وعلا.
وقد ذكر الله أمرا ثامنا وحذر منه، وهو الصد عن سبيل الله، وهو من صفة أعداء الله، فهم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا. أما المؤمنون فيجاهدون في تواضع لله، مخلصين له سبحانه، لا متكبرين ولا مرائين، يدعون إلى سبيل الله من صد عنه، يدعون الناس إلى الحق والهدى وإلى طاعة الله ورسوله. هكذا المؤمنون الصادقون أينما كانوا.
وهذه الفتنة - أعني عدوان حاكم العراق على الكويت - قد اشتبه فيها الأمر على بعض الناس، إذ ظن بعض الناس أن الأولى فيها الاعتزال وعدم القتال مع هؤلاء أو هؤلاء، وهذا قد جرى في أول فتنة وقعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الفتنة التي وقعت بين أهل الشام وأهل العراق، بسبب مقتل عثمان رضي الله عنه الذي قتل ظلما من فئة بغت عليه وتعدت، والتبست عليها الأمور، ودخل فيها من هو حاقد على
__________
(1) سورة الأنفال الآية 47(18/211)
الإسلام، والتبست الأمور على بعض الناس حتى اشتبهت الأمور، وبقتل عثمان رضي الله عنه ظلما وعدوانا حصل بسبب ذلك فتنة عظيمة، فبايع الناس عليا رضي الله عنه بالخلافة، وقام معاوية رضي الله عنه وجماعة يطالبون بدم عثمان، وبايعه كثير من الناس على ذلك، وعظمت الفتنة واشتدت البلية، وانقسم المسلمون قسمين بسبب هذه الفتنة:
طائفة انحازوا إلى معاوية رضي الله عنه وأهل الشام، يطالبون عليا رضي الله عنه بتسليم القتلة.
وطائفة أخرى هم علي رضي الله عنه وأصحابه، طلبوا من معاوية وأصحابه الهدوء والصبر، وبعد تمام الأمر واستقرار الخلافة ينظر في أمر القتلة.
واشتد الأمر وجرى ما جرى من حرب الجمل وصفين، وظن بعض الناس في ذلك الوقت أن الأولى عدم الدخول في هذه الفتنة، واعتزل بعض الصحابة ذلك، فلم يكونوا مع علي ولا مع معاوية.
والفتنة اليوم كذلك، حصل فيها اشتباه؛ لأن وقوع الفتن يسبب اشتباها كثيرا على الناس، وليس كل إنسان عنده العلم الكافي بما ينبغي أن يفعل، فقد يقع له شبه تحول بينه وبين فهم الصواب. وهذه الفتنة التي وقعت الآن ليست مما يعتزل فيها؛ لأن الحق فيها واضح، والقاعدة أن الفتنة التي ينبغي(18/212)
عدم الدخول فيها هي: المشتبهة التي لا يتضح فيها الحق من الباطل، والتي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به (1) » . رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا فالقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قسيكم وقطعوا أوتاركم واضربوا بسيوفكم الحجارة، فإن دخل على أحدكم فليكن كخير ابني آدم (2) » رواه ابن ماجه وأبو داود، فهذه الفتنة التي تشتبه ولا يتضح للمؤمن فيها الحق من الباطل، هي التي يشرع البعد عنها وعدم الدخول فيها.
__________
(1) رواه البخاري في الفتن باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم برقم 7081، ومسلم في الفتن وأشراط الساعة باب نزول الفتن كمواقع القطر برقم 2886.
(2) رواه أبو داود في الفتن والملاحم باب في النهي عن السعي في الفتنة برقم 4259، وابن ماجه في الفتن باب التثبت في الفتنة برقم 3961.(18/213)
أما ما ظهر فيه الحق، وعرف فيه المحق من المبطل والظالم من المظلوم، فالواجب أن ينصر المظلوم ويردع الظالم، ويردع الباغي عن بغيه، وينصر المبغي عليه، ويجاهد الكافر المعتدي، وينصر المظلوم المعتدى عليه، وفي هذا المعنى يقول الله سبحانه وتعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1)
ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) ثم شرحها للناس بقوله سبحانه: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (4) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (5)
فهذا وعده سبحانه لمن جاهد في سبيله ونصر الحق في هذه الآيات الكريمات، وفي قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (6) وصفها بهذا الوصف العظيم أنها تجارة، وأنها تنجي من عذاب أليم، ثم فسرها بقوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (7)
__________
(1) سورة التوبة الآية 41
(2) سورة الصف الآية 10
(3) سورة الصف الآية 11
(4) سورة الصف الآية 12
(5) سورة الصف الآية 13
(6) سورة الصف الآية 10
(7) سورة الصف الآية 11(18/214)
ومعلوم أن الجهاد من الإيمان، ولكن خصه بالذكر لعظم شأنه ومسيس الحاجة إلى بيان فضله، فقال سبحانه وتعالى: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (1) بدأ بالأموال لعظم شأنها، وعموم نفعها في شراء السلاح وتجهيز المجاهدين وإطعامهم، ولذلك بدأ بالمال قبل النفس في أكثر الآيات؛ لأن نفعه أوسع، ثم قال سبحانه وبحمده: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) ثم فسر بعد ذلك الخير المذكور بقوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) كل هذا من ثواب الجهاد، ثم قال جل وعلا: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (4) ثواب الجهاد، وقال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (5)
وقال سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (6)
__________
(1) سورة الصف الآية 11
(2) سورة الصف الآية 11
(3) سورة الصف الآية 12
(4) سورة الصف الآية 13
(5) سورة التوبة الآية 111
(6) سورة الحجرات الآية 9(18/215)
يعني حتى ترجع للحق {فَإِنْ فَاءَتْ} (1) أي رجعت للحق {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2)
هذا بالنسبة للمؤمنين، كما جرى يوم الجمل وصفين في القتال بين المؤمنين، فقد أمر الله المؤمنين أن يقاتلوا الطائفة الباغية حتى ترجع إلى الحق، وبعد الرجوع إلى الحق ينظر في المسائل المشكلة، وتحل بالصلح والعدل الذي شرعه الله في قوله تعالى: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا} (3) أي بالطرق الحكيمة الشرعية التي جعلها الله وسيلة لحل النزاع {وَأَقْسِطُوا} (4) يعني: اعدلوا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (5) هذا في المؤمنين، تقاتل الفئة الباغية، وهي مؤمنة حتى ترجع، فكيف إذا كانت الطائفة الباغية ظالمة كافرة، كما هو الحال في حاكم العراق، فهو بعثي ملحد، ليس من المؤمنين، وليس ممن يدعو للإيمان والحق، بل يدعو إلى مبادئ الكفر والضلال، وبدأ يتمسح بالإسلام لما جرى ما جرى، فأراد أن يلبس على الناس ويدعو إلى الجهاد كذبا وزورا ونفاقا.
ولو كان صادقا لترك الظلم، وترك البلاد لأهلها، وأعلن توبته إلى الله من مبادئه الإلحادية وطريقته التي يمقتها الإسلام
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2) سورة الحجرات الآية 9
(3) سورة الحجرات الآية 9
(4) سورة الحجرات الآية 9
(5) سورة الحجرات الآية 9(18/216)
ومصدر التشريع فيه كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وحينئذ تحل المشكلات بالطرق السلمية بعد ذلك.
أما أن يدعو إلى الجهاد وهو مقيم على الظلم والعدوان والتهديد لجيرانه، فكيف يكون هذا الجهاد الظالم؟ وهذا الجهاد الكاذب، والنفاق الذي يريد به التلبيس. وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قالوا: يا رسول الله نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: أن تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه (1) » .
وذكر البراء رضي الله عنه نصر المظلوم في الحديث الصحيح المتفق عليه، وهو قوله رضي الله عنه: «أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بسبع وذكر منها: نصر المظلوم (2) » ، فنصر المظلوم واجب متعين على كل من استطاع ذلك فإذا كان الظلم عظيما، كان الواجب أشد. وإذا كان الظلم لفئات
__________
(1) رواه البخاري في الإكراه باب يمين الرجل لصاحبه برقم 6952 والترمذي في الفتن باب ما جاء في النهي عن سب الرياح برقم 2255.
(2) رواه البخاري في الأشربة باب آنية الفضة برقم 5635، ومسلم في اللباس والزينة باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال برقم 2066.(18/217)
كثيرة وأمة عظيمة ويخشى من ورائه ظلم آخر وشر آخر صار الواجب أشد وأعظم في نصر المظلوم وفي جهاد الظالم، حتى لا تنتشر الفتنة التي قام بها وحتى لا يعظم الضرر به، باجتياحه بلادا أخرى، ولو فعل ذلك لكان الأمر أشد وأخطر، ولكانت الفتنة به أعظم وأسوأ عاقبة، ولربما جرت أمور أخرى لا يعلم خطرها إلا الله.
ولعظم الأمر وخطورته اضطرت المملكة العربية السعودية إلى الاستنصار بالجنسيات المتعددة من الدول الإسلامية وغيرها، لعظم الخطر، ووجوب الدفاع عن البلاد وأهلها، واتقاء شر هذا الظالم المجرم الملحد، وقد وفقها الله في ذلك والحمد لله على ما حصل، ونسأل الله أن يجعل العاقبة حميدة، وأن يخذل الظالم ويسلط عليه من يكف ضرره، وأن يدير عليه دائرة السوء، وأن يهزم جمعه ويشتت شمله، ويقينا شره وشر أمثاله، وأن ينفع بهذه الجهود، وأن يدير دائرة السوء على المعاندين والظالمين، وأن يكتب النصر لأوليائه المؤمنين، وأن يرد هذه الجنود التي تجمعت لردع هذا الظالم إلى بلادها، ويقينا شرها، فهي جاءت لأمر واحد وهو الدفاع عن هذه البلاد، وإخراج هذا الجيش الظالم من الكويت، لما في التساهل في هذا الأمر وعدم المبادرة من الخطر العظيم؛ لأن الظالم لديه جيش كثير مدرب، حارب به ثمان سنين لجارته(18/218)
إيران، وتجمع لديه جيش كثيف، ولديه نية سيئة وخبث عظيم، وقد يسر الله برحمته اجتماع جيوش عظيمة، لحربه ورده عن ظلمه، ولتنصر المظلوم، وتعيد الحق إلى أصحابه.
وأسأل الله جل وعلا أن ينفع بالأسباب، ويحسن العاقبة للمظلومين ويجعلها للجميع عظة وذكرى. والله جل وعلا يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) فالحكومة السعودية مضطرة، ودول الخليج كذلك إلى الاستعانة بالقوات الإسلامية والأجنبية لردع الظالم، والقضاء عليه، وإخراجه بالقوة من هذه البلاد التي احتلها لما أبى وعاند، ولم ينقد لدعاء الحق وخروجه سلما من البلاد التي احتلها، وانسحابه عن الحدود السعودية، لم تكن المفاوضة بعد ذلك في مطالبه من جيرانه، فلما أبى واستكبر وعاند وركب رأسه، ولم يراع حق الجوار، ولا حق الإسلام، ولا حق الإحسان، وجب أن يقاتل وأن يجاهد، ووجب على الدولة أن تفعل ما تستطيع من الأسباب التي تعينها على قتاله وجهاده.
ونسأل الله أن ينفع بهذه الأسباب، وأن ينصر الحق وحزبه، ويخذل الباطل وأهله، وأن يرد المظلومين إلى بلادهم موفقين ومهديين، وأن يخذل الظالم وأن يدير عليه دائرة السوء
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119(18/219)
وأن يهزم جمعه ويشتت شمله، وأن يقينا شر هذه الفتنة، وأن يجعلها موعظة للمؤمنين جميعا.
ونسأل الله أن يجعلها سببا للرجوع إلى الله والاستقامة على دينه، وإعداد العدة الكافية لجهاد أعدائه.
فالمسلمون يستفيدون من الفتن والمحن الفوائد المطلوبة، ومن ذلك أن يحاسب كل واحد منا نفسه، وأن يجاهدها لله حتى تستقيم على الحق، وحتى يدع ما حرم الله عليه، فإن الطاعات من الجيش المجاهد من أسباب النصر، والمعاصي من أسباب الخذلان.
فعلى المجاهدين وعلى المظلومين أن يصبروا ويصابروا وأن يتقوا الله، وأن يستقيموا على دينه، وأن يحافظوا على حقه، وأن يتواصوا بالحق والصبر عليه، وبذلك يوفقون، ويجعل لهم النصر المؤزر، قال تعالى في كتابه العظيم: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (1)
فمتى صبر المسلمون واتقوا ربهم فإنه لا يضرهم كيد الأعداء، وإن جرت عليهم المحن، وإن قتل بعضهم، وإن جرح بعضهم، وإن أصابتهم شدة فلا بد أن تكون لهم العاقبة
__________
(1) سورة آل عمران الآية 120(18/220)
الحميدة بوعد الله الصادق، وفضله العظيم، كما قال سبحانه وتعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (1) وقال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (2) وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (4) وقال سبحانه وبحمده: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (5) فيجب علينا جميعا رجالا ونساء في هذه البلاد وغيرها، وعلى جميع المسلمين في كل مكان أن يستقيموا على دينه، وأن يحافظوا على أوامره وينتهوا عن نواهيه، وأن يصدقوا في جهاد الأعداء، ومنها جهاد هذا العدو الظالم حاكم العراق وجنده الظالم، وأن يكونوا يدا واحدة ضد هذا العدو الغاشم الكافر وحزبه الملحد.
ومن أسباب النصر تطبيق شريعة الله وتحكيمها في كل شيء، فالواجب على الدول الإسلامية والمنتسبة للإسلام أن تحاسب أنفسها، وأن تجاهد في الله جهاد الصادقين، وأن تحكم شريعة الله في جميع شئونها، فهي سفينة النجاة، كما أن سفينة نوح جعلها الله سفينة النجاة لأهل الأرض كلهم من الغرق، كذلك شريعة الله التي جاء بها سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي الشريعة
__________
(1) سورة هود الآية 49
(2) سورة طه الآية 132
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 3
(5) سورة الطلاق الآية 4(18/221)
الإسلامية: هي سفينة النجاة لأهل الأرض كلهم أيضا، من استقام عليها وحافظ عليها كتبت له النجاة في الدنيا والآخرة. وإن أصابه بعض ما قدره الله عليه مما يكره من شدة أو حرب أو غير ذلك، فإن له النجاة والعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة.
فالمؤمنون من قوم نوح عليه السلام عندما أصابتهم الشدة أمرهم الله سبحانه بركوب السفينة، ونجاهم الله بسبب إيمانهم، واتباعهم لنوح عليه السلام.
فهكذا المؤمنون في كل زمان، لا بد لهم من صبر على الشدائد، واستقامة على الحق حتى يأتيهم الفرج من الله سبحانه، كما قال تعالى في سورة فصلت: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (1) {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (2) {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (3) وقال سبحانه في سورة الأحقاف: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (4) {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (5)
فالواجب على جميع المسلمين في الجزيرة العربية وفي
__________
(1) سورة فصلت الآية 30
(2) سورة فصلت الآية 31
(3) سورة فصلت الآية 32
(4) سورة الأحقاف الآية 13
(5) سورة الأحقاف الآية 14(18/222)
غيرها تقوى الله سبحانه وتعالى، رجالا ونساء، حكاما ومحكومين، وأن يستقيموا على دينه، وأن يحاسبوا أنفسهم من أين أصيبوا، فما أصابنا شيء مما نكره إلا بسبب معصية اقترفناها، كما قال عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1)
وهذا الذي وقع بسبب تقصيرنا وسيئاتنا، فيجب علينا أن نرجع إلى الله، وأن نحاسب أنفسنا، وأن نجاهد لله، وأن نستقيم على حقه، وأن نحذر معصيته، وأن نتواصى بالحق وبالصبر عليه، حتى ينصرنا الله، ويكفينا شر أنفسنا، وشر أعدائنا، كما قال عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (2) وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (3)
وقال سبحانه وبحمده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (4) وقال عز من قائل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (5) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (6)
__________
(1) سورة الشورى الآية 30
(2) سورة آل عمران الآية 120
(3) سورة المائدة الآية 2
(4) سورة محمد الآية 7
(5) سورة الحج الآية 40
(6) سورة الحج الآية 41(18/223)
وقال سبحانه وتعالى: {وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) فهؤلاء هم الرابحون في كل مكان، وفي كل عصر، بإيمانهم العظيم وعملهم الصالح، وتواصيهم بالحق، والصبر عليه.
وهذه الفتنة، هذا هو علاجها- كما هو علاج كل فتنة- بالصبر على الحق والجهاد والثبات عليه بشتى الوسائل الممكنة. بالسلاح الممكن، والنصيحة الممكنة، وبكل طريقة أباحها الله، وشرعها لحل المشكلات، وردع الظالم وإحقاق الحق.
وإذا خاف المظلوم من أن يغلب، واستعان بمن يأمنهم في هذا الأمر، وعرف منهم النصرة فلا مانع من الاستنصار ببعض الأعداء الذين هم في صفنا ضد عدونا، ولقد استعان النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل الخلق بالمطعم بن عدي لما مات أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وكان كافرا، وحماه من قومه، لما كان له من شهرة وقوة وشعبية، فلما توفي أبو طالب وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف يدعوهم إلى الله لم يستطع الرجوع إلى مكة خوفا من أهل مكة، إلا بجوار المطعم بن عدي، وهو من رءوس الكفار، واستنصر به في
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3(18/224)
تبليغ دعوة الله، واستجار به فأجاره، ودخل في جواره، وهكذا عندما احتاج إلى دليل يدله على طريق المدينة استأجر شخصا من الوثنيين ليدله إلى المدينة لما أمنه على هذا الأمر.
ولما احتاج إلى اليهود بعد فتح خيبر ولاهم نخيلها وزروعها بالنصف، يزرعونها للمسلمين، والمسلمون مشغولون بالجهاد لمصلحة المسلمين، ومعلوم عداوة اليهود للمسلمين، فلما احتاج إليهم عليه الصلاة والسلام وأمنهم ولاهم على نخيل خيبر وزروعها.
فالعدو إذا كان في مصلحتنا وضد عدونا فلا حرج علينا أن نستعين به ضد عدونا، وفي مصلحتنا، حتى يخلصنا الله من عدونا ثم يرجع عدونا إلى بلاده.
ومن عرف هذه الحقيقة وعرف حال الظالم وغشمه وما يخشى منه من خطر عظيم وعرف الأدلة الشرعية اتضح له الأمر.
ولهذا درس هيئة كبار العلماء هذا الحادث، وتأملوه من جميع الوجوه وقرروا أنه لا حرج فيما فعلت الدولة من هذا الاستنصار للضرورة إليه، وشدة الحاجة إلى إعانتهم للمسلمين، وللخطر العظيم الذي يهدد البلاد لو استمر هذا الظالم في غشمه واجتياحه للبلاد، وربما ساعده قوم آخرون وتمالئوا معه على الباطل.
فالأمر في هذا جلل وعظيم، ولا يفطن إليه إلا من نور(18/225)
الله بصيرته، وعرف الحقائق على ما هي عليه، وعرف غشم الظالم، وما عنده من القوة التي نسأل الله أن يجعلها ضده، وأن يهلكه ويكبته، وأن يكفينا شره وشر كل الأعداء، وأن يولي على العراق رجلا صالحا يحكم فيه بشرع الله، وينفذ في شعبه أمر الله، كما نسأله سبحانه أن يقيهم شر هذا الحاكم الظالم العنيد الذي عذبهم وآذاهم وعذب المسلمين وأحدث هذه الفتنة، وجر المسلمين إلى خطر عظيم.
نسأل الله أن يعامله بعدله، وأن يقضي عليه، وأن يريح المسلمين من فتنته، وأن يجعل العاقبة الحميدة لعباده المسلمين، وأن يرد المظلومين إلى بلادهم، وأن يصلح حالهم، وأن يقيم فيهم أمر الله، وأن يقينا وإياهم الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وقد رأيت أن أبسط القول في هذه المسألة لإيضاح الحق، وبيان ما يجب أن يعتقد في هذا المقام، وبيان صحة موقف الدولة فيما فعلت؛ لأن أناسا كثيرين التبس عليهم الأمر في هذه الحالة، وشكوا في حكم الواقع وجوازه بسبب الضرورة والحاجة الشديدة؛ لأنهم لم يعرفوا الواقع كما ينبغي، ولعظم خطر هذا الظالم الملحد - أعني حاكم العراق - صدام حسين.
ولهذا اشتبه عليهم هذا الأمر، وظنوا واعتقدوا صحة ما(18/226)
فعله لجهلهم، ولالتباس الأمر عليهم، وظنهم أنه مسلم يدعو إلى الإسلام بسبب نفاقه وكذبه.
وربما كان بعضهم مأجورا من حاكم العراق، فتكلم بالباطل والحقد؛ لأنه شريك له في الظلم، وبعضهم جهل الأمر وجهل الحقيقة وتكلم بما تكلم به أولئك الظالمون، جهلا منه بالحقيقة، والتبست عليه الأمور.
هذا هو الواقع، وهو أن هذا الظالم اعتدى وظلم، وأصر على عدوانه ولم يفئ إلى ترك الظلم. والله سبحانه قد أمرنا أن نقاتل الفئة الظالمة ولو كانت مؤمنة، حتى تفيء إلى أمر الله، فكيف إذا كانت الفئة الباغية كافرة ملحدة، فهي أولى بالقتال، وكفها عن الظلم ونصر الفئة المظلومة المبغي عليها بما يستطيعه المسلمون من أسباب النصر والردع للظالم.
وقد حاول معه الناس ستة أشهر، وطلبوا منه أن يراجع نفسه ويخرج من الكويت، ويرجع عن ظلمه وبغيه، فأبى، فلم يبق إلا الحرب، ودعت الضرورة إلى الاستعانة بمن هو أقوى من المبغي عليه، على حرب هذا العدو الغاشم حتى تجتمع القوى في حربه وإخراجه.
نسأل الله أن يقضي عليه، ويرد كيده في نحره، وأن يدير عليه دائرة السوء، وأن يكفي المسلمين شره وشر غيره، وأن ينصرهم على أعدائهم وأن يصلح حالهم، وأن يمنحهم الاستقامة(18/227)
على دينه إنه سميع قريب.
ومن الواجب على الجميع الاتعاظ بهذه الفتن والاستفادة منها في إصلاح أحوالنا، والاستقامة على طاعة الله ورسوله، وأن نحاسب أنفسنا حتى نستقيم على الحق، وندع ما سواه، فالله سبحانه يجعل البلايا عظة وعبرة لمن يشاء، كما قال جل وعلا: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (1) وقال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2)
كما نسأل الله سبحانه أن يجعل في هذه الحرب خيرا لنا، وأن يجعل عاقبتها حميدة.
ويجب أن لا ننسى ما حدث للنبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة يوم الأحزاب وهم خير الناس، فقد تجمعت عليهم الأحزاب الكافرة، وجاءتهم من فوقهم ومن أسفل منهم بقوة قوامها عشرة آلاف مقاتل، وحاصروا المدينة، وقال أهل النفاق: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (3) هكذا ذكر الله عنهم سبحانه في سورة الأحزاب في قوله عز وجل:
__________
(1) سورة النساء الآية 19
(2) سورة البقرة الآية 216
(3) سورة الأحزاب الآية 12(18/228)
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (1) حتى نصر الله نبيه، وأرسل الرياح التي أكفأت قدورهم، وقلعت خيامهم، وشردتهم كل مشرد، فرجعوا خائبين، والحمد لله بعد الشدة العظيمة التي وقعت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -.
وهكذا يوم أحد حين تجمع الكفار، وأغاروا على المدينة، وحاصروها، وجرى ما جرى من جروح وقتل لمن قتل من الصحابة حتى أنزل الله نصره وتأييده، وسلم الله المسلمين وأدار على أعدائه دائرة السوء، ورجعوا إلى مكة صاغرين، وأنجى الله نبيه بعدما قتل سبعون من الصحابة، وجرح النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة كثيرة من أصحابه، واجتهد المشركون في قتله فوقاه الله شرهم.
ولما استنكر المسلمون هذا الحدث، قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} (2) يعني (يوم بدر) {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} (3)
ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو والمسلمون أصابهم ما أصابهم يوم أحد بسبب أمر فعله الرماة الذين أمرهم
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 12
(2) سورة آل عمران الآية 165
(3) سورة آل عمران الآية 165(18/229)
النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمسكوا ثغرا، وهو جبل الرماة، ولا يتركوه حتى لا يدخل منه جيش العدو، فلما رأى الرماة أن العدو قد انكشف وانهزم ظنوا أنها الفيصلة، فتركوا الثغر وصاروا يجمعون الغنيمة، وتركوا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم- فدخل العدو من ذلك الثغر، وحصل ما حصل من الهزيمة والمصيبة العظيمة على المسلمين، فأنزل الله قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} (1) يعني: تقتلونهم {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} (2) أي: من الهزيمة للعدو، يعني بذلك الرماة، فشلوا، وتنازعوا، وتركوا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم- فلم يصبروا عندما وقع منهم هذا سلط الله عليهم العدو، وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3) فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يصيبهم مثل هذه الهزيمة والقتل والجراح بسبب ما وقع من بعضهم من الذنوب فكيف بحالنا؟
فالواجب على أهل الإسلام أينما كانوا أن يحاسبوا
__________
(1) سورة آل عمران الآية 152
(2) سورة آل عمران الآية 152
(3) سورة آل عمران الآية 165(18/230)
أنفسهم، وأن يجاهدوها في الله ويتفقدوا عيوبهم، ويتوبوا إلى الله منها، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (1)
والمعنى: انظروا ما قدمتم للآخرة، فإن كنتم قدمتم أعمالا خيرة فاحمدوا الله عليها واسألوه الثبات، وإن كنتم قدمتم أعمالا سيئة فتوبوا إلى الله منها، وارجعوا إلى الحق والصواب.
فالواجب على أهل الإيمان أينما كانوا أن يتقوا الله دائما، ويحاسبوا أنفسهم دائما، ولا سيما وقت الشدائد وعند المحن، كحالنا اليوم، يجب الرجوع إلى الله، والتوبة إليه وحساب النفس وجهادها لله، وما سلط علينا هذا العدو إلا بذنوبنا، فلا بد من جهاد النفس، ولا بد من الضراعة إلى الله، وسؤال الله سبحانه وتعالى أن ينصرنا على عدونا، وأن يذل عدونا، وأن يكفينا شره وشر أنفسنا وشر الشيطان.
لا بد من الضراعة إلى الله، وسؤاله التأييد، كما قال تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} (2) فلا بد من العودة إلى الله، وسؤاله جل وعلا النصر.
__________
(1) سورة الحشر الآية 18
(2) سورة الأنعام الآية 43(18/231)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر ليلة الواقعة قام يناجي ربه، ويدعوه ويبكي، ويسأل ربه النصر، حتى جاءه الصديق رضي الله عنه بعدما سقط رداؤه وقال: (حسبك يا رسول الله إن الله ناصرك إن الله مؤيدك) ، فإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل الناس وسيد ولد آدم يتضرع إلى الله فكيف بحالنا ونحن في أشد الضرورة إلى التوبة إلى الله، وإلى البكاء من خشيته، وإلى طلب النصر منه سبحانه وتعالى في ليلنا ونهارنا.
فالغفلة شرها عظيم، والمعاصي خطرها كبير، فالواجب الإقلاع عنها والتوبة إلى الله سبحانه، فالذي عنده تساهل في الصلاة يجب أن يحافظ عليها ويبادر إليها ويصلي في الجماعة، والذي يتعامل بالربا يجب أن يترك ذلك، وأن يتوب إلى الله منه، والذي عنده عقوق لوالديه يتقي الله ويبر والديه، والقاطع لأرحامه يتقي الله ويصل أرحامه، والذي يشرب المسكر يتقي الله ويقلع عن ذلك، ويتوب إلى الله، والذي يغتاب الناس يحذر ذلك ويحفظ لسانه ويتقي الله.
وهكذا يحاسب كل إنسان نفسه في كل عيوبه ويتقي الله. وهكذا الموظف المقصر في وظيفته وفي أمانته يتقي الله، ويؤدي حق الله وحق عباده، وهكذا الرؤساء كل واحد منهم، سواء كان ملكا أو رئيس جمهورية أو وزيرا، كل واحد منهم(18/232)
عليه أن يحاسب نفسه لله، ويجاهدها لله، ويتوب إلى الله سبحانه من سيئ عمله. وهكذا كل موظف، وكل جندي، عليه أن يجاهد نفسه ويطيع الله ورسوله، ويطيع رئيسه في المعروف، ويتوب إلى الله من سيئات عمله وتقصيره.
وهذا كله من أسباب النصر والعاقبة الحميدة، فلا بد من الصدق مع الله وجهاد النفس والتوبة الصادقة من سائر الذنوب من الرؤساء والمرءوسين.
ولا بد من الدعاء والضراعة إلى الله وطلبه النصر والتأييد والعون على العدو، وسؤال الله أن يخذل العدو ويرد كيده في نحره، ولا بد مع ذلك من الأسباب الحسية، من قوة وجيش وسلاح كما قال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (2) فيجب على أهل الإيمان أن يعدوا العدة المناسبة لجهاد الأعداء بكل ما يستطيعون، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (3) فعلى المسلمين أن يعدوا ما استطاعوا من القوة: من السلاح والرجال والتدريب، فإذا فعلوا ذلك كفاهم الله شر عدوهم وجاءهم النصر من الله، يقول الله سبحانه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (4)
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60
(2) سورة النساء الآية 71
(3) سورة الأنفال الآية 60
(4) سورة البقرة الآية 249(18/233)
ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) ويقول سبحانه وبحمده: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (2)
كما يجب على المسلم أن يلح في الدعاء، ويسأل ربه من خيري الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (3) وقال جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (4) وقال سبحانه: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (5)
فعلينا أن نلح في الدعاء، ولا نستبطئ الإجابة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح، يقول - صلى الله عليه وسلم - «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت ودعوت فلم أره يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء (6) » .
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة آل عمران الآية 120
(3) سورة غافر الآية 60
(4) سورة البقرة الآية 186
(5) سورة النساء الآية 32
(6) صحيح البخاري الدعوات (6340) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2735) ، سنن الترمذي الدعوات (3387) ، سنن أبو داود الصلاة (1484) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3853) ، مسند أحمد بن حنبل (2/487) ، موطأ مالك النداء للصلاة (495) .(18/234)
فلا ينبغي للمؤمن أن يدع الدعاء وإن تأخرت الإجابة، فالله حكيم عليم، في تأخير الإجابة يؤخرها سبحانه لحكم بالغة، حتى يتفطن الإنسان لأسباب التأخير، ويحاسب نفسه، ويجتهد في أسباب القبول؛ من التوبة النصوح والعناية بالمكسب الحلال، وإقبال القلب على الله وجمعه عليه سبحانه حين الدعاء، إلى غير ذلك من الفوائد العظيمة والنتائج المفيدة.
فلو أن كل إنسان يعطى الإجابة في الحال لفاتت هذه المصالح العظيمة. ومما يوضح ما ذكرت أن نبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام طلب من ربه أن يجمع بينه وبين ولده يوسف، فتأخرت الإجابة مدة طويلة، ومكث يوسف في السجن بضع سنين، والداعي نبي كريم، هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم الصلاة والسلام.
فعلم بذلك أن الله سبحانه له حكم عظيمة في تأخير الإجابة وتعجيلها. وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما أن تعجل له دعوته في الدنيا وإما أن تدخر له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها، فقال الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله إذا نكثر، قال: الله أكثر (1) » (2) . رواه الإمام أحمد في مسنده.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/18) .
(2) رواه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه برقم 10749.(18/235)
والمقصود أن المشروع للمسلم عندما تتأخر الإجابة أن يتأمل، ما هي الأسباب، لماذا تأخرت الإجابة؟ لماذا سلط علينا العدو؟ لماذا هذا البلاء؟
يتأمل ويحاسب نفسه ويجاهدها حتى تحصل له البصيرة بعيوب نفسه، وحتى يعالجها بالعلاج الشرعي. والدولة تعالج نقصها، والشخص يعالج نقصه ويداويه، كل داء له دواء، كما قال ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم- ودواء الذنوب التوبة إلى الله سبحانه، والاستقامة على طاعته، هذا هو دواء الذنوب.
فالواجب على كل إنسان أن يعالج ذنبه ومعصيته بالتوبة النصوح ويحاسب نفسه، ويعلم أن ربه سبحانه ليس بظلام للعبيد.
فالله سبحانه لم يظلمك بل أنت الظالم لنفسك، تأمل وحاسب نفسك، وجاهدها، وهذا الحاكم الظالم، أعني حاكم العراق صدام حسين يرمي السعودية بالصواريخ، فماذا فعلت معه السعودية؟ لقد ساعدته مساعدة عظيمة على عدوه، ساعدته بالمساعدات التي ذكرها صدام في كتابه لخادم الحرمين الشريفين. وذكر أشياء كثيرة من المساعدات وأخفى الكثير.
والمطلوب منه الآن الخروج من الكويت وسحب جيشه منها، وبعد ذلك يحصل التفاوض في بقية المشاكل، فهل هذا(18/236)
هو جزاء الإحسان للكويت بأن يخرجهم من ديارهم وقد أحسنوا إليه كثيرا؟ وهل جزاء ما عملت السعودية أن يضربها بالصواريخ ويحشد جيوشه على حدودها؟ هذا هو جزاء المحسن عند صدام حسين، والله يقول سبحانه: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (1) لقد أحسنت إليه السعودية عند الملمات، وواسته عند الشدائد، والكويت كذلك، ودول الخليج كذلك، كلهم ساعدوه ومدوه بما يستطيعون، ثم كانت هذه هي العاقبة من اللئيم الغشوم، لقد طلبوا منه أن يخرج من الكويت، وأن يسحب جيوشه منها، ثم يكون بعد ذلك التفاوض والنظر في المشاكل التي بينه وبين الكويت، وحلها بالوسائل السلمية.
لكنه من خبثه وظلمه يحث أنصاره وأذنابه على أن يؤذوا الناس في البلدان الأخرى، ثم من تدليسه ونفاقه وخبثه يضرب اليهود الآن حتى يفرق الجمع الموجود وحتى يرفع عنه الحصار الآن الذي وقع.
لماذا ترك اليهود قبل الكويت، ويضربها الآن، كان ينبغي له أن يضرب اليهود؛ لأنهم هم العدو، بدل أن يضرب جيرانه ومن أحسن إليه.
لكن خبثه وظلمه وغشمه ونفاقه ومكره- حمله على أن
__________
(1) سورة الرحمن الآية 60(18/237)
يضرب اليهود الآن، حتى يفرق هؤلاء المجتمعين لحربه، وحتى يخرج من هذا الحصار المحيط به، ولكنها لم ترد عليه، حتى يظل هذا الحصار، وحتى يقضي الله فيه أمره سبحانه وتعالى، وحتى يخيب الله آماله، ويرد كيده في نحره، بحوله وقوته سبحانه.
نسأل الله أن يرد كيده في نحره، وأن يستجيب دعوات المسلمين ضده، فهو ظالم ملبس مخادع منافق، يجمع كل شر وكل حيلة، وكل بلاء للخداع والظلم والعدوان.
ولكن نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يقضي عليه، وأن يدير عليه دائرة السوء، وأن يخذل الله أنصاره وأعوانه، وأن يرد من هو حائر في أمره إلى البصيرة والهدى، وأن يقضي على أنصاره الظالمين المعتدين، وأن يهلكهم معه، ويسلط عليهم جندا من عنده إنه جواد كريم.
كما نسأله سبحانه أن ينصر المسلمين عليه وحزبه، وأن ينصر من نصر المسلمين عليه وعلى أعوانه حتى يقضي الله على هذا الظالم، وحتى يخرجه من الكويت صاغرا ذليلا.
كما نسأل الله سبحانه أن يولي على العراق رجلا صالحا يخلف الله ويراقبه ويحكم في العراقيين شريعة الله، ويبسط فيهم العدل والإحسان.
وعلينا أيها الإخوة، وعلى كل مسلم في كل مكان، أن(18/238)
نتقي الله سبحانه، وأن نستقيم على دينه، وأن نجاهد أنفسنا في ذلك، مع سؤاله سبحانه النصر المعجل لأوليائه وأهل طاعته المظلومين، وأن يكبت هذا المعتدي، وأن يسلط عليه جندا من عنده، وأن يقضي عليه، وأن يولي على العراق من يخلف الله فيهم، ويحسن إليهم ويحكم فيهم بشرع الله، إنه جل وعلا جواد كريم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد عبد الله ورسوله وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.(18/239)
أسئلة وأجوبة بعد المحاضرة
س1 يقول بعض الناس الذين يشككون في فتوى هيئة كبار العلماء بشأن الاستعانة بغير المسلمين في الدفاع عن بلاد المسلمين وقتال حاكم العراق - بعدم وجود الأدلة القوية التي تدعمها. فما تعليق سماحتكم على ذلك؟
جـ: قد بينا ذلك فيما سبق وفي مقالات عديدة، وبينا أن الرب جل وعلا أوضح في كتابه العظيم: أنه سبحانه أباح لعباده المؤمنين إذا اضطروا إلى ما حرم عليهم أن يفعلوه، كما(18/239)
قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) ولما حرم الميتة والدم والخنزير والمنخنفة والموقوذة وغيرها قال في آخر الآية: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2)
والمقصود أن الدولة في هذه الحالة قد اضطرت إلى أن تستعين ببعض الدول الكافرة على هذا الظالم الغاشم؛ لأن خطره كبير، ولأن له أعوانا آخرين، لو انتصر لظهروا وعظم شرهم، فلهذا رأت الحكومة السعودية وبقية دول الخليج أنه لا بد من دول قوية تقابل هذا العدو الملحد الظالم، وتعين على صده وكف شره وإزالة ظلمه.
وهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية لما تأملوا هذا ونظروا فيه، وعرفوا الحال بينوا أن هذا أمر سائغ، وأن الواجب استعمال ما يدفع الضرر، ولا يجوز التأخر في ذلك، بل يجب فورا استعمال ما يدفع الضرر عن المسلمين، ولو بالاستعانة بطائفة من المشركين فيما يتعلق بصد العدوان وإزالة الظلم، وهم جاءوا لذلك وما جاءوا ليستحلوا البلاد، ولا ليأخذوها، بل جاءوا لصد العدوان وإزالة الظلم ثم يرجعون إلى بلادهم، وهم الآن يتحرون المواضع التي يستعين بها العدو، وما يتعمدون قتل الأبرياء، ولا قتل
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119
(2) سورة المائدة الآية 3(18/240)
المدنيين، وإنما يريدون قتل الظالمين المعتدين وإفساد مخططهم والقضاء على سبل إمدادهم وقوتهم في الحرب.
ولكن بعض المرجفين المغرضين يكذب على الناس، ويقول: إنهم حاصروا الحرمين، وأنهم فعلوا، وأنهم تركوا، كل هذا من ترويج الباطل والتشويش على الناس لحقد في قلوب بعض الناس، أو لجهل من بعضهم وعدم بصيرة، أو لأنه مستأجر من حاكم العراق ليشوش على الناس.
والناس أقسام: منهم من جهل الحقائق والتبست عليه الأمور، ومنهم من هو جاهل لا يعرف الأحكام الشرعية، ومنهم من هو مستأجر من الطغاة الظلمة ليشوش على الناس، ويلبس عليهم الحق، والله المستعان.(18/241)
س 2: تقوم بعض الجهات المختصة، بتوجيه الناس لفعل بعض الأمور لتلافي أخطار الغازات السامة، والغازات الجوية الضارة، فهل على المسلم من حرج في اتباع تلك التعليمات؟
جـ: المسلم مأمور بأخذ الحذر واتباع التعليمات التي تقي الشر، قال تعالى:(18/241)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (1) فالمؤمن إذا أخذ بالأسباب النافعة والواقية بإذن الله من الشر، لا بأس عليه، كأن يستعمل الكمامات التي تمنع من وصول الغازات السامة إليه، وغيرها من أسباب الوقاية عند الحاجة إلى ذلك، وكحمل السلاح إذا صال عليه صائل ليصد هذا الصائل، وكما يقتل الحية والعقرب في الصلاة وغيرها لدفع شرهما.
فالإنسان مأمور بالأسباب النافعة، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (2) وكما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (3) وكما في آية صلاة الخوف من الأمر بالتهيؤ بالسلاح. وهو قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} (4) الآية.
__________
(1) سورة النساء الآية 71
(2) سورة الأنفال الآية 60
(3) سورة النساء الآية 71
(4) سورة النساء الآية 102(18/242)
س 3: معلوم أن هناك جيوشا غير إسلامية تقاتل حاكم العراق معنا، فهل قتالنا معهم تحت راية واحدة يعتبر جهادا؟ ومن قتل منا هل يعتبر شهيدا؟(18/242)
جـ: المجاهد في هذا السبيل إن أصلح الله نيته وهو يجاهد لدفع الظلم ونفع المسلمين فهو مجاهد في سبيل الله، وهو شهيد إن قتل.
وهذه الجيوش ليست تحت راية الكفرة، بل كل جيش تحت قيادة قائده؛ فالجيوش السعودية تحت قائدها خالد بن سلطان، وتحت القائد الأعلى خادم الحرمين الشريفين، والجيوش المصرية تحت قائدها المصري، والجيوش السورية تحت قائدها السوري، والجيوش الإنجليزية تحت قائدها الإنجليزي، وهكذا، ولكن بينهم اتفاق على التنظيم، لا بد منه، والله تعالى يقول: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (1) فلا بد من التنظيم والتعاون بين الجميع حتى لا يحدث الفشل، وحتى لا يطمع العدو.
والنبي - صلى الله عليه وسلم- جاءه رجل وسأله قائلا «إذا جاءني رجل يريد مالي؟ قال: لا تعطه مالك، قال: فإن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: فإن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: فإن قتلته؟ قال: هو في النار (2) » . أخرجه مسلم في صحيحه.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 46
(2) رواه مسلم في الإيمان باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه برقم 140.(18/243)
فإذا كان هذا في إنسان يدافع عن ماله، فكيف فيمن يدافع عن دينه وعن إخوانه المسلمين وعن حرماته، والرسول - صلى الله عليه وسلم- يقول: «من قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد (1) » (2) .
وأنت أيها المسلم المجاهد في هذه الحرب، إن أصلح الله نيتك، تقاتل عن دين الإسلام وعن نفوس المسلمين وأموالهم وبلادهم، وعن عامة المسلمين وحرماتهم، وتصد عنهم عدوا ملحدا، أكفر من اليهود والنصارى، وتجاهد لإزالة ظلمه ودفع شره، فالأمر عظيم، والجهاد من أهم الواجبات في هذا السبيل، والمقاتل مع صدام متوعد بالنار؛ لأنه أعانه على الظلم والعدوان، ويخشى أن يكون كافرا إذا وافقه على بعثيته وإلحاده، أو استحل قتل المسلمين، فالمقصود أنه شريك له في الظلم والعدوان، وفي كفره تفصيل، وهو متوعد بالنار حتى لو كان من المسلمين لقتاله مع الظالمين لإخوانه المسلمين وإخوانه المظلومين.
__________
(1) سنن الترمذي الديات (1421) .
(2) رواه الترمذي في الديات باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد برقم 1421.(18/244)
أما المقاتل المسلم الذي هو ضد الظالم فهو على خير عظيم، إن قتل فهو شهيد، وإن أسر أو جرح فهو مأجور. وبكل حال فله أجر المجاهدين سلم أو قتل، إذا أصلح الله نيته.(18/245)
س4: يشكك كثير من الناس في أن القتال ضد صدام من الجهاد في سبيل الله، بل هو من أجل المصالح المادية من نفط وأرض، ولو أن المسلمين قاموا بقتل اليهود لما وقفت معهم دول التحالف.
فاليهود قد ظلموا واعتدوا على أرض المسلمين كما فعل حاكم العراق أهلكه الله، ومع هذا لم يسترد الحق إلى أهله منذ أربعين سنة وحتى الآن. نرجو من سماحتكم توضيح هذا الأمر
جـ: اليهود لهم حالة أخرى: اعتدوا على أرض فلسطين، والواجب على المسلمين جهادهم حتى يخرجوهم من بلاد المسلمين، وحتى ينتصر إخواننا الفلسطينيون عليهم، ويقيموا دولتهم الإسلامية على أرضهم، وهذا لا شك في(18/245)
وجوبه على الدول الإسلامية حسب الطاقة، ولكن لا يجوز إقحام هذا في هذا، فعدم قيام الدول الإسلامية بجهاد اليهود في الوقت الحاضر جهادا مباشرا لا يبيح لصدام قتال المسلمين في الجزيرة العربية ولا في الكويت ولا غيرها، ولا يبيح لأحد من المسلمين أن يعينه على ذلك، ولا يجوز للدول الإسلامية أن تمكنه من عدوانه وظلمه، بل يجب صده وكف عدوانه وإزالة ظلمه عن المسلمين بكل ما يستطاع من القوة عملا بقول الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (1) وقوله سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (2) الآية.
فإذا كانت الفئة الباغية المؤمنة يجب قتالها حتى تفيء إلى أمر الله وترجع عن ظلمها، فقتال الفئة الكافرة الباغية مثل صدام وأتباعه البعثيين وغيرهم أولى بالقتال حتى يفيئوا إلى الحق، ويرجعوا عن الظلم.
وبما ذكرنا يعلم أن اليهود لهم شأن آخر، وقتالهم واجب مستقل. وعدوان هذا الظالم على الكويت عدوان مستقل يجب
__________
(1) سورة الأنفال الآية 39
(2) سورة الحجرات الآية 9(18/246)
أن يصد ويقاتل أولا، ويتخلص منه.
ولا يجوز أن يكون تقصير المسلمين في الجهاد مع الفلسطينيين ضد اليهود مسوغا لخذلانهم في جهاد عدو الله صدام الذي هو أكفر من اليهود والنصارى، وأضل منهم. وقد اعتدى على شعب آمن ثم عزم على الاعتداء على بقية دول الخليج، ونواياه الخبيثة معلومة، وشر معلوم، وقتاله متعين. فإذا صدقت العزائم، وهدى الله الجميع وأعانهم سبحانه على قتال صدام وجنده، وصدوهم عن عدوانهم واستنقذوا الكويت من أيديهم، ففي إمكانهم إن شاء الله أن يجاهدوا اليهود ويستنقذوا القدس من أيديهم، وذلك جهاد آخر وواجب آخر.
كما أنه يجب على المسلمين أن يجاهدوا غير اليهود من الكفرة، إذا استطاعوا ذلك حتى يدخلوا في دين الله أفواجا، أو يؤدوا الجزية إن كانوا من أهلها، كما قال الله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (1) وقال سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2) فالمسلمون عليهم أن
__________
(1) سورة البقرة الآية 193
(2) سورة التوبة الآية 29(18/247)
يقاتلوا الكفرة جميعا، حتى يكون الدين كله لله، إلا من أدى الجزية من أهل الجزية، فإذا عجزوا عن ذلك فإنهم لا يلامون إذا قاتلوا من تعدى عليهم دون غيرهم؛ لقول الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1)
فاليهود قد تعدوا على فلسطين فعلى المسلمين أن يقاتلوا مع الفلسطينيين ضدهم، وتعدي صدام على الكويت وحشد الجيوش على السعودية بعدوان جديد من ظالم عنيد ملحد، أكفر من اليهود والنصارى والعياذ بالله، فيجب صده وقتاله؛ لأن الشيوعيين والبعثيين أكفر من أهل الكتاب. كفى الله المسلمين شرهم جميعا.
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(18/248)
س هـ: هل يتعين على جميع المسلمين الوقوف مع المملكة ومقاتلة هذا الظالم الباغي؟
جـ: هذا اعتقادنا، فكما يجب عليهم أن يقاتلوا اليهود حسب الطاقة، فكذلك يجب عليهم أن يقاتلوا صدام حسب الطاقة من باب أولى، وأن يكونوا مع الحق ضد الظالم في كل زمان ومكان. هذا واجبهم جميعا حسب الطاقة والقدرة؛ لأن(18/248)
في ذلك نصرا للمظلوم وردعا للظالم، والله جل وعلا أمر بذلك وأذن فيه في قوله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (1) الآية، كما سبق وفي قوله جل وعلا: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} (2) {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) والرسول - صلى الله عليه وسلم- أمر بذلك في قوله- صلى الله عليه وسلم-: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قيل: يا رسول الله نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تحجزه عن الظلم، فذلك نصرك إياه (4) » .
فإذا كان المسلم الظالم يجب أن يردع عن ظلمه، فالكافر الظالم أولى بذلك بكفره وظلمه مثل حاكم العراق وأشباهه من الملاحدة الظلمة.
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2) سورة الشورى الآية 41
(3) سورة الشورى الآية 42
(4) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .(18/249)
س6: هل يجوز لعن حاكم العراق؟ ؛ لأن بعض الناس يقولون: إنه ما دام ينطق بالشهادتين نتوقف في لعنه، وهل يجزم بأنه كافر؟ وما رأي سماحتكم في رأي من يقول بأنه كافر؟(18/249)
جـ: هو كافر وإن قال: لا إله إلا الله، حتى ولو صلى وصام، ما دام لم يتبرأ من مبادئ البعثية الإلحادية، ويعلن أنه تاب إلى الله منها وما تدعو إليه، ذلك أن البعثية كفر وضلال، فما لم يعلن هذا فهو كافر. كما أن عبد الله بن أبي كافر وهو يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم- ويقول: لا إله إلا الله ويشهد أن محمدا رسول الله، وهو من أكفر الناس، وما نفعه ذلك لكفره ونفاقه، فالذين يقولون لا إله إلا الله من أصحاب المعتقدات الكفرية كالبعثيين والشيوعيين وغيرهم ويصلون لمقاصد دنيوية، فهذا لا يخلصهم من كفرهم؛ لأنه نفاق منهم، ومعلوم عقاب المنافقين الشديد كما جاء في كتاب الله جل وعلا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (1) وصدام بدعواه الإسلام أو دعواه الجهاد أو قوله أنا مؤمن، كل هذا لا يغني عنه شيئا، ولا يخرجه من النفاق، ولكي يعتبر من يدعي الإسلام مؤمنا حقيقيا فلا بد من التصريح بالتوبة مما كان يعتقده سابقا، ويؤكد هذا بالعمل، لقول الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (2) فالتوبة الكلامية، والإصلاح الفعلي، لا بد معه من بيان، وإلا فلا
__________
(1) سورة النساء الآية 145
(2) سورة البقرة الآية 160(18/250)
يكون المدعي صادقا، فإذا كان صادقا في التوبة فليتبرأ من البعثية وليخرج من الكويت ويرد المظالم على أهلها، ويعلن توبته من البعثية وأن مبادئها كفر وضلال، وأن على البعثيين أن يرجعوا إلى الله ويتوبوا إليه، ويعتنقوا الإسلام، ويتمسكوا بمبادئه قولا وعملا ظاهرا وباطنا، ويستقيموا على دين الله، ويؤمنوا بالله ورسوله، ويؤمنوا بالآخرة إن كانوا صادقين.
أما البهرج والنفاق فلا يصلح عند الله ولا عند المؤمنين. يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (1) ويقول جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (2) {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (3) {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (4) {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (5) {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} (6) {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} (7)
هذه حال صدام وأشباهه ممن يعلن الإسلام نفاقا وخداعا، وهو يذيق المسلمين أنواع الأذى والظلم، ويقيم على عقيدته الإلحادية البعثية.
__________
(1) سورة النساء الآية 145
(2) سورة البقرة الآية 8
(3) سورة البقرة الآية 9
(4) سورة البقرة الآية 10
(5) سورة البقرة الآية 11
(6) سورة البقرة الآية 12
(7) سورة البقرة الآية 13(18/251)
س 7: هل يعتبر عمل المتطوعين في التعاون مع رجال الأمن من الرباط، أم لا؟
ج: عمل المتطوعين في كل بلد ضد الفساد مع رجال الأمن يعتبر من الجهاد في سبيل الله لمن أصلح الله نيته، وهو من الرباط في سبيل الله؛ لأن الرباط هو لزوم الثغور ضد الأعداء، وإذا كان العدو قد يكون في الباطن واحتاج المسلمون أن يتكاتفوا مع رجال الأمن ضد العدو الذي يخشى أن يكون في الباطن، يرجى لهم أن يكونوا مرابطين، ولهم أجر المرابط لحماية البلاد من مكائد الأعداء الداخليين.
وهكذا التعاون مع رجال الهيئة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يعتبر من الجهاد في سبيل الله في حق من صلحت نيته؛ لقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1)
وقول النبي- صلى الله عليه وسلم - «ما بعث الله من نبي في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 69(18/252)
يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (1) » (2) رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه-.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (50) ، مسند أحمد بن حنبل (1/458) .
(2) رواه مسلم في الإيمان باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 50.(18/253)
س 8: يسأل بعض الأطباء والعاملين في النفط، هل إذا أخلصوا النية، وأنهم يقومون بعملهم من أجل الله تعالى، وحدث أن قتلوا بالصواريخ التي يطلقها حاكم العراق، هل يعتبروا من الشهداء؟
جـ8: إذا كانوا مسلمين فهم شهداء إذا ضربوا بالصواريخ أو غيرها مما يقتلهم، حكمهم حكم الشهداء، وهكذا كل مسلم يقتل مظلوما في أي مكان؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: «من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد (1) » (2) ، ولما ثبت في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله
__________
(1) سنن الترمذي الديات (1421) .
(2) رواه الترمذي في الديات باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد برقم 1421.(18/253)
عليه وسلم-: أنه أتاه رجل فقال «يا رسول الله يأتيني الرجل يريد مالي فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا تعطه مالك، فقال الرجل: يا رسول الله فإن قاتلني؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: قاتله، فقال الرجل: يا رسول الله فإن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال الرجل فإن قتلته؟ قال- صلى الله عليه وسلم - هو في النار (1) » .
وهذا حديث عظيم يدل على أن من قتل من المسلمين مظلوما فهو شهيد. فلله الحمد والمنة على ذلك.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (140) .(18/254)
س 14: أفادكم الله: نرجو إخبارنا عن غزوة الخندق، وهل هي مشابهة لما نحن فيه الآن؟
جـ14: غزوة الخندق محنة عظيمة امتحن الله بها المسلمين وأقام بها الحجة على الكافرين، ونصر بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعباده المؤمنين، فقد اجتمع فيها أحزاب الكفار وغزوا المدينة، ولذلك تسمى غزوة الأحزاب، والرسول - صلى(18/254)
الله عليه وسلم - حفر خندقا حول المدينة، وأشار عليه بهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه. وصار هذا الخندق بينه وبين الأعداء، ونفع الله به كثيرا، وبقي الكفار محاصرين المدينة نحو شهر، وفي هذه الغزوة أنزل الله تعالى قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (1) {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (2) {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (3) {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (4)
هكذا ظهر النفاق والعياذ بالله، فالمشركون تجمعوا لمحاربة رسول الله، ويقال لها غزوة الأحزاب؛ لأن قريشا جمعت أحزابا كثيرة من غطفان وغير غطفان ومن الأحابيش وغيرهم، حتى قال أصحاب السير إنهم عشرة آلاف قصدوا المدينة للقضاء على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولكن الله خيب ظنهم، وردهم خائبين خاسئين، والحمد لله، وأنزل الله عليهم جنودا لم يروهم من الملائكة، وأرسل عليهم ريحا زلزلهم الله جل وعلا بها، وشتت شملهم، وردهم خائبين، سبحانه وتعالى.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 9
(2) سورة الأحزاب الآية 10
(3) سورة الأحزاب الآية 11
(4) سورة الأحزاب الآية 12(18/255)
وقد بلغت الشدة مع المسلمين أمرا عظيما، وظهر النفاق، وقال المنافقون: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (1) يعني: ما وعدنا الله من النصر إلا غرورا.
هذا ظن الكافرين والمنافقين أعاذنا الله من شرهم، وليست غزوة الخندق مشابهة لحوادث الساعة من كل الوجوه، بل هي أعظم وأشد بالنسبة إلى غير أهل الكويت، أما مصيبة الكويت فهي أشد؛ لكونهم أخرجوا من بلادهم ونهبت أموالهم وسفكت دماء الكثير منهم، عامل الله من ظلمهم بما يستحق، وأدار عليه دائرة السوء إنه سميع قريب.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 12(18/256)
س 15: إنني أحب الجهاد وقد امتزج حبه في قلبي. ولا أستطيع أن أصبر عنه، وقد استأذنت والدتي فلم توافق، ولذا تأثرت كثيرا ولا أستطيع أن أبتعد عن الجهاد.
سماحة الشيخ: إن أمنيتي في الحياة هي الجهاد في سبيل الله وأن أقتل في سبيله وأمي لا توافق. دلني جزاك الله خيرا على الطريق المناسب.
جـ: جهادك في أمك جهاد عظيم، الزم أمك وأحسن(18/256)
إليها، إلا إذا أمرك ولي الأمر بالجهاد فبادر؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وإذا استنفرتم فانفروا (1) » .
وما دام ولي الأمر لم يأمرك فأحسن إلى أمك، وارحمها، واعلم أن برها من الجهاد العظيم، قدمه النبي - صلى الله عليه وسلم - على الجهاد في سبيل الله، كما جاء بذلك الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه قيل له: «يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله (2) » . متفق على صحته. فقدم برهما على الجهاد.
وجاء رجل يستأذنه قال: «يا رسول الله أحب أن أجاهد معك فقال له - صلى الله عليه وسلم - أحي والداك؟ قال: نعم، قال ففيهما فجاهد (3) » . متفق على صحته.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1834) ، صحيح مسلم الحج (1353) ، سنن الترمذي السير (1590) ، سنن أبو داود الجهاد (2480) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2773) ، مسند أحمد بن حنبل (1/316) .
(2) رواه البخاري في مواقيت الصلاة باب فضل الصلاة لوقتها برقم 527، ومسلم في الإيمان باب بيان كون الإيمان بالله أفضل الأعمال برقم 85.
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (3004) ، سنن الترمذي الجهاد (1671) ، سنن النسائي الجهاد (3103) ، سنن أبو داود الجهاد (2529) ، مسند أحمد بن حنبل (2/193) .(18/257)
وفي رواية أخرى قال - صلى الله عليه وسلم - «ارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك وإلا فبرهما (1) » (2) فهذه الوالدة ارحمها وأحسن إليها حتى تسمح لك، وهذا كله في جهاد الطلب، وفيما إذا لم يأمرك ولي الأمر بالنفير، وأما إذا نزل البلاء بك فدافع عن نفسك وعن إخوانك في الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهكذا إذا أمرك ولي الأمر بالنفير فانفر ولو بغير رضاها؛ لقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (3) {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وإذا استنفرتم فانفروا (5) » متفق على صحته، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
__________
(1) سنن أبو داود الجهاد (2530) ، مسند أحمد بن حنبل (3/76) .
(2) رواه أبو داود في الجهاد باب الرجل يغزو وأبواه كارهان برقم 2530.
(3) سورة التوبة الآية 38
(4) سورة التوبة الآية 39
(5) صحيح البخاري الحج (1834) ، صحيح مسلم الحج (1353) ، سنن الترمذي السير (1590) ، سنن أبو داود الجهاد (2480) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2773) ، مسند أحمد بن حنبل (1/316) .(18/258)
48 - حكم الاستعانة بالكفار في قتال الكفار
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وإمام المتقين، وقائد المجاهدين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد (1) :
فقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكم الاستعانة بالكفار في قتال الكفار على قولين:
أحدهما: المنع من ذلك، واحتجوا على ذلك بما يلي:
أولا: ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها «أن رجلا من المشركين كان معروفا بالجرأة والنجدة، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى بدر في حرة الوبرة، فقال: جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " تؤمن بالله ورسوله " قال: لا، قال: " ارجع فلن أستعين بمشرك " قالت: ثم مضى حتى إذا كنا في الشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال له أول مرة، فقال: " تؤمن بالله ورسوله؟ " قال: لا. قال: " ارجع فلن أستعين بمشرك " ثم لحقه في البيداء فقال مثل قوله، فقال له: " تؤمن بالله ورسوله؟ " قال: نعم، قال: " فانطلق (2) » اهـ.
__________
(1) كلمة لسماحته نشرت في هذا المجموع ج 6 ص 183.
(2) رواه مسلم في (الجهاد والسير) باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر برقم (1817) .(18/259)
ثانيا: واحتجوا أيضا بما رواه الحاكم في صحيحه من حديث يزيد بن هارون: أنبأنا مستلم بن سعيد الواسطي عن خبيب بن عبد الرحمن بن خبيب عن أبيه عن جده خبيب بن يساف، قال: «أتيت أنا ورجل من قومي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزوا. فقلت: يا رسول الله إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم، فقال: " أسلما " فقلنا: لا، قال: " فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين " قال: فأسلمنا وشهدنا معه (1) » . . . الحديث، قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وخبيب صحابي معروف اهـ. ذكره الحافظ الزيلعي في نصب الراية (423) ثم قال: ورواه أحمد، وابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه في مسانيدهم، والطبري في معجمه من طريق ابن أبي شيبة. قال في التنقيح: ومستلم ثقة، وخبيب بن عبد الرحمن أحد الثقات الأثبات. والله أعلم.
ثم قال الزيلعي: حديث آخر: روى إسحاق بن راهويه في (مسنده) أخبرنا الفضل بن موسى عن محمد بن عمرو بن علقمة عن سعيد بن المنذر عن أبي حميد الساعدي قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى إذا خلف ثنية الوداع
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكيين) حديث خبيب رضي الله عنه برقم (15336) .(18/260)
نظر وراءه فإذا كتيبة حسناء، فقال: " من هؤلاء؟ " قالوا: هذا عبد الله بن أبي بن سلول في مواليه من اليهود، وهم رهط عبد الله بن سلام. فقال: " هل أسلموا؟ " قالوا: لا، إنهم على دينهم، قال: "قولوا لهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين (1) » انتهى.
ورواه الواقدي في كتاب المغازي، ولفظه: «فقال: " من هؤلاء؟ " قالوا: يا رسول الله هؤلاء حلفاء ابن أبي من يهود، فقال عليه السلام: " لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك» انتهى.
قال الحازمي في كتاب الناسخ والمنسوخ: وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة فذهب جماعة إلى منع الاستعانة بالمشركين، ومنهم أحمد مطلقا، وتمسكوا بحديث عائشة المتقدم، وقالوا: إن ما يعارضه لا يوازيه في الصحة، فتعذر ادعاء النسخ. وذهبت طائفة إلى أن للإمام أن يأذن للمشركين أن يغزوا معه ويستعين بهم بشرطين:
أحدهما: أن يكون في المسلمين قلة بحيث تدعو الحاجة
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك في (الجهاد) باب إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين برقم (2604) ، وأورده ابن أبي شيبة في المصنف في (كتاب المغازي) باب هذا ما حفظ أبو بكر في أحد وما جاء فيها برقم (35708) .(18/261)
إلى ذلك.
والثاني: أن يكونوا ممن يوثق بهم في أمر المسلمين، ثم أسند إلى الشافعي أن قال: الذي روى مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم رد مشركا أو مشركين، وأبى أن يستعين بمشرك كان في غزوة بدر. ثم إنه عليه السلام استعان في غزوة خيبر بعد بدر بسنتين بيهود من بني قينقاع، واستعان في غزوة حنين سنة ثمان بصفوان بن أمية، وهو مشرك. فالرد الذي في حديث مالك إن كان لأجل أنه مخير في ذلك بين أن يستعين به، وبين أن يرده، كما له رد المسلم لمعنى يخافه، فليس واحد من الحديثين مخالفا للآخر، وإن كان لأجل أنه مشرك فقد نسخه ما بعده من استعانته بالمشركين. ولا بأس أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين إذا خرجوا طوعا، ويرضخ لهم ولا يسهم لهم، ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسهم لهم. قال الشافعي: " ولعله عليه السلام إنما رد المشرك الذي رده في غزوة بدر رجاء إسلامه، قال: وذلك واسع للإمام أن يرد المشرك ويأذن له ". انتهى، وكلام الشافعي كله نقله البيهقي عنه (1) اهـ.
وقال النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم 198، 199 ج 12 ما نصه: " قوله: (عن عائشة رضي الله عنها أن
__________
(1) نصب الراية للزيلعي ج3 ص 423، 424، ط 1، مطبعة دار المأمون.(18/262)
النبي صلى الله عليه وسلم خرج قبل بدر فلما كان بحرة الوبرة) هكذا ضبطناه بفتح الباء، وكذا نقله القاضي عن جميع رواة مسلم، قال: وضبطه بعضهم بإسكانها، وهو موضع على نحو من أربعة أميال من المدينة. قوله صلى الله عليه وسلم: «فارجع فلن أستعين بمشرك (1) » ، وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية قبل إسلامه، فأخذ طائفة من العلماء بالحديث الأول على إطلاقه، وقال الشافعي وآخرون: إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة به استعين به وإلا فيكره، وحمل الحديثين على هذين الحالين، وإذا حضر الكافر بالإذن رضخ له ولا يسهم، والله أعلم " (2) . اهـ.
وقال الوزير ابن هبيرة في كتابه (الإفصاح عن معاني الصحاح) ج 2 ص 281 ما نصه: " واختلفوا: هل يستعان بالمشركين على قتال أهل الحرب أو يعاونون على عدوهم: فقال مالك وأحمد: لا يستعان بهم ولا يعاونون على الإطلاق. واستثنى مالك: إلا أن يكونوا خدما للمسلمين فيجوز. وقال أبو حنيفة: يستعان بهم ويعاونون على الإطلاق، ومتى كان حكم الإسلام هو الغالب الجاري عليهم. فإن كان حكم الشرك هو
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1817) ، سنن الترمذي السير (1558) ، سنن أبو داود الجهاد (2732) .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي ج 12 ص 198، 199، دار الفكر للطباعة 1403 هـ.(18/263)
الغالب كره. وقال الشافعي: يجوز ذلك بشرطين: أحدهما: أن يكون بالمسلمين قلة وبالمشركين كثرة. والثاني: أن يعلم من المشركين حسن رأي في الإسلام وميل إليه، فإن استعين بهم رضخ لهم ولم يسهم لهم. إلا أن أحمد قال في إحدى روايته: يسهم لهم. وقال الشافعي: إن استؤجروا أعطوا من مال لا مالك له بعينه. وقال في موضع آخر: ويرضخ لهم من الغنيمة. قال الوزير: وأرى ذلك مثل الجزية والخراج " (1) . اهـ.
القول الثاني: جواز الاستعانة بالمشركين في قتال المشركين عند الحاجة أو الضرورة. واحتجوا على ذلك بأدلة منها قوله جل وعلا في سورة الأنعام: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (2) الآية، واحتجوا أيضا بما نقله الحازمي عن الشافعي رحمه الله فيما ذكرنا آنفا في حجة أصحاب القول الأول، وسبق قول الحازمى رحمه الله نقلا عن طائفة من أهل العلم أنهم أجازوا ذلك بشرطين:
أحدهما: أن يكون في المسلمين قلة بحيث تدعو الحاجة إلى ذلك.
__________
(1) الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة ج 2 ص 438 ط. 2، المكتبة الحلبية سنة 1366 هـ، 1947م.
(2) سورة الأنعام الآية 119(18/264)
الثاني: أن يكونوا ممن يوثق بهم في أمر المسلمين، وتقدم نقل النووي عن الشافعي أنه أجاز الاستعانة بالمشركين بالشرطين المذكورين وإلا كره. ونقل ذلك أيضا عن الشافعي الوزير ابن هبيرة، كما تقدم.
واحتج القائلون بالجواز أيضا: بما رواه أحمد وأبو داود عن ذي مخمر، قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستصالحون الروم صلحا آمنا وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم فتنصرون وتغنمون (1) » الحديث. ولم يذمهم على ذلك فدل على الجواز، وهو محمول على الحاجة أو الضرورة، كما تقدم.
وقال المجد ابن تيمية في (المحرر في الفقه) ص 171 ج 2 ما نصه: " ولا يستعين بالمشركين إلا لضرورة، وعنه إن قوي جيشه عليهم وعلى العدو ولو كانوا معه ولهم حسن رأي في الإسلام جاز. وإلا فلا " (2) . انتهى.
وقال: الموفق في (المقنع) ج1 ص 492 ما نصه: " ولا يستعين بمشرك إلا عند الحاجة " (3) .
__________
(1) رواه أبو داود في (الملاحم) باب ذكر ما يذكر من ملاحم الروم برقم (4292) .
(2) المحرر في الفقه للمجد ابن تيمية، ج 2 ص 171، مكتبة المعارف الرياض ط. 2، 1404 هـ.
(3) المقنع للموفق ابن قدامة ج1 ص492، ط. المؤسسة السعيدية بالرياض الطبعة الثالثة.(18/265)
وقال في المغني ج 8 ص 414، 415: " (فصل) : ولا يستعان بمشرك، وبهذا قال ابن المنذر والجوزجاني وجماعة من أهل العلم. وعن أحمد ما يدل على جواز الاستعانة به. وكلام الخرقي يدل عليه أيضا عند الحاجة، وهو مذهب الشافعي؛ لحديث الزهري الذي ذكرناه، وخبر صفوان بن أمية. ويشترط أن يكون من يستعان به حسن الرأي في المسلمين، فإن كان غير مأمون عليهم لم تجز الاستعانة به؛ لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين مثل المخذل والمرجف فالكافر أولى.
ووجه الأول ما روت عائشة رضي الله عنها، قالت: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر حتى إذا كان بحرة الوبرة أدركه رجل من المشركين كان يذكر منه جراءة ونجدة، فسر المسلمون به، فقال: يا رسول الله جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتؤمن بالله ورسوله؟ ، قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك، قالت: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالبيداء أدركه ذلك الرجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتؤمن بالله ورسوله؟ ، قال: نعم، قال:(18/266)
فانطلق (1) » . متفق عليه، ورواه الجوزجاني.
وروى الإمام أحمد بإسناده «عن عبد الرحمن بن خبيب، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزوة، أنا ورجل من قومي ولم نسلم، فقلنا: إنا لنستحي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم، قال: "فأسلمتما؟ " قلنا: لا، قال: " فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين (2) » ، ولأنه غير مأمون على المسلمين فأشبه المخذل والمرجف، قال ابن المنذر: والذي ذكر أنه استعان بهم غير ثابت " (3) . اهـ.
وقال الحافظ في التلخيص بعدما ذكر الأحاديث الواردة في جواز الاستعانة بالمشركين والأحاديث المانعة من ذلك ما نصه: ويجمع بينه- يعني حديث عائشة - وبين الذي قبله- يعني حديث صفوان بن أمية، ومرسل الزهري - بأوجه ذكرها المصنف منها. وذكره البيهقي عن نص الشافعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم تفرس فيه الرغبة في الإسلام فرده رجاء أن يسلم فصدق ظنه. وفيه نظر من جهة التنكر في سياق
__________
(1) رواه مسلم في (الجهاد والسير) باب كراهة الاستعانة في الغزو بمشرك برقم (1817) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكيين) حديث خبيب رضي الله عنه برقم (15336) .
(3) المغني لابن قدامة ج 8 ص 414، 415. ط 3 دار المنار 1367 هـ.(18/267)
النفي. ومنها: أن الأمر فيه إلى رأي الإمام. وفيه النظر بعينه. ومنها: أن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رخص فيها وهذا أقربها، وعليه نص الشافعي.
وقال في (الفروع) ج6 ص 205 ما نصه: " ويكره أن يستعين بكافر إلا لضرورة، وذكر جماعة: لحاجة، وعنه يجوز مع حسن رأي فينا. زاد جماعة وجزم به في المحرر: وقوته بهم (بالعدو) " (1) .
وقال الصنعاني رحمه الله في سبل السلام ج4 ص 49، 50 على شرحه لحديث عائشة رضي الله عنها: «ارجع فلن أستعين بمشرك (2) » ما نصه: " والحديث من أدلة من قال: لا يجوز الاستعانة بالمشركين في القتال، وهو قول طائفة من أهل العلم. وذهب الهادوية وأبو حنيفة وأصحابه إلى جواز ذلك، قالوا: لأنه صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية يوم حنين، واستعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم. أخرجه أبو داود في المراسيل وأخرجه الترمذي عن الزهري مرسلا، ومراسيل الزهري ضعيفة. قال الذهبي: لأنه كان خطاء، ففي إرساله
__________
(1) الفروع لابن مفلح ج6 ص 205 ط 2 سنة 1388 هـ 1967 م دار مصر للطباعة.
(2) رواه مسلم في (الجهاد والسير) باب كراهة الاستعانة في الغزو بمشرك برقم (1817) .(18/268)
شبهة تدليس. وصحح البيهقي من حديث أبي حميد الساعدي أنه ردهم. قال المصنف: ويجمع بين الروايات بأن الذي رده يوم بدر تفرس فيه الرغبة في الإسلام فرده رجاء أن يسلم فصدق ظنه، أو أن الاستعانة كانت ممنوعة فرخص فيها، وهذا أقرب. وقد استعان يوم حنين بجماعة من المشركين تألفهم بالغنائم. وقد اشترط الهادوية أن يكون معه مسلمون يستقل بهم في إمضاء الأحكام. وفي شرح مسلم: أن الشافعي قال: إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة استعين به، وإلا فيكره. ويجوز الاستعانة بالمنافق إجماعا لاستعانته صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أبي وأصحابه " (1) . وهذا آخر ما تيسر نقله من كلام أهل العلم، والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
__________
(1) سبل السلام للصنعاني ج4، ص 49، 55، ط 4، 1379 هـ 1960 م، دار إحياء التراث العربي.(18/269)
49 - من أفضل الجهاد
في وقتنا هذا جهاد حاكم العراق (1)
قال سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد: إن من أفضل الجهاد ومن أعظمه في وقتنا هذا جهاد حاكم العراق لبغيه وعدوانه، واجتياحه دولة الكويت، وسفكه الدماء، ونهبه الأموال، وهتكه الأعراض، وتهديده الدول المجاورة له من دول الخليج العربي.
وأكد سماحته أن ذلك عدوان عظيم، وجريمة شنيعة، وبغي سافر يستحق عليه الجهاد من المسلمين.
ونصح سماحة الشيخ ابن باز - في كلمة وجهها عبر مجلة الدعوة- المسلمين بعامة، ودول الخليج العربي بخاصة أن يجاهدوا ذلك الظالم، وأن يجتمعوا على جهاده.
كما نصح الذين يساعدون حاكم العراق ويقفون معه أن يتقوا الله، وأن يتوبوا إليه، وأن يكونوا مع الحق أينما دار؛ لأنه أحق بالاتباع وأحق بالنصر.
وفيما يلي نص كلمة سماحته:
__________
(1) نشرت في ج 7 ص 376 من هذا المجموع.(18/270)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد دلت الأدلة الشرعية على فضل الجهاد، وأنه من أفضل القربات، وأنه ذروة سنام الإسلام، كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله (1) » .
وقد أمر الله بالجهاد في كتابه العظيم في مواضع كثيرة وأثنى على أهله كثيرا ووعدهم خيرا كثيرا فقال سبحانه. {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2)
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (5) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (6)
وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (7)
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند الأنصار) من حديث معاذ بن جبل برقم (21511) ، والترمذي في (الإيمان) باب ما جاء في حرمة الصلاة برقم (2616) .
(2) سورة التوبة الآية 41
(3) سورة الصف الآية 10
(4) سورة الصف الآية 11
(5) سورة الصف الآية 12
(6) سورة الصف الآية 13
(7) سورة التوبة الآية 111(18/271)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم (1) » ، وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما عليها (2) » .
فالجهاد له شأن عظيم وفضل كبير، والمجاهد في سبيل الله له وعد من الله بالمغفرة والجنة، ووعد بالنصر والفتح القريب، وهذا يسر كل مؤمن.
ويقول جل وعلا في نصر دينه بالجهاد وغيره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3) ويقول عز وجل:
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين من الصحابة) مسند أنس ابن مالك برقم (11837) ، وأبو داود في (الجهاد) باب كراهية ترك الغزو برقم (2504) .
(2) رواه البخاري في (الجهاد والسير) باب فضل رباط يوم في سبيل الله برقم (2892) .
(3) سورة محمد الآية 7(18/272)
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2)
وقال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله قال عليه الصلاة والسلام: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (3) » .
وقال عليه الصلاة والسلام: «من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد (4) » .
«وجاءه رجل فقال يا رسول الله: الرجل يأتيني يريد مالي؟ قال: " لا تعطه مالك " قال: فإن قاتلني؟ قال: " قاتله "، قال: فإن قتلني؟ قال: " فأنت شهيد " قال: فإن قتلته؟ قال: " فهو في النار (5) » أخرجه مسلم في صحيحه.
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة الحج الآية 41
(3) رواه البخاري في (العلم) باب من سأل وهو قائم عالما جالسا برقم (123) ، ومسلم في (الإمارة) باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا برقم (1904) .
(4) رواه الترمذي في (الديات) باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد برقم (1421) .
(5) رواه مسلم في (الإيمان) باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه برقم (140) .(18/273)
والآيات والأحاديث في فضل الجهاد وعظيم أجر أهله كثيرة جدا، وفي وقتنا هذا من أفضل الجهاد ومن أعظم الجهاد، جهاد حاكم العراق لبغيه وعدوانه، واجتياحه دولة الكويت، وسفكه الدماء، ونهبه الأموال، وهتكه الأعراض، وتهديده الدول المجاورة له من دول الخليج.
ولا شك أن هذا العمل عدوان عظيم، وجريمة شنيعة وبغي سافر يستحق عليه الجهاد من المسلمين.
ومن جاهده بنية صالحة فله أجر عظيم فإن قتل فهو شهيد؛ لأنه قتل في نصره للمظلومين، وحماية للمسلمين من شر حاكم العراق وعدوانه، ومن قتل مع حاكم العراق فهو متوعد بالنار؛ لأنه قد ساعد الظلمة وقاتل في سبيل الظلم والعدوان.
فنصيحتي للمسلمين جميعا ولدول الخليج بصفة خاصة أن يجاهدوا هذا الظالم، وأن يجتمعوا على ذلك فهو جهاد عظيم، وأهله موعودون بالنصر وبالأجر العظيم والعاقبة الحميدة.
ونصيحتي للذين يساعدون حاكم العراق ويقفون معه أن يتقوا الله، وأن يتوبوا إليه وأن يكونوا مع الحق أينما دار؛ لأنه أحق بالاتباع وأحق بالنصر.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(18/274)
«أنصر أخاك ظالما أو مظلوما، قالوا: يا رسول! الله نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه (1) » .
وهذا قد ظلم العباد وتعدى على أهل الكويت، وهدد غيرهم من جيرانه مع كونه ملحدا، فقد اجتمع في حقه إلحاده وكفره مع بغيه وظلمه، فلو كان مسلما سليما لوجب جهاده حتى يفيء ويرد الحق إلى أهله؛ لقول الله سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2)
وهذا لم يفئ، بل بغى ولم تزل المظالم لديه، فالواجب قتاله حتى يرد الحق إلى أهله هذا لو كان مسلما فكيف وحاله معلومة من الإلحاد.
فالواجب قتاله حتى يرد المظالم إلى أهلها، وحتى يخرج بجيشه من الكويت بدون قيد ولا شرط، ولا توبة لظالم حتى يرد المظالم إلى أهلها.
__________
(1) رواه البخاري في (الإكراه) باب يمين الرجل لصاحبه برقم (6952) ، والترمذي في (الفتن) باب ما جاء في النهي عن سب الرياح برقم (2255) .
(2) سورة الحجرات الآية 9(18/275)
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن ينصرهم على عدوهم، وأن يعينهم على جهاد هذا الظالم الباغي، وأن ينصرهم عليه، وأن يهزم جمعه ويشتت شمله، وأن يجعل دائرة السوء عليه إنه جل وعلا جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
وقد أجاب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز على عدد من الأسئلة حيث أوضح أن المشروع للمسلمين نحو إخوانهم المجاهدين الدعاء لهم بالتوفيق والنصر والإعانة، وأن يدعوا لإخوانهم المجاهدين بالنصر والتأييد والإعانة على حرب أعدائهم، وأن يدعوا على عدوهم ويقنتوا قنوت النوازل أن يهزم الله جمعه ويشتت شمله وأن يعين المسلمين عليه، وأن يرد حق المظلومين إليهم، وأن يخذل الظالم ويرد كيده وشره عليه.
وأضاف سماحته في إجابة على سؤال حول قنوت النوازل بأنه سنة مؤكدة في جميع الصلوات، وهو الدعاء على الظالم بأن يخزيه الله ويذله ويهزم جمعه ويشتت شمله وينصر المسلمين عليه.
وأجاب على سؤال حول التبرع بالدم بأن المشروع للمسلمين إذا أصيب إخوانهم بشيء من الجراحات واحتاجوا إلى دم من إخوانهم الأحياء أن يتبرعوا لهم بذلك بشرط أن يكون(18/276)
التبرع بالدم لا يضر المتبرع إذا قرر الطبيب المختص ذلك.
وقال سماحته في رد على سؤال عن الواجب على المسلم في هذه الأوقات: إن الواجب عليه حسن الظن بالله والإيمان بأنه سبحانه هو الذي ينصر عباده، وأن النصر بيده وأن المنع والعطاء بيده والضرر والنفع، فهو سبحانه القائل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) وهو القائل جل وعلا: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2)
وهو القائل جل وعلا فيما رواه عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني (3) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله (4) » .
ويقول جل وعلا: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (5) ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (6) أي كافيه.
__________
(1) سورة الروم الآية 47
(2) سورة الأنفال الآية 10
(3) رواه مسلم في (الذكر والدعاء والتوبة) باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى برقم (2676) .
(4) رواه مسلم في (الجنة وصفة نعيمها وأهلها) باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت برقم (2877) .
(5) سورة المائدة الآية 23
(6) سورة الطلاق الآية 3(18/277)
وأوضح سماحة الشيخ ابن باز أن الواجب على المسلمين حسن الظن بالله والتوكل عليه والاعتماد عليه والثقة به والإيمان بأنه هو الذي ينصر أولياءه، وأن النصر بيده سبحانه وتعالى، وهو القائل جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) هذا مع تعاطي الأسباب.
وقال: فالمؤمن مأمور بتعاطي الأسباب التي تعينه على قتال عدوه؛ من السلاح وأخذ الحيطة والاستعانة بالجنود والقوة، كل هذا مأمور به مع التوكل على الله وحسن الظن به كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (2) وقال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (3)
وأشار سماحته إلى أن الواجب على أهل الإسلام أن يعدوا العدة لأعدائهم، وأن يأخذوا حذرهم، وأن يستعينوا بأنواع الأسباب المباحة والمشروعة مع الثقة بالله والاعتماد عليه.
وبين سماحته أن التوكل يجمع أمرين:
أحدهما: الثقة بالله والاعتماد عليه، والإيمان بأنه مصرف الأمور، وأنه الضار النافع، وأنه بيده النصر سبحانه وتعالى.
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة النساء الآية 71
(3) سورة الأنفال الآية 60(18/278)
ثانيهما: العناية بالأسباب الشرعية والمباحة.
وقال: كل هذا داخل في التوكل.
وفي إجابة لسماحته حول ما ينبغي للمسلم إزاء الإشاعات والأخبار المتداولة قال سماحته: ينبغي للمسلم ألا يتحدث إلا بالشيء الثابت عنده؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع (1) » ، فإذا شك فليقل يروى أو يذكر ولا يجزم بذلك، ولكن إذا كان لديه شيء ثابت قد شاهده أو علمه بطريق ثابتة، أو سمعه من جهة يوثق بها فلا بأس أن يحدث بذلك إذا رأى المصلحة في الحديث به.
وأضاف سماحته قائلا: مع الحرص على تطمين المسلمين وحثهم على حسن الظن بالله، وإشاعة الأخبار السارة بينهم، وترك الأخبار التي تحزنهم إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا (2) » .
__________
(1) رواه مسلم في (المقدمة) باب النهي عن الحديث بكل ما سمع برقم (5) .
(2) رواه البخاري في (العلم) باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة برقم (69) ، ومسلم في (الجهاد والسير) باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير برقم (1734) .(18/279)
- جهاد حاكم العراق واجب على
الدول الإسلامية لإنقاذ إخوانهم من الظلم (1)
الحمد لله الذي أمر بالجهاد في سبيله، ووعد عليه الأجر العظيم والنصر المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه الكريم: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله، أفضل المجاهدين، وأصدق المناضلين، وأنصح العباد أجمعين صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه الكرام الذين باعوا أنفسهم لله وجاهدوا في سبيله حتى أظهر الله بهم الدين، وأعز بهم المؤمنين، وأذل بهم الكافرين رضي الله عنهم وأكرم مثواهم وجعلنا من أتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الجهاد في سبيل الله من أفضل القربات، ومن أعظم الطاعات، بل هو أفضل ما تقرب به المتقربون وتنافس فيه المتنافسون بعد الفرائض، وما ذاك إلا لما يترتب عليه من نصر المؤمنين وإعلاء كلمة الدين، وقمع الكافرين والمنافقين
__________
(1) نشرت في مجلة (الدعوة) العدد (1277) في 16 \ 7 \ 1411 هـ، ونشرت في هذا المجموع ج 7 ص 362.
(2) سورة الروم الآية 47(18/280)
وتسهيل انتشار الدعوة الإسلامية بين العالمين، وإخراج العباد من الظلمات إلى النور، ونشر محاسن الإسلام وأحكامه العادلة بين الخلق أجمعين، وغير ذلك من المصالح الكثيرة والعواقب الحميدة للمسلمين، وقد ورد في فضله وفضل المجاهدين من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ما يحفز الهمم العالية، ويحرك كوامن النفوس إلى المشاركة في هذا السبيل، والصدق في جهاد أعداء رب العالمين، وهو فرض كفاية على المسلمين إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وقد يكون في بعض الأحيان من الفرائض العينية التي لا يجوز للمسلم التخلف عنها إلا بعذر شرعي كما لو استنفره الإمام، أو حصر بلده العدو، أو كان حاضرا بين الصفين.
والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة معلومة، ومما ورد في فضل الجهاد والمجاهدين من الكتاب المبين قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (2) {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (3) {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (4) {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (5)
__________
(1) سورة التوبة الآية 41
(2) سورة التوبة الآية 42
(3) سورة التوبة الآية 43
(4) سورة التوبة الآية 44
(5) سورة التوبة الآية 45(18/281)
المبادرة إلى الجهاد
ففي هذه الآيات الكريمات يأمر الله عباده المؤمنين أن ينفروا إلى الجهاد خفافا وثقالا أي شيبا وشبابا، وأن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ويخبرهم عز وجل بأن ذلك خير لهم في الدنيا والآخرة، ثم يبين سبحانه حال المنافقين وتثاقلهم عن الجهاد وسوء نيتهم وأن ذلك هلاك لهم بقوله عز وجل: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} (1) الآية.
