جـ: هذه الأمور لا أصل لها في الشرع المطهر وهي من خرافات بعض الناس الباطلة، وقد يدعيها بعض الصوفية الذين يزعمون أن لهم كرامات يستطيعون بها أن يصلوا إلى مكة من دون سيارات ولا طائرات ولا غير ذلك، وهذا من خرافاتهم وكذبهم، وقد يكون لبعضهم اتصال بالجن وعبادة الجن فتحمله الجن إلى مكة وغيرها، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله وغيره من أهل العلم، فالخلاصة أن هذه الأخبار إما أن تكون من قبيل الخرافات التي يقولها بعض الصوفية وأشباههم من الذين يزعمون أنهم أولياء ولهم كرامات وهم كاذبون في ذلك، وإما أن يكون من أولياء الشيطان فتحمله الشياطين وتنقله من مكان إلى مكان؛ لأنه عبدها وأطاعها فلما خدمها وعبدها خدمته في النقل من مكان إلى مكان.(6/409)
الدعوة إلى الله وأسلوبها المشروع
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله قائد الغر المحجلين وإمام الدعاة إلى رب العالمين، نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد، فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوة في الله وأبناء كرام في هذا المكان المبارك في مكة المكرمة وفي رحاب البيت العتيق للتناصح والتواصي بالدعوة إلى الله عز وجل وبيان ثمراتها وفوائدها وأسلوبها، أسأل الله جل وعلا أن يجعله لقاء مباركا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم، وأن يرزقهم جميعا الفقه في الدين والاستقامة عليه إنه جل وعلا جواد كريم، ثم أشكر القائمين على جامعة أم القرى وعلى رأسهم الأخ الكريم معالي الدكتور: راشد بن راجح مدير هذه الجامعة على دعوته لي لهذا اللقاء، وأسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يبارك في جهود الجميع ويكللها بالصلاح والنجاح، وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن وطوارق المحن إنه سميع قريب.
أيها الإخوة في الله عنوان هذه المحاضرة: الدعوة إلى الله سبحانه وأسلوبها المشروع. الدعوة إلى الله شأنها عظيم، وهي من أهم الفروض والواجبات على المسلمين عموما وعلى العلماء بصفة خاصة، وهي منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهم الأئمة فيها عليهم الصلاة والسلام، فالدعوة إلى الله طريق الرسل وطريق أتباعهم إلى يوم القيامة، والحاجة إليها بل الضرورة معلومة، فالأمة كلها من أولها إلى آخرها بحاجة شديدة، بل في ضرورة إلى الدعوة إلى الله، والتبصير في دين الله، والترغيب في التفقه فيه والاستقامة عليه، والتحذير مما يضاده أو يضاد كماله الواجب أو ينقص ثواب أهله ويضعف إيمانهم.(6/410)
فالواجب على أهل العلم بشريعة الله أينما كانوا أن يقوموا بمهمة الدعوة؛ لأن الناس في أشد الضرورة إلى ذلك في مشارق الأرض ومغاربها، ونحن في غربة من الإسلام وقلة من علماء الحق، وكثرة من أهل الجهل والباطل والشر والفساد، فالواجب على أهل العلم بالله وبدينه أن يشمروا عن ساعد الجد، وأن يستقيموا على الدعوة وأن يصبروا عليها يرجون ما عند الله من المثوبة ويخشون مغبة التأخر عن ذلك والتكاسل عنه، والله سبحانه وتعالى أوجب على العلماء أن يبينوا، وأوجب على العامة أن يقبلوا الحق وأن يستفيدوا من العلماء وأن يقبلوا النصيحة، يقول الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1)
فأحسن الناس قولا من دعا إلى الله وأرشد إليه وعلم العباد دينهم وفقههم فيه، وصبر على ذلك وعمل بدعوته، ولم يخالف قوله فعله ولا فعله قوله، هؤلاء هم أحسن الناس قولا، وهم أصلح الناس وأنفع الناس للناس وهم الرسل الكرام والأنبياء وأتباعهم من علماء الحق.
فالواجب على كل عالم وطالب علم أن يقوم بهذا العمل حسب طاقته وعلمه وقد يتعين عليه إذا لم يكن في البلد أو في القبيلة أو في المكان الذي وقع فيه المنكر غيره فإنه يجب عليه عينا أن يقول الحق وأن يدعو إليه، وعند وجود غيره يكون فرض كفاية إذا قام به البعض كفى وإن سكتوا عنه أثموا جميعا، فالواجب على أهل العلم بالله وبدينه أن ينصحوا لله ولعباده، وأن يقوموا بواجب الدعوة في بيوتهم ومع أهليهم وفي مساجدهم وفي طرقاتهم وفي بقية أنحاء قريتهم وبلادهم وفي مراكبهم من طائرة أو سيارة أو قطار أو غير ذلك.
فالدعوة مطلوبة في كل مكان أينما كنت والحاجة ماسة إليها أينما كنت، فالناس في الطائرة محتاجون، وفي السيارة محتاجون، وفي القطار محتاجون، وفي السفينة محتاجون إلى غير ذلك، وأهلك كذلك يلزمك أن تعنى بهم أولا كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (2) وقال عز
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة التحريم الآية 6(6/411)
وجل لنبيه وخليله محمد عليه الصلاة والسلام: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (1) وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (2) {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (3) فالواجب على طالب العلم أن يعنى بأهله ووالديه وأولاده وإخوانه إلى غير ذلك يعلمهم ويرشدهم ويدعوهم إلى الله ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر كما قال عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (4) ثم قال سبحانه: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (5) يعني من كان بهذه الصفة فهو المفلح على الحقيقة على الكمال، وقد أمر الله بالدعوة في آيات ورغب فيها سبحانه كما في قوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} (6) الآية، وقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (7) وأخبر سبحانه أن الدعوة إلى الله على بصيرة هي سبيل النبي صلى الله عليه وسلم، وهي سبيل أتباعه من أهل العلم كما قال الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (8)
فالواجب علينا جميعا أن نعنى بهذه المهمة أينما كنا، والواجب على أهل العلم كما تقدم أن يعنوا بها غاية العناية، ولا سيما عند شدة الضرورة إليها في هذا العصر فإن عصرنا يعتبر عصر غربة للإسلام لقلة العلم والعلماء بالسنة والكتاب ولغلبة الجهل، وكثرة الشرور والمعاصي وأنواع الكفر والضلال والإلحاد، فالواجب حينئذ يتأكد على العلماء في الدعوة إلى الله وإرشاد الناس إلى ما خلقوا له من توحيد الله وطاعته وأداء واجبه وترك معصيته.
يقول سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (9)
__________
(1) سورة طه الآية 132
(2) سورة مريم الآية 54
(3) سورة مريم الآية 55
(4) سورة آل عمران الآية 104
(5) سورة آل عمران الآية 104
(6) سورة فصلت الآية 33
(7) سورة النحل الآية 125
(8) سورة يوسف الآية 108
(9) سورة الذاريات الآية 56(6/412)
ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) ويقول عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) وهذه العبادة تحتاج إلى بيان، وهذه العبادة هي التي خلقنا لها، وأمرنا بها، وبعثت الرسل عليهم الصلاة والسلام لبيانها وللدعوة إليها، فلا بد من بيانها للناس من أهل العلم، وهي الإسلام والهدى وهي الإيمان والبر والتقوى، هذه هي العبادة التي خلقنا لها أن نطيع الله ونطيع رسوله صلى الله عليه وسلم في الأوامر والنواهي، وأن نخصه بالعبادة دون كل ما سواه، وهذه الطاعة تسمى عبادة؛ لأنك تؤديها بذل وخضوع لله، والعبادة ذل وخضوع لله عز وجل وانكسار بين يديه بطاعة أوامره وترك نواهيه، وأصلها وأساسها توحيده، والإخلاص له، وتخصيصه بالعبادة وحده دون كل ما سواه، والإيمان برسله عليهم الصلاة والسلام وعلى رأسهم خاتمهم وإمامهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ثم فعل ما أوجب الله من بقية الأوامر وترك ما نهى الله عنه، هذه هي العبادة، وهذه هي التقوى، وهذه هي الإسلام الذي قال الله فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (3) وهي الإيمان أيضا الذي قال الله فيه جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (4) وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة (5) » الحديث، «أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق (6) » .
وهذا هو الإيمان وهو الهدى وهو الإسلام وهو العبادة التي خلقنا لها وهو البر، فهي ألفاظ متقاربة المعنى، معناها طاعة الله ورسوله والاستقامة على دين الله، فمن استقام على دين الله فقد اتقى، ومن استقام على دين الله فقد آمن به، ومن استقام على دين الله فقد أخذ بالإسلام، وأخذ بالهدى كما قال تعالى:
__________
(1) سورة البقرة الآية 21
(2) سورة النحل الآية 36
(3) سورة آل عمران الآية 19
(4) سورة النساء الآية 136
(5) صحيح البخاري الإيمان (9) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (35) ، سنن الترمذي الإيمان (2614) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5005) ، سنن أبو داود السنة (4676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (57) ، مسند أحمد بن حنبل (2/414) .