ثم يعاتب نبيه صلى الله عليه وسلم عتابا لطيفا على إذنه لمن طلب التخلف عن الجهاد بقوله سبحانه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} (2) ويبين عز وجل أن في عدم الإذن لهم تبينا للصادقين وفضيحة للكاذبين، ثم يذكر عز وجل أن المؤمن بالله واليوم الآخر لا يستأذن في ترك الجهاد بغير عذر شرعي؛؛ لأن إيمانه الصادق بالله واليوم الآخر يمنعه من ذلك ويحفزه إلى المبادرة إلى الجهاد والنفير مع أهله، ثم يذكر سبحانه أن الذي
__________
(1) سورة التوبة الآية 42
(2) سورة التوبة الآية 43(18/282)
يستأذن في ترك الجهاد هو عادم الإيمان بالله واليوم الآخر، المرتاب فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك أعظم حث وأبلغ تحريض على الجهاد في سبيل الله، والتنفير من التخلف عنه، وقال تعالى في فضل المجاهدين: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1)
ففي هذه الآية الكريمة الترغيب العظيم في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وبيان أن المؤمن قد باع نفسه وماله على الله عز وجل، وأنه سبحانه قد تقبل هذا البيع وجعل ثمنه لأهله الجنة، وأنهم يقاتلون في سبيله فيقتلون ويقتلون، ثم ذكر سبحانه أنه وعدهم بذلك في أشرف كتبه وأعظمها التوراة، والإنجيل، والقرآن، ثم بين سبحانه أنه لا أحد أوفى بعهده من الله ليطمئن المؤمنون إلى وعد ربهم ويبذلوا السلعة التي اشتراها منهم وهي نفوسهم وأموالهم في سبيله سبحانه عن إخلاص وصدق وطيب نفس، حتى يستوفوا أجرهم كاملا في الدنيا والآخرة، ثم يأمر سبحانه المؤمنين أن يستبشروا بهذا
__________
(1) سورة التوبة الآية 111(18/283)
البيع لما فيه من الفوز العظيم، والعاقبة الحميدة، والنصر للحق والتأييد لأهله. وجهاد الكفار والمنافقين وإذلالهم، ونصر أوليائه عليهم، وإفساح الطريق لانتشار الدعوة الإسلامية في أرجاء المعمورة، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (4)
__________
(1) سورة الصف الآية 10
(2) سورة الصف الآية 11
(3) سورة الصف الآية 12
(4) سورة الصف الآية 13(18/284)
التجارة العظيمة
في هذه الآيات الكريمات الدلالة من ربنا عز وجل على أن الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله هما التجارة العظيمة المنجية من العذاب الأليم يوم القيامة. ففي ذلك أعظم ترغيب وأكمل تشويق إلى الإيمان والجهاد. ومن المعلوم أن الإيمان بالله ورسوله يتضمن توحيد الله وإخلاص العبادة له سبحانه.
كما يتضمن أداء الفرائض وترك المحارم. ويدخل في ذلك الجهاد في سبيل الله لكونه من أعظم الشعائر الإسلامية ومن أهم الفرائض، ولكنه سبحانه خصه بالذكر لعظم شأنه، وللترغيب فيه لما يترتب عليه من المصالح العظيمة والعواقب(18/284)
الحميدة التي سبق بيان الكثير منها ثم ذكر سبحانه ما وعد الله به المؤمنين المجاهدين من المغفرة والمساكن الطيبة في دار الكرامة ليعظم شوقهم إلى الجهاد وتشتد رغبتهم فيه، وليسابقوا إليه ويسارعوا في مشاركة القائمين به.
ثم أخبر سبحانه أن من ثواب المجاهدين شيئا معجلا يحبونه وهو النصر على الأعداء والفتح القريب على المؤمنين. وفي ذلك غاية للتشويق والترغيب.
والآيات في فضل الجهاد والترغيب فيه وبيان فضل المجاهدين كثيرة جدا. وفيما ذكر سبحانه في هذه الآيات التي سلف ذكرها ما يكفي ويشفي ويحفز الهمم ويحرك النفوس إلى تلك المطالب العالية والمنازل الرفيعة والفوائد الجليلة والعواقب الحميدة. والله المستعان.
أما الأحاديث الواردة في فضل الجهاد والمجاهدين والتحذير من تركه والإعراض عنه فهي أكثر من أن تنحصر وأشهر من أن تذكر، ولكن نذكر منها طرفا يسيرا ليعلم المجاهد الصادق شيئا مما قاله نبيه ورسوله الكريم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم في فضل الجهاد ومنزلة أهله.
ففي الصحيحين عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير(18/285)
من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها (1) » ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بمن يجاهد في سبيله - كمثل الصائم القائم وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة (2) » أخرجه مسلم في صحيحه، وفي لفظ له «تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة (3) » .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي اللون لون الدم والريح ريح المسك (4) »
__________
(1) رواه البخاري في الجهاد والسير باب فضل رباط يوم في سبيل الله برقم 2892.
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2787) ، صحيح مسلم كتاب الإمارة (1876) ، سنن الدارمي الجهاد (2391) .
(3) رواه مسلم في الإمارة باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله برقم 1876.
(4) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5533) ، صحيح مسلم كتاب الإمارة (1876) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1656) ، سنن النسائي الجهاد (3147) ، مسند أحمد بن حنبل (2/231) ، موطأ مالك الجهاد (1001) ، سنن الدارمي الجهاد (2406) .(18/286)
متفق عليه، وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (1) » . رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل «أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل ثم ماذا؟ قال: حج مبرور (2) » .،
وعن أبي عبس بن جبر الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار (3) » (4) . رواه البخاري في صحيحه، وفيه أيضا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه به مات على
__________
(1) سنن النسائي الجهاد (3096) ، سنن أبو داود الجهاد (2504) ، مسند أحمد بن حنبل (3/251) ، سنن الدارمي الجهاد (2431) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (26) ، صحيح مسلم الإيمان (83) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1658) ، سنن النسائي الجهاد (3130) ، مسند أحمد بن حنبل (2/287) ، سنن الدارمي الجهاد (2393) .
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2811) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1632) ، سنن النسائي الجهاد (3116) ، مسند أحمد بن حنبل (3/479) .
(4) رواه البخاري في الجهاد والسير باب من اغبرت قدماه في سبيل الله برقم 2811.(18/287)
شعبة من نفاق (1) » (2) .
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه شيء حتى ترجعوا إلى دينكم (3) » رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن القطان، وقال الحافظ في البلوغ رجاله ثقات.
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1910) ، سنن النسائي الجهاد (3097) ، سنن أبو داود الجهاد (2502) .
(2) رواه مسلم في الإمارة باب ذم من مات ولم يغز. برقم 1910.
(3) رواه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة مسند عبد الله بن عمر برقم4987 وأبو داود في البيوع باب في النهي عن العينة برقم 3462.(18/288)
المنزلة العالية للمجاهدين
والأحاديث في فضل الجهاد والمجاهدين وبيان ما أعد الله للمجاهدين الصادقين من المنازل العالية، والثواب الجزيل، وفي الترهيب من ترك الجهاد والإعراض عنه كثيرة جدا، وفي الحديثين الأخيرين وما جاء في معناهما الدلالة على أن الإعراض عن الجهاد وعدم تحديث النفس به من شعب النفاق، وأن التشاغل عنه بالتجارة والزراعة والمعاملة الربوية من أسباب ذل المسلمين وتسليط الأعداء عليهم كما هو الواقع، وأن ذلك الذل لا ينزع عنهم حتى يرجعوا إلى دينهم بالاستقامة على أمره(18/288)
والجهاد في سبيله، فنسأل الله أن يمن على المسلمين جميعا بالرجوع إلى دينه، وأن يصلح قادتهم ويصلح لهم البطانة ويجمع كلمتهم على الحق ويوفقهم جميعا للفقه في الدين والجهاد في سبيل رب العالمين حتى يعزهم الله ويرفع عنهم الذل، ويكتب لهم النصر على أعدائه وأعدائهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ومن الجهاد في سبيل الله ما يقوم به المسلمون اليوم من قتال عدو الله حاكم العراق لظلمه وعدوانه باجتياحه دولة الكويت، وسفك دماء الأبرياء، ونهب أموالهم، وهتك الأعراض، وامتناعه من الفيئة بإخراج جيشه من البلد.
ولا شك أن جهاده من أعظم الجهاد في سبيل الله، وأن ذلك واجب على الدول الإسلامية لإنقاذ إخوانهم من ظلمه ورد بلادهم إليهم وإخراجه من بلادهم بالقوة؛ لإصراره على الظلم والعدوان وعدم فيئته إلى الحق والخروج من الظلم لقول الله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1)
فأمر سبحانه في هذه الآية الكريمة بقتال الفئة الباغية من
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9(18/289)
المؤمنين حتى تفيء إلى أمر الله، فإذا كانت الفئة الباغية من المؤمنين تقاتل حتى تفيء إلى الحق فقتال الفئة الباغية من غير المؤمنين كحاكم العراق وأشباهه أعظم وأوجب، وبذلك يعلم أن جهاده جهاد إسلامي عظيم والمقتول فيه من المسلمين يعد شهيدا وله أجر عظيم إذا أصلح الله نيته، ولا يضرهم في ذلك من ساعدهم من الدول غير الإسلامية لكونهم مضطرين إليهم؛ ولأنها مساعدة في ردع الظالم الكافر ونصر المظلوم، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر (1) » .
وقد أيد الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب وهو على دين قومه بمكة المكرمة، وأيد الله نبيه صلى الله عليه وسلم أيضا بعد موت عمه أبي طالب لما رجع إلى مكة المكرمة من دعوته أهل الطائف بالمطعم بن عدي وهو كافر على دين قومه. وقد قال الله عز وجل في كتابه العظيم: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (2)
والأدلة في ذلك كثيرة بينها أهل العلم في كتاب الجهاد وكتبنا فيها رسالة مستقلة أوضحنا فيها كلام أهل العلم في
__________
(1) رواه البخاري في الجهاد والسير باب إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر برقم 3062 ومسلم في الإيمان باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه برقم 111
(2) سورة الأنعام الآية 119(18/290)
ذلك، وقد صدر من المؤتمر الإسلامي المنعقد في مكة المكرمة في 21 \ 2 \ 1411 هـ التأييد لما ذكرنا، كما أصدر المؤتمر المذكور في وثيقة مكة ما يؤيد ذلك أيضا، وفي ذلك إيضاح للحق وإزالة للشبهة التي التبست على بعض الناس، والله سبحانه ولي التوفيق.(18/291)
إعداد القوة
وقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يعدوا للكفار العدة بما استطاعوا من القوة، وأن يأخذوا حذرهم كما في قوله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (2) وذلك يدل على وجوب العناية بالأسباب والحذر من مكائد الأعداء.
ويدخل في ذلك جميع أنواع الإعداد المتعلقة بالأسلحة، والأبدان كما يدخل في ذلك إعداد جميع الوسائل المعنوية والحسية، وتدريب المجاهدين على أنواع الأسلحة وكيفية استعمالها وتوجيههم إلى كل ما يعينهم على جهاد عدوهم والسلامة من مكائده في الكر والفر والأرض والجو والبحر وفي سائر الأحوال؛ لأن الله سبحانه أطلق الأمر بالإعداد وأخذ الحذر ولم
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60
(2) سورة النساء الآية 71(18/291)
يذكر نوعا دون نوع ولا حالا دون حال، وما ذلك إلا لأن الأوقات تختلف والأسلحة تتنوع، والعدو يقل ويكثر ويضعف ويقوى، والجهاد قد يكون ابتداء، وقد يكون دفاعا.
فلهذه الأمور وغيرها أطلق الله سبحانه الأمر بالإعداد، وأخذ الحذر ليجتهد قادة المسلمين وأعيانهم ومفكروهم في إعداد ما يستطيعون من القوة لقتال أعدائهم وما يرونه من المكيدة في ذلك.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحرب خدعة (1) » ومعناه: أن الخصم قد يدرك من خصمه بالمكر والخديعة في الحرب ما لا يدركه بالقوة والعدد وذلك مجرب معروف، وذلك من دون إخلال بالعهود والمواثيق.
وقد وقع في يوم الأحزاب من الخديعة للمشركين واليهود والكيد لهم على يد نعيم بن مسعود - رضي الله عنه - بإذن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان من أسباب خذلان الكافرين وتفريق شملهم واختلاف كلمتهم وإعزاز المسلمين ونصرهم عليهم.
وذلك من فضل الله ونصره لأوليائه ومكره لهم كما قال عز وجل: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (2) ومما.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3028) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1740) ، مسند أحمد بن حنبل (2/312) .
(2) سورة الأنفال الآية 30(18/292)
تقدم يتضح لذوي البصائر أن الواجب امتثال أمر الله والإعداد لأعدائه وبذل الجهود في الحيطة والحذر، واستعمال كل ما أمكن من الأسباب المباحة الحسية والمعنوية، مع الإخلاص لله والاعتماد عليه والاستقامة على دينه، وسؤاله المدد والنصر.
فهو سبحانه وتعالى الناصر لأوليائه والمعين لهم إذا أدوا حقه، ونفذوا أمره وصدقوا في جهادهم وقصدوا بذلك إعلاء كلمته وإظهار دينه.
وقد وعدهم الله بذلك في كتابه الكريم وأعلمهم أن النصر من عنده ليثقوا به ويعتمدوا عليه مع القيام بجميع الأسباب.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) وقال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) وقال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4) وقال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (5)
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة الروم الآية 47
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة النور الآية 55(18/293)
الآية، وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (1)
وقال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (2) {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3)
وقد سبق في هذا المعنى آية سورة الصف وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (4) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (6) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (7)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، ولما قام سلفنا الصالح بما أمرهم الله به ورسوله وصبروا وصدقوا في جهاد عدوهم نصرهم الله وأيدهم وجعل لهم العاقبة مع قلة عددهم وعدتهم وكثرة أعدائهم كما قال عز وجل: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (8) وقال عز وجل:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 120
(2) سورة الأنفال الآية 9
(3) سورة الأنفال الآية 10
(4) سورة الصف الآية 10
(5) سورة الصف الآية 11
(6) سورة الصف الآية 12
(7) سورة الصف الآية 13
(8) سورة البقرة الآية 249(18/294)
{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (1)
ولما غير المسلمون وتفرقوا ولم يستقيموا على تعاليم ربهم - إلا من رحم الله - وآثر أكثرهم أهواءهم أصابهم من الذل والهوان وتسلط الأعداء ما لا يخفى على أحد، وما ذاك إلا بسبب الذنوب والمعاصي، والتفرق والاختلاف، وظهور الشرك والبدع والمنكرات في غالب البلاد.
وعدم تحكيم أكثرهم الشريعة كما قال الله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2) وقال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (3)
ولما حصل من الرماة ما حصل يوم أحد من النزاع والاختلاف والإخلال بالثغر الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلزومه جرى بسبب ذلك على المسلمين من القتل والجراح والهزيمة ما هو معلوم، ولما استنكر المسلمون ذلك أنزل الله قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 160
(2) سورة الأنفال الآية 53
(3) سورة الروم الآية 41
(4) سورة آل عمران الآية 165(18/295)
ولو أن أحدا يسلم من شر المعاصي وعواقبها الوخيمة لسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام يوم أحد وهم خير أهل الأرض ويقاتلون في سبيل الله، ومع ذلك جرى عليهم ما جرى بسبب معصية الرماة التي كانت عن تأويل لا عن قصد للمخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والتهاون بأمره ولكنهم لما رأوا هزيمة المشركين ظنوا أن الأمر قد انتهى، وأن الحراسة لم يبق لها حاجة.
وكان الواجب أن يلزموا الموقف حتى يأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بتركه. ولكن الله سبحانه قد قدر ما قدر وقضى ما قضى لحكمة بالغة وأسرار عظيمة، ومصالح كثيرة قد بينها في كتابه سبحانه وعرفها المؤمنون.
وكان ذلك من الدلائل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله حقا، وأنه بشر يصيبه ما يصيب البشر من الجراح والآلام ونحو ذلك، وليس بإله يعبد وليس مالكا للنصر، بل النصر بيد الله سبحانه ينزله على من يشاء.
ولا سبيل إلى استعادة المسلمين مجدهم السالف واستحقاقهم النصر على عدوهم إلا بالرجوع إلى دينهم والاستقامة عليه وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، وتحكيمهم شرع الله(18/296)
سبحانه في أمورهم كلها، واتحاد كلمتهم على الحق، وتعاونهم على البر والتقوى كما قال الإمام مالك بن أنس رحمة الله عليه: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها) .
وهذا قول جميع أهل العلم، والله سبحانه إنما أصلح أول هذه الأمة باتباع شرعه والاعتصام بحبله والصدق في ذلك والتعاون عليه، ولا صلاح لآخرها إلا بهذا الأمر العظيم.
ونسأل الله أن يوفق المسلمين للفقه في دينه والجهاد في سبيله، وأن يجمعهم على الهدى، وأن يوحد صفوفهم وكلمتهم على الحق، وأن يمن عليهم بالاعتصام بكتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وتحكيم شريعته والتحاكم إليها، والاجتماع على ذلك والتعاون عليه، وأن يصلح قادتهم. إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. .(18/297)
واجب المسلمين تجاه
عدوان العراق على دولة الكويت
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من المسلمين، سلك الله بي وبهم سبيل عباده المؤمنين، وأعاذني وإياهم من أخلاق المغضوب عليهم والضالين. آمين (1)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (4)
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (5)
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته ونشرت في هذا المجموع ج 6 ص 130
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة البقرة الآية 21
(4) سورة النساء الآية 1
(5) سورة لقمان الآية 33(18/298)
وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (3) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (4) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5)
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (6) {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (7) {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} (8) وقال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (9) وقال سبحانه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (10)
وقال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (11)
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة آل عمران الآية 103
(4) سورة الأحزاب الآية 70
(5) سورة الأحزاب الآية 71
(6) سورة الحشر الآية 18
(7) سورة الحشر الآية 19
(8) سورة الحشر الآية 20
(9) سورة آل عمران الآية 31
(10) سورة الأنفال الآية 25
(11) سورة التوبة الآية 71(18/299)
وقال عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (1)
وقال سبحانه: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (2) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (3) والآيات في الأمر بالتقوى وطاعة الله ورسوله وبيان عاقب المتقين كثيرة جدا.
وقد أوضح الله سبحانه فيما ذكرنا من الآيات أنه عز وجل خلق الثقلين لعبادته وأمرهم بها، كما ذكر سبحانه أنه أمر جميع الناس بعبادته وتقواه، وهكذا أمر المؤمنين بوجه خاص بتقواه والقيام بحقه، كما أمرهم سبحانه بالاعتصام بحبله والتمسك بشرعه، وأمرهم أن يقوا أنفسهم وأهليهم عذاب الله عز وجل، وأمرهم عز وجل أن يتقوا فتنا لا تصيبن الذين ظلموا منهم خاصة، بل تعم الجميع، وأوضح سبحانه أن من أسباب محبة الله العباد، ومن علامات الصدق في محبة العبد ربه ومحبة الله له أن يتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به.
__________
(1) سورة الحجر الآية 45
(2) سورة القلم الآية 34
(3) سورة التحريم الآية 6(18/300)
ويتمسك بشرعه في قوله وعمله وعقيدته، كما أوضح سبحانه أن من صفات المؤمنين وأخلاقهم العظيمة أنهم أولياء فيما بينهم، وأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
فالواجب على جميع المسلمين في كل مكان أن يعبدوا الله وحده، وأن يتقوه بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وأن يتحابوا في الله، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر؛ لأن في ذلك سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة.
ولأن ذلك أيضا من أسباب نصرهم على أعدائهم وحمايتهم من مكائدهم وشرهم، كما قال الله عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3)
والتقوى هي طاعة الله ورسوله، والاستقامة على دينه، وإخلاص العبادة لله وحده والتمسك بشريعة رسوله- صلى الله عليه وسلم - قولا وعملا وعقيدة، وهي الإيمان والعمل الصالح، وهي الإسلام الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} (4)
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة الحج الآية 41
(3) سورة محمد الآية 7
(4) سورة لقمان الآية 8(18/301)
وقال عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) وقال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (2) وقال عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (3) الآية.
وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (4) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5) وقال سبحانه موصيا لعباده المؤمنين بالصبر والتقوى والحذر من أعداء الله: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (6) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ولا يخفى ما وقع في هذه الأيام من عدوان دولة العراق على دولة الكويت واجتياحها بالجيوش والأسلحة المدمرة، وما
__________
(1) سورة النحل الآية 97
(2) سورة النور الآية 55
(3) سورة آل عمران الآية 19
(4) سورة المائدة الآية 3
(5) سورة آل عمران الآية 85
(6) سورة آل عمران الآية 120(18/302)
ترتب على ذلك من سفك الدماء ونهب الأموال وهتك الأعراض وتشريد أهل البلاد وحشد الجيوش على الحدود السعودية الكويتية، ولا شك أن هذا من دولة العراق عدوان عظيم وجريمة شنيعة، يجب على الدول العربية والإسلامية إنكارها، وقد أنكرها العالم واستبشعها لمخالفتها الشرع المطهر والمواثيق المؤكدة بين الدول العربية والدول الإسلامية وغيرهم، إلا من شذ عن ذلك ممن لا يلتفت إلى خلافه، ولا شك أن ما حصل بأسباب الذنوب والمعاصي وظهور المنكرات وقلة الوازع الإيماني والسلطاني.
فالواجب على جميع المسلمين أن ينكروا هذا المنكر، وأن يناصروا الدولة المظلومة، وأن يتوبوا إلى الله من ذنوبهم وسيئاتهم وأن يحاسبوا أنفسهم في ذلك، وأن يتعاونوا على البر والتقوى أينما كانوا ويتناصحوا ويتواصوا بالحق والصبر عليه في جهاد أنفسهم وفى جهاد عدوهم ومن اعتدى عليهم، وأن يعتصموا بحبل الله جميعا وأن يكونوا صفا واحدا وجسدا واحدا وبناء واحدا ضد العدو وضد الظالم، سواء كان مسلما أو غير مسلم. كما قال عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(18/303)
وقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) ثم قال عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (5) » ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه (6) » ، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
والواجب على رئيس دولة العراق أن يتقي الله ويتوب إليه، وأن يبادر بسحب جيشه من دولة الكويت، ثم يحل المشكلة التي بينه وبين دولة الكويت بالحلول السلمية والصلح العادل والتفاهم المنصف. فإن لم يتيسر ذلك فالواجب تحكيم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(6) صحيح البخاري المظالم والغصب (2446) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) .(18/304)
الشرع المطهر بتكوين محكمة شرعية مكونة من جماعة من العلماء المعروفين بالعلم والفضل والعدالة للحكم بينهم، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) وقال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) الآية.
وقال عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (3) وقال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (4) أقسم سبحانه في هذه الآية الكريمة أن الناس لا يؤمنون حتى يحكموا نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - فيما شجر بينهم.
ونسأل الله لجميع قادة المسلمين من العرب وغيرهم التوفيق والهداية لما فيه سعادة الجميع وصلاح قلوبهم وأعمالهم واستتباب الأمن بينهم، كما نسأله أن يعيذ الجميع من طاعة الهوى والشيطان إنه سميع قريب.
وأما ما اضطرت إليه الحكومة السعودية من الأخذ بالأسباب
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) سورة المائدة الآية 50
(4) سورة النساء الآية 65(18/305)
الواقية من الشر والاستعانة بقوات متعددة الأجناس من المسلمين وغيرهم للدفاع عن البلاد وحرمات المسلمين وصد ما قد يقع من العدوان من رئيس دولة العراق فهو إجراء مسدد وموفق وجائز شرعا، وقد صدر من مجلس هيئة كبار العلماء- وأنا واحد منهم- بيان بتأييد ما اتخذته الحكومة السعودية في ذلك، وأنها قد أصابت فيما فعلته، عملا بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (1) وقوله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (2) ولا شك أن الاستعانة بغير المسلمين في الدفاع عن المسلمين وعن بلادهم وحمايتها من كيد الأعداء أمر جائز شرعا بل واجب متحتم عند الضرورة إلى ذلك لما في ذلك من إعانة للمسلمين وحمايتهم من كيد أعدائهم وصد العدوان المتوقع عنهم، وقد استعان النبي - صلى الله عليه وسلم - بدروع استعارها من صفوان بن أمية يوم حنين وكان كافرا لم يسلم ذلك الوقت، وكانت خزاعة مسلمها وكافرها في جيش النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح ضد كفار أهل مكة.
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنكم تصالحون الروم صلحا آمنا وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم فتنصرون وتغنمون (3) » (4) أخرجه
__________
(1) سورة النساء الآية 71
(2) سورة الأنفال الآية 60
(3) سنن أبو داود الجهاد (2767) ، سنن ابن ماجه الفتن (4089) ، مسند أحمد بن حنبل (4/91) .
(4) رواه أبو داود في الملاحم باب يذكر من ملاحم الروم برقم 4292.(18/306)
الإمام أحمد وأبو داود بإسناد صحيح.
ونصيحتي لأهل الكويت وغيرهم من المسلمين في كل مكان ولرئيس دولة العراق وجيشه أن يجددوا توبة نصوحا وأن يندموا على ما سلف من الذنوب، وأن يقلعوا منها، وأن يعزموا عزما صادقا على عدم العودة فيها؛ لأن الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة قد دلت على أن كل شر في الدنيا والآخرة وكل بلاء وفتنة فأسبابه المعاصي، وما كسبته أيدي العباد من المخالفة لشرع الله كما قال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) وقال عز وجل: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (2) وقال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (3)
ولما وقعت الهزيمة يوم أحد على المسلمين وأصابهم ما أصابهم من القتل والجراح بأسباب إخلال الرماة بموقفهم وتنازعهم وفشلهم وعصيانهم أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم بلزوم الموقف وإن رأوا المسلمين قد انتصروا، واستنكر المسلمون ذلك
__________
(1) سورة الشورى الآية 30
(2) سورة النساء الآية 79
(3) سورة الروم الآية 41(18/307)
وعظم عليهم الأمر، أنزل الله قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} (1) يعني يوم بدر {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2)
وقد أخبر سبحانه في كتابه العظيم أن التوبة سبب للفلاح وتكفير السيئات، والفوز بالجنة والكرامة، فقال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) وقال سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (4) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (5) الآية.
ومن أعظم مظاهر التوبة وأوجبها الإخلاص لله وحده في جميع الأعمال، والحذر من الشرك كله دقيقه وجليله، وصغيره وكبيره، والعناية بالصلوات الخمس وإقامتها في أوقاتها من الرجال والنساء، والمحافظة عليها من الرجال في المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، والعناية بالزكاة والصيام وحج البيت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
__________
(1) سورة آل عمران الآية 165
(2) سورة آل عمران الآية 165
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة طه الآية 82
(5) سورة التحريم الآية 8(18/308)
والتناصح والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه.
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، ويصلح قلوبهم وأعمالهم، ويمنحهم الفقه في الدين، وأن يصلح قادتهم جميعا ويوفقهم لتحكيم شريعته، والتحاكم إليها، والرضا بها، وترك ما يخالفها، وأن يصلح لهم البطانة ويعينهم على كل خير ويهديهم جميعا صراطه المستقيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا وإمامنا وسيدنا إمام المتقين وقدوة المجاهدين وخير عباد الله أجمعين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(18/309)
وجوب نصرة المسلمين وحكم الجهاد
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز
إلى حضرة الأخ المكرم: أ. ع. أوفقه الله آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: (1)
فقد وصلني كتابك وصلك الله بهداه، وما ذكرت فيه عن حال الأمة الإسلامية وحال المسلمين كان معلوما، نسأل الله أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويعيد للأمة عزتها وقوتها، وأشكرك على غيرتك واهتمامك بأمور المسلمين، وحرصك على سلامتهم ونجاتهم.
وبخصوص طلبك مني النصح والإرشاد تجاه ماذا يجب عليك أن تفعله للمساهمة في نصرة المسلمين، وسؤالك عن حكم الجهاد؟
فأفيدك: أن حكم الجهاد بالنسبة لعموم المسلمين فرض كفاية، ولا حرج عليك إذا أحببت أن تجاهد مع إخوانك المسلمين المظلومين إذا سمح لك والداك إن كانا موجودين
__________
(1) رسالة جوابية صدرت من مكتب سماحته إلى الأخ أ. ع. أ. ونشرت في هذا المجموع ج 8 ص 270(18/310)
للأحاديث الواردة في ذلك.
وأوصيك بالجد في طلب العلم والتفقه في الدين على يد أهل العلم المعروفين بالعلم والفضل والعقيدة السلفية من أنصار السنة المحمدية وغيرهم، مع العناية بكتب أهل السنة، كالكتب الستة، و (موطأ مالك) و (مسند الإمام أحمد) ، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وغيرهم من علماء السنة، مع الاجتهاد في الدعوة إلى الله حسب علمك، والاجتهاد في النصيحة لإخوانك وأهل بيتك وغيرهم بالأسلوب الحسن، والبلاغ بالتي هي أحسن، على أن يكون ذلك بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الصحيحة، وكلام أهل العلم المعروفين بالعلم والفضل والعقيدة الصحيحة.
نسأل الله أن يرزقك البصيرة في دينه، وأن يوفقك ويعينك على كل خير، إنه سميع قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(18/311)
الجهاد فرض كفاية (1)
سؤال:
لا يخفى على سماحتكم ما يمر به المسلمون في البوسنة والهرسك من تدمير يقصد به استئصال شأفة المسلمين في أوروبا، فهل بعد ذلك التدمير والإبادة وهتك الأعراض نشك أن الجهاد في تلك الأرض هو فرض عين؟ ع. ف.
جواب:
سبق أن بينا أكثر من مرة أن الجهاد فرض كفاية، لا فرض عين، وعلى جميع المسلمين أن يجاهدوا في نصر إخوانهم بالنفس والمال، والسلاح، والدعوة والمشورة، فإذا خرج منهم من يكفي سلم الجميع من الإثم، وإذا تركوه كلهم أثموا جميعا، فعلى المسلمين في المملكة، وإفريقيا، والمغرب، وغيرها أن يبذلوا طاقتهم والأقرب فالأقرب، فإذا حصلت الكفاية من دولة أو دولتين أو ثلاث أو أكثر سقط عن الباقين، وهم مستحقون للنصر والتأييد، والواجب مساعدتهم ضد عدوهم؛ لأنهم مظلومون، والله أمر بالجهاد للجميع، وعليهم أن يجاهدوا ضد أعداء الله حتى ينصروا إخوانهم، وإذا تركوا ذلك أثموا وإذا قام به - من يكفي سقط الإثم عن الباقين.
__________
(1) سؤال مقدم لسماحته من المستفتي ع. ف ن، ونشر في هذا المجموع ج 7 ص 335.(18/312)
واقعة اعتداء العراق على الكويت عبرة وعظة لنا جميعا (1)
(في اختتام المؤتمر الإسلامي العالمي لمناقشة الأوضاع الحاضرة في الخليج والذي نظمته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وجه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي والرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الكلمة التالية) :
الحمد لله تعالى، إن الدين النصيحة، وعلى علماء المسلمين أينما كانوا أن يناصروا الله وأن يبينوا للحاكم ما يجب عليه، وما يحرم عليه حتى يكون على بينة وعلى بصيرة، وأن يكون ذلك بالأسلوب المناسب وبالأسلوب الطيب الذي يدعو للقبول والرضا وعدم النفرة.
وكذلك يجب التناصح بين العلماء في بيان الدعوة إلى الله وتوجيه الناس إلى الخير في المساجد والمجتمعات، وتشجيع من يقوم بواجبه في الدعوة إلى الله عز وجل.
__________
(1) نشرت هذه الكلمة في مجلة الدعوة في 1\3\1411 هـ وفي هذا المجموع ج 6 ص 147.(18/313)
وهكذا تشجيع الخطباء في تحري الخطب المناسبة التي تنفع الناس على مقتضى الكتاب والسنة، وألا يتكلم إلا عن علم وبصيرة بما يحل ويحرم. فالمسلمون أشد حاجة إلى الدعوة والنصيحة، وغيرهم في حاجة إلى الدعوة والبلاغ والبيان لعلهم يهتدون.
وهذه الواقعة التي وقعت من حاكم العراق على دولة الكويت وما جاء بعدها فيها عبرة وعظة وفيها ذكرى لنا جميعا.
نسأل الله أن ينفعنا بذلك وأن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وأن يوفقنا إلى ما فيه صلاح قلوبنا وصلاح أعمالنا، وأن يهدينا جميعا لما يرضيه، ويقربنا إليه.
والواجب على كل مسلم ومسلمة الجهاد بالنفس والحساب لها، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (1) ويقول جل وعلا: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (2)
والواجب على الأمير والحاكم والقاضي وكل مسئول أن يتقي الله ويحاسب نفسه ويجاهدها في الله، وأن يستقيم على
__________
(1) سورة الحشر الآية 18
(2) سورة العنكبوت الآية 69(18/314)
دين الله وأن يحذر محارم الله، وأن يقدم التوبة النصوح من كل ما سلف.
وهكذا كل مؤمن وكل مؤمنة، والواجب على الجميع جهاد النفس لعلها تستقيم وتبتعد عن طاعة الهوى والشيطان لعلها تلزم الحق.
والواجب شكر الله عند السراء والصبر عند البلاء، مع التوبة من التقصير والذنوب.
هذا هو الواجب على جميع المسلمين، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له (1) » (2) رواه مسلم.
فالمؤمن يشكر عند الرخاء والنعمة، ويصبر عند البلاء يجاهدها ويتوب إلى الله، ويستقيم على دين الله، ويبتعد عن محارم الله، يناصر إخوانه، يدعوهم إلى الخير، يحاسب أهل بيته، ويدعوهم إلى الخير، ويأمر بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
وهكذا مع إخوانه ومع زملائه وجيرانه، ينصحهم لله ويدعوهم إلى الحق بالأسلوب الحسن والطيب، ويحذرهم من مغبة المعاصي والشرور لعلهم يتوبون ويرجعون.
__________
(1) صحيح مسلم الزهد والرقائق (2999) ، مسند أحمد بن حنبل (6/16) ، سنن الدارمي الرقاق (2777) .
(2) رواه مسلم في الزهد والرقائق باب المؤمن أمره كله خير برقم 2999.(18/315)
ونسأل الله أن يوفقنا جميعا والمسلمين لكل ما فيه رضاه وصلاح العباد، وأن يوفق شعب العراق، وأن يعينهم على إبدال هذا الرئيس الفاجر الخبيث بأصلح منه، ينفعهم في الدنيا والآخرة، وأن يعينهم على طاعة الله.
نسأل الله أن يبدلهم بخير منه، ممن يرحم العباد ويحكم فيهم شرع الله ويعينهم على طاعة الله.
ونسأل الله أن يوفق شعب العراق بإمام صالح، وبحاكم صالح، ويعينهم على طاعة الله، ويرحم صغيرهم، ويواسي كبيرهم، ويعينهم على كل خير، ويحكم شرع الله عز وجل فيهم.
ونسأل الله أن يزيل الحاكم صدام حسين، وأن يدير عليه دائرة السوء، وأن ينزل في قلبه من الرعب والخوف ما يحمله على سحب جيوشه من الكويت ومن الحدود، إنه جل وعلا جواد كريم.
وأشكركم مرة أخرى على جهودكم وأعمالكم، ونسأل الله أن يتقبل من الجميع إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه.(18/316)
كلمة
لعموم المسلمين إثر بدء عمليات تحرير الكويت
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
إن ما حصل من الجهاد لعدو الله صدام حاكم العراق جهاد شرعي من المسلمين ومن ساعدهم في ذلك لكونه قد ظلم وتعدى واجتاح بلادا آمنة بغير حق، ولهذا وجب جهاده على الدول الإسلامية لإخراجه من الكويت دون قيد أو شرط نصرة للمظلومين، وإقامة للحق وردعا للظالم؛ لأن الله سبحانه أمر بذلك وهكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والواجب على المسلمين بهذه المناسبة تقوى الله سبحانه وتعالى، والاستقامة على دينه، والحذر عما نهى الله عنه، وحسن الظن بالله والتوكل عليه، والإيمان بأنه سبحانه هو الذي بيده النصر والضر والنفع، ولكنه قد شرع الأسباب وأمر بها للاستعانة بها على طاعة الله وأداء حقه وترك معصيته وردع(18/317)
الطاغية عن ظلمه، وحماية بلاد المسلمين وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم.
وينبغي لكل مؤمن ومؤمنة أن يضرع إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء لطلب النصر، وتأييد الحق وأهله، وردع الظالم المعتدي وإبطال كيده وطلب إدارة السوء عليه، والله ولي التوفيق.(18/318)
56 - تحرير دولة الكويت من أيدي المعتدين
الظالمين نعمة من الله عظيمة ونصر عزيز
ضد الظلم والعدوان والإلحاد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه، أما بعد (1) :
فإن ما من الله به على المسلمين المجاهدين في سبيله من تحرير الكويت من أيدي الغاصبين الظالمين والمعتدين الملحدين من أعظم نعم الله سبحانه على أهل الكويت وغيرهم من المسلمين، وغيرهم من محبي الحق والعدل، فجدير بجميع المسلمين في المملكة العربية السعودية والكويت وسائر دول الخليج وغيرهم أن يشكروا الله على ذلك، وأن يستقيموا على دينه، وأن يحذروا أسباب غضبه لما من الله به سبحانه عليهم من هزيمة المعتدين، ونصر المظلومين، وإجابة دعاء المسلمين، وقد وعد الله سبحانه عباده بالنصر والعاقبة الحميدة إذا نصروا دينه واستقاموا عليه واستنصروا به سبحانه وأعدوا
__________
(1) نشرت في صحيفة (الرياض) في 12 \ 9 \ 1411 هـ في العدد (8312) ، ونشرت في هذا المجموع ج 6 ص 156.(18/319)
العدة لعدوهم وأخذوا حذرهم من مكائده، كما قال عز وجل في كتابه المبين: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (1) {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) ، وقال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (5) ، وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (6) . والآيات في هذا المعنى كثيرة وكلها تدل على وجوب الالتجاء إلى الله سبحانه في جميع الأمور والاستعانة به وحده والاستنصار به والاستقامة على دينه والحذر من أسباب غضبه سبحانه، كما تدل على أنه عز وجل هو الذي بيده النصر لا بيد غيره، كما قال سبحانه:
__________
(1) سورة الأنفال الآية 9
(2) سورة الأنفال الآية 10
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة محمد الآية 7
(6) سورة النور الآية 55(18/320)
{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (1) ، وقال عز وجل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (2) ، وقال سبحانه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (3) ، ولكنه سبحانه مع ما وعد به عباده من النصر أمرهم بالإعداد لعدوهم وأخذ الحذر منه، فقال عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (4) ، وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (5) ، وعلق نصرهم سبحانه على أسباب عظيمة وهي نصر دينه بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والاستقامة على الإيمان، والعمل الصالح. فالواجب على جميع المسلمين في الكويت وغيرها أن يأخذوا بهذه الأسباب وأن يستقيموا عليها، وأن يتواصوا بها أينما كانوا؛ لأن الأخذ بها والاستقامة عليها من أعظم الأسباب للنصر في الدنيا، والأمن ورغد العيش والسعادة في الدنيا والآخرة والفوز بالجنة، والكرامة وحسن العاقبة في
__________
(1) سورة آل عمران الآية 126
(2) سورة آل عمران الآية 160
(3) سورة البقرة الآية 249
(4) سورة الأنفال الآية 60
(5) سورة النساء الآية 71(18/321)
جميع الأمور، كما أوضح ذلك سبحانه في الآية الكريمة السابقة من سورة النور، وهي قوله تعالى عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} (1) الآية وكما أوضح ذلك أيضا سبحانه في قوله عز وجل في سورة الصف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (4) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (5) في هذه الآيات الكريمات، أوضح سبحانه أن الإيمان بالله ورسوله - وهو يشمل أداء ما أوجب الله من الطاعات، وترك ما حرم الله من المعاصي - مع الجهاد في سبيله - وهو شعبة من الإيمان - هما سبب المغفرة لجميع الذنوب، والفوز بالجنة والمساكن الطيبة فيها، كما أنهما هما السبب في حصول النصر والفتح القريب.
فجدير بأهل الإسلام أينما كانوا أن يأخذوا بهذه الأسباب ويتواصوا بها ويستقيموا عليها أينما كانوا؛ لأنها هي سبب
__________
(1) سورة النور الآية 55
(2) سورة الصف الآية 10
(3) سورة الصف الآية 11
(4) سورة الصف الآية 12
(5) سورة الصف الآية 13(18/322)
عزهم ونصرهم وأمنهم في الدنيا، وهي سبب فوزهم ونجاتهم في الآخرة، وهي أيضا سبب الربح والفوز بأنواع الكرامة وأنواع السعادة في هذه الدنيا وفي الآخرة، كما قال الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) ، وأصل الإيمان وأساسه توحيد الله والإخلاص له وترك الإشراك به، كما قال عز وجل في كتابه العظيم: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (4) ، والمعنى: أمر وأوصى، وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (5) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (6) ، وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (7) .
ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى أهل اليمن، أمره أن يدعوهم أولا إلى توحيد الله والإخلاص له والإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وما ذاك إلا؛ لأن هذه الأصول الثلاثة هي أصول الدين العظمى، من استقام عليها وأدى حقها استقام على بقية أمور الدين من
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3
(4) سورة الإسراء الآية 23
(5) سورة الزمر الآية 2
(6) سورة الزمر الآية 3
(7) سورة البينة الآية 5(18/323)
الصيام والحج وسائر ما أمر الله به ورسوله، وعلى ترك كل ما نهى الله عنه ورسوله، ومن أعظم شعب الإيمان، ومن تحقيق شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، تحكيم شرع الله بين عباده في كل شئونهم، كما قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في سورة المائدة: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (1) الآية، ثم قال بعد ذلك سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (2) إلى أن قال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (3) ، وقال عز وجل في سورة المائدة أيضا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (4) ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (5) ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (6) ، وقال سبحانه في سورة النساء: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (7) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 48
(2) سورة المائدة الآية 49
(3) سورة المائدة الآية 50
(4) سورة المائدة الآية 44
(5) سورة المائدة الآية 45
(6) سورة المائدة الآية 47
(7) سورة النساء الآية 65(18/224)
فأوضح سبحانه في هذه الآيات الكريمات أن الواجب على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأمة في كل زمان ومكان أن يحكموا شرع الله في جميع ما شجر بينهم وفي جميع شئونهم الدينية والدنيوية، وحذر سبحانه من اتباع الهوى وطاعة أعداء الله في عدم تحكيم شريعته، وأخبر سبحانه أن حكمه هو أحسن الأحكام، وأن جميع الأحكام المخالفة لحكمه كلها من أحكام الجاهلية، وأخبر سبحانه أن الحكم بغير ما أنزل كفر وظلم وفسق، وبين سبحانه أنه لا إيمان لمن لم يحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، وينشرح صدره لذلك ويسلم له تسليما، فالواجب على جميع حكام المسلمين أن يلتزموا بحكمه سبحانه، وأن يحكموا شرعه بين عباده، وألا يكون في أنفسهم حرج من ذلك، وأن يحذروا اتباع الهوى المخالف لشرعه، وألا يطيعوا من دعاهم إلى تحكيم أي قانون أو نظام يخالف ما دل عليه كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبين سبحانه أنه لا إيمان لأهل الإسلام إلا بذلك، فكل من زعم أن تحكيم القوانين الوضعية المخالفة لشرع الله أمر جائز أو أنه أنسب للناس من تحكيم شرع الله، أو أنه لا فرق بين تحكيم شرع الله وتحكيم(18/325)
القوانين التي وضعها البشر المخالفة لشرع الله عز وجل فهو مرتد عن الإسلام، كافر بعد الإيمان إن كان مسلما قبل أن يقول هذا القول أو يعتقد هذا الاعتقاد، وكما صرح بذلك أهل العلم والإيمان من علماء التفسير وفقهاء المسلمين في باب حكم المرتد، ومن أشكل عليه شيء مما ذكرنا فليراجع ما ذكره العلماء في تفسير الآيات السابقات، كالإمام ابن جرير، والإمام البغوي، والحافظ ابن كثير، وغيرهم من علماء التفسير، وليراجع ما ذكره العلماء في باب حكم المرتد، وهو المسلم يكفر بعد إسلامه حتى يتضح له الحق وتزول عنه الشبهة.
أما من حكم بغير ما أنزل الله وهو يعلم ذلك، لرشوة دفعت إليه من المحكوم له، أو لعداوة بينه وبين المحكوم عليه، أو لأسباب أخرى فإنه قد أتى منكرا عظيما وكبيرة من الكبائر، كما أنه قد أتى نوعا من الكفر والظلم والفسق لكنه لا يخرجه عمل ذلك من ملة الإسلام، ولكنه يكون بذلك قد أتى معصية عظيمة وتعرض لعذاب الله وعقابه، وهو على خطر عظيم من انتكاس القلب والردة عن الإسلام، نعوذ بالله من ذلك، وقد يطلق بعض العلماء أنه أتى بذلك كفرا أصغر وظلما أصغر وفسقا أصغر، كما روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وعطاء وجماعة من السلف رحمهم الله.
والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين، ويمنحهم(18/326)
الفقه في دينه، ويوزعهم شكر نعمه، وأن يصلح قادتهم، ويولي عليهم خيارهم، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويخذل أعداء الإسلام أينما كانوا، وأن يعيذنا والمسلمين جميعا من مضلات الفتن وأسباب النقم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(18/327)
57 - لقاء جريدة (المسلمون) مع سماحته
حول الفتنة التي أحدثها حاكم العراق بغزوه للكويت
س: سماحة الشيخ بعد أن هدأ غبار الحرب الآن كيف السبيل - في رأي سماحتكم- إلى إزالة غبار الفتنة التي نشأت عن أزمة الخليج؟
ج: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فلا شك أن الفتنة التي فجر أسبابها حاكم العراق فتنة عظيمة وترتب عليها شرور كثيرة. والحمد لله الذي من بالقضاء عليها وتحرير دولة الكويت، ودحر الظالم والقضاء عليه وعلى عدوانه. ولا شك أن ذلك من نعم الله العظيمة، فنشكر الله على ذلك ونسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين وأن يوفقهم لما يرضيه. والواجب على الصالحين في مقابل هذه النعمة أن يشكروا الله عز وجل كثيرا وأن يستقيموا على دينه، وأن يحذروا أسباب غضبه، وأن يجتهدوا في رأب الصدع(18/328)
ولم الشمل، على طاعة الله ورسوله واتباع كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، والتواصي بالحق والصبر عليه. هذا هو الطريق لإزالة غبار هذه الفتنة والسلامة من شرها ومكائدها ومكائد من دعا إليها، والله يقول في كتابه العظيم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) ، ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) ، ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (3) وهذا هو السبيل لإزالة غبار هذه الفتنة وآثارها السيئة.
إن السبيل الوحيد هو جمع الكلمة على طاعة الله ورسوله، والتواصي بالحق والصبر عليه من الرؤساء والأعيان والعلماء والعامة حتى يستقيم الجميع على طاعة الله ورسوله، وحتى تكون محبتهم في الله وبغضهم في الله، وموالاتهم في الله ومعاداتهم في الله.
فنسأل الله أن يسلك بنا وبهم صراطه المستقيم، وأن
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) سورة النساء الآية 59(18/329)
يهدينا وإياهم لكل ما فيه رضاه، وأن يعيذنا وكافة المسلمين في كل مكان من أسباب غضبه، وأسباب النزاع الذي يؤدي بالناس إلى ما لا تحمد عقباه.
س: ما هو أبرز درس من الدروس المستفادة من هذه المحنة العظيمة التي أصابت الأمة؟
ج: إن أبرز درس: أن الفتن والحوادث تبين للناس العدو من الصديق، وتقسمهم إلى محق ومبطل، وحاسد وراغب في الخير، ومنصف وجائر. فالواجب على المؤمن عند وجود المحن أن يكون مع الحق لا مع هواه ولا مع الباطل، بل يجب أن يكون مع الحق يدور معه أينما دار، ومن كان مع الحق دعا إليه ونصره، ومن كان مع الظلم والشرك والبدعة خالفه ودعا إلى تركه وعدم التعاون معه. ففي هذه الفتنة معلوم أن حاكم العراق ظالم معتد على دولة آمنة مسلمة، بغى عليها واعتدى ظلما وعدوانا، وهو بعثي ملحد. إن واجب المسلمين جميعا أن يكونوا مع الحق ضد الظالم والمعتدي. ومن المؤسف أن تكون جماعة من الفئة الكافرة تنصر المحق وتردع الظالم، بينما دول تنتسب إلى الإسلام تقف مع المبطل والظالم. إن هذا لمن العجائب والغرائب. فالواجب على من ينتسب للإسلام ومن يدعي الإسلام أن يكون مع الإسلام حقيقة، وأن يكون مع طالب الحق ومع ناصر(18/330)
الحق، لا مع الظالم والمعتدي ولو كان قريبه أو أخاه فالواجب نصر المحق وردع الظالم والقضاء على ظلمه بالطرق المناسبة التي يحصل بها المطلوب، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قيل: يا رسول الله أنصره مظلوما، فكيف أنصره ظالما؟ قال: تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه (1) » وهذا الحديث العظيم من جوامع الكلم. فالواجب على أهل الإسلام أن يطبقوه وأن يلتزموا به مع القريب والبعيد.
__________
(1) رواه البخاري في (الإكراه) باب يمين الرجل لصاحبه برقم (6952) ، والترمذي في (الفتن) باب ما جاء في النهي عن سب الرياح برقم (2255) .(18/331)
س: أدت الفتنة إلى اندفاع بعض القيادات والجماعات الإسلامية إلى تأييد الباغي، فماذا تقولون لهم الآن بعد أن انتهت الحرب؟
ج: نقول لهم: إن باب التوبة مفتوح، فالواجب على من حاد عن الصواب أن يرجع إلى الصواب، وأن يتوب إلى الله وأن يندم على ما فرط فيه من الخطأ، وأن يعود إلى الرشد والهدى والحق، والله يمحو بالتوبة ما قبلها من الخطأ والضلال، كما قال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ،
__________
(1) سورة النور الآية 31(18/331)
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (1) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (2) » والتوبة النصوح تشمل أمورا ثلاثة: الأمر الأول: الندم على الخطأ والزلل والظلم والعدوان. والثاني: الإقلاع عن الذنب وتركه والحذر منه رغبة فيما عند الله، وتعظيما له سبحانه. والثالث: العزم الصادق على عدم العودة إليه إخلاصا لله ومحبة وتعظيما له.
وهناك شرط رابع لا بد منه أيضا: فيما يتعلق بحق المخلوقين، فلا بد أن يتخلص من الظلم المالي والدموي والعرضي، لا بد من توبة، بأن ترد المظلمة أو تستبيح المظلومين. وإذا استوفى الإنسان هذه الشروط- رغبة فيما عند الله وتعظيما له سبحانه- تاب الله عليه ومحا عنه سيئاته، كما قال تعالى في حق الكفرة: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (3) ، وقال سبحانه في حق الجميع: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (4) .
__________
(1) سورة التحريم الآية 8
(2) رواه ابن ماجه في (الزهد) باب ذكر التوبة برقم (4250) .
(3) سورة الأنفال الآية 38
(4) سورة الزمر الآية 53(18/332)
أجمع أهل العلم أن المراد بهذه الآية التائبون.
س: هناك من يقول إن بعض الدول والجماعات في العالم العربي والإسلامي تخلوا عنا ووقفوا ضدنا وناصروا طاغية العراق، لذلك ينبغي أن نعيد النظر في علاقتنا بهم ونوقف مساعداتنا لهم وننصرف إلى شئوننا الذاتية ونقتصر على أنفسنا، فما رأيكم في مثل هذا القول؟
ج: الواجب على الدول الإسلامية وعلى رؤسائها التعاون على البر والتقوى، ومن أراد الخير وندم على ما فرط منه من الظلم- فالمشروع أن يتعاون معه على البر والتقوى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (1) ، وإذا أساء إليك بعض الناس فمن الأحسن لك أن تقابل إساءته بالإحسان والصفح والعفو، إذا لم يستمر على الإساءة، واستقام على الحق ولم يعتد، فإن الرجوع إلى الحق ليس عيبا، ولا ينبغي أن تطغى الحزازات والعداوات على المصلحة العامة للمسلمين، فإن عاقبة ذلك وخيمة. ولكن ينبغي السير في إزالتها بالعفو والصفح والإصلاح، وعلى من أساء أن يظهر التوبة والاعتذار عما جرى منه وأن يبدل سيئاته حسنات. فالحسنة تمحو السيئة إذا صدق صاحبها. أما إذا استمر المعتدي على عدوانه ولم يرغب في
__________
(1) سورة الشورى الآية 40(18/333)
الصلح والتعاون- فالواجب حينئذ عدم التعاون معه إذا كان التعاون معه يضر الدعوة الإسلامية أو يضر المجتمع الإسلامي أو يفضي إلى فساد الأخلاق.
س: انساقت بعض الجماهير، ومنهم بعض شباب الصحوة الإسلامية في بعض البلدان وراء بعض القيادات التي رفعت شعارات تناصر النظام العراقي العلماني مما يدل على أن هناك قصورا أو خللا في منهج الدعوة وقلة العلم الشرعي الذي تربى عليه هؤلاء الشباب، فكيف يمكن أن نعالج مثل هذا الخلل، وما هو دور العلماء في ذلك؟
ج: لا شك أن هذا واقع، وأن نقص العلم يسبب وقوع المجتمع في أخطاء كثيرة. والواجب على العلماء في كل مكان بذل الدعوة وبذل النصيحة ونشر العلم بين الناس ولا سيما بين الشباب الذين يرغبون في العلم ويدعون إلى الله عز وجل. وعلى طالب العلم أن يقبل العلم ويسعى إلى أن يتبصر ولا يعجل. والواجب على الشباب وعلى غيرهم ممن ليس عندهم العلم الكافي ألا يعجلوا في الأمور وأن يتفقهوا في الدين ويستمعوا لتوجيه العلماء مما يقال ويكتب حتى يكونوا على بينة، وعليهم أن يتدبروا ما يطلعون عليه أو يقال لهم أو يسمعونه في إذاعة أو غيرها، ويعرضوه على الأدلة الشرعية، وأن يسألوا أهل العلم عما أشكل عليهم وممن يوثق فيهم،(18/334)
حتى يكونوا على بينة، ويتحروا أهل العلم الذين يعرفون بنشر الحق والعناية به وإقامة الأدلة عليه ويستفيدوا من علمهم.
أما الاندفاع مع الشعارات التي يروج لها فلان أو فلان أو يؤيدها فلان أو فلان فهذا لا ينبغي لعاقل، وإن كثرة الكلام والبلاغة ليست دليلا على الحق، بل الدليل على الحق هو ما قال الله سبحانه وما قال رسوله صلى الله عليه وسلم مع العناية بدراسة القواعد الشرعية والأسس المرعية التي دل عليها قول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهي المعيار الذي يستنبط منه ويؤخذ عن طريقه الحق عند عدم وجود النص من الكتاب أو السنة، أما قول فلان، وما أذاعته الإذاعة الفلانية فهذا لا ينبغي لعاقل أن يغتر به، بل ينبغي للعاقل أن يكون الكتاب والسنة والقواعد الشرعية هي التي يبني عليها ما يختاره وما يرده. وينبغي أيضا ألا يستقل بنفسه في بعض المسائل التي تخفى عليه، بل ينبغي أن يستفيد من إخوانه، وأن يسأل من يثق به من أهل العلم، وألا يعجل في الأمور حتى يطمئن إلى أن هذا هو الحق، لا لأنه قاله فلان أو الحاكم الفلاني أو الرئيس الفلاني أو الزعيم الفلاني.
س: ترك الشورى وعدم تطبيق الشريعة كان من أبرز الأسباب التي أدت إلى طغيان حاكم العراق، فهل من كلمة توجهونها عبر جريدة (المسلمون) لقادة المسلمين(18/335)
وأعيانهم في هذا المجال؟
ج: الشورى من أهم المهمات في الدول الإسلامية والجماعات الإسلامية. لذلك ينبغي العناية بالشورى الإسلامية، وهي من صفات المؤمنين كما قال جل وعلا: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (1) ، وقال جل وعلا: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (2) ، فالتشاور في الأمور التي ليس فيها دليل واضح من أهم المهمات، أما إذا كان النص صريحا من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا تشاور.
إنما الشورى تكون فيما قد يخفى من المسائل التي تبدو للحاكم أو للجماعة أو للمركز الإسلامي ومن فيه أو لغير ذلك، هذا محل الشورى، والشورى تكون في معرفة الحق، أو في كيفية تنفيذه والدعوة إليه، أو في معرفة الباطل وفي أدلته وكيفية القضاء عليه ودفعه ومحاربته.
وهناك أمر ينبغي أن يلاحظ وهو أن الشورى محكومة من أهل العلم والبصيرة، وأعيان الناس العارفين بأحوال المجتمع، يتشاورون ويتعاونون، لا من هب ودب، ولا من الناس الملاحدة أو من الناس المعروفين بالعقائد الزائفة، بل من الناس المعروفين بالعقل الراجح والعلم والفضل والتبصر في أحوال الناس إن كانوا من أعيان المجتمع حتى يحصل التعاون معهم في معرفة الحق
__________
(1) سورة الشورى الآية 38
(2) سورة آل عمران الآية 159(18/336)
فيما قد يخفى دليله، أو في الأمور التي تحتاج إلى نظر وعناية في كيفية تنفيذ الحق أو كيفية ردع الباطل والقضاء عليه.(18/337)
س: في أثناء الأزمة حصل شيء من الاختلاف بين طلبة العلم والخطباء وإن كان محدودا والحمد لله، فماذا تقولون في ذلك؟
ج: لا شك أنه وقع بعض الاختلاف في بعض المسائل من بعض المحاضرين وبعض الخطباء وفي بعض الندوات عن حسن ظن أو عن جهل من بعض إخواننا. والواجب على الجميع الرجوع إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أن الواجب على الخطيب وعلى المحاضر في الندوات أن يتثبت في الأمور، وألا يتعجل حتى يطمئن أنه على الحق والهدى بالأدلة الشرعية، فلا ينبغي أن يعجل في فتوى أو إصدار أحكام على غير بصيرة. وعلى كل طالب علم، وعلى كل من يشارك في الندوات، أو يلقي المحاضرات، أو يقوم بخطب الجمعة، أو غيرها أن يتثبت في الأمور وألا يحكم على أي شيء بأنه حرام أو واجب أو مستحب أو مباح أو مكروه إلا على بصيرة حتى لا يضل الناس بسببه.
وأما مسألة الاستعانة بالدول الأجنبية فإن بعض إخواننا ظن أن هذا لا يجوز، وأن ما أقدمت عليه الدولة السعودية من الاستعانة ببعض الدول الأجنبية غلط، فهذا غلط من قائله.(18/337)
فالدولة السعودية كانت محتاجة إلى هذا الشيء، بل مضطرة؛ لما عند حاكم العراق من قوة كبيرة، ولأنه باغت دولة الكويت واجتاحها ظلما وعدوانا، فاضطرت الدولة السعودية إلى الاستعانة ببعض المسلمين وبعض الدول الأجنبية؛ لأن الواقع خطير والمدة ضيقة ليس فيها متسع للتساهل. فهي في هذا الأمر قد أحسنت وفعلت ما ينبغي لردع الظالم وحصره حتى لا يقدم على ضرر أكبر وحتى يسحب جيشه من الدولة المظلومة. والمقصود أن الاستعانة بالمشرك أو بدولة كافرة عند الحاجة الشديدة أو الضرورة وفي الأوقات التي لا يتيسر فيها من يقوم بالواجب ويحصل به المطلوب من المسلمين- أمر لازم لردع الشر الذي هو أخطر وأعظم، فإن قاعدة الشرع المطهر هي: " دفع أكبر الضررين بأدناهما " وتحصيل كبرى المصلحتين، أما أن يتساهل الحاكم أو الرئيس أو ولي الأمر أو غيرهم من المسئولين حتى يقع الخطر وتقع المصيبة فذلك لا يجوز، بل يجب أن يتخذ لكل شيء عدته وأن تنتهز الفرص لردع الظلم والقضاء عليه وحماية المسلمين من الأخطار التي لو وقعت لكان شرها أخطر وأكبر.
وقد درس مجلس هيئة كبار العلماء هذه المسألة وهي الاستعانة بغير المسلمين عند الضرورة في قتال المشركين والملاحدة وأفتى بجواز ذلك عند الضرورة إليه، للأسباب التي ذكرنا آنفا. والله المستعان.(18/338)
58 - رسائل الشيخ ابن باز إلى الشعب
الكويتي وأهالي الشهداء والشعب العراقي
والشباب والعلماء وطلبة العلم (1)
أ- الشعب الكويتي:
نحمد الله لكم أن يسر لكم تحرير بلادكم ونشكر الله على ذلك، ونسأله سبحانه أن يضاعف الأجر لإخوانكم المسلمين الذي ساهموا في هذا الأمر العظيم وأن يجزيهم خيرا وأن يوفق المسلمين جميعا لكل ما فيه رضاه وأن يكونوا أبدا متعاونين على البر والتقوى وعلى ردع الظلم.
إن عليكم أيها الإخوة في الكويت أن تشكروا الله على النعمة العظيمة بتحرير بلادكم من الظالم المعتدي، وعليكم أن تستقيموا على دين الله، وأن تتوبوا إلى الله من جميع الذنوب، وأن تتناصحوا وتتعاونوا على البر والتقوى حتى تستمر النعمة ويكفيكم الله شر الأعداء.
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته بعد تحرير دولة الكويت من العدوان العراقي، ونشرت في هذا المجموع ج6 ص 180.(18/339)
ب- أهالي الشهداء:
إلى أولياء وأهالي الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله وفي نصر المظلوم وردع الظالم وإقامة الحق، إنهم في هذا الأمر على خير عظيم ونرجو لهم الشهادة والنجاة من النار، والسعادة، ونعزي ذويهم وأقاربهم وأصحابهم، ونسأل الله أن يرحمهم ويغفر لهم، وأن يجبر مصيبة ذويهم ويحسن عزاءهم ويعوضهم عنهم خيرا، وأن يرزقهم الصبر والاحتساب، وأن يغفر للميتين ويصلح أحوال الأحياء إنه جواد كريم. وفي الحقيقة إنها نعمة من الله، فالقتل في سبيل الحق وإنقاذ المسلمين من الشر وردع الظالمين ونصر دين الله والقضاء على الفساد من نعم الله العظيمة، ومن الجهاد في سبيل الله، فينبغي أن يهنأ أولياؤهم بهذا الخير العظيم الذي رزقهم الله وهو الشهادة.
ج- الشعب العراقي:
أوصيكم أيها الشعب بتقوى الله والتوبة إليه مما سلف منكم من شر وخطأ وظلم وعدوان، وأن تجتهدوا في اختيار الحاكم الصالح الذي يحكم فيكم شرع الله ويقودكم إلى الجنة والكرامة، وأن تحذروا شر صدام وأمثاله، وأن تحرصوا على عدم بقائه في الحكم، وأن تجتهدوا في كل ما يقرب إلى الله(18/340)
ويبعد عن غضبه. ومن أسباب ذلك اختيار الحاكم الصالح الذي يحكم شرع الله، ويدعو إلى دين الله، ويحارب البدع والأهواء، ويبتعد من الإلحاد والدعوة إليه، وينبغي لكم أن تختاروا الحاكم من أهل السنة لا من البعثيين ولا من غيرهم ممن يخالف شرع الله حتى يقودكم إلى طاعة الله ويباعدكم عن أسباب غضبه وانتقامه.
د- شباب الصحوة:
أوجه رسالتي هذه إلى جميع الشباب الذين وفقهم الله إلى التمسك بالدين والدعوة إليه والتفقه فيه في جميع بلاد الله، وأوصيهم بتقوى الله والتثبت في الأمور وعدم العجلة، كما أوصيهم بالعناية بالقرآن الكريم تلاوة وتدبرا وحفظا ومراجعة ومدارسة، وأوصيهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظا لها وعناية بها ومذاكرة فيها. وأوصيهم بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والأسلوب الحسن والكلام الطيب، لا بالعنف والشدة وإنما باللين والتبصر، كما قال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) وأوصيهم بعدم العجلة في كل الأمور والتثبت والتشاور والتعاون على الخير حتى يفقهوا الدين
__________
(1) سورة النحل الآية 125(18/341)
كما ينبغي، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » فالعجلة قد تفضي إلى شر عظيم. فالواجب التثبت والعناية بالأدلة الشرعية، والحرص على حلقات العلم عند أهل العلم المعروفين بالاستقامة وحسن العقيدة.
هـ - العلماء وطلبة العلم:
أوصي العلماء جميعا وطلبة العلم بتقوى الله، والعناية بتحقيق العلم بالأدلة الشرعية، لا بتقليد فلان أو فلان، كما أوصيهم جميعا بالعناية بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومراجعة كلام العلماء حتى يعرفوا الحق بالدليل لا بقول فلان وتقليد فلان، كما أوصي طلبة العلم أن يتفقهوا في الدين وأن يأخذوا العلم من أدلته الشرعية، ويتعاونوا على البر والتقوى ويتواصوا بالحق والصبر عليه، وينشروا العلم بين الناس في المساجد وفي غير المساجد، وفي الخطب والندوات وحلقات العلم في المدارس والجامعات وأينما كانوا، وأسأل الله للجميع التوفيق.
__________
(1) رواه البخاري في (العلم) باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين برقم (71) ، ومسلم في (الزكاة) باب النهي عن المسألة برقم (1537) .(18/342)
59 - لقاء أجراه مندوب مجلة المجتمع حول الغزو العراقي للكويت
س: لقد بغى النظام البعثي الكافر في العراق على الكويت، وروع أهلها، واغتصب أرضها وضمها إلى حكمه. ولقد أجاز البعض هذا الفعل بدعوى أنه تمهيد للوحدة بين المسلمين، فهل تجيز الشريعة الإسلامية هذا المسلك الذي سلكه النظام العراقي لتحقيق الوحدة الإسلامية؟
ج: بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، أما بعد:
فلا ريب أن ما عمله حاكم العراق مع الكويت منكر عظيم، وعدوان شنيع لا تجيزه الشريعة الإسلامية، بل تنكره وتحذر منه؛ لما اشتمل عليه من الظلم والعدوان وسفك الدماء ونهب الأموال بغير حق، هذا لو كان مسلما، فكيف وهو كافر بعثي ملحد وإن ادعى الإسلام في بعض الأحيان، أو مدح بعض شعائر الإسلام في بعض الأوقات. فالكافر عند الحاجة ينافق ثم يعود إلى أصله ومعدنه. كما قال الله سبحانه وتعالى في(18/343)
أمثاله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (1) {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} (2) .
ومن زعم أن هذا التصرف الذي فعله حاكم العراق تجيزه الشريعة الإسلامية تمهيدا لوحدة المسلمين فهو غالط غلطا كبيرا، وليس ذلك مما تجيزه الشريعة، وليس ذلك أيضا مما يعتبر تمهيدا لوحدة المسلمين، فإن الوحدة إنما يسعى لها ويقوم بالدعوة إليها أهلها المستقيمون عليها المحافظون على حدودها، الداعون إليها قولا وعملا وعقيدة، لا من حاربها بقوله وعمله وعقيدته.
س: لقد وقف البعض ضد قوات التحالف التي حررت الكويت بدعوى أنها تضم غير المسلمين، ووقفوا مع النظام الكافر في العراق بدعوى أنه نظام يسوس المسلمين، فهل تجيز الشريعة الإسلامية الوقوف مع النظام الكافر الذي يسوس المسلمين حتى لو كان ظالما لمجرد تعاطف الغربيين من النصارى مع المظلومين من المسلمين؟
ج: لا تجوز مناصرة الظالمين ولو كانوا مسلمين فكيف بغير المسلمين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قالوا: يا رسول الله نصرته مظلوما فكيف
__________
(1) سورة النساء الآية 142
(2) سورة النساء الآية 143(18/344)
أنصره ظالما قال: تحجزه عن الظلم (1) » .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنصر المظلوم ولو كان المظلوم كافرا فكيف إذا كان المظلوم مسلما، فإن الأمر يكون أشد إثما وأعظم جريمة في حق الظالم، والله يقول سبحانه في كتابه العظيم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (2) ، وليس من البر ولا من التقوى نصر الظالم وإعانته على ظلمه.
أما الاستعانة ببعض الدول الكافرة لنصر المظلومين من المسلمين ضد الظالم، والوقوف في صفهم ضده فهذا شيء لا حرج فيه، وقد استعان النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أريقط الديلي وهو وثني في الدلالة على طريق المدينة حين هاجر إليها عليه الصلاة والسلام، واستعان بدروع من صفوان بن أمية في حرب هوازن يوم حنين وهو كافر (3) ، واستعان باليهود في تعمير مزارع خيبر بالنصف من ثمارها لما كان المسلمون مشغولين عنها بالجهاد. والأدلة في ذلك كثيرة وهي دالة على جواز الاستعانة بمن يراه ولي الأمر من أهل الشرك
__________
(1) رواه البخاري في (الإكراه) باب يمين الرجل لصاحبه برقم (6952) ، والترمذي في (الفتن) باب ما جاء في النهي عن سب الرياح برقم (2255) .
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) وذلك قبل أن يسلم.(18/345)
على أهل الشرك عند الحاجة إلى ذلك، وعند غلبة الظن في أن المستعان به ينفع المظلومين وينصرهم ولا يضرهم، لما ذكرنا من الأدلة، ولغيرها من الأدلة التي ذكرها أهل العلم في هذه المسألة.
س: تراكض البعض في مبايعة طاغية العراق لمجرد أنه رفع بعض الشعارات الإسلامية، بالرغم من ماضيه القبيح في حربه للإسلام وفتكه بالمسلمين، وبالرغم من استمرار حاضره على منواله المعروف، فهل تقبل الشريعة الإسلامية مبايعة طاغية سفاح يعلن الكفر منهجا له لمجرد مدحه لبعض شعارات الإسلام؟ وما رأي الشريعة فيمن بايع أو أيد أو ناصر هذا الطاغوت؟
ج: لا ريب أن مبايعة مثل هذا الطاغوت ومناصرته من أعظم الجرائم، ومن أعظم الجناية على المسلمين وإدخال الضرر عليهم؛ لأن من شرط البيعة أن يكون المبايع مسلما ينفع المسلمين ولا يضرهم.
أما حاكم العراق فهو بعثي ملحد قد أضر المسلمين بأنواع من الضرر في بلاده، ثم اعتدى على جيرانه، فجمع بين أنواع الظلم علاوة على ما هو عليه من العقيدة الباطلة البعثية، ولو أظهر بعض الشعارات الإسلامية، فالمنافقون يصلون مع الناس ويتظاهرون بالإسلام وذلك لا ينفعهم لفساد عقيدتهم،(18/346)
وقد أخبر الله عنهم سبحانه في كتابه العظيم بصفاتهم الذميمة وأخلاقهم المنكرة، وأخبر أن مصيرهم هو الدرك الأسفل من النار يوم القيامة كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (1) {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (2) الآية، وقال عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (3) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} (4) نسأل الله لحاكم العراق وأنصاره من الظالمين أن يردهم إلى الهداية، وأن ينقذهم مما هم فيه من الضلال، وأن يكفي المسلمين شرهم وشر غيرهم إنه خير مسئول.
س: يميل البعض إلى تفسير الكارثة التي حلت بالكويت على أنها عقاب من الله تعالى للكويتيين للفساد الذي انتشر في بلادهم، ويرى بعض آخر أن الكويت كانت من البلدان التي تحارب الفساد وتنشط في الدعوة للخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي أقل فسادا من كثير من البلاد الإسلامية، وأن شعبها من أنشط الشعوب الإسلامية في الأعمال الخيرية والدعوة للإسلام، وأن ما حل بهم بلاء من الله لإيمانهم، فكيف يرى فضيلتكم
__________
(1) سورة النساء الآية 142
(2) سورة النساء الآية 143
(3) سورة النساء الآية 145
(4) سورة النساء الآية 146(18/347)
تفسير هذه الكارثة من منظور إسلامي؟
ج: لا ريب أن المعاصي لها آثار سيئة على المجتمع الذي تظهر فيه ولا تنكر؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) ، ولقوله عز وجل: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (2) .
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (3) » ، فالمعاصي شرها عظيم وعواقبها وخيمة، وكل ما أصاب المسلمين من العقوبات والنقمات وتسليط الأعداء كله بأسباب الذنوب والمعاصي، كما قال الله جل وعلا فيما أصاب الناس يوم أحد وفيهم رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو أفضل الخلق وفيهم الصحابة، وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء قال فيهم جل وعلا: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} (4)
__________
(1) سورة الشورى الآية 30
(2) سورة النساء الآية 79
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) مسند أبي بكر الصديق برقم (1 و 16) ، وابن ماجه في (الفتن) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برقم (4055) .
(4) سورة آل عمران الآية 152(18/348)
والجواب محذوف تقديره: سلط عليكم العدو، ثم قال بعدها: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (1) ، وقال في الآية الأخرى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} (2) يعني يوم أحد: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} (3) يعني يوم بدر: {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} (4) قال الله سبحانه: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (5) ، فبين سبحانه أن ما أصابهم بأسباب ما حصل من الرماة الذين أخلوا بالموقف وعصوا الرسول عليه الصلاة والسلام فسلط عليهم العدو حتى قتلوا من قتلوا وجرحوا من جرحوا وحصلت الهزيمة حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أصيب وجرح، وكسرت البيضة على رأسه، وكسرت رباعيته عليه الصلاة والسلام.
فالمعاصي شرها كبير وعواقبها سيئة، والواجب على جميع المسلمين الحذر منها والبدار بالتوبة إلى الله منها.
س: ما هي الكلمة التي توجهونها لحكام الكويت وشعبها بعد أن من الله تعالى عليهم بالنصر على عدوهم وتحرير بلدهم؟
ج: أوصي أهل الكويت وغيرهم بالبدار إلى التوبة
__________
(1) سورة آل عمران الآية 152
(2) سورة آل عمران الآية 165
(3) سورة آل عمران الآية 165
(4) سورة آل عمران الآية 165
(5) سورة آل عمران الآية 165(18/349)
والإصلاح والحرص على إقامة شريعة الله في أرضهم وبلادهم، وعلى إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بلادهم. هذا هو الواجب عليهم سواء أصابتهم عقوبة أم لم تصبهم عقوبة.
ولا شك أن هذه المصيبة التي أصابتهم بسبب حاكم العراق لا شك أنها موعظة وذكرى، ونسأل الله أن يجعلها كفارة للذنوب وحالا من خطايا المسلمين في الكويت وغيرها. ولكن يجب على أهل الكويت حكومة وشعبا أن يتقوا الله، وأن يصلحوا ذات بينهم، وأن يحكموا شريعة الله في جميع شئونهم، وأن يبادروا بالتوبة النصوح من جميع الذنوب، وأن يحاسبوا أنفسهم ويجاهدوها لله حتى لا تصيبهم مصائب أخرى، وحتى يسلموا من عقاب الله في الدنيا والآخرة.
وهذا هو واجب المسلمين جميعا، عليهم أن يتقوا الله أينما كانوا، وأن يحاسبوا أنفسهم، وأن يتوبوا إلى الله من سالف ذنوبهم، وأن يحكموا شرعه المطهر فيما بينهم، وأن يستقيموا على الحق حتى يلقوا ربهم سبحانه وتعالى، هذا هو طريق النجاة وهذا هو سبيل السلامة في الدنيا والآخرة كما قال الله عز وجل في كتابه العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (1) ،
__________
(1) سورة الحشر الآية 18(18/350)
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (2) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (4) .
وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (5) وقال سبحانه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (6) ، وقال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (7) ، فالواجب على أهل الإسلام أينما كانوا أن يتقوا الله، وأن يحاسبوا أنفسهم أبدأ، وأن يحذروا المعاصي، وأن يتوبوا إلى الله مما سلف منها، وأن يستقيموا على طاعة الله ورسوله حتى يلقوا ربهم، وأن يتواصوا بذلك، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر كما قال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (8) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة آل عمران الآية 103
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 3
(5) سورة الطلاق الآية 4
(6) سورة الأنفال الآية 25
(7) سورة النور الآية 31
(8) سورة التوبة الآية 71(18/351)
هذا وعده سبحانه لمن استقام على دينه أنه يرحمه في الدنيا بالتوفيق والنصر، وفي الآخرة بدخول الجنة والنجاة من النار. رزق الله الجميع التوفيق والهداية.
وقد يمهل الله سبحانه بعض الكفرة والعصاة ولا يعاجلهم بالعقوبة لحكمة بالغة وأسرار عظيمة، ومنها أن ذلك يكون أشد لعقوبتهم في الآخرة كما قال الله سبحانه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (1) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد به الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة (2) » .
نسأل الله لنا ولجميع المسلمين العافية من غضبه وأسباب عقابه، والتوفيق لحسن العاقبة إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 42
(2) رواه الترمذي في (الزهد) باب ما جاء في الصبر على البلاء برقم (2396) .(18/352)
60 - نداء عام لمساعدة
المسلمين في البوسنة والهرسك
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من تبلغه هذه الرسالة من المسلمين حكومات وشعوبا، وفقهم الله لما فيه رضاه ونصر بهم الحق، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: (1)
فإن إخوانكم من المسلمين في جمهورية البوسنة والهرسك يعذبون من أعداء الله ويقتلون ويعاملون بأنواع العذاب والظلم. فالواجب عليكم جميعا مساعدتهم بأنواع المساعدات بالمال والجاه والدعاء. عملا بقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (2) ، وقوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (3) وقول النبي صلى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه (4) » . وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته، ونشرت في هذا المجموع ج 6 ص 419.
(2) سورة الحجرات الآية 10
(3) سورة المائدة الآية 2
(4) رواه البخاري في (المظالم والغصب) باب نصر المظلوم برقم (2446) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم برقم (2585)(18/353)
الجسد بالسهر والحمى (1) » متفق على صحتهما.
ولما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من الأمر بنصر المظلوم في قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه (2) » متفق على صحته.
ولما أوجب الله من نصر المسلمين ضد أعداء الله فإن إخوانكم من المسلمين في جمهورية البوسنة والهرسك في صراع مع أعداء الله من الصرب وأنصارهم، فالواجب على جميع المسلمين أن يساعدوهم بالمستطاع للأدلة المذكورة من الآيات والأحاديث، ولقوله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3) وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم (4) » وهم من أحق الناس بالمساعدة من الزكاة
__________
(1) رواه البخاري في (الأدب) باب رحمة الناس والبهائم برقم (6011) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم برقم (2586) .
(2) رواه البخاري في (المظالم والغصب) باب لا يظلم المسلم المسلم برقم (2442) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تحريم الظلم برقم (2580) .
(3) سورة التغابن الآية 16
(4) رواه البخاري في (الاعتصام بالكتاب والسنة) باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم (7288) ، ومسلم في (الحج) باب فرض الحج مرة في العمر برقم (1337) .(18/354)
وغيرها دعما لنضالهم وسدا لحاجتهم وإعانة لهم على الصمود أمام أعداء الله سبحانه وتعالى، ونوصي جميع لجان الإغاثة في المملكة العربية السعودية وغيرها بالعناية بشأنهم وجمع التبرعات لهم من الزكاة وغيرها.
والله المسئول أن يوفق المسلمين حكومات وشعوبا لكل خير، وأن ينصر بهم دينه ويخذل بهم أعداءه، وأن يعينهم على نصر إخوانهم المظلومين في كل مكان، وأن يوفق إخواننا المسلمين في جمهورية البوسنة والهرسك وغيرهما لكل ما فيه رضاه، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يجمعهم على الحق، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم، وأن يكتب لهم النصر على أعدائه سبحانه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رئيس المجلس التأسيسي
لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
والرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
في المملكة العربية السعودية(18/355)
61 - نداء إلى الأمة الإسلامية لمساعدة شعب البوسنة والهرسك
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يبلغه من المسلمين في كل مكان.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: (1)
فليس بخاف عليكم ما يعانيه شعب البوسنة والهرسك من ظلم واضطهاد وتقتيل وتشريد وحرب لا هوادة فيها تدمر الأخضر واليابس من قبل طغمة كافرة معتدية ظالمة حاقدة على الإسلام والمسلمين، هم أولئك الصرب الذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة.
فالواجب على جميع المسلمين - حكومات وشعوبا- أن يبادروا إلى مساعدتهم بجميع أنواع المساعدة؛ من النقود والغذاء والدواء وغير ذلك من أنواع المساعدات، كل على حسب قدرته؛ لقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (2) وقوله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3) وقوله سبحانه:
__________
(1) صدر من مكتب سماحته بتاريخ 8 \ 2 \ 1414 هـ، ونشر في هذا المجموع ج 8 ص 260.
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة التغابن الآية 16(18/356)
{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (1) وقوله عز وجل: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) وقوله عز وجل: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه (4) » متفق على صحته، ومعنى لا يسلمه: لا يخذله، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا (5) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله مثل الصائم القائم (6) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يكذبه ولا يحقره ولا يخذله (7) » .
__________
(1) سورة البقرة الآية 195
(2) سورة التوبة الآية 41
(3) سورة البقرة الآية 274
(4) رواه البخاري في (المظالم والغصب) باب لا يظلم المسلم برقم (2442) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تحريم الظلم برقم (2580) .
(5) رواه البخاري في (الجهاد والسير) باب فضل من جهز غازيا أو خلفه بخير برقم (2843) ، ومسلم في (الإمارة) باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله برقم (1895) .
(6) صحيح البخاري الجهاد والسير (2787) .
(7) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب تحريم ظلم المسلم وخذله برقم (2564) .(18/357)
والآيات والأحاديث في فضل الجهاد والإنفاق في سبيل الله ومساعدة المظلومين وردع الظالمين كثيرة جدا.
فأوصيكم أيها المسلمون جميعا بالمساعدة العاجلة لإخوانكم بواسطة اللجان الموثوقة والهيئات المأمونة، ومن الهيئات الموثوقة الهيئة العليا لجمع التبرعات لمسلمي البوسنة والهرسك التي يرأسها صاحب السمو الملكي الأمير المكرم سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض.
فأوصي الجميع بدعمها بصفة مستمرة حتى ينصر الله المسلمين وأعوانهم في البوسنة والهرسك، ويخذل الظالمين، وتضع الحرب أوزارها، وهم مستحقون للمساعدة من الزكاة أو غيرها. مع العلم بأن التبرعات تودع في بنك الرياض ومصرف الراجحي والبنك الأهلي.
والله المسئول أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وينصر إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك على أعداء الله من الصرب وغيرهم، وأن يكبت أعداء الإسلام أينما كانوا، كما أسأله سبحانه أن يوفق المجاهدين في سبيله في كل مكان، وينصرهم على عدوهم، إنه جل وعلا سميع الدعاء قريب الإجابة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.(18/358)
62 - وجوب نصر المسلمين المظلومين
في البوسنة وغيرها على جميع المسلمين
وغيرهم حسب الاستطاعة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: (1)
فإن من عرف أحوال المسلمين في البوسنة والهرسك، وما جرى عليهم من الظلم من الكروات والصرب وأنصارهم يتألم كثيرا ويحزن لخذلان إخوانهم لهم، وعدم نصرهم النصر الكافي الذي يمكنهم من الدفاع عن أنفسهم واستعادة ما أخذه عدوهم من أرضهم، وقد أوجب الله سبحانه نصر المظلومين وردع الظالمين من المسلمين وغيرهم، كما قال الله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ} (2) الآية.
فإذا كانت الطائفة المؤمنة الباغية يجب أن تقاتل حتى تفيء إلى الحق فالظالمة الكافرة من باب أولى، وقال تعالى:
__________
(1) نشرت في هذا المجموع ج 8 ص 257.
(2) سورة الحجرات الآية 9(18/359)
{وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (1) والمعنى: يجب أن لا يتولاهم أحد ولا ينصرهم، وقال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) وقال سبحانه: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (3) .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة الأمر بنصر المظلوم، فقال عليه الصلاة والسلام: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قيل: يا رسول الله، نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه (4) » فنصر المظلوم وردع الظالم من أي جنس كان واجب شرعا وعقلا وفطرة.
فالواجب على جميع الدول الإسلامية وعلى مجلس الأمن وعلى مجلس هيئة الأمم أن ينصروا المظلومين في البوسنة وغيرها بالمال والسلاح والرجال، وأن يردعوا الظالمين
__________
(1) سورة الشورى الآية 8
(2) سورة الشورى الآية 42
(3) سورة الأنفال الآية 72
(4) رواه البخاري في (الإكراه) باب يمين الرجل لصاحبه برقم (6952) ، والترمذي في (الفتن) باب ما جاء في النهي عن سب الرياح برقم (2255) .(18/360)
بجميع الوسائل الرادعة حتى يقف الظالم عند حده، وحتى يعطى المظلوم جميع حقوقه، وبذلك تبرأ الذمة ويستحق الثواب الجزيل من الله عز وجل من فعل ذلك ابتغاء وجهه، وبذلك أيضا يأمن العباد، وتستوفى الحقوق، ويقف الظالمون عند حدودهم، وقد قال الله عز وجل في كتابه العظيم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) وقال سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة (5) » وقال صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا (6) » وقال عليه الصلاة والسلام: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) رواه البخاري في (المظالم والغصب) باب الظلم ظلمات يوم القيامة برقم (2447) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تحريم الظلم برقم (2578) .
(6) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب تحريم الظلم برقم (2577) .(18/361)
في حاجته (1) » .
والآيات والأحاديث في وجوب نصر المظلوم وردع الظالم والتعاون على الخير والتواصي بالحق والصبر عليه كثيرة معلومة.
والله المسئول أن ينصر المظلومين في كل مكان، وأن يذل الظالمين ويخذلهم، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يولي عليهم خيارهم، ويصلح قادتهم، وأن ينصرهم بالحق وينصر الحق بهم، وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) رواه مسلم في (الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار) باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن برقم (2699) .(18/362)
63 - دعوة إلى المبادرة بإسعاف المسلمين في البوسنة والهرسك
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، أما بعد: (1)
فإن رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة تهيب بالمجتمع الدولي وبالحكومات الإسلامية إلى المبادرة بإسعاف المسلمين في جمهورية البوسنة والهرسك بالقوة العسكرية التي تعينهم على الدفاع عن أنفسهم وتردع الصرب الظالمين عن عدوانهم.
ولا شك أن كل من له أدنى معرفة بالواقع ورغبة في العدالة يعلم ظلم الصرب وعدوانهم على المسلمين في البوسنة والهرسك، وأنهم جديرون بإيقافهم عند حدهم، وإنزال أشد العقوبات بهم حتى يرتدعوا عن ظلمهم ويلتزموا بالمواثيق الدولية، وحتى يسلم المسلمون في البوسنة والهرسك من ظلمهم وعدوانهم المتكرر بلا حياء ولا خجل ولا مراعاة للعهود الدولية.
فالله الله أيها الحكام المسلمون، انصروا إخوانكم، وقفوا
__________
(1) نشرت في هذا المجموع ج 8 ص 256.(18/363)
في صفهم، وادفعوا العدوان عنهم، وطالبوا المجتمع الدولي باستعمال نفوذهم في إيقاف الصرب عن عدوانهم، وإنزال أشد العقوبات بهم حتى يقفوا عند حدهم، ويلتزموا بالمواثيق الدولية التي التزم بها المسلمون في البوسنة والهرسك.
والله المسئول أن ينصر الحق وأهله، وأن يخذل الباطل وحزبه، وأن ينزل بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين بأعداء الله الصرب الظالمين، إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله صحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
ورئيس المجلس التأسيس
لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة(18/364)
64 - ساعدوا مسلمي
البوسنة والهرسك بالمال والسلاح
دعا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء المسلمين- حكومات وشعوبا- لمساندة المسلمين في البوسنة والهرسك ودعمهم بالسلاح والمال والدعاء لحاجتهم لذلك.
جاء ذلك في كلمة وجهها سماحته لعموم المسلمين، وقال فيها: (1) .
نظرا لما ابتلي به المسلمون في البوسنة والهرسك من تسلط الصرب على المسلمين هناك بأنواع القتل والأذى والظلم والعدوان، ونظرا إلى صمود المسلمين هناك ضد عدوهم، وصلابتهم في دينهم، وحاجتهم إلى الدعم والمساعدة من إخوانهم المسلمين- حكومات وشعوبا- فإني أوصي المسلمين جميعا بالوقوف في صفهم والعناية بدعمهم، ومساعدتهم بالسلاح والمال والدعاء لأنهم في أشد الحاجة إلى ذلك، وقد
__________
(1) نشرت في جريدة (الشرق الأوسط) في العدد (6095) بتاريخ 10\3\1416 هـ، وفي هذا المجموع ج 8 ص 262.(18/365)
قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (2) وقال عز وجل: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} (3) وقال سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (5) » . وقال عليه الصلاة والسلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا. وشبك بين أصابعه (6) » . وقال عليه الصلاة والسلام: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته (7) » . متفق على صحته.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة محمد الآية 7
(3) سورة الصافات الآية 37
(4) سورة التوبة الآية 41
(5) رواه البخاري في (الأدب) باب رحمة الناس والبهائم برقم (6011) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم برقم (2586)
(6) رواه البخاري في (المظالم والغصب) باب نصر المظلوم برقم (2446) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم برقم (2585) .
(7) رواه البخاري في (المظالم والغصب) باب لا يظلم المسلم برقم (2442) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تحريم الظلم برقم (2580)(18/366)
والآيات والأحاديث في فضل الجهاد والتعاون على البر والتقوى وإعانة المسلم لأخيه بكل ما يستطيع ولا سيما ضد الأعداء كثيرة جدا.
ومن التعاون على البر والتقوى الدعاء لهم في أدبار الصلوات بالقنوت؛ تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فإنه كان عليه الصلاة والسلام إذا نزلت بالمسلمين شدة أو عدو قنت في الصلاة ودعا على المشركين، وذلك بعد الرفع من الركوع في الركعة الأخيرة من صلاة الفجر وغيرها، وكان أغلب قنوته صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر والمغرب، وربما قنت في الصلوات الخمس جميعا.
فالله الله أيها المسلمون في نصر إخوانكم في البوسنة والهرسك بكل ما تستطيعون؛ من السلاح والمال والدعاء، لعل الله يتقبل منكم وينصر بكم إخوانكم، فإن الأعداء قد تكالبوا عليهم وخذلوهم وساعدوا أعداءهم، والله سبحانه وتعالى أوجب على المسلمين أينما كانوا أن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يعتصموا بحبل الله جميعا ضد عدوهم، وأن يسألوه النصر على الأعداء وحسن العاقبة، وهو القائل سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) وهو القائل عز وجل:
__________
(1) سورة غافر الآية 60(18/367)
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2)
وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينصر إخواننا المسلمين في البوسنة وغيرها على أعدائهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يثبتهم على الهدى، وأن يخذل أعداءهم ويجعل الدائرة عليهم، إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، وأتباعه بإحسان.
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة الحج الآية 41(18/368)
65 - مناشدة المسلمين لمساعدة الشيشان
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من إخواننا المسلمين سلك الله بنا وبهم سبيل عباده الصالحين، وجعلنا وإياهم من أنصار دينه القويم، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (4) وقال عز وجل: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (6)
__________
(1) سورة الصف الآية 10
(2) سورة الصف الآية 11
(3) سورة الصف الآية 12
(4) سورة الصف الآية 13
(5) سورة التوبة الآية 41
(6) سورة التوبة الآية 111(18/369)
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (1) » . وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا. وشبك بين أصابعه (2) » . وقال صلى الله عليه وسلم: «من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا (3) » . وقال صلى الله عليه وسلم: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (4) » .
__________
(1) رواه البخاري في (الأدب) باب رحمة الناس والبهائم برقم (6011) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم برقم (2586) .
(2) رواه البخاري في (المظالم والغصب) باب نصر المظلوم برقم (2446) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم برقم (2585) .
(3) رواه البخاري في (الجهاد والسير) باب فضل من جهز غازيا أو خلفه بخير برقم (2843) ومسلم في (الإمارة) باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله برقم (1895)
(4) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين من الصحابة) مسند أنس بن مالك برقم (11837) وأبو داود في (الجهاد) باب كراهية ترك الغزو برقم (2504) .(18/370)
والآيات والأحاديث في فضل الجهاد والإنفاق فيه والتشجيع على ذلك كثيرة معلومة.
ولذا فإن من واجب المسلمين المسارعة إلى نجدة إخوانهم الذين يتعرضون للظلم والعدوان، ومن هؤلاء إخوانكم في الشيشان، يقاومون اعتداء روسيا على بلادهم، ويحتاجون إلى مد يد المساعدة لهم؛ حتى يتمكنوا من مقاومة أعدائهم الذين يملكون العدة والعتاد.
فمساعدة المجاهدين بالنفس والمال من أفضل القربات ومن أعظم الأعمال الصالحات، وهم من أحق الناس بالمساعدة من الزكاة وغيرها، وهم في أشد الضرورة إلى دعم إخوانهم المسلمين ومساعدتهم في قتال عدوهم عدو الإسلام والمسلمين، وتطهير بلادهم من رجس الكفرة من الشيوعيين وغيرهم.
والواجب على إخوانهم المسلمين من الحكام والأثرياء أن يدعموهم، ويعينوهم، ويشدوا أزرهم، وإني أهيب بجميع إخواني المسلمين من رؤساء الحكومات الإسلامية وغيرهم من الأثرياء في كل مكان بأن يقدموا لإخوانهم المسلمين الشيشان مما آتاهم الله من فضله، ومن الزكاة التي فرضها الله في أموالهم حقا لمن حددهم الله جل وعلا في سورة التوبة وهم ثمانية، قد دخل إخواننا المجاهدون في الشيشان من ضمنهم.
والله تبارك وتعالى قد فرض حقا في مال الغني لأخيه(18/371)
المسلم في آيات كثيرة في كتابه الكريم، كقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (1) {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (2) وقوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (3) وقوله سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (4) وقوله سبحانه: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (5) وهو سبحانه يثيب المسلم على ما يقدم لإخوانه ثوابا عاجلا، وثوابا أخرويا جد جزاءه عنده في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، كما أنه يدفع عنه في الدنيا بعض المصائب التي لولا الله سبحانه ثم الصدقات والإحسان لحلت به أو بماله، فدفع الله شرها بصدقته الطيبة وعمله الصالح، يقول الله عز وجل: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (6) ويقول عز وجل:
__________
(1) سورة المعارج الآية 24
(2) سورة المعارج الآية 25
(3) سورة الحديد الآية 7
(4) سورة البقرة الآية 261
(5) سورة البقرة الآية 195
(6) سورة المزمل الآية 20(18/372)
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (1) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما نقص مال من صدقة (2) » . ويقول صلوات الله وسلامه عليه: «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار (3) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «اتقوا النار ولو بشق تمرة (4) » . وإخوانكم في الشيشان أيها المسلمون، يقاسون آلام الجوع والجراح والقتل والتشريد، فهم في أشد الضرورة إلى الكساء والطعام، وفي أشد الضرورة إلى الدواء، كما أنهم في أشد الضرورة إلى هذه الأشياء وإلى السلاح الذي يقاتلون به أعداء الله وأعداءهم، فجودوا عليهم أيها المسلمون مما أعطاكم الله، واعطفوا عليهم يبارك الله لكم ويخلف عليكم ويضاعف لكم الأجور، وهذه النفقة تؤجرون عليها وتخلف عليكم، كما تقدم في قوله سبحانه: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (5) وفي قوله سبحانه:
__________
(1) سورة سبأ الآية 39
(2) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب استحباب العفو والتواضع برقم (2588) .
(3) رواه الترمذي في (الجمعة) باب ما ذكر في فضل الصلاة برقم 614
(4) رواه البخاري في (الزكاة) باب اتقوا النار ولو بشق تمرة برقم (1417) ، ومسلم في (الزكاة) باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة برقم (1016)
(5) سورة المزمل الآية 20(18/373)
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (1)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: «يقول الله عز وجل: يا ابن آدم أنفق أنفق عليك (2) » .
ونسأل الله عز وجل أن يضاعف أجر من ساهم في مساعدة إخوانه المجاهدين ويتقبل منه، وأن يعين المجاهدين في الشيشان وسائر المجاهدين في سبيله في كل مكان على كل خير، ويثبت أقدامهم في جهادهم، ويمنحهم الفقه في الدين والصدق والإخلاص، وأن ينصرهم على أعداء الإسلام أينما كانوا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه إلى يوم الدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة سبأ الآية 39
(2) رواه البخاري في (النفقات) باب فضل النفقة على الأهل برقم (5352) ، ومسلم في (الزكاة) باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف برقم (993)(18/374)
66 - الرابطة الإسلامية هي أعظم
الوسائل التي تربط بين المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد:.
فإن الأخوة الدينية بين الشعوب الإسلامية هي أقوى الوشائج والروابط التي تشد الأمة وتؤلف بينها لتكون قوية متماسكة في وجوه أعدائها المتربصين بها من الكفار والمنافقين، وهذه النعمة- نعمة التآلف بين قلوب المسلمين- هي التي امتن الله بها على نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (1) {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) وامتن بها على المسلمين جميعا رجالا ونساء في قوله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3)
__________
(1) سورة الأنفال الآية 62
(2) سورة الأنفال الآية 63
(3) سورة التوبة الآية 71(18/374)
وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يكذبه ولا يخذله التقوى هاهنا- وأشار إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (2) » . رواه الإمام مسلم في صحيحه. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وهذه النعمة العظيمة قد ضاق بها أعداء الإسلام، وعملوا جاهدين لتفكيك أواصر الأمة وزرع أسباب الفرقة والتنازع بينهم لتذهب ريح الأمة وقوتها وليسهل إذلالها وقهرها والسيطرة عليها. وكما يقولون: فرق تسد.
ومن أقوى وسائل الأعداء في هذا وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وما تبثه من الأخبار الكاذبة
__________
(1) سورة الحجرات الآية 10
(2) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب تحريم ظلم المسلم وخذله برقم (2564) .(18/376)
والمحرفة التي تزرع الشر والفتن وأسباب الكراهية والحقد والفرقة بين المسلمين
ومن أهم الواجبات على المسلمين جميعا ولا سيما العلماء ورجال الإعلام المنصفون: التصدي لهذه الحملات الحاقدة التي تستغل الأحداث لإثارة الشكوك وإزالة الثقة بين المسلمين أفرادا وجماعات، حكاما ومحكومين.
ومما يلاحظ في هذا العام بشكل خاص أن كثيرا من وكالات الأنباء العالمية التي تخدم مخططات أعداء الإسلام وتخضع لمراكز التوجيه النصراني والماسوني تخطط بأسلوب ماكر لإثارة العالم كله ضد ما يسمونه (الأصوليين) وهم يقصدون بذلك الذم والقدح في المسلمين المتمسكين بالإسلام على أصوله الصحيحة، الذين يرفضون مسايرة الأهواء والتقارب بين الثقافات والأديان الباطلة.
وقد وقع بعض الإعلاميين المسلمين في مصيدة الأعداء، وأخذوا ينقلون تلك الأخبار المعادية للإسلام، وأصبحوا يتداولونها عن جهل بمقاصد أصحابها، أو غرض في نفوس بعضهم، فكانوا بفعلهم هذا أعوانا للأعداء على الإسلام والمسلمين بدلا من قيامهم بواجب التصدي لأعداء الإسلام، وإبطال كيدهم ببيان أهمية الرابطة الدينية والأخوة الإسلامية بين الشعوب الإسلامية. وإن الأخطاء الفردية التي لا يسلم منها(18/377)
أحد لا ينبغي أن تكون مبررا للتشنيع على الإسلام والمسلمين والتفريق بينهم.
ولهذا رأيت تحرير هذه الكلمة الموجزة نصيحة المسلمين جميعا من الإعلاميين وغيرهم في الدول الإسلامية وغيرها، وتحذيرا للجميع من مكائد الأعداء من الكافرين والمنافقين والسائرين على نهجهم. وأن يصونوا الإعلام الإسلامي المقروء والمسموع والمرئي من أن يكون وسيلة للتشكيك في الإسلام والدعاة إليه، أو أن يستخدم للتفريق بين علماء الأمة وشعوبها والناصحين لها، وغرس أسباب الشحناء والتباغض بين حكامها ومحكوميها وعلمائها وعامتها. وأن يبذلوا كل ما يستطيعون في التقريب بين المسلمين وجمع كلمتهم، ودعوتهم حكاما ومحكومين للتمسك بدينهم والاستقامة عليه وتحكيم شريعة الله في عباده والتواصي بذلك، والتعاون عليه بالأساليب الحسنة والنصيحة الخالصة والعمل الصالح الدائب، والسليمة الحميدة عملا بقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) وقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4)
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(18/378)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة. قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » . رواه مسلم في صحيحه. ولما روى جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم (2) » . متفق على صحته.
كما أوصي العلماء وجميع الدعاة وأنصار الحق أن يتجنبوا المسيرات والمظاهرات التي تضر الدعوة ولا تنفعها وتسبب الفرقة بين المسلمين والفتنة بين الحكام والمحكومين. وإنما الواجب سلوك السبيل الموصلة إلى الحق واستعمال الوسائل التي تنفع ولا تضر وتجمع ولا تفرق وتنشر الدعوة بين المسلمين وتبين لهم ما يجب عليهم بالكتابات والأشرطة المفيدة والمحاضرات النافعة، وخطب الجمع الهادفة التي توضح الحق وتدعو إليه، وتبين الباطل وتحذر منه، مع
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) حديث تميم الداري برقم (16499) ، ومسلم في (الإيمان) باب بيان أن الدين النصيحة برقم (55)
(2) رواه البخاري في (الإيمان) باب الدين النصيحة برقم (57) ، ومسلم في (الإيمان) باب بيان أن الدين النصيحة برقم (56) .(18/379)
الزيارات المفيدة للحكام والمسئولين، والمناصحة كتابة أو مشافهة بالرفق والحكمة والأسلوب الحسن، عملا بقول الله عز وجل في وصف نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (1) الآية. وقوله عز وجل لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام لما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا، وتطاوعوا ولا تختلفوا (3) » . وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (4) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (5) » . وكل هذه الأحاديث صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2) سورة طه الآية 44
(3) رواه البخاري في (العلم) باب ما كان النبي صلى الله عليه ومسلم يتخولهم بالموعظة برقم (69) ، ومسلم في (الجهاد والسير) باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير برقم (1734) .
(4) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب فضل الرفق برقم (2594) .
(5) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب الرفق برقم (2592) ، وأبو داود في (الأدب) باب في الرفق برقم (4809) واللفظ له(18/380)
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به، اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه (1) » . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين جميعا ويجمع كلمتهم على الحق، وأن يصلح قادتهم وولاة أمرهم، ويوفقهم لتحكيم شريعته والرضا بها وإيثارها على ما سواها، وأن ينصر بهم دينه ويعلي بهم كلمته، وأن يعينهم على كل ما فيه صلاح أمور دينهم ودنياهم، وعلى كل ما فيه سعادتهم وسعادة شعوبهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، وأن يوفق علماء المسلمين ودعاة الإسلام لأداء ما يجب عليهم على الوجه الذي يرضيه، وأن يبارك في جهودهم وينصر بهم الحق ويعينهم على كل ما فيه صلاح العباد والبلاد إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) رواه مسلم في (الإمارة) باب فضيلة الإمام العادل برقم (1828)(18/381)
67 - أسباب نصر الله للمؤمنين على أعدائهم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد
فإنني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوة في الله في أشرف بقعة من بقاع الدنيا وهي: مكة المكرمة للتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى وبيان أسباب انتصار المسلمين على أعدائهم وبيان ضد ذلك، وأسال الله جل وعلا أن يجعله لقاء مباركا وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح ولاة أمر المسلمين جميعا، ويمنحهم الفقه في الدين، وأن يوفقهم لتحكيم شريعته بين عباده، كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا في هذه البلاد لكل خير، وأن يعينهم على كل ما فيه صلاح العباد والبلاد وأن يصلح لهم البطانة وأن ينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل ويجعلهم من الهداة المهتدين إنه خير(18/382)
مسئول. ثم إني أشكر إخواني القائمين على هذا النادي وعلى رأسهم معالي الأخ الدكتور راشد بن راجح مدير جامعة أم القرى، ورئيس النادي على دعوتهم لي لهذا اللقاء، وأسأل الله أن يبارك في الجميع، وأن يصلح أحوالنا جميعا ويجعلنا من دعاة الهدى وأنصار الحق إنه سميع قريب.
أيها الإخوة في الله، ذكر معالي الدكتور راشد حفظه الله في المقدمة أنني رئيس هيئة كبار العلماء، وأحب التصحيح فإن الرئاسة للهيئة محصورة في خمسة من كبار السن من الأعضاء تدور بينهم الرئاسة كل واحد في السنة الخامسة يأتيه الدور وأنا واحد منهم، ولست رئيس الهيئة ولكني واحد من رؤساء الهيئة، أما ما يتعلق بموضوع المحاضرة وهي: (أسباب نصر الله للمؤمنين) فالله جل وعلا جعل للنصر أسبابا وجعل للخذلان أسبابا، فالواجب على أهل الإيمان في جهادهم وفي سائر شئونهم أن يأخذوا بأسباب النصر ويستمسكوا بها في كل مكان في المسجد وفي البيت وفي الطريق وفي لقاء الأعداء وفي جميع الأحوال. فعلى المؤمنين أن يلتزموا بأمر الله، وأن ينصحوا لله ولعباده، وأن يحذروا المعاصي التي هي من أسباب الخذلان، ومن المعاصي التفريط في أسباب النصر: الأسباب الحسية التي جعلها الله أسبابا لا بد منها، كما أنه لا بد من الأسباب الدينية، فالتفريط في هذا أو هذا سبب الخذلان والله جل وعلا يقول في كتابه العظيم وهو(18/383)
أصدق القائلين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) هذه الآية العظيمة خطاب لجميع المؤمنين أوضح فيها سبحانه أنهم إذا نصروا الله نصرهم سبحانه وتعالى. ونصر الله من المؤمنين هو: اتباع شريعته ونصر دينه والقيام بحقه، وليس هو سبحانه في حاجة إلى عباده بل هم المحتاجون إليه كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (2) {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} (3) فالناس كلهم جنهم وإنسهم ملوكهم وعامتهم كلهم في حاجة إلى ربهم وكلهم فقراء إلى الله، والله سبحانه هو الغني الحميد، فنصره سبحانه هو نصر شريعته، وهو نصر دينه هذا هو نصره، نصر ما بعث به رسوله وأنزل به كتابه الكريم، فإذا قام المسلمون بنصر دينه والقيام بحقه ونصر أوليائه نصرهم الله على عدوهم ويسر أمورهم وجعل لهم العاقبة الحميدة كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (4) وقال سبحانه: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (5) والصبر والتقوى يكونان بنصر الله، والقيام بدينه
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة فاطر الآية 15
(3) سورة فاطر الآية 16
(4) سورة هود الآية 49
(5) سورة آل عمران الآية 120(18/384)
سبحانه، والتواصي بذلك في السر والجهر في الشدة والرخاء في حال الجهاد وما قبله وما بعده وفي جميع الأحوال.
ولما حذر سبحانه من اتخاذ البطانة من دون المؤمنين في قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (1) بين سبحانه في آخر الآيات أنهم إذا صبروا واتقوا لم يضرهم أعداؤهم فقال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (2) وفي الآية الأخرى يقول جل وعلا: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (3) وفي الأخرى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (4) ويقول سبحانه: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (5) فنصر الله جل وعلا باتباع شريعته والصبر على ذلك كما قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (6) وهذا مثل
__________
(1) سورة آل عمران الآية 118
(2) سورة آل عمران الآية 120
(3) سورة آل عمران الآية 186
(4) سورة يوسف الآية 90
(5) سورة الأنفال الآية 46
(6) سورة محمد الآية 7(18/385)
قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك (1) » فمن حفظ الله بحفظ دينه والاستقامة عليه والتواصي بحقه والصبر عليه نصره الله وأيده على عدوه وحفظه من مكائده، وقال عز وجل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) والمؤمنون هم الذين استقاموا على دين الله وحافظوا على حقه وابتعدوا عن مناهيه كما قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (4) فالمؤمنون هم المتقون وهم أولياء الله، وهم أنصار دين الله ينصرهم الله ويحميهم من كيد أعدائهم ويجعل لهم العاقبة سبحانه وتعالى، ويقول سبحانه في كتابه الكريم: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (5) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (6) هؤلاء هم المنصورون وهم الموعودون بالعاقبة الحميدة، ثم أوضح سبحانه صفات
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) أول مسند عبد الله بن عباس برقم (2664) والترمذي في (صفة القيامة والرقائق) باب منه (ما جاء في صفة أواني الحوض) برقم (2516)
(2) سورة الروم الآية 47
(3) سورة يونس الآية 62
(4) سورة يونس الآية 63
(5) سورة الحج الآية 40
(6) سورة الحج الآية 41(18/386)
الناصرين له فقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} (1) أي: أقدرناهم {أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} (2) يعني: حافظوا على هذه وهذه كما أمر الله، فأقاموا الصلاة كما أمر الله بأركانها وواجباتها وغير ذلك من شئونها، وأدوا الزكاة طيبة بها نفوسهم كما شرع الله، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهذا يعم جميع الأوامر والنواهي فيدخل في المعروف: الصيام والحج والجهاد وبر الوالدين وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله، ويدخل في المنكر كل ما نهى الله عنه من أنواع الشرك وسائر المعاصي، فالمؤمنون يوحدون الله ويؤمنون به إيمانا صادقا، ويلتزمون بتوحيده والإخلاص له وتصديق أخباره وأخبار رسوله عليه الصلاة والسلام وبالقيام بحقه كما أمر، ومع ذلك يحذرون ما نهى عنه ويبتعدون عما حرمه عليهم رغبة فيما عنده وطلبا لمرضاته جل وعلا وحذرا من عقابه سبحانه وتعالى، فهؤلاء هم المؤمنون حقا وهم المتقون المذكورون في قوله تعالى في سورة الأنفال: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (3) فربنا ينوع العبارات في صفات المؤمنين وترجع إلى شيء واحد كما قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} (4) فيدخل في هذا الصلاة والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر ما
__________
(1) سورة الحج الآية 41
(2) سورة الحج الآية 41
(3) سورة الأنفال الآية 34
(4) سورة آل عمران الآية 120(18/387)
أمر الله به ورسوله، كما يدخل في ذلك من باب أولى توحيد الله والإيمان به والإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام، وتصديق أخبار الله ورسوله كلها داخلة في قوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} (1) كما أنها داخلة في قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) فالصبر والتقوى يشتمل على فعل جميع الأوامر وترك النواهي، فإن هذا هو النصر لله بفعل أوامره وترك نواهيه عن إيمان وعن إخلاص لله وتوحيد له سبحانه وإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، لا عن مجرد شجاعة وحمية، ولا ليقال إنه كذا وكذا، ولا لمقصد آخر غير اتباع الشرع، فالنصر لدين الله يكون بطاعة الله وتعظيمه والإخلاص له والرغبة فيما عنده سبحانه وتعالى والعمل بشريعته يريد ثوابه وإقامة دينه، فمن كان بهذه الصفة فهو من المؤمنين الذين قال الله فيهم: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3) ويقول فيهم جل وعلا: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (4) {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (5) يعني بذلك العاقبة الوخيمة وهي اللعنة وسوء الدار، فالعاقبة
__________
(1) سورة آل عمران الآية 120
(2) سورة الحج الآية 41
(3) سورة محمد الآية 7
(4) سورة غافر الآية 51
(5) سورة غافر الآية 52(18/388)
الوخيمة هي النار والطرد من رحمة الله لأنهم لم ينصروا الله ولم ينصروا دينه، فالظالمون لا تنفعهم المعاذير ولهم اللعنة ولهم سوء الدار يوم القيامة، بخلاف من نصر دين الله واستقام عليه فلهم الرضا والكرامة والعاقبة الحميدة وذلك بالنصر في الدنيا والفوز في الآخرة بدخول الجنة والنجاة من النار، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، فالرسل وأتباعهم وهم المؤمنون لهم النصر في الدنيا بإظهارهم على عدوهم وتمكينهم من عدوهم وجعل العاقبة الحميدة لهم ضد عدوهم، وفي الآخرة لهم النصر بدخول الجنة والنجاة من النار والسلامة من هول اليوم العظيم، ويقول عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) هؤلاء هم أنصار الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم الذين أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهم الذين نصروا دين الله واستقاموا عليه، فالآيات والأحاديث يفسر بعضها بعضا ويدل بعضها على معنى بعض، فأنصار الله هم المؤمنون، وهم المتقون، وهم الصابرون
__________
(1) سورة النور الآية 55(18/389)
الصادقون، وهم الأبرار، وهم الذين إذا مكنوا في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات المذكورون في هذه الآية من سورة النور، وهم الذين قاموا بهذين الأمرين، آمنوا بالله ورسوله، آمنوا بأن الله ربهم وهو معبودهم الحق خصوه بالعبادة وآمنوا بأسمائه وصفاته واستقاموا على دينه قولا وعملا وعقيدة، هؤلاء هم المؤمنون، هم أنصار الله، هم أنصار دينه، وهم المتقون، وهم الذين قال فيهم: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} (1) وهم المؤمنون الذين ذكروا في قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) وهم المذكورون في قوله جل وعلا: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ} (4) الآية، وفي قوله عز وجل: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (5) وهم الموعودون بالاستخلاف في الأرض والتمكين لدينهم وإبدالهم بعد الخوف أمنا وبعد الذل عزا.
فعليك يا عبد الله أن تعرف هذا المعنى جيدا وأن تعمل به حتى تكون من أنصار الله، وحتى تحصل لك العاقبة الحميدة
__________
(1) سورة آل عمران الآية 120
(2) سورة الروم الآية 47
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة غافر الآية 51(18/390)
التي وعد الله بها أنصاره، فالله وعد أنصاره بالنصر والعاقبة الحميدة والتمكين في الأرض وأن يبدلهم بخوفهم أمنا لما أخافوا أعداءه من أجله، وصبروا على دينه، وجاهدوا في الله وقدموا أنفسهم في سبيله سبحانه رخيصة يرجون رحمته ويخافون عقابه، قد باعوها لله وسلموها لله عملا بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (1) الآية، فهؤلاء هم أنصار الله الذين ثبتوا على دينه واستقاموا عليه قولا وعملا في الأمن والخوف في الشدة والرخاء جاهدوا لله وصبروا فجعل الله لهم العاقبة الحميدة كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (2) وعدهم بالهداية وأنهم هم المحسنون المنصورون. ولما توافرت هذه الأسباب في الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم في يوم بدر نصروا على الكفار وهم أضعافهم، أضعافهم في القوة والعدد ومع ذلك نصروا عليهم لأنهم حققوا هذه الصفات، نصروا دين الله بالقول والعمل، وصبروا في لقاء الأعداء وصدقوا، فمكنهم الله وهزم عدوهم وجعل لهم العاقبة الحميدة، وهكذا في يوم الأحزاب صدقوا وصبروا وصابروا صبرا عظيما مع كون الكفار
__________
(1) سورة التوبة الآية 111
(2) سورة العنكبوت الآية 69(18/391)
أضعاف المسلمين.
فصبر المسلمون وهم محاصرون حتى نصرهم الله بأمر من عنده على عدوهم بجنود لم يروها حتى زلزلهم وردهم خائبين لم ينالوا خيرا بسبب صبر الصحابة ونبيهم صلى الله عليه وسلم على طاعته وجهاد أعدائه، وهكذا في يوم الفتح نصر الله المسلمين على عدوهم وفتحوا مكة وهزموا الشرك وأعوانه وجيش هوازن فضلا منه سبحانه وتأييدا لأوليائه. وهكذا حصل للصحابة في قتالهم للروم وفارس وغيرهما صبروا وجاهدوا فأفلحوا ونصروا وجعل الله لهم العاقبة الحميدة، فصاروا قادة الناس وملوك الأرض، وسنة الله سبحانه هذه سائرة في عباده إلى يوم القيامة، من نصره نصره، ومن حاد عن دينه خذله، ولما جرى ما جرى يوم أحد من الخلل أصيب المسلمون وهم أفضل خلق الله في أرض الله، فيهم نبيهم صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، وهم بعده وبعد الأنبياء أفضل الخلق، وفيهم الصديق رضي الله عنه أفضل الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيهم عمر أفضل الأمة بعد النبي وبعد الصديق، وفيهم بقية الأخيار.
أصيب المسلمون بسبب الخلل الذي حصل من الرماة لما أخلوا بما أوجب الله عليهم من الصبر لأعداء الله ولزوم الثغر الذي يخشى منه فدخل العدو عليهم، وكان الرسول عليه(18/392)
الصلاة والإسلام قد أمر الرماة أن يلزموا موقعهم وأن لا يبرحوه وإن رأوا العدو يتخطف المسلمين، وإن رأوا المسلمين نصروا لا هذا ولا هذا، فعليهم أن يلزموا مكانهم، فلما انهزم العدو يوم أحد ورآهم الرماة انهزموا ظنوا أنها الفاصلة فأخلوا بمواقعهم، وحاول أميرهم أن يثنيهم عن ذلك فخالفوه ظنا منهم أن الكفار لا عودة لهم وأنهم قد انهزموا انهزاما كاملا فدخل العدو على المسلمين وصارت النكبة على المسلمين والقتل والجراحات والهزيمة حتى حاولوا قتله صلى الله عليه وسلم فأنجاه الله من شرهم وأصابه جراحات وكسروا رباعيته عليه الصلاة والسلام إلى غير هذا مما أصابه عليه الصلاة والسلام، وقتل سبعون من الصحابة وأصاب بعض من بقي جراحات، وأنزل الله فيهم سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} (1) أي: يقتلونهم بإذن الله {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} (2) يعني بذلك الرماة {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} (3) تنازعوا في الأمر واختلفوا {وَعَصَيْتُمْ} (4) بترك الموقع الذي أمركم الرسول صلى الله عليه وسلم بلزومه {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} (5) من هزيمة العدو، والجواب محذوف تقديره سلط العدو عليكم. {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ} (6)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 152
(2) سورة آل عمران الآية 152
(3) سورة آل عمران الآية 152
(4) سورة آل عمران الآية 152
(5) سورة آل عمران الآية 152
(6) سورة آل عمران الآية 152(18/393)
الآية. المقصود أنهم أصيبوا بسبب الخلل الذي وقع منهم في موقف عظيم، لا بد منه في سياسة الجهاد من حفظ الثغور وحفظ المنافذ التي ينفذ منها العدو، فحفظ الثغور التي يدخل منها العدو على المسلمين. وحفظ المنافذ التي يدخل منها العدو على الجيش وقت اللقاء، لا بد فيه للجيش بأن يكون عنده عناية بذلك، وعنده حذر، وعنده حرص على سد كل ثغر يمكن أن ينفذ منه العدو على المسلمين ليضرهم أو يأتيهم من خلفهم. ولما استنكر المسلمون هذا الأمر وهذا الحدث المؤلم من الجراح والقتل، وقالوا: لماذا أصبنا؟ ولماذا جرى هذا؟ وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم خيرة الله من عباده بعد الأنبياء، أنزل الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} (1) قد أصبتم مثليها: يعني يوم بدر، قتلوا سبعين من الكفار وأسروا سبعين، وحصلت جراحات في الكفار كثيرة {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} (2) يعني استنكرتم من أين أصبنا؟ قال تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} (3) وهذا يفيد أن معصية بعض الجيش، وإخلال بعض الجيش بالأسباب مصيبة للجميع، فأصيبوا بسبب بعضهم. وهكذا الناس إذا رأوا المنكرات وشاعت ولم تغير عمت العقوبات، قال النبي صلى الله عليه
__________
(1) سورة آل عمران الآية 165
(2) سورة آل عمران الآية 165
(3) سورة آل عمران الآية 165(18/394)
وسلم: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (1) » أخرجه الإمام أحمد رحمه الله بإسناد صحيح عن الصديق رضي الله عنه. والمقصود أن الواجب على الأمة التآمر بالمعروف، والتناهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، والصدق في ذلك، في كل بلد وفي كل قرية وفي كل قبيلة، عليهم أن يتناصحوا ويتواصوا بالحق والصبر عليه، ويتعاونوا على البر والتقوى، ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر حتى لا تصيبهم كارثة بسبب ذنوبهم وأعمالهم، يقول سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) أي جنس الإنسان {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) هؤلاء هم الرابحون وهم المنصورون. فلا بد من هذه الصفات الأربع: الإيمان الصادق، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر في الجهاد وغيره. وفي المدن والقرى وفي القبائل، لا بد من هذه الخصال الأربع، فمن أراد نصر الله والسلامة لدينه وأراد حسن العاقبة فليتق الله وليصبر على طاعة الله وليحذر محارم الله أينما
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) مسند أبي بكر الصديق برقم (1 و 16) وابن ماجه في (الفتن) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برقم (4005)
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(18/395)
كان، هذا هو سبب نصر الله له وهو من أسباب نجاته في الدنيا والآخرة، فالرجل في بيته وفي المسجد وفي الطريق وفي السيارة والطائرة والقطار وفي محل البيع والشراء وفي الجهاد وفي كل مكان، يجب عليه أن يتقي الله وأن ينصر دين الله بقوله وعمله وفي جهاده وفي جميع شئونه. وهكذا المرأة في بيتها وفي كل مكان عليها أن تتقي الله وأن تنصر دين الله بقولها وعملها حسب الطاقة لقول الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وقوله سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم (3) » متفق على صحته، فالمرأة تبذل النصيحة مع الزوج ومع الأولاد ومع من في البيت من أقارب وخدم ومع الجيران ومع الزميلات ومع الجليسات،
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) رواه البخاري في (الاعتصام بالكتاب والسنة) باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم (7288) ، ومسلم في (الحج) باب فرض الحج مرة في العمر برقم (1337) ، وفي (الفضائل) باب توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه برقم (1337)(18/396)
ترجو بذلك ما عند الله من المثوبة، وأن ينفع بها عباده، وكل واحد من الرجال عليه أن يتقي الله وينصر دينه في قوله وعمله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر عن صدق وإخلاص ورغبة ورهبة، كما قال سبحانه في سورة الأنبياء عن عباده الصالحين: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (1) وقال في سورة المؤمنون: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} (2) {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} (3) {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} (4) {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (5) {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (6) فهذه أسباب النصر، هذه أسباب حماية الله لعباده من كل سوء، وأسباب نصره لهم، وهي من أعظم الأسباب في دخول الجنة والنجاة من النار. ولا بد مع هذا كله من الحرص على الأسباب الدينية والحسية التي يعلم أنها من أسباب النصر؟ لقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} (7)
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 90
(2) سورة المؤمنون الآية 57
(3) سورة المؤمنون الآية 58
(4) سورة المؤمنون الآية 59
(5) سورة المؤمنون الآية 60
(6) سورة المؤمنون الآية 61
(7) سورة النساء الآية 102(18/397)
ويقول سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) الآية، ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (2) وهذا هو الواجب على المؤمنين أن يأخذوا حذرهم من عدوهم عند القتال، وأن يعدوا له ما استطاعوا من قوة من السلاح والعدد، والحرس الجيد، وتكون الملاحظات جيدة، والثغرات مسدودة، والسلاح محمول عند الحاجة حتى ولو كانوا في الصلاة، فلا يجوز أن يقول المجاهد: أنا مؤمن ويكفي، بل لا بد من الأسباب الحسية والمعنوية، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو أفضل المؤمنين وأكمل المتوكلين، والصحابة أفضل المؤمنين بعد الأنبياء، ومع هذا كله أصابهم ما أصابهم يوم أحد، لما أخل الرماة بالشيء الذي يجب عليهم، وأخلوا بالموقف الذي أمروا بلزومه.
فالمعاصي من أسباب الخذلان، كما أن معصية الرماة سبب الهزيمة يوم أحد، وهكذا المعاصي كلها في كل وقت من أسباب الخذلان إذا ظهرت ولم تنكر، تكون من أسباب الخذلان وتسليط الأعداء، وحصول الكثير من المصائب، كما أنها من
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60
(2) سورة النساء الآية 71(18/398)
أسباب قسوة القلب وانتكاسه- نعوذ بالله من ذلك- قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (2) فالمعصية إذا ظهرت ضرت العامة إذا لم تنكر ولم تغير.
فالمؤمنون مأمورون بالاستقامة على تقوى الله، والجهاد لأعداء الله، وأن يصبروا على التقوى والعمل الصالح أينما كانوا، مع الإيمان بأن الله سبحانه سوف ينصرهم ويمكنهم من عدوهم، ويجعلهم بعد خوفهم في أمن وعافية، وبعد القلق في استقرار وراحة، بسبب إيثارهم حقه ونصرهم دينه وتعاونهم على البر والتقوى وصدقهم في ذلك ونصحهم لله ولعباده، ومتى أخلوا بشيء فليعلموا أنه خطر عليهم، وأنه متى أصابهم مصيبة بسبب الخلل فمن عند أنفسهم، كما قال عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (3) ويقول سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (4) وهو
__________
(1) سورة الشورى الآية 30
(2) سورة الحديد الآية 16
(3) سورة الشورى الآية 30
(4) سورة النساء الآية 79(18/399)
القائل سبحانه في سورة آل عمران بعدما ذكر كيد الكفار: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (1) وهو القائل سبحانه في سورة النور: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (2) الآية، وفي سورة محمد يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3)
وأعظم العدو الشيطان، فهو أعظم العدو للإنسان، فإنه يجري منه مجرى الدم. فعليك أن تجاهده بتقوى الله وترك معصيته، وأن تحذر مكائده ووساوسه، وأن تكثر من الاستعاذة بالله منه، مع الإكثار من الحسنات والحذر من السيئات في جميع الأوقات، فهذا هو طريق السلامة من شره ومكائده بتوفيق الله وإعانته، ولا بد مع ذلك من جهاد النفس، والإكثار من ذكر الله، والاستقامة على دينه، والحفاظ على حدوده. والحذر من مكائد عدو الله في كل زمان ومكان. يقول الله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (4) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (5)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 120
(2) سورة النور الآية 55
(3) سورة محمد الآية 7
(4) سورة الطلاق الآية 2
(5) سورة الطلاق الآية 3(18/400)
ويقول تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (1) ويقول عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (2) ويقول سبحانه عن زوجة العزيز: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) ويقول عز وجل في سورة النازعات: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} (4) {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (5) فهذه أسباب النصر، وهذه أسباب النجاة من الأعداء، وهذه أسباب السلامة من مكائد الأعداء، جنهم وإنسهم، حضرهم وبدوهم، قريبهم وبعيدهم، وهي أسباب النصر عليهم، والسلامة من مكائدهم، وهي أن تتقي الله في جميع الأحوال، وأن تحافظ على دينه، وأن تحذر معصيته أينما كنت في الجهاد وغيره، هذه أسباب حفظ الله لك، وحفظ الله لدينه بك، ونصر الله لك على عدوك وخذلان عدوك. ومتى فرط المؤمنون في هذه الأمور فهم في الحقيقة ساعون في تأييد عدوهم في نصره عليهم، والمعنى أن معاصي الجيش عون
__________
(1) سورة الطلاق الآية 4
(2) سورة فاطر الآية 6
(3) سورة يوسف الآية 53
(4) سورة النازعات الآية 40
(5) سورة النازعات الآية 41(18/401)
لعدوهم عليهم كما جرى يوم أحد، فعلى المؤمنين جميعا في أي مكان أن يتقوا الله، وأن ينصروا دينه، وأن يحافظوا على شرعه وأن يحذروا من كل ما يغضبه في أنفسهم وفيمن تحت أيديهم وفي مجتمعهم كل على حسب طاقته، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1)
فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين لما فيه رضاه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يجعلنا من الهداة المهتدين، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يوفق ولاة أمر المسلمين جميعا لما يرضيه، ولم يمكنهم من عدوهم ويعينهم عليه، وأن ينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل، وأن يجعلهم من الهداة المهتدين إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(18/402)
68 - على الحكومات الإسلامية
العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين
أما بعد: فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوتي في الله أعضاء المجلس التأسيسي للرابطة وسائر ضيوفنا الكرام في هذا المجلس في رحاب بيت الله العتيق للنظر في شئون المسلمين والنصيحة لهم ودعوتهم إلى كل ما فيه سعادتهم ونجاحهم. وإني بهذه المناسبة أرحب بإخواني أجمل ترحيب،(18/403)
وأسأل الله أن يوفقنا جميعا لما فيه صلاح البلاد والعباد، وأن يجعلنا جميعا من الهداة المهتدين، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم إنه جل وعلا جواد كريم.
ثم إنه من المعلوم لدى الجميع ما ابتلي به المسلمون اليوم في أنحاء كثيرة في فلسطين، وفي البوسنة والهرسك، وفي الصومال، وفي الفلبين، وفي مواطن كثيرة ابتلوا بشر كثير من أعدائهم. فهم في أشد الحاجة إلى الدعم والمساعدة والمساندة ضد أعداء الله. وسمعنا في كلمة خادم الحرمين الشريفين ما يشفي ويكفي من الدعوة إلى مناصرتهم ودعمهم والعناية بشئونهم من جميع المسلمين، فجزاه الله خيرا وأجزل مثوبته على كلمته، فهي كلمة مهمة نافعة ومفيدة.
وإني أؤيد ما تضمنته كلمته وفقه الله من وجوب التضامن بين المسلمين والتعاون على البر والتقوى والتناصح ضد الأعداء والتواصي بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام والثبات عليها، ودعوة جميع الحكومات الإسلامية إلى تحكيم الشريعة والتحاكم إليها في جميع الشئون والاستقامة عليها، فهي الطريق الوحيد للنصر على الأعداء وجمع الكلمة والتعاون على البر والتقوى.(18/404)
فقد استقام عليها سلفنا الصالح مع نبيهم صلى الله عليه وسلم وبعده، فنصرهم الله على عدوهم فكسروا كسرى، وكسروا قيصر وسادوا في البلاد وحكموا العباد وقادوهم إلى الخير وحكموا فيهم بشرع الله. وبسبب ذلك نصروا من ربهم عز وجل.
ولا سبيل إلى هذا النصر وإلى هذا الجمع الصحيح والاتفاق الصحيح، لا سبيل إلى ذلك إلا بالعودة إلى ما كانوا عليه بالاستقامة على دين الله والنصر لدينه والحكم بشريعة الله. هذا هو الطريق الذي سلكه سلفنا الصالح، ويجب على الحكومات الإسلامية ويجب على العلماء التواصي بهذا الأمر والنصيحة لله ولعباده، وأن يحكم الولاة شرع الله في عباد الله، وأن يلزموا المسلمين بالاستقامة على دين الله قولا وعملا وعقيدة وأن يجتمعوا على الحق والهدى وأن ينصروا إخوانهم أينما كانوا. ويجب على الدول الإسلامية وأولياء المسلمين وعلى كل مسلم حسب طاقته أن ينصر إخوانه بكل ما يستطيع في فلسطين والبوسنة والهرسك والصومال والهند والفلبين وفي كل مكان، ويجب التعاون على البر والتقوى، يجب على المسلمين جميعا ولا سيما الحكومات الإسلامية والرؤساء يجب عليهم أن يبذلوا وسعهم في تحكيم شريعة الله وفي مساعدة إخوانهم في الله حتى ينتصروا على عدوهم وحتى(18/405)
يجتمع شملهم وحتى يأخذوا حقوقهم وافية كاملة. المسلمون شيء واحد. وجسد واحد فالمؤمنون إخوة يجب الإصلاح بينهم ويجب دعمهم ومساعدتهم ضد عدوهم، ويجب التعاون على البر والتقوى في كل شأن. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (1) » ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (2) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه (3) » معنى لا يسلمه لا يخذله بل ينصره ويعينه على الحق وعلى عدوه الذي ظلمه.
ونصيحتي لكل المسلمين في كل مكان ولجميع الدول
__________
(1) رواه البخاري في (المظالم والغصب) باب نصر المظلوم برقم (2446) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم برقم (2585)
(2) رواه البخاري في (الأدب) باب رحمة الناس والبهائم برقم (6011) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم برقم (2586) .
(3) رواه البخاري في (المظالم والغصب) باب لا يظلم المسلم المسلم برقم (2442) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تحريم الظلم برقم (2580)(18/406)
الإسلامية ولرؤسائهم وقادتهم والنصيحة للجميع أن يتقوا الله وأن ينصروا دين الله وأن يحكموا شرع الله فيما بينهم، وأن يلزموا الشعوب بذلك. فهذا هو طريق العزة وطريق الكرامة وطريق الاجتماع على الحق وطريق النصر على الأعداء. ونصيحتي لهم أيضا أن يتقوا الله في مناصرة إخوانهم في كل مكان بالمال والسلاح والرجال في فلسطين والبوسنة والهرسك والصومال والفلبين والهند وفي كل مكان، ويجب على من كان حول المسلمين في كل مكان أن يعينهم بما يستطيع، فاتقوا الله ما استطعتم في نصرهم وإعانتهم وإنصافهم من عدوهم.
وأسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا إلى رضاه ويصلح أحوالهم وأعمالهم وقلوبهم، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق حكام المسلمين جميعا للاستقامة على الحق وتحكيم شريعة الله والتحاكم إليها والثبات عليها والدعوة إليها بصدق وإخلاص، وأن يصلح أحوال المسلمين ويفقههم في الدين، وأن يوفق ولاة أمرنا وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين. نسأل الله أن يوفقهم جميعا لما فيه رضاه وأن ينصر بهم الحق وأن يصلح لهم البطانة وأن يعينهم على كل خير، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(18/407)
69 - نداء وتذكير لمساعدة المجاهدين في فلسطين
من سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد (1)
فقد قال سبحانه في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (4) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (5) وقال عز وجل {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6) وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (7)
__________
(1) نشرت في مجلة (البحوث الإسلامية) العدد (28) عام 1410 هـ
(2) سورة الصف الآية 10
(3) سورة الصف الآية 11
(4) سورة الصف الآية 12
(5) سورة الصف الآية 13
(6) سورة التوبة الآية 41
(7) سورة التوبة الآية 111(18/408)
وثبت عن المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (1) » وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (3) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من جهز غازيا فقد غزا ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا (4) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (5) » .
__________
(1) رواه البخاري في (الأدب) باب رحمة الناس والبهائم برقم (6011) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم برقم (2586)
(2) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، سنن أبو داود الأدب (5131) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .
(3) (2) وشبك بين أصابعه،
(4) رواه البخاري في (الجهاد والسير) باب فضل من جهز غازيا أو خلفه بخير برقم (2843) ، ومسلم في (الإمارة) باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله برقم (1895)
(5) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين من الصحابة) مسند أنس بن مالك برقم (11837) ، وأبو داود في (الجهاد) باب كراهية ترك الغزو برقم (2504) .(18/409)
والآيات والأحاديث في فضل الجهاد والإنفاق فيه والتشجيع على ذلك كثيرة معلومة. فمساعدة المجاهدين في سبيل الله بالنفس والمال من أفضل القربات ومن أعظم الأعمال الصالحات وهم من أحق الناس بالمساعدة من الزكاة وغيرها. ومن حكمة الزكاة في الإسلام والصدقات أن يشعر المسلم برابطة تجذبه نحو أخيه؛ لأنه يشعر بما يؤلمه، ويحس بما يقع عليه من كوارث ومصائب، فيرق له قلبه ويعطف عليه ليدفع مما آتاه الله بنفس راضية وقلب مطمئن بالإيمان.
والمجاهدون في داخل فلسطين - وفقهم الله جميعا- يعانون مشكلات عظيمة في جهادهم لأعداء الإسلام فيصبرون عليها رغم أن عدوهم وعدو الدين الإسلامي يضربهم بقوته وأسلحته. وبكل ما يستطيع من صنوف الدمار وهم بحمد الله صامدون وصابرون على مواصلة الجهاد في سبيل الله كما تتحدث عنهم الأخبار والصحف ومن شاركهم في الجهاد من الثقات، لم يضعفوا ولم تلن شكيمتهم ولكنهم في أشد الضرورة إلى دعم إخوانهم المسلمين ومساعدتهم بالنفوس والأموال في قتال عدوهم عدو الإسلام والمسلمين وتطهير بلادهم من رجس الكفرة وأذنابهم من اليهود.(18/410)
وقد من الله عليهم بالاجتماع وجمع الشمل على التصميم في مواصلة الجهاد. فالواجب على إخوانهم المسلمين الحكام والأثرياء أن يدعموهم ويعينوهم ويشدوا أزرهم حتى يكملوا مسيرة الجهاد ويفوزوا إن شاء الله بالنصر المؤزر على أعدائهم أعداء الإسلام.
وإني أهيب بجميع إخواني المسلمين من رؤساء الحكومات الإسلامية وغيرهم من الأثرياء في كل مكان بأن يقدموا لإخوانهم المجاهدين في فلسطين مما آتاهم الله من فضله ومن الزكاة التي فرضها الله في أموالهم حقا لمن حددهم الله جل وعلا في سورة التوبة وهم ثمانية. قد دخل إخواننا المجاهدون في فلسطين من ضمنهم.
والله تبارك وتعالى قد فرض حقا في مال الغني لأخيه المسلم في آيات كثيرة من كتابه الكريم كقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (1) {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (2) وقوله تعالى {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (3) وقوله سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (4) وقوله سبحانه:
__________
(1) سورة المعارج الآية 24
(2) سورة المعارج الآية 25
(3) سورة الحديد الآية 7
(4) سورة البقرة الآية 261(18/411)
{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (1) وهو سبحانه يثيب المسلم على ما يقدم لإخوانه ثوابا عاجلا وثوابا أخرويا يجد جزاءه عنده في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، كما أنه يدفع عنه في الدنيا بعض المصائب التي لولا الله سبحانه ثم الصدقات والإحسان لحقت به أو بماله فدفع الله شرها بصدقته الطيبة وعمله الصالح. يقول الله عز وجل: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (2) ويقول عز وجل: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (3) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم «ما نقص مال من صدقة (4) » . ويقول صلوات الله وسلامه عليه: «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار (5) » . ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «اتقوا النار ولو بشق تمرة (6) » .
__________
(1) سورة البقرة الآية 195
(2) سورة المزمل الآية 20
(3) سورة سبأ الآية 39
(4) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب استحباب العفو والتواضع برقم (2588) .
(5) رواه الترمذي في (الجمعة) باب ما ذكر في فضل الصلاة برقم (614) .
(6) رواه البخاري في (الزكاة) باب اتقوا النار ولو بشق تمرة برقم (1417) ، ومسلم في (الزكاة) باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة برقم (1016)(18/412)
وإخوانكم المجاهدون في داخل فلسطين أيها المسلمون يقاسون آلام الجوع والجراح والقتل والتشريد فهم في أشد الضرورة إلى الكساء والطعام، وفي أشد الضرورة إلى الدواء، كما أنهم في أشد الضرورة إلى السلاح الذي يقاتلون به أعداء الله وأعداءهم. فجودوا عليهم أيها المسلمون مما أعطاكم الله واعطفوا عليهم يبارك الله لكم ويخلف عليكم ويضاعف لكم الأجور. كما جاء في الحديث الصحيح عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه قوم عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر. فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى. ثم خطب فقال: والآية التي في الحشر: تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره. حتى قال: ولو بشق تمرة. فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت عنها. ثم تتابع الناس حتى رأيت
__________
(1) رواه مسلم في (الزكاة) باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة برقم (1017) .
(2) سورة النساء الآية 1 (1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}(18/413)
كومين من طعام وثياب. حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء (1) » . رواه مسلم في صحيحه. ثم هذه النفقة أيها المسلمون تؤجرون عليها وتخلف عليكم كما تقدم في قوله سبحانه: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (2) وفي قوله سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (3)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: «يقول الله عز وجل: يا ابن آدم أنفق أنفق عليك (4) » . ونسأل الله عز وجل أن يضاعف أجر من ساهم في مساعدة إخوانه المجاهدين ويتقبل منه وأن يعين المجاهدين في فلسطين وسائر
__________
(1) سورة الحشر الآية 18 (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}
(2) سورة المزمل الآية 20
(3) سورة سبأ الآية 39
(4) رواه البخاري في (النفقات) باب فضل النفقة على الأهل برقم (5352) ، ومسلم في (الزكاة) باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف برقم (993)(18/414)
المجاهدين في سبيله في كل مكان على كل خير ويثبت أقدامهم في جهادهم ويمنحهم الفقه في الدين والصدق والإخلاص وأن ينصرهم على أعداء الإسلام أينما كانوا إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد(18/415)
70 - جهاد الفلسطينيين
س: ما تقول الشريعة الإسلامية في جهاد الفلسطينيين الحالي هل هو جهاد في سبيل الله أم جهاد في سبيل الأرض والحرية وهل يعتبر الجهاد من أجل تخليص الأرض جهادا في سبيل الله؟ (1) .
ج: لقد ثبت لدينا بشهادة العدول الثقات أن الانتفاضة الفلسطينية والقائمين بها من خواص المسلمين هناك، وأن جهادهم إسلامي؛ لأنهم مظلومون من اليهود، ولأن الواجب عليهم الدفاع عن دينهم وأنفسهم وأهليهم وأولادهم وإخراج عدوهم من أرضهم بكل ما استطاعوا من قوة. وقد أخبرنا الثقات الذين خالطوهم في جهادهم وشاركوهم في ذلك عن حماسهم الإسلامي وحرصهم على تطبيق الشريعة الإسلامية فيما بينهم فالواجب على الدول الإسلامية وعلى بقية المسلمين تأييدهم ودعمهم ليتخلصوا من عدوهم وليرجعوا إلى بلادهم عملا بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (2)
__________
(1) نشر في مجلة (البحوث الإسلامية) العدد (28) عام 1410 هـ، وفي الجزء الرابع من هذا المجموع ص 295.
(2) سورة التوبة الآية 123(18/416)
وقوله سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) الآيات، وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (4) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (5)
والآيات في هذا المعنى كثيرة وصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (6) »
ولأنهم مظلومون فالواجب على إخوانهم المسلمين نصرهم على من ظلمهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه (7) » متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك
__________
(1) سورة التوبة الآية 41
(2) سورة الصف الآية 10
(3) سورة الصف الآية 11
(4) سورة الصف الآية 12
(5) سورة الصف الآية 13
(6) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين من الصحابة) مسند أنس بن مالك برقم (11837) ، وأبو داود في (الجهاد) باب كراهية ترك الغزو برقم (2504) .
(7) رواه البخاري في (المظالم والغصب) باب لا يظلم المسلم المسلم برقم (2442) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تحريم الظلم برقم (2580) .(18/417)
ظالما أو مظلوما. قالوا: يا رسول الله نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: " تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه (1) »
والأحاديث في وجوب الجهاد في سبيل الله ونصر المظلوم وردع الظالم كثيرة جدا.
فنسأل الله أن ينصر إخواننا المجاهدين في سبيل الله في فلسطين وفي غيرها على عدوهم وأن يجمع كلمتهم على الحق وأن يوفق المسلمين جميعا لمساعدتهم والوقوف في صفهم ضد عدوهم وأن يخذل أعداء الإسلام أينما كانوا وينزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين إنه سميع قريب.
__________
(1) رواه البخاري في (الإكراه) باب يمين الرجل لصاحبه برقم (6952) ، والترمذي في (الفتن) باب ما جاء في النهي عن سب الرياح برقم (2255) .(18/418)
71 - أعظم الجهاد الجهاد بالنفس
س: هل الجهاد في سبيل الله على درجة واحدة سواء كان بالنفس، أو بالمال، أو بدعاء مع القدرة على الجهاد بالنفس؟ (1)
ج: الجهاد أقسام، بالنفس، والمال، والدعاء، والتوجيه،
__________
(1) نشرت في ج7 من هذا المجموع ص334، وفي (فتاوى إسلامية) جمع وترتيب الشيخ محمد المسند ج2 ص261.(18/418)
والإرشاد، والإعانة على الخير من أي طريق، وأعظم الجهاد الجهاد بالنفس، ثم الجهاد بالمال والجهاد بالرأي والتوجيه. والدعوة كذلك من الجهاد، فالجهاد بالنفس أعلاها.(18/419)
72 - هل الإسلام انتشر بالسيف
س: لمزيد من الفائدة ما رأيكم في قول من قال: إن الإسلام انتشر بالسيف، ونريد أن نرد عليهم ردا منطقيا؟ (1)
ج: هذا القول على إطلاقه باطل، فالإسلام انتشر بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وأيد بالسيف، فالنبي صلى الله عليه ويسلم بلغه بالدعوة بمكة ثلاثة عشر عاما، ثم في المدينة قبل أن يؤمر بالقتال، والصحابة والمسلمون انتشروا في الأرض ودعوا إلى الله، ومن أبى جاهدوه؛ لأن السيف منفذ، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (2) وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (3) فمن أبى قاتلوه لمصلحته ونجاته، كما يجب إلزام من عليه حق لمخلوق بأداء الحق الذي عليه ولو بالسجن أو الضرب، ولا يعتبر
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) ، ونشر في هذا المجموع ج 6 ص 223.
(2) سورة الحديد الآية 25
(3) سورة الأنفال الآية 39(18/419)
مظلوما فكيف يستنكر أو يستغرب إلزام من عليه حق لله بأداء حقه فكيف بأعظم الحقوق وأوجبها وهو توحيد الله سبحانه وترك الإشراك به، ومن رحمة الله سبحانه أن شرع الجهاد للمشركين وقتالهم حتى يعبدوا الله وحده ويتركوا عبادة ما سواه، وفي ذلك سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة. والله الموفق.(18/420)
73 - التبرع بنفقة الحج النافلة للمجاهدين أفضل
س: أيهما أولى للمسلم الذي قد أدى ما فرضه الله عليه من الحج هل الأولى تأديته نفلا أي للمرة الثانية؟ أم التبرع بقيمة تكاليف الحج للمجاهدين كي يستطيع أولئك الصمود أمام أعداء الله؟ (1)
ج: من حج الفريضة فالأفضل أن يتبرع بنفقة الحج الثاني للمجاهدين في سبيل الله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لما سئل أي العمل أفضل؟ قال: " إيمان بالله ورسوله " قال السائل: ثم أي؟ قال: " الجهاد في سبيل الله ". قال السائل: ثم أي؟ قال: " حج مبرور (2) » متفق على صحته.
__________
(1) نشرت في جريدة (الجزيرة) بتاريخ 21\11\1413هـ العدد (7531) .
(2) رواه البخاري في (الإيمان) باب من قال: إن الإيمان هو العمل برقم (26) ، ومسلم في (الإيمان) باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال برقم (83) .(18/420)
فجعل الحج بعد الجهاد والمراد به حج النافلة؛ لأن الحج المفروض ركن من أركان الإسلام مع الاستطاعة.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا (1) »
ولا شك أن المجاهدين في سبيل الله في أشد الحاجة إلى المساعدة المادية من إخوانهم، والنفقة فيهم أفضل من النفقة في حج التطوع؛ للحديثين المذكورين وغيرهما.
__________
(1) رواه البخاري في (الجهاد والسير) باب فضل من جهز غازيا أو خلفه بخير برقم (2843) ، ومسلم في (الإمارة) باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله برقم (1895) .(18/421)
74 - حكم من حج أو ذهب للجهاد وترك زوجته لوحدها
س: هل يجوز أن يذهب الرجل للحج أو العمرة دون أن يصطحب معه الزوجة؟ جزاكم الله خيرا (1)
الجواب: يجوز له أن يدعها في البيت ويذهب للحج أو العمرة أو للصلاة، أو للجهاد أو لحاجاته الخاصة في التجارة،
__________
(1) نشر في (مجلة الدعوة) رقم (1635) في 28\11\1418 هـ.(18/421)
لا بأس بذلك كله. وإذا كانت الزوجة تستوحش فعليه أن يجعل عندها من الخدم من يؤنسها، أو يسمح لها أن تذهب عند أهلها للوحشة التي تصيبها، أو إذا كان عليها خطر، فيجمع بين المصلحتين، ولا يلزم أن تذهب معه كلما سافر.(18/422)
75 - حكم إطلاق لفظة " الشهيد " على شخص معين
إلى سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حرسه الله ورعاه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فأرجو من سماحتكم إفتائي في حكم إطلاق لفظة (الشهيد) على المعين، مثل أن أقول: الشهيد فلان، وهل يجوز كتابة ذلك في المجلات والكتب، وجزاكم الله خيرا. (1)
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
كل من سماه النبي صلى الله عليه وسلم شهيدا فإنه يسمى شهيدا؛ كالمطعون والمبطون وصاحب الهدم والغرق والقتيل في سبيل الله والقتيل دون دينه أو دون ماله أو دون أهله أو دون دمه، لكن كلهم يغسلون ويصلى عليهم ما عدا الشهيد في المعركة، فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه إذا مات في المعركة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغسل شهداء أحد الذين ماتوا في المعركة ولم يصل عليهم كما رواه البخاري
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته في 20\5\1413هـ، ونشرت في هذا المجموع ج9 ص461.(18/423)
في صحيحه عن جابر رضي الله عنه، وفق الله الجميع لما يرضيه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(18/424)
76 - من قتل في سبيل مكافحة المخدرات فهو شهيد ومن أعان على فضح أوكارها فهو مأجور
القارئ ع. ع. ج. من المنطقة الشرقية بعث إلينا سؤالا يقول فيه:
لا شك أن إدارة مكافحة المخدرات تسعى جاهدة لسد المنافذ التي من طريقها تتسلل تلك السموم من المخدرات إلى هذا البلد الطاهر وقد نشط مروجو هذه السموم ولكن بعون الله ثم بقوة وعزيمة رجال مكافحة المخدرات أصيبت جهود أولئك المروجين بالشلل وسؤالي يا سماحة الشيخ هو:
هل يعتبر شهيدا من قتل من رجال مكافحة المخدرات عند مداهمة أوكار متعاطي المخدرات ومروجيها؟ ثم ما حكم من يدلي بمعلومات تساعد رجال المكافحة للوصول إلى تلك الأوكار؟ أفتونا مأجورين (1)
الجواب: لا ريب أن مكافحة المسكرات والمخدرات من أعظم الجهاد في سبيل الله، ومن أهم الواجبات التعاون بين أفراد المجتمع في مكافحة ذلك؛ لأن مكافحتها في مصلحة الجميع؛ ولأن فشوها ورواجها مضرة على الجميع. ومن قتل
__________
(1) نشر في (مجلة الدعوة) العدد (1061) في 10\2\1407 هـ، وفي هذا المجموع ج 4 ص410.(18/425)
في سبيل مكافحة هذا الشر وهو حسن النية فهو من الشهداء، ومن أعان على فضح هذه الأوكار وبيانها للمسئولين فهو مأجور، وبذلك يعتبر مجاهدا في سبيل الحق وفي مصلحة المسلمين وحماية مجتمعهم مما يضر بهم. فنسأل الله أن يهدي أولئك المروجين لهذا البلاء وأن يردهم إلى رشدهم وأن يعيذهم من شرور أنفسهم ومكائد عدوهم الشيطان، وأن يوفق المكافحين لهم لإصابة الحق وأن يعينهم على أداء واجبهم ويسدد خطاهم وينصرهم على حزب الشيطان، إنه خير مسئول.(18/426)
77 - وجوب جهاد النفس
س: ما العلاج لمن يعصي ويتوب ثم يرجع إلى المعصية؟ (1)
ج: لا بد من جهاد النفس في لزوم الحق والثبات على التوبة؛ لأن النفس تحتاج إلى جهاد، يقول الله عز وجل: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} (2) ويقول عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (3) ومعنى قوله سبحانه وتعالى: {جَاهَدُوا فِينَا} (4) أي جاهدوا أنفسهم وجاهدوا الكفار وجاهدوا المنافقين وجاهدوا العصاة وجاهدوا الشيطان،
__________
(1) فتوى صدرت من مكتب سماحته، ونشرت في هذا المجموع ج6 ص273.
(2) سورة العنكبوت الآية 6
(3) سورة العنكبوت الآية 69
(4) سورة العنكبوت الآية 69(18/426)
فالآية عامة تشمل أنواع الجهاد، ومن ذلك جهاد النفس؛ لأنه سبحانه حذف المفعول ولم ينص عليه في الآية، حتى تعم جميع أنواع الجهاد، فالنفس تحتاج إلى تربية وعناية وصبر وجهاد، كما يقول الشاعر:
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن أطمعت تاقت وإلا تسلت
ويقول الآخر:
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
وقال الآخر:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
هذه ثلاثة أبيات جيدة مطابقة لأحوال النفس. فالمؤمن الحازم هو الذي يجاهد نفسه لله حتى تستقيم على الطريق، وتقف عند الحدود. وبذلك يهديه الله سبيله القويم وصراطه المستقيم. ويكون المؤمن بذلك من المحسنين، الذين قال فيهم سبحانه: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1) وقال فيهم عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (2) والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 69
(2) سورة النحل الآية 128(18/427)
78 - القيام بالمسيرات في موسم الحج في مكة المكرمة باسم البراءة من المشركين بدعة لا أصل لها
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسوله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحابته ومن اهتدى بهداه (1) أما بعد، فإن الله أوجب على عباده المؤمنين البراءة من المشركين في كل وقت وأنزل في ذلك قوله سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (2)
وأنزل في ذلك سبحانه في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم قوله عز وجل: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) الآيات.
وصحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بعث الصديق رضي الله عنه عام تسع من الهجرة يقيم للناس حجهم ويعلن البراءة من المشركين ثم أتبعه بعلي رضي الله عنه
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته بتاريخ 1\12\1413 هـ.
(2) سورة الممتحنة الآية 4
(3) سورة التوبة الآية 1(18/428)
ليبلغ الناس ذلك وبعث الصديق رضي الله عنه مؤذنين مع علي رضي الله عنه ينادون في الناس بكلمات أربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد فأجله إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فله أربعة أشهر يسيح في الأرض كما قال عز وجل: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} (1) الآية. وبعدها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين إذا لم يسلموا كما قال الله عز وجل في سورة التوبة: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} (2) يعني الأربعة التي أجلها لهم عليه الصلاة والسلام في أصح قولي أهل العلم في تفسير الأشهر المذكورة في هذه الآية. {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3)
هذا هو المشروع في أمر البراءة وهو الذي أوضحته الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وبينه علماء التفسير في أول تفسير سورة براءة (التوبة) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 2
(2) سورة التوبة الآية 5
(3) سورة التوبة الآية 5(18/429)
أما القيام بالمسيرات والمظاهرات في موسم الحج في مكة المكرمة أو غيرها لإعلان البراءة من المشركين فذلك بدعة لا أصل لها ويترتب عليه فساد كبير وشر عظيم فالواجب على كل من كان يفعله تركه، والواجب على الدولة وفقها الله منعه لكونه بدعة لا أساس لها في الشرع المطهر ولما يترتب على ذلك من أنواع الفساد والشر والأذى للحجيج والله سبحانه يقول في كتابه الكريم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1) الآية. ولم يكن هذا العمل من سيرته عليه الصلاة والسلام ولا من سيرة أصحابه رضي الله عنهم ولو كان خيرا لسبقونا إليه. وقال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (2) قال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (4) » متفق على صحته. وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عن
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31
(2) سورة الشورى الآية 21
(3) سورة الحشر الآية 7
(4) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(18/430)
جابر رضي الله عنه في خطبة الجمعة: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (1) » أخرجه مسلم في صحيحه، وقال عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » أخرجه مسلم أيضا، وقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «خذوا عني مناسككم (3) » ولم يفعل صلى الله عليه وسلم مسيرات ولا مظاهرات في حجة الوداع وهكذا أصحابه بعده رضي الله عنهم فيكون إحداث ذلك في موسم الحج من البدع في الدين التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم وإنما الذي فعله عليه الصلاة والسلام بعد نزول سورة التوبة، هو بعث المنادين في عام تسع من الهجرة ليبلغوا الناس أنه لا يحج بعد هذا العام- يعني عام تسع- مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، مع نبذ العهود التي للمشركين بعد أربعة أشهر، إلا من كان له عهد أكثر من ذلك فهو له مدته، ولم يفعل صلى الله عليه وسلم هذا
__________
(1) رواه مسلم في (الجمعة) باب تخفيف الصلاة والخطبة برقم (867) .
(2) رواه البخاري معلقا في باب النجش، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم (1718) .
(3) رواه بنحوه مسلم في (الحج) باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا برقم (1297) .(18/431)
التأذين في حجة الوداع؛ لحصول المقصود بعد ما أمر به من التأذين في عام تسع، والخير كله والسعادة في الدنيا والآخرة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والسير على سنته، وسلوك مسلك أصحابه رضي الله عنهم؛ لأنهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة هم وأتباعهم بإحسان كما قال الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1)
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح، والفقه في الدين، والسير على منهج سيد المرسلين وأصحابه المرضيين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين وأن يعيذنا وجميع المسلمين من مضلات الفتن، ونزغات الشيطان، ومن البدع في الدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) سورة التوبة الآية 100(18/432)
79 - الأشهر الحرم
س: ما هي الأشهر الحرم، ولماذا سميت بهذا الاسم، وهل الحرمة لبلد معين أو شيء معين؟ (1)
ج: الأشهر الحرم هي أربعة: رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم؛ فشهر مفرد وهو رجب والبقية متتالية وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم. والظاهر أنها سميت حرما؛ لأن الله حرم فيها القتال بين الناس فلهذا قيل لها حرم جمع حرام. كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (2) وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} (3) فدل ذلك على أنه محرم فيها القتال، وذلك من رحمة الله لعباده حتى يسافروا فيها وحتى يحجوا ويعتمروا. واختلف العلماء هل حرمة القتال فيها باقية أو نسخت؟ على قولين: الجمهور على أنها نسخت وأن تحريم القتال فيها نسخ، وقول آخر: أنها باقية ولم تنسخ وأن التحريم فيها باقي ولا يزال، وهذا القول أظهر من جهة الدليل.
__________
(1) نشرت في مجلة (التوعية الإسلامية) العدد التاسع عام 1401 هـ.
(2) سورة التوبة الآية 36
(3) سورة البقرة الآية 217(18/433)
80 - مفهوم الأحاديث المتعلقة بالفتن
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ ع. ح. خ. وفقه الله لما فيه رضاه وزاده من العلم والإيمان آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد (1) :
فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ في 24 محرم 1411 هـ وصلكم الله بهداه، واطلعت على جميع ما ذكرتم. ويسرني أن أخبركم أن الأحاديث المتعلقة بالفتن والتحذير منها محمولة عند أهل العلم على الفتن التي لا يعرف فيها المحق من المبطل فهذه الفتن المشروع للمؤمن الحذر منها، وهي التي قصدها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «القاعد فيها خير من القائم والماشي خير من الساعي (2) » الحديث. أما الفتن التي يعرف فيها المحق من المبطل والظالم من المظلوم فليست
__________
(1) رسالة جوابية صدرت من مكتب سماحته برقم 275 \ خ وتاريخ 3\5\1411 هـ، ونشرت في هذا المجموع ج 7 ص 359.
(2) رواه البخاري في (الفتن) باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم برقم (7081) ، ومسلم في (الفتن وأشراط الساعة) باب نزول الفتن كمواقع القطر برقم (2886) .(18/434)
داخلة في الأحاديث المذكورة، بل قد دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على وجوب نصر المحق والمظلوم على الباغي والظالم. ومن هذا الباب ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. فإن المصيب عند أهل السنة هو علي وهو مجتهد وله أجران. ومعاوية ومن معه مخطئون وبغاة عليه لكنهم مجتهدون طالبون للحق فلهم أجر واحد، رضي الله عن الجميع.
وأما الاستعانة ببعض الكفار في قتال الكفار عند الحاجة أو الضرورة فالصواب أنه لا حرج في ذلك إذا رأى ولي الأمر الاستعانة بأفراد منهم، أو دولة في قتال الدولة المعتدية لصد عدوانها عملا بالأدلة كلها. فعند عدم الحاجة والضرورة لا يستعان بهم، وعند الحاجة والضرورة يستعان بهم على وجه ينفع المسلمين ولا يضرهم، وفي هذا جمع بين الأدلة الشرعية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استعان بالمطعم بن عدي لما رجع من الطائف ودخل مكة بجواره، واستعان بعبد الله بن أريقط الديلي ليدله على طريق المدينة وكلاهما مشرك، وسمح للمهاجرين من المسلمين بالهجرة إلى الحبشة مع كونها دولة نصرانية لما في ذلك من المصلحة للمسلمين وبعدهم عن أذى قومهم من أهل مكة من الكفار. واستعان بدروع من صفوان بن أمية يوم حنين وهو كافر، وقال في حديث عائشة(18/435)
رضي الله عنها للذي أراد أن يخرج معه في بدر وهو مشرك: «ارجع فلن أستعين بمشرك (1) » وأقر اليهود بخيبر بعد ذلك، واستعان بهم في القيام على مزارعها ونخيلها لحاجة المسلمين إليه واشتغال الصحابة بالجهاد، فلما استغني عنهم أجلاهم عمر رضي الله عنه والأدلة في هذا كثيرة.
والواجب على أهل العلم الجمع بين النصوص وعدم ضرب بعضها ببعض. ودولة البعث أخطر على المسلمين من دولة النصارى؛؛ لأن الملحد أكفر من الكتابي كما لا يخفى. وما فعله حاكم العراق البعثي في الكويت يدل على الحقد العظيم والكيد للإسلام وأهله.
ومما يجب التنبيه عليه أن بعض الناس قد يظن أن الاستعانة بأهل الشرك تعتبر موالاة لهم، وليس الأمر كذلك فالاستعانة شيء والموالاة شيء آخر. فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم حين استعان بالمطعم بن عدي، أو بعبد الله بن أريقط، أو بيهود خيبر مواليا لأهل الشرك، ولا متخذا لهم بطانة، وإنما فعل ذلك للحاجة إليهم واستخدامهم في أمور تنفع المسلمين ولا تضرهم. وهكذا بعثه المهاجرين من مكة
__________
(1) رواه مسلم في (الجهاد والسير) باب كراهة الاستعانة في الغزو بمشرك برقم (1817) .(18/436)
إلى بلاد الحبشة ليس ذلك موالاة للنصارى، وإنما فعل ذلك لمصلحة المسلمين وتخفيف الشر عنهم. فيجب على المسلم أن يفرق بين ما فرق الله بينه، وأن ينزل الأدلة منازلها، وأنه سبحانه هو الموفق والهادي لا إله غيره ولا رب سواه. ونشفع لكم نسخة مما كتبناه في ذلك، ونسخة من قرارات المؤتمر بمكة المكرمة في الفترة من 21- 23\2\1411هـ، ونسخة من وثيقة مكة المكرمة الصادرة عن المؤتمر المذكور.
وأسأل الله عز وجل أن يمنحنا وإياكم الفقه في الدين والثبات عليه والدعوة إليه على بصيرة، وأن يعيذنا وإياكم وسائر إخواننا من مضلات الفتن إنه سميع قريب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(18/437)
81 - الحوار الذي أجراه رئيس تحرير جريدة " المسلمون " مع سماحته حول الصلح مع اليهود
(أ) جواز الهدنة مع الأعداء مطلقة ومؤقتة إذا رأى ولي الأمر المصلحة في ذلك
س1: سماحة الوالد: المنطقة تعيش اليوم مرحلة السلام واتفاقياته، الأمر الذي آذى كثيرا من المسلمين مما حدا ببعضهم معارضته والسعي لمواجهة الحكومات التي تدعمه عن طريق الاغتيالات أو ضرب الأهداف المدنية للأعداء، ومنطقهم يقوم على الآتي:
أ- أن الإسلام يرفض مبدأ المهادنة.
ب- أن الإسلام يدعو لمواجهة الأعداء بغض النظر عن حال الأمة والمسلمين من ضعف أو قوة.
نرجو بيان الحق، وكيف نتعامل مع هذا الواقع بما يكفل سلامة الدين وأهله؟(18/438)
ج 1: تجوز الهدنة مع الأعداء مطلقة ومؤقتة، إذا رأى ولي الأمر المصلحة في ذلك لقول الله سبحانه: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلهما جميعا، كما صالح أهل مكة على ترك الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض، وصالح كثير من قبائل العرب صلحا مطلقا. فلما فتح الله عليه مكة نبذ إليهم عهودهم، وأجل من لا عهد له أربعة أشهر، كما في قوله سبحانه: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} (3) الآية.
وبعث صلى الله عليه وسلم المنادين بذلك عام تسع من الهجرة بعد الفتح مع الصديق لما حج رضي الله عنه، ولأن الحاجة والمصلحة الإسلامية قد تدعو إلى الهدنة المطلقة ثم قطعها عند زوال الحاجة، كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وقد بسط العلامة ابن القيم رحمه الله القول في ذلك في كتابه (أحكام أهل الذمة) ، واختار ذلك شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 61
(2) سورة التوبة الآية 1
(3) سورة التوبة الآية 2(18/439)
(ب)
نصيحة مهمة لأبناء الشعب الفلسطيني
س2: يختلف الفلسطينيون في مواقفهم من عملية السلام: فحماس تعارض وتدعو للمقاومة، والسلطة الفلسطينية موافقة، وأغلب الشارع كما يبدو مع السلطة، فمن تلزم الناس طاعته؟ وما هو موقفنا نحن في الخارج؟ نرجو بيان الحق؛ لأن هناك أخطارا بأن ينشب القتال بين الفلسطينيين أنفسهم؟
وفي ختام الحديث مع سماحتكم وبما جعل الله لكم من محبة وقبول في قلوب الناس، أرجو أن يوجه سماحتكم كلمة لأبناء هذه الأمة يكون فيها ما يكفل سعادتهم في الدنيا والآخرة، ويكفل رفعة الدين وأهله.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، آمين.
ج 2: ننصح الفلسطينيين جميعا بأن يتفقوا على الصلح، ويتعاونوا على البر والتقوى؛ حقنا للدماء، وجمعا للكلمة على الحق، وإرغاما للأعداء الذين يدعون إلى الفرقة والاختلاف. وعلى الرئيس وجميع المسئولين أن يحكموا شريعة الله، وأن يلزموا بها الشعب الفلسطيني؛ لما في ذلك من السعادة والمصلحة العظيمة للجميع، ولأن ذلك هو الواجب الذي(18/440)
أوجبه الله على المسلمين عند القدرة، كما في قوله سبحانه في سورة المائدة: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (1) إلى أن قال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) وقال سبحانه في سورة النساء: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) وقال سبحانه في سورة المائدة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (4) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (5) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (6)
ومن هذه الآيات وغيرها يعلم أن الواجب على جميع الدول الإسلامية هو تحكيم شرع الله فيما بينهم، والحذر مما يخالفها، وفي ذلك سعادتهم ونصرهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة.
__________
(1) سورة المائدة الآية 49
(2) سورة المائدة الآية 50
(3) سورة النساء الآية 65
(4) سورة المائدة الآية 44
(5) سورة المائدة الآية 45
(6) سورة المائدة الآية 47(18/441)
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمنحهم التوفيق، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يعينهم على تحكيم شريعته في كل شئونهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وبهذه المناسبة فإني أنصح جميع المسلمين في كل مكان بأن يتفقهوا في الدين، وأن يعرفوا معنى العبادة التي خلقوا لها، كما في قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وقد أمرهم الله بها سبحانه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) وقد فسرها سبحانه في مواضع كثيرة من كتابه العظيم وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وحقيقتها: توحيده سبحانه، وتخصيصه بالعبادة من الخوف والرجاء والتوكل والصوم والذبح والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة، مع طاعة أوامره وترك نواهيه.
وبذلك يعلم أنها هي الإسلام، والإيمان، والتقوى، والبر، والهدى، وطاعة الله ورسوله، سمى الله ذلك كله: عبادة؛ لأنها تؤدى بالخضوع والذل لله سبحانه.
فالواجب على المكلفين جميعا أن يعبدوه وحده، وأن
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 21(18/442)
يتقوا غضبه وعقابه بالإخلاص له في العمل، وتخصيصه بالعبادة وحده، وطاعة أوامره وترك نواهيه، والحكم بشريعته، والتناصح بينهم، والتواصي بالحق والصبر عليه، كما قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) وقال سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4)
فأوضح سبحانه في هذه السورة العظيمة أن جميع بني الإنسان في خسران إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر. فهؤلاء هم الرابحون والسعداء والمنصورون في الدنيا والآخرة.
ومعنى قوله سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} (5) يعني: آمنوا بالله ربا وإلها ومعبودا بحق، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وبجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وبكل ما أخبر الله به ورسوله من أمر الجنة والنار والحساب والجزاء وغير ذلك، ثم {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (6) فأدوا فرائض الله، وتركوا محارم الله عن إخلاص لله وصدق، ثم {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} (7) فيما بينهم، وتناصحوا، وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر، وصبروا على ذلك؛
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) سورة العصر الآية 3
(6) سورة العصر الآية 3
(7) سورة العصر الآية 3(18/443)
يرجون ثواب الله ويخشون عقابه، فهؤلاء هم المنصورون، وهم الرابحون، وهم السعداء في الدنيا والآخرة.
فنسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا وسائر إخواننا منهم، وأن يوفق جميع المسلمين في كل مكان للاستقامة على هذه الأخلاق، والصبر عليها، والتواصي بها، إنه سميع قريب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.(18/444)
82 - أجوبة على أسئلة تتعلق بالحوار السابق حول الصلح مع اليهود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فهذه أجوبة على أسئلة تتعلق بما أفتينا به من جواز الصلح مع اليهود وغيرهم من الكفرة صلحا مؤقتا أو مطلقا على حسب ما يراه ولي الأمر- أعني: ولي أمر المسلمين الذي تجري المصالحة على يديه- من المصلحة في ذلك؛ للأدلة التي أوضحناها في الفتوى المذكورة في صحيفة المسلمون، في العدد الصادر يوم 21 رجب 1415 هـ.
وهذا نص الأسئلة:
أ- الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يلزم منه مودتهم ولا موالاتهم:(18/444)
س 1: فهم بعض الناس من إجابتكم على سؤال الصلح مع اليهود - وهو السؤال الأول في المقابلة- أن الصلح أو الهدنة مع اليهود المغتصبين للأرض، والمعتدين جائز على إطلاقه، وأنه يجوز مودة اليهود ومحبتهم، ويجب عدم إثارة ما يؤكد البغضاء والبراءة منهم في المناهج التعليمية في البلاد الإسلامية، وفي أجهزة إعلامها، زاعمين أن السلام معهم يقتضي هذا، وأنهم ليسوا بعد معاهدات السلام أعداء يجب اعتقاد عداوتهم، ولأن العالم الآن يعيش حالة الوفاق الدولي والتعايش السلمي، فلا يجوز إثارة العداوة الدينية بين الشعوب. فنرجو من سماحتكم التوضيح
ج 1: الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يلزم منه مودتهم ولا موالاتهم، بل ذلك يقتضي الأمن بين الطرفين، وكف بعضهم عن إيذاء البعض الآخر، وغير ذلك، كالبيع والشراء، وتبادل السفراء، وغير ذلك من المعاملات التي لا تقتضي مودة الكفرة ولا موالاتهم.
وقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة، ولم يوجب ذلك محبتهم(18/445)
ولا موالاتهم، بل بقيت العداوة والبغضاء بينهم، حتى يسر الله فتح مكة عام الفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وهكذا صالح النبي صلى الله عليه وسلم يهود المدينة لما قدم المدينة مهاجرا صلحا مطلقا، ولم يوجب ذلك مودتهم ولا محبتهم، لكنه عليه الصلاة والسلام كان يعاملهم في الشراء منهم والتحدث إليهم، ودعوتهم إلى الله، وترغيبهم في الإسلام. ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام اشتراه لأهله.
ولما حصل من بني النضير من اليهود الخيانة أجلاهم من المدينة عليه الصلاة والسلام، ولما نقضت قريظة العهد ومالئوا كفار مكة يوم الأحزاب على حرب النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم فقتل مقاتلتهم، وسبى ذريتهم ونساءهم، بعدما حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه فيهم فحكم بذلك، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حكمه قد وافق حكم الله من فوق سبع سماوات.
وهكذا المسلمون من الصحابة ومن بعدهم، وقعت الهدنة بينهم- في أوقات كثيرة- وبين الكفرة من النصارى وغيرهم فلم يوجب ذلك مودة، ولا موالاة، وقد قال الله سبحانه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (1) وقال
__________
(1) سورة المائدة الآية 82(18/446)
سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (2) وقال عز وجل: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (3) الآية. والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ومما يدل على أن الصلح مع الكفار من اليهود وغيرهم إذا دعت إليه المصلحة أو الضرورة لا يلزم منه مودة، ولا محبة، ولا موالاة: أنه صلى الله عليه وسلم «لما فتح خيبر صالح اليهود فيها على أن يقوموا على النخيل والزروع التي لله- صاحين بالنصف لهم والنصف الثاني للمسلمين، ولم يزالوا في خيبر على هذا العقد، ولم يحدد مدة معينة، بل قال صلى الله عليه وسلم: نقركم على ذلك ما شئنا (4) » ، وفي لفظ:
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 4
(2) سورة المائدة الآية 51
(3) سورة المجادلة الآية 22
(4) رواه البخاري في (المزارعة) باب إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرك الله ... برقم (2338) ، ومسلم في (المساقاة) باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع برقم (1551) .(18/447)
«نقركم ما أقركم الله (1) » ، فلم يزالوا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه، وروي عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه أنه لما خرص عليهم الثمرة في بعض السنين قالوا: إنك قد جرت في الخرص، فقال رضي الله عنه: والله إنه لا يحملني بغضي لكم ومحبتي للمسلمين أن أجور عليكم، فإن شئتم أخذتم بالخرص الذي خرصته عليكم، وإن شئتم أخذناه بذلك.