(6) صحيح البخاري الإيمان (9) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (35) ، سنن الترمذي الإيمان (2614) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5005) ، سنن أبو داود السنة (4676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (57) ، مسند أحمد بن حنبل (2/379) .(6/413)
{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (1) ومن استقام على دين الله فهو على البر الذي قال فيه سبحانه: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (2) الآية، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (3) وقال سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (4) فالدعوة إليه سبحانه هي دعوة إلى البر وإلى التقى وإلى الإيمان وإلى الإسلام وإلى الهدى.
فعليك أيها العالم بالله وبدينه أن تنبه إلى هذا الأمر، وأن تشرحه للناس، وتوضح لهم حقيقة دينهم، ما هو الإسلام؟ ما هو الإيمان؟ ما هو البر؟ ما هو التقوى؟ هو طاعة الله ورسوله، هو العبادة التي خلقنا لها، سماها الله إسلاما وسماها إيمانا وسماها هدى في قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (5) وسماها برا في قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (6) ، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (7) ، {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (8) إلى غير ذلك. وسماها الله إسلاما في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (9) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (10)
فالدعوة إلى الله جل وعلا دعوة إلى هذا الأمر، دعوة إلى عبادة الله التي خلقنا لها، دعوة إلى الاستقامة على ذلك، دعوة إلى طاعة الله ورسوله، دعوة إلى الإسلام، دعوة إلى البر، دعوة إلى الإيمان، والمعنى أنك تدعو الناس إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له، وطاعة أوامره وترك نواهيه، وهذا الذي تدعو إليه يسمى إسلاما ويسمى عبادة، ويسمى تقوى، ويسمى طاعة الله ورسوله، ويسمى برا ويسمى هدى ويسمى صلاحا وإصلاحا كلها أسماء متقاربة المعنى.
فعلى الدعاة إلى الله وهم العلماء أن يبسطوا للناس هذا الأمر، وأن يشرحوه، وأن يوضحوه، أينما كانوا مشافهة؛ في خطب الجمعة وفي الدروس، وفي المواعظ العامة، وفي المناسبات التي تحصل بينهم، يبينون للناس هذه الأمور ويوضحونها للناس،
__________
(1) سورة النجم الآية 23
(2) سورة البقرة الآية 177
(3) سورة البقرة الآية 189
(4) سورة الانفطار الآية 13
(5) سورة النجم الآية 23
(6) سورة البقرة الآية 189
(7) سورة البقرة الآية 177
(8) سورة الانفطار الآية 13
(9) سورة آل عمران الآية 19
(10) سورة آل عمران الآية 85(6/414)
وينتهزون الفرص في كل مناسبة؛ لأن الضرورة تدعو إلى ذلك والحاجة الشديدة تدعو إلى ذلك لقلة العلم والعلماء وكثرة الحاجة والضرورة إلى البيان، وهكذا يكون التعليم والتوجيه من طريق المكاتبات، ومن طريق المؤلفات، ومن طريق الإذاعة ووسائل الإعلام، ومن طريق المكالمات الهاتفية، لا يتأخر العالم عن أي طريق يبلغ فيه العلم تارة بالكتب، وتارة بالخطب في الجمع وفي الأعياد وغيرها، وتارة بتأليف الرسائل التي تنفع الناس.
فالواجب أن يكون وقت العالم معمورا بالدعوة والخير وأن لا يشغله شاغل عن دعوة الناس وتعريفهم بدين الله، أن تكون أوقاته معمورة بطاعة الله، والدعوة إلى سبيله والصبر على ذلك كما صبر الرسل عليهم الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) فمن أراد من أهل العلم أن يكون من أتباعه على الحقيقة فعليه بالدعوة إلى الله على بصيرة حتى يكون من أتباعه على الحقيقة، ينفع الناس وينفع نفسه، ثم له بذلك مثل أجورهم ولو كانوا ملايين، هذه نعمة عظيمة وفائدة كبيرة، لك يا عبد الله الداعي إلى الله، لك مثل أجور من هداه على يديك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (2) » وهذا أمر عظيم من دعا إلى خير فله مثل أجر فاعله، دعوت كافرا فأسلم يكون لك مثل أجره، دعوت مبتدعا فترك البدعة يكون لك مثل أجره، دعوت إنسانا يتعامل بالربا فأطاعك يكون لك مثل أجره، دعوت إنسانا يتعاطى المسكر فأجابك يكون لك مثل أجره، دعوت إنسانا عاقا لوالديه فأطاعك وبر والديه يكون لك مثل أجره، دعوت إنسانا يغتاب الناس فترك الغيبة يكون لك مثل أجره، وهكذا. . هذا خير عظيم «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (3) » . والحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (4) » وهذا الحديث من أصح الأحاديث، وقد رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(3) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(4) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .(6/415)
فأنت يا عبد الله إن دعوت إلى خير فلك مثل أجور المهتدين على يديك، وإن دعوت إلى شر فعليك مثل أوزارهم وآثامهم، نسأل الله العافية، وفي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي لما بعثه لخيبر: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (1) » وهذه الفائدة العظيمة، واحد من اليهود يهديه الله على يده خير له من حمر النعم، وأنت كذلك ذهبت إلى قرية من القرى أو مدينة من المدن أو قبيلة من القبائل فدعوتهم إلى الله، وهدى الله على يديك واحدا خير لك من حمر النعم، والمقصود خير من الدنيا وما عليها، وهكذا لو كنت في بلاد فيها كفار فدعوتهم وهداهم الله على يديك لك مثل أجورهم، ولك بكل واحد خير من حمر النعم، وهنا كفار يوجدون من العمال فإذا تيسر للعالم الذهاب إليهم ودعوتهم فهداهم الله على يديه أو هدى بعضهم يكون له مثل أجورهم، فالدعوة إلى الله في كل مكان لها ثمراتها العظيمة مع الكفار ومع العصاة ومع غيرهم، قد يكون غير عاص لكن عنده كسل، وعدم نشاط فإذا سمع دعوتك زاد نشاطه في الخير ومسابقته إلى الطاعات فيكون لك مثل أجره.
أما أسلوب الدعوة فبينه الرب جل وعلا وهو الدعوة بالحكمة أي بالعلم والبصيرة، بالرفق واللين لا بالشدة والغلظة هذا هو الأسلوب الشرعي في الدعوة إلا من ظلم، فمن ظلم يعامل بما يستحق لكن من يتقبل الدعوة ويصغي إليها، أو ترجو أن يتقبلها لأنه لم يعارضك ولم يظلمك فارفق به. يقول جل وعلا في كتابه العظيم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) فالحكمة هي العلم، قال الله قال رسوله، والموعظة الحسنة الترغيب والترهيب تبين ما في طاعة الله من الخير العظيم، وما في الدخول في الإسلام من الخير العظيم وما عليه إذا استكبر ولم يقبل الحق إلى غير ذلك، أما الجدال بالتي هي أحسن فمعناه بيان الأدلة من غير عنف عند وجود الشبهة لإزالتها وكشفها، فعند المجادلة تجادل بالتي هي أحسن وتصبر وتتحمل كما في الآية الأخرى يقول سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (3)
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2942) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة العنكبوت الآية 46(6/416)
فالظالمون لهم شأن آخر، لكن ما دمت تستطيع الجدال بالتي هي أحسن وهو يتقبل أو ينصت أو يتكلم بأمر لا يعد فيه ظالما ولا معتديا فاصبر وتحمل بالموعظة والأدلة الشرعية والجدال الحسن، يقول الله سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «البر حسن الخلق (2) » .
وقد أثنى الله على النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الدعوة فقال جل وعلا: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (3) ونبينا أكمل الناس في دعوته، وأكمل الناس في إيمانه، لو كان فظا غليظ القلب لانفض الناس من حوله وتركوه فكيف أنت، فعليك أن تصبر وعليك أن تتحمل ولا تعجل بسب أو كلام سيئ أو غلظة، وعليك باللين والرحمة والرفق. ولما بعث الله موسى وهارون لفرعون ماذا قال لهما، قال سبحانه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (4) فأنت كذلك لعل صاحبك يتذكر أو يخشى، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به، اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه (5) » وهذا وعد عظيم في الرفق ووعيد عظيم في المشقة، ويقول عليه الصلاة والسلام: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (6) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالرفق فإنه لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (7) » .