وهذا كله يبين أن الصلح والمهادنة لا يلزم منها محبة، ولا موالاة، ولا مودة لأعداء الله، كما يظن ذلك بعض من قل علمه بأحكام الشريعة المطهرة.
وبذلك يتضح للسائل وغيره أن الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يقتضي تغيير المناهج التعليمية، ولا غيرها من المعاملات المتعلقة بالمحبة والموالاة. والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه البخاري في (الشروط) باب إذا اشترط في المزارعة إذا شئت أخرجتك برقم (2730) .(18/448)
ب- الصلح مع اليهود لا يقتضي التمليك أبديا:
س 2: هل تعني الهدنة المطلقة مع العدو إقراره على ما اقتطعه من أرض المسلمين في فلسطين، وأنها قد أصبحت حقا أبدا لليهود بموجب معاهدات تصدق عليها(18/448)
الأمم المتحدة التي تمثل جميع أمم الأرض، وتخول الأمم المتحدة عقوبة أي دولة تطالب مرة أخرى باسترداد هذه الأرض أو قتال اليهود فيها؟
ج 2: الصلح بين ولي أمر المسلمين في فلسطين وبين اليهود لا يقتضي تمليك اليهود لما تحت أيديهم تمليكا أبديا، وإنما يقتضي ذلك تمليكهم تمليكا مؤقتا حتى تنتهي الهدنة المؤقتة أو يقوى المسلمون على إبعادهم عن ديار المسلمين بالقوة في الهدنة المطلقة وهكذا يجب قتالهم عند القدرة حتى يدخلوا في دين الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وهكذا النصارى والمجوس؛ لقول الله سبحانه في سورة التوبة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1) وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الجزية من المجوس. وبذلك صار لهم حكم أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط إذا لم يسلموا. أما حل الطعام والنساء للمسلمين فمختص بأهل الكتاب، كما نص عليه كتاب الله سبحانه في سورة المائدة. وقد صرح الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى في سورة الأنفال: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (2)
__________
(1) سورة التوبة الآية 29
(2) سورة الأنفال الآية 61(18/449)
الآية، بمعنى ما ذكرنا في شأن الصلح.(18/450)
ج- ما تقتضيه المصلحة يعمل به من الصلح وعدمه:
س 3: هل يجوز بناء على الهدنة مع العدو اليهودي تمكينه بما يسمى معاهدات التطبيع، من الاستفادة من الدول الإسلامية اقتصاديا وغير ذلك من المجالات، بما يعود عليه بالمنافع العظيمة، ويزيد من قوته وتفوقه، وتمكينه في البلاد الإسلامية المغتصبة، وأن على المسلمين أن يفتحوا أسواقهم لبيع بضائعه، وأنه يجب عليهم تأسيس مؤسسات اقتصادية، كالبنوك والشركات يشترك اليهود فيها مع المسلمين، وأنه يجب أن يشتركوا كذلك في مصادر المياه كالنيل والفرات، وإن لم يكن جاريا في أرض فلسطين؟
ج 3: لا يلزم من الصلح بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين اليهود ما ذكره السائل بالنسبة إلى بقية الدول، بل كل دولة تنظر في مصلحتها، فإذا رأت أن من المصلحة للمسلمين في بلادها الصلح مع اليهود في تبادل السفراء والبيع والشراء، وغير ذلك من المعاملات التي يجيزها شرع الله المطهر، فلا بأس في ذلك. وإن رأت أن المصلحة لها ولشعبها مقاطعة(18/450)
اليهود فعلت ما تقتضيه المصلحة الشرعية، وهكذا بقية الدول الكافرة حكمها حكم اليهود في ذلك. والواجب على كل من تولى أمر المسلمين، سواء كان ملكا أو أميرا أو رئيس جمهورية أن ينظر في مصالح شعبه فيسمح بما ينفعهم ويكون في مصلحتهم من الأمور التي لا يمنع منها شرع الله المطهر، ويمنع ما سوى ذلك مع أي دولة من الدول الكافرة؛ عملا بقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (1) وقوله سبحانه: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (2) الآية. وتأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم في مصالحته لأهل مكة ولليهود في المدينة وفي خيبر، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والعبد راع في مال سيده ومسئول عن رعيته "، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا فكلكم راع ومسئول عن رعيته (3) » ، وقد قال الله عز وجل في
__________
(1) سورة النساء الآية 58
(2) سورة الأنفال الآية 61
(3) رواه البخاري في (الاستقراض وأداء الديون) باب العبد راع في مال سيده برقم (2409) ، وفي (العتق) باب كراهية التطاول على الرقيق برقم (2554) ، وباب العبد راع في مال سيده برقم (2558) ، ومسلم في (الإمارة) باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر برقم (1829) .(18/451)
كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1)
وهذا كله عند العجز عن قتال المشركين، والعجز عن إلزامهم بالجزية إذا كانوا من أهل الكتاب أو المجوس، أما مع القدرة على جهادهم وإلزامهم بالدخول في الإسلام أو القتل أو دفع الجزية- إن كانوا من أهلها- فلا تجوز المصالحة معهم، وترك القتال وترك الجزية، وإنما تجوز المصالحة عند الحاجة أو الضرورة مع العجز عن قتالهم أو إلزامهم بالجزية إن كانوا من أهلها؛ لما تقدم من قوله سبحانه وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2) وقوله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (3) إلى غير ذلك من الآيات المعلومة في ذلك. وعمل النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة يوم الحديبية ويوم الفتح، ومع اليهود حين قدم
__________
(1) سورة الأنفال الآية 27
(2) سورة التوبة الآية 29
(3) سورة الأنفال الآية 39(18/452)
المدينة يدل على ما ذكرنا.
والله المسئول أن يوفق المسلمين لكل خير، وأن يصلح أحوالهم، ويمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم، وأن يعينهم على جهاد أعداء الله على الوجه الذي يرضيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.(18/453)
83 - إيضاح وتعقيب على مقال فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي حول الصلح مع اليهود
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: (1)
فهذا إيضاح وتعقيب على مقال فضيلة الشيخ: يوسف القرضاوي المنشور في مجلة (المجتمع) العدد (1133) الصادرة يوم 9 شعبان 1415 هـ الموافق 10 \ 1\1995 م، حول الصلح مع اليهود، وما صدر مني في ذلك المقال المنشور في صحيفة (المسلمون) الصادرة في يوم 21 رجب 1415 هـ جوابا لأسئلة موجهة إلي من بعض أبناء فلسطين. وقد أوضحت أنه لا مانع من الصلح معهم إذا اقتضت المصلحة ذلك، ليأمن الفلسطينيون في بلادهم، ويتمكنوا من إقامة دينهم. وقد رأى فضيلة الشيخ يوسف أن ما قلته في ذلك مخالف للصواب؛ لأن اليهود غاصبون فلا يجوز الصلح معهم ... إلى آخر ما ذكره فضيلته. وإنني أشكر فضيلته على اهتمامه بهذا
__________
(1) نشرت في مجلة (المجتمع) في العدد (1140) بتاريخ 6 \ 10 \ 1415 هـ، وفي هذا المجموع ج 8 ص 226.(18/454)
الموضوع ورغبته في إيضاح الحق الذي يعتقده. ولا شك أن الأمر في هذا الموضوع وأشباهه هو كما قال فضيلته: يرجع فيه للدليل، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الحق في جميع مسائل الخلاف؛ لقول الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) وقال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) وهذه قاعدة مجمع عليها بين أهل السنة والجماعة. ولكن ما ذكرناه في الصلح مع اليهود قد أوضحنا أدلته، وأجبنا عن أسئلة وردت إلينا في ذلك من بعض الطلبة بكلية الشريعة في جامعة الكويت، وقد نشرت هذه الأجوبة في صحيفة (المسلمون) الصادرة في يوم الجمعة 19\8 \ 1415 هـ الموافق 20 \ 1\1995 م، وفيها إيضاح لبعض ما أشكل على بعض الإخوان في ذلك. ونقول للشيخ يوسف وفقه الله وغيره من أهل العلم: إن قريشا قد أخذت أموال المهاجرين ودورهم، كما قال الله سبحانه في سورة الحشر: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (3)
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) سورة الحشر الآية 8(18/455)
ومع ذلك صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشا يوم الحديبية سنة ست من الهجرة، ولم يمنع هذا الصلح ما فعلته قريش من ظلم المهاجرين في دورهم وأموالهم؛ مراعاة للمصلحة العامة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم لجميع المسلمين من المهاجرين وغيرهم، ولمن يرغب الدخول في الإسلام.
ونقول أيضا جوابا لفضيلة الشيخ يوسف عن المثال الذي مثل به في مقاله وهو: لو أن إنسانا غصب دار إنسان وأخرجه إلى العراء ثم صالحه على بعضها. أجاب الشيخ يوسف: أن هذا الصلح لا يصح. وهذا غريب جدا، بل هو خطأ محض، ولا شك أن المظلوم إذا رضي ببعض حقه، واصطلح مع الظالم في ذلك فلا حرج؛ لعجزه عن أخذ حقه كله، وما لا يدرك كله لا يترك كله، وقد قال الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وقال سبحانه: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (2) ولا شك أن رضا المظلوم بحجرة من داره أو حجرتين أو أكثر يسكن فيها هو وأهله خير من بقائه في العراء. أما قوله عز وجل: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} (3) فهذه الآية فيما إذا كان المظلوم أقوى من الظالم وأقدر على أخذ حقه، فإنه لا
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) سورة النساء الآية 128
(3) سورة محمد الآية 35(18/456)
يجوز له الضعف، والدعوة إلى السلم، وهو أعلى من الظالم وأقدر على أخذ حقه، أما إذا كان ليس هو الأعلى في القوة الحسية فلا بأس أن يدعو إلى السلم، كما صرح بذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره هذه الآية، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى السلم يوم الحديبية؛ لما رأى أن ذلك هو الأصلح للمسلمين والأنفع لهم، وأنه أولى من القتال، وهو عليه الصلاة والسلام القدوة الحسنة في كل ما يأتي ويذر؛ لقول الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (1) الآية.
ولما نقضوا العهد وقدر على مقاتلتهم يوم الفتح غزاهم في عقر دارهم، وفتح الله عليه البلاد، ومكنه من رقاب أهلها حتى عفا عنهم، وتم له الفتح والنصر ولله الحمد والمنة.
فأرجو من فضيلة الشيخ يوسف وغيره من إخواني أهل العلم إعادة النظر في هذا الأمر بناء على الأدلة الشرعية، لا على العاطفة والاستحسان، مع الاطلاع على ما كتبته أخيرا من الأجوبة الصادرة في صحيفة (المسلمون) في 19\8\1415 هـ، الموافق 20 \ 1 \ 1995 م. وقد أوضحت فيها: أن الواجب جهاد المشركين من اليهود وغيرهم مع القدرة حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية، إن كانوا من أهلها، كما دلت على ذلك الآيات القرآنية
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 6(18/457)
والأحاديث النبوية، وعند العجز عن ذلك لا حرج في الصلح على وجه ينفع المسلمين ولا يضرهم تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حربه وصلحه، وتمسكا بالأدلة الشرعية العامة والخاصة، ووقوفا عندها، فهذا هو طريق النجاة وطريق السعادة والسلامة في الدنيا والآخرة.
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين- قادة وشعوبا- لكل ما فيه رضاه، وأن يمنحهم الفقه في دينه، والاستقامة عليه، -وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح قادة المسلمين ويوفقهم للحكم بشريعته والتحاكم إليها، والحذر مما يخالفها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه، وأتباعه بإحسان.
انتهى الجزء الثامن عشر ويليه بمشيئة الله تعالى الجزء التاسع عشر وأوله (كتاب البيوع)(18/458)
صفحة فارغة(19/1)
صفحة فارغة(19/2)
صفحة فارغة(19/3)
صفحة فارغة(19/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب البيوع
باب الشروط في البيع(19/5)
صفحة فارغة(19/6)
إذا ملكت الشركة السيارة وصارت في حوزتها فلها بيعها
س1: وكالة سيارات لديها نظام خاص للتقسيط يقوم على أساس أن يدفع الزبون مبلغا معينا كدفعة أولى، ثم هناك نسبة زيادة على المبلغ المتبقي (المؤجل) (بين 11-20%) ويزداد المبلغ بحسب عدد السنوات التي يتفق عليها فما الحكم؟ (1)
ج: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، إذا ملكت الشركة السيارة وصارت في حوزتها وقبضتها بالشراء فلها أن تبيعها على الراغبين بالسعر الذي يحصل عليه اتفاق مع الزيادة التي تراها، سواء كانت كلها مؤجلة أو بعضها مؤجل وبعضها نقد لا حرج في ذلك؛ لأن الله سبحانه قال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) فهذا من البيع الشرعي، إذا كانت الشركة قد ملكت السيارة وحازتها وصارت في قبضتها.
__________
(1) هذا السؤال والثلاثة التي بعده من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته من جريدة (المسلمون) .
(2) سورة البقرة الآية 275(19/7)
لا حرج في الشراء من شركات التقسيط إذا كانت السلعة في قبضتها
س 2: شركة تقسيط تطلب نسبة مئوية على سعر السيارة يتراوح بين 6 و8% وتأخذ من المشتري بيانات ومواصفات السيارة التي يريدها ثم تقوم بشرائها وتسجيلها باسم الزبون بعد إنهاء إجراءاتها، فما الحكم؟
ج: لا حرج في ذلك إذا كانت السلعة مملوكة للشركة وفي قبضتها، فلا مانع أن تبيعها بسعر معين بعضه نقد وبعضه مؤجل، أو كله مؤجل إلى آجال معلومة قليلة أو كثيرة.
ولا بد أن يكون بعد ملكها للسيارة، ولا مانع من كون الراغب يصف السيارة التي يريد أو الأرض التي يريد ثم تشتريها وتملكها وتحوزها، ثم تبيع بعد ذلك له أو لغيره، والراغب في حل من ذلك، حتى يتم البيع بعد الشراء.(19/8)
إذا حصل الشراء وتم قبض العقار بتخليته جاز بيعه
س 3: إحدى الشركات تقوم بشراء العقارات لذوي الدخل المحدود، يذهب الزبون إلى الشركة فيحدد لهم(19/8)
العقار الذي يريده وسعره، فيتم تشكيل لجنة لتسعير العقار ثم يتم شراء العقار من قبل الشركة بعد أخذ 10% من قيمته كعربون من الزبون، ويتم كتابته أو تسجيل العقار باسم الزبون في حالة السداد خلال سنتين أو يبقى باسم الشركة في حالة السداد في أكثر من السنتين، فما الحكم؟
ج: لا حرج أن تشتري الشركة العقار المطلوب، وإذا تم الشراء وحصل لها القبض بالتخلية جاز لها أن تبيع على الراغب أو غيره ولا يجوز أن يتم البيع قبل ذلك ولا أخذ العربون، إنما البيع يكون بعد شراء الشركة، وبعد أن تحوز المبيع بالتخلية إذا كان عقارا أو بالنقل إن كان غيره.(19/9)
لا يجوز بيع المنقول إلا بعد قبضه وحيازته
س 4: إحدى الشركات تقوم بشراء الأثاث ومواد البناء لمن يريد، يذهب الزبون إلى الشركة ويحدد الأثاث الذي يريده أو مواد البناء. يدفع الزبون دفعة أولى مثل تقسيط السيارات، وبقية المبلغ المؤجل يتم تسديده على أقساط شهرية مع نسبة زيادة تصل إلى 10% للشركة، فتعطي(19/9)
الشركة للزبون أمر استلام ليذهب إلى محل الأثاث فيستلم أثاثه بنفسه، وتسديد المبلغ المؤجل يكون للشركة التي قامت بالتقسيط فما الحكم؟
ج: ليس للشركة أن تبيع الأثاث ولا غيره من المنقولات إلا بعد أن يتم البيع وتقبض المبيع إلى حوزتها وتنقله من ملك البائع إلى مكان آخر- ثم يتم البيع بعد ذلك، أما دفع العربون للشركة قبل ذلك فلا يجوز، وليس لها أن تبيع شيئا إلا بعد أن تحوزه وتنقله من مكان البائع إلى مكان آخر، والله ولي التوفيق.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(19/10)
5 - حكم شراء شقة من البنك بالتقسيط
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم رئيس مركز التربية الإسلامية في سان دوني - باريس سلمه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 1063 وتاريخ 16\3\1407 هـ والذي تسأل فيه عن حكم شراء شقة من البنك بالتقسيط؟ .
وأفيدك بأن شراء الشقة من البنك بالتقسيط لا مانع منه بشرط أن لا يتم التعاقد مع البنك على شراء الشقة إلا بعد أن يشتريها البنك من مالكها الأول، فإذا اشتراها وأصبحت ملكا له جاز شراؤها منه نقدا أو مؤجلا. وفق الله الجميع لما فيه رضاه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(19/11)
لا حرج في بيع التقسيط
س 6: إنسان اشترى سيارة جمس من آخر وهي قيمتها أربعون ألفا وقال: أبيعك إياها بسبعين ألفا تقسيطا. هل يجوز ذلك؟ (1)
ج: لا حرج في ذلك، فقد باع أصحاب بريرة رضي الله عنها، بريرة نفسها، باعوها إياها على أقساط في كل عام أوقية، وهي أربعون درهما، تسعة أقساط في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فلم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
فالتقسيط إذا كان معلوم الكمية والصفة والأجل فلا بأس به، للحديث المذكور، ولعموم الأدلة مثل قوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) فإذا اشتريت سيارة بأربعين ألفا، أو ثلاثين ألفا أو أقل أو أكثر إلى أجل معلوم كل سنة خمسة آلاف، أو كل سنة ثمانية آلاف، أو كل شهر ألف، فلا شيء في ذلك.
__________
(1) سؤال موجه إلى سماحته بعد تعليقه على ندوة الجامع الكبير بالرياض بعنوان: (الربا وخطره) .
(2) سورة البقرة الآية 275(19/12)
صور من بيع التقسيط المحرم
س 7: حبذا يا سماحة الشيخ لو تذكرون لنا بعض صور البيع بالتقسيط المحرمة؟ جزاكم الله خيرا (1) .
ج: إذا اشترى الإنسان شيئا مؤجلا بأقساط ثم باعه نقدا على من اشتراه منه فهذا يسمى بيع العينة، وهو لا يجوز، لكن إذا باعه على غيره فلا بأس؛ كأن يشتري سيارة بالتقسيط ثم يبيعها على آخر نقدا؛ ليتزوج؛ أو ليوفي دينه، أو لشراء سكن، فلا بأس في ذلك. أما كونه يشتري السيارة أو غيرها بالتقسيط ثم يبيعها بالنقد على صاحبها، فهذا يسمى العينة؛ لأنها حيلة لأخذ دراهم نقدا بدراهم أكثر منها مؤجلة.
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (16541) في 21 ربيع الآخر 1419هـ.(19/13)
حكم الزيادة في البيع بالأجل والتقسيط
س 8: ما حكم الزيادة في البيع بالأجل والتقسيط؟ .(19/13)
ج: البيع إلى أجل معلوم جائز إذا اشتمل البيع على الشروط المعتبرة، وهكذا التقسيط في الثمن لا حرج فيه إذا كانت الأقساط معروفة والآجال معلومة؛ لقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (2) » ، ولقصة بريرة الثابتة في الصحيحين فإنها اشترت نفسها من سادتها بتسع أواق في كل عام أوقية، وهذا هو بيع التقسيط، ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، بل أقره ولم ينه عنه، ولا فرق في ذلك بين كون الثمن مماثلا لما تباع به السلعة نقدا أو زائدا على ذلك بسبب الأجل، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) رواه البخاري في (السلم) باب السلم في وزن معلوم برقم (2241) ومسلم في (المساقاة) باب السلم برقم (1604) .(19/14)
الضوابط الشرعية للبيع بالتقسيط
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم سعادة رئيس تحرير جريدة الجزيرة وفقه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى كتاب سعادتكم رقم (بدون) وتاريخ 21\2\1412هـ الذي ذكرتم فيه أن جريدة الجزيرة تعتزم إصدار ملحق خاص عن ظاهرة البيع بالتقسيط بأسواقنا المحلية التي أخذت تتصاعد في حياتنا التجارية، وترغبون في معرفة الحكم الشرعي في هذه الظاهرة من خلال الأسئلة التي طرحتموها، ونذكرها مرتبة مع الإجابة عنها:(19/15)
س 9: ما هي الضوابط - في رأي سماحتكم - التي تحفظ حقوق طرفي البيع بالتقسيط، ومن ثم حقوق ونظام وسلامة المجتمع؟ (1) .
ج: البيع إلى أجل معلوم جائز؛ لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) الآية. والزيادة في القيمة مقابل الأجل لا مانع منها، فقد ثبت
__________
(1) رسالة جوابية من سماحته إلى رئيس تحرير جريدة (الجزيرة) أجاب فيها سماحته عن ثلاثة أسئلة وهذا أحدها.
(2) سورة البقرة الآية 282(19/15)
عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على جواز ذلك، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يجهز جيشا يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل. وينبغي معرفة ما يقتضيه الشرع في هذه المعاملة حتى لا يقع المتبايعان في العقود المحرمة، إذ أن بعضهم يبيع ما لا يملك، ثم يشتري السلعة بعد ذلك ويسلمها للمشتري، وبعضهم إذا اشتراها يبيعها وهي في محل البائع قبل أن يقبضها القبض الشرعي، وكلا الأمرين غير جائز لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك (1) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل سلف وبيع ولا بيع ما ليس عندك (2) » . وقال عليه الصلاة والسلام: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه (3) » . وقال ابن عمر رضي الله عنهما
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكيين) مسند حكيم بن حزام برقم (14887) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1232) وابن ماجه في (التجارات) باب النهي عن بيع ما ليس عندك برقم (2187) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (6633) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1234) والنسائي في (البيوع) باب بيع ما ليس عند البائع برقم (4611) .
(3) رواه البخاري في (البيوع) باب الكيل على البائع والمعطي برقم (2126) ومسلم في (البيوع) باب بطلان بيع المبيع قبل القبض برقم (1526) .(19/16)
" كنا نشتري الطعام جزافا فيبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ينهانا أن نبيعه حتى ننقله إلى رحالنا" (1) .
وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أيضا: «أنه نهى أن تباع السلع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (2) » .
ومن هذه الأحاديث وما جاء في معناها يتضح لطالب الحق إنه لا يجوز للمسلم أن يبيع سلعة ليست في ملكه ثم يذهب فيشتريها، بل الواجب تأخير بيعها حتى يشتريها ويحوزها في ملكه، ويتضح أيضا أن ما يفعله كثير من الناس من بيع السلع وهي في محل البائع قبل نقلها إلى حوزة المشتري أمر لا يجوز لما فيه من مخالفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولما فيه من التلاعب بالمعاملات، وعدم التقيد فيها بالشرع المطهر، وفي ذلك من الفساد والشرور، والعواقب الوخيمة ما لا يحصى.
__________
(1) رواه مسلم في (البيوع) باب بطلان بيع المبيع قبل القبض برقم (1526) .
(2) رواه أبو داود في (البيوع) باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى برقم (3499) .(19/17)
بيع السلعة قبل ملكها وحوزها لا يجوز
س 10: تاجر يقوم بعرض عينات لبعض المنتجات مثل الثلاجات والغسالات وغيرها، وإذا أراد أحد عملائه أن يشتري منها شيئا يتفق معه على السعر ومن ثم يتصل بالتاجر المورد ويشتري الكمية المطلوبة وينقلها بسيارته إلى مكان العميل ويقبض الثمن بعد ذلك، فما حكم هذا البيع؟ (1) .
ج: لا يجوز هذا البيع لكونه بيعا للسلعة قبل أن يملكها ويحوزها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل سلف وبيع ولا بيع ما ليس عندك (2) » ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عنك (3) » .
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص377، ومجلة (الدعوة) بتاريخ 2\7\1407هـ.
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (6633) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1234) والنسائي في (البيوع) باب بيع ما ليس عند البائع برقم (4611) .
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند المكيين) مسند حكيم بن حزام برقم (14887) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1232) وابن ماجه في (التجارات) باب النهي عن بيع ما ليس عندك برقم (2187) .(19/18)
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم «أنه نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (1) » ، والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(19/19)
حكم الشراء من مندوب الشركة لدى معارض السيارات
س 11: هناك شركة لها مندوبون لدى معارض السيارات فمن أراد شراء سيارة بالتقسيط فإنه يتفق مع صاحب المعرض على القيمة ثم يتصل بمندوب هذه الشركة فتقوم الشركة بدفع كامل قيمة السيارة لمعرض السيارات ثم تقسط الشركة المبلغ على المشتري بأقساط شهرية بفوائد. نرجو إفادتنا عن جواز التعامل مع هذه الشركة بالنسبة لأصحاب معارض السيارات وبالنسبة للمشترين؟ (1) .
ج: هذا العمل من الشركة التي أشرتم إليها مخالف
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص 377.(19/19)
للحكم الشرعي؛ لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل سلف وبيع ولا بيع ما ليس عندك (1) » .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك (2) » . وثبت عن زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (3) » ، وهذا العمل من الشركة المذكورة مخالف لهذه الأحاديث كلها؛ لأنها تبيع ما لا تملك ولا يجوز التعاون معها في ذلك؛ لقوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4) والطريق الشرعي أن تشتري الشركة
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (6633) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1234) والنسائي في (البيوع) باب بيع ما ليس عند البائع برقم (4611) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكيين) مسند حكيم بن حزام برقم (14887) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1232) وابن ماجه في (التجارات) باب النهي عن بيع ما ليس عندك برقم (2187) .
(3) رواه أبو داود في (البيوع) باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى برقم (3499) .
(4) سورة المائدة الآية 2(19/20)
السيارات أو غيرها من السلع وتحوزها بمكان يخصها ثم تبيع على من يرغب الشراء منها نقدا أو مؤجلا. وفق الله الجميع لما يرضيه.(19/21)
بيع وشراء السيارات بالتقسيط
س 12: يسأل بعض الإخوان ممن يتاجرون في بيع وشراء السيارات بالأقساط، ويقول: إنه يبيع السيارة على أساس أقساط شهرية، حيث يتفق مع الشخص الذي يريد شراء سيارة بالأقساط، وذلك لحاجته إلى ذلك، ويتفق معه على البيع قبل أن يشتري له السيارة ضامنا أرباحه أولا فما حكم ذلك؟ (1) .
ج: إذا كان بيع السيارة ونحوها على راغب الشراء بعدما ملكها البائع وقيدت باسمه وحازها فلا بأس، أما قبل ذلك فلا يجوز؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك (2) » ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص 341.
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكيين) مسند حكيم بن حزام برقم (14887) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1232) وابن ماجه في (التجارات) باب النهي عن بيع ما ليس عندك برقم (2187) .(19/21)
يحل سلف وبيع ولا بيع ما ليس عندك (1) » ، وهما حديثان صحيحان، فوجب العمل بهما والحذر مما يخالف ذلك، والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (6633) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1234) والنسائي في (البيوع) باب بيع ما ليس عند البائع برقم (4611) .(19/22)
س 13: اشتريت سيارة وبعتها بالتقسيط ومعروف عن التقسيط بأنه أكثر من المبلغ النقدي؛ كأن أشتري سيارة نقدا بـ (50000) ريال وأبيعها بالتقسيط لفترة طويلة (3) سنوات مثلا بمبلغ (80000) ريال وصاحب السيارة الذي يشتريها مني بدوره إما يبيعها أو يستخدمها لنفسه. فما الحكم في ذلك؟ (1) .
والله نسأل أن يمد في عمركم وينفع بعلمكم.
ج: لا حرج في هذا البيع إذا كانت السيارة في ملك البائع وحوزته حين باعها بالتقسيط وكانت الأقساط معلومة الأجل؛ لأن هذه المعاملة وأمثالها داخلة في قوله تعالى:
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته من (المجلة العربية) .(19/22)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) الآية. وفي قوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن جارية تدعى بريرة كاتبها أهلها على أقساط تسعة في كل سنة قسط وهو أربعون درهما. والأدلة في هذا كثيرة.
أما المشتري بالأقساط فله أن يستعملها وله أن يبيعها ولكن ليس له أن يبيعها على من اشتراها منه بأقل مما اشتراها منه نقدا؛ لأن هذه المعاملة هي العينة المحرمة، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة البقرة الآية 275(19/23)
س 14: أنا موظف وأرغب في شراء سيارة بالتقسيط ولكن مرجعي رفض تصديق أوراق البيع، فهل يجوز لي أن أدفع مبلغا من المال للشركة زيادة على مبلغ السيارة ليوافقوا على بيعي؟ (1) .
ج: لا بأس بالبيع بالتقسيط إذا كانت السيارة أو السلعة موجودة لديهم فتشتريها بأقساط معلومة. لا بأس في ذلك. لكن لا تشتر شيئا ليس في ملكهم فإن لم يتيسر عن طريق مرجعك ولكن من طريق آخر تشتريها بأقساط لا أعلم مانعا من
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1556) في 15\4\1417هـ.(19/23)
ذلك. المهم أن تكون السلعة موجودة عند البائع وقد ملكها وحازها وأن يكون الثمن معلوما.(19/24)
نصيحة لتجار التقسيط والمستهلكين
س 15: هل لسماحتكم من نصيحة للإخوة التجار أو المستهلكين؟ (1) .
ج: نصيحتي لإخواني من التجار والمستهلكين أن يتقوا الله في السر والعلن، وأن يراقبوه في جميع معاملاتهم، وأن يتحروا الصدق والأمانة في بيعهم وشرائهم، وأن يجتنبوا الكذب والخيانة وجميع المعاملات والعقود التي تخالف الشريعة المطهرة، وأوصي التجار أن يتقوا الله في المتعاملين معهم من المحتاجين لهذا البيع المؤجل وذلك بالرفق بهم في تعاملهم معهم سواء بعدم رفع قيمة البضاعة رفعا مرهقا أو بالقسوة والشدة عند الاقتضاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على السماحة في البيع والشراء والقضاء والاقتضاء وقال: «خيار الناس أحسنهم قضاء (2) » . وقال أيضا صلى الله عليه
__________
(1) رسالة جوابية إلى رئيس تحرير جريدة (الجزيرة) برقم 676\2 في 10\3\1412هـ.
(2) رواه البخاري في (الاستقراض وأداء الديون) باب هل يعطى أكبر من سنه برقم (2392) ومسلم في (المساقاة) باب من استسلف شيئا وقضى خيرا منه برقم (1600) .(19/24)
وسلم: «البيعان بالخيار حتى يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما (1) » ، متفق على صحته. كما أوصي المستهلكين بأن يتقوا الله في أنفسهم وفي من هم تحت ولايتهم وذلك بأن لا ينساقوا ويندفعوا في شراء ما لا يحتاجون إليه فتتكاثر عليهم الديون فيعسر عليهم الوفاء بما التزموا به، فيضيقوا على أنفسهم وعلى من هم تحت رعايتهم من حيث أرادوا التوسع والاستفادة من هذه التسهيلات المتاحة دون تقدير للعواقب، والمطلوب هو التوسط في الأمور كلها يقول الله سبحانه حاثا على الاعتدال في النفقة: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (2) ويقول سبحانه في معرض الثناء على عباده المؤمنين: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (3)
__________
(1) رواه البخاري في (البيوع) باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا برقم (2079) ومسلم في (البيوع) باب الصدق في البيع والبيان برقم (1532) .
(2) سورة الإسراء الآية 29
(3) سورة الفرقان الآية 67(19/25)
هذا ونسأل الله للجميع الهداية والتوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(19/26)
لا حرج في بيع التقسيط إذا كانت الأقساط والآجال معلومة
س 16: قمت ببيع سيارة لأحد الأصدقاء بمبلغ (40000) (أربعين ألف ريال) على أن تدفع قيمتها على أقساط شهرية قيمة القسط (2000) ألفا ريال وصديقي هذا يمر بأزمة مالية فطلب مني أن أبيعها في المعرض حيث إن السيارة لا زالت باسمي وقد أخذت في الثمن كمبيالة واشترطت على صديقي أن يكون حاضرا معي وقت البيع ليقبضه وثمنه ويكون البيع برضاه فوافق وتم بيع سيارتي في المعرض بمبلغ (27000) (سبعة وعشرين ألف ريال) وقام بعد ذلك بقبض ثمن السيارة حيث سدد به بعض ديونه وأنا لم يكن عند مال أقرضه ولم يكن عندي سوى سيارتي التي اشتراها مني سابقا- كما ذكرت - حتى إنه لم يكن لي رغبة في بيعها، فهل في معاملتي هذه شيء من الربا، وهل البيع بالتقسيط جائز مع العلم أن سيارتي كلفتني مبلغ (35 ألف ريال) ؟ (1) .
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في برنامج (نور على الدرب) .(19/27)
ج: البيع بالتقسيط لا حرج فيه إذا كانت الأقساط معلومة والآجال معلومة؛ لعموم قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) فالله أباح المداينة إلى أجل مسمى فإذا كانت الأقساط واضحة معلومة والآجال معلومة فلا بأس، كما فعلت مع صاحبك في كل شهر (2000) (ألفين) معلومة، والجملة معروفة (40000) ليس بهذا شيء إذا كنت حين بعت السيارة وهي في ملكك وتحت قبضتك وتصرفك فلا حرج في ذلك.
أما كونك توليت هذا فأنت محسن وهذا من باب الوكالة فأنت في هذا محسن ومأجور ما دمت فعلته لله.
__________
(1) سورة البقرة الآية 282(19/28)
ليس للربح حد محدود في البيع المؤجل
س 17: هل يجوز شراء سيارة تبلغ قيمتها في السوق (30000) ريال بثمن يقسط شهريا ولكنه يبلغ في جملته (50000) ريال أي أن هناك فرقا بين القيمة الأصلية والقيمة التي بعد التقسيط تبلغ (20000) ريال هل في هذا العمل شيء؟ (1) .
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص 349.(19/28)
ج: لا حرج في المعاملة المذكورة إذا كانت السيارة في ملك البائع وحوزته؛ لعموم الأدلة، وليس للربح حد محدود بل ذلك يختلف بحسب أحوال المشتري وبحسب طول الأجل وقصره.
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن بريرة رضي الله عنها اشترت نفسها من مالكها بتسع أواق في تسع سنين في كل عام أوقية، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسأل عن قيمتها لو كان البيع نقدا، والله ولي التوفيق.(19/29)
التوبة من الكسب الحرام
س 18: إذا اكتسب الشخص مالا من الكسب الحرام ثم تاب إلى الله وعرف أن ذلك حرام فماذا يفعل بالأموال التي من الكسب الحرام؟ (1) .
ج: إذا كان عن جهالة فله ما سلف وأمره إلى الله قال
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته بعد الدرس الذي ألقاه سماحته في المسجد الحرام في 26\12\1418هـ.(19/29)
الله جل وعلا: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} (1) فإذا كان جاهلا فله ما سلف أما إذا كان عالما ويتساهل فليتصدق بالكسب الحرام. إذا كان نصف أمواله أو ثلثها أو ربعها كسب حرام يتصدق به على الفقراء والمساكين أما إذا كان جاهلا لا يعلم ثم علم وتاب إلى الله فله ما سلف.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(19/30)
بماذا تحاز السيارة
س 19: إذا اشتريت السيارة بالنقد ودفعت الثمن وسجل ذلك في سجلات المعرض هل يكفي ذلك للحيازة أم لا بد من نقل الملكية بالاستمارة عن طريق المرور علما بأني أنوي البيع؟ (1) .
ج: إذا تم البيع وقبضت السيارة لك أن تتصرف فيها لكن تخرج بها عن مكان البيع تنقلها إلى مكانك أو إلى محل آخر أو إلى معرض آخر حتى يتم القبض؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلعة حيث تبتاع حتى يحوزها
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته بعد الدرس الذي ألقاه سماحته في المسجد الحرام بتاريخ 26\12\1418هـ.(19/30)
التجار إلى رحالهم ولو ما تمت بقية الإجراءات ما دام تم البيع بينكما، إذا افترقتما لزم البيع.(19/31)
حكم أخذ الدلالة في البيع
س 20: قال لي صديق: أريد سيارة بالأجل هل تعرف أحدا؟ قلت: نعم، فذهبت إلى صاحب السيارة وقلت له عندي لك زبون ولكن أريد دلالة من غير ما يعلم صاحبي ما حكم عملي هذا؟ (1) .
ج: لا بأس بالدلالة - السعي - على البائع أو على المشتري؛ شرط الدلالة لا بأس به.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته بعد الدرس الذي ألقاه سماحته في المسجد الحرام بتاريخ 26\12\1418هـ.(19/31)
حكم الكسب من الشهادة المغشوشة
س 21: رجل يعمل بشهادة علمية وقد غش في امتحانات هذه الشهادة وهو الآن يحسن هذا العمل بشهادة مرؤسيه فما حكم راتبه هل هو حلال أم حرام؟ (1) .
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في حج عام 1415هـ.(19/31)
ج: لا حرج إن شاء الله، عليه التوبة إلى الله مما جرى من الغش، وهو إذا كان قائما بالعمل كما ينبغي فلا حرج عليه من جهة كسبه؛ لكنه أخطأ في الغش السابق وعليه التوبة إلى الله من ذلك.(19/32)
حكم من اشترى قطعا من القماش فبانت أكثر
س 22: إذا اشتريت من رجل سبع قطع من القماش ثم وجدتها ثمانيا فماذا أفعل بالزيادة والبائع قد ذهب؟ (1) .
ج: هذا يسأل ويقول إذا اشترى سبع قطع من القماش ثم وجدها ثمانيا فماذا يفعل؟ ومثل من اشترى سبع أوان فلما عدها فإذا هي ثمان أوان فماذا يفعل بالزائد هل يرده إلى ربه؟
نعم يرده إلى صاحبه ويبحث عنه ويعطيه الزائد فإن لم يجده تصدق به على الفقراء بالنية عن صاحبه، لكن بعدما يحفظه مدة لعله يجده فإن لم يجده يتصدق به، يعطيه بعض الفقراء بالنية عن صاحبه ويجد أجره يوم القيامة.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في حج عام 1415هـ في منى يوم التروية.(19/32)
حكم ما يأخذه مندوب المشتريات من ثمن السلعة
س 23: نرجو منكم أن تتفضلوا بتوضيح الرأي في ظاهرة منتشرة وهي أن مندوبي المشتروات الموكلين من قبل شركاتهم أو مؤسساتهم لشراء الأغراض يحصلون على مبلغ من المال لأنفسهم من خلال عملية الشراء وتحدث هذه العملية غالبا في صورتين:
الصورة الأولى: أن يطلب مندوب المشتروات من البائع وضع سعر مرتفع عن السعر الحقيقي للسلعة على الفاتورة ويقوم مندوب المشتروات بأخذ هذا الفرق في السعر لنفسه.
الصورة الثانية: أن مندوب المشتروات يطلب من البائع أن يكتب له فاتورة بنفس سعر السلعة الحقيقي في السوق، ثم يطلب من البائع مبلغا من المال لنفسه بتناسب مع كمية السلع المشتراة، ويكون ذلك نظير تشجيعه مندوب المشتروات لكي يقصد هذا المحل دائما، نرجو أن تتفضلوا بالتوجيه وجزاكم الله خيرا؟ (1) .
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في برنامج (نور على الدرب) .(19/33)
ج: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
هاتان الصورتان اللتان سأل عنهما صاحب السؤال كلتاهما محرمة، وكلتاهما خيانة سواء كان اتفق مع صاحب السلعة على زيادة الثمن عن السعر المعروف في السوق حتى يأخذ الزيادة، أو أعطاه شيئا فيما بينه وبينه ولم يجعل في الفاتورة إلا السعر المعروف، كل ذلك محرم، وكل ذلك خيانة، وكل هذا من أسباب أن يختار الوكيل من الباعة من يناسبه ولا يبالي بالسعر الذي ينفع الشركة، ويبرئ الذمة، وإنما يهتم بالشيء الذي يحصل به مطلوبه من البائعين ولا يبالي بعد ذلك بالحرص على مصلحة الشركة، وأن يتطلب السعر المناسب المنخفض من أجل النصح لها وأداء الأمانة فهذا كله لا يجوز؛ لأنه خيانة.(19/34)
الكتابة في المعاملات فيها حفظ للحقوق
س 24: ما حكم الكتابة في المبايعة بين الناس؟ (1) .
ج: الكتابة أمر الله بها إذا كان البيع مداينة ولأجل في
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في حج عام 1415هـ في منى يوم التروية.(19/34)
الذمة. والإشهاد على ذلك عن النسيان، كما قال سبحانه في آية الدين في آخر سورة البقرة: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} (1) يعني كتب الشهادة أقرب إلى العدل وأقوم وأضبط وأبعد عن الريبة والشك، إذا دعت الحاجة أحضروا الكتاب ووجدوا كل شيء مكتوبا فالكتابة فيها ضبط للحقوق، أما التجارة الحاضرة التي يصرفونها حالا ويتفرقون عنها وليس فيها دين ولا فيها أجل لا بأس بها مثل سيارة اشتراها وأعطى ثمنها ومشى، عباءة اشتراها وأعطى ثمنها ومشى، إناء اشتراه وأعطى ثمنه ومشى، كل هذا لا يحتاج كتابة، أما تجارة في الذمة هذه تحتاج إلى كتابة حتى لا ينسوا ولهذا قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} (2) الآية، فالكتابة فيها حفظ الحقوق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة البقرة الآية 282(19/35)
25 - حكم شراء السلعة بثمن مؤجل بواسطة البنوك
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم أ. ش. ش. سلمه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإشارة إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 2912 وتاريخ 24\7\1407هـ الذي تسأل فيه عن حكم شراء سيارة أو غيرها بثمن مؤجل بواسطة وسيط ثالث هو البنك ونحوه ويكون الوسيط هو المستفيد من الزيادة على الثمن الذي تساويه نقدا (1) .
وأفيدك بأنه إذا كان البنك يشتري السيارة من مالكها ثم يبيعها عليك بعدما يشتريها ويقبضها فإنه لا حرج في ذلك ولو كان بأكثر مما اشتراها به، أما إذا كان الذي يبيعها عليك مالكها الأول والبنك يقوم بدفع القيمة له ويقوم البنك بأخذ الربح مقابل ذلك فإنه لا يجوز؛ لأنه بيع الدراهم بدراهم وهو محرم
__________
(1) سؤال مقدم من الأخ أ. ش. ش. وقد أجاب عنه سماحته برقم (2402\2) في 27\8\1407هـ.(19/36)
لأنه ربا، وسبق أن صدر من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتاوى في حكم البيع إلى أجل وفي حكم القرض من البنك بفائدة، فنرفق لك نسخا منها وفيها الكفاية إن شاء الله.
وفق الله الجميع لما فيه رضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(19/37)
حكم بيع الحيوان بالحيوان إلى أجل
س 26: هل يجوز بيع شاة من الغنم بشاتين أو ثلاث مؤجلة لمدة عشرين عاما مثلا أو أكثر؟ .
ج: يجوز في أصح قولي العلماء بيع الحيوان المعين الحاضر بحيوان واحد أو أكثر إلى أجل معلوم قريب أو بعيد أو مقسط إذا ضبط الثمن بالصفات التي تميزه، سواء كان ذلك الحيوان من جنس المبيع أو غيره؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه اشترى البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة (1) » رواه الحاكم والبيهقي ورجاله ثقات.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (6557) وأبو داود في (البيوع) باب في الرخصة في ذلك برقم (3357) .(19/38)
حكم بيع الحيوان الحي بالوزن
س 27: هناك أناس يبيعون الحيوانات كالأبقار والأغنام ونحوها، وهي على قيد الحياة بالكيلو بثمن معلوم، علما بأن المشتري يقصد بها أحيانا أن يبقيها عنده أو يذبحها(19/38)
ليبيعها على الناس، ومثال ذلك بأن نذهب إلى صاحب حيوانات ونختار ما نريد شراءه ثم يأتي بها إلى ميزان عنده ويزنها حية ويبيعها بسعر الكيلو مثلا عشرة ريالات. فما حكم ذلك البيع؟
أفيدونا أثابكم الله (1)
ج: لا نعلم حرجا في بيع الحيوان المباح بيعه كالإبل والبقر والغنم ونحوها بالوزن، سواء كانت حية أو مذبوحة؛ لعموم قوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: «أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور (3) » ، ولأن ذلك ليس فيه جهالة ولا غرر، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى البيوع في الإسلام) من نشر جمعية إحياء التراث الإسلامي بالكويت ص 40.
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) حديث رافع بن خديج برقم (16814) .(19/39)
حكم بيع الكلب وأكل ثمنه
س 28: ثمن الكلب ماذا يعمل به يا شيخ؟ (1) .
ج: يرد على صاحبه، البيع باطل.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته بعد شرح درس (بلوغ المرام) .(19/39)
حكم إهداء الكلب
س 29: إذا أعطاني شخص كلبا وأعطيته عطية إكرامية فما حكمها؟ (1) .
ج: لا بأس بالكرامة فقد جاء في بعض الأحاديث أنه لا بأس بالكرامة ولكن لا يكون بالبيع والشراء.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته بعد شرح درس (بلوغ المرام) .(19/40)
حكم بيع السباع
س 30: هل تقاس السباع على الكلاب من ناحية النهي في البيع؟ (1) .
ج: نعم السباع من باب أولى أنها لا تباع لشرها وخبثها وعدم الفائدة منها الأسد والنمر والفهد والذئب كلها لا تباع بيعها باطل من باب أولى.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته بعد شرح درس (بلوغ المرام) .(19/40)
حكم اقتناء الطيور التي لا تؤكل
س 31: ما حكم اقتناء الطيور التي لا تؤكل؟ (1) .
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته بعد شرح درس (بلوغ المرام) .(19/40)
ج: إذا كان ينتفع بها مثل الصقر والشاهين إذا اشتريتها للصيد ظاهر كلام أهل العلم أنه لا بأس بها مثل ما يقتني؛ ككلب الصيد يقتني للصيد فلا بأس، مثل الصقر فإن له مخلب ولكن فيه فائدة للصيد، يجاز. وهكذا العقاب لو ربي أو الباز أو الشاهين المقصود الذي يمكن أن يربى ويستفاد منه.(19/41)
حكم بيع واقتناء الحيوانات المحنطة
س 32: ما حكم اقتناء الحيوانات والطيور المحنطة؟
وما حكم بيع ما ذكر؟
وهل هناك فرق بين ما يحرم اقتناؤه حيا وما يجوز اقتناؤه حيا في حالة التحنيط؟
وما الذي ينبغي على المحتسب حيال تلك الظاهرة؟ (1) .
ج: اقتناء الطيور والحيوانات المحنطة سواء ما يحرم اقتناؤه حيا أو ما جاز اقتناؤه حيا فيه إضاعة للمال وإسراف وتبذير في نفقات التحنيط، وقد نهى الله عن الإسراف والتبذير ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال؛ ولأن ذلك وسيلة إلى الاعتقاد فيها وإلى تصوير الطيور وغيرها من ذوات الأرواح، وتعليقها ونصبها في البيوت أو المكاتب وغيرها
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1563) في 5 جمادى الآخرة 1417هـ، وفي هذا المجموع ج 5 ص 377.(19/41)
وذلك محرم فلا يجوز بيعها ولا اقتناؤها، وعلى المحتسب أن يبين للناس أنها محرمة وأن يمنع ظاهرة تداولها في الأسواق، وقد وقع الشرك في قوم نوح بسبب تصوير ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكانوا رجالا صالحين في قوم نوح ماتوا في زمن متقارب، فزين الشيطان لقومهم أن يصوروا صورهم وينصبوها في مجالسهم ففعلوا، فوقع الشرك في قوم نوح بسبب ذلك، كما ذكر ذلك البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما (1) ، وذكر ذلك غيره من المفسرين والمحدثين والمؤرخين. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
(1) رواه بنحوه البخاري في (تفسير القرآن) باب ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق برقم (4920) .(19/42)
معنى بيع الكالئ بالكالئ
س 33: ما معنى يبيع الكالئ بالكالئ؟ وإذا اشتريت سلعة دينا وبعتها دينا قبل أن أدفع ثمنها فهل هذا البيع صحيح؟ (1) .
ج: بيع الكالئ بالكالئ، هو بيع الدين بالدين والحديث
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته من جريدة (المسلمون) .(19/42)
في ذلك ضعيف، كما أوضح ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في بلوغ المرام، ولكن معناه صحيح، كما أوضح ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله، في كتابه إعلام الموقعين، وكما ذكر ذلك غيره من أهل العلم، وصفة ذلك: أن يكون للشخص دين، عند زيد مثلا، فيبيعه على شخص آخر بالدين، أو يبيعه على من هو عليه بالدين؛ لما في ذلك من الغرر وعدم التقابض، لكن إذا كان المبيع والثمن من أموال الربا، جاز أخذ أحد العوضين عن الآخر، بشرط التقابض في المجلس مع التماثل إذا كانا من جنس واحد، أما إن كانا من جنسين جاز التفاضل بشرط التقابض في المجلس، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «سأله بعض الصحابة، فقال: يا رسول الله: إننا نبيع بالدراهم ونأخذ عنها الدنانير، ونبيع بالدنانير ونأخذ عنها الدراهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء (1) » ، رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وأبو داود والنسائي بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الحاكم، ولأدلة أخرى في الموضوع.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين في الصحابة) باقي مسند عبد الله بن عمر برقم (6203) والنسائي في (البيوع) باب بيع الفضة بالذهب وبيع الذهب بالفضة برقم (4582) .(19/43)
أما إذا اشترى الإنسان سلعة بثمن مؤجل ثم باعها على آخر بعد قبضها بثمن مؤجل أو معجل فإنه لا حرج في ذلك؛ لعموم قول الله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) الآية. لكن لا يجوز بيع السلعة التي اشتراها بدين على من اشتراها منه بنقد أقل؛ لأنها بذلك تكون من صور العينة ومن وسائل الربا، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 282(19/44)
حكم بيع الكلونيا
س 34: هناك بعض أنواع من الكلونيا التي تباع في الأسواق بعض الناس يستعملها طيبا وبعض الناس يستعملها شرابا فإذا باعها أحد أصحاب المحلات على بعض الفساق وأتخذها شرابا كيف ترون عمل صاحب الدكان؟ (1) .
ج: أولا يبحث في نفس الكلونيا هذه هل تباع أم لا؛ لأن الأظهر عدم بيعها إذا كانت تستعمل شرابا وفيها ما يسكر
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته بعد شرح درس (بلوغ المرام) .(19/44)
فالأظهر تحريم بيعها والواجب منعها سدا لباب الشر، لكن لو قدر أنه ربح فيها كما هو موجود الآن وباعها الإنسان لا يدري عن مشتريها هل يفعل كذا أو يفعل كذا فليس عليه شيء وليس عليه حرج، أما إذا كان يعرف أن هذا الشاب أو هذا الشخص يستعملها للسكر ليس له بيعها عليه؛ لأنه حينئذ يعلم أنه يعينه على الإثم والعدوان فلا يجوز له ذلك، وإذا علم أن شخصا يبيعها على هؤلاء الجنس فلولي الأمر أن يعاقبه على بيعها على من يعرف أنه يستعملها للشر ويخبر بأنه إنما سمح له ببيعها على من يستعملها للطيب مع أنه لا ينبغي استعمالها أبدا، الذي يظهر لنا أنه لا ينبغي استعمالها أبدا ما دامت مما يسكر ومما يكون فيها أسبيرتو المعروف بإسكاره وضرره، فلا يجوز استعمالها بل ينبغي الحذر منها.(19/45)
حكم بيع الأصنام
س 35: هل بيع الأصنام - أحسن الله إليك - لا يجوز إطلاقا لو كان مثلا إنسان اشترى صنما من ذهب وأراد أن يصهره ويستعمله في منافع فهل يجوز؟ (1) .
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته بعد شرح درس (بلوغ المرام) .(19/45)
ج: لا يجوز بيعها لكن إذا كسرها صاحبها فلا بأس، ببيع الصنم مكسرا أما أن يبيعه على حاله فلا يجوز، لكن إذا كسره فإنه تحول من كونه صنما فيجوز، والواجب تكسيره ولا يقر على حاله بل يجب أن يسكر ثم يبيع كسره.(19/46)
لا يجوز بيع منح الأراضي إلا بعد حيازتها
س 36: ما رأيكم في الذين يأخذون منح الأراضي يأخذون رقمها ويبيعونها قبل استلامها؟ (1) .
ج: هذا لا يجوز، هذا غرر، ما يجوز حتى يحوزها؛ يعرفها ويتم ملكه عليها.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته بعد شرح درس (بلوغ المرام) .(19/46)
حكم بيع التمر والملح والبر بالآجل
س 37: فضيلة الوالد العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظك الله ورعاك. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نحن شباب منطقة الدرجاج في اليمن:(19/46)
نرفع إليكم هذا الخطاب مضمنا لسؤالين هامين نرجو منكم الإجابة الخطية عليهما حتى نعرضهما على أهالينا، وفقكم الله للهدى والصواب في جميع الأقوال والأعمال.
السؤال الأول: يوجد عندنا محلات تجارية تبيع للناس بالأجل ومن ضمن ما تبيعه لهم بالأجل البر والتمر والملح، فما حكم هذا التعامل؟
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
إجابة عن السؤال الأول عن بيع البر والتمر والملح بالآجل فلا حرج في ذلك، إذا كان المبيع معلوما والثمن معلوما والأجل معلوما، إن كان مؤجلا، وهكذا لو كان المبيع صبرة مشاهدة من التمر أو الملح أو البر ونحو ذلك.(19/47)
حكم أخذ المال مقابل التبرع بالدم
س 38: هل المال الذي يأخذه من يتبرع بالدم حلال أم لا؟ (1) .
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في برنامج (نور على الدرب) .(19/47)
ج: ثبت في صحيح البخاري رحمة الله عليه عن أبي جحيفة رضي الله عنه: «أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم (1) » . فلا يجوز للمسلم أن يأخذ عن الدم عوضا؛ لهذا الحديث الصحيح فإن كان قد أخذ فليتصدق بذلك على بعض الفقراء.
__________
(1) رواه البخاري في (البيوع) باب موكل الربا برقم (2086) .(19/48)
39 - حكم البيع إلى أجل وبيع التورق والعينة والقرض بفائدة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه، أما بعد:
فقد سئلت عن حكم بيع كيس السكر ونحوه بمبلغ مائة وخمسين ريالا إلى أجل وهو يساوي مبلغ مائة ريال نقدا؟ .
والجواب: عن ذلك أن هذه المعاملة لا بأس بها؛ لأن بيع النقد غير بيع التأجيل، ولم يزل المسلمون يستعملون مثل(19/48)
هذه المعاملة، وهو كالإجماع منهم على جوازها، وقد شذ بعض أهل العلم فمنع الزيادة لأجل الأجل، وظن ذلك من الربا وهو قول لا وجه له، وليس من الربا في شيء، لأن التاجر حين باع السلعة إلى أجل إنما وافق على التأجيل من أجل انتفاعه بالزيادة، والمشتري إنما رضي بالزيادة من أجل المهلة وعجزه عن تسليم الثمن نقدا، فكلاهما منتفع بهذه المعاملة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على جواز ذلك، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يجهز جيشا، فكان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل، ثم هذه المعاملة تدخل في عموم قول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) الآية. وهذه المعاملة من المداينات الجائزة الداخلة في الآية المذكورة، وهي من جنس معاملة بيع المسلم، فإن البائع في السلم يبيع من ذمته حبوبا أو غيرها مما يصح السلم فيه بثمن حاضر أقل من الثمن الذي يباع به المسلم فيه وقت السلم؛ لكون المسلم فيه مؤجلا والثمن معجلا، فهو عكس المسألة المسئول عنها. وهو جائز بالإجماع وهو مثل البيع إلى أجل في المعنى. والحاجة إليه ماسة، كالحاجة إلى السلم، والزيادة في السلم مثل الزيادة في البيع إلى أجل؛
__________
(1) سورة البقرة الآية 282(19/49)
سببها فيهما تأخير تسليم المبيع في مسألة السلم، وتأخير تسليم الثمن في مسألة البيع إلى أجل، لكن إذا كان مقصود المشتري لكيس السكر ونحوه بيعه والانتفاع بثمنه، وليس مقصوده الانتفاع بالسلعة نفسها، فهذه المعاملة تسمى مسألة (التورق) ويسميها بعض العامة (الوعدة) ، وقد اختلف العلماء في جوازها على قولين: أحدهما: أنها ممنوعة أو مكروهة؛ لأن المقصود منها شراء دراهم بدراهم وإنما السلعة المبيعة واسطة غير مقصودة.
والقول الثاني: للعلماء جواز هذه المعاملة لمسيس الحاجة إليها؛ لأنه ليس كل أحد اشتدت حاجته إلى النقد يجد من يقرضه بدون ربا؛ لدخولها في عموم قوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) ولأن الأصل في الشرع حل جميع المعاملات إلا ما قام الدليل على منعه، ولا نعلم حجة شرعية تمنع هذه المعاملة.
وأما تعليل من منعها أو كرهها بكون المقصود منها هو النقد، فليس ذلك موجبا لتحريمها ولا لكراهتها؛ لأن مقصود التجار غالبا في المعاملات هو تحصيل نقود أكثر بنقود أقل والسلع المبيعة هي الواسطة في
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 282(19/50)
ذلك، وإنما يمنع مثل هذا العقد إذا كان البيع والشراء من شخص واحد كمسألة العينة. فإن ذلك يتخذ حيلة على الربا، وصورة ذلك أن يشتري شخص سلعة من آخر بثمن في الذمة، ثم يبيعها عليه بثمن أقل ينقده أياه، فهذا ممنوع شرعا؛ لما فيه من الحيلة على الربا وتسمى هذه المسألة مسألة العينة، وقد ورد فيها من حديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهم ما يدل على منعها.
أما مسألة التورق التي يسميها بعض الناس الوعدة فهي معاملة أخرى، ليست من جنس مسألة العينة؛ لأن المشتري فيها اشترى السلعة من شخص إلى أجل وباعها من آخر نقدا من أجل حاجته للنقد وليس في ذلك حيلة على الربا؛ لأن المشتري غير البائع ولكن كثيرا من الناس في هذه المعاملة لا يعملون بما يقتضيه الشرع في هذه المعاملة، فبعضهم يبيع ما لا يملك ثم يشتري السلعة بعد ذلك ويسلمها للمشتري، وبعضهم إذا اشتراها يبيعها وهي في محل البائع قبل أن يقبضها القبض الشرعي، وكلا الأمرين غير جائز، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك (1) » ،
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكيين) مسند حكيم بن حزام برقم (14887) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1232) وابن ماجه في (التجارات) باب النهي عن بيع ما ليس عندك برقم (2187) .(19/51)
وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل سلف وبيع، ولا بيع ما ليس عندك (1) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه (2) » ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: «كنا نشتري الطعام جزافا فيبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ينهانا أن نبيعه حتى ننقله إلى رحالنا (3) » ، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أيضا: «أنه نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (4) » .
ومن هذه الأحاديث وما جاء في معناها يتضح لطالب الحق أنه لا يجوز للمسلم أن يبيع سلعة ليست في ملكه ثم
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (6633) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1234) والنسائي في (البيوع) باب بيع ما ليس عند البائع برقم (4611) .
(2) رواه البخاري في (البيوع) باب الكيل على البائع والمعطي برقم (2126) ومسلم في (البيوع) باب بطلان بيع المبيع قبل القبض برقم (1526) .
(3) رواه مسلم في (البيوع) باب بطلان بيع المبيع قبل القبض برقم (1526) .
(4) رواه أبو داود في (البيوع) باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى برقم (3499) .(19/52)
يذهب فيشتريها، بل الواجب تأخير بيعها حتى يشتريها ويحوزها إلى ملكه، ويتضح أيضا أن ما يفعله كثير من الناس من بيع السلع وهي في محل البائع قبل نقلها إلى ملك المشتري أو إلى السوق أمر لا يجوز؛ لما فيه من مخالفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما فيه من التلاعب بالمعاملات وعدم التقيد فيها بالشرع المطهر، وفي ذلك من الفساد والشرور والعواقب الوخيمة ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، نسأل الله لنا ولجميع المسلمين التوفيق للتمسك بشرعه والحذر مما يخالفه.
أما الزيادة التي تكون بها المعاملة من المعاملات الربوية فهي التي تبذل لدائن بعد حلول الأجل ليمهل المدين وينظره، فهذه الزيادة هي التي كان يفعلها أهل الجاهلية ويقولون للمدين قولهم المشهور: إما أن تقضي وإما أن تربي. فمنع الإسلام ذلك وأنزل الله فيه قوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (1) وأجمع العلماء على تحريم هذه الزيادة، وعلى تحريم كل معاملة يتوصل بها إلى تحليل هذه الزيادة، مثل أن يقول الدائن للمدين اشتر مني سلعة من سكر أو غيره إلى أجل ثم بعها بالنقد وأوفني حقي الأول فإن هذه المعاملة حيلة ظاهرة على استحلال الزيادة الربوية التي يتعاطاها أهل الجاهلية لكن
__________
(1) سورة البقرة الآية 280(19/53)
بطريق آخر غير طريقهم.
فالواجب تركها والحذر منها وإنظار المدين المعسر حتى يسهل الله له القضاء كما أن الواجب على المدين المعسر أن يتقي الله ويعمل بالأسباب الممكنة المباحة لتحصيل ما يقضي به الدين ويبرئ به ذمته من حق الدائنين.
وإذا تساهل في ذلك ولم يجتهد في أسباب قضاء ما عليه من الحقوق فهو ظالم لأهل الحق غير مؤد للأمانة، فهو في حكم الغني المماطل وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مطل الغني ظلم (1) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته (2) » والله المستعان.
ومن المعاملات الربوية أيضا ما يفعله بعض البنوك وبعض التجار من الزيادة في القرض إما مطلقا وإما في كل سنة شيئا معلوما.
فالأول: مثل أن يقرضه ألفا على أن يرد إليه ألفا ومائة، أو يسكنه داره أو دكانه أو يعيره سيارته أو دابته مدة
__________
(1) رواه البخاري في (الحوالات) باب الحوالة وهل يرجع في الحوالة برقم (2287) ومسلم في (المساقاة) باب تحريم مطل الغني برقم (1564) .
(2) رواه البخاري معلقا في (الاستقراض) باب لصاحب الحق مقال، والنسائي في (البيوع) باب مطل الغني برقم (4689) .(19/54)
معلومة أو ما أشبه ذلك من الزيادات.
وأما الثاني: فهو أن يجعل له كل سنة أو كل شهر ربحا معلوما في مقابل استعماله المال الذي دفعه إليه المقرض سواء دفعه باسم القرض أم باسم الأمانة فإنه متى قبضه باسم الأمانة للتصرف فيه كان قرضا مضمونا ولا يجوز أن يدفع إلى صاحبه شيئا من الربح إلا أن يتفق هو والبنك أو التاجر على استعمال ذلك المال على وجه المضاربة بجزء مشاع معلوم من الربح لأحدهما والباقي للآخر، وهذا العقد يسمى أيضا القراض وهو جائز بالإجماع؛ لأنهما قد اشتركا في الربح والخسران، والمال الأساسي في هذا العقد في حكم الأمانة في يد العامل، إذا تلف من غير تعد ولا تفريط لم يضمنه، وليس له عن عمله إلا الجزء المشاع المعلوم من الربح المتفق عليه في العقد.
وبهذا تتضح المعاملة الشرعية والمعاملة الربوية، والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/55)
حكم بيع الصبرة من الطعام كل صاع بريال وزيادة مبلغ على الجميع
س 40: إذا بيعت الصبرة من الطعام كل صاع بريال وزيادة على جميع الصبرة عشرة أريل مثلا والصبرة مجهولة فهل هذا يكون من بيع المجهول أو لا؟ وإذا كان الناس يتعاملون بمثل ذلك فهل ينهون عنه أم لا؟ (1) .
ج: إذا بيعت الصبرة من الطعام كل صاع بريال وزيادة على جميع الصبرة عشرة أريل مثلا والصبرة مجهولة فإن البيع صحيح وليس من بيع المجهول الذي لا يجوز؛ لأن المبيع معلوم بالمشاهدة، والثمن في حكم المعلوم، ويدل لذلك «أن عليا رضي الله عنه أجر نفسه من امرأة على أن يمتح لها من بئر كل ذنوب بتمرة فمتح ست عشرة ذنوبا فعدت له ست عشرة تمرة، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأكل منها (2) » ، والحديث أخرجه أحمد. وقال فيه الشوكاني في نيل
__________
(1) سؤال مقدم لسماحته وأجاب عنه عندما كان رئيسا للجامعة الإسلامية.
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) مسند علي بن أبي طالب برقم (1138) .(19/56)
الأوطار: " جود الحافظ- يعني ابن حجر - إسناده، وأخرجه ابن ماجه بسند صححه ابن السكن " انتهى. وبجواز بيع الصبرة كل قفيز بدرهم قال الأئمة أحمد ومالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة رحمهم الله.
ولأن الأصل في المعاملات الصحة فلا يبطل منها إلا ما قام الدليل على بطلانه وهذه المعاملة ليس فيها غرر ولا ما يقتضي بطلانها فوجب أن تكون صحيحة، والله ولي التوفيق.(19/57)
حكم بطاقات التخفيض
س 41: انتشر في بعض المحلات التجارية والمستوصفات الأهلية إصدار بطاقة تعطى لمن يرغب الاشتراك فيها مقابل مبلغ مالي يدفع سنويا، ويحصل حاملها على بعض الفحوصات المجانية خلال السنة، وبعض الخصومات المالية على بعض الفحوصات المعملية الأخرى. وسؤالي: هل يجوز إصدار تلك البطاقات أو التعامل بها؟ جزاكم الله خيرا (1) .
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1660) في 4 جمادى الآخرة 1419هـ.(19/57)
ج: هذا العمل لا يجوز، لما فيه من الجهالة والمقامرة والغرر الكثير، فالواجب تركه، والله الموفق.(19/58)
حكم بيع وشراء لعب الأطفال المجسمة
س 42: توجد في الأسواق لعب على صور فتيات أو أطفال أو حيوانات وهي مخصصة للعب الأطفال، فما حكم بيع هذه التماثيل وشرائها وإدخالها المنزل؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا (1) .
ج: الأحوط عدم شرائها، وعدم إدخالها البيت، ولو كانت لعبا، لعموم الأحاديث الدالة على تحريم اتخاذ الصور في البيت، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1661) في 11\6\1419هـ.(19/58)
"اليانصيب" من أعمال القمار المحرمة
س 43: عمليات "اليانصيب" التي تنظمها بعض الهيئات الخيرية لتمويل أوجه نشاطها في المجالات التعليمية والعلاجية والخدمات الاجتماعية هل هي جائزة شرعا؟ (1) .
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج 4 ص 442.(19/58)
ج: عمليات "اليانصيب" عنوان لعب القمار، وهو الميسر، وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2)
ولا يحل لجميع المسلمين اللعب بالقمار مطلقا سواء كان ذلك المال الذي يحصل بالقمار يصرف في جهات بر أو في غير ذلك؛ لكونه خبيثا محرما لعموم الأدلة، ولأن الكسب الحاصل بالقمار من الكسب المحرم الذي يجب تركه والحذر منه، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سورة المائدة الآية 91(19/59)
حكم بيع وشراء العملة
س 44: هل يجوز للمسلم أن يشتري دولارات أو غيرها بثمن رخيص، وبعد ارتفاع سعرها يبيعها؟ (1) .
ج: لا حرج في ذلك، إذا اشترى دولارات أو أي عملة أخرى وحفظها عنده، ثم باعها بعد ذلك، إذا ارتفع سعرها،
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص 364.(19/59)
فلا بأس، لكن يشتريها يدا بيد لا نسيئة، يشتري دولارات بريالات سعودية أو بدنانير سعودية أو بدنانير عراقية يدا بيد، العملة لا بد أن تكون يدا بيد مثل الذهب مع الفضة يدا بيد، والله المستعان.(19/60)
حكم التعامل مع الكفار بيعا وشراء
س 45: الذين يعيشون في بلاد الكفر في أمريكا وبريطانيا وغيرها يتعاملون مع الكفار، ما أدري ما الحكم في ذلك؟ (1) .
ج: النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهون عند يهودي، والمحرم الموالاة، أما البيع والشراء فما فيه شيء، اشترى صلى الله عليه وسلم من وثني أغناما وزعها على أصحابه صلى الله عليه وسسلم، وإنما المحرم موالاتهم ومحبتهم ونصرهم على المسلمين، أما كون المسلم يشتري منهم ويبيع عليهم أو يضع عندهم حاجة فما في ذلك بأس، حتى النبي صلى الله عليه وسلم أكل طعام اليهود وطعامهم حل لنا، كما قال سبحانه: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (2)
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في حج عام 1407هـ.
(2) سورة المائدة الآية 5(19/60)
حكم بيع المجهول
س 46: نعرض على أنظار سماحتكم ما يباع في بعض الأسواق التجارية، وهو عبارة عن صندوق صغير بقيمة (ريال واحد) وبداخله شيء مجهول، قد تربو قيمته عن الريال وقد تنقص، ما حكم شراء هذا الصندوق مع جهلي بما يحويه، وهل هذا البيع صحيح أم لا يجوز؟ والله يحفظكم (1) .
ج: شراء هذا الصندوق لا يجوز؛ لأن شراءه من الغرر، وقد: «نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر (2) » (3) .
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1550) في 3 ربيع الأول 1417هـ.
(2) صحيح مسلم البيوع (1513) ، سنن الترمذي البيوع (1230) ، سنن النسائي البيوع (4518) ، سنن أبو داود البيوع (3376) ، سنن ابن ماجه التجارات (2194) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، سنن الدارمي البيوع (2563) .
(3) رواه مسلم في (البيوع) باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر برقم (1513) .(19/61)
حكم تصرف المشتري
في العقار قبل الإفراغ
س 47: اشتريت قطعة أرض وتم تسليمي سند قبض بالمبلغ من البائع، حتى يتم إصدار صك ملكية الأرض لي فهل يجوز بيعها قبل صدور الصك؟ أم أن ذلك داخل(19/61)
في بيع ما لا أملك، جزاكم الله خيرا؟ (1) .
ج: إذا تم البيع بينكما جاز لك التصرف ولو تأخر إصدار الصك، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1689) في 13\1\1420هـ.(19/62)
حكم أخذ العربون
س 48: بعت سيارتي على أحد الأشخاص وتم الاتفاق على قيمتها، ولكنه أعطاني مبلغ ستمائة ريال على أن تبقى السيارة لدي حتى يدفع باقي الثمن، وبعد حوالي نصف شهر جاءني طالبا فسخ البيع وإعادة الفلوس التي دفعها إلى مسبقا إليه، فرفضت ذلك فهل يحق له المطالبة بها، وماذا يلزمني الآن؟ .
ج: إذا أجبته إلى طلبه ورددت عليه نقوده فهو أفضل، ولك عند الله أجر عظيم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أقال مسلما بيعته أقال الله عثرته (1) » .
__________
(1) رواه أبو داود في (البيوع) باب في فضل الإقالة برقم (3460) وابن ماجه في (التجارات) باب الإقالة برقم (2199) .(19/62)
أما اللزوم فلا يلزمك إذا كان البيع قد استوفى شروطه المعتبرة شرعا، والله ولي التوفيق.(19/63)
س 49: ما حكم أخذ البائع للعربون إذا لم يتم البيع، وصورته أن يتبايع شخصان، فإن تم البيع أكمل له القيمة وإن لم يتم البيع أخذ البائع العربون ولا يرده للمشتري؟ .
ج: لا حرج في أخذ العربون في أصح قولي العلماء إذا اتفق البائع والمشتري على ذلك، ولم يتم البيع.(19/63)
حكم بيع وشراء البضائع وهي في مكانها
س 50: ما حكم بيع المداينات بطريقة بيع وشراء البضائع وهي في مكانها وهذه الطريقة هي المتبعة عند البعض في مدايناتهم في الوقت الحاضر؟ .(19/63)
ج: لا يجوز للمسلم أن يبيع سلعة بنقد أو نسيئة إلا إذا كان مالكا لها وقد قبضها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «لا يحل سلف وبيع، ولا بيع ما ليس عندك (2) » .، رواه الخمسة بإسناد صحيح. وهكذا الذي يشتريها ليس له بيعها حتى يقبضها أيضا؛ للحديثين المذكورين.
ولما رواه الإمام أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (3) » .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكيين) مسند حكيم بن حزام برقم (14887) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1232) وابن ماجه في (التجارات) باب النهي عن بيع ما ليس عندك برقم (2187) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (6633) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1234) والنسائي في (البيوع) باب بيع ما ليس عند البائع برقم (4611) .
(3) رواه أبو داود في (البيوع) باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى برقم (3499) .(19/64)
ولما روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتاعون جزافا - يعني الطعام - يضربون أن يبيعوه في مكانه حتى يؤوه إلى رحالهم (1) » . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) رواه مسلم في (البيوع) باب بطلان بيع المبيع قبل القبض برقم (1526) .(19/65)
حكم بيع الموظف سلعته
على المؤسسة التي يعمل فيها دون علمها
س 51: شخص يعمل في مؤسسة براتب محدد ومعلوم، وبجانب عمله يقوم بشراء بضاعة من التي تتاجر فيها المؤسسة، وذلك من حسابه الخاص ويسلمها للمؤسسة على سبيل الأمانة، أي تحت التصرف، وبعد بيع البضاعة يحصل على قيمتها من المؤسسة، وهذا كله معلوم لدى صاحب المؤسسة.
وفي إحدى المرات جاء له شخص من خارج المؤسسة، وعرض عليه أن يقوما سويا بشراء سلعة بالمشاركة على أن(19/65)
يقوم الشخص الذي يعمل في المؤسسة أيضا بوضعها لدى المؤسسة تحت التصرف، ولكن بعد دراسة الموضوع قررا أن يقوما ببيع السلعة للمؤسسة بيعا قطعيا وليس تحت التصرف، وطبعا هذا سوف يحقق ربحا في هذه العملية، واتفقا على أن يقوم الشخص الذي هو من خارج المؤسسة بعرض السلعة على مدير المؤسسة ولا يكون الموظف ظاهرا، أي لا يظهر عليه أمام مدير المؤسسة بأنه شريك للشخص الذي من خارج المؤسسة في العملية، وبعد أن وافق المدير على الشراء قام الموظف والشخص الذي من خارج المؤسسة بأخذ القيمة من المدير، واشتريا السلعة للمؤسسة، ونتج عن هذا ربحا تقاسمه الموظف والشخص الذي من خارج المؤسسة، مع العلم بأن المدير لا يعلم دور الموظف وأنه مستفيد من هذا.
السؤال: ما حكم عمل هذا الموظف؟
هل هو خيانة؟
وهل كان يجب عليه أن يخبر المدير قبل تمام العملية نظرا لأنه هناك فرق بين السعر المشترى به السلعة والسعر المباع به للمؤسسة، والذي نتج عنه ربحا اشترك الموظف والشخص الذي في خارج المؤسسة في تقاسمه فهل يجب عليه رد المبلغ الذي ربحه؟
مع العلم بأنه(19/66)
يصعب عليه أن يطلب السماح والعفو من المدير (1) .
ج: ظاهر هذا السؤال أن الموظف وصاحبه قد باعا السلعة على مدير المؤسسة قبل أن يشترياها، وهذا لا يجوز؛ لأنهما باعا ما لا يملكان، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا بيع ما ليس عندك (2) » .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لحكيم بن حزام رضي الله عنه: «لا تبع ما ليس عندك (3) » ، أما لو اشترياها وحازاها إلى ملكهما ثم باعها الشريك الذي لا يعمل في المؤسسة على مدير المؤسسة فلا أعلم حرجا في ذلك وإن لم يعلم مدير المؤسسة أن الموظف لديه شريك في السلعة المذكورة؛ لأنه لا يترتب على ذلك ما يمنع صحة البيع. والله ولي التوفيق.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته من (جريدة المسلمون) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (6633) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1234) والنسائي في (البيوع) باب بيع ما ليس عند البائع برقم (4611) .
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند المكيين) مسند حكيم بن حزام برقم (14887) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1232) وابن ماجه في (التجارات) باب النهي عن بيع ما ليس عندك برقم (2187) .(19/67)
حكم ما يسمى (الوعد بالشراء)
س 52: ما حكم ما يسمى الوعد بالشراء، وهل هو داخل في مسمى الربا؟ (1)
ج: الوعد بالشراء ليس شراء، ولكنه وعد بذلك فإذا أراد إنسان شراء حاجة، وطلب من أخيه أن يشتريها ثم يبيعها عليه فلا حرج في ذلك، إذا تم الشراء وحصل القبض ثم باعها بعد ذلك على الراغب في شرائها، لما جاء في الحديث الصحيح عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله يأتيني الرجل يريد السلعة، وليس عندي أفأبيعها عليه، ثم أذهب فأشتريها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبع ما ليس عندك (2) » . فدل ذلك على أنه إذا باعها على أخيه بعدما ملكها، وصارت عنده فإنه لا حرج في ذلك.
وفي هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة إلى سماحته بعد محاضرة بعنوان (واجب المسلمين تجاه دينهم ودنياهم) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكيين) مسند حكيم بن حزام برقم (14887) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1231) وابن ماجه في (التجارات) باب النهي عن بيع ما ليس عندك برقم (2187) .(19/68)
الحديث الصحيح، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «لا يحل سلف ولا بيع، ولا بيع ما ليس عندك (1) » ، وثبت من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (2) » .
وبما ذكرنا من الأحاديث يعلم أن الإنسان إذا وجد سلعة عند زيد أو عمرو: سيارة أو حبوبا أو ملابس أو أواني، أو غير ذلك فإنه لا حرج أن يشتريها ويحوزها في ملكه، إذا كان البائع قد أنهى إجراءات شرائها وحازها في ملكه، لكن لا يبيعها المشتري الثاني حتى ينقلها إلى محل آخر: إلى بيته أو إلى السوق ويخرجها من محل البائع إلى محل آخر، ثم يبيعها بعد ذلك إذا شاء؛ عملا بالأحاديث المذكورة، وبما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: «كنا نضرب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيع الطعام في محله حتى ننقله إلى رحالنا (3) » وفي لفظ: «حتى ننقله من أعلى السوق إلى أسفله، ومن أسفله إلى أعلاه (4) » والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (6633) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1234) والنسائي في (البيوع) باب بيع ما ليس عند البائع برقم (4611) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(3) سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، مسند أحمد بن حنبل (2/157) ، موطأ مالك البيوع (1337) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2166) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) .(19/69)
53 - من صور المسابقات التجارية المحرمة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم محمد.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى كتابكم المؤرخ في 2\12\1407هـ الذي نصه: نرفق لكم صورة إعلان نرجو التكرم بإعلامنا بالوجه الشرعي بخصوص هذا الإعلان. ونص الإعلان:
(مجمع العويس التجاري)
... عدد الجوائز ... قيمة الجائزة ... الإجمالي
الجائزة الأولى ... 12 ... 13000 ... 156000
الجائزة الثانية ... 24 ... 7000 ... 168000
الجائزة الثالثة ... 53 ... 3500 ... 185500
89 جائزة ... 509500 ريال قيمة الجوائز المقدمة
طريقة الاشتراك: كل مشتر من معارض الغزالي في مجمع العويس التجاري(19/70)
يمنح بطاقتين تخوله الاشتراك بهذا السحب الكبير والفريد من نوعه ويحق لكل مشتر من أي من معارض الغزالي في المملكة الحصول على بطاقة واحدة تخوله الاشتراك بنفس السحب وللجوائز ذاتها إنها فرصة فريدة من نوعها. العرض سار لمدة ثلاثة أشهر وبعدها يتم السحب أمام معارض الغزالي في أسواق العويس وسنعلن أسماء الفائزين بالصحف) انتهى (1) .
ج: أقول وبالله التوفيق أفيدكم أن هذه المعاملة من صور القمار المحرم وهو الميسر المذكور في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (3) وفق الله الجميع لما فيه رضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) فتوى صدرت من مكتب سماحته ردا على رسالة الأخ محمد في 2\12\1407هـ.
(2) سورة المائدة الآية 90
(3) سورة المائدة الآية 91(19/71)
حكم بيع الساعات
الذهب والخواتم والأقلام للرجال
س 54: هل يجوز بيع الساعات التي بها ذهب للرجال وكذلك ما حكم بيع الخواتم والأقلام التي بها ذهب؟ ومن باع منها شيئا فما حكم المال الذي ربحه؟ (1) .
ج: يجوز بيع الساعات والخواتم من الذهب والفضة للرجال والنساء جميعا ولكن ليس للرجل أن يلبس الذهب ولا خاتم الذهب ولا المموه بذلك، وهكذا ساعة الفضة، وإنما ذلك للنساء، أما خاتم الفضة فهو جائز للرجال والنساء، وأما الأقلام من الذهب والفضة فلا يجوز استعمالها للرجال والنساء جميعا؛ لأنها ليست من الحلية وإنما هي أشبه بأواني الذهب والفضة، والأواني من الذهب والفضة محرمة على الجميع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا (يعني الكفرة) ولكم في الآخرة (2) » .، متفق على صحته.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص 362.
(2) رواه البخاري في (الأطعمة) باب الأكل في إناء مفضض برقم (5426) ومسلم في (اللباس والزينة) باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال برقم (2067) .(19/72)
وقوله عليه الصلاة والسلام: «الذي يشرب في إناء الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم (1) » .، أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
ويلتحق بالأواني الملاعق وأكواب الشاي والقهوة ونحو ذلك.
نسأل الله لجميع المسلمين التوفيق لما فيه رضاه، والسلامة من أسباب غضبه، والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه البخاري في (الأشربة) باب آنية الفضة برقم (5634) ومسلم في (اللباس والزينة) باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب برقم (2065) .(19/73)
حكم المتاجرة بالذهب
س 55: إنني أقوم ببيع وشراء الجنيهات السعودية الذهب والسبائك الذهبية، فعند انخفاض سعر الذهب في السوق أذهب وأشتري جنيه الذهب مثلا بـ (300) ريال وعندما يرتفع سعره أبيعه بـ (480) ريالا. فهل في هذه العملية محذور شرعي، علما بأنني أشتري الجنيهات وأسلم المال لصاحب المصرف وآخذ الجنيهات وعكس(19/73)
ذلك في البيع؟ (1)
ج: لا حرج في المعاملة المذكورة إذا كان ذلك يدا بيد كما ذكرت في السؤال؛ لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (2) » ، خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص351.
(2) رواه مسلم في (المساقاة) باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا برقم (1587) .(19/74)
حكم التجارة بأشرطة الفيديو
س 56: ما حكم تجارة أشرطة الفيديو، التي أقل ما فيها أن تظهر فيها النساء سافرات، وتمثل فيها قصص الغرام والهيام؟ وهل مال التاجر حرام؟ وماذا يجب عليه؟ وكيف يتخلص من هذه الأشرطة والأجهزة؟ جزاكم الله خيرا (1) .
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج4 ص 374.(19/74)
ج: هذه الأشرطة يحرم بيعها واقتناؤها وسماع ما فيها والنظر إليها؛ لكونها تدعو إلى الفتنة والفساد، والواجب إتلافها والإنكار على من تعاطاها حسما لمادة الفساد وصيانة المسلمين من أسباب الفتنة، والله ولي التوفيق.(19/75)
حكم إصدار المجلات
المنحرفة والعمل فيها وشرائها
س 57: ما حكم إصدار مجلات تظهر فيها النساء سافرات وبطريقة مغرية، وتهتم بأخبار الممثلين والممثلات؟ وما حكم من يعمل في هذه المجلة ومن يساعد على توزيعها، ومن يشتريها؟ .
ج: لا يجوز إصدار المجلات التي تشتمل على نشر الصور النسائية أو الدعاية إلى الزنا والفواحش أو اللواط أو شرب المسكرات أو نحو ذلك مما يدعو إلى الباطل ويعين عليه، ولا يجوز العمل في مثل هذه المجلات لا بالكتابة ولا(19/75)
بالترويج؛ لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، ونشر الفساد في الأرض، والدعوة إلى إفساد المجتمع، ونشر الرذائل، وقد قال الله عز وجل في كتابه المبين: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (2) » ، أخرجه مسلم في صحيحه.
وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: «صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس. ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا (3) » ، أخرجه مسلم في صحيحه أيضا.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) رواه مسلم في (العلم) باب من سن سنة حسنة أو سيئة برقم (2674) .
(3) رواه مسلم في (اللباس والزينة) باب النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات برقم (2128) .(19/76)
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة نسأل الله أن يوفق المسلمين لما فيه صلاحهم ونجاتهم، وأن يهدي القائمين على وسائل الإعلام وعلى شئون الصحافة لكل ما فيه سلامة المجتمع، وأن يعيذهم من شرور أنفسهم ومن مكائد الشيطان إنه جواد كريم.(19/77)
حكم فتح محل للتصوير
س 58: أنا هندي الجنسية مسلم الديانة ولله الحمد وأعمل هنا بالمملكة وأنوي بعد عودتي لبلادي فتح محل تصوير فوتوغرافي وتصوير مستندات لأكسب منه وأعيش أنا وأسرتي فهل هذا العمل حلال أم حرام؟ (1) .
ج: تصوير ذوات الأرواح لا يجوز؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون (2) » .، متفق على صحته، ولأنه صلى الله عليه وسلم: «لعن آكل
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص 372.
(2) رواه البخاري في (اللباس) باب عذاب المصورين يوم القيامة برقم (5950) ومسلم في (اللباس والزينة) باب تحريم تصوير صورة الحيوان برقم (2109) .(19/77)
الربا وموكله ولعن المصور (1) » ، رواه البخاري في صحيحه.
فنوصيك بعدم فتح محل للتصوير وعليك أن تلتمس كسبا حلالا والله سبحانه يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (3) ويقول عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (4) وفقك الله لكل خير.
__________
(1) رواه البخاري في (البيوع) باب موكل الربا برقم (2086) .
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 3
(4) سورة الطلاق الآية 4(19/78)
حكم بيع الصحف والمجلات الساقطة
س 59: لدينا مكتبة لبيع الأدوات المدرسية والقرطاسية كما تقوم المكتبة ببيع بعض الصحف والمجلات وبعض هذه المجلات والصحف تضع على غلافها أو بعض صفحاتها صورة فتيات ملونة قصد بها لفت نظر المشترين وقد تعرضنا لانتقادات من بعض الناس ويقولون: إن بيعها حرام؟ فنرجو من شيخنا الجليل حفظه الله أن يفتينا في هذا الأمر؟ جزاكم الله خيرا (1) .
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص 371.(19/78)
ج: لا يجوز لكم ولا لغيركم بيع الصحف والمجلات المشتملة على الصور النسائية أو المقالات المخالفة للشرع المطهر؛ لقول الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(19/79)
حكم شراء أو بيع
أو الترويج للمطبوعات التي تسخر
من الإسلام وتقع في الدعاة وتنشر الفساد
س 60: كثير من الصحف والمجلات تسخر من الإسلام وتقع في الدعاة وتشيد بالكفار والفجار وأهل الفن، وتنشر صور النساء السافرات، فما حكم شراء هذه المطبوعات أو بيعها أو الترويج لها؟ (1)
ج: الصحف التي بهذه المثابة: من نشر الصور الخليعة، أو سب الدعاة، أو التثبيط عن الدعوة، أو نشر المقالات الإلحادية أو ما شبه ذلك - الصحف التي هذا شأنها يجب أن تقاطع، وأن لا تشترى، ويجب على الدولة إذا كانت
__________
(1) نشر في هذا المجموع ج8 ص176.(19/79)
إسلامية أن تمنعها؛ لأن هذه تضر المجتمع وتضر المسلمين، فالواجب على المسلم أن لا يشتريها، وأن لا يروجها، وأن يدعو إلى تركها، ويرغب في عدم اقتنائها وعدم شرائها، وعلى المسئولين الذين يستطيعون منها أن يمنعوها، أو يوجهوها إلى الخير، حتى تدع الشر وتستقيم على الخير.(19/80)
حكم بيع الأشرطة والأفلام الخليعة
س 61: رجل تاب إلى الله عز وجل وعنده فيديو وأشرطة وأفلام خليعة فهل يجوز له بيعها؟ وإذا كان لا يجوز بيعها فماذا يعمل بها؟ وهل يجوز أن يسجل فيها الخطب والبرامج والمشاهدة المفيدة؟ (1)
ج: نعم له أن يسجل فيها ما ينفعه ويمسح ما فيها من الباطل فيسجل فيها الطيب ويمحو الخبيث، أما بيعها فلا يجوز وهي على حالتها الرديئة؛ لأن ذلك يعتبر من التعاون على الإثم والعدوان.
__________
(1) نشر في المجموع ج6 ص379.(19/80)
حكم بيع آلات التصوير
س 62: رجل عنده استديو وكان فيه آلات التصوير، وعلم أن التصوير حرام فكيف يتصرف فيها، بحيث يمكنه السلامة من الخسارة؟ وإذا باعها على مسلم أليس يكون ذلك مساعدة على نشر المعصية؟ وما حكم ما يأتيه من كسب ذلك من المال هل يجوز صرفه عليه وعلى أهله؟ (1) .
ج: هذا فيه تفصيل: فإن الاستديو يصور الجائز والممنوع، فإذا صور فيه ما هو جائز من السيارات والطائرات والجبال وغيرها مما ليس فيه روح فلا بأس أن يبيع ذلك ويصور هذه الأشياء التي قد يحتاج إليها الناس وليس فيها روح، أما تصوير ذوات الأرواح من بني الإنسان أو الدواب والطيور فلا يجوز إلا للضرورة كما لو صور شيئا مما يضطر إليه الناس كالتابعية التي يحتاجها الناس وتسمى حفيظة النفوس فلا بأس، وهكذا جواز السفر والشهادة العلمية التي لا تحصل إلا بالصورة، وهكذا تصوير المجرمين ليعرفوا ويتحرز من
__________
(1) نشر في هذا المجموع ج6 ص379.(19/81)
شرهم، وهكذا أشباه ذلك مما تدعو إليه الضرورة؛ لقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1)
والمقصود أنه لا يستعمل فيه إلا الشيء الجائز وإذا باعه على الناس فلا بأس ببيعه؛ لأنه يستخدم في الطيب والخبيث. مثل بيع الإنسان السيف والسكين وأشباههما مما يستعمل في الخير والشر، والإثم على من استعملها في الشر لكن من علم أن المشتري للسكين أو السيف أو نحوهما يستعملها في الشر حرم بيعها عليه.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119(19/82)
حكم شرب الدخان وبيعه والاتجار به
س 63: ما حكم شرب الدخان؟ وهل هو حرام أم مكروه؟ وما حكم بيعه والاتجار فيه؟ (1)
ج: الدخان محرم؛ لكونه خبيثا ومشتملا على أضرار كثيرة، والله سبحانه وتعالى إنما أباح لعباده الطيبات من المطاعم والمشارب وغيرها، وحرم عليهم الخبائث، قال الله
__________
(1) نشر في هذا المجموع ج6 ص 362.(19/82)
سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (1) وقال سبحانه في وصف نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في سورة الأعراف: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (2) والدخان بأنواعه كلها ليس من الطيبات بل هو من الخبائث وهكذا جميع المسكرات كلها من الخبائث، والدخان لا يجوز شربه ولا بيعه ولا التجارة فيه؛ لما في ذلك من المضار العظيمة والعواقب الوخيمة.
والواجب على من كان يشرب أو يتجر فيه البدار بالتوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، والندم على ما مضى، والعزم على ألا يعود في ذلك، ومن تاب صادقا تاب الله عليه كما قال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) وقال سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «التوبة تجب ما كان قبلها (5) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «التائب
__________
(1) سورة المائدة الآية 4
(2) سورة الأعراف الآية 157
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة طه الآية 82
(5) ذكره ابن كثير في (تفسير سورة التحريم) تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) ج4 ص392، ط. دار المعرفة، بيروت 1403هـ.(19/83)
من الذنب كمن لا ذنب له (1) » .
ونسأل الله أن يصلح حال المسلمين، وأن يعيذهم من كل ما يخالف شرعه إنه سميع مجيب.
__________
(1) رواه ابن ماجه في (الزهد) باب ذكر التوبة برقم (4250) .(19/84)
س 64 -
التحذير من القمار وشرب المسكر وبيوع الغرر
(1) .
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أما بعد:
فإن الله سبحانه أحل لعباده الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمعاملات؛ لحاجة العباد إليها وعظيم نفعها وسلامتها من الضرر، وحرم عليهم عز وجل جميع الخبائث من المطاعم والمشارب والملابس والمعاملات؛ لعظم ضررها وعدم نفعها أو قلته في جنب المضرة الغالبة؛ قال تعالى في سورة المائدة: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (2) وقال تعالى في السورة المذكورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (4) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (5)
__________
(1) كلمة صدرت من مكتب سماحته بتاريخ 8\1\1408هـ.
(2) سورة المائدة الآية 4
(3) سورة المائدة الآية 90
(4) سورة المائدة الآية 91
(5) سورة المائدة الآية 92(19/85)
وقال تعالى في سورة الأعراف في وصف نبينا وسيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1)
أوضح الله سبحانه في هذه الآيات أنه أحل لعباده الطيبات وحرم عليهم الخبائث، وبين سبحانه أن من جملة الخبائث الخمر؛ لعظم مضرتها، وسلبها العقول، وجلبها الشحناء والعداوة بين المتعاطين لها وغيرهم، وصدها عن ذكر الله وعن الصلاة. فهي أم الخبائث ووسيلة الرذائل، وهي من أقبح الكبائر وأعظم الجرائم، وقد أوعد الله من مات عليها أن يسقيه من طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار- نستجير بالله من ذلك - ومن جملة الخبائث الكسبية الميسر وهو القمار وما ذاك إلا لما يترتب عليه من الأضرار العظيمة التي منها: سلب الثروات، وأكل المال بغير حق، وجلب الشحناء والعداوة والصد عن ذكر الله وعن الصلاة. وكثير من الناس اليوم
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157(19/86)
يتعاطى الميسر ولا يبالي بما قاله الله ورسوله في تحريمه والنهي عنه، ولا بما يترتب عليه من المفاسد والأضرار وذلك لما جبلت عليه القلوب من الجشع والطمع والحرص على استحصال المال بكل وسيلة، ولو كان في ذلك غضب الله وعقابه، بل ولو كان في ذلك ذهاب ماله وتلف نفسه في العاقبة إلا من شاء الله من العباد وما ذاك إلا لسكر القلوب بحب المال والحرص عليه ونسيان ما يترتب على وسائله المحرمة كالقمار وبيع الغرر من العواقب الوخيمة في الدنيا والآخرة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرر. ومن المعاملة الداخلة في القمار وفي بيع الغرر ما حدث في هذا العصر من وضع بعض الشركات والتجار جوائز خفية في بعض السلع التي يراد بيعها طمعا في استنزاف ثروات المسلمين وترغيبا لهم في شراء السلع المشتملة على الجوائز بأغلى من ثمنها المعتاد والاستكثار من تلك السلع، رجاء الظفر بتلك الجوائز. ولا ريب أن هذه المعاملات من الميسر، ومن بيع الغرر؛ لأن المشتري يبذل ماله الكثير رجاء مال مجهول لا يدري هل يظفر به أم لا، وهذا من الميسر وبيع الغرر الذي حذر الله ورسوله منه، وهكذا بيع البطاقات ذوات الأرقام ليفوز مشتريها ببعض الجوائز إذا حصل على الرقم المطلوب. ولا شك أن هذا العمل من الميسر الذي حرمه الله لما فيه من(19/87)
المخاطرة وأكل الأموال بالباطل.
فاتقوا الله أيها المسلمون واحذروا هذه المعاملات المحرمة، وحذروا منها إخوانكم واحرصوا على حفظ أموالكم وعدم صرفها إلا فيما تتحققون منفعته وسلامته مما يخالف شرع الله، وإياكم أن تساعدوا أعداءكم وأرباب الجشع من التجار والشركات بما يسلب أموالكم ويغضب الله عليكم، ويجب على الحكومة وفقها الله لكل خير أن تمنع هذه المعاملات وأن تمنع ورود هذه السلع المشتملة على الجوائز التي توقع الناس في القمار وتسلب الأموال وتضر المجتمع، نسأل الله أن يوفق الحكومة والمسلمين لما فيه صلاح البلاد والعباد وأن يهدينا وتجارنا، وشركاتنا وسائر المسلمين لما يرضي الله ويقرب لديه وينفع المسلمين إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد(19/88)
حكم بيع الدكان جزافا
س 65: يوجد في الأسواق أشخاص يتقدم أحدهم إلى أحد الدكاكين ثم يشتري الدكان من صاحبه جزافا، والدكان يوجد فيه من الأقمشة الرجالية والنسائية والغتر من جميع الأنواع فهل هذا البيع والشراء صحيح أم فيه نوع من الجهالة؟ نرجو التكرم بالجواب الشافي.
وكذلك - متع الله بحياتكم على طاعته - يأتينا مندوبون من بعض المحلات ويتفقون معنا على مشترى سلعة ثم عندما يتم الاتفاق يطلبون أن نسلمهم ورقة رسمية مثل هذه الورقة التي فيها خطنا هذا بدون أن نكتب نحن فيها شيئا وإذا رفضنا تسليم الورقة ينكل عن مشترى السلعة، فهل يجوز لنا أن نسلمه ورقة بيضاء وهو يتصرف فيها ويكتب ما يريد ولا تفوتنا البيعة؟ أفتونا وفقكم الله للأعمال الصالحة (1) . اهـ.
الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: البيع المذكور صحيح إذا كان المشتري قد عرف المال الذي في الدكان وقلبه وكان على بصيرة منه، أما إذا كان حين الشراء لا يعرف حقيقة المال وإنما اشتراه جزافا فالبيع غير صحيح؛ لما فيه من الغرر
__________
(1) نشر في (مجلة الجامعة الإسلامية) بالمدينة المنورة.(19/89)
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن بيع الغرر (1) » ، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن بيع الملامسة والمنابذة وبيع الحصاة (2) » لما في ذلك من الغرر.
والملامسة: هي أن يقول البائع للمشتري: أي ثوب لمسته أو لمسه فلان فهو عليك بكذا، والمنابذة أن يقول للمشتري: أي ثوب نبذته إليك، أو نبذه إليك فلان فهو عليك بكذا.
وبيع الحصاة هو: أن يقول البائع: أي بقعة أو أي ثوب وقعت عليها أو عليه الحصاة فهو عليك بكذا، وما أشبه هذا التصرف فهو في حكمه بجامع الغرر؛ لكون المشتري لم يدخل في المعاملة على بصيرة بحقيقة المبيع. والله سبحانه أرحم بعباده من أنفسهم؛ ولهذا نهاهم عز وجل عما يضرهم في المعاملات وغيرها.
__________
(1) رواه مسلم في (البيوع) باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر برقم (1513) .
(2) رواه البخاري في (البيوع) باب بيع المنابذة برقم (2146) ومسلم في (البيوع) باب إبطال بيع الملامسة والمنابذة برقم (1511) .(19/90)
66: أما السؤال الثاني وهو: هل يجوز إعطاء من يريد شراء سلعة ورقة بيضاء ليكتب فيها ما يريد من صفة العقد.. إلى آخره؟
فجوابه: أن يقال مثل هذا لا يجوز؛ لأن الظاهر(19/90)
من حال هؤلاء الذين يتقدمون بطلب بعض الأوراق الرسمية ليكتبوا فيها ما شاءوا من الثمن الخيانة والغش لمن وكلهم، وبذلك يكون إعطاؤهم الأوراق الرسمية معاونة لهم على الإثم والعدوان، والله سبحانه يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، ويوفقهم لأداء الأمانة والحذر من الخيانة إنه خير مسئول.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(19/91)
حكم بيع المسروق وشرائه
س 67: عندما يسرق إنسان شيئا ما ويبيعه لآخر يعلم أنه مسروق فهل هناك إثم على المشتري؟ (1)
ج: من علم أن المبيع مسروق حرم عليه شراؤه ووجب عليه الإنكار على من فعل ذلك، وأن ينصحه برده إلى صاحبه وأن يستعين على ذلك بأولي الأمر إن لم تنفع النصيحة.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص 372.(19/91)
س 68: عرض علي سلعة اتضح لي أنها مسروقة غير أن الذي عرضها علي لم يكن هو السارق وإنما اشتراها(19/91)
من شخص آخر اشتراها من السارق، إذا اشتريتها مع علمي بذلك فهل أكون آثما مع إني لا أعلم صاحبها الذي سرقت منه؟ (1)
ج: الذي يظهر من الأدلة الشرعية أنه لا يجوز لك شراؤها إذا اتضح لك أو غلب على ظنك أنها مسروقة؛ لقول الله سبحانه: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) ولأنك تعلم أو يغلب على ظنك أن البائع ليس مالكا لها شرعا ولا مأذونا له شرعا في بيعها فكيف تعينه على ظلمه فتأخذ مال غيرك بغير حق، نعم إذا أمكن شراؤها للاستنقاذ وردها إلى مالكها فلا بأس، إذا لم يتيسر أخذها بالقوة وعقوبة الظالم، أما إذا أمكن أخذها بالقوة وعقوبة الظالم بعقوبته الشرعية فهذا هو الواجب للأدلة المعلومة من الحديث: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما (3) » . . . . الحديث.
__________
(1) سؤال أجاب عنه سماحته عندما كان رئيسا للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) رواه البخاري في (الإكراه) باب يمين الرجل لصاحبه برقم (6952) والترمذي في (الفتن) باب ما جاء في النهي عن سب الرياح برقم (2255) .(19/92)
مسألة التورق
حكم قبض المبيع وإخراجه من محل البائع ثم بيعه على البائع الأول
س 69: أنا رجل أتعامل مع الناس بالمداينة، فإذا جاءني شخص يطلب مني - ديانة - بما يساوي خمسين ألف ريال مثلا من القهوة أو الهيل أو الرز وهي ليست عندي، حينئذ أذهب وإياه للتاجر الذي عنده هيل أو قهوة أو رز حسب رغبة طالب الديانة فأشتري منه الرز أو القهوة أو الهيل سعر الكيس بمائة ريال نقدا أو أكثر أو أقل ثم أعدها ثم أخرجها من دكانه في الشارع عند دكانه وأسلم للتاجر الدراهم، ثم أبيعها على طالب الديانة مؤجلا لمدة سنة سعر الكيس بمائة وخمسين أو بمائة وثلاثين أو أربعين حسب الاتفاق بيني وبينه، وبعدها أكتب العقد بيني وبينه ثم بعد ذلك يقوم الذي اشتراها مني ودينتها عليه ببيعها على التاجر نفسه الذي اشتريتها(19/93)
منه أنا يا الدائن، فهل هذه المعاملة حلال أم لا، أفتوني؛ لأني أتعامل بها وعندما قال لي صاحب خير: هذه المعاملة لا تجوز، توقفت عنها، وفقكم الله؟ (1)
ج: هذه المعاملة لا حرج فيها؛ لكونك قبضت المبيع وأخرجته من محل البائع، ولا حرج على المشتري أن يبيع على الأول الذي باعه عليك بعد قبضه إياها ونقله من محله إلى محل آخر من السوق أو البيت إذا لم يكن هناك تواطؤ بينك وبين البائع الأول؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبع ما ليس عندك (2) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا بيع ما ليس عندك (3) » ، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى أن تباع
__________
(1) سؤال شخصي مقدم لسماحته من الأخ ع. أ. أ. من الأفلاج بالمملكة العربية السعودية.
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكيين) مسند حكيم بن حزام برقم (14887) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1232) وابن ماجه في (التجارات) باب النهي عن بيع ما ليس عندك برقم (2187) .
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (6633) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1234) والنسائي في (البيوع) باب بيع ما ليس عند البائع برقم (4611) .(19/94)
السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (1) » .
__________
(1) رواه أبو داود في (البيوع) باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى برقم (3499) .(19/95)
حكم الزيادة في ثمن السلعة مقابل الأجل
س 70: رجل استدان مع رجل آخر مبلغ عشرة آلاف ريال على أن يردها بعد مضي سنة من العقد بزيادة ألفي ريال، والعملية كالآتي: اشترى صاحب الدين سلعة بمبلغ عشرة آلاف ريال وباعها على المدين باثني عشر ألف على أن يسددها كاملة بعد سنة من العقد، والشخص الثاني باعها على صاحب المحل بتسعة آلاف وثمانمائة ريال. علما بأن الدائن استحوذ على البضاعة أولا ثم اتفق مع المدين على سداد المبلغ السابق. هل تصح طريقة الدائن مع المدين؟ وهل تصح طريقة المدين مع صاحب المحل؟ هل هذه المسألة تسمى التورق؟ أم هي حيلة من حيل الربا؟ أعاذنا الله وإياكم من شره. أفتونا جزاكم الله خير الجزاء (1) .
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص 339.(19/95)
ج: هذه المسألة تسمى عند أهل العلم مسألة التورق وهي أن يبيع الرجل غيره سلعة قد ملكها وحازها بثمن معلوم، إلى أجل معلوم ثم يقبضها المشتري ويتصرف فيها بعد قبضه لها.
والغالب أن ذلك من أجل حاجته للنقود، وهذا البيع على هذا الوجه جائز شرعا في أصح قولي العلماء، داخل في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) وفي قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) الآية.
وليس للدائن أن يبيع على الراغب في الشراء سلعة عند التجار لم يشترها ولم يقبضها، بل ذلك باطل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع ولا بيع ما ليس عندك (3) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: «لا
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 282
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (6633) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1234) والنسائي في (البيوع) باب بيع ما ليس عند البائع برقم (4611) .(19/96)
تبع ما ليس عندك (1) » ، وإنما يجوز البيع في هذه المسألة - أعني: مسألة التورق- بشرط أن يكون المال موجودا لدى البائع وفي حوزته؛ ثم لا يجوز للمشتري أن يبيعه وهو عند الدائن حتى يحوزه إلى ملكه أو إلى السوق، وليس له أن يبيعه على الدائن بأقل مما اشتراه منه؛ لأن ذلك يتخذ حيلة للربا، وبيعه على الدائن بأقل مما اشتراه به منه غير صحيح، ويسمى هذا البيع بيع العينة وهو من بيوع الربا، والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكيين) مسند حكيم بن حزام برقم (14887) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1232) وابن ماجه في (التجارات) باب النهي عن بيع ما ليس عندك برقم (2187) .(19/97)
س 71: إذا كان عند رجل بضاعة وطلب منه بعض الناس شراءها بأكثر من سعرها الحاضر إلى أجل معلوم فما الحكم الشرعي في ذلك؟ (1) .
ج: يجوز عند أكثر العلماء؛ لقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) الآية، ولم يشترط سبحانه أن تكون المداينة بسعر الوقت الحاضر،
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى البيوع في الإسلام) من نشر جمعية إحياء التراث الإسلامي بالكويت ص 38.
(2) سورة البقرة الآية 282(19/97)
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وأهلها يسلمون في الثمار السنة والسنتين: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (1) » ، متفق على صحته. ولم يشترط عليه الصلاة والسلام أن يكون ذلك بسعر الوقت الحاضر، وخرج الحاكم والبيهقي بإسناد جيد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل فأمره أن يشتري البعير بالبعيرين إلى إبل الصداقة (2) » ، والأدلة في هذا المعنى كثيرة؛ ولأن أمر التجارة في المداينة لا يستقيم إلا على ذلك؛ لأن التاجر لا يمكنه غالبا أن يبيع السلع إلى أجل بسعر الوقت الحاضر؛ لأن ذلك يكلفه خسائر كثيرة، ولأن البائع ينتفع بالربح والمشتري ينتفع بالإمهال والتيسير، إذ ليس كل أحد يستطيع أن يشتري حاجته بالثمن الحال، فلو منعت الزيادة في المداينة لنتج عن ذلك ضرر المجتمع، والشريعة الكاملة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها،
__________
(1) رواه البخاري في (السلم) باب السلم في وزن معلوم برقم (2241) ومسلم في (المساقاة) باب السلم برقم (1604) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (6557) وأبو داود في (البيوع) باب في الرخصة في ذلك برقم (3357) .(19/98)
ولا أعلم في هذه المسألة خلافا يعول عليه بل المعروف في كلام العلماء هو الجواز والإباحة. وهذا فيما إذا كان الشراء لحاجة الاستعمال والانتفاع، أما إذا كان المشتري اشترى السلعة إلى أجل ليبيعها بنقد بسبب حاجته إلى النقد في قضاء الدين أو لتعمير مسكن أو للتزويج ونحو ذلك، فهذه المعاملة إذا كانت من المشتري بهذا القصد ففي جوازها خلاف بين العلماء، وتسمى عند الفقهاء مسألة (التورق) ويسميها بعض العامة (الوعدة) والأرجح فيها الجواز وهو الذي نفتي به؛ لعموم الأدلة السابقة، ولأن الأصل في المعاملات الجواز والإباحة إلا ما خصه الدليل بالمنع، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك كثيرا؛ لأن المحتاج في الأغلب لا يجد من يساعده في قضاء حاجته بالتبرع ولا بالقرض فحينئذ تشتد حاجته إلى هذه المعاملة حتى يتخلص مما قد شق عليه في قضاء دين ونحوه.
ولكن إذا أمكن المسلم الاستغناء عنها والاقتصاد في كل ما يحتاج إليه إلى أن يأتي الله بالفرج ومن عنده فهو أحسن وأحوط.
ومما ينبغي التنبيه إليه أنه ليس للبائع أن يبيع السلع التي ليست في حوزته بل لا تزال في حوزة التجار حتى ينقلها إلى بيته، أو إلى السوق ونحو ذلك؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كنا نشتري الطعام جزافا(19/99)
على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيبعث إلينا النبي صلى الله عليه وسلم من يأمرنا ألا نبيعه حتى ننقله إلى رحالنا (1) » ، أخرجه البخاري.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (2) » ، أخرجه أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم «وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله يأتيني الرجل يريد السلعة ليست عندي أفأبيعها عليه ثم أذهب فأشتريها فقال صلى الله عليه وسلم: لا تبع ما ليس عندك (3) » ، أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه بإسناد صحيح.
__________
(1) رواه البخاري في (البيوع) باب من رأى إذا اشترى طعاما جزافا أن لا يبيعه برقم (2137) ومسلم في (البيوع) باب بطلان بيع المبيع قبل القبض برقم (1526) .
(2) رواه أبو داود في (البيوع) باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى برقم (3499) .
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند المكيين) مسند حكيم بن حزام برقم (14887) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1232) وابن ماجه في (التجارات) باب النهي عن بيع ما ليس عندك برقم (2187) .(19/100)
س 72: لي زبون يشتري مني بالدين إلى أجل فإذا زدت عليه أكثر من ثمن المشترى بالحاضر، فهل يكون هذا من الربا أم لا؟ (1)
ج: ليس هذا من الربا؛ لأن بيع التأجيل غير بيع الحاضر، وقد أجمع العلماء فيما نعلم على أنه يجوز بيع السلعة إلى أجل معلوم بأكثر من ثمنها الحالي إذا كان المشتري يشتريها لحاجته إلى ذاتها لا ليبيعها بالنقد من بائعها عليه، أو شخص آخر، وأمثلة ذلك كثيرة منها: أن يشتري السيارة أو الدابة ليستعملها، أو الطعام ليأكله، أو الثياب ليلبسها، أو ما أشبه ذلك، ومن أدلة ذلك قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) الآية، ولم يشترط سعرا معلوما. ومن أدلة ذلك بيع السلم، وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة والناس يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال صلى الله عليه وسلم: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (3) » ، ولم
__________
(1) استفتاء أجاب عنه سماحته عندما كان نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(2) سورة البقرة الآية 282
(3) رواه البخاري في (السلم) باب السلم في وزن معلوم برقم (2241) ومسلم في (المساقاة) باب السلم برقم (1604) .(19/101)
يقل بسعر الحاضر، ومعلوم أن المسلم يسلم ماله أهل الحرث رجاء الربح في المستقبل، فالمسلم ينتفع في المستقبل والمسلم إليه ينتفع بالنقود في الحال، ولو اشترط في السلم أن يكون ذلك بالسعر الحالي لم يقدم أحد إلى ذلك غالبا، فتتعطل مصلحة الجميع، ومن ذلك حديث عبد الله بن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يشتري البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة (1) » ، ولأن الربا إنما جاءت به الشريعة في أحوال مخصوصة ومعاملات مخصوصة فلا يجوز أن يلحق بها غيرها إلا بنص خاص، وليس من معاملة الربا ولا من أحوال الربا أن نبيع السلعة من السيارات والدواب أو الملابس أو الأواني أو الطعام بنقد معلوم إلى أجل بأكثر من السعر الحالي فيما نعلمه من الشرع المطهر، ولا فيما قرره أهل العلم، وإنما اشتبه الأمر في هذا على بعض الناس من المتأخرين فظن أن هذه المعاملة من ربا النسيئة وليس الأمر كذلك وإنما ربا النسيئة: بيع الربوي بالربوي إلى أجل، أو من غير قبض، وإن لم يكن هناك ربح، كبيع النقود بالنقود من غير
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (6557) وأبو داود في (البيوع) باب في الرخصة في ذلك برقم (3357) .(19/102)
قبض، وكبيع الطعام بالطعام من غير قبض، وما أشبه ذلك من أحوال الربا، وأما بيع السلعة إلى أجل ثم شرؤاها بأقل من ذلك نقدا فهذه مسألة (العينة) والصحيح الذي عليه الجمهور تحريمها، وذلك مثل أن تبيع سلعة بمائة إلى أجل معلوم ثم تشتريها من مشتريها منك بثمانين نقدا؛ لأن هذا في الحقيقة بيع ثمانين حاضرة بمائة إلى أجل، والسلعة حيلة بينهما وهذا عين الربا، فأما إذا كان المشتري إنما اشترى السلعة منك ليبيعها على غيرك بالنقد لحاجته إليه فهذه تسمى مسألة (التورق) وقد ذهب الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله وجماعة إلى تحريمها ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وذهب آخرون وهم الأكثر فيما أعلم إلى حلها؛ لأنها داخلة في المداينة التي أباحها الله، ولأنها ليست وسيلة إلى الربا؛ لأن المشتري لا يبع السلعة على الذي اشتراها منه، وإنما يبيعها على غيره وليس هناك تواطؤ بين الثلاثة على هذه المعاملة، فأما إن كان هناك تواطؤ فإنها تحرم كمسألة (العينة) ولأن الفقير قد تدعوه الحاجة إلى هذه المعاملة بل قد يضطر إليها لفقره وعدم من يقرضه، أو يتصدق عليه، وهذا القول أرجح إن شاء الله عند الحاجة إليها، أما عند الاستغناء عنها فالأولى تركها خروجا من خلاف العلماء واحتياطا للدين وابتعادا عن إشغال الذمة بما قد يشق تخليصها منه، وهذه مسائل مهمة(19/103)
أحببت بسطها لك لمسيس الحاجة إلى ذلك، وكثرة خوض الناس فيها بعلم وبغير علم، وأسأل الله لي ولكم ولسائر المسلمين التوفيق لما يرضيه والفقه في دينه إنه خير مسئول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.(19/104)
س 73: أنا صاحب بقالة أبيع لأجل " يعني إلى نهاية الشهر" فأزيد على ثمن السلعة قدرا بسيطا نظير البيع لأجل. فما حكم ذلك؟ (1)
ج: لا حرج في الزيادة المناسبة على الثمن في بيع الأجل عن الثمن الحاضر؛ لعموم قول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) الآية، ولما ورد من الأحاديث الصحيحة المطلقة في ذلك، ولأن المعنى يقتضي ذلك، لأن البيع الحاضر ليس كالبيع المؤجل، فأجاز الله سبحانه الزيادة المناسبة في البيع إلى أجل حتى يتمكن المحتاج العاجز عن الثمن النقد من شراء حاجته إلى أجل مسمى، وهذا من رحمة الله سبحانه وإحسانه إلى عباده، والله ولي التوفيق.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته من جريدة (المسلمون) .
(2) سورة البقرة الآية 282(19/104)
س 74: السيارات التي تباع عن طريق التقسيط يزاد في سعرها إذا اشتريتها عن طريق التقسيط بحيث إذا كان سعر السيارة "15 " ألف ريال نقدا تباع على إنسان بأكثر من هذه القيمة عن طريق التقسيط. هل هذا البيع ربا؟
ج: البيع بالتقسيط لا حرج فيه، إذا كانت الآجال معلومة والأقساط معلومة، ولو كان البيع بالتقسيط أكثر ثمنا من البيع نقدا؛ لأن البائع والمشتري كلاهما ينتفعان بالتقسيط. فالبائع ينتفع بالزيادة والمشتري ينتفع بالمهلة.
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: "أن بريرة رضي الله عنها باعها أهلها بالتقسيط تسع سنوات، لكل سنة أربعون درهما"، فدل ذلك على جواز بيع التقسيط، ولأنه بيع لا غرر فيه ولا ربا ولا جهالة، فكان جائزا كسائر البيوع الشرعية إذا كان المبيع في ملك البائع وحوزته حين البيع.(19/105)
حكم قول بعني العشرة باثني عشر
س 75: إذا أراد رجل أن يستدين من آخر هل يجوز له أن يقول بعني العشرة باثني عشر وهل يجوز أن يتفقا على مبلغ معلوم والسلعة ليست موجودة لدى التاجر؟ وما معنى حديث حكيم بن حزام: «ولا تبع ما ليس عندك (1) » ؟ (2)
ج: قول من يريد الاستدانة للدائن، بعني العشرة باثني عشر، معناه: بعني السلعة التي تساوي عشرة حالة باثني عشر مؤجلة ومثل هذا القول بهذا المعنى لا بأس به؛ لأن العبرة بالمعاني، والبيع بثمن مؤجل أزيد مما تباع به السلعة نقدا جائز عند الجمهور، والأدلة الدالة على حل البيع تشمله، ويدل له أيضا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (3) فإنه شامل لما كان فيه الثمن مساويا للبيع نقدا؛ وما كان زائدا عنه، ويدل عليه أيضا ما خرجه
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) .
(2) سؤال مقدم إلى سماحته وأجاب عنه عندما كان رئيسا للجامعة الإسلامية بالمدينة.
(3) سورة البقرة الآية 282(19/106)
الحاكم والبيهقي ورجاله ثقات عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة، قال: فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى الإبل الصدقة (1) » ، ذكره الحافظ في بلوغ المرام وهو صريح في هذه المسألة، وقد ألف في جواز ذلك العلامة الشوكاني رحمه الله رسالة ذكرها في كتابه نيل الأوطار.
وإذا كانت السلعة ليست في ملك الدائن أو في ملكه وهو عاجز عن التسليم فليس له أن يبرم عقد البيع مع المشتري وإنما لهما أن يتواطآ على السعر ولا يتم بينهما بيع حتى تكون السلعة في حوزة البائع؛ لحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (2) » ، خرجه أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم، قال ابن القيم في تهذيب السنن في شرح حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه:
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (6557) وأبو داود في (البيوع) باب في الرخصة في ذلك برقم (3357) .
(2) رواه أبو داود في (البيوع) باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى برقم (3499) .(19/107)
«لا تبع ما ليس عندك (1) » ، وقال: وبيع ما ليس عنده إنما نهى عنه لكونه غير مضمون عليه، ولا ثابت في ذمته ولا في يده، فالمبيع لا بد أن يكون ثابتا في ذمة البائع أو في يده، وبيع ما ليس عنده ليس بواحد منهما، فالحديث باق على عمومه هذا بعض كلامه في تهذيب السنن، وانظر إيضاح معنى الحديث أيضا في زاد المعاد لابن القيم وإعلام الموقعين له أيضا.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكيين) مسند حكيم بن حزام برقم (14887) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1232) وابن ماجه في (التجارات) باب النهي عن بيع ما ليس عندك برقم (2187) .(19/108)
حكم الزيادة في
ثمن السلعة لزبون دون آخر
س 76: أعمل في أحد المتاجر ويختلف بيعي من شخص لاخر حسب إلحاح الزبون فقد أبيع بضاعة بمائة ريال وقد أبيعها بمائة وخمسين حسب الحال والزبون فهل يعتبر ذلك غشا؟ (1)
__________
(1) نشر في (نشرة التوعية الإسلامية للقوات المسلحة) في جمادى الأولى عام 1415هـ العدد (18) .(19/108)
ج: الواجب ألا تزيد في قيمة السلعة عما تساويه في السوق، وكونك تخفض لبعض الزبائن عما تساويه في السوق لا بأس به، إنما الممنوع أن تزيد على بعض الزبائن بثمن أغلى من قيمة السلعة في السوق، خصوصا إذا كان المشتري يجهل أقيام السلع أو كان غرا لا يحسن البيع والشراء والمماكسة فلا يجوز استغلال جهله وغرته والزيادة عليه عن القيمة المعروفة في السوق.(19/109)
ضابط الزيادة في
الثمن من أجل الأجل
س 77: هل هناك ضوابط شرعية تتدخل لتحديد قيمة الفائدة أو ربح الشركة المقسطة؟ (1)
ج: سبقت الإشارة إلى أن الزيادة في الثمن من أجل المهلة والأجل جائزة، وليس في الشرع نص على تحديد مقدار هذه الزيادة، وهذه الزيادة تحكمها اعتبارات منها طول المدة وقصرها، ومنها نفوق التجارة ونشاط الحركة التجارية ويعبر عنها بظاهرة العرض والطلب، فكلما كثر العرض وقل الطلب
__________
(1) رسالة جوابية من سماحته إلى رئيس تحرير جريدة (الجزيرة) برقم 676\2 وتاريخ 10\3\1412هـ.(19/109)
انخفضت نسبة الربح، وكلما قل العرض وكثر الطلب ارتفعت هذه النسبة. ويختلف ذلك بأسباب أخرى.(19/110)
حكم التصرف في المبيع قبل قبضه
س 78: ما حكم بيع السلعة لزبون، وبعدما يوافق على سعرها آتي بها من محل ثان وأنا متأكد من كسبي؟ وجهوني جزاكم الله خيرا وقد صدر رسالته يقول إني أحبكم في الله (1) .
ج: أما المحبة في الله فنقول أحبك الله الذي أحببتنا له، فالتحاب في الله من أفضل القربات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه (2) » ، يعني: خوفا من الله، كل هؤلاء يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ومنهم المتحابون في
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في برنامج (نور على الدرب) .
(2) رواه البخاري في (الزكاة) باب الصدقة باليمين برقم (1423) .(19/110)
الله، ويقول صلى الله عليه وسلم: «يقول الله يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي (1) » ، جعلنا الله وإياكم وسائر إخواننا من المتحابين فيه سبحانه وتعالى. أما بيع السلع قبل أن تشتريها لا يجوز. فإنه لا يجوز أن يبيع الإنسان ما ليس عنده؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع ولا بيع ما ليس عندك (2) » ، وسأله حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: يا رسول الله الرجل يأتيني يريد السلعة وليست عندي فأبيعها عليه ثم أذهب فأشتريها فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تبع ما ليس عندك (3) » ، فأنت إذا أردت البيع تشتري أولا السلعة، فإذا قبضتها وحزتها وصارت عندك تبيع بعد ذلك، وتقول لمن
__________
(1) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب في فضل الحب في الله برقم (2566) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (6633) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1234) والنسائي في (البيوع) باب بيع ما ليس عند البائع برقم (4611) .
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند المكيين) مسند حكيم بن حزام برقم (14887) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1232) وابن ماجه في (التجارات) باب النهي عن بيع ما ليس عندك برقم (2187) .(19/111)
رغب إليك: اصبر حتى اشتريها، فإذا اشتريت السلعة وصارت عندك وصارت بحوزتك وقبضتها، تبيع على من شئت.(19/112)
معنى القبض الشرعي
س 79: إذا اشترى شخص من آخر طعاما إلى أجل فهل يجوز له بيعه قبل قبضه؟ وما هو القبض الشرعي الذي جاء الحديث بالنهي عن البيع قبله؟ وهل إذا اشترى منه سلعا من طعام أو غيره وعدها وهي في محل التاجر هل هذا يعتبر حيازة شرعية؟ وقد أفتى بعض طلبة العلم بجواز ذلك فهل له حجة شرعية أم لا؟ وقد أصبح كثير من الناس يتعاطون ذلك وربما تباع السلعة عدة مرات وهي في محل التاجر الأول خصوصا إذا كان سكرا أو أرزا. أفتونا مأجورين ووضحوا ذلك أثابكم الله؟ (1)
ج: إذا اشترى شخص من آخر طعاما أو سلعة أخرى بثمن حال أو مؤجل فلا يجوز له بيعه قبل قبضه وذلك بحيازته إلى منزله أو متجره أو غير ذلك، ولا يكفي في القبض عدها وإبقاؤها في محلها دون حيازتها، ومن الأدلة على ذلك ما ثبت
__________
(1) سؤال مقدم إلى سماحته فأجاب عنه عندما كان رئيسا للجامعة الإسلامية بالمدينة.(19/112)
في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن بيع الطعام حتى يستوفى (1) » ، وفي لفظ: «حتى يقبض (2) » ، وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عند مسلم: «كنا نبتاع الطعام جزافا، فيبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه (3) » ، وحديثه في الصحيحين وغيرهما قال: «كانوا يتبايعون الطعام جزافا فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه (4) » ، وحديثه فيهما أيضا قال: «رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون جزافا- يعني الطعام - يضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤوه إلى رحالهم (5) » . وحديثه في سنن أبي داود
__________
(1) رواه مسلم في (البيوع) باب بطلان بيع المبيع قبل القبض برقم (1528) .
(2) رواه البخاري في (البيوع) باب بيع الطعام قبل أن يقبض برقم (2135) .
(3) رواه مسلم في (البيوع) باب بطلان بيع المبيع قبل القبض برقم (1527) .
(4) رواه أبو داود في (البيوع) باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى برقم (3494) .
(5) رواه البخاري في (البيوع) باب من إذا اشترى طعاما جزافا أن لا يبيعه برقم (2137) ومسلم في (البيوع) باب بطلان بيع المبيع قبل القبض برقم (1527) .(19/113)
والدارقطني والمستدرك وصحيح ابن حبان قال: «ابتعت زيتا في السوق فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحا حسنا فأردت أن أضرب على يده فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفت فإذا هو زيد بن ثابت فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (1) » ، والحديث في إسناده محمد بن إسحاق، قال ابن القيم بعد أن ذكر الحديث مستدلا به على تعميم الحكم في الطعام وغيره: وإن كان فيه محمد بن إسحاق فهو الثقة الصدوق. انتهى، وقال عنه الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب: أحد الأئمة الأعلام حديثه حسن، وقال الحافظ في الفتح: ما ينفرد به محمد بن إسحاق وإن لم يبلغ درجة الصحيح فهو في درجة الحسن إذا صرح بالتحديث. وإنما يصحح له من لا يفرق بين الصحيح والحسن ويجعل كل ما يصلح للحجة صحيحا، وهذه طريقة ابن حبان ومن ذكره معه. انتهى.
وقال شمس الحق العظيم أبادي في تعليقه على سنن الدارقطني: الحديث أخرجه أبو داود بإسناد صرح فيه ابن
__________
(1) رواه أبو داود في (البيوع) باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى برقم (3499) .(19/114)
إسحاق بالتحديث، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك وصححه، وقال في التنقيح: سنده جيد، فإن ابن إسحاق صرح بالتحديث. انتهى.
قلت: قول الشيخ شمس الحق: أن ابن إسحاق صرح في رواية أبي داود بالسماع، فيه نظر، فقد راجعت السنن فلم أجده صرح بالسماع، فلعل ذلك وقع في نسخة الشيخ شمس الحق، ولكن رواه الإمام أحمد في المسند من طريق ابن إسحاق مختصرا، وصرح بالسماع.
فالحديث جيد وصريح في الموضوع، على أن السلع أيا كانت لا يجوز بيعها قبل حيازتها، ومثله في إفادة العموم حديث حكيم بن حزام عند البيهقي بسند جيد؛ قلت: يا رسول الله إني أبتاع هذه البيوع فما يحل لي منها وما يحرم قال: «يا ابن أخي لا تبع شيئا حتى تقبضه (1) » ، ومما يدل على أن الحكم عام في الطعام وغيره حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه (2) » ، قال ابن عباس: ولا أحسب كل
__________
(1) رواه البيهقي في (البيوع) باب النهي عن بيع ما لم يقبض برقم (10731) .
(2) رواه البخاري في (البيوع) باب الكيل على البائع والمعطي برقم (2126) ومسلم في (البيوع) باب بطلان بيع المبيع قبل القبض برقم (1526) .(19/115)
شيء إلا مثله، وقد حكى الخطابي في معالم السنن وابن المنذر كما عزاه إليه ابن القيم في تهذيب السنن- الإجماع على عدم جواز بيع الطعام قبل قبضه، أما غير الطعام فقد حكى الخطابي وكذا ابن القيم للعلماء فيه أربعة أقوال، رجح ابن القيم منها القول بتعميم حكم المنع في الطعام وغيره؛ لحديث حكيم بن حزام، وزيد بن ثابت الدالين على ذلك، وقال: إن النهي معلل بعدم تمام الاستيلاء، وعدم انقطاع علاقة البائع عنه، فإنه يطمع في الفسخ والامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه، ويغره الربح، وتضيق عينه منه، وربما أفضى إلى التحيل على الفسخ ولو ظلما وإلى الخصام والمعاداة، والواقع شاهد بهذا فمن محاسن الشريعة الكاملة الحكيمة منع المشتري من التصرف فيه حتى يتم استيلاؤه عليه..... إلى آخر كلامه رحمه الله.
وما تمسك به القائلون بالتفريق بين الطعام وغيره، من أن التنصيص على المنع جاء في الطعام في أغلب الأحاديث لا يفيد حصر الحكم عليه، بل ذلك مع ما ورد في تعميم الحكم يدخل تحت القاعدة المشهورة وهي أن إثبات حكم العام لبعض أفراده لا يفيد قصره عليه، والله أعلم. ويؤيد ذلك كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله: أن المنع إذا جاء في(19/116)
الطعام مع شدة الحاجة إليه، فمنعه في غير الطعام من باب أولى، أما إذا كان الطعام أو غيره بيع بالكيل أو الوزن فإن قبضه يكون باكتياله أو وزنه؛ لما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله (1) » انتهى، والمبيع بالوزن في معنى المبيع بالكيل، ولكن الأحوط والأكمل أن لا يتصرف المشتري فيما اشتراه بالكيل أو الوزن حتى ينقله إلى رحله؛ لعموم الأحاديث الصحيحة الكثيرة المخرجة في الصحيحين وغيرهما المتضمنة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يقبض، ولا شك أن القبض الكامل إنما يكون بالنقل والحيازة لا بمجرد الكيل والوزن.
والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) رواه مسلم في (البيوع) باب بطلان بيع المبيع قبل القبض برقم (1528) .(19/117)
80 - لا يكون القبض
بالكلام بل لا بد من نقل السلعة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم أ. ع. ن. وفقه الله آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ بدون وصلكم الله بهداه وما تضمنه من الأسئلة كان معلوما وهذا نصها وجوابها، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم وسائر إخواننا لإصابة الحق في القول والعمل إنه خير مسئول.
س: رجل صاحب ثروة يعامل بعض الناس المحتاجين يأخذ منه مثال عوض ألف ريال بألف ومائتين إلى الدور، ويذهب هو إلى السوق ويشتري من صاحب الدكان العوض المطلوب ويقبضه ويسلم قيمته لصاحب الدكان، وبعد ذلك يأتي صاحب الطلب للعوض وينظر في العوض ويقول له صاحب المال: إذا ترغب هذا العوض بكذا فاقبض وإذا لم ترغب فأنت حر فيقبض العوض ويكتب عليه.(19/118)
ج: هذه المعاملة لا تجوز؛ لأن البائع باع ما ليس في حوزته إذا كان قبضه للسلعة إنما هو بالكلام لا بنقلها من ملك البائع كما هو الواقع غالبا، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لحكيم بن حزام رضي الله عنه: «لا تبع ما ليس عندك (1) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل سلف وبيع، ولا بيع ما ليس عندك (2) » الحديث، ولأن المبيع ليس في قبضة البائع فإذا نقله إلى ملكه أو إلى السوق جاز له بيعه، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ثم المشتري ليس له أن يبيع ما اشتراه حتى ينقله إلى ملكه أو إلى السوق؛ للأحاديث المذكورة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (3) » .
وقد كتبنا في هذا جوابا نشفع لكم نسختين منه للاطلاع عليه.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكيين) مسند حكيم بن حزام برقم (14887) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1232) وابن ماجه في (التجارات) باب النهي عن بيع ما ليس عندك برقم (2187) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (6633) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1234) والنسائي في (البيوع) باب بيع ما ليس عند البائع برقم (4611) .
(3) رواه أبو داود في (البيوع) باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى برقم (3499) .(19/119)
81 - لا يجوز بيع السيارة ونحوها حتى تنقل من محل البيع الأول
سماحة الوالد المفتي العام للمملكة العربية السعودية وفقه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أفيد سماحتكم أنه يوجد لي ابنة خال - أخت زوجتي - أقامتني مكانها بدون وكالة شرعية وأقوم بشراء سيارات لها من أحد المعارض وأحجزها في جهة من المعرض وأستلم أوراق الجمرك ومفاتيحها، أو أشتري لها قطع أراض، ثم بعد ذلك أقوم بعرضها على إخواني أو أحد زملائي أو جيراني أو إذا كنت في حاجة اشتريتها أنا.
فأما إن كنت أريد بيعها على إخواني قام أحدهم بالاتصال عليها والتفاوض معها في السعر المؤجل وبعد ذلك يتم البيع عليهم. وأما إن كنت أرغب الشراء أنا اتصلت عليها كذلك وتفاوضت معها في السعر المؤجل. وأما إن كان المشتري غيري أو إخواني فأقوم بالتفاهم معها أنا في السعر المؤجل، وبعد ذلك أبيعها عليه. لذا أرجو من سماحتكم إفتائي في ذلك لأكون على بينة من أمري جزاكم الله عني وعن المسلمين خير الجزاء (1) .
__________
(1) سؤال مقدم لسماحته من س. ع. ع. وأجاب عنه سماحته بتاريخ 14\6\1419هـ.(19/120)
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
ننصحك بأن تأخذ منها وكالة شرعية مكتوبة وألا تبيع السيارات ونحوها من المنقولات إلا بعد نقلها من محل البيع إلى معرض آخر أو إلى بيتك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (1) » ، وفق الله الجميع.
__________
(1) رواه أبو داود في (البيوع) باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى برقم (3499) .(19/121)
لا يكفي سند البيع
بل لا بد من نقل السلعة
س 82: يشتري بعض التجار البضاعة ثم لا يتسلمها ولا يعاينها، بل يأخذ بها سند بيع وقبض للقيمة ويتركها في مستودعات التاجر الأول الذي اشتراها منه، ثم يبيعها التاجر الثاني لغيره وهي في مستودعات التاجر الأول، فما حكم ذلك؟
ج: لا يجوز للمشتري بيع هذه البضاعة ما دامت موجودة(19/121)
في ملك البائع حتى يتسلمها المشتري، وينقلها إلى بيته أو إلى السوق؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحة في ذلك، منها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا بيع ما ليس عندك (1) » ، أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح، «ولقوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: لا تبع ما ليس عندك (2) » ، أخرجه الخمسة إلا أبا داود بإسناد جيد، ولما ثبت عن زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (3) » ، رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم. وهكذا من اشتراها من المشتري ليس له أن يبيعها حتى ينقلها إلى بيته أو إلى مكان آخر من السوق للأحاديث المذكورة.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (6633) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1234) والنسائي في (البيوع) باب بيع ما ليس عند البائع برقم (4611) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكيين) مسند حكيم بن حزام برقم (14887) والترمذي في (البيوع) باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم (1232) وابن ماجه في (التجارات) باب النهي عن بيع ما ليس عندك برقم (2187) .
(3) رواه أبو داود في (البيوع) باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى برقم (3499) .(19/122)
باب الخيار(19/123)
صفحة فارغة(19/124)
حكم البيع إلى أجل معلوم بشرط الخيار
س 83: ما قولكم عفا الله عنكم فيما شاع بين الناس خصوصا في هذه المقاطعة وهو البيع إلى أجل، وذلك أن الفقير إذا ضرب الزمان على يديه ذهب إلى الغني ليساعده بقرض ونحوه، فيأبى إلا أن يرى أن قرضه هذا يجر له منفعة فيقول للفقير أعطني شيئا من أرضك الزراعية بيعا إلى أجل، وما ذلك إلا حيلة لأجل استغلال الأرض يأخذها الغني بدون مقابل لصاحب الأرض، ويمكث صاحب القرض يمتص خيرات الأرض سنين عديدة وقد تبلغ عشرين سنة أو أقل والفقير لا يجد ما يؤدي به فلوس المقرض، علما بأن الغلال التي قد اقتصها صاحب القرض تزيد عن قرضه، فأفتونا رحمكم الله هل البيع إلى أجل صحيح أم باطل وإذا كان باطلا فهل الغلال تحسم من فلوس الغني أم كيف المسألة جزيتم خيرا؟ (1)
ج: قد اختلف أهل العلم في جواز البيع بشرط الخيار إلى أجل معلوم إذا كانت المدة أكثر من ثلاثة أيام، فأجازه
__________
(1) نشر في مجلة (راية الإسلام) العدد (8) السنة الأولى، عام 1380 هـ، ص 43-45.(19/125)
قوم، ومنعه آخرون، والأصح جوازه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما (1) » في أدلة أخرى، لكن ذكر جمع من أهل العلم القائلين بالجواز أن ذلك يتقيد بما إذا كان القصد من البيع هو رغبة البائع في البيع والمشتري في الشراء، ولكن جرى شرط الخيار لريبة في المبيع، أو الثمن، أو لمقصد آخر حسن، أما إذا كان المقصود من عقد البيع هو انتفاع المشتري بغلة المبيع، وانتفاع البائع بالثمن، وفي عزمهما فسخ البيع عند إيسار البائع بالثمن فليس ذلك بجائز، بل هو من الربا؛ لأنه في معنى القرض، وكل قرض شرط فيه النفع فهو محرم بالإجماع.
ولا ريب أن مقصود المشتري في مثل هذا استغلال المبيع حتى يرد إليه الثمن لئلا يفوت عليه نفع ماله الذي قبضه البائع وكل حيلة يستحل بها الربا فهي باطلة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل (2) » ، أخرجه أبو عبد الله بن بطة بإسناد
__________
(1) رواه الترمذي في (الأحكام) باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح برقم (1352) .
(2) ذكره الحافظ ابن القيم الجوزية في حاشيته على سنن أبي داود عند التعليق على الحديث رقم (3462) في كتاب البيوع باب النهي عن العينة.(19/126)
حسن، وفي معناه ما ثبت في الصحيحين عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله اليهود لما حرم الله عليهم الشحوم جملوها ثم باعوها فأكلوا ثمنها (1) » وقد صرح جماعة من أهل العلم بهذه المسألة وبينوا تحريمها، ومنهم الشيخ العلامة عبد الرحمن بن أبي عمر الحنبلي صاحب الشرح الكبير، وإليك نص كلامه قال في المجلد الرابع صفحة (80) : فصل " إذا شرط الخيار حيلة على الانتفاع بالقرض ليأخذ غلة المبيع ونفعه في مدة انتفاع المقترض بالثمن ثم يرد المبيع بالخيار عند رد الثمن فلا خيار فيه؛ لأنه من الحيل ولا يحل لآخذ الثمن الانتفاع به في مدة الخيار ولا التصرف فيه. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يشتري من الرجل الشيء ويقول لك الخيار إلى كذا وكذا مثل العقار، قال: هو جائز إذا لم يكن حيلة، أراد أن يقرضه فيأخذ منه العقار فيستغله ويجعل له فيه الخيار ليربح فيما أقرضه بهذه الحيلة، فإن لم يكن أراد هذا فلا بأس. قيل لأبي عبد الله: فإن أراد إرفاقه؛ أراد أن يقرضه مالا يخاف أن يذهب فاشترى منه شيئا وجعل له الخيار لم يرد الحيلة؟ فقال أبو عبد الله: هذا جائز، إلا أنه إذا مات انقطع الخيار لم
__________
(1) رواه البخاري في (تفسير القرآن) باب قوله تعالى: '' وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر'' برقم (4633) ومسلم في (المساقاة) باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام برقم (1582) .(19/127)
يكن لورثته. وقول أحمد بالجواز في هذه المسألة محمول على المبيع الذي لا ينتفع به إلا بإتلافه أو على أن المشتري لا ينتفع بالمبيع في مدة الخيار؛ لئلا يفضي إلى أن القرض جر منفعة " (1) ، انتهى كلام صاحب الشرح الكبير ومنه يعلم أن البيع إذا خلا عن مقصد القرض لم يكن به بأس. ومراده بأبي عبد الله هو أحمد بن حنبل رحمه الله. ومن علامات الحيلة أن يبيعه العقار ونحوه بأقل من قيمته التي يباع بها لو كان المقصود البيع حقيقة كأن يبيع ما يساوي مائة بخمسين وما ذاك إلا أنه واثق بأنه ليس ببيع، وإنما هو قرض في صورة البيع. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) الشرح الكبير لأبي عبد الرحمن بن أبي عمر الحنبلي ج4 ص80.(19/128)
مقدار الغبن المؤثر في البيع
س 84: ما هو المقدار الذي يكون فيه الغبن؟ (1)
ج: اختلفوا فيه بعضهم قال: الثلث. وبعضهم قال: أقل من ذلك. ولكن أحسن ما قيل في هذا أنه ما يعده الناس غبنا بالعرف، ما يعده أهل البيع والشراء غبنا حيث يعتبر ضارا للمشتري.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته بعد شرح درس (بلوغ المرام) .(19/128)
باب الربا والصرف(19/129)
صفحة فارغة(19/130)
حكم استثمار الأموال في البنوك بفوائد ربوية
س 85: ما حكم استثمار الأموال في البنوك، علما بأن هذه البنوك تعطي فائدة لوضع المال فيها؟
ج: من المعلوم عند أهل العلم بالشريعة الإسلامية أن استثمار الأموال لله عز وجل بفوائد ربوية محرم شرعا وكبيرة من الكبائر ومحاربة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (2)
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (4)
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) سورة البقرة الآية 279(19/131)
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء (1) » . أخرجه مسلم في صحيحه.
وخرج البخاري في الصحيح عن أبي جحيفة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله ولعن المصور (2) » .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قلنا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (3) » .
__________
(1) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .
(2) رواه البخاري في (البيوع) باب موكل الربا برقم (2086) .
(3) رواه البخاري في (الوصايا) باب قول الله: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) برقم (2767) وفي (الحدود) باب رمي المحصنات برقم (6857) ومسلم في (الإيمان) باب بيان الكبائر وأكبرها برقم (89) .(19/132)
والآيات والأحاديث في هذا المعنى وهو تحريم الربا والتحذير منه كثيرة جدا. فالواجب على المسلمين جميعا تركه والحذر منه والتواصي بتركه. والواجب على ولاة الأمور من المسلمين منع القائمين على البنوك في بلادهم من ذلك، وإلزامهم بحكم الشرع المطهر تنفيذا لحكم الله وحذرا من عقوبته قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2) وقال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (4) » . والآيات والأحاديث في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة ومعلومة، فنسأل الله للمسلمين جميعا حكاما ومحكومين وعلماء عامة التوفيق للتمسك بشريعته والاستقامة عليها، والحذر من كل ما يخالفها إنه خير مسئول.
__________
(1) سورة المائدة الآية 78
(2) سورة المائدة الآية 79
(3) سورة التوبة الآية 71
(4) رواه الإمام أحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) مسند أبي بكر الصديق برقم (1و16) وابن ماجه في (الفتن) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برقم (4005) .(19/133)
لا يجوز إيداع المال في البنك بفائدة ولو كان بقصد الخير
س 86: هل يجوز لي إدخال فلوس في البنك لآخذ عليها مرابحة علما أن قصدي من الأرباح هو توزيعها في طرق الخير ولكي لا تتعطل هذه الفلوس؟
ج: لا يجوز ذلك؛ لأن ذلك هو عين الربا الذي نص أهل العلم على منعه، ودلت النصوص من السنة على تحريمه، وهو ما يسمى بقرض جر منفعة، والمراد المنفعة المشروطة أو المتواطأ عليها ولو حسن قصد من فعل ذلك؛ لأن الربا حرمه الله لما فيه من المفاسد والأضرار على المجتمع عامة، والفقراء خاصة، وفي إمكان المسلم أن يدفع المال إلى البنك أو غيره لقصد الاستثمار على طريقة إسلامية كالمضاربة وذلك بأن يجعل ماله في سلع خاصة بيعها على حساب صاحب المال، ويكون الربح مشتركا بينهما حسبما شرطاه من المناصفة أو غيرها، وعقد المضاربة جائز بالإجماع إذا استوفى شروطه التي أوضحها أهل العلم في محلها.(19/134)
حكم الإيداع بالفائدة في البنوك
س 87: ما الحكم الشرعي في الذي يضع ماله في البنك فإذا حال عليه الحول أخذ الفائدة.
ج: لا يجوز الإيداع في البنوك للفائدة، ولا القرض بالفائدة؛ لأن كل ذلك من الربا الصريح.(19/135)
هل في الأموال الربوية زكاة
س 88: كثير من الناس يتعامل مع البنوك وقد يدخل في هذه المعاملات معاملات محرمة كالربا فهل في هذه الأموال زكاة وكيف تخرج؟ (1)
ج: يحرم التعامل بالربا مع البنوك وغيرها وجميع الفوائد الناتجة عن الربا كلها محرمة وليست مالا لصاحبها بل
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في برنامج (نور على الدرب) .(19/135)
يجب صرفها في وجوه الانتفاع كإصلاح دورات المياه العامة إذا كان قد قبضها وهو يعلم حكم الله في ذلك. أما إذا كان لم يقبضها فليس له إلا رأس ماله؛ لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2)
أما إن كان قد قبضها قبل أن يعرف حكم الله في ذلك فهي له ولا يجب عليه إخراجها من ماله؛ لقول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (3)
وعليه زكاة أمواله التي ليست من أرباح الربا؛ كسائر أمواله التي يجب فيه الزكاة. ويدخل في ذلك ما دخل عليه من أرباح الربا قبل العلم. فإنها من جملة ماله للآية المذكورة، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة البقرة الآية 275(19/136)
89 - التحذير من المساهمة في
البنوك الربوية والإيداع فيها بفائدة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من إخواننا المسلمين وفقني الله وإياهم لسلوك صراطه المستقيم وجنبنا جميعا طريق المغضوب عليهم والضالين، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد كثرت الدعايات للمساهمة في البنوك الربوية في الصحف المحلية والأجنبية وإغراء الناس بإيداع أموالهم فيها مقابل فوائد ربوية صريحة معلنة، كما تقوم بعض الصحف بنشر فتاوى لبعض الناس تجيز التعامل مع البنوك الربوية بفوائد محددة. وهذا أمر خطير؛ لأن فيه معصية لله، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومخالفة لأمره، والله سبحانه وتعالى يقول:(19/137)
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) ومن المعلوم من الدين بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة أن الفوائد المعينة التي يأخذها أرباب الأموال مقابل مساهمتهم أو إيداعهم في البنوك الربوية حرام سحت، وهي من الربا الذي حرمه الله ورسوله، ومن كبائر الذنوب، ومما يمحق البركة ويغضب الرب عز وجل، ويسبب عدم قبول العمل. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: وقال تعالى: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأني يستجاب لذلك (4) » ، رواه مسلم. وليعلم كل مسلم أنه مسئول أمام ربه عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه. ففي
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) رواه مسلم في (الزكاة) باب قبول الصدقة من الكسب الطيب برقم (1015) .
(3) سورة المؤمنون الآية 51 (2) {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
(4) سورة البقرة الآية 172 (3) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}(19/138)
الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيم أفناه، وعن ماله من أين جمعه وفيم أنفقه، عن علمه ماذا عمل فيه (1) » .
واعلم يا عبد الله وفقنا الله وإياك لما فيه رضاه أن الربا كبيرة من كبائر الذنوب التي جاء تحريمها مغلظا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بجميع أشكاله وأنواعه ومسمياته. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وقال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} (3) وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (4) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (5) وقال تعالى:
__________
(1) رواه الترمذي في (صفة القيامة والرقائق والورع) باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص برقم (2417) .
(2) سورة آل عمران الآية 130
(3) سورة الروم الآية 39
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) سورة البقرة الآية 276(19/139)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) فما أعظم جريمة من حارب الله ورسوله، نسأل الله العافية من ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (3) » ، متفق على صحته. وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هو سواء (4) » .
فهذه بعض الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم التي تبين تحريم الربا وخطره على الفرد والأمة، وأن من تعامل به وتعاطاه فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب،
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) رواه البخاري في (الوصايا) باب قول الله: (إن الذين يأكلون أمول اليتمى ظلما) برقم (2767) وفي (الحدود) باب رمي المحصنات برقم (6857) ومسلم في (الإيمان) باب بيان الكبائر وأكبرها برقم (89) .
(4) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .(19/140)
وقد أصبح محاربا لله ولرسوله، فنصيحتي لكل مسلم يريد الله والدار الآخرة أن يتقي الله سبحانه وتعالى في نفسه وماله، وأن يكتفي بما أباحه الله ورسوله، وأن يكف عما حرمه الله ورسوله، ففيما أباح الله كفاية وغنى عما حرم، وعلى المسلم الناصح لنفسه الذي يريد لها الخير والنجاة من عذاب الله والفوز برضاه ورحمته أن يبتعد عن الاشتراك في البنوك الربوية، أو الإيداع فيها بفوائد، أو الاقتراض منها بفوائد؛ لأن المساهمة فيها أو الإيداع فيها بفوائد، أو الاقتراض منها بفوائد، كل ذلك من المعاملات الربوية، ومن التعاون على الإثم والعدوان الذي نهى الله عنه بقوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) فاتق الله يا عبد الله، وانج بنفسك ولا تغتر بكثرة البنوك الربوية ولا بكثرة انتشار معاملاتها في كل مكان ولا بكثرة المتعاملين معها فإن ذلك ليس دليلا على إباحتها، وإنما هو دليل على كثرة الإعراض عن أمر الله، ومخالفة شرعه، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (2) ومن الأسف الشديد أن كثيرا من الناس لما أنعم الله عليهم، ووسع عليهم من فضله، وأغناهم بكثرة المال أصبحوا لا يهتمون بالعمل بأحكام
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة الأنعام الآية 116(19/141)
الإسلام، والاستغناء بما أباح الله لهم عما حرم عليهم، وإنما يهتمون بما يدر عليهم المال من أي طريق كان؛ حلالا كان أم حراما، وما ذلك إلا لضعف إيمانهم، وقلة خوفهم من ربهم عز وجل وغلبة حب الدنيا على قلوبهم، نسأل الله لنا ولهم السلامة والعافية من كل ما يخالف شرعه المطهر. وهذا الواقع المؤلم لحال كثير من المسلمين مؤذن بحلول غضب الله ونقمته، وقد قال سبحانه محذرا منذرا من شؤم المعاصي والذنوب: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) وإني أوجه نصيحتي إلى المسئولين في الصحف المحلية خاصة، وفي صحف البلاد الإسلامية عامة أن يطهروا صحافتهم من نشر كل ما يخالف شرع الله المطهر في أي مجال من مجالات الحياة، كما أوصي الجهات المسئولة بالتأكيد على رؤساء الصحف بألا ينشروا شيئا فيه مخالفة لدين الله وشرعه، ولا شك أن هذا أمر واجب عليهم، وسيسألون عنه أمام الله إذا قصروا فيه، كما أوصي إخواني المسلمين عامة أن يتقوا الله تبارك وتعالى ويتمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يكتفوا بما أحله الله، ويحذروا ما حرمه الله، ولا يغتروا بما قد يكتب أو ينشر من
__________
(1) سورة الأنفال الآية 25(19/142)
فتاوى أو مقالات تجيز المساهمة في البنوك الربوية أو الإيداع فيها بفوائد، أو تقلل من سوء عاقبة ذلك؛ لأن هذه الفتاوى والمقالات لم تبن على أدلة شرعية لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي آراء الرجال وتآولاتهم نسأل الله لنا ولهم الهداية والعافية من مضلات الفتن، والله المسئول أن يوفق المسلمين عامة وولاة أمورهم خاصة للعمل بكتاب ربهم وسنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وتحكيم شرع الله في جميع شئونهم الخاصة والعامة، وأن يأخذ بنواصيهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأن يجنب الجميع طريق المغضوب عليهم والضالين إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على خير خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(19/143)
حكم المساهمة في البنوك الربوية
س 90: سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
حصل بيني وبين أخي خلاف شديد حول المساهمة في أحد البنوك في المملكة المطروحة أسهمه للاكتتاب هذا(19/143)
العام حول جواز المساهمة فيه، فقلت له: إن ذلك حرام لأنه يتعامل بالربا وقال: إن فيه شبهة وليس حرام. وسبب هذا الخلاف أنه طلب مني اسمي واسم أبنائي ليساهم له بها في البنك ولقد تجادلنا كثيرا واتفقنا على جواب فصل من سماحتكم فنرجو إفتاءنا عما يلي:
1 - حكم المساهمة في البنك المذكور.
2 - حكم منح الأسماء لشخص يريد المساهمة بها في هذا البنك مع أن صاحب الأسماء يرى الحرمة.
نرجو من سماحتكم جوابنا سريعا والله يحفظكم (1) .
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
لا تجوز المساهمة في هذا البنك ولا غيره من البنوك الربوية، ولا المساعدة في ذلك بإعطاء الأسماء؛ لأن ذلك كله من التعاون على الإثم والعدوان، وقد نهى الله سبحانه عن ذلك في قوله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء (3) » ، خرجه الإمام
__________
(1) سؤال مقدم من الأخ م. أ. ع. وأجاب عنه سماحته بتاريخ 7\7\1412هـ.
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .(19/144)
مسلم في صحيحه. وفق الله الجميع لما يرضيه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(19/145)
شراء أسهم البنوك وبيعها محرم وربا
س 91: ما حكم شراء أسهم البنوك وبيعها بعد مدة، بحيث يصبح الألف بثلاثة آلاف مثلا، وهل يعتبر ذلك من الربا؟
ج: لا يجوز بيع أسهم البنوك ولا شراؤها؛ لكونها بيع نقود بنقود بغير اشتراط التساوي والتقابض، ولأنها مؤسسات ربوية لا يجوز التعاون معها ببيع ولا شراء؛ لقوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء (2) » ، رواه الإمام مسلم في صحيحه.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .(19/145)
وليس لك إلا رأس مالك، ووصيتي لك ولغيرك من المسلمين هي الحذر من جميع المعاملات الربوية، والتحذير منها، والتوبة إلى الله سبحانه مما سلف من ذلك؛ لأن المعاملات الربوية محاربة لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أسباب غضب الله وعقابه، كما قال عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (2) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (4) ولما تقدم من الحديث الشريف.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) سورة البقرة الآية 279(19/146)
92 - التحذير من إيداع الأموال في البنوك أو غيرها لغرض الحصول على الربا
الحمد لله والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد اطلعت على إعلان باللغة الإنجليزية كان قد نشر في جريدة الرياض الصادرة في يوم الأربعاء الموافق 14\10\1407هـ، وقد تضمن الدعاية لإيداع الأموال في البنك الفيدرالي للشرق الأوسط الكائن في دولة قبرص للحصول على نسبة أعلى من الفوائد الربوية من البنك المذكور.
ولا يخفى على كل مسلم بصير بدينه أن التعامل بالربا وأكله منكر، ومن كبائر الذنوب كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (2) وقد جعل الله سبحانه ذلك محاربة
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276(19/147)
له ولرسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء (3) » . والآيات والأحاديث في التحذير من الربا وبيان عواقبه الوخيمة كثيرة جدا، فالواجب على كل من يتعاطى ذلك التوبة إلى الله سبحانه منه، وترك المعاملة به مستقبلا وعدم الانصياع لمثل هذه الدعايات الباطلة طاعة لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وحذرا من العقوبات المترتبة على ذلك عاجلا وآجلا وابتعادا عن الوقوع فيما حرم الله عملا بقوله سبحانه وتعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) وقوله عز وجل
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .
(4) سورة النور الآية 31(19/148)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (1) الآية، وأسال الله أن يوفقنا وجميع المسلمين للتوبة إليه من جميع الذنوب وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة التحريم الآية 8(19/149)
حكم العمل في البنوك ووضع الأموال فيها
س 93: ما حكم الإسلام فيمن يعملون في البنوك ويضعون أموالهم فيها دون أخذ فوائد لها؟ (1)
ج: لا ريب أن العمل في البنوك التي تتعامل بالربا غير جائز؛ لأن ذلك إعانة على الإثم والعدوان، وقد قال الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء (3) » ، أخرجه مسلم في صحيحه.
أما وضع المال في البنوك بالفائدة الشهرية أو السنوية فذلك من الربا المحرم بإجماع العلماء، أما وضعه بدون فائدة فالأحوط تركه إلا عند الضرورة إذا كان البنك يتعامل بالربا؛ لأن وضع المال عنده ولو بدون فائدة فيه إعانة له على أعماله
__________
(1) نشر في هذا المجموع ج4 ص 310، ونشر في (مجلة الجامعة الإسلامية) .
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .(19/150)
الربوية، فيخشى على صاحبه أن يكون من جملة المعينين على الإثم والعدوان وإن لم يرد ذلك، فالواجب الحذر مما حرم الله والتماس الطرق السليمة لحفظ الأموال وتصريفها، وفق الله المسلمين لما فيه سعادتهم وعزهم ونجاتهم، ويسر لهم العمل السريع لإيجاد بنوك إسلامية سليمة من أعمال الربا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(19/151)
حكم العمل في أقسام البنوك الربوية التي لا صلة لها بالربا مباشرة
س 94: البنوك الآن فيها معاملات ربوية، وفيها معاملات غير ربوية، والذين يعملون فيها ربما تكون رواتبهم من المعاملات الحلال ليس من المعاملات الحرام فما الحكم؟ (1) .
ج: لكن بهم قام الربا وبهم قام البنك، ولو لم يتوظف لما قام المنع فهم أعانوا على إقامة البنوك الموجودة وتعاطي الربا نسأل الله السلامة.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته بعد شرح درس (بلوغ المرام) .(19/151)
حكم الإيداع في البنوك الربوية
س 95: إلى سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز بن عبد الله بن باز سلمه الله آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
هل تجوز المعاملة في البنوك العامة في المملكة العربية السعودية من إيداع وغيره. مثل البنك السعودي الأمريكي وبنك الرياض والعربي والبريطاني؟ هل الإيداع في شركة الراجحي لا بأس به؟ أفيدونا مأجورين وجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1) .
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد:
لا نعلم مانعا من جواز الإيداع في مصارف الراجحي، أما البنوك الأخرى فالأحوط عدم الإيداع فيها إلا عند الضرورة لأجل الحفظ فقط، أما المعاملات الربوية فهي محرمة مع كل أحد. وفق الله الجميع لما يرضيه والسلام.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سؤال مقدم من الأخ م. ص. ح. وأجاب عنه سماحته برقم (1174\ ش) وتاريخ 15\1\1418هـ.(19/152)
لا حرج في إيداع الأموال في البنوك خوفا عليها من الضياع
س 96: لدي حساب في أحد البنوك بدون فائدة، علما بأن البنوك تتعامل بالفائدة، هل تكون أموالي دخلت في حكم الربا، وهل علي إثم، وهل أسحب رصيدي من البنوك علما بأني أخاف ضياعها؟ (1)
ج: لا حرج عليك في أن تودع أموالك في البنوك خوفا عليها من الضياع، وهذه مسألة ضرورة فإذا احتجت إلى ذلك فلا حرج بدون فائدة.
أما إذا تيسر إيداعها في بنوك إسلامية، فتشجع البنوك الإسلامية وتعينها على مهمتها فإنها عند ذلك أولى وأحق.
فالبنوك الإسلامية يجب أن تشجع ويجب أن تعان وإذا وقع منها زلة أو خطأ تنبه على أخطائها، وتصلح أخطاءها حتى تكون منافسة للبنوك الربوية، وحتى يعتاض المسلمون بها عن البنوك الربوية.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة إلى سماحته في برنامج (نور على الدرب) .(19/153)
وفي إمكانك أن تودعها في البنوك الإسلامية، وتأخذ فائدة شرعية في معاملات المضاربة. أما الفائدة المعينة كعشرة في المئة10% أو 5% لا تجوز لا في البنوك الإسلامية ولا في البنوك الربوية، فهي ممنوعة في جميع الأحوال. وليس لأحد أن يأخذ فائدة معينة لا في البنك الإسلامي، ولا من التاجر المعين، ولا من البنك الربوي، ولا من غير ذلك.
الفوائد المعينة كأن تدفع للبنك الإسلامي، أو إلى التاجر المعين، أو إلى البنك الربوي مائة ألف ريال "100000" على أن يدفع لك كل شهر فائدة معينة 10% أو 5% فهذا لا يجوز وهذا من الربا.
لكن البنوك الإسلامية تستطيع أن تتصرف بالمال بالطرق الإسلامية كالمضاربة وشراء حاجات تبيعها بفائدة وتجمع الأرباح وتعطي صاحب المال نصيبه من الربح الذي اتفقا عليه. وهو ثلث الربح، أو نصف الربح، أو خمس الربح على ما اتفقت عليه البنوك الإسلامية مع صاحب المال.
فالحاصل أنه لا حرج في إيداع المال في البنوك الربوية بدون فائدة للضرورة والخوف عليه. ولكن إذا وجدت مندوحة عن ذلك بأن تودع مالك عند تاجر لا خطر عليه وعنده أو عند بنوك إسلامية بدون فائدة. أو تعمل فيها البنوك الإسلامية بالعمل الشرعي والمرابحة الشرعية فهذا كله جائز لئلا تشجع الربا وأهله.(19/154)
97 - كيفية المعاملة في الذهب والفضة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ع. م. س. وفقه الله لما فيه رضاه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعده:
وصلني كتابكم الكريم المرفق بهذا المتضمن سؤالكم عن كيفية المعاملة في الذهب والفضة وصلكم الله بحبل الهدى والتوفيق وزادنا وإياكم وجميع إخواننا المسلمين من العلم النافع والعمل به إنه جواد كريم (1) .
والجواب عن سؤالكم قد بينه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، مثلا بمثل، وزنا بوزن، يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى (2) » ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وهي عامة لجميع أنواع الصرف ولجميع أحوال الذهب والفضة سواء كانت نقودا أو حليا أو قطعا من الذهب والفضة غير مضروبة فلا يجوز بيع
__________
(1) رسالة جوابية صدرت من مكتب سماحته بتاريخ 19\2\1419هـ.
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند أبي هريرة برقم (7131) وفي (مسند الأنصار) حديث أزواج النبي صلى الله عليه وسلم برقم (21825) ومسلم في (المساقاة) باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا برقم (1584) وبرقم (1588) .(19/155)
الذهب بالذهب مطلقا إلا مثلا بمثل وزنا بوزن يدا بيد وهكذا الفضة، أما بيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب فلا حرج في ذلك متفاضلا؛ لأن الذهب أنفس من الفضة وأغلى، لكن لا بد أن يكون ذلك يدا بيد في المجلس قبل التفرق، أما إذا باع الذهب بمال آخر غير الذهب والفضة كالطعام والأواني والملابس والأراضي وغير ذلك، فلا بأس بالتفرق قبل القبض لأحدهما إذا كان المبيع والثمن معلوما معينا وليس في الذمة، أما إذا كان المبيع في الذمة فلا بد من قبض الثمن في المجلس، وإن كان البيع مؤجلا فلا بد أن يكون الأجل معلوما مع قبض الثمن في المجلس كبيع السلم حتى لا يكون البيع دينا بدين.
وفق الله الجميع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المفتي العام للمملكة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/156)
حكم بيع الذهب القديم بذهب جديد
س98: السائلة ل. ح من مكة المكرمة تسأل وتقول: ذهبت إلى بائع الذهب بمجموعة من الحلي القديمة ثم وزنها وقال: إن ثمنها 1500 ريال، واشتريت منه حليا جديدة بمبلغ 1800 ريال هل يجوز أن أدفع له 300 ريال فقط (الفرق) أم آخذ 1500 ريال ثم أعطيه 1800 ريال مجتمعة؟
ج: لا يجوز بيع الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، سواء بسواء وزنا بوزن يدا بيد بنص النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة ولو اختلف نوع الذهب بالجدة والقدم أو غير ذلك من أنواع الاختلاف، وهكذا الفضة بالفضة.
والطريقة الجائزة أن يبيع الراغب في شراء ذهب بذهب - ما لديه من الذهب بفضة أو غيرها من العمل الورقية ويقبض الثمن، ثم يشتري حاجته من الذهب بسعره من الفضة أو العملة(19/157)
الورقية يدا بيد؛ لأن العملة الورقية منزلة منزلة الذهب والفضة في جريان الربا بيع بعضها ببعض، وفي الذهب والفضة بها.
أما إن باع الذهب أو الفضة بغير النقود كالسيارات والأمتعة والسكر ونحو ذلك فلا حرج في التفرق قبل القبض؛ لعدم جريان الربا بين العملة الذهبية والورقية وبين هذه الأشياء المذكورة وأشباهها ولا بد من إيضاح الأجل إذا كان البيع إلى أجل؛ لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 282(19/158)
لا يجوز بيع الذهب بالذهب إلا يدا بيد
س 99: هناك أخ يسأل في أمر شراء الذهب يقول: إذا ذهب إنسان لشراء ذهب وكان قيمة ما شراه 1000 جنيه (ألف جنيه) ولم يكن معه سوى 950 جنيها فهل له أن يأخذ الذهب ويعود له بعد ذلك بالخمسين جنيه، أو يترك الذهب حتى يأتي بباقي المبلغ؟ أم يكون في ذلك ربا؟ وهل يجوز تأجيل باقي المبلغ لفترة؟ مع العلم أن سعر(19/158)
الذهب غير ثابت؟ وما الحكمة في ذلك؟ رجائي من الله ثم منكم التوضيح، والتفصيل في هذا الأمر لوقوع اختلاف كثير في مسائل الذهب؟ (1) وجزاكم الله خيرا.
ج: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالجواب عن السؤال المذكور هو أنه لا يجوز بيع الذهب بالذهب إلا يدا بيد، مثلا بمثل، سواء بسواء، كما صحت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما، ومن قال بخلاف ذلك فقوله باطل لا يجوز التعويل عليه؛ لمخالفته الأحاديث الصحيحة وإجماع أهل العلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
المفتي العام للمملكة العربية السعودية
__________
(1) فتوى صدرت من مكتب سماحته برقم 159\1\ش في27\1\1414هـ. ردا على رسالة أحد الإخوة المستفتين.(19/159)
من شرط بيع الذهب بالذهب التماثل والتقابض
س 100: يوجد عندي بعض المجوهرات القديمة ذهبت لبيعها في السوق وعرضتها على أحد التجار فأخذها وأعطاني بدلا عنها مجوهرات أخرى دون أن يأخذ مني زيادة أو يعطيني زيادة، فظننت بأن هذا الشيء لا يجوز، فقال لي: إن وزن ما أخذ مني وما أعطاني متكافئ فصدقته في ذلك أرجو إفتائي في هذه المعاملة، علما بأنه لا يمكنني الآن إعادة الذهب إليه، إذا كانت المعاملة غير جائزة (1) .
ج: إذا كانا قد تماثلا في الوزن مع التقابض في المجلس فلا حرج في ذلك، وإن كان أحدهما أجود من الآخر؛ لعموم الأحاديث الصحيحة في ذلك، وإن كان كاذبا فالإثم عليه.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص 353.(19/160)
الطريق الشرعي في
استبدال الذهب بالذهب
س 101: أتى رجل ليشتري مني ذهبا ويبيعني ذهبا، فكان ثمن ذهبه مائتي ريال مثلا وثمن ذهبي ثلاثمائة ريال، فأعطيته نقدا قيمة ذهبه ثم أخذت منه قيمة ذهبي ولم نفترق فهل يجوز هذا أم أنه لا بد أن نفترق بين البيعة والأخرى؟ (1)
ج: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد:
فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبادة ومن حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما وغيرهما أنه قال: «الذهب بالذهب مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى (2) » ، فإن أراد الإنسان أن يبيع ذهبا على
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في منزله وأجاب عنه بتاريخ 23\2\1406هـ.
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند أبي هريرة برقم (7131) وفي (مسند الأنصار) حديث أزواج النبي صلى الله عليه وسلم برقم (21825) ومسلم في (المساقاة) باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا برقم (1584) وبرقم (1588) .(19/161)
صائغ بذهب آخر أو على غيره فلا بد أن يكون الذهب متماثلا متساويا وزنا بوزن مثلا بمثل، فيبيع عليه ذهبه بثمن مستقل ويقبضه منه، ثم بعد هذا يشتري ذهبا آخر. أما أن يبيعه ذهبا بذهب والزيادة من النقود فلا يجوز، ولكن الطريق الشرعي أن يبيع الذهب الذي عنده الرديء أو الطيب، ثم يقبض الثمن عنه ثم بعد ذلك يشتري منه ما شاء من الذهب الآخر بقيمته من نقود، من ورق أو فضة يدا بيد، لا يتفرقان حتى يستلم كل واحد حقه، البائع يسلم الذهب، والمشتري يسلم النقود من الفضة، أو من الورق، أو العملة المعروفة دولارا، أو ريالا سعوديا أو غير ذلك.(19/162)
معنى حديث (نهى
عن بيع الذهب إلا مثلا بمثل)
س 102: ما معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع الذهب إلا مثلا بمثل أو وزنا بوزن (1) » يقول السائل فمن غير المعقول أن يبيع الإنسان جديدا بقديم ولا ينقص الوزن نرجو الإيضاح؟ (2)
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/51) ، موطأ مالك البيوع (1324) .
(2) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في منزله وأجاب عنه بتاريخ 23\2\1406هـ.(19/162)
ج: الرسول صلى الله عليه وسلم بين هذا فقال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (1) » . فإذا كان الذهب الذي عنده طيب والذهب الآخر رديء فليس ملزما أن يبيع هذا بمثل هذا، يبيع بشيء آخر، إما أن يبيع مثلا بمثل ويتسامح إذا كان ذهبه أطيب، أو الآخر يتسامح؛ وإنما صاحب الذهب الطيب يبيع بنقود أخرى مثل فضة أو بورق أو عملة أخرى يدا بيد، ثم يشتري حاجته من الذهب الأدنى، هذا هو الطريق الشرعي.
__________
(1) رواه مسلم في (المساقاة) باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا برقم (1587) .(19/163)
حكم شراء ذهب جديد بثمن الذهب القديم
س 103: المرأة تذهب إلى سوق الذهب ومعها ذهبها القديم وتقدمه للصائغ وتقول له: قدر لي ثمنه فإذا قدر لها الثمن قالت له: أعطني بثمن هذا الذهب ذهبا(19/163)
جديدا. فهل في هذا ما يتعارض مع شريعة الإسلام السمحاء؟
ج: هذه المعاملة لا تجوز؛ لأنه بيع ذهب بذهب من غير العلم بالتماثل، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الذهب بالذهب، مثلا بمثل سواء بسواء، وزنا بوزن يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى (1) » ، رواه مسلم في صحيحه بلفظ أكثر من هذا ولا يجوز أن تبيعه الذهب بذهب آخر؛ وزيادة لأن ذلك يمنع التماثل المشروط في صحة المعاملة.
وإنما الطريق الشرعي في مثل هذا أن تبيعه الذهب الذي معها بثمن مستقل تقبضه من صاحب الذهب الذي تشتري حاجتها منه، أو من غير معاملة مستقلة ليس فيها ربا.