فالواجب على الداعي إلى الله أن يتحمل، وأن يستعمل الأسلوب الحسن الرفيق اللين في دعوته للمسلمين والكفار جميعا، لا بد من الرفق مع المسلم ومع الكافر ومع الأمير وغيره ولا سيما الأمراء والرؤساء والأعيان، فإنهم يحتاجون إلى المزيد من الرفق والأسلوب الحسن لعلهم يقبلون الحق ويؤثرونه على ما سواه، وهكذا من تأصلت في نفسه البدعة أو المعصية ومضى عليه فيها السنون يحتاج إلى صبر حتى تقتلع البدعة
__________
(1) سورة البقرة الآية 83
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2553) ، سنن الترمذي الزهد (2389) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) ، سنن الدارمي الرقاق (2789) .
(3) سورة آل عمران الآية 159
(4) سورة طه الآية 44
(5) صحيح مسلم الإمارة (1828) ، مسند أحمد بن حنبل (6/93) .
(6) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2592) ، سنن أبو داود الأدب (4809) ، سنن ابن ماجه الأدب (3687) ، مسند أحمد بن حنبل (4/366) .
(7) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود كتاب الجهاد (2478) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .(6/417)
وحتى تزال بالأدلة، وحتى يتبين له شر المعصية وعواقبها الوخيمة، فيقبل منك الحق ويدع المعصية.
فالأسلوب الحسن من أعظم الوسائل لقبول الحق، والأسلوب السيئ العنيف من أخطر الوسائل في رد الحق وعدم قبوله وإثارة القلاقل والظلم والعدوان والمضاربات.
ويلحق بهذا الباب ما قد يفعله بعض الناس من المظاهرات التي قد تسبب شرا عظيما على الدعاة، فالمسيرات في الشوارع والهتافات والمظاهرات ليست هي الطريق للإصلاح والدعوة، فالطريق الصحيح بالزيارة والمكاتبة التي هي أحسن، فتنصح الرئيس والأمير وشيخ القبيلة بهذا الطريق لا بالعنف والمظاهرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاث عشرة سنة لم يستعمل المظاهرات ولا المسيرات ولم يهدد الناس بتخريب أموالهم واغتيالهم.
ولا شك أن هذا الأسلوب يضر الدعوة والدعاة، ويمنع انتشارها ويحمل الرؤساء والكبار على معاداتها ومضادتها بكل ممكن فهم يريدون الخير بهذا الأسلوب لكن يحصل به ضده، فكون الداعي إلى الله يسلك مسلك الرسل وأتباعهم ولو طالت المدة أولى به من عمل يضر الدعوة ويضايقها، أو يقضي عليها ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالنصيحة مني لكل داع إلى الله أن يستعمل الرفق في كلامه، وفي خطبته، وفي مكاتباته، وفي جميع تصرفاته حول الدعوة، يحرص على الرفق مع كل أحد إلا من ظلم، وليس هناك طريق أصلح للدعوة من طريق الرسل فهم القدوة، وهم الأئمة، وقد صبروا، صبر نوح على قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وصبر هود، وصبر صالح، وصبر شعيب، وصبر إبراهيم، وصبر لوط، وهكذا غيرهم من الرسل ثم أهلك الله أقوامهم بذنوبهم وأنجى الله الأنبياء وأتباعهم.
فلك أيها الداعية أسوة في هؤلاء الأنبياء والأخيار، ولك أسوة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي صبر في مكة وصبر في المدينة على وجود اليهود عنده والمنافقين ومن لم يسلم من الأوس والخزرج حتى هداهم الله، وحتى يسر الله إخراج اليهود، وحتى مات المنافقون بغيظهم، فأنت لك أسوة بهؤلاء الأخيار فاصبر وصابر واستعمل الرفق ودع عنك العنف، ودع كل سبب يضيق على الدعوة ويضرها ويضر أهلها. واذكر قوله تعالى(6/418)
يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (1) الآية.
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح وحسن الدعوة إليه، وأن يوفق علماءنا جميعا في كل مكان، ودعاة الحق في كل مكان للعلم النافع والبصيرة، والسير على المنهج الذي سار عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام في الدعوة إليه وإبلاغ الناس دينه، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 35(6/419)
نداء عام لمساعدة المسلمين في البوسنة والهرسك
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من تبلغه هذه الرسالة من المسلمين حكومات وشعوبا. . . . . وفقهم الله لما فيه رضاه ونصر بهم الحق آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
فإن إخوانكم من المسلمين في جمهورية البوسنة والهرسك يعذبون من أعداء الله ويقتلون ويعاملون بأنواع العذاب والظلم، فالواجب عليكم جميعا مساعدتهم بأنواع المساعدات بالمال والجاه والدعاء، عملا بقول الله عز وجل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) وقوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (3) » وشبك بين أصابعه، وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (4) » متفق على صحتهما.
__________
(1) سورة الحجرات الآية 10
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) صحيح البخاري المظالم والغصب (2446) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) .
(4) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .(6/419)
ولما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من الأمر بنصر المظلوم في قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه (1) » متفق على صحته.
ولما أوجب الله من نصر المسلمين ضد أعداء الله فإن إخوانكم من المسلمين في جمهورية البوسنة والهرسك في صراع مع أعداء الله من الصرب وأنصارهم، فالواجب على جميع المسلمين أن يساعدوهم بالمستطاع للأدلة المذكورة من الآيات والأحاديث، ولقوله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم (3) » وهم من أحق الناس بالمساعدة من الزكاة وغيرها دعما لنضالهم وسدا لحاجتهم وإعانة لهم على الصمود أمام أعداء الله سبحانه وتعالى.
ونوصي جميع لجان الإغاثة في المملكة العربية السعودية وغيرها بالعناية بشأنهم وجمع التبرعات لهم من الزكاة وغيرها.
والله المسئول أن يوفق المسلمين حكومات وشعوبا لكل خير، وأن ينصر بهم دينه ويخذل بهم أعداءه، وأن يعينهم على نصر إخوانهم المظلومين في كل مكان، وأن يوفق إخواننا المسلمين في جمهورية البوسنة والهرسك وغيرهما لكل ما فيه رضاه، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يجمعهم على الحق وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم، وأن يكتب لهم النصر على أعدائه سبحانه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة،
والرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
في المملكة العربية السعودية.
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) ، مسند أحمد بن حنبل (2/91) .
(2) سورة التغابن الآية 16
(3) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الفضائل (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .(6/420)
تنويه:
يلاحظ القارئ أن الأجزاء المتعلقة بالعقيدة وما يلحق بها من مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز - أمد الله - في عمره يدخل فيها أسئلة وأجوبة عن موضوعات ليست في العقيدة.
ومن باب التنويه، فإن الأسئلة كانت جزءا من محاضرات تداولها الناس على الأشرطة، ومن المصلحة أن ترد كاملة. وبتوجيه من سماحة الشيخ فإن كل سؤال وجوابه سوف يوضع في مكانه من أبواب الفقه عندما يصل إليها الكتاب، وينبه على مكانه السابق من الكتاب.(6/421)
صفحة فارغة(7/1)
صفحة فارغة(7/2)
صفحة فارغة(7/3)
صفحة فارغة(7/4)
أسباب نصر الله للمؤمنين على أعدائهم (1)
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوة في الله في أشرف بقعة من بقاع الدنيا وهي: مكة المكرمة للتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى وبيان أسباب انتصار المسلمين على أعدائهم وبيان ضد ذلك، وأسأل الله جل وعلا أن يجعله لقاء مباركا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح ولاة أمر المسلمين جميعا، ويمنحهم الفقه في الدين، وأن يوفقهم لتحكيم شريعته بين عباده، كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا في هذه البلاد لكل خير، وأن يعينهم على كل ما فيه صلاح العباد والبلاد وأن يصلح لهم البطانة، وأن ينصر بهم الحق، ويخذل بهم الباطل، ويجعلهم من الهداة المهتدين إنه خير مسئول، ثم إني أشكر إخواني القائمين على هذا النادي
__________
(1) محاضرة ألقاها سماحة الشيخ في نادي مكة الأدبي في 29\11\1412 هـ(7/5)
وعلى رأسهم معالي الأخ الدكتور \ راشد بن راجح مدير جامعة أم القرى، ورئيس النادي على دعوتهم لي لهذا اللقاء، وأسأل الله أن يبارك في الجميع، وأن يصلح أحوالنا جميعا ويجعلنا من دعاة الهدى وأنصار الحق إنه سميع قريب.
أيها الإخوة في الله ذكر معالي الدكتور: راشد حفظه الله في المقدمة أنني رئيس هيئة كبار العلماء، وأحب التصحيح فإن الرئاسة للهيئة محصورة في خمسة من كبار السن من الأعضاء تدور بينهم الرئاسة كل واحد في السنة الخامسة يأتيه الدور وأنا واحد منهم، ولست رئيس الهيئة ولكني واحد من رؤساء الهيئة، أما ما يتعلق بموضوع المحاضرة وهي " أسباب نصر الله للمؤمنين ".