ومن المعاملات الجائزة في مثل هذا أن تشتري منه السلعة الذهبية بعملة ورقية أو فضية يدا بيد، أو بمال آخر غير
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند أبي هريرة برقم (7131) وفي (مسند الأنصار) حديث أزواج النبي صلى الله عليه وسلم برقم (21825) ومسلم في (المساقاة) باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا برقم (1584) وبرقم (1588) .(19/164)
النقود ولو إلى أجل كالقهوة والهيل والأرز والسكر والثياب ونحو ذلك؛ لأنه ليس بين السلعة الذهبية وهذه الأموال ربا، والله ولي التوفيق.(19/165)
حكم الاتجار بالذهب
س 104: ما حكم من يتاجر بالذهب، أي يشتري ذهبا عندما ينخفض سعره ويبيعه عندما يزداد سعره؟ (1)
ج: لا حرج في بيع الذهب بالذهب إذا كان مثلا بمثل، وزنا بوزن، سواء بسواء، سواء أكان الذهب جديدا أم عتيقا، أم كان أحدهما جديدا والآخر عتيقا كما أنه لا حرج في بيع الذهب بالفضة، أو بالعملة الورقية إذا كان يدا بيدا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، وزنا بوزن، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (2) » ،
__________
(1) سؤال مقدم لسماحته من الأخ ع. م. س. ونشر في (المجلة العربية) لشهر جمادى الآخرة لعام 1412هـ.
(2) رواه مسلم في (المساقاة) باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا برقم (1587) .(19/165)
أخرجه مسلم في صحيحه، ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد رضي الله عنه: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز (1) » . متفق على صحته. وهذان الحديثان الصحيحان يدلان على أنه لا فرق بين شراء الذهب بالذهب للقنية أو بقصد الربح بعد تغير أسعاره إذا كان البيع والشراء على الوجه المذكور في الحديثين. وبالله التوفيق.
__________
(1) رواه البخاري في (البيوع) باب بيع الفضة برقم (2177) ومسلم في (المساقاة) باب الربا برقم (1584) .(19/166)
حكم بيع ريال الفضة بريال الورق متفاضلا
س 105: ما حكم بيع ريالات الفضة بريالات الورق متفاضلا؟ (1)
ج: في هذه المسألة إشكال وقد جزم بعض علماء العصر بجواز ذلك؛ لأن الورق غير الفضة، وقال آخرون: بتحريم ذلك؛ لأن الورق عملة دارجة بين الناس وقد أقيمت
__________
(1) سؤال مقدم لسماحته من الأخ ع. ر. وسبق نشره في هذا المجموع ج6 ص 400.(19/166)
مقام الفضة فألحقت بها في الحكم، أما أنا فإلى حين التاريخ لم يطمئن قلبي إلى واحد من القولين، وأرى أن الأحوط ترك ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك، إلى ما لا يريبك (1) » . وقوله عليه الصلاة والسلام: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه (2) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس (3) » .
وعليه فالأحوط في مثل هذا أن يبيع الفضة بجنس آخر كالذهب أو غيره، ثم يشتري بذلك الورق، وإن كان الذي بيده الورق يريد الفضة باع الورق بذهب أو غيره، ثم اشترى بذلك الفضة المطلوبة.
__________
(1) رواه الترمذي في (صفة القيامة) باب منه (ما جاء في صفة أواني الحوض) برقم (2518) والنسائي في (الأتربة) باب الحث على ترك الشبهات برقم (5711) .
(2) رواه البخاري في (الإيمان) باب فضل من استبرأ لدينه برقم (52) ومسلم في (المساقاة) باب أخذ الحلال وترك الشبهات برقم (1599) .
(3) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب تفسير البر والإثم برقم (2553) .(19/167)
حكم صرف عشرة ريالات ورق بتسعة ريالات معدن
س 106: ما حكم صرف عشرة ريالات ورق بتسعة ريالات معدن إذا كان يدا بيد؟ (1) . ج: كثير من أهل العلم يرى أنه لا يجوز؛ لأنها عملة واحدة كلها ريال لكن اختلفت المادة إحداهما: من الورق والأخرى: من الحديد، وذهب أهل العلم إلى الجواز لاختلاف الجنس، والأحوط ترك ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2) » . وقوله صلى الله عليه وسلم: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه (3) » ، وفق الله الجميع.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في برنامج (نور على الدرب) .
(2) رواه الترمذي في (صفة القيامة) باب منه (ما جاء في صفة أواني الحوض) برقم (2518) والنسائي في (الأشربة) باب الحث على ترك الشبهات برقم (5711) .
(3) رواه البخاري في (الإيمان) باب فضل من استبرأ لدينه برقم (52) ومسلم في (المساقاة) باب أخذ الحلال وترك الشبهات برقم (1599) .(19/168)
س 107: ما الحكم إذا أنزلت جميع العمل بمنزلة الذهب؟ (1)
ج: الذهب والفضة جميعا في منزلة هؤلاء وهؤلاء فلا يباع شيء منها بشيء متفاضلة إذا كانت تسمى عملة واحدة العملة الواحدة بمنزلة الذهب والفضة، العملة الواحدة لا يباع بعضها ببعض متفاضلة، والعملتان بمنزلة الذهب والفضة لا يباع منها شيء بشيء نسأة، فالعملتان بمنزلة الذهب والفضة، والعملة الواحدة بمنزلة الذهب والفضة.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته بعد شرح درس (بلوغ المرام) .(19/169)
النقود تقوم مقام الذهب والفضة
س 108: هل تقوم الدراهم النقدية مقام الذهب والفضة أو من جنس آخر؟ (1)
ج: المعروف عند أهل العلم في الوقت الحاضر أنها تقوم مقام النقدين؛ لأنها جعلت قيما للمبيعات وأثمانا لها تقوم مقامها في الربا.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته بعد شرح درس (بلوغ المرام) .(19/169)
معنى (من زاد أو استزاد)
س 109: ما معنى من زاد أو استزاد؟ (1)
ج: من زاد في سعر النقد بالثمن، أو طلب زيادة فقد أربى.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته بعد شرح درس (بلوغ المرام) .(19/170)
لا يجوز التحايل لأخذ الربا
س 110: بعض الناس يحتالون على الربا يقولون مثلا: نعطيك مائة دولار على أن تردها لي خمسمائة ريال مع أن المعروف عن سعر الدولار أقل من ذلك؟ (1)
ج: كل الحيل محرمة، الحيل التي يتوصل بها إلى المحرمات محرمة، أما إذا كان يدا بيد فلا بأس إذا كان هذا محتاجا دولارات حاضرة ويشتريها بأكثر يدا بيد، ما فيه بأس؛ لأنه محتاج لها مثل الذهب. الآن عندك ذهب يصرف في السوق الجنيه بخمسين ريالا أو بمائة ريال وأنت لست حريصا على صرف الذهب. وجاءك إنسان محتاج للذهب يريده مثلا صياغة لزوجته أو مهرا لزوجته أو كذا فقال: إن كان قد سيم
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته بعد شرح درس (بلوغ المرام) .(19/170)
منك في السوق بخمسين سوف آخذه منك بستين حيث إنني محتاج للذهب، هذا لا بأس به.(19/171)
بيع وشراء العملات
س 111: هل يجوز الاتجار في العملة من أجل الربح فمثلا: لو قمت بتصريف (300) دينار ليبي نحصل على (1000) دولار، والألف دولار في المصارف التونسية (800) دينار تونسي، وقمت بعد ذلك بتبديل (800) دينار تونسي مع (800) دينار ليبي، فنكون بذلك قد ربحنا (500) دينار ليبي هل هذا حلال أم حرام؟ (1)
ج: المعاملة بالبيع والشراء بالعمل جائزة، لكن بشرط التقابض يدا بيد إذا كانت العمل مختلفة، فإذا باع عملة ليبية بعملة أمريكية أو مصرية أو غيرهما يدا بيد فلا بأس، كأن يشتري دولارات بعملة ليبية يدا بيد فيقبض منه ويقبضه في المجلس، أو اشترى عملة مصرية أو انجليزية، أو غيرهما بعملة ليبية أو غيرها يدا بيد فلا بأس، أما إذا كانت إلى أجل فلا يجوز، وهكذا إذا لم يحصل التقابض في المجلس فلا
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في برنامج (نور على الدرب) .(19/171)
يجوز؛ لأنه والحال ما ذكر يعتبر نوعا من المعاملات الربوية، فلا بد من التقابض في المجلس يدا بيد إذا كانت العمل مختلفة، أما إذا كانت من نوع واحد فلا بد من شرطين: التماثل والتقابض في المجلس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (1) » ، أخرجه مسلم في صحيحه، والعمل حكمها حكم ما ذكر إن كانت مختلفة جاز التفاضل مع التقابض في المجلس،، وإذا كانت نوعا واحدا مثل دولارات بدولارات أو دنانير بدنانير، فلا بد من التقابض في المجلس والتماثل، والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه مسلم في (المساقاة) باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا برقم (1587) .(19/172)
شراء العملة وادخارها لغرض التجارة
س 112: هل يجوز أن يشتري شخص عملة ويدخرها ثم يبيعها إذا زاد سعرها؟ (1)
__________
(1) سؤال موجه إلى سماحته بعد تعليقه على ندوة الجامع الكبير بالرياض بعنوان: (الربا وخطره) .(19/172)
ج: أي سلعة اشتراها الإنسان ورصدها للبيع ثم باعها إذا زاد السعر فلا بأس بذلك إذا لم يكن في ذلك ضرر على المسلمين، وذلك بأن يشتري الجنيه الاسترليني أو المصري، أو الدينار العراقي، أو الدينار الأردني أو الجنيه السعودي، ثم يحفظه عنده، فإذا غلا باعه فليس في ذلك شيء، بشرط التقابض في المجلس، وهكذا ما يسمى بالاحتكار إذا لم يكن فيه ضرر على المسلمين في الطعام وغيره.(19/173)
بيع العملة بالعملة
س 113: معلوم أن المغترب العربي يعود إلى بلده وقد اشترى من العملات العالمية، مثل الدولار وجنيهات الذهب، أو حتى أي عملة غير عملة بلده ثم يعود لبلده ليبيعها، فيسعى وراء أعلى سعر يبيعه به، ومن أماكن البيع ما هو رسمي لدى الدولة، ومنها ما يسمى السوق السوداء، والسؤال هو: متى يكون هذا ربا فضل، وماذا ينبغي عندئذ؟ (1)
ج: العمل تختلف فإذا باع عملة بعملة أخرى يدا بيد
__________
(1) سؤال موجه لسماحته وأجاب عنه عندما كان رئيسا عاما لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.(19/173)
فهذا ليس فيه ربا؛ كأن يبيع الدولار بالجنيه المصري أو بالعملة اليمنية يدا بيد فلا بأس، وهكذا إذا باع أي عملة بعملة أخرى يدا بيد فإنه ليس في هذا ربا، أما إذا باع العملة بعملة أخرى إلى أجل؛ كأن يبيع الدولار بالعملة اليمنية إلى أجل، أو بالجنيه المصري أو الاسترليني أو الدينار الأردني أو العراقي إلى أجل، هذا يكون ربا لأنها منزلة منزلة الذهب والفضة فلا يجوز بيعها بعضها ببعض مؤجلا، بل لا بد من القبض في المجلس، أما ربا الفضل فإنه يقع بالعملة بنفسها إذا باع العملة بالعملة نفسها متفاضلا كأن يبيع الجنيه الاسترليني بجنيه استرليني وزيادة، كجنيه استرليني بجنيهين هذا ربا ولو كان يدا بيد، أو يبيع العملة السعودية عشرة ريالات بأحد عشر ريالا، هذا ربا فضل، وإذا كان بأجل كان ربا فضل ونسيئة جميعا، فيها نوعا الربا. وهكذا ما أشبه ذلك كالدولار بدولارين أو بثلاثة إلى أجل أو حالا يدا بيد هو ربا فضل، فإن كان إلى أجل كان ربا فضل ونسيئة. اجتمع فيه الأمران هذه أوجه الربا.(19/174)
114 - حكم التوكيل في الصرف بنسبة من الربح
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ خ. م. م. مدير مركز الدعوة والإرشاد بالأحساء سلمه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى الاستفتاء المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 424 في 27\1\1407هـ الوارد إلينا منكم برقم 27 وتاريخ 23\1\1407هـ، المتضمن سؤال أحد المواطنين الآتي نصه: رجل سلم لشركة الراجحي مائة ألف ريال ليشتري له بها ذهبا وفضة، علما أن الراجحي لا يتصرف في البيع إلا بأمر المالك، ودائما هو يتصل به على الهاتف حسب حالة السوق في الارتفاع والانخفاض يقول: بع إذا رأى النقد ارتفع، أو لا تبع إذا رأى السوق قد انخفض، علما أن للشركة نسبة في الربح وإذا أراد المالك استرجاع دراهم لا ترجع إليه ذهبا ولا فضة بل يسلم الراجحي له ريالات فقط، فما حكم هذه المسألة في شرعنا المطهر، أفتونا مأجورين؟ (1)
__________
(1) استفتاء مقدم من فضيلة الشيخ خ. م. م. وأجاب عنه سماحته برقم (658\2) في 7\3\1407هـ.(19/175)
وأفيدكم بأنه إذا كان الأمر كما ذكر فليس في هذه المعاملة شيء؛ لأن الراجحي وكيل عنه في البيع والشراء، أما إذا طلب حقه فإن كان حقه ذهبا أو فضة أو ريالات سلم له حقه، وفق الله الجميع لما فيه رضاه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(19/176)
115 - وجوب إنكار المعاملات الربوية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:. فمن الظواهر السيئة التي برزت في صحفنا الدعوة إلى الربا، ومن ذلك ما نشر بجريدة الجزيرة عدد (2263) وتاريخ 11 شوال عام 1398 هـ تحت عنوان "خططنا للضمان الممتاز" وكذلك ما جاء من الدعوة إلى الربا في الصحف والمجلات المحلية. وهذه المعاملات من الربا المحرم بالكتاب والسنة والإجماع، وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على أن أكل الربا من كبائر الذنوب ومن الجرائم المتوعد عليها بالنار واللعنة، قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (2)
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276(19/177)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2)
ففي هذه الآيات الدلالة الصريحة على غلظ تحريم الربا وأنه من الكبائر الموجبة للنار، كما أن فيها الدلالة على أن الله سبحانه وتعالى يمحق كسب المرابي ويربي الصدقات أي يربيها لأهلها ويمنيها حتى يكون القليل كثيرا إذا كان من كسب طيب. وفي الآية الأخيرة التصريح بأن المرابي محارب لله ورسوله وأن الواجب عليه التوبة إلى الله سبحانه وأخذ رأس ماله من غير زيادة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء (3) » .
وهذه المسألة التي كثرت الدعاية لها في الصحف والمجلات من المسائل التي بحثها مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية وهذا مضمون ما قرره: " وضع
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .(19/178)
الأموال في البنوك لأخذ فائدة ربوية بنسبة معينة يحصل عليها صاحب المال من البنك ونحوه ويدفعها له إما بعد مضي الأجل الذي يتفق عليه، وإما عند سحب المال فيدفع له ما اتفق عليه من الربا الذي سمي ربحا أو فائدة..... وهذا ربا صريح حرمه الله ورسوله وأجمع سلف الأمة الإسلامية على تحريمه، وتسميته وديعة أو باسم غير ذلك لا يغير من حكم الربا المحرم فيه شيئا فقد جمع ربا الفضل وربا النسيئة؛ لأنه بيع نقود بنقود نسيئة بزيادة ربح ربوي إلى أجل" انتهى.
والواجب على ولاة الأمور وعلى علماء الإسلام في كل مكان إنكار مثل هذه المعاملات الربوية والتحذير منها، كما أن الواجب على وزارة الإعلام منع نشر هذه المعاملات الربوية والدعاية إليها في جميع وسائل الإعلام عملا بقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) وقوله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) وقوله عز وجل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (3) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (4)
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة آل عمران الآية 104
(3) سورة المائدة الآية 78
(4) سورة المائدة الآية 79(19/179)
وقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3(19/180)
الهدية للدائن من الربا
س 116: اتفق حسن وعلي وهما صديقان في العمل على تمويل بناء عمارة سكنية، علي يقوم بموجبها على تمويل المشروع في حدود (300) ألف ريال، على أن يسدد حسن هذا المبلغ لعلي سنويا من موارده الخاصة، وقد وعد حسن عليا طواعية بإعطائه بدون قيد ولا شرط إيجار ثلاث شقق من العمارة هبة منه ثم إن المشروع انتهى وقد زاد المبلغ عن (300) ألف ريال إلى (400) ألف ريال. السؤال: هل المبلغ الذي تعهد به حسن المدين لدفعه لعلي الدائن من إيجار الثلاث الشقق طواعية وهبة هو حلال أم يكون فيه شيء من الربا؟ .
ج: الذي يظهر من حال الشخصين أن هذا المال الذي يدفعه حسن إلى علي إنما هو في مقابل إمهاله وإنظاره في حصته من نفقة العمارة ولو سمياه تطوعا وهدية، فالله يعلم ما في القلوب فلم يكن هذا المال مدفوعا من أجل صداقة أو قرابة، إنما دفع من أجل هذا العمل الذي عمله علي وهو كونه(19/181)
ينفق على العمارة حتى تكتمل ثم يكون الشيء بينهما (1) على ما شرطاه لكن يعطيه حسن في مقابل هذا العمل هذه الهدية التي يقول. فالمقصود أن هذا فيما يظهر ربا؛ لأنه إنما أقرضه من أجل هذه الهدية وهي ليست هدية في الحقيقة، إنما هي فائدة من أجل إنظاره وإمهاله، والله أعلم.
__________
(1) الظاهر أنه مقرض وليس شريكا.(19/182)
التحذير من التعامل بالربا وبيان سوء عاقبته
الحمد لله والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه. أما بعد:
فقد بلغني أن بعض الشركات تتعامل بالربا أخذا وعطاء، وكثر السائلون من المساهمين وغيرهم عن حكم الأرباح التي تحصل لهم نتيجة التعامل بالربا، ونظرا لما أوجب الله من النصيحة للمسلمين، ولوجوب التعاون على البر والتقوى رأيت تنبيه من يفعل ذلك على أن ذلك محرم، ومن جملة كبائر الذنوب كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (2) وقد جعل الله سبحانه ذلك محاربة له ولرسوله
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276(19/183)
صلى الله عليه وسلم حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2)
وثبت «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء (3) » والآيات والأحاديث في التحذير من الربا وبيان عواقبه الوخيمة كثيرة جدا، فالواجب على كل من يتعاطى ذلك من الشركات وغيرها التوبة إلى الله من ذلك وترك المعاملة به مستقبلا؛ طاعة لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وحذرا من العقوبات المترتبة على ذلك، وابتعادا عن الوقوع فيما حرم الله عملا بقوله سبحانه وتعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (5)
ومن صور الربا
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) رواه مسلم في (المسافاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .
(4) سورة النور الآية 31
(5) سورة التحريم الآية 8(19/184)
الفاشية بين الناس الإقراض والاستقراض بالفائدة ووضع الودائع بالفائدة؛ كخمسة في المائة وعشرة في المائة ونحو ذلك. وهذه المعاملات من جنس ربا الجاهلية المنوه عنه في الآيات المذكورة.
وأسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين للتوبة إليه من جميع الذنوب، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يصلح أحوالنا جميعا إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(19/185)
من صور المداينات المحرمة
س 118: احتجت إلى مبلغ من المال لإكمال بناء منزلي في إحدى مدن المملكة، وذهبت إلى شخص وطلبت منه أن يسلفني ما يستطيع من مال، فقال: أريد أن أعطيك سيارة - اسم أنني بعت عليك سيارة - فأعطاني (12000) ريال وسجلها عنده بواحد وعشرين ألف ريال، وحيث إنني لم أشاهد السيارة ولا أدري ما لونها، فقط سجلها بالورقة وقال: تسدد كل شهر ألف ريال، وحيث إنني رضيت بهذا العمل في نفس الوقت حين كنت مضطرا إلى المال وأنا الآن سددت (8500) ريال فقط، وبقي (12500) فهل يلزمني تسديد المبلغ الزائد عن رأس ماله؟ أرجو إفادتي جزاكم الله خيرا
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكره السائل، فهذه المعاملة باطلة، وقد اجتمع فيها ربا الفضل وربا النسيئة، وليس للذي دفع لك الدراهم إلا رأس ماله وهو اثنا عشر ألف ريال فقط؛(19/186)
لأنه لم يعطك السيارة، ولا باعها عليك حسب ما ذكرت، وإنما أعطاك دراهم بدراهم، وهذا منكر ظاهر وربا صريح فعليكما جميعا التوبة إلى الله من ذلك وعدم العود إلى مثله. نسأل الله أن يتوب عليكما.(19/187)
- حكم إعطاء الموظفين شهادة بالراتب للحصول على قرض من البنك
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أعرض لسماحتكم مشكلتي هذه التي تتلخص في أنني أحد الموظفين في إحدى الإدارات الحكومية ويتبع هذه الإدارة عدد من الإدارات الأخرى وعملي في هذه الإدارة في قسم التأدية والرواتب، وحدث أن تقدم أحد الموظفين التابعين لإحدى الإدارات الفرعية إلى أحد البنوك الربوية طالبا منه قرضا ومن ضمن مسوغات منح القرض أن يحضر شهادة من مرجعه موضحا بها راتبه، وهذه الشهادة لا تكتب إلا من قبل موظفي سجلات الرواتب وأنا واحد منهم، وعندما طلب مني أن أكتب له راتبه والبدلات الأخرى بادرته بالنصيحة بالتورع وعدم الإقدام على هذا القرض حيث إنه ربا ولكنه لم يقتنع بذلك وأصر على طلبه وأصريت أنا على موقفي بعدم منحه هذه الورقة ووصل(19/187)
الأمر إلى مدير الإدارة الذي بدوره أصر على أن أكتب هذه الورقة التي تحمل مقدار الراتب والبدلات التي يتقاضاها هذا المقترض، ورفضت وأوضحت أن هذه مساعدة على الربا إلا أنه أصر على موقفه حتى إنه هددني بالنقل من عملي هذا في حالة عدم كتابة هذه الورقة.
سؤالي هو: هل يحق له كمسئول أن يجبرني على ذلك؟ وهل إذا جاء أي موظف يطلب صافي الراتب والبدلات دون أن يشير إلى أي جهة يريد تقديم هذه المعلومات لها، ولكني أعلم أنه يريد بها أحد البنوك الربوية هل يحق لي الرفض كذلك؟
عليه أرجو إعطائي فتوى أستند عليها لإقناع من يتقدم بطلب هذه القروض وكذلك أقدمها إلى مدير الإدارة عله يتورع عن تقديم هذه الشهادات حيث إن الأمر ازداد سوءا وزاد عدد المتقدمين بطلب هذه الشهادات (1)
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
قد أحسنت فيما فعلت إذا كنت تعلم أن القرض المذكور ربوي. ولا شك أن الاقتراض من البنوك أو غيرها بزيادة على القروض الممنوحة من جملة أنواع الربا بإجماع المسلمين.
__________
(1) استفتاء مقدم من الأخ م. ع. ح. أجاب عنه سماحته في 5 \ 1 \ 1412 هـ.(19/188)
وليس لك ولا لغيرك من المسلمين المساعدة على المعاملات الربوية؛ لقول الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) وفق الله الجميع لما يرضيه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(19/189)
حكم إثبات المحاسب في الشركات التجارية عقود القروض الربوية في الدفاتر
س 120: أنا محاسب لدى شركة تجارية وتضطر هذه الشركة للإقراض من البنك قرضا ربويا، وتأتيني صورة من عقد القرض لإثبات مديونية الشركة، بمعنى هل أعتبر آثما بقيد العقد دون إبرامه؟
ج: لا يجوز التعاون مع الشركة المذكورة في المعاملات الربوية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه (1) » وقال: «هم سواء (2) » رواه مسلم، ولعموم قوله سبحانه: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (3)
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1598) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) .
(2) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .
(3) سورة المائدة الآية 2(19/190)
121 - حكم إصدار سندات اقتراض بربح
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: (1)
فقد اطلعت على إعلان في صحيفة الشرق الأوسط الصادرة في يوم 13\ 8 \ 1409 هـ وفيها إعلان عن إصدار خزينة إحدى الدول العربية سندات اقتراض بربح أحد عشر واثني عشر في المائة (11% و 12 %) لسنوات مبينة في الإعلان. ولقد كدرني ذلك كثيرا ورأيت أن من واجب النصح لله ولعباده بيان حكم هذا الاقتراض فأقول:
قد دل الكتاب العزيز والسنة المطهرة على تحريم الربا بنوعيه: ربا الفضل، وربا النسيئة، تحريما شديدا، وأبان الله سبحانه في كتابه الكريم الوعيد على ذلك فقال عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (3) وذكر سبحانه أن الربا
__________
(1) نشرت في مجلة (الدعوة) العدد (1186) وتاريخ 30 \ 8 \ 1409 هـ.
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 276(19/191)
محاربة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز (3) » متفق على صحته من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال عليه الصلاة والسلام: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (4) » أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. والأحاديث في هذا الباب كثيرة، ولا شك أن المعاملات الورقية لها حكم المعاملات بالذهب والفضة؛ لأنها حلت محلها في قيم المقومات وثمن المبيعات، فلا يجوز بيع عملة
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) رواه البخاري في (البيوع) باب بيع الفضة برقم (2177) ومسلم في (المساقاة) باب الربا برقم (1584) .
(4) رواه مسلم في (المساقاة) باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا برقم (1587) .(19/192)
منها بعملة أخرى نسيئة ولا اقتراض شيء منها بفائدة من جنسها ولا من غير جنسها إلا يدا بيد مثلا بمثل إذا كانت عملة واحدة، فإن اختلفت العمل كالدولار بالجنيه الاسترليني فلا بد من التقابض في المجلس، ولا يشترط التماثل لاختلاف الجنس.
وقد أجمع العلماء على أن كل قرض شرطت فيه فائدة أو اتفق الطرفان فيه على فائدة فهو ربا.
فنصيحتي للخزينة المذكورة ترك هذه المعاملة والحذر منها؛ لكونها معاملة ربوية. ونصيحتي لكل مسلم ألا يدخل فيها لكونها معاملة محرمة مخالفة للشرع المطهر؛ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة. الدين النصيحة. الدين النصيحة. قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) »
وأسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا حكاما ومحكومين للعمل بشريعته والحذر مما يخالفها إنه جواد كريم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
الرئيس العالم لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) حديث تميم الداري برقم (16499) ومسلم في (الإيمان) باب بيان أن الدين النصيحة برقم (55) .(19/193)
حكم الصدقة بأموال الربا
س122: نحن من العمال من إحدى الدول الإسلامية نعمل بالمدينة المنورة ونسأل عن حكم الانتفاع بأموال الربا من البنوك:
أولا: هل يجوز لنا أخذ الربا من تلك البنوك ونتصدق به على الفقراء وبناء دور الخير بدل تركه لهم؟
ثانيا: إذا كان هذا غير جائز فهل يجوز وضع النقود في تلك البنوك لعلة ضرورة حفظه من السرقة والضياع بدون استلام الربا مع العلم بأن البنك يشغله ما دام فيه؟
وسدد الله خطاكم ونفع بكم وتولاكم لما يحبه ويرضاه
ج: إذا دعت الضرورة إلى الحفظ عن طريق البنوك الربوية فلا حرج في ذلك إن شاء الله؛ لقوله سبحانه: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) ولا شك أن التحويل عن طريقها من الضرورات العامة في هذا العصر، وهكذا الإيداع فيها
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119(19/194)
للضرورة بدون اشتراط الفائدة، فإن دفعت إليه الفائدة من دون شرط ولا اتفاق، فلا بأس بأخذه لصرفها في المشاريع الخيرية كمساعدة الفقراء والغرماء ونحو ذلك لا ليمتلكها، أو ينتفع بها بل هي في حكم المال الذي يضر تركه للكفار بالمسلمين مع كونه من مكسب غير جائز، فصرفه فيما ينفع المسلمين أولى من تركه للكفار يستعينون به على ما حرم الله، فإن أمكن التحويل عن طريق البنوك الإسلامية أو من طرق مباحة لم يجز التحويل عن طريق البنوك الربوية، وهكذا الإيداع إذا تيسر في بنوك إسلامية أو متاجر إسلامية لم يجز الإيداع في البنوك الربوية لزوال الضرورة، ولا يجوز للمسلم أن يعامل الكفار ولا غيرهم معاملة ربوية ولو أراد عدم تملك الفائدة الربوية بل أراد صرفها في مشاريع خيرية؛ لأن التعامل بالربا محرم بالنص والإجماع فلا يجوز فعله ولو قصد عدم الانتفاع بالفائدة لنفسه، والله ولي التوفيق.(19/195)
حكم التعامل مع أرباب الأموال المحرمة
س 123: أيصح لشخص أن يتعامل مع من يعرف أن ماله حرام أم لا تزر وازرة وزر أخرى؟ (1)
__________
(1) سؤال موجه إلى سماحته بعد درس ألقاه في المسجد الحرام في 28\12\1418 هـ.(19/195)
ج: إذا كان يعرف أن ماله حرام لا يعامله، أما إذا كان مخلوطا فله أن يعامله مثل ما عامل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود، واليهود أموالهم مخلوطة، عندهم الربا وعندهم العقود الباطلة والنبي صلى الله عليه وسلم عاملهم، اشترى منهم وأكل طعامهم وأباح الله لنا طعامهم وعندهم ما عندهم، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} (1) {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (2) فعندهم بيوع جائزة وعندهم بيوع محرمة وعندهم أكساب مباحة وأكساب محرمة، فالذي ماله مخلوط لا بأس أن يعامل، أما إذا علمت أن هذا المال محرم فلا تشتر منه ولا تبع عليه في هذا المال المحرم.
__________
(1) سورة النساء الآية 160
(2) سورة النساء الآية 161(19/196)
124 - حكم أكل الأولاد والأقارب والضيوف من الأموال الربوية
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء حفظه الله ووفقه لك خير آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
امرأة زوجها يعمل مديرا لبنك ربوي، وهي موظفة، والسؤال:
1 - هل يستجاب دعاء زوجة آكل الربا؟ علما بأنها تأكل هي وأولادها من ماله وذلك ليس لحاجتها الماسة، فكما سبق أن أشير إلى أنها موظفة..... ولكنها تخشى من فساد العلاقات بينها وبينه؛ لأنه يتضايق إذا رفضت الأكل أو الشراء من ماله؟
2 - هل يجوز للأقارب زيارتهم والأكل من أكلهم؟ أي زيارة المرابي والأكل من ماله؟
3 - هل يجب على الزوجة إخبار ضيوفها أن المال مال ربا؟ وهل تأثم إذا أكل عندها غير عالم بحال زوجها ومصدر ماله؟(19/197)
4 - وما حكم الأموال التي مصدرها هذا الطريق؟ وهل تكون تجارته منها صالحة وصحيحة لا سيما إذا أراد أن يترك العمل في البنك استنادا على ما عنده من مشاريع أسسها من هذه الأموال أم أن هذه المشاريع تكون كلها حراما نظرا لأن أصلها مال ربوي؟
5 - هل تورث أمواله أم لا يحق لأولاده وزوجته منها شيء نظرا لأنها ربوية؟ وماذا يفعلون بها أي بأمواله بعد موته؟
6 - إذا كان عالما بالحكم ومع ذلك أصر على أكل الربا فهل يستدعي ذلك لطلب الطلاق منه؟ أفتونا وفقكم الله وفتح عليكم وجعلكم ذخرا للإسلام والمسلمين.... نرجو إيضاح الإجابة وذكرها بالتفصيل إذ إن البلاء شديد؟ يسر الله لنا أمورنا وأعاننا على اتباع شرعه ونهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1)
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
الواجب نصيحته وتحذيره من البقاء في العمل المذكور؛ لأن مباشرة الأعمال الربوية من أكبر الكبائر، ومن أسباب عدم قبول الدعاء والصدقة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله
__________
(1) أسئلة مقدمة من الأخت ن. م. ص. وقد أجاب عنها سماحته برقم (287 \خ) في 12 \ 2 \ 1415 هـ.(19/198)
طيب لا يقبل إلا طيبا (1) » إلى أن قال في آخر الحديث ثم ذكر: «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك (2) » ونوصيك بأن تكون نفقة البيت من كسبك أنت ما دام زوجك في العمل المذكور وفق الله الجميع لما يرضيه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1015) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (2/328) ، سنن الدارمي الرقاق (2717) .
(2) رواه مسلم في (الزكاة) باب قبول الصدقة من الكسب الطيب برقم (1015) .(19/199)
علاج المريض لا يسوغ التعامل بالربا
س 125: رجل عنده ثلاثون ألف ريال، وعنده ولد مريض قرر الأطباء إجراء عملية له تكلفتها ستون ألف ريال، ولم يجد من يقرضه المبلغ المتبقي، ولم يجد طريقة أخرى فاستثمر المبلغ الثلاثون ألف ريال في الربا فأصبح ستين ألف ريال فعالج ابنه به وهو يقول: الضرورات تبيح المحذورات. فما رأي الدين في هذا؟ (1)
ج: تجب عليه التوبة إلى الله من المعاملة الربوية؛ لأن الحاجة لا تبيح المعاملات الربوية، ولا يسمى مثل هذا الواقع ضرورة؛ لأن العلاج للمريض مستحب وليس بواجب، ولأن في إمكانه أن يستدين بالقرض أو بشراء سلعة بثمن مؤجل، ثم يبيعها بثمن معجل أقل من المؤجل إلى غير ذلك من الأسباب التي تعينه على قضاء حاجته، نسأل الله أن يوفقنا وإياه للتوبة النصوح، والله الموفق.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من جريدة (المسلمون) .(19/200)
حكم الاقتراض بالفائدة لسداد الديون
س 126: أنا موظف مرتبي حوالي 3048 ريال ومتزوج منذ عام تقريبا، وعلي ديون تصل إلى 53 ألف ريال وكثيرا ما يحرجني أصحاب الديون ولا أجد ما أسدد لهم، فهل يجوز لي أن أقترض من أحد البنوك التي تقرض بأخذ فائدة؟ علما بأن القرض لا يكفي نصف ديوني، أفيدوني جزاكم الله خيرا
ج: لا يجوز للمسلم أن يقترض من البنك ولا غيره قرضا بالفائدة؛ لأن ذلك من أعظم الربا، وعليه أن يأخذ بالأسباب المباحة في طلب الرزق، وقضاء الدين. وفيما أباح الله من المعاملات وأنواع الكسب ما يغني المسلم عما حرم الله عليه، والواجب على أصحاب الدين أن ينظروك إلى ميسرة إذا عرفوا إعسارك؛ لقول الله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) وصح
__________
(1) سورة البقرة الآية 280(19/201)
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أنظر معسرا أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (1) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة (2) »
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكيين) حديث أبي اليسر الأنصاري كعب بن عمرو رضي الله عنه برقم (15095) ومسلم في (الزهد والرقائق) باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر برقم (3014) .
(2) رواه مسلم في (الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار) باب فضل الاجتماع على ذكر القرآن برقم (2699) .(19/202)
حكم صرف الراتب قبل وقته مقابل مبلغ من المال
س 127: هل يجوز صرف شيك الراتب للموظفين قبل تاريخ صرفه لدى بنوك أخرى مقابل عشرين ريالا لقاء الصرف؟ جزاكم الله خيرا (1)
ج: لا يجوز صرف هذا الشيك على هذا الوجه؛ لما في ذلك من الربا.
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1659) في 26 جمادى الأولى 1419 هـ.(19/202)
الرد على ما أثير حول الفوائد المصرفية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيلهم، واتبع هداهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد اطلعت على ما نشرته (مجلة منار الإسلام) في عددها الثالث الصادر في ربيع الأول من عام 1404 هـ السنة التاسعة من إعلان إحدى دوائر المحكمة الاتحادية العليا في إحدى الدول العربية بعض المبادئ بخصوص الفوائد المصرفية، والتقاضي بشأنها أمام المحاكم، وما تضمنته من أن الفائدة البسيطة للقرض تجوز استثناء من أصل تحريم الربا إذا دعت الحاجة إليها واقتضتها المصلحة، واعتبار أن البنوك في حالتها الراهنة ووفقا لأنظمتها العالمية تتطلبها حاجة العباد، ولا تتم مصالح معاشهم إلا بها، وأن المحاكم لا تملك الامتناع من القضاء بالفوائد بمقولة: إن الشريعة تحرم الفائدة، وأنه ليس للقاضي في حالة الفائدة الاتفاقية إلا أن يحكم بها، وأخيرا القول بجواز الفائدة البسيطة ما دامت في(19/203)
حدود 12 % في المسائل التجارية و 9 % في غيرها.
واعتبارهم أن هذه الفوائد في تلك الحالات لا تتنافى مع الشريعة الإسلامية التي تلتزم بها الدولة المسلمة.
وإنني أستغرب جدا هذه الخطوة الجريئة على إعلان هذه المبادئ الغريبة التي تحمل انتهاكا لحرمات الله وتعاليم شريعته السمحة المعلومة في دين الإسلام، من نصوص القرآن الصريحة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وخاصة أنها أعلنت في ظل دولة إسلامية يرأسها رجل مسلم، وفي هذه البادرة الخطيرة افتراء على الإسلام، وتحليل لما هو من أشد المحرمات في شريعة الله.
ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى قد حرم الربا بجميع أشكاله وألوانه في كتابه العزيز في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (2) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3)
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276
(3) سورة آل عمران الآية 130(19/204)
وقال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (3)
وهذا الأسلوب الشديد يدل على أن الربا من أكبر الجرائم وأفظعها، وأنه من أعظم الكبائر الموجبة لغضب الله والمسببة لحلول العقوبات العاجلة والآجلة، قال سبحانه وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) وقال عليه الصلاة والسلام: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله: وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (5) » ومعنى المو بقات: المهلكات. وقال صلى
__________
(1) سورة الروم الآية 39
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة النور الآية 63
(5) رواه البخاري في (الوصايا) باب قول الله: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) برقم (2767) وفي (الحدود) باب رمي االمحصنات برقم (6857) ومسلم في (الإيمان) باب بيان الكبائر وأكبرها برقم (89) .(19/205)
الله عليه وسلم: «الربا اثنان وسبعون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه (1) » وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء (2) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء (3) » . فهذه الآيات والأحاديث وغيرها تؤكد حرمة الربا قليله وكثيره. وتبين خطره على الفرد والمجتمع، وأن من تعامل به أو تعاطاه فقد أصبح محاربا لله ورسوله، وليس بين جميع أهل العلم خلاف في تحريم ذلك لصراحة النصوص فيه.
وكيف يجيز المسلم الغيور على دينه، الذي يؤمن بأن هذا الإسلام العظيم جاء دينا شاملا كاملا متضمنا جلب المصالح ودرء المفاسد، صالحا للتطبيق في كل العصور
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (7151) ج7 ص 158ط. دار الحرمين بالقاهرة.
(2) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2176، 2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584، 1584، 1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240، 1241) ، سنن النسائي البيوع (4561، 4565) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4، 3/47، 3/51، 3/53) ، كتاب باقي مسند المكثرين (3/61) ، باقي مسند المكثرين (3/73، 3/81، 3/9) ، باقي مسند الأنصار (5/314) ، موطأ مالك البيوع (1324) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(19/206)
والأمكنة، كيف يجيز لنفسه إباحة الربا والتعامل به.
وإن هذه المبادئ التي أعلنتها إحدى دوائر المحكمة الاتحادية العليا في تلك الدولة؛ لتحليل ما حرمه الله ورسوله، بحجة قيام الحاجة إليه، فيها جرأة على الله، ومحادة لأحكامه وقول عليه بغير علم، وحاجة الناس إلى المصارف لا تكون إلا بسيرها على أسس من الشريعة الإسلامية، بإحلال ما أحله الله وتحريم ما حرمه، فإذا كانت خلاف ذلك فهي شر وفساد، وأحكام شريعة الله ثابتة وقطعية؛ لأنها صدرت من عزيز حكيم يعلم شئون عباده وما يصلح أحوالهم، ولا يجوز لنا تحكيم الرأي أو الهوى أو ما أشبههما في تحليل حرام أو تحريم حلال.
وامتثالا لأمر الله ورسوله في وجوب التناصح بين المسلمين، وأداء لما يجب على مثلي من البيان والتحذير عما حرمه الله ورسوله، جرى تحرير هذه الكلمة الموجزة، وأسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، والنصح لله ولعباده والحذر من كل ما يخالف شرعه المطهر، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/207)
129 - تكذيب ما نسب إلى سماحته من القول بجواز الفوائد الربوية للضرورة
تكذيب خبر نشر في صحيفة الأهرام الصادرة في 18\2\1411 هـ (1) .
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، أما بعد:
فقد اطلعت على ما نشرته صحيفة الأهرام الصادرة في 18\ 2\ 1411 هـ، نقلا عن معالي وزير الأوقاف المصري بأنني أفتيت بجواز التعامل مع البنوك بالفوائد من أجل الضرورة. انتهى المقصود.
ومن أجل إيضاح الحق للقراء وغيرهم أعلن أن هذا النقل لا صحة له. وقد صدرت مني فتاوى كثيرة نشرت في الصحف المحلية وغيرها بتحريم الفوائد البنكية المعروفة؛ لأن الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة قد دلت على ذلك. وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا لكل ما
__________
(1) صدر من مكتب سماحته عندما كان رئيسا عاما لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.(19/208)
يوافق شرعه المطهر، ويعيذهم من أسباب غضبه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
والرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
في المملكة العربية السعودية(19/209)
حكم المعونة من البنك مقابل الإيداع
س 130: أحد البنوك عرض على المسئولين عن صندوق الطلبة حفظ أموال الصندوق مقابل ما يسميه البنك معونة وهي عبارة عن مبلغ من المال يتم إعطاؤه دون مقابل سوى حفظ المبلغ ويقوم البنك بدوره بتشغيله واستثمارة، فهل يجوز إيداع المبلغ في ذلك في ذلك البنك؟
ج: هذا العمل لا يجوز؛ لأنه عن الربا، وحقيقته أن البنك يتصرف في أموال الصندوق بفائدة معلومة يسلمها للصندوق، وإنما سماها البنك (معونة) تلبيسا وخداعا وتغطية للربا. والربا ربا وإن سماه الناس ما سموه، والله المستعان.
لا يجوز الإيداع في البنوك بفائدة من أجل دفع الضرائب
س: 131: الأخ الذي رمز لاسمه بـ أ. ع. من اللاذقية(19/210)
في سوريا يقول في سؤاله: هل يجوز أن أضع وديعة في البنك بفائدة؛ من أجل أن أدفع الضرائب المترتبة علي من تلك الفائدة؟ أرجو التكرم بالإجابة وجزاكم الله خيرا (1) .
ج: لا يجوز هذا العمل؛ لأن هذه المعاملة معاملة ربوية لا يجوز فعلها؛ لقول الله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) والله ولي التوفيق.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته من (المجلة العربية) .
(2) سورة البقرة الآية 275(19/211)
الواجب على المسلمين إنشاء بنوك إسلامية
س 132: ما رأيكم في البنك الإسلامي الذي لا يتعامل بالربا؟
ج: الواجب على الحكومات الإسلامية وعلى تجار المسلمين أن ينشئوا بنوكا إسلامية حتى يسلم المسلمون من الربا.(19/211)
133 - مقدمة لمقالة الدكتور محمد بن أحمد الصالح في الرد على الدكتور إبراهيم الناصر (1)
تقديم: الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فقد قرأت هذا المقال القيم المتضمن الرد على ما كتبه الدكتور إبراهيم بن عبد الله الناصر في موضوع الربا تحت عنوان: (موقف الشريعة الإسلامية من المصارف) الصادر من فضيلة الدكتور محمد بن أحمد بن صالح، فألفيته قد أعطى المقام حقه، واستوفى الأدلة الدالة على بطلان ما حاوله الدكتور إبراهيم من تحليل أنواع الربا ما عدا مسألة واحدة، وهي: ما إذا أعسر المدين واتفق مع الدائن على التأجيل بفائدة معلومة. ولا ريب أن ما حاوله الدكتور إبراهيم في بحثه المذكور من تحليل أنواع الربا ما عدا المسألة المذكورة، قد حاد فيه عن الصواب بشبه واهية أوضح الدكتور محمد في مقاله المذكور بطلانها وكشف زيغها. فجزاه الله خيرا وضاعف مثوبته وجعلنا وإياه وسائر إخواننا من أنصار الحق.
__________
(1) نشر في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد (18) عام 1407هـ.(19/212)
ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة الصحيحة علم تحريم ربا الفضل وربا النسيئة في جميع الصور التي تتعامل بها البنوك وبعض التجار الذين لا يتحرجون من المعاملات الربوية. وقد توعد الله المرابين بأشد الوعيد فقال سبحانه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (2) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (4) وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء (5) » .
خرجه مسلم في الصحيح.
والأحاديث في تحريم الربا بأنواعه كلها كثيرة جدا، فالواجب على كل مسلم أن يحذر المعاملات الربوية وأن
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .(19/213)
يبتعد عنها وألا يغتر ببعض من زلت قدمه في تحليلها أو التساهل فيها.
ونسأل الله أن يوفق المسلمين لكل خير، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يوفق أخانا الدكتور محمد بن أحمد للمزيد من العلم النافع والعمل الصالح، وأن يشكر له سعيه ويجزل مثوبته.
وأن يهدي الدكتور إبراهيم بن عبد الله الناصر للحق، وأن يلهمه رشده ويعيذه من شر نفسه إنه جواد كريم. وصلي الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(19/214)
رد على مقالة الدكتور إبراهيم بن عبد الله الناصر
حول موقف الشريعة الإسلامية من المصارف
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد:
فقد اطلعت على البحث الذي أعده الدكتور إبراهيم بن عبد الله الناصر تحت عنوان (موقف الشريعة الإسلامية من المصارف) فألفيته قد حاول فيه تحليل ما حرم الله من الربا بأساليب ملتوية وحجج واهية وشبه داحضة، ورأيت أن من الواجب على مثلي بيان بطلان ما تضمنه هذا البحث ومخالفته لما دل عليه الكتاب والسنة وإحماع علماء الأمة من تحريم المعاملات الربوية، وكشف الشبهة التي تعلق بها، وبيان بطلان ما استند إليه في تحليل ربا الفضل وربا النسيئة ما عدا مسألة واحدة وهي ما اشتهر من ربا الجاهلية من قول الدائن للمدين المعسر عند حلول الدين: إما أن تربي وإما أن تقضي. فهذه المسألة عند إبراهيم المذكور هي المحرمة من مسائل الربا(19/215)
وما سواها فهو حلال ومن تأمل كتابته اتضح له منها ذلك وسأبين ذلك إن شاء الله بيانا شافيا يتضح به الحق ويزهق به الباطل والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله. وإلى القارىء بيان ذلك.
أولا: قال إبراهيم في أول بحثه ما نصه: "يمكن القول أنه لن تكون هناك قوة إسلامية بدون قوة اقتصادية، ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك، ولن تكون هناك بنوك بلا فوائد".
والجواب: أن يقال: يمكن تسليم المقدمة الأولى؛ لأن المسلمين في كل مكان يجب عليهم أن يعنوا باقتصادهم الإسلامي بالطرق التي شرعها الله سبحانه؛ حتى يتمكنوا من أداء ما أوجب الله عليهم، وترك ما حرم الله عليهم، وحتى يتمكنوا بذلك من الإعداد لعدوهم وأخذ الحذر من مكائده. قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} (3)
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة المائدة الآية 1
(3) سورة البقرة الآية 282(19/216)
إلى قوله سبحانه: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} (1) الآية، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) الآية. وقال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (3) الآية. والآيات في هذا المعنى كثيرة وهي مشتملة على توجيه الله سبحانه لعباده إلى التعاون على كل ما ينفعهم في أمر دينهم ودنياهم وأمرهم بالتعاون على البر والتقوى، وتحذيرهم من التعاون على الإثم والعدوان، كما أمرهم سبحانه بالوفاء بالعقود، وإثبات حقوقهم بالطرق الشرعية، وحذرهم من أكل أموالهم بالباطل، وأمرهم سبحانه بالإعداد لعدوهم ما استطاعوا من قوة، وبذلك يستقيم اقتصادهم الإسلامي، ويحصل بذلك تنمية الثروات وتبادل المنافع والوصول إلى حاجاتهم ومصالحهم بالوسائل التي شرع الله لهم، كما حذرهم سبحانه في آيات كثيرات من الكذب والخيانة، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق،
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة النساء الآية 29
(3) سورة الأنفال الآية 60(19/217)
ومن أكل أموالهم بينهم بالباطل والإدلاء بها إلى الحكام؛ ليميلوا عن الحق إلى الحكم بالجور، وعظم سبحانه شأن الأمانة وأمر بأدائها في قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (1) وقوله سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} (2) الآية. وحذرهم عز وجل من خيانة الأمانة في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) ووصف عباده المؤمنين في سورة المؤمنون وفي سورة المعارج بأنهم يرعون الأمانات والعهود وذلك في قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (4) فمتى استقام المسلمون على هذا التعليم والتوجيه، وتواصوا به وصدقوا في ذلك فإن الله عز وجل يصلح لهم أحوالهم، ويبارك لهم في أعمالهم وثرواتهم، ويعينهم على بلوغ الآمال والسلامة من مكائد الأعداء، وقد أكد هذه المعاني سبحانه في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (5) وفي قوله سبحانه:
__________
(1) سورة النساء الآية 58
(2) سورة الأحزاب الآية 72
(3) سورة الأنفال الآية 27
(4) سورة المعارج الآية 32
(5) سورة التوبة الآية 119(19/218)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (2) وقال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (3) الآية، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (4) والآيات في هذا أكثر من أن تحصر.
وأما المقدمتان الثانية والثالثة وهما قوله: "ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك، ولن تكون هناك بنوك بلا فوائد" فهما مقدمتان باطلتان والأدلة الشرعية التي قدمنا بعضها وما درج عليه المسلمون من عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم إلى أن أنئشت البنوك، كل ذلك يدل على بطلان هاتين المقدمتين، فقد استقام اقتصاد المسلمين طيلة القرون الماضية وهي أكثر من ثلاثة عشر قرنا بدون وجود بنوك، وبدون فوائد ربوية، وقد نمت
__________
(1) سورة النساء الآية 135
(2) سورة المائدة الآية 8
(3) سورة الأنفال الآية 60
(4) سورة النساء الآية 71(19/219)
ثرواتهم واستقامت معاملاتهم وحصلوا على الأرباح الكثيرة والأموال الجزيلة بواسطة المعاملات الشرعية، وقد نصر الله المسلمين في عصرهم الأول على أعدائهم، وسادوا غالب المعمورة، وحكموا شرع الله في عباده، وليس هناك بنوك ولا فوائد ربوية، بل الصواب عكس ما ذكره الكاتب إبراهيم وهو أن وجود البنوك والفوائد الربوية صار سببا لتفرق المسلمين وانهيار اقتصادهم، وظهور الشحناء بينهم وتفرق كلمتهم إلا من رحمه الله؛ وما ذاك إلا لأن المعاملات الربوية تسبب الشحناء والعداوة وتسبب المحق ونزع البركة وحلول العقوبات كما قال عز وجل: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (1) ولأن ما يقع بين الناس بسبب الربا من كثرة الديون ومضاعفتها بسبب الزيادة المتلاحقة، كل ذلك يسبب الشحناء والعداوة مع ما ينتج عن ذلك من البطالة وقلة الأعمال والمشاريع النافعة؛ لأن أصحاب الأموال يعتمدون في تنميتها على الربا ويعطلون الكثير من المشاريع المفيدة النافعة من أنواع الصناعات وعمارة الأرض وغير ذلك من أنواع الأعمال المفيدة، وقد شرع الله لعباده أنواعا من المعاملات يحصل بها تبادل المنافع ونمو الثروات والتعاون على كل ما ينفع المجتمع ويشغل الأيدي العاطلة، ويعين الفقراء على كسب الرزق الحلال والاستغناء عن
__________
(1) سورة البقرة الآية 276(19/220)
الربا والتسول وأنواع المكاسب الخبيثة، ومن ذلك المضاربات وأنواع الشركات التي تنفع المجتمع، وأنواع المصانع؛ لما يحتاج إليه الناس من السلاح والملابس والأواني والمفارش وغير ذلك، وهكذا أنواع الزراعة التي تشغل بها الأرض ويحصل بها النفع العام للفقراء وغيرهم؛ وبذلك يعلم كل من له أدنى بصيرة أن البنوك الربوية ضد الاقتصاد السليم، وضد المصالح العامة، ومن أعظم أسباب الانهيار والبطالة، ومحق البركات وتسليط الأعداء وحلول العقوبات المتنوعة والعواقب الوخمة، فنسأل الله أن يعافي المسلمين من ذلك، وأن يمنحهم البصيرة والاستقامة على الحق.
ثانيا: قال إبراهيم: "إن وظيفة الجهاز المصرفي في اقتصاد ما تشبه إلى حد قريب وظيفة القلب بالنسبة لجسم الإنسان تماما ... إلخ.
والجواب: ليس الأمر كما قال بل يمكن أن يقوم الجهاز المصرفي بما ذكره الكاتب من غير حاجة إلى الربا ولا ضرورة إليه، كما قام اقتصاد المسلمين في عصورهم الماضية وفي عصرهم الأول الذهبي بأكمل اقتصاد وأطهره من دون وجود بنوك ربوية كما تقدم، وقد نصر الله بهم دينه، وأعلى بهم كلمته، وأدر عليهم من الأرزاق والغنى، وأخرج لهم من الأرض ما كفاهم وأغناهم وأعانهم على جهاد عدوهم وحماهم به من(19/221)
الحاجة إلى ما حرم الله عليهم، ومن درس تاريخ العالم الإسلامي من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما قبل إنشاء المصارف الربوية علم ذلك يقينا، وإنما يؤتى المسلمون وغيرهم في اقتصادهم، ونزع البركات مما في أيديهم بأسباب انحرافهم عن شريعة الله، وعدم قيامهم بما أوجب الله عليهم، وعدم سيرهم على المنهج الذي شرعه الله لهم فيما بينهم من المعاملات، وبذلك تنزل بهم العقوبات، وتحل بهم الكوارث بأسباب أعمالهم المخالفة لشرع الله كما قال عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) وقال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (2) وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (3) {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (4) الآية، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (5) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (6) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (7)
__________
(1) سورة الشورى الآية 30
(2) سورة الأعراف الآية 96
(3) سورة المائدة الآية 65
(4) سورة المائدة الآية 66
(5) سورة الطلاق الآية 2
(6) سورة الطلاق الآية 3
(7) سورة الطلاق الآية 4(19/222)
ثالثا: ذكر إبراهيم في بحثه ما نصه: والسؤال الذي لم نعثر له على جواب حتى الآن؛ هو كيف ينظر فقهاء المسلمين إلى الظاهرة الاقتصادية للفائدة؟ ولماذا يعتبر القرض بالفائدة محرما في نظرهم؟ ... إلخ
والجواب: عما ذكره هنا إلى نهاية بحثه المشار إليه أن يقال: إنما نظر الفقهاء من سائر علماء المسلمين في أمر الفائدة، وعلقوا بها التحريم؛ لأن الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أناطت بها التحريم، وهي أحاديث مستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا مغمز فيها، وهي تدل دلالة صريحة قطعية على أن بيع المال الربوي بجنسه مع أي زيادة، ولو قلت ربا صريح محرم ولكن الكاتب إبراهيم المذكور هداه الله وألهمه رشده أعرض عنها كلها ولم يلتفت إليها، وإنما تكلم على الربا المجمل الوارد في القرآن الكريم، وحاول بكل ما استطاع أن يحصر الربا في مسألة واحدة وهي: ما إذا أعسر المدين واتفق مع الدائن على إمهاله بفائدة معينة. هذا ملخص بحثه، وما سوى ذلك فقد حاول في هذا البحث إلحاقه بقسم الحلال لحاجة الناس بزعمه إلى ذلك، وأن هذا(19/223)
هو الذي تقوم به المصارف، وزعم أن الحاجة داعية إلى ذلك، وأن مصالح العباد لا تتم إلا بهذه المعاملات الربوية التي تستعملها البنوك، وقد تعلق بأشياء مجملة من كلام الموفق ابن قدامة وشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم رحمهم الله جميعا فيما ذكروه عن المصلحة، وأن الشرع الشريف لا يمنع تحقيق المصالح التي تنفع المسلمين بدون ضرر على أحد ولا مخالفة لنص من الشرع المطهر، وهذا كله لا حجة له فيه؛ لأن المصالح التي أراد هؤلاء الأئمة وأمثالهم تحقيقها إنما أرادوا ذلك حيث لا مانع شرعي يمنع من ذلك، وذلك في المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها يوضح الحكم الشرعي، وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على تحريم ربا الفضل وعلى تحريم ربا النسيئة، وذكر بعض أهل العلم أن تحريم ربا الفضل من باب تحريم الوسائل؛ لأن عاقلا لا يبيع شيئا بأكثر منه من جنسه يدا بيد، وإنما يكون ذلك إذا كان أحد العوضين مؤجلا أو كان أحدهما أنفس من الآخر، ولهذا لما باع بعض الصحابة رضي الله عنهم صاعين من التمر الرديء بصاع واحد من التمر الطيب؛ وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أوه عين الربا عين الربا لا تفعل (1) » الحديث
__________
(1) رواه البخاري في (الوكالة) باب إذا باع الوكيل شيئا فاسدا فبيعه مردود برقم (2312) ومسلم في (المساقاة) باب بيع الطعام مثلا بمثل برقم (1594) .(19/224)
متفق عليه وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز (1) » . وفي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء، يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (2) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة في الصحيحين وغيرهما. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه: «إنما الربا في النسيئة (3) » فالمراد به عند أهل العلم معظم الربا وليس مراده صلى الله عليه وسلم كل أفراد الربا؛ للحديثين السابقين وما جاء في معناهما
__________
(1) رواه البخاري في (البيوع) باب بيع الفضة برقم (2177) ومسلم في (المساقاة) باب الربا برقم (1584) .
(2) رواه مسلم في (المساقاة) باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا برقم (1587) .
(3) رواه مسلم في (المساقاة) باب بيع الطعام مثلا بمثل برقم (1596) .(19/225)
من الأحاديث الصحيحة، وقد علم أن المعاملات الربوية تجمع بين ربا الفضل وربا النسيئة، فإن المودع بالفائدة قد جمع هو وصاحب البنك بين الأمرين وهما النسيئة والفائدة فباءا بإثم المعاملتين. وأما كون المرابي الباذل للفائدة قد يكون محتاجا فهذا ليس هو الموجب للتحريم وحده، بل قد جمع هذا العقد بين الربا وبين ظلم المعسر بتحميله الفائدة، وقد عجز عن الأصل، وبذلك تكون المعاملة على هذا الوجه أعظم تحريما وأشد إثما؛ لأن الواجب إنظاره وعدم تحميله ما حرم الله من الربا، وأما اشتراك الدائن والمدين في الانتفاع بالمعاملة الربوية، وأن كل واحد منهما يحصل منها على فائدة فهذا الاشتراك لا ينقل المعاملة من التحريم إلى الحل، ولا يجعلهما معاملة شرعية يباح فيها الربا؛ لأن الشارع الحكيم لم يلتفت إلى ذلك بل حرم الفائدة تحريما مطلقا، ونص على ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة؛ منها ما تقدم، ولو كان انتفاع المدين بالفائدة يحلها لنص عليه المولى سبحانه وبينه في كتابه الكريم أو على لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وقد قال الله عز وجل في سورة النحل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (1)
__________
(1) سورة النحل الآية 89(19/226)
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم (1) » ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الرسل وأكملهم بلاغا وأتمهم بيانا فلو كانت المعاملة بالفائدة المعينة جائزة إذا كان المدين ينتفع بها لبينها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وأوضح لهم حكمها، فكيف وقد بين صلى الله عليه وسلم في صريح أحاديثه تحريمها والتحذير منها والوعيد على ذلك، وقد علم أن السنة الصحيحة تفسر القرآن وتدل على ما قد يخفى منه كما قال تعالى في سورة النحل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2) وقال عز وجل: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة. وأما ما نقله عن الشيخ رشيد رضا في إجازته الربا في صندوق التوفير فهو غلط منه، ولا يجوز أن يعول عليه والحجة قائمة عليه وعلى غيره من كل من يحاول مخالفة النصوص
__________
(1) رواه مسلم في (الإمارة) باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول برقم (1844) .
(2) سورة النحل الآية 44
(3) سورة النحل الآية 64(19/227)
برأيه واجتهاده، وقد تقرر في الأصول أنه لا رأي لأحد ولا اجتهاد لأحد مع وجود النص، وإنما محل الرأي والاجتهاد في المسائل التي لا نص فيها فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر إذا كان أهلا للاجتهاد، واستفرغ وسعه في طلب الحق؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر (1) » متفق على صحته. من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه مثله. أما المسائل التي نص على حكمها القرآن الكريم أو الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته فليس لأحد أن يجتهد في مخالفة ما دل عليه النص، بل الواجب التمسك بالنص وتنفيذ مقتضاه بإجماع أهل العلم. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
رابعا: ثم قال الكاتب الدكتور إبراهيم في نهاية البحث ما نصه: "وخلاصة البحث بعد هذه المقارنة الواضحة بين الربا الذي ورد تحريمه في القرآن الكريم وبين المعاملات المصرفية يتضح لنا أن المعاملات المصرفية تختلف تماما عن
__________
(1) رواه البخاري في (الاعتصام بالكتاب والسنة) باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ برقم (7352) ومسلم في (الأقضية) باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ برقم (1716) .(19/227)
الأعمال الربوية التي حذر منها القرآن الكريم؛ لأنها معاملات جديدة لا تخضع في حكمها للنصوص القطعية التي وردت في القرآن الكريم بشأن حرمة الربا، ولهذا يجب علينا النظر إليها من خلال مصالح العباد وحاجاتهم المشروعة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في إباحته بيع (السلم) رغم ما فيه من بيع غير موجود، وبيع ما ليس عند البائع مما قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأصل، وقد أجمع العلماء على أن إباحة "السلم" كانت لحاجة الناس إليه، وهكذا فقد اعتمد العلماء على "السلم"
وعلى أمثاله من نصوص الشريعة في إباحة الحاجات التي لا تتم مصالح الناس في معاشهم إلا بها.
والجواب: أن يقال: إن المعاملات المصرفية لا تختلف عن المعاملات الربوية التي جاء النص بتحريمها، والله سبحانه بعث نبيه صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين، وشرع لهم من الأحكام ما يعم أهل زمانه ومن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة، فيجب أن تعطى المعاملات الجديدة حكم المعاملات القديمة إذا استوت معها في المعنى، أما اختلاف الصور والألفاظ فلا قيمة له، إنما الاعتبار بالمعاني والمقاصد، ومعلوم أن مقاصد المتأخرين في المعاملات الربوية من جنس مقاصد الأولين وإن تنوعت الصور واختلفت الألفاظ، فالتفريق بين المعاملات الربوية القديمة والجديدة بسبب اختلاف الألفاظ والصور مع(19/229)
اتحاد المعنى والمقاصد تفريق باطل، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم قول من قال يوم حنين: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) مثل قول بني إسرائيل لموسى: (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) ولم ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى اختلاف الألفاظ، لما اتحد المعنى وهكذا عاقب الله بني إسرائيل لما نصبوا الشباك يوم الجمعة ليصيدوا بها الصيد المحرم عليهم يوم السبت ولم يعذرهم بهذه الحيلة، مع أنهم لم يأخذوا الصيد من الشباك إلا يوم الأحد، وذلك لاتحاد المعنى وإن اختلفت الوسيلة، والأمثلة في هذا كثيرة في النصوص الشرعية، وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل (1) » ، وأما التشبيه بالسلم فهو من باب المغالطة والتعلق بما لا ينفع، فإن إباحة السلم من محاسن الشريعة الكاملة، وقد أباحه الله سبحانه لحاجة العباد إليه، وشرط فيه شروطا تخرجه عن المعاملات المحرمة، فهو عقد على موصوف في الذمة بصفات تميزه وتبعده عن الجهالة والغرر إلى أجل معلوم بثمن معجل في المجلس، يشترك فيه البائع والمشتري في
__________
(1) ذكره الحافظ ابن قيم الجوزية في حاشيته على سنن أبي داود عند التعليق على الحديث رقم (3462) في كتاب البيوع باب النهي عن العينة.(19/230)
المصلحة المترتبة على ذلك فالبائع ينتفع بالثمن في تأمين حاجاته الحاضرة والمشتري ينتفع بالمسلم فيه عند حلوله؛ لأنه اشتراه بأقل من ثمنه عند الحلول وذلك في الغالب، فحصل للمتعاملين في عقد السلم الفائدة من دون ضرر ولا غرر ولا جهالة ولا ربا. أما المعاملات الربوية فهي مشتملة على زيادة معينة نص الشارع على تحريمها في بيع جنس بجنسه نقدا أو نسيئة، وجعله من أكبر الكبائر لماله سبحانه في ذلك من الحكمة البالغة، ولما للعباد في ذلك من المصالح العظيمة والعواقب الحميدة التي منها سلامتهم من تراكم الديون عليهم، ومن تعطيلهم المشاريع النافعة والصناعات المفيدة اعتمادا على فوائد الربا.
وأما زعم الكاتب إبراهيم أن المصارف والأعمال المصرفية حاجة من حاجات العباد لا تتم مصالح معاشهم إلا بها. . . إلخ. فهو زعم لا أساس له من الصحة، وقد تمت مصالح العباد في القرون الماضية قبل القرن الرابع عشر وقبل وجود المصارف، ولم تتعطل حاجاتهم ولا مشاريعهم النافعة، وإنما يأتي الخلل وتعطل المصالح من المعاملات المحرمة وعدم قيام المجتمع بما يجب عليه في معاملة إخوانه من النصح والأمانة والصدق والبعد عن جميع المعاملات المشتملة على الربا أو الضرر أو الخيانة أو الغش، والواقع بين الناس في(19/131)
سائر الدنيا يشهد بما ذكرنا، ولا سبيل إلى انتعاش المصالح وتحقيق التعاون المفيد إلا بسلوك المسلك الشرعي المبني على الصدق والأمانة والابتعاد عن الكذب والخيانة وسائر ما حرم الله على العباد في معاملاتهم، كما قال الله سبحانه في كتابه المبين: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (2) الآية. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3)
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} (4) الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (5) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (6) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة النساء الآية 58
(3) سورة الأنفال الآية 27
(4) سورة البقرة الآية 282
(5) سورة الأحزاب الآية 70
(6) سورة الأحزاب الآية 71(19/232)
كتما وكذبا محقت بركة بيعهما (1) » متفق على صحته وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى. الآخذ والمعطي فيه سواء (2) » رواه أحمد والبخاري. وعن جابر رضي الله عنه قال «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء (3) » رواه مسلم. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء
__________
(1) رواه البخاري في (البيوع) باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا برقم (2079) ومسلم في (البيوع) باب الصدق في البيع والبيان برقم (1532) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند أبي هريرة برقم (7131) وفي (مسند الأنصار) حديث أزواج النبي صلى الله عليه وسلم برقم (21825) ومسلم في (المساقاة) باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا برقم (1584) وبرقم (1588) .
(3) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .(19/233)
وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء (1) » متفق عليه وقال عليه الصلاة والسلام: «من غشنا فليس منا (2) » رواه مسلم وقال عليه الصلاة والسلام: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، فقالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور (3) » متفق عليه والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. ولا يجوز لأحد من الناس أن يحلل ما حرم الله بالنص قياسا على ما حلل بالنص، ومن حاول أن يحلل ما حرم الله من الربا قياسا على ما أحل الله من السلم فقد أتى منكرا عظيما، وقال على الله بغير علم، وفتح للناس باب شر عظيم وفساد كبير، وإنما يجوز القياس عند أهل العلم القائلين به في المسائل الفرعية التي لا
__________
(1) رواه البخاري في (البيوع) باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة برقم (2134) ومسلم في (المساقاة) باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا برقم (1586) واللفظ له.
(2) رواه مسلم في (الإيمان) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ''من غشنا فليس منا'' برقم (101) .
(3) رواه البخاري في (الأدب) باب عقوق الوالدين من الكبائر برقم (5976) ومسلم في (الإيمان) باب بيان الكبائر وأكبرها برقم (87) .(19/234)
نص فيها إذا استوفى الشروط التي تلحق الفرع بالأصل كما هو معلوم في محله، وقد حرم الله القول عليه بغير علم وجعله في مرتبة فوق مرتبة الشرك، وبين عز وجل أن الشيطان يدعو إلى ذلك ويأمر به كما يدعو إلى الفحشاء والمنكر قال الله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (2) {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (3)
فنسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يوفق علماءهم لبيان ما أوجب عليهم من أحكام شرعه والدعوة إلى دينه والتحذير مما يخالفه، وأن يكفيهم شر أنفسهم وشر دعاة الباطل، وأن يوفق الكاتب إبراهيم للرجوع إلى الحق والتوبة مما صدر منه، وإعلان ذلك على الملأ لعل الله يتوب عليه كما قال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) وقال سبحانه:
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2) سورة البقرة الآية 168
(3) سورة البقرة الآية 169
(4) سورة النور الآية 31(19/235)
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (1) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2)
ولا شك أن مقاله يحتاج إلى أكثر مما كتبت ولكن أرجو أن يكون فيما بينته مقنع وكفاية لطالب الحق. والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) سورة البقرة الآية 159
(2) سورة البقرة الآية 160(19/236)
135 - الواجب ترك
المال الذي ثبت أنه من الربا
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ص. غ. غ. سلمه الله. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى استفتائك المقيد بالأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (6009) وتاريخ 28\8\1409هـ الذي جاء فيه: " أفيد سماحتكم بأنه في عام 1406هـ صدر قرار معالي وزير التجارة بتأسيس الشركة السعودية للصناعات الدوائية والمستلزمات الطبية. وأعلنت الشركة عن بدء وضع التصاميم ودراسات المشروع في حينه وبدأت الشركة في إنشاء المباني التي تقرر أن تنتهي في نهاية العام الحالي 1409هـ. وهذا يعني أن عملية تصنيع الأدوية لم تبدأ بعد، ومع ذلك فقد أعلنت الشركة للمساهمين بأنها تنوي توزيع الأرباح التي بلغت أكثر من ثلاثة وثلاثين مليونا (بالريال السعودي) حيث جاءت هذه الأرباح نتيجة لاستثمار أموال المساهمين في البنوك.
وعلى حسب ما أسمع من الناس أن مثل هذا الاستثمار في البنوك تقوم به معظم الشركات المساهمة. وحيث إنني أحد المساهمين في هذه الشركة وأملك عدة أسهم في عدة شركات(19/237)
زراعية وصناعية، فإن هذا الموضوع يشغلني ويشغل كثيرا من الناس الذين يحرصون على اللقمة الحلال. وبناء على رغبتكم في معرفة الحقيقة بعد الاتصال التلفوني بسماحتكم وتشجيعكم لي في الكتابة إليكم عن الموضوع فإني ألبي رغبتكم جزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ولزيادة التوضيح فإني أرفق مع خطابي هذا نسخة من تقرير الشركة المذكورة مع صورة من جريدة الجزيرة التي نشرت تفاصيل التقرير السنوي المذكور عن الشركة. وختاما أرجو التكرم بإفادتي بالحكم الشرعي في هذا العمل وبماذا تنصحوني به وهل أستمر في التعامل مع هذه الشركة وغيرها أم لا؟ ".
وأفيدك بأن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء درست استفتاءكم وما ورد في كتابكم ومشفوعاته، ورأت أن الواجب عليكم ترك ما ثبت لديكم أنه اكتسب من طريق الربا ولا مانع من قبضه وصرفه في بعض أعمال البر كمواساة الفقراء ومساعدة المجاهدين وأمثالهم للتخلص منه وبراءة للذمة.
وفق الله الجميع لما فيه رضاه وأعانكم على كل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(19/238)
حكم دراسة الاقتصاد الربوي
س 136: ما حكم الإسلام في دراسة الاقتصاد الربوي؟ وما حكم العمل في البنوك الربوية؟ (1) .
ج: دراسة الاقتصاد الربوي إذا كان المقصود منها معرفة أعمال الربا، وبيان حكم الله في ذلك فلا بأس، أما إن كانت الدراسة لغير ذلك فإنها لا تجوز، وهكذا العمل في البنوك الربوية لا يجوز؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، وقد قال الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2)
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته من مجلة (الدعوة) .
(2) سورة المائدة الآية 2(19/239)
137 - بيان الحكم الشرعي
في المعاملات الربوية في البنوك
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:.
فقد اطلعت على ما ورد في صحيفة الشرق الأوسط الصادرة في يوم الأربعاء 2\1\1416هـ، من تصريح مفتي الديار المصرية د. محمد سيد طنطاوي بتحليل الفوائد الربوية التي تتعامل بها البنوك. فرأيت أن الواجب على مثلي التنبيه على ما يقتضيه الشرع المطهر في ذلك نصحا لله ولعباده، وأداء لواجب البلاغ الذي أوجبه الله على أهل العلم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (1) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (2) الآية، وقوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (3)
__________
(1) سورة البقرة الآية 159
(2) سورة البقرة الآية 160
(3) سورة آل عمران الآية 187(19/240)
الآية، والمقصود تحذير هذه الأمة من عمل أهل الكتاب، ولا شك أن هذا أمر خطير، وفيه معصية لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومخالفة لأمر الله تعالى، حيث قال سبحانه وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) ولا ريب أن القول بحل ما تتعامل به البنوك من أنواع الربا، فيه تحليل لما حرمه الله تعالى؛ لأن الربا كما هو معلوم كبيرة من كبائر الذنوب التي جاء تحريمها مغلظا في كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميع أشكاله وأنواعه ومسمياته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (3) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) وقال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} (5) وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (6)
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) سورة آل عمران الآية 130
(3) سورة آل عمران الآية 131
(4) سورة آل عمران الآية 132
(5) سورة الروم الآية 39
(6) سورة البقرة الآية 275(19/241)
{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (3)
فما أعظم جريمة من حارب الله ورسوله نسأل الله العافية من ذلك. وقال عليه الصلاة والسلام: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (4) » ، متفق على صحته. وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء (5) » ،
__________
(1) سورة البقرة الآية 276
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) رواه البخاري في (الوصايا) باب قول الله: (إن الذين يأكلون أمول اليتامى ظلما) برقم (2767) وفي (الحدود) باب رمي المحصنات برقم (6857) ومسلم في (الإيمان) باب بيان الكبائر وأكبرها برقم (89) .
(5) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .(19/242)
فهذه بعض الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم التي تبين تحريم الربا وخطره على الفرد والأمة، وأن من تعامل به وتعاطاه، فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، وقد أصبح محاربا لله ولرسوله وقال الموفق ابن قدامة رحمه الله تعالى في كتابه المغني: (أجمعت الأمة على أن الربا محرم) وقال ابن المنذر في كتاب (الإجماع) : (أجمعوا على أن السلف إذا شرط على المقترض زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا سواء كانت الزيادة في القدر أو الصفة) ومن المعلوم أن الاشتراك في البنوك الربوية، أو الإيداع فيها أو الاقتراض منها بفوائد، كل ذلك من المعاملات الربوية التي نهى الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها فيجب الابتعاد عنها.
نسأل الله الهداية والعافية من مضلات الفتن، والتوفيق للعمل بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحكيم شرع الله في جميع شؤوننا الخاصة، والعامة، وأن يأخذ بنواصينا وجميع المسلمين إلى ما فيه صلاح ديننا ودنيانا، وأن يجنبنا جميعا طريق المغضوب عليهم والضالين إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونصيحتي لفضيلة المفتي محمد سيد طنطاوي أن يتقي الله، وأن يعيد النظر فيما كتب، وأن يتوب إلى الله سبحانه مما طغى به اللسان، وزل به القلم، ولا ريب(19/243)
أن الرجوع إلى الحق واجب وفضيلة، وشرف لصاحبه، وخير من التمادي في الخطأ، والله المسئول أن يوفقه للرجوع إلى الحق، وأن يجعلنا وإياه وسائر إخواننا من الهداة المهتدين، إنه سميع قريب. وصلى الله وسلم على خير خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المفتي العام للمملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء
وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/244)
الفرق بين مسألة التورق
وبين نوعي الربا: الفضل والنسيئة
س 138: من تعريف ربا النسيئة أنه الزيادة في الشيء مقابل التأجيل، فما مدى انطباق هذا الشيء على دينة الأكياس والسيارات المعمول بها الآن بدلا من القرض الحسن أفتونا جزاكم الله خيرا؟ (1) . ج: الربا هو أن يأخذ شيئا بجنسه مع الزيادة هذا هو ربا الفضل؛ كصاع بصاعين من جنس واحد أو درهم بدرهمين سواء كان حالا أو مؤجلا. وإن كان دينا بدين صار ربا الفضل والنسيئة جميعا، فإذا أخذ دراهم بدراهم وزيادة، فهذا ربا الفضل سواء كان يدا بيد أو نسيئة، وأما مسألة التورق فليست من هذا الباب وهي أخذ سلعة بدراهم إلى أجل ثم يبيعها هو بنقد في يومه أو غده أو بعد ذلك على غير من اشتراها منه.
والصواب حلها لعموم الأدلة ولما فيها من التفريج والتيسير وقضاء الحاجة الحاضرة. أما من باعها على من اشتراها منه فهذا لا يجوز بل هو من أعمال الربا وتسمى مسألة العينة وهي محرمة لأنها تحيل على الربا. وهو بيع جنس بجنسه متفاضلا نسيئة أو نقدا. أما التورق فلا بأس به كما تقدم وهو شراء
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في برنامج (نور على الدرب) .(19/245)
سلعة من طعام أو سيارة أو أرض أو غير ذلك بدراهم معدودة إلى أجل معلوم ثم يبيعها على غير من اشتراها منه بنقد ليقضي حاجته من زواج أو غيره.(19/246)
الموقف من البنوك الربوية اليوم
س 139: ما هو الموقف من البنوك الربوية اليوم؟ وما حكم التعامل معها؟ وما هو موقفنا تجاه ما يحدث لكثير من إخواننا المسلمين في بعض البلاد الإسلامية؟ .
ج: أما ما يتعلق بالربا فالأمر واضح وليس في وجود الربا وتحريمه شك، وهو أمر تدل عليه آيات من القرآن الكريم ودلت عليه السنة وإجماع أهل العلم. فالربا من أكبر الكبائر ومن المحرمات المجمع عليها، وقد بين الله ذلك في كتابه العظيم فقال جل وعلا: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) الآية، وقال عز وجل
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(19/246)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (2) والرسول صلى الله عليه وسلم: «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء (3) » خرجه مسلم في صحيحه، فالواجب على المسلمين الحذر من الربا وعدم المساهمة فيها وعدم المعاملة معها، ووجود الشيء بين الناس لا يحله، فالخير موجود، والشر موجود والواجب الأخذ بالخير والحذر من الشر، ووجود الشر ليس بدليل على حله، بل يجب الحذر منه. فالحاصل أن الربا من المحرمات والواجب الحذر من ذلك والبعد عن ذلك، والتواصي بترك ذلك، وعن قريب إن شاء الله تزول البنوك الربوية من هذه المملكة، فقد وافق خادم الحرمين الشريفين على إيجاد البنوك الإسلامية، وسيغني الله بها عن هذه البنوك وتزول إن شاء الله من هذه البلاد.
فالحاصل أن الإخوان والمحبين للخير حريصون على إيجاد البنوك الإسلامية والمساهمة فيها وينبغي للإخوان جميعا
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .(19/247)
أن يتشجعوا في هذا، وأن يحرصوا على التقدم في طلب البنوك الإسلامية حتى تكثر وحتى يغني الله بها عن هذه البنوك الربوية، وحتى ينتهي أمرها عن قريب إن شاء الله.
أما ما يتعلق بإخواننا المسلمين في كل مكان كالجزائر والفلبين وفي أفغانستان والبوسنة والهرسك وغيرها. فالواجب الدعاء لهم بالتوفيق والهداية، وأن يفقههم الله في الدين، وأن يجمع كلمتهم على خيرهم، وأن ينصرهم على عدوهم، وأن يهدي المسئولين في جميع بلاد المسلمين، وأن ينصر بهم الحق.
والدعاء لإخوانكم بظهر الغيب في كل مكان أمر مشروع وفائدته عظيمة. فالمسلم يدعو الله لإخوانه في الفلبين وفي الجزائر وفي تونس وفي المغرب وفي أفغانستان وفي البوسنة والهرسك وفي كل مكان، وفي بلده أيضا يدعو الله للجميع بالتوفيق والصلاح والإعانة على كل خير، وأن يجمعهم الله سبحانه على الخير والهدى، وأن يكفيهم شر الولاة، وأن يعينهم على إظهار الحق والدعوة إليه على بصيرة، وأن يعيذهم من الأساليب التي تنفر من الحق وتصد عنه، وأن يوفقهم للأساليب الطيبة والطرق الصالحة التي تعينهم على إظهار الحق والدعوة إليه وتعينهم على قبوله والرضا به.(19/348)
حكم المساهمة في
الشركات التي تتعامل بالربا
س 140: في الربا كثرت الأسئلة عن بعض الشركات مثل شركة مكة للإنشاء والتعمير، وشركة القصيم الاستثمارية للزراعة، يقولون هل المشاركة فيها من الربا أو لا تتعامل بالربا؟ .
ج: شركة طيبة وشركة مكة وغيرها من الشركات لا نعلم عنها ما يمنع المشاركة فيها إلا أنه يبلغنا عن كثير من الشركات أنها تستعمل أموالها بالربا بواسطة البنوك، فننصح جميع الشركات التي تستعمل هذا أن تدعه، أو أن تستعمل أموالها في الطرق الشرعية لا بالربا، فالشركة التي تستعمل أموالا بالربا يجب أن تجتنب، وأن لا يتعاون معها في هذا الشيء وإذا عرف الإنسان مقدار الربا الذي دخل عليه فليخرج ما يقابله للفقراء عشرة في المائة أو عشرين في المائة أو أقل أو أكثر حتى يسلم من شر الربا.
وعلى كل شركة أن تتقي الله، وأن تحذر الربا في جميع المعاملات فإن الله جل وعلا قد حرم الربا ونزع بركته كما قال سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) وقال سبحانه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (2)
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276(19/249)
فالربا منزوع البركة، فالواجب الحذر منه، فعلى جميع الشركات: شركة مكة، شركة المدينة، شركة القصيم، وأي شركة كانت، على جميع الشركات أن تتقي الله، وأن يتقي رؤساؤها ومديروها في ذلك وأن يحرصوا على أن تكون أعمالهم ومعاملاتهم كلها طبق الشرع، وأن يستفتوا أهل العلم فيما أشكل عليهم حتى يكونوا على بصيرة، وما تجمع لديهم من الأموال يعملون به ما شرع الله من المعاملات السليمة سواء كانت بالنقد أو بالأجل فيشترون به السلع ويبيعونها إلى أجل، أو يشترون العمل المختلفة المتنوعة ثم يبيعونها بالعمل الأخرى يدا بيد بفائدة إذا كانت من أجناس مختلفة، فالعملة لا تباع بمثلها إلا يدا بيد مثلا بمثل، وإذا كانت عملة بعملة أخرى كريال بالدولار أو جنيه استرليني بغيره جاز البيع يدا بيد بدون تأجيل ولو تفاضلا، فالطرق الشرعية موجودة وكافية بحمد الله وليس الناس بحاجة إلى الربا لولا أن الشيطان يدعوهم إلى ذلك ويزين لهم الفائدة السريعة بالربا، نسأل الله لنا ولجميع المسلمين السلامة من كل ما يغضبه.(19/250)
حكم صرف الرواتب من البنوك الربوية
س 141: فيما يتعلق بالربا أسئلة كثيرة منها التحرج عن أخذ الرواتب من البنوك الربوية فما رأي سماحتكم؟ .
ج: هذا لا حرج فيه فأخذ الرواتب بواسطة البنوك لا يضر؛ لأن الموظف لم يجعلها للربا، وإنما جعلت بواسطة ولاة الأمر لحفظها هناك حتى تؤخذ، وهكذا ما يحول عن طريق البنوك من بلد إلى بلد، أو من دولة إلى دولة هذا لا بأس به لدعاء الحاجة إليه، فالمحذور كونه يستعمل الربا أو يعين عليه، أما كونه يحفظ ماله في البنك للضرورة لعدم وجود مكان يحفظه فيه، أو لأسباب أخرى وبدون ربا، أو يحوله بواسطة البنك فلا بأس بذلك إن شاء الله ولا حرج فيه، لكن لو جعلت الدولة الرواتب في غير البنوك لكان أسلم وأحسن.(19/251)
حكم بيع الطعام بجنسه متفاضلا
س 142: بلادنا تنتج الحب، والعملة عندنا بالحبوب لقلة النقود، فإذا جاء وقت البذر اشترينا من التجار(19/251)
الصاع بريال، فإذا جاء وقت الحصاد وصفيت الحبوب سلمنا للتجار عن كل ريال صاعين مثلا؛ لأن السعر في وقت الحصاد أرخص منه في وقت البذر، فهل تجوز هذه المعاملة؟ .
ج: هذه المعاملة فيها خلاف بين العلماء، وقد رأى كثير منهم أنها لا تجوز، لأنها وسيلة إلى بيع الحنطة ونحوها بجنسها متفاضلا ونسيئة، وذلك عين الربا من جهتين: جهة التفاضل وجهة التأجيل، وذهب جماعة آخرون من أهل العلم إلى أن ذلك جائز إذا كان البائع والمشتري لم يتواطآ على تسليم الحنطة بدل النقود، ولم يشترطا ذلك عند العقد، هذا هو كلام أهل العلم في هذه المسألة، ومعاملتكم هذه يظهر منها التواطؤ على تسليم حب أكثر بدل حب أقل؛ لأن النقود قليلة، وذلك لا يجوز، فالواجب على الزراع في مثل هذه الحالة أن يبيعوا الحبوب على غير التجار الذين اشتروا منهم البذر، ثم يوفوهم حقهم نقدا هذا هو طريق السلامة والاحتياط والبعد عن الربا، فإن وقع البيع بين التجار، وبين الزراع بالنقود، ثم(19/252)
حصل الوفاء من الزراع بالحبوب من غير تواطؤ ولا شرط، فالأقرب صحة ذلك كما قاله جماعة من العلماء، ولا سيما إذا كان الزارع فقيرا ويخشى التاجر أنه إن لم يأخذ منه حبا بالسعر بدل النقود التي في ذمته فات حقه ولم يحصل له شيء؛ لأن الزارع سوف يوفي به غيره ويتركه، أو يصرفه- أي الحب- في حاجات أخرى، وهذا يقع كثيرا من الزراع الفقراء، ويضيع حق التجار، أما إذا كان التجار والزراع قد تواطأوا على تسليم الحب بعد الحصاد بدلا من النقود، فإن البيع الأول لا يصح من أجل التواطؤ المذكور، وليس للتاجر إلا مثل الحب الذي سلم للزارع من غير زيادة، تنزيلا له منزلة القرض لعدم صحة البيع مع التواطؤ على أخذ حب أكثر.(19/253)
حكم بيع الطعام بالطعام مؤجلا
س 143: هل يجوز بيع غير الطعام بالطعام نسيئة كبيع الثياب بالقمح مثلا.... إلخ؟ (1) .