فالله جل وعلا جعل للنصر أسبابا وجعل للخذلان أسبابا، فالواجب على أهل الإيمان في جهادهم وفي سائر شئونهم أن يأخذوا بأسباب النصر ويستمسكوا بها في كل مكان في المسجد وفي البيت وفي الطريق وفي لقاء الأعداء وفي جميع الأحوال، فعلى المؤمنين أن يلتزموا بأمر الله، وأن ينصحوا لله ولعباده، وأن يحذروا المعاصي التي هي من أسباب الخذلان، ومن المعاصي التفريط في أسباب النصر الأسباب الحسية التي جعلها الله أسبابا لا بد منها، كما أنه لا بد من الأسباب الدينية، فالتفريط في هذا أو هذا سبب الخذلان والله جل وعلا يقول في كتابه العظيم وهو أصدق القائلين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1)
__________
(1) سورة محمد الآية 7(7/6)
هذه الآية العظيمة خطاب لجميع المؤمنين أوضح فيها سبحانه أنهم إذا نصروا الله نصرهم سبحانه وتعالى.
ونصر الله من المؤمنين هو: اتباع شريعته ونصر دينه والقيام بحقه، وليس هو سبحانه في حاجة إلى عباده بل هم المحتاجون إليه كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (1) {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} (2) {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} (3) فالناس كلهم جنهم وإنسهم ملوكهم وعامتهم كلهم في حاجة إلى ربهم وكلهم فقراء إلى الله والله سبحانه هو الغني الحميد، فنصره سبحانه هو نصر شريعته وهو نصر دينه هذا هو نصره، نصر ما بعث به رسوله وأنزل به كتابه الكريم، فإذا قام المسلمون بنصر دينه والقيام بحقه ونصر أوليائه نصرهم الله على عدوهم ويسر أمورهم وجعل لهم العاقبة الحميدة كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (4) وقال سبحانه: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (5) والصبر والتقوى يكونان: بنصر الله، والقيام بدينه سبحانه، والتواصي بذلك في السر والجهر في الشدة والرخاء في حال الجهاد وما قبله وما بعده وفي جميع الأحوال.
ولما حذر سبحانه من اتخاذ البطانة من دون المؤمنين في قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (6)
__________
(1) سورة فاطر الآية 15
(2) سورة فاطر الآية 16
(3) سورة فاطر الآية 17
(4) سورة هود الآية 49
(5) سورة آل عمران الآية 120
(6) سورة آل عمران الآية 118(7/7)
بين سبحانه في آخر الآيات أنهم إذا صبروا واتقوا لم يضرهم أعداؤهم فقال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (1) وفي الآية الأخرى يقول جل وعلا: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (2) وفي الأخرى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (3) ويقول سبحانه: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (4)
فنصر الله جل وعلا باتباع شريعته والصبر على ذلك كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (5) وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك (6) » فمن حفظ الله بحفظ دينه والاستقامة عليه والتواصي بحقه والصبر عليه نصره الله وأيده على عدوه وحفظه من مكائده، وقال عز وجل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (7) والمؤمنون هم الذين استقاموا على دين الله وحافظوا على حقه وابتعدوا عن مناهيه كما قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (8) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (9) فالمؤمنون هم المتقون وهم أولياء الله، وهم أنصار دين الله ينصرهم الله ويحميهم من كيد أعدائهم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 120
(2) سورة آل عمران الآية 186
(3) سورة يوسف الآية 90
(4) سورة الأنفال الآية 46
(5) سورة محمد الآية 7
(6) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، مسند أحمد بن حنبل (1/308) .
(7) سورة الروم الآية 47
(8) سورة يونس الآية 62
(9) سورة يونس الآية 63(7/8)
ويجعل لهم العاقبة سبحانه وتعالى، ويقول سبحانه في كتابه الكريم: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2) هؤلاء هم المنصورون وهم الموعودون بالعاقبة الحميدة.
ثم أوضح سبحانه صفات الناصرين له فقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} (3) أي: أقدرناهم {أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} (4) يعني: حافظوا على هذه وهذه كما أمر الله، فأقاموا الصلاة كما أمر الله بأركانها وواجباتها وغير ذلك من شئونها، وأدوا الزكاة طيبة بها نفوسهم كما شرع الله، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهذا يعم جميع الأوامر والنواهي فيدخل في المعروف: الصيام والحج والجهاد وبر الوالدين وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله، ويدخل في المنكر كل ما نهى الله عنه من أنواع الشرك وسائر المعاصي، فالمؤمنون يوحدون الله ويؤمنون به إيمانا صادقا، ويلتزمون بتوحيده والإخلاص له وتصديق أخباره وأخبار رسوله عليه الصلاة والسلام وبالقيام بحقه كما أمر، ومع ذلك يحذرون ما نهى عنه ويبتعدون عما حرمه عليهم رغبة فيما عنده وطلبا لمرضاته جل وعلا وحذرا من عقابه سبحانه وتعالى، فهؤلاء هم المؤمنون حقا وهم المتقون المذكورون في قوله تعالى في سورة الأنفال: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (5)
فربنا ينوع العبارات في صفات المؤمنين وترجع إلى شيء واحد كما قال
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة الحج الآية 41
(3) سورة الحج الآية 41
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة الأنفال الآية 34(7/9)
تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} (1) فيدخل في هذا الصلاة والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر ما أمر الله به ورسوله، كما يدخل في ذلك من باب أولى توحيد الله والإيمان به والإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام، وتصديق أخبار الله ورسوله كلها داخلة في قوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} (2) كما أنها داخلة في قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) فالصبر والتقوى يشتمل على فعل جميع الأوامر وترك النواهي.
وهكذا قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (4) يشمل فعل الأوامر وترك النواهي، فإن هذا هو النصر لله بفعل أوامره وترك نواهيه عن إيمان وعن إخلاص لله وتوحيد له سبحانه وإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، لا عن مجرد شجاعة وحمية، ولا ليقال إنه كذا وكذا، ولا لمقصد آخر غير اتباع الشرع، فالنصر لدين الله يكون بطاعة الله وتعظيمه والإخلاص له والرغبة فيما عنده سبحانه وتعالى والعمل بشريعته يريد ثوابه وإقامة دينه، فمن كان بهذه الصفة فهو من المؤمنين الذين قال الله فيهم: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (5) ويقول فيهم جل وعلا: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (6) {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (7) يعني بذلك العاقبة الوخيمة وهي اللعنة وسوء الدار، فالعاقبة الوخيمة هي النار والطرد من رحمة الله؛ لأنهم لم ينصروا الله ولم ينصروا دينه، فالظالمون لا تنفعهم المعاذير
__________
(1) سورة آل عمران الآية 120
(2) سورة آل عمران الآية 120
(3) سورة الحج الآية 41
(4) سورة محمد الآية 7
(5) سورة محمد الآية 7
(6) سورة غافر الآية 51
(7) سورة غافر الآية 52(7/10)
ولهم اللعنة ولهم سوء الدار يوم القيامة.
بخلاف من نصر دين الله واستقام عليه فلهم الرضا والكرامة والعاقبة الحميدة وذلك بالنصر في الدنيا والفوز في الآخرة بدخول الجنة والنجاة من النار، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
فالرسل وأتباعهم وهم المؤمنون لهم النصر في الدنيا بإظهارهم على عدوهم وتمكينهم من عدوهم وجعل العاقبة الحميدة لهم ضد عدوهم، وفي الآخرة لهم النصر بدخول الجنة والنجاة من النار والسلامة من هول اليوم العظيم، ويقول عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) هؤلاء هم أنصار الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم الذين أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهم الذين نصروا دين الله واستقاموا عليه، فالآيات والأحاديث يفسر بعضها بعضا ويدل بعضها على معنى بعض، فأنصار الله هم المؤمنون، وهم المتقون، وهم الصابرون الصادقون، وهم الأبرار، وهم الذين إذا مكنوا في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات المذكورون في هذه الآية من سورة النور، وهم الذين قاموا بهذين الأمرين، آمنوا بالله ورسوله، آمنوا بأن الله ربهم وهو معبودهم الحق خصوه بالعبادة وآمنوا بأسمائه وصفاته واستقاموا على دينه قولا وعملا وعقيدة، هؤلاء هم المؤمنون، هم
__________
(1) سورة النور الآية 55(7/11)
أنصار الله، هم أنصار دينه، وهم المتقون، وهم الذين قال فيهم: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (1) وهم المؤمنون الذين ذكروا في قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) وهم المذكورون في قوله جل وعلا: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ} (4) الآية، وفي قوله عز وجل: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (5) وهم الموعودون بالاستخلاف في الأرض والتمكين لدينهم وإبدالهم بعد الخوف أمنا وبعد الذل عزا.
فعليك يا عبد الله أن تعرف هذا المعنى جيدا وأن تعمل به حتى تكون من أنصار الله، وحتى تحصل لك العاقبة الحميدة التي وعد الله بها أنصاره، فالله وعد أنصاره بالنصر والعاقبة الحميدة والتمكين في الأرض وأن يبدلهم بخوفهم أمنا لما أخافوا أعداءه من أجله، وصبروا على دينه، وجاهدوا في الله وقدموا أنفسهم في سبيله سبحانه رخيصة يرجون رحمته ويخافون عقابه، قد باعوها لله وسلموها لله عملا بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (6) الآية، فهؤلاء هم أنصار الله الذين ثبتوا على دينه واستقاموا عليه قولا وعملا في الأمن والخوف في الشدة والرخاء، جاهدوا لله وصبروا فجعل الله لهم العاقبة الحميدة كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (7) وعدهم بالهداية وأنهم هم المحسنون المنصورون، ولما توافرت هذه الأسباب في الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله
__________
(1) سورة آل عمران الآية 120
(2) سورة الروم الآية 47
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة غافر الآية 51
(6) سورة التوبة الآية 111
(7) سورة العنكبوت الآية 69(7/12)
عليهم في يوم بدر نصروا على الكفار وهم أضعافهم، أضعافهم في القوة والعدد ومع ذلك نصروا عليهم بأنهم حققوا هذه الصفات، نصروا دين الله بالقول والعمل، وصبروا في لقاء الأعداء وصدقوا، فمكنهم الله وهزم عدوهم وجعل لهم العاقبة الحميدة، وهكذا في يوم الأحزاب صدقوا وصبروا وصابروا صبرا عظيما مع كون الكفار أضعاف المسلمين.
فصبر المسلمون وهم محاصرون حتى نصرهم الله بأمر من عنده على عدوهم بجنود لم يروها حتى زلزلهم وردهم خائبين لم ينالوا خيرا بسبب صبر الصحابة ونبيهم صلى الله عليه وسلم على طاعته وجهاد أعدائه، وهكذا في يوم الفتح نصر الله المسلمين على عدوهم وفتحوا مكة وهزموا الشرك وأعوانه وجيش هوازن فضلا منه سبحانه وتأييدا لأوليائه، وهكذا حصل للصحابة في قتالهم للروم وفارس وغيرهما صبروا وجاهدوا فأفلحوا ونصروا وجعل الله لهم العاقبة الحميدة، فصاروا قادة الناس وملوك الأرض، وسنة الله سبحانه هذه سائرة في عباده إلى يوم القيامة، من نصره نصره، ومن حاد عن دينه خذله، ولما جرى ما جرى يوم أحد من الخلل أصيب المسلمون وهم أفضل خلق الله في أرض الله، فيهم نبيهم صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، وهم بعده وبعد الأنبياء أفضل الخلق، وفيهم الصديق رضي الله عنه أفضل الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيهم عمر أفضل الأمة بعد النبي وبعد الصديق، وفيهم بقية الأخيار.
أصيب المسلمون بسبب الخلل الذي حصل من الرماة لما أخلوا بما أوجب الله عليهم من الصبر لأعداء الله ولزوم الثغر الذي(7/13)
يخشى منه فدخل العدو عليهم، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام قد أمر الرماة أن يلزموا موقعهم وأن لا يبرحوه وإن رأوا العدو يتخطف المسلمين وإن رأوا المسلمين نصروا لا هذا ولا هذا، فعليهم أن يلزموا مكانهم.
فلما انهزم العدو يوم أحد ورآهم الرماة انهزموا ظنوا أنها الفاصلة فأخلوا بمواقعهم، وحاول أميرهم أن يثنيهم عن ذلك فخالفوه ظنا منهم أن الكفار لا عودة لهم وأنهم قد انهزموا انهزاما كاملا فدخل العدو على المسلمين وصارت النكبة على المسلمين والقتل والجراحات والهزيمة حتى حاولوا قتله صلى الله عليه وسلم فأنجاه الله من شرهم وأصابه جراحات وكسروا رباعيته عليه الصلاة والسلام إلى غير هذا مما أصابه عليه الصلاة والسلام، وقتل سبعون من الصحابة وأصاب بعض من بقي جراحات، وأنزل الله فيهم سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} (1) أي: يقتلونهم بإذن الله {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} (2) يعني بذلك الرماة {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} (3) تنازعوا في الأمر واختلفوا {وَعَصَيْتُمْ} (4) بترك الموقع الذي أمركم الرسول صلى الله عليه وسلم بلزومه {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} (5) من هزيمة العدو، والجواب محذوف تقديره سلط العدو عليكم. {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ} (6) الآية.
المقصود أنهم أصيبوا بسبب الخلل الذي وقع منهم في موقف عظيم لا بد منه في سياسة الجهاد من حفظ الثغور وحفظ المنافذ التي ينفذ منها العدو، فحفظ الثغور التي يدخل منها العدو على المسلمين وحفظ المنافذ التي يدخل منها العدو على الجيش
__________
(1) سورة آل عمران الآية 152
(2) سورة آل عمران الآية 152
(3) سورة آل عمران الآية 152
(4) سورة آل عمران الآية 152
(5) سورة آل عمران الآية 152
(6) سورة آل عمران الآية 152(7/14)
وقت اللقاء لا بد فيه للجيش بأن يكون عنده عناية بذلك وعنده حذر وعنده حرص على سد كل ثغر يمكن أن ينفذ منها العدو على المسلمين ليضرهم أو يأتيهم من خلفهم، ولما استنكر المسلمون هذا الأمر وهذا الحدث المؤلم من الجراح والقتل وقالوا لماذا أصبنا؟ ولماذا جرى هذا؟ وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم خيرة الله من عباده بعد الأنبياء أنزل الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} (1) قد أصبتم مثليها يعني يوم بدر قتلوا سبعين من الكفار وأسروا سبعين وحصلت جراحات في الكفار كثيرة {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} (2) يعني استنكرتم من أين أصبنا؟ قال تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} (3) وهذا يفيد أن معصية بعض الجيش وإخلال بعض الجيش بالأسباب مصيبة للجميع فأصيبوا بسبب بعضهم، وهكذا الناس إذا رأوا المنكرات وشاعت ولم تغير عمت العقوبات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (4) » أخرجه الإمام أحمد رحمه الله بإسناد صحيح عن الصديق رضي الله عنه.
والمقصود أن الواجب على الأمة التآمر بالمعروف، والتناهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى والصدق في ذلك في كل بلد وفي كل قرية وفي كل قبيلة عليهم أن يتناصحوا ويتواصوا بالحق والصبر عليه ويتعاونوا على البر والتقوى ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر حتى لا تصيبهم كارثة بسبب ذنوبهم وأعمالهم، يقول سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (5) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (6) أي: جنس الإنسان {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (7) هؤلاء هم الرابحون وهم المنصورون فلا بد من
__________
(1) سورة آل عمران الآية 165
(2) سورة آل عمران الآية 165
(3) سورة آل عمران الآية 165
(4) سنن الترمذي الفتن (2168) ، سنن ابن ماجه الفتن (4005) .
(5) سورة العصر الآية 1
(6) سورة العصر الآية 2
(7) سورة العصر الآية 3(7/15)
هذه الصفات الأربع: الإيمان الصادق، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر في الجهاد وغيره.
وفي المدن والقرى وفي القبائل لا بد من هذه الخصال الأربع، فمن أراد نصر الله والسلامة لدينه وأراد حسن العاقبة فليتق الله وليصبر على طاعة الله وليحذر محارم الله أينما كان، هذا هو سبب نصر الله له وهو من أسباب نجاته في الدنيا والآخرة، فالرجل في بيته وفي المسجد وفي الطريق وفي السيارة والطائرة والقطار وفي محل البيع والشراء وفي الجهاد وفي كل مكان، يجب عليه أن يتقي الله وأن ينصر دين الله بقوله وعمله وفي جهاده وفي جميع شئونه، وهكذا المرأة في بيتها وفي كل مكان عليها أن تتقي الله وأن تنصر دين الله بقولها وعملها حسب الطاقة لقول الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وقوله سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم (3) » متفق على صحته.