ج: يجوز ذلك في أصح أقوال أهل العلم، والأدلة عليه كثيرة، منها: عموم الأدلة في حل البيع والمداينة، ومنها: ما
__________
(1) نشر في (مجلة الجامعة الإسلامية) بالمدينة المنورة العدد الثالث السنة السابعة عام 1395 هـ ص 134.(19/253)
ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما نسيئة ورهنه درعا من حديد (1) » ، ومنها: بيع السلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة والناس يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال عليه الصلاة والسلام: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (2) » ولم يشترط أن يكون الثمن نقدا، فدل ذلك على أنه يجوز أن يسلف مكيلا من الطعام أو موزونا من الطعام في حيوان أو ثياب أو صوف أو غيرها مما ينضبط بالصفة إذا توفرت بقية الشروط والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) رواه البخاري في (السلم) باب الكفيل في السلم برقم (2251) ومسلم في (المساقاة) باب الرهن وجوازه في الحضر كالسفر برقم (1603) .
(2) رواه البخاري في (السلم) باب السلم في وزن معلوم برقم (2241) ومسلم في (المساقاة) باب السلم برقم (1604) .(19/254)
144 - حكم من يدفع إلى البنك أو غيره
مالا معلوما على أن يدفع القابض للدافع
ربحا معلوما كل شهر أو كل سنة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد: (1) .
فقد سألني غير واحد عن معاملة يتعاطاها كثير من الناس وهي: أن بعضهم يدفع إلى البنك أو غيره مالا معلوما على سبيل الأمانة أو ليتجر به القابض، على أن يدفع القابض إلى الدافع ربحا معلوما كل شهر أو كل سنة. مثال ذلك: أن يدفع شخص إلى البنك أو غيره عشرة آلاف ريال أو أقل أو أكثر على أن يدفع إليه القابض مائة ريال أو أكثر أو أقل كل شهر أو كل سنة، وهذه المعاملة لا شك أنها من مسائل الربا المحرم بالنص والإجماع، وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على أن أكل الربا من كبائر الذنوب ومن الجرائم المتوعد عليها بالنار واللعنة. قال الله سبحانه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (3)
__________
(1) نشر في (مجلة الجامعة الإسلامية) العدد الأول السنة الثالثة 1390هـ ص4، 3.
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 276(19/255)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2)
ففي هذه الآيات الكريمات الدلالة الصريحة على غلظ تحريم الربا وأنه من الكبائر الموجبة للنار، كما أن فيها الدلالة على أن الله سبحانه يمحق كسب المرابي ويربي الصدقات أي يربيها لأهلها ويمنيها حتى يكون القليل كثيرا إذا كان من كسب طيب. وفي الآية الأخيرة التصريح بأن المرابي محارب لله ورسوله، وأن الواجب عليه التوبة إلى الله سبحانه وأخذ رأس ماله من غير زيادة. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء (3) » ، فالواجب على كل مسلم أن يتقي الله سبحانه ويراقبه في جميع الأمور وأن يحذر ما حرم الله عليه من الأقوال والأعمال والمكاسب الخبيثة، ومن أعظمها وأخطرها مكاسب
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .(19/256)
الربا الذي أنزل الله فيه ما يوجب الحذر منه والتواصي بتركه، وقد نقل أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة رحمه الله في كتابه المغني عن الحافظ ابن المنذر إجماع العلماء على تحريم مثل هذه المعاملة وفي ذلك كفاية ومقنع لطالب الحق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/257)
ينبغي العمل على
إيجاد البديل للبنوك الربوية
س 145: أفيدونا عن المعاملات الربوية؟ (1) .
ج: أما ما يتعلق بالربا فالأمر فيه واضح، ولكن تحريم الربا دل عليه القرآن الكريم ودلت عليه السنة وإجماع أهل العلم وهو من أكبر الكبائر ومن المحرمات المعروفة، وقد بين الله ذلك في كتابه العزيز فقال جل وعلا: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) الآية، ويقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (4) والرسول صلى الله عليه وسلم: «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه (5) » .
__________
(1) من ضمن الأسئلة التي ألقيت على سماحته بعد الحج في مكة عام 1417هـ.
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .(19/258)
فالواجب على المسلمين الحذر من الربا، وعدم المساهمة فيه لا في بنك كذا ولا في جميع البنوك الربوية في الداخل والخارج، بل يجب الحذر منها وعدم المساهمة فيها وعدم المعاملة ووجود الشيء بين الناس لا يحله، الخير موجود، والشر موجود هذا يكون حلالا وهذا يكون محرما، ووجود الشيء ليس دليلا على حله بل يجب الحذر إذا وجد يكون الحذر أكثر من المعصية الموجودة.
الحاصل أن الربا من المحرمات ويجب الحذر من ذلك والبعد عن ذلك والتواصي بترك ذلك وعن قريب يزول إن شاء الله بحول الله.
فالحاصل أن الإخوان والمحبين للخير حريصون على إيجاد البنوك الإسلامية والمساهمة فيها، وينبغي لإخواني جميعا أن يتشجعوا في هذا ويحرصوا على التقدم في طلب البنوك الإسلامية حتى تكثر وحتى يغني الله بها عن هذه البنوك الربوية وحتى ينتهي أمرها عن قريب إن شاء الله.(19/259)
146 - التخلص من المال الربوي
فضيلة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
سماحة الشيخ: لدي مشكلة وأود أن أعرف رأي الدين فيها ألا وهي: منذ حوالي عشرين عاما أدان والدي مبلغ (2000) ريال لصديقين له لكل واحد منهما (1000) ريال على أن يتم إرجاع المبلغ بعد مضي عام مع زيادة قدرها (500) ريال على كل (1000) ريال، وقد كان والدي فقيرا جمع هذا المبلغ بعد جهد وتعب، ثم توفي والدي قبل أن يسترد نقوده فاستردتهم والدتي، وقد دفع أحد الرجلين مبلغ بدون زيادة بينما دفع الآخر الزيادة الربوية، حدث ذلك وأنا صغير، في المرحلة الابتدائية، ولم أتمكن من توجيه والدتي إلى أن هذا العمل حرام، ومنذ ذلك الوقت وأنا أتألم أشد الألم وذلك بسبب خوفي على والدي من هذا العمل مع العلم أن والدي غير متعلم، ولا أعلم إن كان يعرف أن ما عمله حرام أم لا، وأرجو من الله ثم من سماحتكم أن ترشدوني إلى ما أعمل لأكفر عن والدي ذنبه، أيضا ماذا أعمل بخصوص الربا الذي أخذته والدتي عند إرجاع دين أسرتنا مع أنها قد تعرف أن هذا(19/260)
المبلغ ربا لكنها هي الأخرى غير متعلمة، أفيدوني ماذا أعمل وبأقصى سرعة كلما أمكن. جزاكم الله كل خير.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
عليك أن ترد الزيادة وهي خمسمائة على صاحبها؛ لأنها ربا وتدعو لوالدك بالمغفرة والعفو، بارك الله فيك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/261)
147 - الواجب التصدق بالمال الربوي إذا لم يعلم صاحبه
سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
سماحة الشيخ سبق أن أرسلت إلى فضيلتكم في شهر رمضان المبارك رسالة تضمنت السؤال عن مبلغ من المال قدره (500) ريال كان والدي رحمه الله قد أخذه من أحد أصدقائه في صورة ربا وكان جواب فضيلتكم وجوب رد هذا المبلغ إلى صاحبه وقد تعذر علي رده إلى صاحبه. فهل يجوز أن أتصدق بالمبلغ على الفقراء كأن أضعه في أحد صناديق التبرع أو أدفعه إلى أحد الأقارب المحتاجين؟ أفيدوني في ذلك جزاكم الله خيرا.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
الواجب عليك دفع الخمسمائة (500) ريال إلى بعض الفقراء إذا كنت لم تعرفي صاحبها ولا عنوانه ولا من يعرفه.
مفتي عام المملكة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/262)
حكم من وقع في الربا دون علمه
س 148: امرأة كانت تقرض شخصا ألف ريال على أن يردها ألف وثلاثمائة ريال وهي لا تعرف أن هذا ربا، فهل يلحقها شيء في ذلك وماذا يجب عليها؟ (1) .
ج: هذا لا شك أنه ربا، فالذي فعل ذلك قبل أن يعلم لا شيء عليه، كما قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2) فبين سبحانه أن من جاءه موعظة من ربه، يعني عرف الحق ووعظ وذكر، فانتهى وتاب إلى الله فلا شيء عليه. ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. فبين لنا سبحانه أن الواجب على من عرف الربا أن يحذره ويتباعد عنه ويتوب إلى الله من ذلك، وعلى المؤمن أن يسأل ويتفقه في دينه ويتعلم حتى لا يقع فيما حرم الله عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (3) » ، متفق على صحته. وهذا يدلنا على أن
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في برنامج (نور على الدرب) .
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) رواه البخاري في (العلم) باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين برقم (71) ومسلم في (الزكاة) باب النهي عن المسألة برقم (1037) .(19/263)
الإنسان إذا تفقه في الدين وتبصر وتعلم فهذا من الدلالة على أن الله أراد به خيرا. أما إذا استمر في الجهالة والإعراض فهذا من علامة أن الله أراد به شرا والعياذ بالله، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا للجنة (1) » . فالتعلم من أهم المهمات، والتفقه في الدين من أعظم الواجبات، والواجب على المرأة المذكورة أن تتصدق بالثلاثمائة التي حصلتها من طريق الربا مع التوبة إلى الله سبحانه؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (3) نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق.
__________
(1) رواه مسلم في (الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار) باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن برقم (2699) .
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279(19/264)
الفقراء من المصارف
الشرعية للأموال التي ليس لها مالك
س 149: صاحب الفضيلة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء، حفظه الله تعالى وأبقاه.(19/264)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أرجو أن تجيبوني على سؤالي هذا بصورة مستعجلة؛ لأن عملي متوقف على ورود جوابكم الكريم.
أنا وصي على ثلث تركة متوفى؛ لجعله في صدقة جارية، لكن الذي حدث أن الدولة أعزها الله تعالى حجزت التركة في أحد البنوك العاملة في المملكة لمدة أربع سنوات، مما زاد في أصل التركة قبل القسمة زيادة ربوية بلا شك.
وسؤالي الآن منصب على تلك الزيادة؛ لأنها قد أصبحت مظلمة من المظالم الملتبس أهلها؛ لأنه من المتعذر معرفة من أخذت منه، فمن العلماء من يرى صرف المظالم الملتبسة في مصالح المسلمين العامة، وهو رأي قوي، ومنهم من يرى صرفها في الفقراء، وهو أقل نفعا من القول السابق. كما أن تركها للبنك إعانة له على تكرار المعصية وإعادة استعمالها في الربا إلى ما لا نهاية، وهو ذنب عظيم لا يجوز فعله أبدا. كما أن موظفي المتوفى كان لهم منحة يمنحهم إياها في رأس كل سنة والورثة امتنعوا عن دفع أي شيء لهم بعد وفاته، فهل لي أن أدفع لهم ما كانوا يعتادونه من هذه الزيادة الربوية.(19/265)
أرجو أن أتلقى جوابكم الشافي في أقرب وقت، أثابكم الله تعالى وأجزل لكم المثوبة (1) ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده: نرى أخذ الزيادة وصرفها في وجوه الخير، وتنفيذ ما أوصى به الموصي حسب ما أوصى إذا كانت الوصية شرعية ليس فيها ما يخالف الشرع، وأنت مأجور في ذلك إن شاء الله، ضاعف الله مثوبتكم، وإذا كان في الورثة فقراء فلا مانع من مساعدتهم من الزيادة الربوية من دون إخبارهم بذلك؛ لأن الفقراء من المصارف الشرعية للأموال التي ليس لها مالك شرعي أو جهل مالكها، وفق الله الجميع. والسلام.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
__________
(1) استفتاء مقدم لسماحته من السائل ح. ع. س. ي. أ. أجاب عنه سماحته بتاريخ 27\3\1414هـ.(19/266)
يجب التخلص من الكسب
الخبيث بصرفه فيما ينفع المسلمين
س 150: الأخ الذي رمز لاسمه بـ ف. ع. ع. من الرياض، يقول في سؤاله: ساهمت في أحد البنوك منذ عام، وندمت على ذلك، وبعت الأسهم. وجاءت منها أرباح، والآن لا أدري ماذا أفعل بالمال، الربح الذي جاء منها وأصل المال الذي ساهمت به، فما الواجب علي حفظكم الله؟ (1) .
ج: الواجب صرف الأرباح التي قبضها قبل التوبة في الفقراء والمساكين، ونحو ذلك مما ينفع المسلمين، كإصلاح الطرقات والحمامات ونحوها؛ لأنه مال حصل من كسب خبيث فوجب التخلص منه بما ينفع المسلمين؛ لقول الله سبحانه في سورة البقرة: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (4) والله ولي التوفيق.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته من (المجلة العربية) .
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) سورة البقرة الآية 279(19/267)
كيفية التخلص من الفوائد الربوية
س 151: إذا أخذت مالا لي من البنك له مدة تزيد عن السنة وجاءني معه ربح، فهل يجوز التصدق به أو رده للبنك أم ماذا أفعل؟ (1) .
ج: يجب عليك إخراج زكاته كلما دارت عليه السنة، سواء كان في البنك أو غيره إذا كان نصابا. أما ما أعطاك البنك من الربح فلا ترده على البنك ولا تأكله، بل اصرفه في وجوه البر؛ كالصدقة على الفقراء، وإصلاح دورات المياه، ومساعدة الغرماء العاجزين عن قضاء ديونهم، وعليك التوبة من ذلك، ولا يجوز لك أن تعامل البنك بالربا ولا غير البنك؛ لأن الربا من أقبح الكبائر، وقد قال الله سبحانه في كتابه العظيم: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (3) إلى أن قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (4) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (5)
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص407.
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 276
(4) سورة البقرة الآية 278
(5) سورة البقرة الآية 279(19/268)
فهذه الآيات الكريمات كلها تدل على شدة تحريم الربا وأنه من كبائر الذنوب، فإن من أصر عليه فهو متوعد بالخلود في النار نسأل الله العافية، وهذا الخلود على ظاهرة مثل خلود الكفار، ليس له نهاية إذا كان مستحلا للربا.
أما من يعلم أن الربا حرام، ويعتقد ذلك، ثم أصر عليه، فإنه يعمه الوعيد المذكور، ولكن خلوده في النار - إن دخلها- ليس مثل خلود الكفار، بل هو خلود له نهاية كما درج على ذلك سلف الأمة وأئمتها، خلافا للخوارج والمعتزلة، وهكذا خلود قاتل نفسه، وقاتل غيره عمدا وعدوانا، وخلود الزاني، كله من هذا الباب، من استحل منهم هذه المعاصي كفر وخلد في النار مثل خلود الكفار. نعوذ بالله من ذلك.
أما من لم يستحلها وإنما فعلها طاعة للهوى والشيطان فإنه لا يخلد في النار، إن دخلها- مثل خلود الكفار، ولكنه يخلد فيها خلودا له نهاية؛ لأن العرب يعبرون في لغتهم عن الإقامة الطويلة بالخلود، والقرآن الكريم نزل بلغتهم، وهذه مسألة عظيمة يجب التنبيه لها والتفريق ما بين خلود الكافرين وخلود العاصين، وبسبب الجهل بالفرق بين الخلودين وقعت(19/269)
الخوارج والمعتزلة في منكر عظيم، واعتقاد فاسد، وهو حكمهم على العصاة بالخلود في النار أبد الآباد، كخلود الكفار، وقد أنكر عليهم أهل السنة، وبينوا بطلان مذهبهم بالأدلة الواضحة من الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء (1) » ، رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي جحيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور (2) » .
فالواجب على جميع المسلمين الحذر من المعاملات الربوية والتعاون مع أهلها في ذلك؛ للحديثين المذكورين، ولقوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3) نسأل الله لنا ولجميع المسلمين التوفيق لما يرضيه، والسلامة من أسباب غضبه، إنه خير مسئول.
__________
(1) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .
(2) رواه البخاري في (البيوع) باب موكل الربا برقم (2086) .
(3) سورة المائدة الآية 2(19/270)
152 - ليس للورثة أخذ
الزيادة الربوية لمال مورثهم
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم أ. ح. جمهورية مصر العربية محافظة الدقهلية المطرية، وفقه الله (1) . سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده:
فإجابة لرسالتكم التي تسألون فيها عن المال الذي وضع لكم في البنك بعد وفاة والدكم،
نفيدكم بأنه لا حرج عليك في أخذ المال الذي وضع لأبيك في البنك، وهو بينك وبين بقية الورثة، إلا أن يكون لدى الدولة تعليمات في ذلك فعليكم اتباعها، أما الربا فيصرف في وجوه البر، كالصدقة على الفقراء، ونحو ذلك من أعمال الخير. وليس لك ولا للورثة أكله. وإليك برفقة نسخة من العقيدة الواسطية، وفتح المجيد، ولمعة الاعتقاد، وثلاثة الأصول، ونسخة من الجزء الأول والجزء الثاني من الفتاوى
__________
(1) رسالة جوابية صدرت من مكتب سماحته برقم (160\1) في 22\1\1410هـ إلى السائل أ. ح. من مصر.(19/271)
الصادرة منا، ونسخة من شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز، وكلها كتب مفيدة. وفقنا الله وإياك للعلم النافع والعمل به مع العمل الصالح الذي يقربنا إلى رضى الله ورحمته. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(19/272)
التكفير عن المرابي المتوفى
س:153: توفي قريب لي وهو يتعامل بالربا ونريد الآن أن نكفر عنه، فما الطريق الشرعي لذلك؟ (1)
ج: يشرع للورثة أن يتحروا مقدار ما دخل عليه من الربا فيتصدقوا به عنه، ويدعوا له بالمغفرة والعفو. نسأل الله أن يعفو عنا وعنه وعن كل مسلم.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص387.(19/273)
الواجب التخلص من المال
الربوي لصالح الفقراء والمحتاجين
س:154: نحن في بلادنا البنوك ربوية، وقد كنت في الماضي قبل خمس سنوات آخذ هذه الأموال وأضعها بجانب لا أستعملها، فهل يجوز لي فضيلة الشيخ أن أشتري بهذه الأموال شقة لمحتاج، وإن كان لا يجوز فماذا أفعل بها؟ (1)
__________
(1) سؤال بعد الدرس الذي ألقاه سماحته بالمسجد الحرام في 27\12\1418هـ.(19/273)
ج: الربا من أقبح المحرمات، الله جل وعلا يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (3) فالربا من أقبح السيئات، ومن أقبح الكبائر. فإذا كان دخل عليك شيء من الربا وأنت تعلم، فالواجب إخراجه، والتخلص منه للفقراء والمساكين، أو في بعض المشاريع الخيرية؛ كالحمامات وإصلاح الطرقات، وتسوير المقابر، وما أشبه ذلك مما يحتاجه الناس، ولا تأكل منه شيئا. أما إذا كنت جاهلا ثم علمت فلك ما سلف، قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (4) فإذا كنت دخل عليك شيء من الربا وأنت جاهل ثم هداك الله فلك ما سلف.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 275(19/274)
باب السلم
155 - لا يجوز السلم فيما جهلت صفته
سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فلدي سؤال مفاده: أن شخصا يبيع سلعة بهذه الكيفية: يقول البائع للمشتري: بعتك سيارة داتسون موديل (69) لونها أبيض، ونوعها وانيت، مع العلم أن موديل السيارة لم يصل بعد ولم تعرف مواصفاتها الفنية الداخلية، ولم تدخل حتى داخل البلاد، وبهذا يقرض مثلا خمسين ألف ريال وهو أقل من ثمنها الطبيعي؛ لأنه بذلك يستفيد بهذا المبلغ كسيولة نقدية حتى يصل الموديل، فهل هذا جائز؟ أثابكم الله وسدد خطاكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1) .
__________
(1) سؤال مقدم من الأخ ع. م. ق. وقد أجاب عنه سماحته في 21\5\1416هـ.(19/275)
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
إذا كان الموديل المشار إليه غير معروف، ولم ينزل في الأسواق، فالإسلام فيه لا يجوز؛ لأن شرط بيع السلم أن يكون المسلم فيه معلوم الصفات غالب الوجود عند حلول الأجل، والسيارة المذكورة ليست كذلك حسبما ذكرتم. وفق الله الجميع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/276)
س 156: ما هو دين الذمة في الشيء المعلوم والأجل المعلوم؟ (1) .
ج: هذا يسمى السلم إذا كان في الذمة ليس فيه بأس إلى أجل معلوم شيء معلوم وأجل معلوم هذا سلم، أما إذا قال: أبيعك ما في بطن هذه الناقة أو ناقتي الفلانية ما في بطنها اليوم أو ما في بطنها العام الآتي الذي تحمل به في العام الآتي. هذا الذي ما يجوز، أما ما في ذمته فيأتي به من أي جهة. هذا سلم. مثل لو قال: أبيعك في ذمتي مائة صاع أو مائة وزنة من كذا كذا. هذا لا بأس به، لكن لو قال: أبيعك ثمرة هذا النخل. ما صح.
__________
(1) سؤال مقدم لسماحته بعد شرح درس بلوغ المرام.(19/277)
س 157: إذا خصص الإنسان صياد السمك السمك في الماء على أن يكون بثلاثة أنواع كسمك الكنعد عشرين كيلو خصص بوزن معين ونوع معين فهل يجوز؟ (1) . ج: إذا كان في ذمته لأجل معلوم ما فيه بأس إلى أجل معلوم يصيد ويعطي ما فيه بأس، أما سمك معين في الماء لم يحزه ولا هو في الذمة لا يصلح؛ لأنه غرر.
__________
(1) سؤال مقدم لسماحته بعد شرح درس بلوغ المرام.(19/277)
صفحة فارغة(19/278)
باب القرض(19/279)
صفحة فارغة(19/280)
158 - الواجب رد الدنانير
التي اقترضتها لا صرفها بغيرها
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم م. م. ع. وفقه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى استفتائك المقيد بالأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (6862) وتاريخ 26\10\1409هـ، الذي جاء فيه: (اقترضت من أحد الإخوة مبلغ مائة دينار أردني لأرسلها لأهلي في مصر واشتريت من هذا المبلغ مئتا دولار، وبقي معي من المبلغ ستة دنانير وأربعمائة فلس تقريبا. وبعد أن أرسلت المبلغ إلى أهلي ارتفع سعر الدولار فصار سعر الدولار (650) فلسا بدلا من (465) فلسا وقت اقتراض المبلغ. فلما شعر الأخ بالارتفاع المستمر في سعر صرف الدولار قال لي: لن آخذ منك سوى (200) دولار، ولم يقبل المبلغ(19/281)
بالدينار كما أخذته منه، علما بأنه لم يشترط علي ذلك عند اقتراض المبلغ، فقلت له: سندخل في معاملة ربوية، وفي عمل يصل بنا إلى الوقوع في معصية الله تعالى، ولكنه لم يستمع لهذا الكلام محتما أنه لو قام بتصريف المبلغ وقتها لحصل على (200) دولار. وسألت بعض طلبة العلم من إخواني فأشاروا علي بعدم دفع المبلغ إليه بالدولار بل يجب أن أدفعه بالدينار كما أخذت بل قال أحدهم: إن لم يستمع لكلام الله سبحانه وتعالى فأمامه القضاء. علما بأن هذا الأخ سافر الآن إلى مصر وهو منتظر رد المبلغ بالدولار- وما زاد المشكلة تعقيدا هو كيف أرد إليه المبلغ بالدينار وسعر صرف الدينار في مصر يختلف عن سعرها هنا. فهل أقوم بتسديد المبلغ له بالجنيه المصري حسب سعر الدينار وقتها ... ؟) .
وأفيدك بأن عليك رد الدنانير كما اقترضتها لا صرفها بجنيهات مصرية أو دولارات ما دام تسديد القرض بالدنانير ممكنا والتعامل بها قائما، لكن لو اتفقت مع صاحبك على إعطائه عملة أخرى بسعر الدنانير وقت الدفع فلا حرج في ذلك لما ثبت من «حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع الدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذا من هذا وأعطي هذا من هذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذها(19/282)
بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء (1) » ، رواه الخمسة وصححه الحاكم.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/83) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .(19/283)
لا يجوز أخذ القرض
الربوي ولو كان الغرض شريفا
س 159: هل يجوز الاقتراض من البنوك الربوية لمنافسة المبشرين لغرض إنقاذ أبناء المسلمين من التنصير إلى آخره؟ .
ج: إن كان الاقتراض بفائدة ربوية لم يجز ذلك بإجماع سلف الأمة؛ لأن الأدلة من الكتاب والسنة تدل على تحريم ذلك ولو كان الغرض شريفا ونبيلا؛ لأن الغايات الشريفة لا تبرر الوسائل المحرمة ولا تبيحها، أما إن كان الاقتراض من دون فائدة فلا بأس، ولكن الاقتراض من غيرها من أصحاب الأموال السليمة من الربا أولى وأحسن وأحوط إذا تيسر ذلك.
ونوصيكم بالتعاون بينكم وبالاقتراض من تجار المسلمين الطيبين وجمع التبرعات منهم؛ لإنقاذ أبناء المسلمين من أيدي دعاة النصرانية والوثنية والشيوعية وهذا التعاون واجب عليكم معشر المسلمين في دولة يوغندا وغيرها، وهو من الجهاد الشرعي، ومن الدعوة إلى الله سبحانه، ومن الأمر بالمعروف(19/284)
والنهي عن المنكر، ونسأل الله لكم العون والتوفيق وصلاح النية والعمل، ونوصي إخوانكم المسلمين في يوغندا التعاون معكم في عملكم الجليل لنشر الإسلام والدعوة إليه في المساجد وغيرها، وافتتاح المدارس الإسلامية لتحفيظ القرآن الكريم وتعليمه، وتعليم العقيدة الصحيحة الإسلامية السالمة من الشوائب الشركية والبدعية مع تعليم العلوم الشرعية.
يسر الله أمركم وبارك في جهودكم ونصر بكم الحق وأكثر أعوانكم في الخير وحماكم والمسلمين من شر دعاة الباطل إنه جواد كريم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(19/285)
لا يجوز التعاون بكتابة القرض الربوي
س 160: أنا محاسب لدى شركة تجارية وتضطر هذه الشركة للاقتراض من البنك قرضا ربويا. ويأتيني صورة من عقد القرض لإثبات مديونية الشركة في دفاترها، هل أعتبر كاتبا للربا ولا يجوز لي أن أعمل مع هذه الشركة، بمعنى هل أعتبر آثما بقيد العقد دون إبرامه أفيدوني جزاكم الله خيرا؟ (1) .
ج: لا يجوز التعاون مع الشركة المذكورة في المعاملات
__________
(1) نشر في (كتاب الدعوة) ج1 ص 158.(19/285)
الربوية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء (1) » رواه مسلم، ولعموم قوله سبحانه: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) .
__________
(1) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .
(2) سورة المائدة الآية 2(19/286)
حكم الاقتراض من مال حرام
س 161: هل يجوز أن أستلف من شخص تجارته معروفة بالحرام وأنه يتعاطى الحرام؟ (1) .
ج: لا ينبغي لك يا أخي أن تقترض من هذا أو أن تتعامل معه ما دامت معاملاته بالحرام، ومعروف بالمعاملات المحرمة الربوية أو غيرها فليس لك أن تعامله، ولا أن تقترض منه بل يجب عليك التنزه عن ذلك والبعد عنه، لكن لو كان يتعامل بالحرام وبغير الحرام، يعني معاملته مخلوطة فيها الطيب والخبيث فلا بأس، لكن تركه أفضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2) » .، ولقوله صلى
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص416.
(2) رواه الترمذي في (صفة القيامة) باب منه (ما جاء في صفة أواني الحوض) برقم (2518) والنسائي في (الأشربة) باب الحث على ترك الشبهات برقم (5711) .(19/286)
الله عليه وسلم: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه (1) » ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس (2) » .
فالمؤمن يبتعد عن المشتبهات، فإذا علمت أن كل معاملاته محرمة وأنه يتجر في الحرام فمثل هذا لا يعامل ولا يقترض منه.
__________
(1) رواه البخاري في (الإيمان) باب فضل من استبرأ لدينه برقم (52) ومسلم في (المساقاة) باب أخذ الحلال وترك الشبهات برقم (1599) .
(2) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب تفسير البر والإثم برقم (2553) .(19/287)
حكم من جهل عنوان دائنه
س 162: قبل عدة سنوات أخذت من عدد من الزملاء مبلغ 100 ريال سعودي وبعدها سافرت إلى منطقة أخرى ونسيت هؤلاء الزملاء وكذلك هم نسوني والآن أنا لا أعرف أين هم فما أفعل بالمبلغ الذي على عاتقي؟ أخبروني جزاكم الله خيرا (1) .
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج3 ص 10.(19/287)
ج: إذا كان الواقع كما ذكرت في السؤال وهو نسيانك أصحاب المئة، فالمشروع لك أن تتصدق عنهم ومتى ذكرت أحدا منهم فأعطه حقه إلا أن يسمح بالصدقة التي فعلتها عنه، وبذلك تبرأ ذمتك ويحصل لك ولهم الأجر.(19/288)
س 163: إنسان يعلم أن فلانا يريد منه مبلغا وفلانا آخر يريد منه مبلغا وفلانا يريد منه مبلغا ولكنه لا يدري أين هم بعد أن تغير مكانهم فماذا يفعل في هذه الحالة، وهل يجوز أن يتصدق بمبلغ من المال ويجعل ثوابه لهم، وماذا يقول في هذه الحالة نرجو إفادتنا؟ جزاكم الله خيرا (1) .
ج: إذا لم يعلم عناوينهم فإنه يتصدق بحقوقهم عنهم بالنية ومتى حضروا أو عرف عناوينهم إن أمضوا الصدقة فالأجر لهم، وإذا لم يمضوا الصدقة أعطاهم حقوقهم ويكون أجر الصدقة له، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1163) في 25\6\1419هـ.(19/288)
نصيحة للتجار والمدينين
س 164: وقع كثير من الناس في ديون كثيرة ما نصيحتكم للتاجر والمدين وغيرهم في هذه الأمور(19/288)
سماحة الشيخ؟ (1) .
ج: النصيحة أن الإنسان يجتهد في الاقتصاد وعدم الدين ويفرح بما أغناه الله عن الدين مهما أمكن، وإذا احتاج للدين فيكون عنده نية أنه يسدد الدين وأنه يجتهد في سداد الدين، إذا اضطر إليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله (2) » ، فليجتهد في النية الصالحة ولا يستدين إلا إذا دعت إليه الضرورة، ولا يستكثر من الدين فإنه قد يعجز عن الأداء، فينبغي له الاقتصاد في أموره، وتحري الاقتصاد في ملبسه ومأكله ومشربه وغير ذلك، حتى لا يحتاج للدين الكثير، وإذا احتاج للدين فليجتهد في أسباب قضاء الدين، بالطرق التي يستطيعها مع النية الصالحة، نيته أنه يبادر بالدين من حين يتيسر له ذلك، لا يتساهل، يعني يكون عنده نية صالحة أنه يعمل ويجتهد لقضاء الدين.
__________
(1) نشر في جريدة (الرياض) العدد (10763) في 12\8\1418هـ.
(2) رواه البخاري في (الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس) باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها برقم (2387) .(19/289)
الواجب على من عليه دين كتابته
س 165: رجل استثمر أموال زوجته مع أمواله وهي شبه راضية وكانت زوجته تطالبه بأن يكتب لها شيء في العقار على قدر نقودها لكي تضمن أن نقودها لا تذهب إلى الورثة بعد وفاته ولكن زوجها كان يقول لها: إن هذه الأموال يقصد أمواله وأموالها لك ولأبنائك من بعدي فتوفي قبل أن يكتب لها شيئا بقدر أموالها فهل يلحقه شيء في ذلك وماذا على الورثة تجاه هذا الموضوع؟ جزاكم الله خيرا (1) . ج: بسم الله والحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد: فإن الواجب على الزوج إذا كان عنده مال لزوجته أن يكتب ذلك وأن يوضح ذلك في وثيقة ثابتة حتى يسلم لها بعد موته، ويجب أن يوضح ذلك في صحته حتى تبرأ ذمته، وإذا مات ولم يبين ذلك وجب على الورثة أن يؤدوا حقها من رأس التركة كسائر أهل الدين إذا ثبت ذلك بالبينة أو سمحوا لها بذلك وصدقوها إذا كانوا مرشدين مكلفين، ولا يجوز للزوج ولا غيره إذا كان في ذمته
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في برنامج (نور على الدرب) .(19/290)
دين لأحد أن يسكت وأن يغفل عن ذلك فتضيع الحقوق، فإن هذا خطر عظيم وظلم عظيم يجب الحذر منه، فالواجب على كل إنسان عنده حق للغير سواء كان زوجا أو غير زوج أو زوجة أو غير ذلك أن يبين ذلك ويكتب الدين في وثيقة شرعية عند المحكمة أو عند كاتب معروف يعتمد قلمه حتى يؤدي الحق إلى صاحبه لو قدر الله الموت قبل التسديد وهذه المرأة يجب على الورثة أن يعطوها حقها إذا ثبت لديهم ذلك، فإن لم يثبت فليس عليهم شيء والله يعوضها عن ذلك، وقد أساء زوجها وتعاطى ما لا يحل له وهي بالخيار إن أباحته وسامحته فلها أجرها وإن لم تسمح أخذت حقها منه يوم القيامة ولا يضيع عليها شيء فأنت أيتها الأخت في الله السائلة إن سمحت وبرأت الزوج فجزاك الله خيرا وإن لم تسمحي ولم يعطوك حقك يعني الورثة فالأمر إلى الله والحساب بينك وبينه عند الله عز وجل والله المستعان.(19/291)
حكم الاحتيال لأخذ القرض أو مساعدة
س 166: أنا مواطن من هذا البلد أخذت قرضا خاصا من صندوق التنمية العقارية بمبلغ ثلاثمائة ألف ريال وكذلك قرض استثمار بمبلغ يزيد على المليون ريال، وحيث إن لدي قطعة أرض أملكها بموجب صك شرعي(19/291)
فقد حولتها باسم زوجتي (بيعا صوريا) رغبة في الحصول على قرض استثمار باسمها حيث إن الشخص لا يأخذ أكثر من قرض استثمار واحد وفعلا تم ذلك أرجو من سماحتكم الإفادة هل في ما فعلت إثم علي، وهل لا يصح ذلك شرعا، وإذا كان لا يصح فما هو الحل للتخلص من هذا القرض؟ جزاكم الله خيرا (1) .
ج: هذا التصرف لا يجوز لما فيه من الكذب والتحيل على مخالفة نظم الدولة الموضوعة لتحقيق المصلحة العامة والواجب رد المبلغ إلى الصندوق مع التوبة إلى الله سبحانه من هذا العمل السيئ. أصلح الله حال الجميع.
__________
(1) نشر في (المجلة العربية) وفي (مجلة البحوث الإسلامية) العدد (27) ص 84.(19/292)
لا يجوز الاقتراض من
المصرف لأجل إجراء عملية جراحية
س 167: هل يجوز للرجل أن يأخذ مبلغا من المصرف بفائدة لأجل إجراء عملية جراحية لزوجته، وقد حاول أن يقترض من بعض الناس ولم يقرضوه؟ (1) .
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من (المجلة العربية) .(19/292)
ج: لا يجوز له القرض من المصرف ولا غيره بطريق الربا؛ لقول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) وقوله سبحانه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (2) وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (4) وقد «ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لعن آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء (5) » ، أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، والله الموفق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .(19/293)
حديث «كل قرض جر نفعا فهو ربا»
س 168: ما حكم الإقراض لشخص على أن يرد ذلك القرض في مدة معينة ويقرضني مثل هذا المبلغ لنفس المدة الأولى، وهل يدخل هذا تحت حديث: «كل قرض جر نفعا فهو ربا» علما بأن طلب الزيادة لم(19/293)
يشترط؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا (1) .
ج: لا يجوز هذا القرض لكونه يتضمن اشتراط قرض مثله للمقرض وذلك يتضمن عقدا في عقد فهو في حكم بيعتين في بيعة، ولأنه يشترط فيه منفعة زائدة على مجرد القرض وهي أن يقرضه مثله، وقد أجمع العلماء على أن كل قرض يتضمن شرط منفعة زائدة أو تواطؤا عليها فهو ربا، أما حديث: «كل قرض جر منفعة فهو ربا» فهو ضعيف، ولكن ورد عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ما يدل على معناه إذا كان ذلك النفع مشترطا أو في حكم المشترط أو الدين.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص 417.(19/294)
169 - إذا شرط الدلال على صاحب المزرعة
في قرضه ألا يبيع إنتاجه إلا عنده فهو ربا
فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أعمل دلالا في سوق الجملة بمصر ويأتي صاحب المزرعة بالإنتاج من خضار وغيره إلى المحل فأبيعه لحسابه كدلال، ولي على ذلك عمولة أحددها مع الزبائن ولا نختلف على ذلك، ولكن قبل أن ينضج المحصول يأتي الزارع ليأخذ قرضا فأعطيه إياه ولكن عليه ألا يبيع إنتاجه إلا عندي ولا أزيد عليه في العمولة أكثر من غيره. فهل هذا قرض جر نفعا أفتونا جزاكم الله خيرا وإن كان باب من الربا فما العمل وقد أصبح الأمر شائعا نرجو فتوى معتمدة بتوقيعكم (1) .
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
إذا شرط الدلال على صاحب المزرعة في قرضه له ألا يبيع إنتاجه إلا عنده فهذا القرض يعتبر من قروض الربا لكونه قرضا جر منفعة، فالواجب تركه والتوبة إلى الله سبحانه مما سبق وفق الله الجميع والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سؤال مقدم لسماحته من ع. م. ع. من مصر.(19/295)
حكم وفاء القرض
مع اختلاف قيمة العملة
س 170: أفيدكم بأنني اقترضت مبلغا من المال من شخص لا يدين بالإسلام وذلك لظروف اضطرارية، على أن أرد له ما يساوي قيمة المبلغ بالعملة الحرة أي بعملة غير عملة بلدي، وذلك حين عودتي لمكان عملي بالسعودية، ولما عدت بعد فترة ارتفعت قيمة العملة الحرة وأصبحت تساوي ضعف المبلغ الذي استدنته، فهل إذا أرسلت له المبلغ بالعملة الحرة رغم فرق العملة جائز؟ أم أرسل له المبلغ الذي اقترضته فقط.
ج: هذا القرض غير صحيح لأنه في الحقيقة بيع لعملة حاضرة بعملة أخرى نسيئة وهذه معاملة ربوية؛ لأنه لا يجوز بيع عملة بعملة أخرى إلا بسعر يومها يدا بيد، وعليك أن ترد إليه ما اقترضته منه فقط مع التوبة النصوح مما جرى من المعاملة الربوية.(19/296)
لا يجوز بيع القرض
إلا بسعر المثل وقت التقاضي
س 171: أقرضني أخي في الله حسن ألفي دينار تونسي وكتبنا عقدا بذلك ذكرنا فيه قيمة المبلغ بالنقد الألماني، وبعد مرور مدة القرض وهي سنة ارتفع ثمن النقد الألماني، فأصبح إذا سلمته ما هو في العقد أكون أعطيته ثلاثمائة دينار تونسي زيادة على ما اقترضته. فهل يجوز للمقرض أن يأخذ الزيادة، أم تعتبر ربا؟ لا سيما وأنه يرغب السداد بالنقد الألماني ليتمكن من شراء سيارة من ألمانيا.
ج: ليس للمقرض سوى المبلغ الذي أقرضك وهو ألفا دينار تونسي إلا أن تسمح بالزيادة فلا بأس، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن خيار الناس أحسنهم قضاء (1) » رواه مسلم في صحيحه، وأخرجه البخاري بلفظ: «إن من خيار الناس
__________
(1) صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2392) ، صحيح مسلم المساقاة (1601) ، سنن الترمذي البيوع (1316) ، سنن النسائي البيوع (4618) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2423) ، مسند أحمد بن حنبل (2/431) .(19/297)
أحسنهم قضاء (1) » ، أما العقد المذكور فلا عمل عليه ولا يلزم به شيء؛ لكونه عقدا غير شرعي، وقد دلت النصوص الشرعية على أنه لا يجوز بيع النقد بالنقد إلا بسعر المثل وقت التقاضي وأن لا يفترقا وبينهما شيء.
__________
(1) رواه البخاري في (الاستقراض وأداء الديون) باب هل يعطى أكبر من سنه برقم 02392) ومسلم في (المساقاة) باب من استسلف شيئا وقضى خيرا منه برقم (1600) .(19/298)
172 - يلزم المدين تسليم ما عليه من الحق وقت المعاملة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ ع. أ. ي. قاضي الشعيب وفقه الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده:
كتابكم الكريم المؤرخ في 19\4\1384هـ وصل وصلكم الله بهداه وسرني منه علم صحتكم الحمد لله على ذلك، وقد تأخر جوابه لتزاحم الشغل أحسن الله العاقبة، وقد تأملت ما تضمنه من السؤال عن مسألتين: إحداهما: إذا كان لإنسان على آخر مطلب دراهم عربية ثمنا لعقار أو مكيل أو نحوه من مدة طويلة كعشر سنوات وقت ما كان الثمن الدارج فضة وطلب صاحب الحق من غريمه أن يعطيه مطلبه فضة إذ أن البيع والشراء قبل خروج الورق فقال الغريم سوف أعطيك مطلبا ورقا- العملة المتداولة اليوم- فلم يقبل صاحب المطلب إلا دراهم عربية فضة، فهل يلزم المدين أن يسلم فضة لصاحب الحق أو لا يلزمه ذلك بل هو مخير بين أن يسلم له ورقا أو فضة؟ .
والجواب: قد تأملت هذه المسألة في كلام أهل العلم(19/299)
وظهر لي أن الصواب في ذلك هو إلزام المدين بتسليم ما عليه من الحق في وقت المعاملة وهو النقد الفضي وليس هناك ما يقتضي العدول عنه. ولا يخفى على مثلكم أن المسلمين على شروطهم وأن على اليد ما أخذت حتى تؤديه وأن الشرط العرفي كالنطقي، ولا أعلم ما يوجب ترك هذه الأصول، والنقد الفضي موجود بحمد الله وارتفاع سعره لا يمنع من تسليمه كما لو كان هو العملة الرائجة، أما إن تعسر تحصيله فالواجب قيمته وقت إعوازه من الذهب أو غيره مما لا يجري بينه وبينه ربا الفضل، أما أخذ الورق عنه مع الزيادة فعندي فيه شك والأحوط تركه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (1) » ، ولحديث النعمان في ترك الشبهات. وأخذ الورق على الفضة متفاضلا فيه شبهة فيما أعلم، وأسأل الله لي ولكم ولسائر إخواننا التوفيق لإصابة الحق الذي بعث به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) رواه الترمذي في (صفة القيامة) باب منه (ما جاء في صفة أواني الحوض) برقم (2518) والنسائي في (الأشربة) باب الحث على ترك الشبهات برقم (5711) .(19/300)
حكم الخصم في سداد الأقساط
س 173: الأخ أ. س. أمن الرياض يقول في سؤاله: المعتاد في المدارس الأهلية أن تسديد الأقساط يكون على فترتين قبل بداية الفصل الأول وقبل بداية الفصل الثاني، وبعض المدارس يكتب لولي الأمر قبل بداية الدراسة أنه إذا سدد القسطين معا قبل بداية الدراسة فإنه يحصل على خصم قدره كذا وكذا في المائة. فهل هذا جائز في شرعنا المطهر. نرجو الفتوى مشكورين (1) .
ج: لا حرج في ذلك في أصح قولي العلماء؛ لما في ذلك من المصلحة الظاهرة للطرفين، والله ولي التوفيق.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته من (المجلة العربية) .(19/301)
حكم الاقتراض من البنك
س 174: إذا احتاج الرجل إلى شيء من المال لمؤونة البيت أو تسديد أجرة الدار أو نحو ذلك ولم يجد من يقرضه ولا من يستدين منه فهل يجوز له أن يستدين من البنك؟ (1) .
__________
(1) نشر في (مجلة الجامعة الإسلامية) بالمدينة المنورة، العدد الأول رجب عام 1389هـ.(19/301)
ج: إن كانت الاستدانة من البنك على طريقة شرعية؛ كأن يأخذ منه قرضا بمثله من دون زيادة أو يشتري منه سلعة إلى أجل معلوم ولو بأكثر من ثمنها الحاضر فلا بأس، أما إذا اقترض منه على وجه الربا فهذا لا يجوز؛ لأن الله سبحانه حرم الربا في كتابه العظيم، وسنه رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام وورد فيه من الوعيد ما لم يرد في أكل الميتة، ونحوها، قال الله سبحانه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (1) قال أهل التفسير معنى ذلك أنه يقوم من قبره يوم القيامة كالمجنون. ثم قال الله سبحانه بعد ذلك: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (3)
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء (4) » ، رواه مسلم في صحيحه.
والآيات والأحاديث في تحريم الربا والوعيد عليه كثيرة
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 276
(4) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .(19/302)
مشهورة، وليس عدم المحتاج من يقرضه أو يبيع عليه بالدين يجعله في حكم المضطر الذي تباح له الميتة أو الربا، هذا قول لا وجه له من الشرع؛ لأن في إمكان المحتاج أن يعمل بيده حتى يحصل ما يسد حاجته أو يسافر إلى بلاد أخرى حتى يجد من يقرضه أو يبيع عليه بالدين إلى أجل. والمضطر هو الذي يخشى على نفسه الموت إذا لم يأكل من الميتة ونحوها بسبب شدة المجاعة وعدم قدرته على ما يسد رمقه بالكسب ولا بغيره، وليست حاجة هؤلاء الذين يعاملون البنوك بالربا في حكم الضرورة التي تبيح الميتة ونحوها، وكثير من الناس سهل عليهم أمر الربا حتى صار يعامل فيه ويفتي الناس به بأدنى شبهة وما ذاك إلا لقلة العلم وضعف الإيمان وغلبة حب المال على النفوس، نسأل الله السلامة والعافية مما يغضبه، ومهما أمكن عدم التعامل مع البنك وعدم الاقتراض منه ولو بالطرق الشرعية التي ذكرنا آنفا فهو أولى وأحوط؛ لأن أموال البنك لا تخلو من الحرام غالبا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه (1) » ، والله المستعان.
__________
(1) رواه البخاري في (الإيمان) باب فضل من استبرأ لدينه برقم (52) ومسلم في (المساقاة) باب أخذ الحلال وترك الشبهات برقم (1599) .(19/303)
متى تبرأ ذمة الميت المدين من تبعة الدين
س 175: من المعلوم أن صندوق التنمية العقارية يمنح المواطنين قروضا طويلة الأجل لبناء مساكن لهم يتم سدادها على مدة خمسة وعشرين عاما، فإذا توفي المقترض ولم يسدد من الأقساط المذكورة سوى قسطين فقط، وقام ورثته من بعد وفاته بالتسديد في المواعيد المحددة فهل تبرأ ذمة الميت حينئذ ولا يكون هذا داخلا فيما ورد في الحديث: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه (1) » ، أو أنه مرتهن بهذا الدين حتى يتم سداد جميع الأقساط، آمل إيضاح الموضوع من سماحتكم (2) .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين من الصحابة) باقي مسند أبي هريرة برقم (10221) والترمذي في (الجنائز) باب ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: '' نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه'' برقم (1078) .
(2) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص 418.(19/304)
ج: إذا مات الإنسان وعليه دين مؤجل فإنه يبقى على أجله إذا التزم الورثة بتسديده واقتنع بهم صاحب الدين، أو قدموا ضمينا مليئا أو رهنا يفي بالدين، وبذلك يسلم الميت من التبعة إن شاء الله.(19/305)
لا يلزم تعجيل أقساط البنك العقاري إذا التزم ورثة الميت أو غيرهم بتسديدها
س 176: والدي عليه دين من البنك العقاري وقد توفي - رحمه الله - فهل يجب علينا تسديد المبلغ كاملا أم على حسب الأقساط التي أقرها البنك وتبرأ ذمته بذلك؟ (1) .
ج: لا يلزم تعجيل قضائها إذا التزم الورثة أو غيرهم بتسديدها في أوقاتها على وجه لا خطر فيه على صاحب الحق؛ لأن الأجل من حقوق الميت يرثه ورثته، وليس على الميت حرج في ذلك إن شاء الله، لأن الدين المؤجل لا يجب قضاؤه إلا في وقته، والورثة يقومون مقام الميت إذا التزموا بذلك أو التزم به غيرهم على وجه لا خطر فيه على صاحب الحق كما ذكرنا آنفا.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص419.(19/305)
حكم من مات ولم يخبر بدينه
س 177: شخص توفي وعليه دين ولم يخبر أحدا بذلك فما الحكم؟ (1) .
ج: إذا كان على الميت دين ولم يخبر به قبل وفاته وجب على ورثته أن يقضوه من التركة إذا ثبت بالبينة الشرعية مقدما على الوصية والإرث. وإن تنازع الورثة ومدعوو الدين فالمرجع في ذلك إلى المحكمة الشرعية.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص 419.(19/306)
حكم المطالبة بالزيادة في القرض المتجر به
س 178: اقترض رجل مني مبلغا من المال حوالي خمسين ألف ريال قبل ثلاث سنوات على أن يدفعه لي خلال ستة أشهر، ولكنه أبقى المال عنده أكثر من ذلك وأخذ يتاجر فيه إلى الآن. فهل يجوز لي أن أطالبه بزيادة عن رأس مالي الأصلي أم لا؟ (1) .
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص 417.(19/306)
ج: ليس لك إلا رأس مالك، ولا تجوز لك المطالبة بالزيادة، لأن ذلك من الربا، لكن لو أعطاك مع حقك زيادة تبرعا منه من غير طلب منك ولا إلزام فذلك أفضل له وأحسن في حقه عملا بالحديث الصحيح وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن خيار الناس أحسنهم قضاء (1) » ؛ ولأن في ذلك مكافأة لك على إحسانك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أتى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه (2) » .
__________
(1) رواه البخاري في (الاستقراض وأداء الديون) باب هل يعطى أكبر من سنه برقم (2392) ومسلم في (المساقاة) باب من استسلف شيئا وقضى خيرا منه برقم (1600) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمر برقم (5342) والنسائي في (الزكاة) باب من سأل بالله عز وجل برقم (2567) .(19/307)
جواز ما يسمى بالجمعية لما فيه من مصلحة للجميع
س 179: جماعة من المدرسين يقومون في نهاية كل شهر بجمع مبلغ من المال من رواتبهم ويعطى لشخص معين منهم وفي نهاية الشهر الثاني يعطى لشخص آخر(19/307)
وهكذا حتى يأخذ الجميع نصيبهم وتسمى عند البعض (الجمعية) فما حكم الشرع في ذلك؟ (1) .
ج: ليس في ذلك بأس، وهو قرض ليس فيه اشتراط نفع زائد لأحد، وقد نظر في ذلك مجلس هيئة كبار العلماء فقرر بالأكثرية جواز ذلك؛ لما فيه من المصلحة للجميع بدون مضرة، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في جريدة (الرياض) العدد (11043) في 27\5\1419هـ.(19/308)
لا يجوز رد القرض
بغير عملته إذا كان عن مشارطة
س 180: هل يجوز اقتراض مبلغ من المال بالريال ورده بما يساويه من الدولار؟ (1) .
ج: إن كان مشارطة فهذا لا يجوز، هذا بيع والبيع نقدا بنقد نسيئة لا يجوز أما إن كان أقرضه دراهم سعودية أو أقرضه جنيهات مصرية أو جنيهات استرلينية ثم عند الوفاء أعطاه دولارات بالتراضي بينهما يدا بيد فلا بأس مثل ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لما اشتكى إليه بعض الناس قيل:
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في حج عام 1406هـ.(19/308)
«يبيعون بالدنانير ويأخذون الدراهم ويبيعون الدراهم بالدنانير. قال: لا بأس أن تأخذوها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء (1) » ، فإذا اقترض إنسان مثلا ألف ريال قرضة ثم عند الوفاء اتفق الشخصان على أنه يعطيه عن الألف ريال دولارات، أو دنانير كويتية، أو أردنية، أو جنيه استرليني، أو ما أشبه ذلك لا بأس إذا اتفقنا عليه وتقابضا في الحال يدا بيد.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) باقي مسند عبد الله بن عمر برقم (6203) والنسائي في (البيوع) باب بيع الفضة بالذهب وبيع الذهب بالفضة برقم (4582) .(19/309)
باب الرهن لا يجوز التصرف في الملك المرهون
س 181: إذا كان أحد أملاكي مرهونا للدولة، فهل يجوز أن أتصرف فيه بالبيع؟ (1) .
ج: إذا كان مرهونا للدولة أو لغيرها فليس لك التصرف إلا بإذن المرتهن؛ لأنه قد تعلق به حقه فليس لك التصرف إلا بإذنه سواء كان المرتهن الدولة أو غير الدولة.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في برنامج (نور على الدرب) .(19/310)
لا بأس برهن المال المثمر
س 182: رهن المال المثمر كالنخل والعنب، بيع العهدة هل تحل الثمرة لصاحب المال أو المرتهن؟ (1) . ج: لا بأس برهن المال المثمر كالنخل والعنب والثمر
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته بعد درس (بلوغ المرام) .(19/310)
يكون للمالك وهو الراهن وليس للمرتهن أن يأخذه إلا أن يحسبه من الدين، أما أخذه الثمرة وبقاء الدين بحاله فهو من الربا المحرم وهكذا لو رهنه أرضا لا يجوز للمرتهن أن يأخذ أجرتها إلا أن يحسبها من الدين، وقد ورد عن جماعة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم التحذير من أخذ صاحب الدين من المدين شيئا من المال من أجل إنظاره وإمهاله في الدين فجعلوا ذلك من الربا، أما إذا زاده شيئا حين الوفاء أو بعده فلا بأس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن خيار الناس أحسنهم قضاء (1) » .
__________
(1) رواه البخاري في (الاستقراض وأداء الديون) باب هل يعطى أكبر من سنه برقم (2392) ومسلم في (المساقاة) باب من استسلف شيئا وقضى خيرا منه برقم (1600) .(19/311)
باب الضمان
183 - حكم التأمين الصحي
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم مدير معهد الدعوة والإرشاد بالمدينة المنورة سلمه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:.
فأشير إلى كتابكم رقم (522\9\س) وتاريخ 25\7\1407هـ، ومشفوعه كتاب مدير عام الشئون الصحية بمنطقة المدينة المنورة بشأن ما يقوم به مستوصف الفهد الخاص في المدينة باستحداث موضوع التأمين الصحي المتمثل في دفع مبلغ مقطوع من المال مقدما مقابل تقديم الخدمة العلاجية المجانية له في خلال سنة لفرد أو لأفراد الأسرة وطلبكم الفتوى الشرعية حيال الموضوع.(19/312)
وأفيدكم بأن ما ذكرتموه يعتبر من صور التأمين التجاري، وقد صدر من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى في تحريم ذلك، نشفع لكم صورة منها وفيه الكفاية إن شاء الله.
وفق الله الجميع لما فيه رضاه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(19/313)
حكم التأمين على الحياة والممتلكات
س 184: ما حكم التأمين سواء كان على الحياة أو على الممتلكات؟ (1) .
ج: التأمين على الحياة والممتلكات محرم لا يجوز لما فيه من الغرر والربا، وقد حرم الله عز وجل جميع المعاملات الربوية والمعاملات التي فيها الغرر رحمة للأمة وحماية لها مما يضرها قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن بيع الغرر (3) » ، وبالله التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج3 ص 5.
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) رواه مسلم في (البيوع) باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر برقم (1513) .(19/314)
حكم التأمين على السيارات
س 185: بعض البلاد السرقات فيها كثيرة جدا، فهل يجوز مثلا التأمين على السيارة أو غيرها؟ (1) .
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في حج عام 1407هـ.(19/314)
ج: التأمين محرم، هذا هو الأصل، لأنه ربا وغرر فالمؤمن يعطي مالا قليلا ويأخذ مالا كثيرا، وقد لا يأخذ شيئا وقد تخسر الشركة أموالا عظيمة؛ لكن لا تقل آخذ من ذا ومن ذا، ومن ذا، فيحصل الربح من جهة لكن من جهة أخرى قد يعطي شركة التأمين عشرة آلاف وتخسر عليه عشرات الآلاف. ومن هنا يأتي الغرر.(19/315)
لا يلزم الضمان من لم
يفرط ولم يتعد على ما أودع لديه
س186: إني في إحدى اللجان الخيرية فأنا مسئول عن جمع مال اللجنة فربما يكون نقص في بعض الأحيان من شدة الضغط علينا في بعض المواسم فلا أدري من أين هذا النقص فربما لا نأخذها من المتبرع نفسه أو من الآخرين الذين يجمعون التبرعات في نفس عملنا أو من الأسواق، فهل نحن ملزمون بدفع النقص الذي ليس لي به ذنب مثلا، أفتونا مأجورين؟ (1) .
أخبرك يا والدي العزيز بأن أبي يقرئك السلام وإني أحبك في الله عز وجل ولا تحرمنا من دعائك، وجزاكم
__________
(1) سؤال موجه لسماحته من الأخ أ. م. ح. من الكويت.(19/315)
الله خير الجزاء يا والدنا العزيز. نود أن ترسل لنا جوابا عاجلا في هذا الموضوع.
ج: أما النقص الذي أشرتم إليه، فلا يلزمكم غرمه، إذا لم يكن منكم تفريط ولا تعد، أما ما يتعلق بمحبتك لنا في الله فأقول: أحبك الله الذي أحببتنا له، ونرجو إبلاغ الوالد السلام، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة
ورئيس هيئة كبار العلماء
وإدارة البحوث العلمية والإفتاء(19/316)
باب الصلح
إجبار من لم يقبل الصلح على إزالة ضرره
س 187: ما هو القول الراجح فيما يتعلق بالأغصان والعروق التي تمتد من ملك شخص إلى ملك جاره وما يترتب على ذلك من الضرر، وما هي درجة الحديث الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قلع نخلة الشخص الذي أبى أن يقبل المعاوضة لما كان فيها ضرر على أخيه صاحب البستان؟ (1) .
ج: قد تأملت المسألة المذكورة ورأيت صاحب الإنصاف ذكر فيها وجهين، وذكر غيره قولين في المسألة، أحدهما: أن المالك لا يجبر على إزالتها. والثاني: يجبر فإن امتنع ضمن ما ترتب عليها من الضرر فاتضح لي أن القول الثاني أرجح من وجوه:
الأول: أن ذلك هو مقتضى الأدلة الشرعية مثل قوله
__________
(1) نشر في (مجلة الجامعة الإسلامية) بالمدينة المنورة.(19/317)
صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار (1) » ، وما جاء في معناه.
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (2) » ، ولا شك أن العرق والأغصان المضرة بالجار داخلة في الأذى المنهي عنه، فالواجب منع الجار من ذلك. الثالث: أن عدم الإجبار يفضي إلى استمرار النزاع والخصومة، وربما أفضى إلى ما هو أشد من ذلك من المضاربة وما هو أشد منها، فالواجب حسم ذلك والقضاء عليه، وقد دلت الأدلة الشرعية التي يتعذر أو يتعسر إحصاؤها على وجوب سد الذاريع المفضية إلى الفساد والنزاع والخصومة أو ما هو أشد من ذلك.
أما حديث صاحب النخلة فقد خرجه أبو داود من حديث محمد بن علي بن الحسين عن سمرة بن جندب، وفي إسناده نظر؛ لأن محمد بن علي لا يعلم سماعه من سمرة بل الظاهر
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) بداية مسند عبد الله بن عباس برقم (2862) وابن ماجه في (الأحكام) باب من بنى في حقه ما يضر بجاره برقم (2341) .
(2) رواه البخاري في (الأدب) باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره برقم (6018) .(19/318)
أنه لم يسمع منه كما نبه على ذلك الحافظ المنذري في مختصر السنن، لكن ذكر الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين في الكلام على الحديث الثاني والثلاثين شواهد لهذا الحديث، وهي كلها مع الحديث الذي ذكرنا في الوجه الأول تدل على ترجيح القول الذي ذكرنا وهو إلزام المالك بإزالة ما حصل به الضرر من عروق أو أغصان فإن لم يزل الضرر إلا بقلع الشجرة قلعت جبرا عليه حسما لمادة الضرر والنزاع ورعاية لحق الجوار.(19/319)
باب الوكالة
التوكيل في المال الربوي
س 188: لي أخ له حسابات في بنوك ربوية بمصر، وقد قام بعمل توكيل لي على حساباته في البنوك والمتمثلة في ودائع بفوائد سنوية. وطلب مني أن أقوم بفك الودائع والسحب من حسابه لشراء أراض ملك له. هل أكون مشترك معه في الإثم. أم أنا منفذ فقط لخدمة أخي؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا (1) .
ج: لا مانع من تنفيذ ما وكلك فيه أخوك في أصل ماله. أما الفوائد فهي ربا، ولا يجوز لك تنفيذها في مصالحه، ولكن تصرف في مصالح المسلمين، أو في الصدقة على الفقراء؛ لكونها مكاسب خبيثة. وفق الله الجميع لما يرضيه.
__________
(1) رسالة جوابية صدرت من مكتب سماحته عندما كان مفتيا عاما للمملكة ورئيسا لهيئة كبار العلماء.(19/320)
189 - ليس للوكيل سداد دينه من زكاة المال الموكل به
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أنا شخص مطالب بمبلغ من المال نهاية شهر عشرة ولا أستطيع الوفاء به في موعده كاملا، ويوجد لدي مبلغ من المال أنا وكيل عليه وكالة شرعية، ووالدي له جزء من هذا المبلغ.
سؤالي: هل يجوز لي اقتطاع جزء من زكاة هذا المال لأسدد به ديني، أفتونا وجزاكم الله عنا خير الجزاء؟ .
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فليس لك ذلك، وإنما يكون إخراج الزكاة من مالك المال، إلا إذا وكلك أبوك وشريكه في إخراج الزكاة وصرفها في غرمائك فلا بأس إذا كنت عاجزا عن تسديد حق الغرماء، أوفى الله عنك وعن كل مسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(19/321)
هل يجوز للوكيل
امتلاك ما زاد من مال موكله
س 190: إذا أرسلني والدي لشراء بعض الأشياء، وبقي معي مبلغ من المال فائض من شرائي، فهل يجوز لي امتلاك هذا المبلغ دون علم والدي؟ .
ج: ليس لك امتلاك ما فضل من المال الذي سلمه لك والدك لشراء بعض الحاجات، بل يجب رده إلى والدك؛ لأن ذلك من أداء الأمانة المأمور بها في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (1) الآية.
__________
(1) سورة النساء الآية 58(19/322)
باب الشركة
إذا رضي المقتسمان ومضى وقت طويل فلا تسمع الدعوى في القسمة
س 191: من الأخ ز. م. ش. نسأل عن شخصين اشتريا أرضا وعمراها من مدة عشرين سنة وبعد أن هدما بيوتهما رأى أحدهما أن الآخر عنده زيادة مترين وطالبه بحقه من الزيادة (1) .
ج: مثل هذه الدعوى لا تسمع؛ لمضي هذا الوقت الطويل عليها الدال على رضاهما بالقسمة، ولأن الأرض تختلف في الرغبة والرهبة فقد تكون التي زيد فيها أقل رغبة من الأخرى، وبكل حال فهذه الدعوى لا وجه لها ولا ينبغي النظر فيها فيما أعلم من قواعد الشرع المطهر.
__________
(1) نشر في (مجلة الجامعة الإسلامية) بالمدينة المنورة.(19/323)
س 192: الأخ ح. ع. من الرياض يقول في سؤاله: تعطي المصارف الإسلامية ما يسمى بالربح المتغير وهو(19/323)
يعني إعطاء ربح غير ثابت شهريا يتراوح بين 12% و17% فهل هذا التعامل مع هذا النوع من الأرباح حلال. أفتونا جزاكم الله خيرا؟ (1) .
ج: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فإن تعيين الربح بمبلغ معلوم في المضاربة أو غيرها من أنواع الشركات لا يجوز بل يبطل به العقد؛ لأن ذلك يفضي إلى أن يربح أحد الشريكين أو الشركاء ويخسر الآخر، وإنما يكون الربح جزءا مشاعا كالنصف أو أقل أو أكثر بإجماع أهل العلم، والله ولي التوفيق.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من (المجلة العربية) وأجاب عنه سماحته في 12\2\1417هـ.(19/324)
193 - حكم المساهمة في
الشركات التي تتعامل بالربا
الحمد لله، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد: (1) .
فقد بلغني أن بعض الشركات تتعامل بالربا أخذا وعطاء، وكثر السائلون من المساهمين وغيرهم عن حكم الأرباح التي تحصل لهم نتيجة التعامل بالربا، ونظرا لما أوجب الله من النصيحة للمسلمين، ولوجوب التعاون على البر والتقوى، رأيت تنبيه من يفعل ذلك على أن ذلك محرم ومن جملة كبائر الذنوب كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (3)
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص 391.
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 276(19/325)
وقد جعل الله سبحانه ذلك محاربة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2)
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: «هم سواء (3) » . والآيات والأحاديث في التحذير من الربا وبيان عواقبه الوخيمة كثيرة جدا، فالواجب على كل من يتعاطى ذلك من الشركات وغيرها التوبة إلى الله من ذلك وترك المعاملة به مستقبلا، طاعة لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وحذرا من العقوبات المترتبة على ذلك، وابتعادا عن الوقوع فيما حرم الله عملا بقوله سبحانه وتعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (5) وأسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين للتوبة إليه من جميع الذنوب، وأن
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .
(4) سورة النور الآية 31
(5) سورة التحريم الآية 8(19/326)
يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يصلح أحوالنا جميعا إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(19/327)
س 194: رجل يضع أمواله في أسهم لشركات تتعامل مع بنوك ربوية وعندما أخبرناه بأنه لا يجوز قال: لو لم نشترك نحن فسوف يأتي الأجانب ويأخذون النصيب الأكبر ويسيطرون على الاقتصاد فنحن أولى بخيرات بلادنا منهم. فما رأيكم جزاكم الله خيرا؟ (1) .
ج: لا يجوز الاشتراك في البنوك ولا في الشركات التي تتعامل معها؛ لقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء (3) » . والله ولي التوفيق.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من مجلة (الدعوة) وأجاب عنه سماحته في 5\10\1419هـ.
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598) .(19/327)
التخلص من المشاركة في الكسب الحرام
س 195: رجل تشارك مع آخر في دكان لآلات التصوير وقد تاب فكيف ينهي شراكته فيه بحيث لا يخسر؟ وما حكم ما يأتيه من كسب هذا الدكان؟ (1) .
ج: ينهي الشراكة بالتقويم ويصطلح هو وإياه على القيمة التي يرضاها الشخصان جميعا وما دخل عليه من ذلك فهو مباح له إلا إذا كان شيء من ذلك قيمة لتصوير ذوات الأرواح أو شيء من المحرمات الأخرى فلا يجوز له أكل ذلك بل عليه أن يتوب إلى الله توبة صادقة ويعزم على عدم العودة إلى ذلك ويتصدق به أو يصرفه في مشروع خيري.
__________
(1) نشر في هذا المجموع ج6 ص 380.(19/328)
باب المساقاة
196 - الأرض لا تتبع الغراس
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم الفاضل الشيخ ع. س. ش. سلمه الله وتولاه آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده:
كتابكم الكريم المؤرخ في 4\7\1386هـ وصل وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من السؤال عن المشكلة التي أثارها أبناء العم حول ملككم المسمى بالنقعه وقولهم: إن الأرض ترجع إلى ورثة الجد عبد العزيز رحمه الله كان معلوما.
والجواب: الذي قرره العلماء في باب المساقاة أن الأرض لا تتبع الغراس وأنها تبقى لصاحبها فإذا باد الشجر رجعت إلى مالكها وهذا هو المعروف عند الأئمة الأربعة(19/329)
وغيرهم؛ لكن ذكر العلماء أن المالك والغارس إذا اتفقا على أن الأرض تابعة للغراس فلا بأس، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإذا كان الجد عبد العزيز والجد عبد الله رحمة الله عليهما قد ذكرا في عقد المغارسة أن الأرض تابعة للغراس فالشرط صحيح على الراجح الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عملا بالحديث المشهور: «المسلمون على شروطهم (1) » ، ويكون للجد عبد الله من الأرض بقدر الذي له من الغراس حسب الشرط الذي بينهما.
أما إن كانا لم يذكرا في عقد المغارسة أن الأرض تابعة للغراس فليس للوالد عبد الله إلا الشجر، فإذا فني الشجر رجعت الأرض إلى مالكها وهو الجد عبد العزيز رحمه الله هذا هو الذي أعمله في هذه المسألة والله سبحانه وتعالى أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) رواه الترمذي في (الأحكام) باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح برقم (1352) .(19/330)
حكم تأجير الأرض الزراعية
س 197: لي أرض زراعية بالسودان ولم أستطع إصلاحها ففكرت في إيجارها لمن يستطيع إصلاحها، وعندما شرعت في ذلك بلغني من أحد الفقهاء أن إيجار الأرض لا يجوز وإنما يجوز أن تعطيها بجزء من المحصول فما الحكم؟ (1) .
ج: ليس هذا القول صحيحا، بل يجوز تأجيرها بشيء معلوم من الدراهم أو غيرها؛ كما قال رافع بن خديج رضي الله عنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن تأجير الأرض بأنواع من الأجرة المجهولة قال: «فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به (2) » اهـ. ويجوز أيضا تأجير الأرض بجزء مشاع معلوم مما يخرج منها كالربع أو الثلث ونحوهما.
__________
(1) سؤال مقدم إلى سماحته من أحد الإخوة من السودان، وأجاب عنه سماحته في 10\8\1410هـ.
(2) رواه مسلم في (البيوع) باب كراء الأرض بالذهب والورق برقم (1547) .(19/331)
صفحة فارغة(19/332)
باب الإجارة(19/333)
صفحة فارغة(19/334)
حكم تقديم الأجرة وتأخيرها
س 198: ما حكم أخذ أصحاب المحلات التجارية إيجارهم مقدما وأحيانا لمدة سنة أو أكثر؟ (1) .
ج: يجوز تقديم الأجرة وتأخيرها على حسب ما يتفق عليه المؤجر والمستأجر، لقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم (3) » . . . . . الحديث، والله ولي التوفيق.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته من (جريدة المسلمون) في 17\4\1418هـ.
(2) سورة المائدة الآية 1
(3) رواه الترمذي في (الأحكام) باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح برقم (1352) .(19/335)
199 - حكم تأجير العمائر داخل حدود الحرم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي عام المملكة حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أفيدكم أن لي عمارة داخل حدود الحرم أقوم بإيجارها وقد سمعت أن إيجار دور الحرم أو مكة فيه شبهة وبعض العلماء قال: إنه حرام وحيث إن هذا المال أنفقه على أهلي وأريد الحلال فماذا عن جوابكم، وإن كان حراما ماذا أفعل في الإيجارات السابقة التي أنفقت أكثرها على أهلي ونفسي أرجو التكرم بالإجابة؟ وجزاكم الله خيرا (1) .
ملاحظة: أرجو ذكر الدليل حتى يطمئن قلبي.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته: لا حرج عليكم في ذلك إن شاء الله وفق الله الجميع، والسلام عليكم.
مفتي عام المملكة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سؤال مقدم لسماحته من الأخ م. ع. م. وأجاب عنه سماحته في 26\9\1419 هـ.(19/336)
حكم أخذ الأجرة على حلق اللحى
س:200: بعض أصحاب صالونات الحلاقة يحلقون لحى بعض الناس فما حكم المال الذي يأخذونه بسبب عملهم؟ (1) .
ج: حلق اللحى وقصها محرم ومنكر ظاهر، لا يجوز للمسلم فعله ولا الإعانة عليه، وأخذ الأجرة على ذلك حرام وسحت، يجب على من فعل ذلك التوبة إلى الله منه وعدم العودة إليه، والصدقة بما دخل عليه من ذلك إذا كان يعلم حكم الله سبحانه في تحريم حلق اللحى، فإن كان جاهلا فلا حرج عليه فيما سلف، وعليه الحذر من ذلك مستقبلا؛ لقول الله عز وجل في أكلة الربا: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2)
وفي الصحيحين، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى، خالفوا المشركين (3) » ، وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قصوا الشوارب ووفروا
__________
(1) نشر في هذا المجموع ج8 ص372.
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) رواه البخاري في (اللباس) باب إعفاء اللحى برقم (5893) ومسلم في (الطهارة) باب خصال الفطرة برقم (259) .(19/337)
اللحى، خالفوا المشركين (1) » ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس (2) » .
فالواجب على كل مسلم أن يمتثل أمر الله في إعفاء لحيته وتوفيرها، وقص الشارب وإحفائه، ولا ينبغي للمسلم أن يغتر بكثرة من خالف هذه السنة وبارز ربه بالمعصية.
نسأل الله أن يوفق المسلمين لكل ما فيه رضاه، وأن يعينهم على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يمن على من خالف أمر الله ورسوله بالتوبة النصوح إلى ربه، والمبادرة إلى طاعته وامتثال أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم إنه سميع قريب.
__________
(1) رواه البخاري في (اللباس) باب قلم الأظافر برقم (5892) .
(2) رواه مسلم في (الطهارة) باب خصال الفطرة برقم (260) .(19/338)
حكم أخذ الأجرة على القراءة على المرضى
س 201: نسمع عن بعض المعالجين بالقرآن، يقرؤون قرآنا وأدعية شرعية على ماء أو زيت طيب لعلاج السحر، والعين والمس الشيطاني، ويأخذون على ذلك أجرا، فهل(19/338)
هذا جائز شرعا؟ وهل القراءة على الزيت أو الماء تأخذ حكم قراءة المعالج على المريض نفسه؟ (1) .
ج: لا حرج في أخذ الأجرة على رقية المريض، لما ثبت في الصحيحين «أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وفدوا على حي من العرب فلم يقروهم ولدغ سيدهم وفعلوا كل شيء لا ينفعه، فأتوا الوفد من الصحابة رضي الله عنهم، فقالوا لهم: هل فيكم من راق؟ فإن سيدنا قد لدغ قالوا: نعم، ولكنكم لم تقرونا فلا نرقيه إلا بجعل، فاتفقوا معهم على قطيع من الغنم، فرقاه أحد الصحابة بفاتحة الكتاب فشفي فأعطوهم ما جعل لهم، فقال الصحابة فيما بينهم: لن نفعل شيئا حتى نخبر النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدموا المدينة أخبروه صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: قد أصبتم (2) » .
ولا حرج في القراءة في الماء والزيت في علاج المريض والمسحور والمجنون، ولكن القراءة على المريض بالنفث عليه أولى وأفضل وأكمل، وقد خرج أبو داود رحمه الله بإسناد
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من (المجلة العربية) ونشر في هذا المجموع ج9 ص 408.
(2) رواه البخاري في (الإجارة) باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب برقم (2276) ومسلم في (السلام) باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن برقم (2201) .(19/339)
حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ لثابت بن قيس بن شماس في ماء وصبه عليه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (1) » ، وهذا الحديث الصحيح يعم الرقية للمريض على نفسه وفي الماء والزيت ونحوهما، والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه مسلم في (السلام) باب لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك برقم (2200) وأبو داود في (الطب) باب ما جاء في الرقى برقم (3886) واللفظ له.(19/340)
لا بأس بأخذ الأجرة على تعليم القرآن
س 202: العمل في تحفيظ القرآن وفي إمامة المسجد هل في الأجر عليه شيء وهل من الورع تركه؟ (1) .
ج: لا حرج في ذلك لا حرج في أخذ الأجرة على تحفيظ القرآن وتعليم القرآن، ولا بأس أن يأخذ المساعدة والمكافأة في إمامة المسجد، لأن الإمامة تحبسه، وهكذا الأذان لكن إذا ترك ذلك وأغناه الله فهو أفضل إذا تبرع بذلك واستغنى عن ذلك بما أعطاه الله من الرزق الحلال فهذا طيب، ومن احتاج إلى ذلك فلا بأس.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في حج عام 1409هـ.(19/340)
أخذ الأجرة على القيام بإجراءات الدخول جائز بشروط
س 203: دفعت بعض المال لشخص وعدني بالقيام بإجراءات الدخول إلى الدولة وقد كان. وبعد دخولي تعاقدت مع إحدى الدوائر الحكومية للعمل في مجال تخصصي بعقد شرعي. لكن أحد الزملاء أبلغني أن ما أتقاضاه من أجر حرام بحجة أن ما بني على حرام فهو حرام قاصدا بذلك ما دفعته في سبيل الحصول على تأشيرة الزيارة، فهل هذا الكلام صحيح أو لا؟ وجهوني جزاكم الله خيرا (1) .
ج: هذا فيه تفصيل: إذا كان وكيلك قد فعل الأسباب الشرعية. بأن تعب في مراجعة المسئولين من أجل أن يسمحوا لك من غير كذب ولا خيانة. ولا رشوة فلا حرج في ذلك؛ لأن هذا الذي دفعته من المال في مقابل تعبه لك ومراجعاته للمسئولين والتماس الإذن لك في الدخول. أما إذا كان عمله من طريق الرشوة والخيانة والكذب فلا يجوز لك ولا له.
وليس لك أن تعينه على الباطل، وأن ترضى بالباطل. وليس
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في برنامج (نور على الدرب) .(19/341)
له أن يستعمل الرشوة والكذب. فالواجب التفصيل وعدم الإجمال. أهـ.(19/342)
لا يجوز استخدام سيارة الشركة بغير إذنها
س 204: سائق شركة في وقت الفراغ يستخدم سيارة الشركة لركوب الناس بأجرة لنفسه بحجة أن راتب الشركة ضعيف مع العلم أنه يساعد الناس ويأخذ نصف الأجرة التي يتقاضاها غيره (1)
ج: لا يجوز له أن يأخذ ذلك إلا بإذن الشركة، ليس له أن يستعملها إلا بإذن الشركة، لأنها أمانة في يده، فليس له أن يستعمل سيارة الشركة ولا سيارة الحكومة إلا بالإذن إلا فيما جعل له من أعماله التي تتعلق بالشركة أو أعمال بالدولة.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في حج عام 1409هـ.(19/342)
راتب الموظف المقصر فيه شبهة
س 205: سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز المفتي العام ورئيس هيئة كبار العلماء عن حكم راتب الموظف الذي يتساهل في عمله ولا يؤديه على الوجه الأكمل هل(19/342)
يصبح حراما أو حلالا؟ (1) .
ج: فأجاب سماحته أن راتبه فيه شبهة ينبغي له أن يتقي الله، وأن يعتني بعمله حتى لا يكون في راتبه شبهة؛ لأن الواجب عليه أن يؤدي الحق الذي عليه حتى يستحل الراتب فإذا كان لا يبالي فراتبه بعضه حرام، فينبغي له أن يحذر ويتقي الله عز وجل.
__________
(1) . نشر في جريدة (الجزيرة) العدد (9588) في 11\9\1419هـ.(19/343)
حكم أخذ بدل انتداب دون تأديته
س 206: انتدبت أنا وزميلي إلى إحدى المناطق لمدة أربعة أيام إلا أنني لم أذهب مع زميلي وبقيت على رأس عملي وبعد فترة استلمت ذلك الانتداب، فهل يجوز لي استهلاكه أم لا وإذ كان لا يحل لي أخذه فهل يجوز صرفه في مستلزمات المكتب الذي أعمل فيه؟ (1) .
ج: الواجب عليك رده؛ لأنك لا تستحقه لعدم قيامك بالانتداب، فإن لم يتيسر ذلك، وجب صرفه في بعض جهات الخير كالصدقة على الفقراء والمساهمة به في بعض المشاريع الخيرية مع التوبة والاستغفار والحذر من العودة إلى مثل ذلك.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج4 ص 315.(19/343)
حكم أخذ مرتب "خارج دوام" دون عمل
س 207: أنا موظف أعمل في إحدى الدوائر الحكومية وأحيانا يصرف لنا بدل خارج وقت الدوام من إدارتنا بدون تكليفنا بالعمل خارج وقت الدوام وبدون حضورنا للإدارة ويعتبرونه مكافأة للموظفين بين الحين والآخر مع العلم أن رئيس الإدارة يعلم عنه ويقره. أفيدونا جزاكم الله خيرا هل يجوز أخذ هذا المال؟ وإذا كان لا يجوز فكيف أعمل فيما استلمته من أموال في السابق مع العلم أني قد تصرفت فيها جزاكم الله خيرا (1) .
ج: إذا كان الواقع ما ذكرت فذلك منكر لا يجوز بل هو من الخيانة، والواجب رد ما قبضت من هذا السبيل إلى خزينة الدولة، فإن لم تستطع فعليك الصدقة به في الفقراء المسلمين وفي المشاريع الخيرية مع التوبة إلى الله سبحانه والعزم الصادق ألا تعود في ذلك، لأنه لا يجوز للمسلم أن يأخذ شيئا من بيت مال المسلمين إلا بالطرق الشرعية التي تعلمها الدولة وتقرها، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج4 ص 312.(19/344)
حكم أخذ الموظف بدل ترحيل عائلته وهو لم يرحلهم
س 208: إذا كان من حقوق الموظف عند تعيينه بدل ترحيل عائلته من بلدته إلى مقر عمله ولم يرحل عائلته حقيقة بل زيف سندات واستلم المبلغ فهل ذلك جائز أم لا؟ (1) .
ج: هذا العمل لا يجوز في الشرع المطهر؛ لأنه اكتساب للمال من طريق الكذب والتدليس، وما كان بهذه المثابة فهو محرم يجب إنكاره والتحذير منه، رزق الله الجميع العافية من ذلك.
__________
(1) سؤال مقدم من الأخ ع. ر. ونشر في هذا المجموع ج6 ص 401.(19/345)
حكم العمل في محل يقتضي حلق اللحية
س 209: إذا أردت أن أعمل بعمل يقتضي مني حلق اللحية فماذا أعمل؟ (1) .
ج: يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إنما الطاعة
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج4 ص320.(19/345)
في المعروف (1) » ويقول عليه الصلاة والسلام: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (2) » فعليك أن تتقي الله وأن لا توافق على هذا الشرط، وأبواب الرزق كثيرة بحمد الله وليست مغلقة بل مفتوحة والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) وأي عمل يشترط فيه معصية الله فلا توافق عليه سواء كان هذا العمل في الجندية أو في غير ذلك من الأعمال، فاترك ذلك العمل والتمس عملا آخر بما أباحه الله عز وجل، ولا تتعاون على الإثم والعدوان؛ لأن الله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (4) نتمنى لك ولنا التوفيق بإذن الله.
والواجب على ولاة الأمور وعلى جميع المسئولين في الدول الإسلامية أن يتقوا الله وأن لا يلزموا الناس بما حرم الله
__________
(1) رواه البخاري في (الأحكام) باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية برقم (7145) ومسلم في (الإمارة) باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية برقم (1840) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) بلفظ: ''لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل'' في مسند علي بن أبي طالب برقم (1098) وذكره ابن أبي شيبة في مصنفه في (الجهاد) باب في إمام السرية يأمرهم بالمعصية برقم (29452) وفي مسند الشهاب برقم (872) ج2 ص55.
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة المائدة الآية 2(19/346)
عليهم وأن يحكموا شريعة الله في كل ما يأتونه ويأمرون به؛ لأن الله يقول سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) ويقول الله سبحانه وتعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) ويقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (3) فالواجب طاعة الله ورسوله، وما أشكل من أمور الناس يرد إلى الله ورسوله، فما ذكر الله في كتابه الكريم أو ما في السنة المطهرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وجب الآخذ به وتنفيذه.
هذا هو الواجب على المسئولين في مسألة اللحى، وفي مسألة الربا وفي مسألة الحكم بين الناس وفي جميع الأمور، عليهم أن يحكموا شرع الله، وذلك- والله- هو طريق عزهم وطريق نجاتهم وهو طريق سلامتهم في الدنيا والآخرة ولن يبلغوا العز الكامل ورضاء الله التام إلا بطاعته سبحانه وتعالى واتباع شريعته. نسأل الله لنا ولهم التوفيق لما يرضيه.
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) سورة المائدة الآية 50
(3) سورة النساء الآية 59(19/347)
البيع والعمل في مصانع
الخمور من المنكرات العظيمة
س 210: ما حكم المسلم الذي يبيع الخمر أو المخدرات، وهل نسميه مسلما أم لا؟ وما حكم المسلم الذي يعمل في مصنع الخمر، وهل يجب عليه ترك عمله إذا لم يجد سواه؟ (1) .
ج: بيع الخمر وسائر المحرمات من المنكرات العظيمة، وهكذا العمل في مصانع الخمر من المحرمات والمنكرات لقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) ولا شك أن بيع الخمر والمخدرات والدخان من التعاون على الإثم والعدوان، وهكذا العمل في مصانع الخمر من الإعانة على الإثم والعدوان، وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (4)
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج4 ص 309.
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة المائدة الآية 90
(4) سورة المائدة الآية 91(19/348)
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: «لعن الخمر وشاربها وساقيها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها (1) » .
وصح عنه أيضا عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إن على الله عهدا لمن مات وهو يشرب الخمر أن يسقيه من طينة الخبال، قيل: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار أو قال: عرق أهل النار (2) » .
أما حكمه فهو عاص، وفاسق بذلك وناقص الإيمان، وهو يوم القيامة تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وعفا عنه، وإن شاء عاقبه إذا مات قبل التوبة عند أهل السنة والجماعة لقول الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3)
وهذا الحكم إذا لم يستحلها، أما إن استحلها فإنه يكفر بذلك ولا يغسل ولا يصلى عليه إذا مات على استحلالها عند
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) باقي مسند عبد الله بن عمر برقم (5683) وأبو داود في (الأشربة) باب العنب يعصر الخمر برقم (3674) وابن ماجه في (الأشربة) باب لعنت الخمر على عشرة أوجه برقم (3380) .
(2) رواه بنحوه مسلم في (الأشربة) باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام برقم (2002) .
(3) سورة النساء الآية 48(19/349)
جميع العلماء؛ لأنه بذلك يكون مكذبا لله عز وجل ولرسوله عليه الصلاة والسلام.
وهكذا الحكم في من استحل الزنا أو اللواط أو الربا أو غير ذلك من المحرمات المجمع عليها كعقوق الوالدين وقطيعة الرحم وقتل النفس بغير حق.