فالمرأة تبذل النصيحة مع الزوج ومع الأولاد ومع من في البيت من أقارب وخدم ومع الجيران ومع الزميلات ومع الجليسات ترجو بذلك ما عند الله من المثوبة، وأن ينفع بها عباده، وكل واحد من الرجال عليه أن يتقي الله وينصر دينه في قوله وعمله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر عن صدق وإخلاص ورغبة ورهبة كما قال سبحانه في سورة الأنبياء عن عباده الصالحين:
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الفضائل (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .(7/16)
{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (1) وقال في سورة المؤمنون: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} (2) {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} (3) {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} (4) {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (5) {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (6) فهذه أسباب النصر، هذه أسباب حماية الله لعباده من كل سوء وأسباب نصره لهم، وهي من أعظم الأسباب في دخول الجنة والنجاة من النار.
ولا بد مع هذا كله من الحرص على الأسباب الدينية والحسية التي يعلم أنها من أسباب النصر لقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} (7) ويقول سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (8) الآية، ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (9)
وهذا هو الواجب على المؤمنين أن يأخذوا حذرهم من عدوهم عند القتال، وأن يعدوا له ما استطاعوا من قوة من السلاح والعدد، والحرس الجيد، وتكون الملاحظات جيدة، والثغرات مسدودة، والسلاح محمول عند الحاجة
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 90
(2) سورة المؤمنون الآية 57
(3) سورة المؤمنون الآية 58
(4) سورة المؤمنون الآية 59
(5) سورة المؤمنون الآية 60
(6) سورة المؤمنون الآية 61
(7) سورة النساء الآية 102
(8) سورة الأنفال الآية 60
(9) سورة النساء الآية 71(7/17)
حتى ولو كانوا في الصلاة، فلا يجوز أن يقول المجاهد أنا مؤمن ويكفي، بل لا بد من الأسباب الحسية المعنوية، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو أفضل المؤمنين وأكمل المتوكلين، والصحابة أفضل المؤمنين بعد الأنبياء، ومع هذا كله أصابهم ما أصابهم يوم أحد لما أخل الرماة بالشيء الذي يجب عليهم وأخلوا بالموقف الذي أمروا بلزومه.
فالمعاصي من أسباب الخذلان، كما أن معصية الرماة سبب الهزيمة يوم أحد، وهكذا المعاصي كلها في كل وقت من أسباب الخذلان إذا ظهرت ولم تنكر تكون من أسباب الخذلان وتسليط الأعداء، وحصول الكثير من المصائب، كما أنها من أسباب قسوة القلب وانتكاسه نعوذ بالله من ذلك، قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (2)
فالمعصية إذا ظهرت ضرت العامة إذا لم تنكر ولم تغير. فالمؤمنون مأمورون بالاستقامة على تقوى الله والجهاد لأعداء الله، وأن يصبروا على التقوى والعمل الصالح أينما كانوا مع الإيمان بأن الله سبحانه سوف ينصرهم ويمكنهم من عدوهم، ويجعلهم بعد خوفهم في أمن وعافية وبعد القلق في استقرار وراحة بسبب إيثارهم حقه ونصرهم دينه وتعاونهم على البر والتقوى وصدقهم في ذلك ونصحهم لله ولعباده، ومتى أخلوا بشيء فليعلموا أنه خطر عليهم،
__________
(1) سورة الشورى الآية 30
(2) سورة الحديد الآية 16(7/18)
وأنه متى أصابهم مصيبة بسبب الخلل فمن عند أنفسهم كما قال عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) ويقول سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (2) وهو القائل سبحانه في سورة آل عمران بعد ما ذكر كيد الكفار: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (3) وهو القائل سبحانه في سورة النور: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (4) الآية، وفي سورة محمد يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (5) وأعظم العدو الشيطان، فهو أعظم العدو للإنسان فإنه يجري منه مجرى الدم، فعليك أن تجاهده بتقوى الله وترك معصيته، وأن تحذر مكائده ووساوسه، وأن تكثر من الاستعاذة بالله منه مع الإكثار من الحسنات والحذر من السيئات في جميع الأوقات، فهذا هو طريق السلامة من شره ومكائده بتوفيق الله وإعانته.
ولا بد مع ذلك من جهاد النفس، والإكثار من ذكر الله، والاستقامة على دينه، والحفاظ على حدوده. والحذر من مكائد عدو الله في كل زمان ومكان.
يقول الله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (6) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (7)
__________
(1) سورة الشورى الآية 30
(2) سورة النساء الآية 79
(3) سورة آل عمران الآية 120
(4) سورة النور الآية 55
(5) سورة محمد الآية 7
(6) سورة الطلاق الآية 2
(7) سورة الطلاق الآية 3(7/19)
ويقول تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (1) ويقول عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (2) ويقول سبحانه عن زوجة العزيز: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) يقول عز وجل في سورة النازعات: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} (4) {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (5) فهذه أسباب النصر، وهذه أسباب النجاة من الأعداء، وهذه أسباب السلامة من مكائد الأعداء جنهم وإنسهم، حضرهم وبدوهم، قريبهم وبعيدهم، وهي أسباب النصر عليهم، والسلامة من مكائدهم وهي أن تتقي الله في جميع الأحوال، وأن تحافظ على دينه، وأن تحذر معصيته أينما كنت في الجهاد وغيره، هذه أسباب حفظ الله لك، وحفظ الله لدينه بك، ونصر الله لك على عدوك وخذلان عدوك.
ومتى فرط المؤمنون في هذه الأمور فهم في الحقيقة ساعون في تأييد عدوهم في نصره عليهم، والمعنى أن معاصي الجيش عون لعدوهم عليهم كما جرى يوم أحد فعلى المؤمنين جميعا في أي مكان أن يتقوا الله، وأن ينصروا دينه، وأن يحافظوا على شرعه، وأن يحذروا من كل ما يغضبه في أنفسهم، وفيمن تحت أيديهم وفي مجتمعهم كل على حسب طاقته كما قال الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (6)
__________
(1) سورة الطلاق الآية 4
(2) سورة فاطر الآية 6
(3) سورة يوسف الآية 53
(4) سورة النازعات الآية 40
(5) سورة النازعات الآية 41
(6) سورة التغابن الآية 16(7/20)
فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين لما فيه رضاه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يجعلنا من الهداة المهتدين، وأن يعيننا على حفظ أنفسنا من شر جميع أعدائنا، وأن يعيننا على ذكره، وشكره، وحسن عبادته، وأن يوفق ولاة أمر المسلمين جميعا لما يرضيه ولما يمكنهم من عدوهم ويعينهم عليه، وأن ينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل، وأن يجمع كلمتهم على التقوى، وأن يصلح جميع الشعوب الإسلامية وقادتهم، كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا في هذه البلاد لكل خير، وأن يعينهم على كل ما فيه رضاه، وأن ينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل، وأن يجعلهم من الهداة المهتدين إنه جل وعلا جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.(7/21)
على الحكومات الإسلامية العودة إلى كتاب الله
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوتي في الله أعضاء المجلس التأسيسي للرابطة وسائر ضيوفنا الكرام في هذا المجلس في رحاب بيت الله العتيق للنظر في شئون المسلمين والنصيحة لهم ودعوتهم إلى كل ما فيه سعادتهم ونجاحهم.
وإني بهذه المناسبة أرحب بإخواني أجمل ترحيب، وأسأل الله أن يوفقنا جميعا لما فيه صلاح البلاد والعباد، وأن يجعلنا جميعا من الهداة المهتدين، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم إنه جل وعلا جواد كريم.(7/22)
ثم إنه من المعلوم لدى الجميع ما ابتلي به المسلمون اليوم في أنحاء كثيرة في فلسطين، وفي البوسنة والهرسك، وفي الصومال، وفي الفلبين، وفي مواطن كثيرة ابتلوا بشر كثير من أعدائهم، فهم في أشد الحاجة إلى الدعم والمساعدة والمساندة ضد أعداء الله، وسمعنا في كلمة خادم الحرمين الشريفين ما يشفي ويكفي من الدعوة إلى مناصرتهم ودعمهم والعناية بشئونهم من جميع المسلمين فجزاه الله خيرا وأجزل مثوبته على كلمته فهي كلمة مهمة نافعة ومفيدة.
وإني أؤيد ما تضمنته كلمته وفقه الله من وجوب التضامن بين المسلمين والتعاون على البر والتقوى والتناصح ضد الأعداء والتواصي بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام والثبات عليها، ودعوة جميع الحكومات الإسلامية إلى تحكيم الشريعة والتحاكم إليها في جميع الشئون والاستقامة عليها، فهي الطريق الوحيد للنصر على الأعداء وجمع الكلمة والتعاون على البر والتقوى.
فقد استقام عليها سلفنا الصالح مع نبيهم صلى الله عليه وسلم وبعده فنصرهم الله على عدوهم فكسروا كسرى، وكسروا قيصر وسادوا في البلاد وحكموا العباد وقادوهم إلى الخير وحكموا فيهم بشرع الله، وبسبب ذلك نصروا من ربهم عز وجل.