أما من فعلها أو شيئا منها وهو يعلم أنها حرام، ويعلم أنه عاص لله بذلك فهذا لا يكون كافرا بل هو فاسق تحت مشيئة الله سبحانه في الآخرة، إذا لم يتب قبل الموت كما تقدم في حكم شارب الخمر، والله ولي التوفيق.(19/350)
حرف الطباخة والحلاقة
وصناعة الأحذية والعمل في النظافة
وغيرها لا حرج فيها
س 211: يعتقد بعض الناس أن هناك حرفا غير شريفة ويوبخون من يعمل فيها؛ كالطباخة والحلاقة وصناعة الأحذية والعمل في النظافة وغيرها. فهل هناك دليل شرعي يثبت صحة هذا الاعتقاد، وهل مثل هذه الحرف ترفضها العادات والطبائع العربية؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا (1) .
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج4 ص299.(19/350)
ج: لا نعلم حرجا في هذه الحرف وأشباهها من الحرف المباحة إذا اتقى صاحبها ربه ونصح ولم يغش معامليه لعموم الأدلة الشرعية في ذلك. مثل قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل «أي الكسب أطيب قال: عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور (1) » رواه البراز وصححه الحاكم، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وكان نبي الله داود يأكل من عمل يده (2) » ، رواه البخاري في صحيحه. ولأن الناس في حاجة إلى هذه الحرف وأشباهها فتعطيلها والتنزه عنها يضر المسلمين ويحوجهم إلى أن يقوم بها أعداؤهم. وعلى من يعمل في النظافة أن يجتهد في سلامة بدنه وثيابه من النجاسة والعناية بتطهير ما أصابه منها، والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) حديث رافع بن خديج برقم (16814) .
(2) رواه البخاري في (البيوع) باب كسب الرجل وعمله بيده برقم (2072) .(19/351)
لا يجوز تولي
الأذان باسم شخص آخر
س 212: إني شاب لم أحصل على حفيظة نفوس وأنا(19/351)
مؤذن مسجد فقال لي إمام المسجد أريد أن أكتبك في الأوقاف لكي تستلم راتبا فنكتب الأذان باسم شخص ثان والأذان لك أنت مع استلام الراتب، هل يجوز أخذ الراتب والأذان بغير اسمي وهل هو زور أم لا، وإذا أخذت الراتب وهو زور ماذا أعمل به أأتصدق به أم ماذا أفعل به؟ (1) .
ج: هذا منكر وزور ولا يجوز، وعليك رد المال إلى الأوقاف، فإن لم يتيسر ذلك فتصدق به على الفقراء ونحوهم؛ لأنه مال أخذ بغير حق ولم يتيسر صرفه إلى أهله فوجب صرفه في جهة بر كالفقراء، وإصلاح دورات المياه ونحو ذلك.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج4 ص307.(19/352)
على المسلم أن
يؤدي الأمانة وينصح في عمله
س 213: بعض الموظفين والعاملين لا يعطون عملهم الحماسة اللازمة، فنجد بعضهم يمر عليه عام فأكثر وهو لا يأمر بخير ولا ينهى عن شر ويتأخر عن العمل ويقول: أنا مأذون من رئيسي فلا علي شيء. فمن كانت هذه حاله فهل عليه شيء في دينه ما دام على هذه الحالة؟ أفتونا جزاكم الله خيرا (1) .
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج 4 ص 323.(19/352)
ج: أولا: المشروع لكل مسلم ومسلمة التبليغ عن الله سبحانه وتعالى لما سمع من الخير كما دل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها (1) » وقال عليه الصلاة والسلام: «بلغوا عني ولو آية (2) » ، وكان إذا خطب الناس وذكرهم يقول: «فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع (3) » ، فأنا أوصيكم جميعا أن تبلغوا ما سمعتم من الخير عن بصيرة وتثبت. فكل من سمع علما وحفظه يبلغ أهل بيته وإخوانه ومجالسيه ما يرى فيه الخير من ذلك مع العناية بضبط ذلك وعدم التكلم بشيء لم يحفظه حتى يكون من المتواصين بالحق ومن الدعاة إلى الخير.
أما الموظفون الذين لا يؤدون أعمالهم أو لا ينصحون فيها فقد سمعتم أن من خصال الإيمان أداء الأمانة ورعايتها،
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (أول مسند المدنيين رضي الله عنهم'' حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه برقم (16296)
(2) رواه البخاري في (أحاديث الأنبياء) باب ما ذكر عن بني إسرائيل برقم (3461)
(3) رواه البخاري في (الحج) باب الخطبة أيام منى برقم (1741)(19/353)
كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (1) فالأمانة من أعظم خصال الإيمان، والخيانة من أعظم خصال النفاق كما قال الله سبحانه في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (2) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3)
فالواجب على الموظف أن يؤدي الأمانة بصدق وإخلاص وعناية وحفظا للوقت حتى تبرأ الذمة ويطيب الكسب ويرضي ربه وينصح لدولته في هذا الأمر أو للشركة التي هو فيها أو لأي جهة يعمل فيها، هذا هو الواجب على الموظف أن يتقي الله وأن يؤدي الأمانة بغاية الإتقان وغاية النصح يرجو ثواب الله ويخشى عقابه ويعمل بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (4)
ومن خصال أهل النفاق الخيانة في الأمانات كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان (5) » متفق عليه، فلا
__________
(1) سورة النساء الآية 58
(2) سورة المؤمنون الآية 8
(3) سورة الأنفال الآية 27
(4) سورة النساء الآية 58
(5) رواه البخاري في (الإيمان) باب علامة المنافق برقم (33) ومسلم في (الإيمان) باب خصال المنافق برقم (59)(19/354)
يجوز للمسلم أن يتشبه بأهل النفاق، بل يجب عليه أن يبتعد عن صفاتهم، وأن يحافظ على أمانته، وأن يؤدي عمله بغاية العناية ويحفظ وقته ولو تساهل رئيسه ولو لم يأمره رئيسه فلا يقعد عن العمل أو يتساهل فيه، بل ينبغي أن يجتهد حتى يكون خيرا من رئيسه في أداء العمل والنصح في الأمانة وحتى يكون قدوة حسنة لغيره.(19/355)
الواجب على الموظف
تسجيل وقت دخوله وخروجه
س 214: موظف في إحدى الدوائر يحافظ على دوامه باستمرار، فإذا دخل سجل في دفتر الحضور وقت حضوره الذي جاء فيه، ولكن هناك مجموعة من زملائه يسجلون أوقاتا خاطئة فيحضر أحدهم الساعة السابعة مثلا ويكتب السادسة والنصف أو ما شابه ذلك، وبالتالي فإن هؤلاء الموظفين المخادعين يحصلون على ميزات وأمور بسبب تزويرهم في التوقيع ويحرم منها هذا بسبب أنه حتى إذا تأخر سجل تأخره، فهل يصح أن يفعل مثلهم؟ وما موقفه منهم؟ وما حكم فعل المدير الذي يتساهل في(19/355)
هذه الأمور؟ وهل تعارفهم على ذلك واعتيادهم عليه يبيح هذا الفعل؟ وجزاكم الله خيرا (1) .
ج: الواجب على كل مسلم أداء الأمانة والحذر من الخيانة في العمل، وفي الحضور والغياب وفي كل شيء، والواجب عليه أن يسجل الوقت الذي دخل فيه، والوقت الذي خرج فيه، حتى يبرئ ذمته، والواجب على المسئول عنهم أن ينصحهم ويوجههم إلى الخير، ويحذرهم من الخيانة، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة (الدعوة) العدد (1662) في 18 جمادى الآخرة 1419هـ(19/356)
الواجب المحافظة على وقت الدوام
س 215: أعمل خارج مكة المكرمة حيث يستغرق مدة الذهاب بالسيارة خمسا وأربعين دقيقة أو ساعة فأخرج بعض الأحيان للذهاب إلى المستشفى أو لحاجة وتنتهي حاجتي قبل نهاية الدوام بساعة ونصف، أي إذا ذهبت إلى العمل لا يستغرق بقائي فيه إلا نصف ساعة أو أقل فأبقى في مكة المكرمة أي لا أذهب للعمل فما حكم ذلك؟ (1) .
__________
(1) سؤال موجه لسماحته بعد كلمة ألقاها في المسجد الحرام بتاريخ 25\12\1418هـ(19/356)
ج: عليك أن تجاهد نفسك وتذهب إلى العمل حسب الطاقة حتى تؤدي العمل كما يجب عليك، ونصف الساعة قد تقضي فيه حاجات كثيرة، فعليك أن تؤدي العمل إذا كان لخروجك مسوغ شرعي.(19/357)
لا يجوز الاستنابة في
إجراءات الفحوصات والاختبارات الوظيفية
س 216: أنا موظف في إحدى الدوائر الحكومية، وقد أعطوني الأوراق الخاصة بالكشف الطبي، وقد أتممت الفحوصات الطبية عدا النظر فقد اختبره عني أحد الأقارب، وقد مضى علي في الخدمة عشر سنوات، أفيدوني ماذا أفعل جزاكم الله خيرا (1) .
ج: لا يجوز لك التدليس أو الغش في العين أو في غير العين، كأن تستعمل أحدا ينوب عنك في الاختبار، وعليك بإخبار الجهة عن ذلك، وإن كنت قمت بالواجب فالحمد لله عما مضى، ولكن عليك ألا تعود لمثل هذا، وأن تستغفر الله عما حصل من الغش.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج4 ص 301(19/357)
حكم أخذ ما يسمى بـ (السعي)
س 217: يحدث في مكاتب تأجير العقارات أخذ مبالغ من المستأجر بصفة سعي وبصورة أوضح مثلا: جاء شخص وطلب استئجار محل أو شقة وطلب مني إذا حققت له طلبه هذا في إيجاد المحل أو الشقة فإنه سوف يعطيني مبلغا من المال بخلاف ثمن الإيجار بصفة سعي، أو نظير حصوله على هذا المحل أو تلك الشقة، أرجو أن أعرف بوضوح هل هذا المال حلال أم حرام؟ (1) .
ج: لا حرج في ذلك، فهذه أجرة وتسمى السعي، وعليك أن تجتهد في التماس المحل المناسب الذي يريد الشخص أن يستأجره، فإذا ساعدته في ذلك والتمست له المكان المناسب وساعدته في الاتفاق مع المالك على الأجرة، فكل هذا لا بأس به إن شاء الله بشرط ألا يكون هناك خيانة ولا خديعة بل على سبيل الأمانة والصدق فإذا صدقت وأديت الأمانة في التماس المطلوب من غير خداع ولا ظلم لا له ولا لصاحب العقار فأنت على خير إن شاء الله.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في برنامج (نور على الدرب)(19/358)
حكم الهدية للمدير
س 218: هل من يقترب لمديره بالكلمة الطيبة والهدية القيمة ويظهر الاحترام له وهو لا يرغب فيه ويتمنى لو يستبدل بغيره، فهل هذا من النفاق؟ علما أن المدير يتصف بالصفات الحميدة؟ (1) .
ج: بسم الله والحمد لله، الواجب عليه أن ينصحه لله ويدعو له في ظاهر الغيب أن يهديه الله ويوفقه ويترك عنه الهدية، فلا يهدي الهدية في هذا الموضع فقد تكون رشوة. ولكن عليه بالنصح والدعاء له في سجوده وآخر صلاته بأن يوفقه الله ويعينه على أداء الأمانة، فالمؤمن مرآة أخيه، وإياك والنفاق والرشوة. وأما الكلام الطيب فمطلوب مثل السلام عليكم، كيف حالك، كيف أهلك وغير ذلك.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج4 ص317(19/359)
من تولى أمرا فهو مسئول عمن تحت يده من الموظفين
س 219: هل يجب على من تولى أمرا من الأمور ومعه موظفون تحت سلطته أن يأمر المقصر منهم في الصلاة(19/359)
بأدائها وهكذا غيرها من أمور الشرع، وهل يدخل ذلك في حديث: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (1) » ؟ (2) .
ج: يلزم كل مسئول أن يأمر من تحت يده من الموظفين بما أوجب الله عليهم كأداء الصلاة في الجماعة، وأداء الأمانة في الوظيفة، وترك ما حرم الله عليهم من الغش والخيانة، وإيذاء المراجعين وظلمهم وغير ذلك، وهو داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (3) » ، أخرجه البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (893) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .
(2) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج4 ص320
(3) رواه البخاري في (الاستقراض) باب العبد راع في مال سيده برقم (2409) وفي (العتق) باب كراهية التطاول على الرقيق برقم (2554) وباب العبد راع في مال سيده برقم 02558) ومسلم في (الإمارة) باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر برقم (1829)(19/360)
حكم الاستئذان من العمل لحاجة ماسة
س 220: بعض الموظفين يتهرب من العمل لوجود مصالح أخرى لديه شخصية غير الوظيفة، فيستأذن من رئيسه ويختلق الأعذار التي غالبا ما تكون مقنعة أو غير مقنعة، فإذا كان رئيسه يعلم بعدم صحتها، فهل يأثم على(19/360)
موافقته الإذن للموظف؟ .
ج: لا يجوز لرئيس الدائرة أو مديرها أو من يقوم مقامهما أن يوافق على شيء يعتقد عدم صحته، بل عليه أن يتحرى إن كان هناك ضرورة في الاستئذان لحاجة ماسة، والاستئذان لا يضر العمل فلا بأس به، أما الأعذار التي يعرف أنها باطلة أو يغلب على ظنه أنها باطلة فإن على رئيسه أن لا يأذن له ولا يوافق عليه؛ لأن ذلك خيانة للأمانة وعدم نصح لمن ائتمنه وللمسلمين، يقول عليه الصلاة والسلام: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (1) » ، وهذه أمانة، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (2) الآية، ويقول سبحانه في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (3) ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4)
__________
(1) رواه البخاري في (الاستقراض) باب العبد راع في مال سيده برقم (2409) وفي (العتق) باب كراهية التطاول على الرقيق برقم (2554) وباب العبد راع في مال سيده برقم (2558) ومسلم في (الإمارة) باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر برقم (1829)
(2) سورة النساء الآية 58
(3) سورة المؤمنون الآية 8
(4) سورة الأنفال الآية 27(19/361)
221 - لا يجوز تأجير الأفلام السيئة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ع. س. أ. ع. سلمه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد اطلعت على استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم (208) وتاريخ 13\1\1407هـ، المتضمن بأنك أنشأت ناديا للفيديو، وتقوم بتأجير أشرطة الأفلام وتسأل عن ذلك.
وأفيدك بأن الأشرطة التي تشتمل على فساد كما وصفت لا يجوز شراؤها ولا بيعها ولا تأجيرها وكسبها حرام، وأما الأفلام الطيبة الخالية من المنكرات والمساعدة عليها فكسبها حلال. وفق الله الجميع لما فيه رضاه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(19/362)
حكم الدروس الخصوصية
س 222: فضيلة الشيخ: يتساءل بعض الطلاب عن الاستعانة ببعض المدرسين لتدريسهم خارج المدرسة فيما لم يفقهوه مقابل مبلغ من المال، علما بأن الطالب هو الذي يلح على المدرس في ذلك، وهل يختلف الحكم إذا كان الطالب يدرس عند المدرس في نفس المدرسة؟ وهل هذا يتنافى مع قوله عليه الصلاة والسلام: «طلب العلم فريضة على كل مسلم (1) » ؟ (2) .
ج: لا بأس أن يستعين الطالب بالمدرس خارج غرفة التدريس في أن يعلمه ويفقهه في المواد التي يدرسها، سواء كان المدرس هو الذي يدرسه أو مع مدرس آخر، إلا إذا كانت التعليمات لدى المدرسة تمنع من ذلك، فعلى الطالب أن يلتزم بالتعليمات التي توجه إليه، أما إذا لم يكن هناك تعليمات تمنع فلا مانع من أن يكون بعض الأساتذة يدرسونه ويعلمونه في خارج أوقات الدراسة في بيته، أو في المسجد، أو في غير ذلك، لا حرج في ذلك.
__________
(1) سنن ابن ماجه المقدمة (224) .
(2) نشر في هذا المجموع ج8 ص 279(19/363)
لا يجوز الاحتيال لدخول مسابقة الوظائف
س 223: إذا دخل مسابقة الوظائف صديقان قد توفرت فيهما شروط القبول واختبر أحدهما عن الآخر، فهل يحل ذلك إذا كان يستطيع القيام بالعمل، وهل يباح له الراتب؟ (1) .
ج: لا يجوز مثل هذا العمل لما فيه من الكذب والتدليس، وفتح أبواب تجرئ غير الأكفاء على الأعمال بوسائل الكذب والاحتيال على ما لا يباح له.
__________
(1) سؤال مقدم لسماحته من الأخ ع. ر. ونشر في هذا المجموع ج6 ص 402(19/364)
حكم تزوير الشهادة لأجل الوظيفة
س 224: إذا كان الإنسان يرغب العمل بوظيفة وهو يستطيع القيام بعملها والنجاح في المسابقة، ولكن ليس لديه شهادة تخوله الدخول فيها، فهل يجوز له تزييف شهادة الدخول في المسابقة؟ وإذا نجح فهل يجوز له الراتب أم لا؟ (1) .
__________
(1) استفتاء مقدم لسماحته من ع. ر. بتاريخ 9\8\1382هـ، وقد سبق نشره في الجزء السادس من هذا المجموع ص 401.(19/364)
ج: الذي يظهر لي من الشرع المطهر وأهدافه السامية عدم جواز مثل هذا العمل؛ لأنه توصل إلى الوظائف من طريق الكذب والتدليس وذلك من المحرمات المنكرة ومما يفتح أبوابا من الشر وطرقا من التلبيس، ولا شك أن الواجب على من يسند إليهم أمر التوظيف أن يتحروا الأكفاء والأمناء حسب الإمكان.(19/365)
استقدام الكافر للعمل
س 225: هل يستدل بالحديث السابق. على جواز استقدام الخادم الكافر؟ (1) .
ج: هذا قبل الأمر بإخراجهم من الجزيرة، والرسول
__________
(1) سؤال مقدم لسماحته من ضمن الأسئلة المنشورة في (كتاب شقراء)(19/365)
صلى الله عليه وسلم أمر في آخر حياته بإخراجهم من الجزيرة، وأوصى بذلك، فلا يجوز استقدامهم إليها.(19/366)
حكم عمل الرجل مع المرأة
س 226: أنا موظف في صيدلية، وقد جعل صاحب المحل الرئيسة علينا امرأة، فبماذا تنصحونني؟ .
ج: ننصحك بأن لا تبقى في هذه الصيدلية، واحذر وابحث عن عمل آخر وأبشر بالخير؛ لأن الله سبحانه يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (2) وإن تيسر لك أن تنصح صاحب الصيدلية حتى يعين رئيسا رجلا فافعل ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة (3) » ، وفق الله الجميع.
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 3
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) حديث تميم الداري برقم (16499) ومسلم في (الإيمان) باب بيان أن الدين النصيحة برقم (55) .(19/366)
عبادة العامل في البنك صحيحة
س 227: موظف مسلم يعمل في البنوك التي تتعامل في الربا وله مرتب يقبضه شهريا، فهل في هذا المرتب الذي يقبضه- دخله- من الربا شيء؟ وهل أكله حرام عليه؟ ولأن هذا الموظف يكتب في البنك فهل تجوز صلاته وصيامه؟ (1) .
ج: صلاته صحيحة وكذلك صيامه، وأما حكم مرتبه فقد صدر فيه فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء هذا نصها:
أكثر المعاملات في البنوك المصرفية الحالية يشتمل على الربا وهو حرام بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأن من أعان آكل الربا وموكله بكتابة له أو شهادة عليه وما أشبه ذلك كان شريكا لآكله وموكله في اللعنة والطرد من رحمة الله، ففي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر رضي الله عنه: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى البيوع في الإسلام) من نشر جمعية إحياء التراث الإسلامي بالكويت ص 107(19/367)
آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء (1) » ، رواه مسلم.
أما الرواتب التي قبضتها فهي حل لك إن كنت جاهلا بالحكم الشرعي؛ لقول الله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (3) أما إن كنت عالما بأن هذا العمل لا يجوز لك، فعليك أن تصرف مقابل ما قبضت من الرواتب في المشاريع الخيرية ومواساة الفقراء مع التوبة إلى الله سبحانه، ومن تاب إلى الله توبة نصوحا قبل الله توبته وغفر سيئته، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (4) وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (5)
__________
(1) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598)
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 276
(4) سورة التحريم الآية 8
(5) سورة النور الآية 31(19/368)
إطلاق حرية العقار
موافق للشرع والمصلحة العامة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد اطلعت على الكلمة المنشورة في الصفحة السادسة من جريدة الندوة الصادرة بتاريخ 7\11\1401 هـ بعنوان (حرية العقار) فوجدتها تتضمن تحبيذ الكاتب تأجيل إطلاق حرية العقار عدة سنوات.. إلخ.
وأقول وبالله التوفيق لا شك أن هذه المسألة من المسائل الشرعية العامة التي قضى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحكم الله القاطع الذي ليس لأحد معه رأي ولا اجتهاد ولا استحسان، فالواجب على صاحب المقال وغيره تقوى الله والتعلم والامتثال لحكم الله ورسوله، قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1)
__________
(1) سورة النساء الآية 65(19/369)
وقال -عز وجل-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (1) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا (2) » فلا يحل أخذ مال امرئ مسلم بأي وجه من الوجوه إلا بحق شرعي، ومعلوم من قواعد الشرع المطهر لكل ذي علم وبصيرة أن تقييد حرية العقار بأجرة معينة أو نسبة معينة يعتبر ظلما لمالكه وأخذا لماله بغير حق ومصادمة للنصوص الشرعية ومخالفة لأمر الله ورسوله وحكما بغير ما أنزل الله واجتهادا في غير محله.
فالله سبحانه وتعالى هو العليم بمصالح عباده وبعواقب الأمور كلها وهو أحكم الحاكمين وأرحم بالخلق من أنفسهم؛ لذلك شرع لهم من الأحكام ما يصلحهم في كل زمان ومكان، أما ما ذكره صاحب المقال من المشاكل التي يتوقع حصولها
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36
(2) رواه البخاري في (الحج) باب الخطبة أيام منى برقم (1739) ومسلم في (القسامة والمحاربين والقصاص والديات) باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال برقم (1679) .(19/370)
بعد إطلاق حرية العقار فهذا استعجال للأمور قبل أوانها، بل إن ذلك من إيحاء الشيطان وتوهيمه كما قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (1) وقال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (2) {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (3)
فالواجب على المسلم أن يكون قوي الثقة بربه سبحانه في جميع أحواله وأموره، حسن الظن به بعيدا عن التوهمات والتوقعات التي تثبطه عن تنفيذ أمر الله والرضى بحكمه، وأن يعتقد اعتقادا جازما أن تطبيق أحكام الشرع المطهر لا ينتج عنه إلا كل خير في العاجل والآجل، بل إن الشر والضرر في عدم تطبيقها أو الإخلال بذلك.
ولقد أحسن صاحب المقال المنشور في الصفحة السادسة من جريدة عكاظ الصادرة في 11\11\1401 هـ بعنوان: (ما هي أبعاد إطلاق حرية العقار مع بداية عام 1403 هـ) فجزاه الله خيرا وأكثر من أمثاله. فإن الدولة وفقها الله ساهمت في حل أزمة العقار مساهمة إيجابية ظهرت آثارها لكل منصف
__________
(1) سورة البقرة الآية 268
(2) سورة البقرة الآية 168
(3) سورة البقرة الآية 169(19/371)
وذلك بالعطاءات السخية من القروض ومنح الأراضي وشجعت على توفير المباني السكنية، وقد استفاد الكثير من المواطنين من صندوق التنمية العقارية وبنك التسليف، كما استفاد أيضا الكثير من التجار والشركات والمؤسسات في بناء الفنادق والأسواق التجارية والمشاريع السكنية؛ وبذلك انحلت الأزمة وتوفرت المساكن والمحلات التجارية وانخفضت الأجور بشكل ظاهر، بل إن كثيرا من المساكن والمحلات مقفل بسبب نزول أسعار البيع والإيجار ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو مكابر. أما ما قد يقع من المشاكل بين المؤجر والمستأجر فالمحاكم الشرعية كفيلة بحلها والحمد لله.
وبذلك يعلم أن إطلاق حرية العقار هو الأمر المتعين شرعا وهو الموافق للمصلحة العامة والسياسة الحكيمة.
فنسأل الله أن يوفق ولاة الأمور لكل ما فيه رضاه وصلاح عباده، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا ويرزقهم التمسك بشريعته والثبات عليها إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/372)
حكم العمل في البنوك الربوية
س 229: لقد قدمت إلى هذه الديار الطيبة منذ أكثر من خمس سنوات، لقد عانيت وتعبت غاية التعب أول الأمر ولم يكن عند كفيلي أي عمل يخرجني مما أنا فيه من ضيق وحاجة للمال لتسير به حياتي وأنفق على أهل بيتي من الوالدين والإخوان، وبحثت عن عمل، وتنقلت في أكثر من أربع مؤسسات تجارية وأخيرا استقر بي المقام في أحد المصارف هنا في الرياض، وقد بذلت غاية جهدي، وأخلصت في عملي حتى صرت محاسبا في الحسابات الجارية فعلمت أن هذا المصرف يضع أكثر ماله في بنوك داخل المملكة وخارجها بالفائدة الربوية، وهناك حسابات للعملاء تأتينا الأوراق المصرفية بتسجيل فائدة ربوية لحساباتهم طرفنا، وهي من بنوك خارجية، ويعلم الله تعالى أني في غاية الضيق لهذا الأمر، ولم يهدأ لي بال منذ أن عرفت هذا الأمر، علما بأني قد تزوجت وأحضرت زوجتي ورزقني الله تعالى بولدين وأنا طالب علم شرعي - إلى أن قال - أنا أحب الفقه في الدين، وأحضر ندوات العلم، وسوف أقع في ضيق وفي حرج لو تركت هذا العمل وسأتأخر في الصرف على أهلي وأبي وأمي فبالي مشغول من ذلك وأنتظر من سماحتكم(19/373)
فتوى بهذا؟ (1) .
ج: الله جل وعلا أحل لعباده ما فيه نجاتهم وقضاء حاجتهم، وحرم عليهم ما يضرهم فليس العبد مضطرا إلى ما حرم الله عليه، بل عليه أن يسعى جهده في طلب الرزق الحلال، والتوظيف في البنوك لا يجوز؛ لأنه إعانة لهم على الإثم والعدوان سواء كان محاسبا أو كاتبا أو غير ذلك، فالواجب على المؤمن أن يحذر ذلك وأن يبتعد عن البنوك؛ لأن الله يقول سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) فالتعاون مع البنوك أو مع قطاع الطرق، أو مع السراق، أو مع الغشاشين، أو مع أصحاب الرشوة، كله تعاون على الإثم والعدوان فلا يجوز، وما قبضته قبل ذلك، أي قبل العلم فلك ما سلف، وما كان بعد العلم فليس لك، لقول الله جل وعلا: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (3) فما قبضته سابقا قبل أن تعلم فهو لك، وأما بعد أن علمت فعليك أن تترك هذا العمل وأن تتوب إلى الله سبحانه مما سلف، وتبذل ما قبضته من طريق الربا وأنت عالم به في جهة البر
__________
(1) سؤال موجه إلى سماحته بعد تعليقه على ندوة الجامع الكبير بالرياض بعنوان: (الربا وخطره)
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة البقرة الآية 275(19/374)
والخير كالصدقة على الفقراء والمساكين إلى غير ذلك حتى تتخلص من هذا المال الذي جاءك بغير وجه شرعي، وقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه «لعن آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء (1) » ، فالواجب على المؤمن أن يحذر من ذلك: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (3) فأنت إذا اتقيت الله يسر الله أمرك ورزقك من حيث لا تحتسب، فالتمس أعمالا أخرى ولو بأجر قليل إذا كنت تأخذ من البنك خمسة آلاف، أو ستة آلاف، أو عشرة آلاف شهريا، فسوف تجد إن شاء الله من الأعمال المباحة بمعاش يكفيك ويبارك الله لك فيه، ولو ألفين، أو ثلاثة، أو أربعة، ولو أقل من ذلك بكثير، أنت عليك أن تطلب الحلال والله يعوضك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما سئل أي الكسب أطيب قال: «عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور (4) » .، وقال أيضا: «ما أكل أحد طعاما أفضل من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده (5) » ، عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598)
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 4
(4) رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) حديث رافع بن خديج برقم (16814)
(5) رواه البخاري في (البيوع) باب كسب الرجل وعمله بيده برقم (2072)(19/375)
230 - حكم تأجير العقار على البنوك
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز المفتي العام وفقه الله لما فيه إعلاء كلمة الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
آمل من الله أن تصلكم هذه الرسالة وأنتم في أحسن حال ترضي الله، ثم آمل أن يكون جواب هذا السؤال منكم يا سماحة الشيخ شخصيا، وأن يختم بختمكم لأهمية ذلك القصوى لدينا.
السؤال هو: هل يجوز تأجير عمارة، أو جزء منها إلى البنك العربي الوطني؟ أحسن الله إليكم وجزاكم خيرا (1) .
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
لا يجوز التأجير على البنك العربي الوطني ولا غيره من البنوك الربوية لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، وقد نهى الله سبحانه عن ذلك في قوله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2)
__________
(1) سؤال مقدم لسماحته من السائل أ. ع. ش.
(2) سورة المائدة الآية 2(19/376)
وفق الله الجميع لما يرضيه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
وعبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/377)
تأجير الدكان لبائع الأشرطة الغنائية
س 231: هل يجوز للرجل أن يؤجر دكانه إلى بائع الأشرطة الغنائية وآلات اللهو؟ .
ج: لا يجوز تأجير الدكان على من يستعمله في بيع ما حرم الله من آلات الملاهي أو الخمر أو الدخان أو نحو ذلك؛ لأن ذلك إعانة لهم على ما حرم الله، وقد قال سبحانه: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه لعن الخمر وشاربها وساقيها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها (2) » ، وما ذاك إلا أن ساقيها وعاصرها ومعتصرها وحاملها وبائعها كلهم معينون على الإثم والعدوان.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) باقي مسند عبد الله بن عمر برقم (5683) وأبو داود في (الأشربة) باب العنب يعصر للخمر برقم (3674) وابن ماجه في (الأشربة) باب لعنت الخمر على عشرة أوجه برقم (3380)(19/378)
232 - رد على الدعوة للعمل في البنوك
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، أما بعد: (1) .
فقد اطلعت على ما نشرته بعض الصحف من إعلانات من بعض البنوك عن إتاحة الفرصة للشباب للتوظف فيها ودعوتهم إلى ذلك.
وبهذه المناسبة فإنني أنصح الشباب بعدم الاستجابة لهذه الدعوة والتقدم للتوظف في هذه البنوك لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان.
وأنصح الصحف بعدم نشر مثل هذه الإعلانات. وأنصح القائمين على البنوك من المسلمين أن يجتهدوا في تحويلها إلى بنوك إسلامية، وأن يحذروا الربا بجميع أنواعه عملا بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (3) الآية، وحذرا
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم (312\1) في 9\2\1414هـ
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279(19/379)
من لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: «أنه لعن آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء (1) » ، وما ذاك إلا أن شأن الربا عظيم والتعامل به من كبائر الذنوب التي تجعل صاحبها على خطر عظيم وتوجب العقوبة في الدنيا، وشدة العقاب في الآخرة إلا من رحم الله؛ لأنه محاربة لله ولرسوله ولا شيء أعظم من محاربة الله ورسوله ما لم تغسل بتوبة صادقة، وعزم على ترك هذه العمل، وفق الله المسلمين جميعا لكل ما فيه رضاه وصلاح عباده إنه سميع قريب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء
وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598)(19/380)
حكم أخذ الأجرة على العمل المحرم
س 233: هل الرواتب التي يتسلمها موظفو البنوك بصفة عامة حلال أم حرام، حيث إنني سمعت أنها حرام، لأن البنوك تتعامل بالربا، أرجو إفادتي حيث إنني أريد العمل في أحد البنوك؟ .
ج: لا يجوز العمل في البنوك التي تتعامل بالربا؛ لأن في ذلك إعانة على الإثم والعدوان، وقد قال سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء (2) » ، أخرجه مسلم في صحيحه.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598)(19/381)
حكم العمل في البنوك الربوية
س 234: كنت في مصر أعمل في أحد البنوك التابعة للحكومة، ومهمة هذا البنك إقراض الزراع وغيرهم بشروط ميسرة لمدة تتراوح ما بين عدة شهور إلى سنوات، وتصرف هذه السلف والقروض النقدية والعينية نظير فوائد وغرامات تأخير يحددها البنك عند صرف السلف والقروض، مثل 3% أو 7% أو أكثر من ذلك زيادة على أصل القرض، وعندما يحل موعد سداد القرض يسترد البنك أصل القرض زائدا الفوائد والغرامات نقدا، وإذا تأخر العميل مقابل كل يوم تأخير زيادة عن السداد في الميعاد.
وعليه فإن إيرادات هذا البنك هي جملة فوائد على القروض وغرامات تأخير لمن لم يلتزم بالسداد في المواعيد المحددة، ومن هذه الإيرادات تصرف مرتبات الموظفين في البنك.
ومنذ أكثر من عشرين عاما وأنا أعمل في هذا البنك، تزوجت من راتب البنك، وأتعيش منه، وأربي أولادي، وأتصدق وليس لي عمل آخر، فما حكم الشرع في ذلك؟ .(19/382)
ج: عمل هذا البنك بأخذ الفوائد الأساسية والفوائد الأخرى من أجل التأخير كلها ربا، ولا يجوز العمل في مثل هذا البنك؛ لأن العمل فيه من التعاون على الإثم والعدوان، وقد قال سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1)
وفي الصحيح عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه لعن آكل الربا، وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء (2) » ، رواه مسلم. أما الرواتب التي قبضتها فهي حل لك إن كنت جاهلا بالحكم الشرعي؛ لقول الله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (3) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (4) أما إن كنت عالما بأن هذا العمل لا يجوز لك، فعليك أن تصرف مقابل ما قبضت من الرواتب في المشاريع الخيرية ومواساة الفقراء مع التوبة إلى الله سبحانه، ومن تاب إلى الله توبة نصوحا قبل الله
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598)
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة البقرة الآية 276(19/383)
توبته وغفر سيئته كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (1) وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2)
__________
(1) سورة التحريم الآية 8
(2) سورة النور الآية 31(19/384)
حكم من تضطره ظروفه للعمل في البنوك والمصارف
س 235: ما حكم من تضطره ظروفه للعمل في البنوك والمصارف المحلية الموجودة في المملكة مثل البنك الأهلي التجاري، وبنك الرياض، وبنك الجزيرة، والبنك العربي الوطني، وشركة الراجحي للصرافة والتجارة، ومكتب الكعكي للصرافة، والبنك السعودي الأمريكي، وغير ذلك من البنوك المحلية، علما بأنها تفتح حسابات التوفير للعملاء والموظف يشغل وظيفة كتابية مثل: كاتب حسابات، أو مدقق أو مأمور سنترال أو غير ذلك من الوظائف الإدارية، وهذه البنوك يوجد بها مزايا عديدة تجذب الموظفين إليها مثل: بدل سكن ويعادل اثني عشر(19/384)
ألف ريال تقريبا أو أكثر، ورواتب شهرين في نهاية السنة، فما الحكم في ذلك؟ .
ج: العمل في البنوك الربوية لا يجوز؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء (1) » ، أخرجه مسلم في صحيحه، ولما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، وقد قال الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2)
__________
(1) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598)
(2) سورة المائدة الآية 2(19/385)
236 - لا يجوز العمل في البنوك ولو لسداد الدين
إلى فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز المفتي العام حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أفيدك أنه لي ولد اسمه ع. ع. م. وأنه مديون نحو مائة ألف ريال في زواج، وفي سيارة يركبها وأنه دخل في البنك الأهلي بعمل مراسل براتب نحو ألف وخمسمائة ريال، ويقول بعض الناس: إن راتبه حرام، وناس يقولون: حلال، والله يعلم أنه دخل في هذا البنك لضرورة الدين، ومصاريف أهله. لذا نرجو الإفادة حالا عاجلا؟ هذا والله يحفظكم (1) .
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
لا يجوز العمل في البنوك الربوية، كالبنك الأهلي المذكور، والواجب على ابنك المذكور أن يدع العمل المذكور ويلتمس العمل في جهات أخرى سليمة يسر الله أمره وأصلح حاله وحال كل مسلم.
__________
(1) سؤال مقدم لسماحته من الأخ ع. م. من السليل بالمملكة العربية السعودية.(19/386)
حكم تزويج من يعمل في البنك
س 237: تقدم شاب لخطبة ابنتي البالغة من العمر 27 عاما وحصل بيننا توافق من جميع النواحي، إلا أن الشاب يعمل في أحد البنوك الربوية، وعندما طلبنا منه ترك البنك قال: لو وجد عملا آخر فإنه ليس لديه مانع بشرط أن يكون قريبا من راتبه الحالي في البنك، كما أن لديه أسرتين يصرف عليهما. كما أن عمله في قسم (الصرف) في البنك، أفتوني هل علي إثم في تزويج هذا الشخص؟ (1) .
ج: إذا كان حال الخاطب ما ذكر فالنصيحة ألا يزوج ما دام في العمل المذكور، وفق الله الجميع لما يرضيه.
__________
(1) سؤال مقدم لسماحته من الأخ ح. م. و. وأجاب عنه سماحته بتاريخ 21\5\1418هـ(19/387)
العمل في البنوك لا يجوز والواجب التوبة
س 238: أنا أعمل في أحد البنوك، فهل مرتبي من هذا البنك حرام، وإذا كان كذلك، فماذا أفعل، علما بأنني أعمل في هذا البنك من مدة خمس سنوات، وما حكم الرواتب التي تقاضيتها في هذه المدة، ولم أوفر شيئا،(19/387)
فهذه الرواتب إنما أصرف بها على أولادي وأسدد بها الديون، أفتوني في ذلك جزاكم الله خيرا؟ (1) .
ج: عليك أن تدع ذلك وأن تتوب إلى الله عز وجل مما سلف وبعدما علمت، الحمد لله، والماضي نرجو أن يعفو الله عنه كما قال جل وعلا في كتابه العظيم: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) فمن جاءته الموعظة والبيان فانتهى وتاب فله ما سلف، فالحاصل أنك فيما مضى أنت معذور لآجل الجهل والذي مضى منك. نسأل الله أن يعفو عنه والمستقبل دعه ولا تعد إلى الربا والله يقول: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (3) فعليك أن تدع الوظيفة التي فيها إعانة على الإثم والعدوان وأن تلتمس وظيفة سليمة ليس فيها إعانة على الإثم والعدوان.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في حج عام 1417هـ
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة المائدة الآية 2(19/388)
باب السبق(19/389)
صفحة فارغة(19/390)
لعب الورق والشطرنج لا يجوز
س 239: هل يجوز لعب الورق- البلوت -؟ وما حكم لعب الشطرنج؟ مع العلم أنهما لا يلهيان عن الصلاة (1) .
ج: لا تجوز هاتان اللعبتان وما أشبههما لكونهما من آلات اللهو، ولما فيهما من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة وإضاعة الأوقات في غير حق، ولما قد تفضي إليه من الشحناء والعداوة، هذا إذا كانت هذه اللعبة ليس فيها عوض، أما إن كان فيها عوض مالي، فإن التحريم يكون أشد؛ لأنها بذلك تكون من أنواع القمار الذي لا شك في تحريمه ولا خلاف فيه، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج4 ص437(19/391)
س 240: كثيرا ما نلعب مع بعض ذوي الأموال الكثيرة الورق-البلوت- والفائز منها يعطيه هؤلاء (200) ريال، فهل هذا حرام ومن القمار؟ (1) . ج: هذه اللعبة على الوجه المذكور حرام، ومن القمار،
__________
(1) سبق نشره في هذا المجموع ج6 ص388، وفي جريدة (عكاظ) العدد (10877) في 7 محرم 1417هـ(19/391)
والقمار هو الميسر المذكور في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2)
فالواجب على كل مسلم أن يتقي الله ويحذر هذه اللعبة وغيرها من أنواع القمار؛ ليفوز بالفلاح وحسن العاقبة، والسلامة مما يترتب على هذه اللعبة من الشرور الكثيرة المذكورة في الآيتين، وإنما تجوز المسابقة في الإبل والخيل والرمي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر (3) » . والمراد بالنصل: الرمي بالسهام، ومثله الرمي بالسلاح الحديث. أما الخف: فالمراد به الإبل، وبالحافر: الخيل. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سورة المائدة الآية 91
(3) رواه الترمذي في (الجهاد) باب ما جاء في الرهان والسبق برقم (1700) والنسائي في (الخيل) باب السبق برقم (3585)(19/392)
س 241: ما هو حكم لعب الورق والشطرنج والكيرم؟ (1) .
ج: حكم اللعب بهذه الأشياء المنع؛ لكونها من آلات اللهو الصادة عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا هو المعروف عند أهل العلم؛ لأنها تشغل وتلهي وتصد عن الخير، وفيها مغالبة
__________
(1) نشر في هذا المجموع ج8 ص 98(19/392)
قد تفضي إلى شر عظيم بين اللاعبين، وقد تشغلهم عن ما أوجبه الله عليهم.(19/393)
حكم الملاكمة ومصارعة
الثيران والمصارعة الحرة
س 242: من الأخ س. ع. ع. ك. من محافظة كفر الشيخ في جمهورية مصر العربية، يسأل عن حكم الإسلام في الملاكمة ومصارعة الثيران والمصارعة الحرة؟ (1) .
ج: الملاكمة ومصارعة الثيران من المحرمات المنكرة لما في الملاكمة من الأضرار الكثيرة والخطر العظيم، ولما في مصارعة الثيران من تعذيب للحيوان بغير حق، أما المصارعة الحرة التي ليس فيها خطر ولا أذى ولا كشف للعورات فلا حرج فيها؛ لحديث (مصارعة النبي صلى الله عليه وسلم لركانة بن عبد يزيد فصرعه عليه الصلاة والسلام) (2) ، ولأن الأصل في مثل هذا الإباحة إلا ما حرمه الشرع المطهر، وقد صدر من المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي قرار بتحريم الملاكمة ومصارعة الثيران لما ذكرنا آنفا وهذا نصه:
__________
(1) نشر في (المجلة العربية) وفي هذا المجموع ج4 ص 411
(2) رواه أبو داود في (اللباس) باب في العمائم برقم (4078)(19/393)
القرار الثالث بشأن موضوع الملاكمة والمصارعة الحرة ومصارعة الثيران:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 24 صفر 1408هـ الموافق 17 أكتوبر 1987م إلى يوم الأربعاء 28 صفر 1408هـ الموافق 21 أكتوبر 1987م قد نظر في موضوع الملاكمة والمصارعة الحرة من حيث عدهما رياضة بدنية جائزة، وكذا في مصارعة الثيران المعتادة في بعض البلاد الأجنبية، هل تجوز في حكم الإسلام أو لا تجوز؟
وبعد المداولة في هذا الشأن من مختلف جوانبه والنتائج التي تسفر عنها هذه الأنواع التي نسبت إلى الرياضة وأصبحت تعرضها برامج البث التلفازي في البلاد الإسلامية وغيرها.
وبعد الاطلاع على الدراسات التي قدمت في هذا الشأن بتكليف من مجلس المجمع في دورته السابقة من قبل الأطباء ذوي الاختصاص، وبعد الاطلاع على الإحصائيات التي قدمها(19/394)
بعضهم عما حدث فعلا في العالم نتيجة لممارسة الملاكمة وما يشاهد في التلفزة من بعض مآسي المصارعة الحرة، قرر مجلس المجمع ما يلي:
أولا: الملاكمة:
يرى مجلس المجمع بالإجماع أن الملاكمة المذكورة التي أصبحت تمارس فعلا في حلبات الرياضة والمسابقة في بلادنا اليوم هي ممارسة محرمة في الشريعة الإسلامية؛ لأنها تقوم على أساس استباحة إيذاء كل من المتغالبين للآخر إيذاء بالغا في جسمه قد يصل به إلى العمى أو التلف الحاد أو المزمن في المخ أو إلى الكسور البليغة، أو إلى الموت، دون مسئولية على الضارب، مع فرح الجمهور المؤيد للمنتصر، والابتهاج بما حصل للآخر من الأذى، وهو عمل محرم مرفوض كليا وجزئيا في حكم الإسلام؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (2) وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار (3) » .
__________
(1) سورة البقرة الآية 195
(2) سورة النساء الآية 29
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) بداية مسند عبد الله بن عباس برقم (2862) وابن ماجه في (الأحكام) باب من بنى في حقه ما يضر بجاره برقم (2341)(19/395)
على ذلك فقد نص فقهاء الشريعة على أن من أباح دمه لآخر فقال له: (اقتلني) أنه لا يجوز له قتله، ولو فعل كان مسئولا ومستحقا للعقاب.
وبناء على ذلك يقرر المجمع أن هذه الملاكمة لا يجوز أن تسمى رياضة بدنية ولا تجوز ممارستها لأن مفهوم الرياضة يقوم على أساس التمرين دون إيذاء أو ضرر، ويجب أن تحذف من برامج الرياضة المحلية ومن المشاركات فيها في المباريات العالمية، كما يقرر المجلس عدم جواز عرضها في البرامج التلفازية كي لا تتعلم الناشئة هذا العمل السيئ وتحاول تقليده.
ثانيا: المصارعة الحرة:
وأما المصارعة الحرة التي يستبيح فيها كل من المتصارعين إيذاء الآخر والإضرار به. فإن المجلس يرى فيها عملا مشابها تمام المشابهة للملاكمة المذكورة، وإن اختلفت الصورة؛ لأن جميع المحاذير الشرعية التي أشير إليها في الملاكمة موجودة في المصارعة الحرة التي تجري على طريقة المبارزة وتأخذ حكمها في التحريم. وأما الأنواع الأخرى من المصارعة التي تمارس لمحض الرياضة البدنية ولا يستباح فيها الإيذاء فإنها جائزة شرعا ولا يرى المجلس مانعا منها.
ثالثا: مصارعة الثيران:
وأما مصارعة الثيران المعتادة في بعض بلاد العالم،(19/396)
والتي تؤدي إلى قتل الثور ببراعة استخدام الإنسان المدرب للسلاح فهي أيضا محرمة شرعا في حكم الإسلام؛ لأنها تؤدي على قتل الحيوان تعذيبا بما يغرس في جسمه من سهام، وكثيرا ما تؤدي هذه المصارعة إلى أن يقتل الثور مصارعه وهذه المصارعة عمل وحشي يأباه الشرع الإسلامي الذي يقول رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض (1) » .
فإذا كان هذا الحبس للهرة يوجب دخول النار يوم القيامة فكيف بحال من يعذب الثور بالسلاح حتى الموت!
رابعا: التحريش بين الحيوانات:
ويقرر المجمع أيضا تحريم ما يقع في بعض البلاد من التحريش بين الحيوانات كالجمال والكباش، والديكة، وغيرها، حتى يقتل أو يؤذي بعضها بعضا. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) رواه بنحوه البخاري في (بدء الخلق) باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم برقم (3318) ومسلم في (التوبة) باب في سعة رحمة الله برقم (2619)(19/397)
243 - حكم إعلان بعض المحلات التجارية
تقديم الجوائز لمن يشتري من البضائع المعروضة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أما بعد:.
فقد لوحظ قيام بعض المؤسسات والمحلات التجارية بنشر إعلانات في الصحف وغيرها عن تقديم جوائز لمن يشتري من بضائعهم المعروضة. مما يغري بعض الناس على الشراء من هذا المحل دون غيره أو يشتري سلعا ليس له فيها حاجة طمعا في الحصول على إحدى هذه الجوائز. وحيث إن هذا نوع من القمار المحرم شرعا والمؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل ولما فيه من الإغراء والتسبب في ترويج سلعته وإكساد سلع الآخرين المماثلة ممن لم يقامر مثل مقامرته، لذلك أحببت تنبيه القراء على أن هذا العمل محرم والجائزة التي تحصل من طريقه محرمة؛ لكونها من الميسر المحرم شرعا وهو القمار. فالواجب على أصحاب التجارة الحذر من هذه المقامرة وليسعهم ما يسع الناس، وقد قال الله سبحانه:(19/398)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (1) {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (2) وهذه المقامرة ليست من التجارة التي تباح بالتراضي بل هي من الميسر الذي حرمه الله؛ لما فيه من أكل المال بالباطل، ولما فيه من إيقاع الشحناء والعداوة بين الناس، كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (4)
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين لما فيه رضاه وصلاح أمر عباده وأن يعيذنا جميعا من كل عمل يخالف شرعه إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) سورة النساء الآية 30
(3) سورة المائدة الآية 90
(4) سورة المائدة الآية 91(19/399)
حكم المشاركة في المسابقات
التي تشترط إرفاق الكوبونات
س 244: الأخ س. م. خ. من عمان - الأردن يقول في سؤاله: تطرح بعض المجلات والجرائد الإسلامية وغير الإسلامية مسابقات هادفة تتضمن أسئلة متنوعة وتتطلب إجابات صحيحة عنها من قبل القراء، وترتب عليها جوائز ومكافآت للمشاركين الفائزين فيها بالقرعة. لكنها تشترط لذلك إرفاق الإجابات مع كوبون أو قسيمة خاصة تقتطع من المجلة أو الجريدة نفسها، مما يدفع المشارك ويضطره ويلجئه إلى شراء المجلة للحصول على هذا الكوبون أو القسيمة، وقد يفوز بالجائزة أو يخسر.
فما هو الحكم الشرعي في المشاركة في مثل هذه المسابقات المبنية على اشتراط إرفاق الكوبون مع الإجابات المستلزم شراء المجلة لهذا الغرض ذاته (أعني احتمال الفوز بالجائزة) فهل يعتبر هذا من الميسر واليانصيب والقمار أم غيره أم ماذا؟ وجزاكم الله خيرا كثير. أرجو دعم الإجابة بالدليل والمناقشة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1) .
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من (المجلة العربية) وأجاب عنه سماحته بتاريخ 15\2\1418هـ(19/400)
ج: هذه المعاملة من الميسر وهو القمار؛ لأن المشارك فيها قد يخسر ولا يفوز، وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2)
وفق الله المسلمين للعمل بشريعته والحذر من كل ما نهى عنه إنه سميع قريب.
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سورة المائدة الآية 91(19/401)
السحب على السيارات
بقسائم الشراء من القمار
س 245: في مدينتنا جمعية تعاونية قامت بعرض سيارة أمام مدخلها بحيث من يشتري منها بضائع بالسعر العادي بمائة درهم فأكثر تصرف له مجانا قسيمة مرقمة مطبوعا فيها "قيمتها عشرة دراهم" ويتم فيها بعد سحب يفوز فيه صاحب الحظ السعيد "كما يقولون" بتلك السيارة المعروضة وسؤالي هو:
1 - ما حكم الاشتراك في هذا السحب بتلك القسيمة المصروفة بدون مقابل ولا يخسر المشترك شيئا في(19/401)
حالة عدم الفوز؟
2 - ما حكم الشراء من تلك الجمعية بغرض الحصول على القسيمة المذكورة للتمكن من الاشتراك في القرعة.
وبما أن الناس هنا بمن فيهم المثقفون مترددون ومحتارون قبل هذا الأمر- أرجو من سماحتكم الإجابة على السؤالين مرفقة بما تيسر من الدليل ليكون المسلمون على بينة في دينهم. جزاكم الله خيرا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1) .
ج: هذه المعاملة تعتبر من القمار وهو الميسر الذي حرمه الله، والمذكور في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (3) فالواجب على ولاة الأمر وأهل العلم في مدينتكم وغيرها إنكار هذه المعاملة والتحذير منها؛ لما في ذلك من مخالفة كتاب الله العزيز وأكل أموال الناس بالباطل، رزق الله الجميع الهداية والاستقامة على الحق.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص 367
(2) سورة المائدة الآية 90
(3) سورة المائدة الآية 91(19/402)
باب الغصب
حكم تهريب الكتب والأشرطة
س: 246: أنا من بلد لا أستطيع أن أدخل معي كتبا وأشرطة إلا عن طريق التهريب ودفع المال عن ذلك المهرب، ما حكم ذلك مع العلم أننا في حاجة ماسة إلى الكتب والأشرطة، وأيضا يوجد في هذا البلد الإسلامي مساكن تابعة للدولة ولحاجة الناس للسكن اضطر الناس للسكن فيها بدون إذن من الدولة وهي لم تكتمل، فما حكم السكن فيها وحكم بيعها وهم الآن مستقرون فيها بدون أي مضايقة من الحكومة؟ (1) .
ج: أما الأشرطة والكتب النافعة فلا بأس من إدخالها إذا كانت طيبة وسليمة إلى المسلمين لينتفعوا بها ويستفيدوا منها هذا لا بأس به، ولو بإعطاء الموظف ما يسمح به إذا كانت كتبا طيبة وأشرطة طيبة على طريقة أهل السنة والجماعة، وأما
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في حج عام 1415هـ(19/403)
البيوت التي أعدتها الدولة للسكن فلا يسكنها إلا بإذن الدولة ولا يسكنها بالرشوة لا يجوز إذا كانت الدولة أعدت مساكن لأناس معينين بشروط معينة فلا يسكنها إلا إذا توفرت فيه الشروط ولا يتساهل في خيانة الموظفين.(19/404)
لا يجوز إجراء المكالمات من السنترال دون علم أصحاب الشأن
س 247: أعرف قريبا لي يعمل بأحد أقسام السنترال ويحول لي بعض المكالمات الدولية دون علم أصحابها بالمجان. فهل علي في هذا العمل شيء رغم أن أصحاب الهاتف ناس مقتدرون؟ (1) .
ج: هذا العمل لا يجوز إلا بإذنهم وهو خيانة من قريبك نسأل الله لنا ولكم وله الهداية.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج4 ص 304(19/404)
باب الشفعة
248 - الشفعة في المرافق الخاصة
وفيما لا تمكن قسمته من العقار
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه، وبعد: (1) .
فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في النصف الأول من شهر شعبان عام 1395هـ. من إدراج مسألة الشفعة بالمرافق الخاصة في جدول أعمال الدورة الثامنة، فقد جرى دراسة المسألة المذكورة في دورة المجلس الثامنة المنعقدة في النصف الأول من شهر ربيع الآخر في مدينة الرياض، كما جرى دراسة
__________
(1) نشرت في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص 425(19/405)
مسألة الشفعة فيما لا تمكن قسمته من العقار.
وبعد الاطلاع على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
وبعد تداول الرأي والمناقشة من الأعضاء وتبادل وجهات النظر، قرر المجلس بالأكثرية أن الشفعة تثبت بالشركة في المرافق الخاصة كالبئر والطريق والمسيل ونحوها. كما تثبت الشفعة فيما لا تمكن قسمته من العقار كالبيت والحانوت الصغيرين ونحوهما؛ لعموم الأدلة في ذلك، ولدخول ذلك تحت مناط الأخذ بالشفعة وهو دفع الضرر عن الشريك في المبيع وفي حق المبيع، ومن ذلك ما رواه الترمذي بإسناد إلى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء (1) » . وفي رواية الطحاوي بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شيء. قال الحافظ: " حديث جابر لا بأس بروايته" ولما روى الإمام أحمد والأربعة بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجار أحق
__________
(1) رواه الترمذي في (الأحكام) باب ما جاء في أن الشريك شفيع برقم (1371)(19/406)
بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا (1) » .
ولما روى البخاري في صحيحه، وأبو داود والترمذي في سننهما بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (2) » . ووجه الاستدلال بذلك ما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين: " إن الجار المشترك مع غيره في مرفق خاص ما، مثل أن يكون طريقهما واحدا، أو أن يشتركا في شرب أو مسيل أو نحو ذلك من المرافق الخاصة، لا يعتبر مقاسما مقاسمة كلية، بل هو شريك لجاره في بعض حقوق ملكه، وإذا كان طريقهما واحدا لم تكن الحدود واقعة بل بعضها حاصل وبعضها
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه برقم (13841) وأبو داود في (البيوع) باب في الشفعة برقم (3518) وابن ماجه في (الأحكام) باب الشفعة بالجوار برقم (2494)
(2) رواه البخاري في (الشفعة) باب الشفعة فيما لم يقسم برقم (2257)(19/407)
منتف. إذ وقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق "أهـ.
وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
رئيس الدورة
وعبد العزيز بن عبد الله بن باز(19/408)
باب الوديعة
حكم من أعطاه مورثه مالا وسكت عنه
س 249: أنا امرأة توفي زوجي منذ 35 سنة وترك لي ستة أطفال، وقد أعطتني الوالدة مبلغا من المال ولكن لم تحدد لي هل هو من أجل أولادي أم هو إعانة أو أمانة، بل تركت المال عندي وقد توفيت أمي وأنا لا أعلم حكم المال الذي عندي، فقد تصرفت فيه فهل ينبغي لي أن أخرج منه زكاة أم أتصدق منه أفيدوني جزاكم الله خيرا؟ (1) .
ج: إن كانت أعطتك إياه على سبيل الهبة والمساعدة فهو لك أنت فقط إذا لم يكن لها ذرية غيرك، فلا بأس، أما إذا كانت أعطتك إياه وسكتت- أمانة- فعليك أن تخرجيه للورثة، وأنت واحدة من الورثة. أما إن لم يكن لها إلا أنت فهو لك فرضا وردا إذا لم يكن لها عصبة ولا ذرية فهو لك فرضا وردا. أما إن كان لها ورثة فلك نصيبك والباقي للورثة إن كان
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته في حج عام 1418هـ(19/409)
معك إخوة، أنت وإياهم للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن كان معك بنتا أخرى فقط، أو بنات، لكم الثلثان والباقي للعصبة، هذا يرجع فيه للمحكمة في بلدكم وتعلمكم إن شاء الله.(19/410)
حكم الاستلاف من
المال المودع عند الشخص
س 250: وثق بي أهل الخير فجعلوني أمينا لصندوق تبرعات لبناء مدرسة ثانوية، وأثناء البناء احتجت للمبلغ المذكور لبناء بيت خاص بي فأخذته.
وقبل نهاية مشروع بناء المدرسة قدمت المبلغ الذي عندي إلى اللجنة الخاصة بالمدرسة وقلت: إن هذا المال من سيدة محسنة لا تحب ذكر اسمها، ولكن الحقيقة هي أن المبلغ هو الذي في ذمتي ولكنني خجلت من إظهار الحقيقة، فهل علي إثم في أخذ المبلغ علما أنني سددته؟ وما السبيل إلى التوبة؟ أفيدوني يرحمكم الله.
ج: لا يجوز لمن اؤتمن على أي مال لأي مشروع أن(19/410)
يتصرف فيه لنفسه، بل يجب أن يحفظه ويصونه حتى يصرف في مصرفه، وعليك التوبة إلى الله مما فعلت، ومن الكذب الذي أقدمت عليه بسبب خيانتك الأمانة، ومن تاب توبة نصوحا تاب الله عليه؛ لقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (1) وقوله عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) والتوبة النصوح هي المشتملة على الندم على ما سلف من الذنوب، والإقلاع عنها؛ خوفا من الله سبحانه وتعظيما له، والعزم الصادق على عدم العودة إليها مع رد المظالم إن كان عند التائب مظالم للناس في دم أو مال أو عرض، أو استحلالهم منها. ومن كان ظلمه للناس من جهة الغيبة وخشي إن أخبرهم أن يحدث ما هو أكبر من الضرر، لم يخبرهم، ودعا لهم، واستغفر لهم، وأظهر ما يعلم من محاسنهم، في الأماكن التي اغتابهم فيها في مقابل إساءته لهم بالغيبة.
__________
(1) سورة التحريم الآية 8
(2) سورة النور الآية 31(19/411)
حكم استثمار الوديعة دون علم صاحبها
س 251: أودع عندي أحد الناس نقودا فاستفدت من هذه النقود واستثمرتها وعندما جاءني صاحب المال(19/411)
رددت له ماله كاملا ولم أخبره بما استفدته من ماله، هل تصرفي جائز أم لا؟ .
ج: إذا أودع عندك أحد وديعة فليس لك التصرف فيها إلا بإذنه، وعليك أن تحفظها فيما يحفظ فيه مثلها، فإذا تصرفت فيها بغير إذنه فعليك أن تستسمحه، فإن سمح وإلا فأعطه ربح ماله، أو اصطلح معه على النصف أو غيره، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما.(19/412)
حكم الإيداع في البنوك الربوية بدون فائدة
س 252: قمت منذ فترة بفتح حساب جار لي بأحد البنوك، واشترطت عدم الحصول على أية فوائد، أي أن المبالغ التي أقوم بإيداعها بالبنك تعد "كوديعة" لدي البنك، أي الأموال محفوظة، والذي أريد معرفته والتيقن منه؛ استبراء لديني، وتطهيرا لمالي، هل هناك أي شبهة ربوية في هذا الحساب، خصوصا وأن البنك(19/412)
يعطي قروضا بفوائد، كما يعطي فوائد لبعض أنظمة الحسابات.
فما هو حكم الشرع الحنيف في حسابي هذا واضعين في اعتبار فضيلتكم دورة رأس المال والنظام المصرفي المعمول به في أنشطة أمثال هذه البنوك؟
وما هو حكم الشرع في إيداع الأموال في البنوك التي بها أنظمة للمعاملات الإسلامية؟ أفتونا مأجورين. وجزاكم الله عنها خير الجزاء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1) .
ج: وضع المال في البنوك بدون فوائد لا مانع منه إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وإن تيسر إيداعه عند غيرها فهو أحوط وأحسن؛ عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2) » ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه (3) » ، وفق الله الجميع.
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من (المجلة العربية)
(2) رواه الترمذي في (صفة القيامة) باب منه (ما جاء في صفة أواني الحوض) برقم (2518) والنسائي في (الأشربة) باب الحث على ترك الشبهات برقم (5711)
(3) رواه البخاري في (الإيمان) باب فضل من استبرأ لدينه برقم (52) ومسلم في (المساقاة) باب أخذ الحلال وترك الشبهات برقم (1599)(19/413)
حكم الإيداع في البنوك الربوية
س 253: الذي عنده مبلغ من النقود ووضعها في أحد البنوك لقصد حفظها أمانة ويزكيها إذا حال عليها الحول، فهل يجوز ذلك أم لا؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا.
ج: لا يجوز التأمين في البنوك الربوية ولو لم يأخذ فائدة؛ لما في ذلك من إعانتها على الإثم والعدوان، والله سبحانه قد نهى عن ذلك، لكن إن اضطر إلى ذلك ولم يجد ما يحفظ ماله فيه سوى البنوك الربوية، فلا حرج إن شاء الله؛ للضرورة، والله سبحانه يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) ومتى وجد بنكا إسلاميا أو محلا أمينا ليس فيه تعاون على الإثم والعدوان يودع ماله فيه لم يجز له الإيداع في البنك الربوي.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119(19/414)
س 254: ما حكم الإسلام فيمن يعملون في البنوك، ومن يضعون الأموال فيها دون أخذ فوائد ربوية؟ (1) .
ج: لا ريب أن العمل في البنوك التي تتعامل بالربا غير جائز؛ لأن ذلك إعانة لهم على الإثم والعدوان، وقد قال الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء (3) » ، أخرجه مسلم في صحيحه.
أما وضع المال في البنوك بالفائدة الشهرية أو السنوية، فذلك من الربا المحرم بإجماع العلماء. أما وضعه بدون فائدة فالأحوط تركه، إلا عند الضرورة، إذا كان البنك يتعامل بالربا؛ لأن وضع المال عنده ولو بدون فائدة فيه إعانة له على أعماله الربوية، فيخشى على صاحبه أن يكون من جملة المعينين على الإثم والعدوان وإن لم يرد ذلك. فالواجب الحذر مما حرم الله، والتماس الطرق السليمة لحفظ الأموال وتصريفها، وفق
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج2 ص 397
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) رواه مسلم في (المساقاة) باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1598)(19/415)
الله المسلمين لما فيه سعادتهم وعزهم ونجاتهم، ويسر لهم العمل السريع لإيجاد بنوك إسلامية سليمة من أعمال الربا إنه ولي ذلك والقادر عليه.(19/416)
س 255: ما الحكم الشرعي في الذي يودع ماله في البنوك ولا يأخذ فائدة؟ .
ج: لا يجوز الإيداع في البنوك للفائدة، ولا القرض بالفائدة؛ لأن ذلك من الربا الصريح ولا يجوز أيضا الإيداع في غير البنوك بالفائدة، وهكذا لا يجوز القرض من أي أحد بالفائدة، بل ذلك محرم عند جميع أهل العلم؛ لأن الله سبحانه يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ويقول سبحانه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (2) ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (4) ثم يقول سبحانه بعد هذا كله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (5)
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) سورة البقرة الآية 280(19/416)
الآية، ينبه عباده بذلك على أنه لا يجوز مطالبة المعسر بما عليه من الدين، ولا تحميله مزيدا من المال من أجل الإنظار، بل يجب إنظاره إلى الميسرة بدون أي زيادة؛ لعجزه عن التسديد، وذلك من رحمة الله سبحانه لعباده، ولطفه بهم، وحمايته لهم من الظلم والجشع الذي يضرهم ولا ينفعهم. أما الإيداع في البنوك بدون فائدة فلا حرج منه إذا اضطر المسلم إليه.(19/417)
حكم الإيداع في المصارف
س 256: يوجد لدي مال في مؤسسة الراجحي للصرافة والتجارة منذ ثلاث سنوات، وأخاف أن هذا المبلغ يتعامل فيه بالربا، رغم أنني لا آخذ فائدة وإذا وضعته في منزلي أخاف عليه من السرقة، أفيدوني ماذا أعمل؟ أفادكم الله وجزاكم الله خيرا (1) .
ج: لا حرج عليك في وضع مالك في مصرف الراجحي أو السبيعي أو أمثالهما ممن لا يتعامل بالربا، وعليك إخراج
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى البيوع في الإسلام) من نشر جمعية إحياء التراث الإسلامي بالكويت ص 51(19/417)
الزكاة عن هذا المال المودع كلما حال عليه الحول إذا كان نصابا أو أكثر، أما البنوك الربوية فلا يجوز إيداع الأموال فيها إلا عند الضرورة بدون أخذ فائدة؛ لأن وضعه فيها فيه شيء من التعاون معهم على الربا وإن كنت لا تقصد ذلك، لكن إذا دعت الضرورة إلى ذلك فلا حرج في وضع المال فيها بدون فائدة؛ لقول الله عز وجل: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1)
عليك إخراج زكاته كلما حال عليه الحول إذا كان نصابا كما تقدم، والأفضل لك وضع المال في اليد الأمينة التي تنميه وتتصرف فيه بأنواع المعاملات الشرعية، كالمضاربة، والبيع إلى أجل من الأملياء، أو مع الرهن أو الضمانات حتى تستفيد من مالك ولا يتعطل.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119(19/418)
الإيداع في البنوك جائز عند الضرورة
س 257: الأخ أ. م. ع. من اللاذقية بسوريا يقول في سؤاله: عندي مبلغ من المال وقد وضعته في أحد البنوك لحفظه أمانة لديهم. هل يجوز ذلك؟ أفيدونا جزاكم(19/418)
الله خيرا (1) .
ج: لا يجوز الإيداع في البنوك الربوية ولو لم تأخذ فائدة؛ لما في ذلك من إعانتها على الإثم والعدوان، والله سبحانه قد نهى عن ذلك، لكن إذا اضطررت إلى ذلك ولم تأخذ فائدة ولم تجد ما تحفظ مالك فيه سوى البنوك الربوية فلا حرج إن شاء الله للضرورة، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (2) ومتى وجدت بنكا إسلاميا أو محلا أمينا ليس فيه تعاون على الإثم والعدوان تودع مالك فيه، لم يجز لك الإيداع في البنوك الربوية، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في (المجلة العربية) شهر ربيع الأول عام 1413هـ ص 19
(2) سورة الأنعام الآية 119(19/419)
حكم إيداع المال
في البنوك في بلاد الكفر
س 258: إننا في بلاد أهلها من غير المسلمين ونحن في هذه البلاد قد أنعم الله علينا بوفرة المال الذي يتطلب منا حفظه في أحد البنوك الأمريكية، ونحن المسلمين نضع أموالنا في هذه البنوك دون أخذ أية فوائد ربوية، وهم(19/419)
مسرورون بذلك ويتهموننا بالغباء؛ لأننا نترك لهم أموالا قد تعينهم على نشر النصرانية، بأموال المسلمين.
وسؤالي: لماذا لا نستفيد من هذه الفوائد ونعين بها المسلمين الفقراء، أو نبني بها مساجد ومدارس إسلامية؟ وهل يأثم المسلم إذا أخذ هذه الفوائد وصرفها في سبيل الله كالتبرع للمجاهدين وخلافه؟ .
ج: لا يجوز وضع الأموال في البنوك الربوية سواء كان القائمون عليها مسلمين أو غيرهم؛ لما في ذلك من إعانتهم على الإثم والعدوان، ولو كان ذلك بدون فوائد، لكن إذا اضطر إلى ذلك للحفظ بدون فوائد فلا حرج إن شاء الله؛ لقول الله عز وجل: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) أما مع شرط الفائدة فالإثم أكبر؛ لأن الربا من أكبر الكبائر، وقد حرمه الله في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين، وأخبر أنه ممحوق وأن من يتعاطاه قد حارب الله ورسوله، وفي إمكان أصحاب الأموال الإنفاق منها في وجوه البر والإحسان، وفي
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119(19/420)
مساعدة المجاهدين، والله يأجرهم على ذلك ويخلفه عليهم، كما قال سبحانه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) وقال سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (2) وهذا يعم الزكاة وغيرها، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما نقص مال من صدقة وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه (3) » ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أيضا أنه قال: «ما من يوم يصبح فيه الناس إلا وينزل فيه ملكان، أحدهما يقول: اللهم أعط منفقا خلفا، والثاني يقول: اللهم أعط ممسكا تلفا (4) » .
والآيات والأحاديث في فضل النفقة في وجوه الخير والصدقة على ذوي الحاجة كثيرة جدا.
__________
(1) سورة البقرة الآية 274
(2) سورة سبأ الآية 39
(3) رواه مسلم في (البر والصلة والأداب) باب استحباب العفو والتواضع برقم (2588)
(4) رواه البخاري في (الزكاة) باب قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى) برقم (1442) ومسلم في (الزكاة) باب في المنفق والممسك برقم (1010)(19/421)
لكن لو أخذ صاحب المال فائدة ربوية جهلا منه أو تساهلا ثم هداه الله إلى رشده فإنه ينفقها في وجوه الخير وأعمال البر، لا يبقيها في ماله؛ لأن الربا يمحق ما خالطه، كما قال الله سبحانه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 276(19/422)
باب إحياء الموات
حكم الأراضي الميتة
س 259: قامت الحكومة الحالية في إحدى الدول العربية بتوزيع الأراضي الميتة أخذتها من أهل الملك الأصلي وزعتها على أناس آخرين، نرجو من فضيلتكم بيان حكم الإسلام في ذلك (1) .
ج: قد بين الرسول صلى الله عليه وسلم حكم الأراضي الميتة فقال عليه الصلاة والسلام: «من أحيا أرضا ميتة فهي له (2) » ، وقال: «من عمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها (3) » ، فالواجب على الحكومة في بلدكم وغيرها أن تحكم
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في مجلسه.
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه برقم (14226) وأبو داود في (الخراج والإمارة والفيء) باب في إحياء الموتى برقم (3073)
(3) رواه البخاري في (المزارعة) باب من أحيا أرضا مواتا برقم (2335)(19/423)
بين الناس بحكم الإسلام وأن تمنع الرعية من تعدي الحدود الشرعية، فإذا كان هناك أراض ميتة لم تحي وجب على ولاة الأمر تشجيع الرعية على عمارتها وتوزيعها بينهم بالعدل على حسب قدرتهم ورغبتهم، ومن استولى على أرض ميتة ولم يعمرها وجب أن ينذر ويحدد له حدا مناسبا فإن قام بعمارتها في المدة المحدودة وإلا نزعت منه وسلمت لمن يرغب في عمارتها ويقوى على ذلك. أما الأراضي المملوكة فليس للحكومة ولا غيرها انتزاعها من أهلها إلا برضاهم أو بالعقود الشرعية من بيع أو إجارة أو عارية أو مزارعة أو غير ذلك من العقود الشرعية لقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (1) {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (2) وقال عز وجل: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} (3) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله سبحانه: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا (4) » ، أخرجه مسلم في صحيحه، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) سورة النساء الآية 30
(3) سورة الفرقان الآية 19
(4) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب تحريم الظلم برقم (2577)(19/424)
قال في يوم النحر في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا (1) » .، وقال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (2) » ، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ظلم شبرا من الأرض طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين (3) » ، وروى مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض (4) » .
قال أهل العلم رحمهم الله في تفسير منار الأرض: أنه مراسيمها وحدودها، فإذا كان من غير مراسيم الأرض وحدودها
__________
(1) رواه البخاري في (الحج) باب الخطبة أيام منى برقم (1739) ومسلم في (القسامة والمحاربين والقصاص والديات) باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال برقم (1679)
(2) رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب تحريم ظلم المسلم وخذله برقم (2564)
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند الأنصار) باقي مسند عائشة رضي الله عنها برقم (25692)
(4) رواه مسلم في (الأضاحي) باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله برقم (1978)(19/425)
يكون معلونا لما يترتب على عمله من الفتنة والخصومة وظلم بعض الجيران فكيف بمن انتزع الأراضي المملوكة من أهلها وأعطاها غيرهم بغير أمر شرعي.
فنسأل الله العافية والسلامة من كل ما يغضبه ويخالف شرعه والآيات والأحاديث في وجوب احترام أموال المسلمين والحذر من الظلم كثيرة جدا، ونرجو أن يكون فيما ذكرناه الكفاية ونسأل الله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين وقادتهم وأن يردهم إليه ردا حميدا وأن يوفقهم للتمسك بدينه والحكم بشريعته والتحاكم إليها والحذر مما خالفها إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(19/426)
باب اللقطة(19/427)
صفحة فارغة(19/428)
اللقطة تعرف سنة كاملة
س 260: وجدت لقطة ذهب وبعتها وتصدقت بثمنها وأنوي إن وجدت صاحبها ولم يرض أن أعطيه قيمتها لأنني وجدتها وسط مدينة كبيرة فهل علي إثم في ذلك؟ (1) .
ج: الواجب عليك وعلى غيرك ممن يجد لقطة ذات أهمية تعريفها سنة كاملة في مجامع الناس كل شهر مرتين أو ثلاثا فإن عرفت سلمها لصاحبها، وإن لم تعرف فهي له بعد السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك. إلا أن تكون في الحرمين فليس له تملكها بل يجب تعريفها دائما حتى يعرف ربها أو يسلمها للجهات المسئولة في الحرمين حتى تحفظها لمالكها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في مكة: «لا تحل ساقطتها إلا لمعرف (2) » ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة (3) » ،
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج3 ص8، وفي (المجلة العربية)
(2) رواه البخاري في (اللقطة) باب كيف تعرف لقطة أهل مكة بلفظ: '' ... إلا لمنشد'' ومسلم في (الحج) باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها برقم (1355)
(3) رواه مسلم في (الحج) باب فضل المدينة برقم (1362)(19/429)
الحديث متفق على صحته.
لكن إذا كانت اللقطة حقيرة لا يهتم بها صاحبها كالحبل وشسع النعل والنقود القليلة فإنه لا يجب تعريفها، ولواجدها أن ينتفع بها أو يتصدق بها عن صاحبها، ويستثنى من ذلك ضالة الإبل ونحوها من الحيوانات التي تمتنع من صغار السباع كالذئب ونحوه، فإنه لا يجوز التقاطها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عنها: «دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها (1) » ، متفق عليه، وبالله التوفيق.
__________
(1) رواه أبو داود في (الطهارة) باب من يحدث في الصلاة برقم (205) وفي (الصلاة) باب إذا أحدث في صلاته برقم (1005)(19/430)
حكم اللقطة إذا لم تعرف
س 261: عثرت على مبلغ من الريالات فأخذتها وصرفتها فماذا علي الآن؟ (1) .
ج: الواجب عليك تعريفها فإذا كنت عرفتها سنة كاملة في كل شهر مرتين أو ثلاثا؛ من له دراهم التي ضاعت في المكان الفلاني؟ وذلك في مجامع الناس وحول أبواب
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج3 ص 8(19/430)
الجوامع أو في الأسواق، ومضى على تعريفك لها سنة فهي حلال لك، ومتى جاء صاحبها وعرفها بالصفات الخاصة تعطيها إياه؛ لأنها عندك كالوديعة. فإذا جاء أعطيتها إياه. أما إذا كنت لم تعرفها بل أكلتها وسكت فعليك أن تتصدق بها في وجوه البر بالنية عن صاحبها؛ لأنك لم تأت بأسباب حلها، وهو التعريف وسوف يصله ثوابها بإذن الله عز وجل، والله ولي التوفيق.(19/431)
حكم من أخذ حذاء بديلا لحذائه المفقود في الحرم
س 262: كلما ذهبت إلى الحرم لكي أسعى أو أطوف أضع نعلي في مكان من الحرم وعندما أرجع لا أجدها هل يجوز لي أن ألبس غيرهما أي نعل موجودة أم أمشي حافيا على قدمي وأنت تعرف حرارة الإسفلت خارج الحرم مع العلم أنه يوجد نعال كثيرة في الحرم ليست لأحد؟ (1) .
ج: عليك أن تحفظها في محل أمين أو احفظها بيديك طف بها واسع بها الأمر سهل أو اسع فيها وطف بها إذا كانت نظيفة والحمد لله، ولو طفت بها وسعيت بها وهي في رجليك ولا تفرط ولا تأخذ نعال الناس مثل ما أنك ما تحب أن أحدا
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في حج عام 1415هـ(19/431)
يأخذ نعالك لا تأخذ نعال الناس، وإذا اضطررت إلى الحر البس بعض النعال الموجودة حتى تخرج من الحرارة ثم البس نعالا جديدة بعدما تشتريها ثم رد النعال هذه إلى محلها. إذا كنت تظن أنها ليست لأحد، احتياطا ردها لمحلها حتى يجدها صاحبها وإلا اصبر على الرمضاء وأبشر بالخير إن شاء الله حتى تصل إلى محلك.(19/432)
س 263: إذا خرج الإنسان فلم يجد أحذيته في الحرم فهل يجوز له أخذ غيرها مع العلم أنها تجمع ثم تلقى في الخلاء؟ (1) .
ج: ليس له أن يأخذ شيئا من نعال الناس إلا إذا وجد نعلين من جنس واحد لا يجد معهما غيرهما فالأقرب أنه يجوز له أخذهما، لأن الظاهر أن صاحبهما أخذ نعليه يظنهما نعليه من أجل التشابه.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته بعد شرح درس (بلوغ المرام)(19/432)
لا بد من تعريف الضالة في مجامع الناس سنة
س 264: سرحت غنمي ورجعت معها عنز ولها سنة وقد أخبرت عنها ولم يأت صاحبها فما الحكم؟ (1) .
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في حج عام 1407هـ(19/432)
ج: الواجب التعريف عنها تعريفا ليس بالكلام العادي مع الجيران بل التعريف عنها في مجامع الناس، من له العنز من له العنز في المجامع، أو على المياه، أو عند الجوامع في البلد إن كان في البلد جوامع، أو على المياه التي يجتمعون عليها، من له العنز من له العنز حتى يجيء أحد يذكر صفاتها فإذا مضت سنة ولم تعرف فهي للذي وجدها ومتى جاء صاحبها ولو بعد سنتين أو بعد ثلاث وعرفها أداها إليه أو قيمتها إن كان قد باعها أو ماتت.(19/433)
لا تعرف اللقطة في المسجد
س 265: بعض المساجد قد يوجد عندها أو بقربها بعض الأشياء العينية أو النقود، فالمكان المناسب الذي سقطت فيه إما دورة المياه أو شيء من هذا، فالإعلان عنها هل يكتب حول المسجد أو في المسجد؟ (1)
ج: يعرفها صاحبها بقوله: من له كذا حول المسجد وليس بداخل المسجد فيقول: من له نقود، من له ذهب.. إلخ أو يكتب ورقة ويعلقها خارج المسجد أما داخل المسجد فلا.
__________
(1) من ضمن أسئلة موجهة لسماحته بعد لقائه بطلبة كلية الشريعة.(19/433)
266 -
لا يحل لصاحب
الحمام أخذ حمام غيره
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ع. خ. س. سلمه الله. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم (593) وتاريخ 10\2\1407هـ المتضمن بأن عندك حمام ويأتي إليه حمام ليس لك وتسأل هل يحل لك أخذها؟ (1) .
ج: وأفيدك بأنها لا تحل لك بل عليك أن تبلغ صاحبها ليتسلمها أو يمنعها عنك. وفق الله الجميع لما فيه رضاه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) استفتاء مقدم من الأخ ع. خ. س. أجاب عنه سماحته برقم (700\2) في 8\3\1407هـ(19/434)
يجب تعريف اللقطة حتى بعد التصرف بها
س 267: يقول السائل: إنني منذ فترة طويلة كنت أرعى الغنم وجاء بين غنمنا عناق فذبحتها أنا وراع معي وأكلناها ثم بحثنا عن صاحبها لنعطيه ثمنها فلم نجده وثمنها في ذلك الوقت يصل إلى خمسة وعشرين جنيها سودانيا فكيف توجهوننا الآن جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: عليك أن تتصدق أنت وصاحبك بقيمتها بالنية عن صاحبها إذا كانت المدة طويلة أما إذا كانت المدة قصيرة فعليك تعريفها سنة كاملة تقول: من له العناق من له العناق في مجامع الناس لعلها تعرف فمتى عرفها أحد فأعطوه قيمتها وإذا لم تعرف فلا شيء عليكم، وأما إن كانت المدة طويلة وقد فات وقت التعريف وقد نسيها صاحبها أو ذهب عن المكان أو ما أشبه ذلك فالأحوط لك ولصاحبك أن تتصدقا بقيمتها بالنية عن صاحبها، أما إذا أمكن تعريفها سنة كاملة لعل صاحبها يعرفها
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في برنامج (نور على الدرب) .(19/435)
فتعرفها سنة كاملة في مجامع الناس تقول: من له العناق من له العناق التي وجدت في محل كذا وكذا لعلها تعرف فإن عرفت فإنك تعطيه القيمة إن طلبها، وإن سمح فلا بأس ولا شيء عليك وعلى صاحبك، أما إذا كانت المدة الطويلة وقد مضى دهر طويل فالغالب أن صاحبها لا يكون موجودا ولا يلزم التعريف حينئذ فتصدق بثمنها بالنية عن صاحبها وإذا عرفتها احتياطا لعله يعرف، هذا أيضا أكمل وأطيب وأحوط.(19/436)
إذا عرفت اللقطة ولم تجد مالكها فهي لك
س 268: عندي مبلغ من المال مفقود وقد أعلنت عنه، وفي من كان حول المكان الذي وجدت فيه المال ولم يسأل عنه أحد فماذا أفعل به؟ (1) .
ج: إذا كنت نبهت عنه في مجامع الناس سنة كاملة كل شهر مرتين أو ثلاثا أو أربعا سنة كاملة فهي لك، وإن كنت وجدت صاحب المال تعطيه له، هو عندك كالأمانة والسلف متى وجدت صاحبه تعطيه له، وإلا فهو لك كسائر مالك إلا أن
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في حج عام 1407هـ(19/436)
تكون من لقطة الحرم إذا كان من لقطة الحرم في مكة والمدينة فلا يملك ولا يتعرض له حتى يوجد صاحبه أو تدفعه للهيئة المعدة لذلك في الحرمين، وتبرأ ذمتك.(19/437)
حكم التصرف في لقطة الحرم
س 269: امرأة وجدت قطعة ذهب في الحرم المكي فأخذتها وضمتها إلى ما لديها من ذهب وباعته جميعا. وقد ندمت على ذلك فماذا عليها جزاكم الله خيرا؟ (1) .
ج: عليها أن تعطي قيمتها للمحكمة مع وصف للذهب، لعل صاحبها يأتي يسأل اللجنة المعدة للقطات، فإن كانت المدة طويلة، تتصدق بها عن صاحبتها بالنية، ولعله يكفي ذلك إن شاء الله مع التوبة والاستغفار، وإن كان العهد قريبا فتعطي المبلغ للمحكمة. والمحكمة تعطيه اللجنة.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج3 ص 12(19/437)
اللقطة اليسيرة لا تعرف
س 270: أثناء الرمي أمس أحسست أن شيئا وقع مني فنظرت تحت قدمي فوجدت مبلغ خمسين ريالا وعندما انتهيت من الرمي تأكدت من نقودي فوجدتها تماما والخمسون ريالا زيادة فماذا أفعل بها وهل أتصدق بها؟ (1) .
ج: هذا مبلغ قليل لا يتحمل التعريف ولا يتحمل التكلف والتعريف لكن لو أعطيتها المسؤلين عن اللقطات فلا بأس وإن عرفتها ما تيسر لك ذلك تقول: من له الدراهم حول المرمى وفي مجامع الناس لعله يأتيك أحد يصفها ثم تعطيه إياها إذا وافق الوصف فلا بأس، ولو تصدقت بها فلا بأس؛ لأنه مبلغ قليل إن تصدقت بها عن صاحبها فلا بأس إن شاء الله، ولك أجر.
__________
(1) من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته في حج عام 1407هـ(19/438)
لقطة الحرم
س 271: التقط أحد الأبناء ساعة من الحرم المكي وظلت معه حتى الآن منذ أكثر من أربع سنوات، فما هو(19/438)
الحل بالنسبة لها؟ هل يردها إلى الحرم مرة ثانية، أم يتصدق بقيمتها على أحد الفقراء بعد تثمينها عند بائعي الساعات؟ جزاكم الله خير الجزاء (1)
ج: لقطة الحرم لا يحل أخذها إلا لمن يعرف بها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا تحل ساقطته إلا لمعرف (2) » ، متفق على صحته.
والواجب على المذكور أن يرد اللقطة المذكورة إلى المحكمة الكبرى بمكة حتى تسلمها للجنة المكلفة بلقط الحرم، وبذلك تبرأ ذمته مع التوبة إلى الله سبحانه من التقصير إذا كان لم يعرفها في المدة الماضية، وبالله التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) من جمع الشيخ محمد المسند ج3 ص 10.
(2) رواه البخاري في (اللقطة) باب كيف تعرف لقطة أهل مكة بلفظ: '' ... إلا لمنشد'' ومسلم في (الحج) باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها برقم (1355)(19/439)