ولا سبيل إلى هذا النصر وإلى هذا الجمع الصحيح والاتفاق الصحيح، لا سبيل إلى ذلك إلا بالعودة إلى ما كانوا عليه بالاستقامة على دين الله والنصر لدينه والحكم بشريعة الله، هذا هو الطريق الذي سلكه سلفنا الصالح، ويجب على الحكومات الإسلامية ويجب(7/23)
على العلماء التواصي بهذا الأمر والنصيحة لله ولعباده، وأن يحكم الولاة شرع الله في عباد الله، وأن يلزموا المسلمين بالاستقامة على دين الله قولا وعملا وعقيدة وأن يجتمعوا على الحق والهدى وأن ينصروا إخوانهم أينما كانوا، ويجب على الدول الإسلامية وأولياء المسلمين وعلى كل مسلم حسب طاقته أن ينصر إخوانه بكل ما يستطيع في فلسطين والبوسنة والهرسك والصومال والهند والفلبين وفي كل مكان، ويجب التعاون على البر والتقوى، يجب على المسلمين جميعا ولا سيما الحكومات الإسلامية والرؤساء يجب عليهم أن يبذلوا وسعهم في تحكيم شريعة الله وفي مساعدة إخوانهم في الله حتى ينتصروا على عدوهم وحتى يجتمع شملهم وحتى يأخذوا حقوقهم وافية كاملة، المسلمون شيء واحد وجسد واحد فالمؤمنون إخوة يجب الإصلاح بينهم ويجب دعمهم ومساعدتهم ضد عدوهم، ويجب التعاون على البر والتقوى في كل شأن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (1) » ، ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (2) » ، ويقول: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه (3) » معنى لا يسلمه: لا يخذله بل ينصره ويعينه على الحق وعلى عدوه الذي ظلمه.
ونصيحتي لكل المسلمين في كل مكان ولجميع الدول الإسلامية ولرؤسائهم وقادتهم والنصيحة للجميع أن يتقوا الله، وأن ينصروا دين الله، وأن يحكموا شرع الله فيما بينهم، وأن يلزموا
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2446) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) .
(2) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(3) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) ، مسند أحمد بن حنبل (2/91) .(7/24)
الشعوب بذلك فهذا هو طريق العزة وطريق الكرامة وطريق الاجتماع على الحق وطريق النصر على الأعداء، ونصيحتي لهم أيضا أن يتقوا الله في مناصرة إخوانهم في كل مكان بالمال والسلاح والرجال في فلسطين والبوسنة والهرسك والصومال والفلبين والهند وفي كل مكان، ويجب على من كان حول المسلمين في كل مكان أن يعينهم بما يستطيع، فاتقوا الله ما استطعتم في نصرهم وإعانتهم وإنصافهم من عدوهم.
وأسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا إلى رضاه ويصلح أحوالهم وأعمالهم وقلوبهم، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق حكام المسلمين جميعا للاستقامة على الحق وتحكيم شريعة الله والتحاكم إليها والثبات عليها والدعوة إليها بصدق وإخلاص، وأن يصلح أحوال المسلمين ويفقههم في الدين، وأن يوفق ولاة أمرنا وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين. . نسأل الله أن يوفقهم جميعا لما فيه رضاه، وأن ينصر بهم الحق، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يعينهم على كل خير إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(7/25)
إن الدين عند الله الإسلام
الحمد لله وحده وبعد:
فقد وردت إلينا الرسالة التالية:
سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
س: ظهرت في العصر الحديث فرقة انتشرت في أوربا وأمريكا انضم إليها عدد من المثقفين والمفكرين والمؤلفين المنتسبين إلى الإسلام. وتتلخص عقيدة هذه الفرقة بأن الديانات الكبرى كاليهودية والنصرانية والهندوكية والبوذية وغيرها هي أديان صحيحة ومقبولة عند الله سبحانه وتعالى. وأن المخلصين من أتباعها يصلون إلى الحق وينجون من النار ويدخلون الجنة دون حاجة في كل هذا إلى الدخول إلى الإسلام. .
أرجو من سماحتكم الرد على هذا الزعم.
والجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد:
فهذا الزعم المذكور باطل بالنصوص من الكتاب والسنة وإجماع العلماء.
أما الكتاب فقوله جل وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) وقوله سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19
(2) سورة آل عمران الآية 85(7/26)
وقوله عز وجل في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأما السنة فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار (2) » ، أخرجه مسلم في صحيحه.
وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ذكر منها وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة (3) » . ويدل على هذا المعنى من القرآن الكريم قوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (4) وقوله عز وجل: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (5) وقوله سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} (6) الآية.
وقوله عز وجل في سورة الأعراف في شأن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (7) ثم قال سبحانه بعد ذلك: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (8)
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) صحيح مسلم الإيمان (153) ، مسند أحمد بن حنبل (2/350) .
(3) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) .
(4) سورة سبأ الآية 28
(5) سورة الأنعام الآية 19
(6) سورة إبراهيم الآية 52
(7) سورة الأعراف الآية 157
(8) سورة الأعراف الآية 158(7/27)
وقد أجمع العلماء على أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الثقلين، وأن من لم يؤمن به ويتبع ما جاء به فهو من أهل النار ومن الكفار سواء كان يهوديا أو نصرانيا أو هندوكيا أو بوذيا أو شيوعيا أو غير ذلك.
فالواجب على جميع الثقلين من الجن والإنس أن يؤمنوا بالله ورسوله، وأن يعبدوا الله وحده دون ما سواه، وأن يتبعوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم حتى الموت. وبذلك تحصل لهم السعادة والنجاة والفوز في الدنيا والآخرة كما تقدم ذلك في الآيات السابقة والحديث الشريف.
وكما قال الله عز وجل: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (1) {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (2) وقال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4) وقال عز وجل في سورة النور: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (5) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وجميع الديانات المخالفة للإسلام فيها من الشرك والكفر بالله ما يخالف دين الإسلام الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب
__________
(1) سورة غافر الآية 51
(2) سورة غافر الآية 52
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة النور الآية 55(7/28)
وبعث به محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وأفضلهم. . وفيها عدم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وعدم اتباعه، وذلك كاف في كفرهم واستحقاقهم غضب الله وعقابه وحرمانهم من دخول الجنة واستحقاقهم لدخول النار إلا من لم تبلغه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذا أمره إلى الله سبحانه وتعالى. والصحيح: أنه يمتحن يوم القيامة فإن أجاب لما طلب منه دخل الجنة وإن عصا دخل النار، وقد بسط العلامة ابن القيم - رحمه الله - هذه المسألة وأدلتها في آخر كتابه: (طريق الهجرتين) تحت عنوان: طبقات المكلفين. فمن أراده فليراجعه ليستفيد منه الفائدة الكبيرة. . والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(7/29)
الركن الأول من أركان الإسلام: معناه ومقتضاه (1)
السؤال الأول: اشرحوا لنا لو تكرمتم معنى الركن الأول من أركان الإسلام وما يقتضيه ذلك المعنى، وكيف يتحقق من الإنسان وما حكم من جهل شيئا منه؟
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد:
فإن الله بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة عربهم وعجمهم، جنهم وإنسهم، ذكورهم وإناثهم، يدعوهم إلى توحيد الله والإخلاص له وإلى الإيمان به عليه الصلاة والسلام وبما جاء به وإلى الإيمان بجميع المرسلين وبجميع الملائكة والكتب المنزلة من السماء وباليوم الآخر وهو البعث والنشور والجزاء والحساب والجنة والنار وبالقدر خيره وشره، وإن الله قدر الأشياء وعلمها وأحصاها وكتبها سبحانه وتعالى، وكل شيء يقع هو بقضاء الله وقدره ومشيئته النافذة سبحانه وتعالى، وأمر الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، هذا هو أول شيء دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الركن الأول من أركان الإسلام شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا
__________
(1) من برنامج نور على الدرب رقم الشريط 16.(7/30)
رسول الله، فلما قال للناس: قولوا لا إله إلا الله وأمر أن يؤمنوا بأنه رسول الله عليه الصلاة والسلام امتنع الأكثرون وأنكروا هذه الدعوة، وقالت له قريش ما ذكر الله عنهم {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (1)
وقال سبحانه عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (2) {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (3) فاستنكروا هذه الدعوة لأنهم عاشواعلى عبادة الأوثان والأصنام وعبادة هذه الآلهة مع الله عز وجل، فلهذا أنكروا دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى توحيد الله والإخلاص له وهذا الذي دعا إليه صلى الله عليه وسلم هو الذي دعت إليه الرسل جميعا كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (4) وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (5)
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بني الإسلام على خمس شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت (6) » ، وفي الصحيح أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه سائل يسأله في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه
__________
(1) سورة ص الآية 5
(2) سورة الصافات الآية 35
(3) سورة الصافات الآية 36
(4) سورة النحل الآية 36
(5) سورة الأنبياء الآية 25
(6) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/26) .(7/31)
أثر السفر ولا يعرفه من الحاضرين أحد، فقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال: «الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال: صدقت. قال الصحابة: فعجبنا له يسأله ويصدقه، ثم قال: أخبرني عن الإيمان. قال له: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: أخبرني عن الإحسان. قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك (1) » الحديث.
ثم أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا السائل هو جبرائيل عليه السلام أتاهم يعلمهم دينهم لما لم يسألوا أتاهم جبرائيل بأمر الله يسأل عن هذا الدين العظيم حتى يتعلموا ويستفيدوا، فدين الإسلام مبني على هذه الأركان الخمسة الظاهرة.
أولها: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
ثانيها: إقام الصلوات الخمس.
ثالثها: أداء الزكاة.
رابعها: صوم رمضان.
خامسها: حج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا، وعلى أركان باطنة إيمانية بالقلب وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، فلا بد من هذه الأصول وهي أن يؤمن المكلف بهذه الأصول الستة الباطنة التي تتعلق بالقلب، فيؤمن بأن الله ربه وإلهه وهو الحق سبحانه وتعالى، ويؤمن بملائكة الله وبكتب الله التي أنزلها على الأنبياء من التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وغيرها من الكتب المنزلة على الأنبياء، ويؤمن أيضا بالرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده أولهم نوح وآخرهم محمد عليه الصلاة والسلام، وهم كثيرون بين الله بعضهم في القرآن العظيم، ويؤمن أيضا
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/52) .(7/32)
باليوم الآخر وهو البعث بعد الموت والحساب والجزاء وسائر أمور الآخرة فأهل الإيمان لهم السعادة والجنة، وأهل الكفر لهم الخيبة والندامة والنار، ولا بد من الإيمان بالقدر خيره وشره، وأن الله قدر الأشياء وعلمها وكتبها وأحصاها فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وكل ما في الوجود من خير وشر وطاعة ومعصية فقد سبق فيها علم الله وكتابه وقدره سبحانه وتعالى، فالأصل العظيم الأول الذي جاءت به الرسل هو الإيمان بأن الله هو الإله الحق سبحانه وتعالى وهذا هو معنى شهادة ألا إله إلا الله، وهذا أصل أصيل أجمعت عليه الرسل عليهم الصلاة والسلام كلهم دعوا إلى هذا الأصل الأصيل، وهو أن يؤمن الناس بأن الله هو الإله الحق وأنه لا معبود حق سواه وهذا هو معنى لا إله إلا الله أي: لا معبود حق إلا الله.
وما عبده الناس من أصنام أو أشجار أو أحجار أو أنبياء أو أولياء أو ملائكة كله باطل، فالعبادة الحق لله وحده سبحانه وتعالى كما قال سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (4) وقال عز وجل:
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة الفاتحة الآية 5
(4) سورة البينة الآية 5(7/33)
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (1)
ولا بد مع هذا الأصل من الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام من عهد آدم عليه الصلاة والسلام وما بعده، ففي عهد آدم على ذريته اتباع ما أوحى الله إليه وشرعه له من العلم والعمل وأساسه توحيد الله والإخلاص له والإيمان برسوله ونبيه آدم عليه الصلاة والسلام، وفي عهد نوح وما بعده على قومه الإيمان بنوح واتباع ما جاء به مع توحيد الله والإخلاص له.
ونوح عليه السلام هو أول الرسل إلى أهل الأرض بعدما وقع منهم الشرك، وكان الناس قبل ذلك على التوحيد الذي بعث الله عليه آدم عليه الصلاة والسلام وعلمه ذريته. وعلى قوم هود الإيمان بهود واتباع ما جاء به هود مع توحيد الله سبحانه، وفي عهد صالح على قوم صالح الإيمان بصالح واتباع ما جاء به مع توحيد الله، وهكذا في عهد كل رسول لا بد من توحيد الله والإيمان بأنه لا إله إلا الله، ولا بد مع ذلك من الإيمان بالرسول واتباع ما جاء به إلى عهد عيسى عليه الصلاة والسلام آخر أنبياء بني إسرائيل وهو عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، ثم بعث الله خاتمهم وأفضلهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فعيسى هو آخر أنبياء بني إسرائيل، ومحمد هو آخر الأنبياء وخاتم المرسلين جميعا ليس بعده نبي ولا رسول عليه الصلاة والسلام وهو أفضل الرسل وهو إمامهم وهو خاتمهم، فلا بد في حق الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم جنها وإنسها عربها وعجمها ذكورها وإناثها أغنيائها وفقرائها حكامها ومحكوميها لا بد أن يؤمنوا بهذا النبي وبمن قبله من الأنبياء
__________
(1) سورة الحج الآية 62(7/34)
والرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن لم يؤمن به فلا إسلام له ولا دين له فلا بد من الإيمان بأن الله هو الإله الحق وأنه لا إله حق إلا الله، ولا بد من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله حقا إلى جميع الناس، فمن لم يؤمن بهاتين الشهادتين فليس بمسلم، لا بد من الإيمان بهما واعتقاد معناهما وأن معنى لا إله إلا الله لا معبود حق إلا الله فلا يجوز أن يعبد مع الله ملك أو نبي أو شجر أو حجر أو جن أو صنم أو غير ذلك، فإذا قال يا رسول الله انصرني بعد موته صلى الله عليه وسلم، أو قال يا سيدي البدوي انصرني أو اشف مريضي، أو يا سيدي الحسين، أو يا سيدي عبد القادر، أو المدد المدد أو نحو ذلك فهذا كله شرك بالله عز وجل يبطل معنى لا إله إلا الله يعني يبطل قولك لا إله إلا الله، لأنك لم تأت بالعبادة لله وحده بل أشركت مع الله غيره ودعوت مع الله غيره والله يقول: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) ويقول سبحانه: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (2) ويقول سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (3) ويقول سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (4) ويقول سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (5)
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة (6) » ويقول جل وعلا: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (7) فلا بد من إخلاص العبادة لله وحده
__________
(1) سورة الجن الآية 18
(2) سورة يونس الآية 106
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة الإسراء الآية 23
(5) سورة الفاتحة الآية 5
(6) سنن الترمذي تفسير القرآن (2969) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3828) .
(7) سورة غافر الآية 60(7/35)
ومنها الدعاء، فإذا قلت للميت أو للشجر أو للصنم أغثني، انصرني، اشف مريضي إلى غير ذلك فإن هذا شرك أكبر بالله عز وجل ناقض لقول لا إله إلا الله وهكذا من كذب الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو شك في رسالته، أو قال إنه للعرب دون العجم، أو قال إنه ليس خاتم النبيين بل بعده نبي، كل هذا كفر أكبر، وضلال، ونقض للإسلام، نسأل الله العافية.
ومن ذلك يعلم كفر القاديانية لإيمانهم بنبوة: الميرزا غلام أحمد وهو بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم بقرون كثيرة، فلا بد من الإيمان بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو رسول الله حقا إلى جميع الثقلين الجن والإنس، ولا بد من الإيمان بأنه خاتم الأنبياء والمرسلين ليس بعده نبي ولا رسول، وأن من ادعى النبوة بعده كمسيلمة الكذاب فهو كافر بالله كذاب، وهكذا الأسود العنسي في اليمن، وسجاح التميمية، والمختار بن أبي عبيد الثقفي وغيرهم ممن ادعى النبوة بعده عليه الصلاة والسلام، فقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم على كفرهم وقاتلوهم بأنهم كذبوا معنى قوله سبحانه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (1) وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي (2) » عليه الصلاة والسلام.
فهذه الشهادة التي هي شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله هي الأصل الأصيل، وهي الركن الأول من أركان الإسلام
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 40
(2) سنن الترمذي الفتن (2219) ، مسند أحمد بن حنبل (5/278) .(7/36)
فلا إسلام إلا بهاتين الشهادتين قولا وعملا وعقيدة، فلو صلى وزكى وصام وحج وذكر الله كثيرا ولكنه لا يؤمن بأن الله هو المستحق للعبادة فإنه يكون كافرا كالمنافقين، وهكذا من قال: إنه لا مانع من عبادة الأوثان والأصنام، وإنه لا مانع من عبادة البدوي أو الحسين أو الشيخ عبد القادر أو علي بن أبي طالب، أو غيرهم من الأنبياء أو الأولياء أو الملائكة أو الجن - من اعتقد أنها تجوز عبادتهم مع الله، وأنه يجوز أن يستغاث بهم وينذر لهم صار مشركا بالله عز وجل وصار كلامه هذا وعقيدته هذه ناقضة لقول: لا إله إلا الله ومبطل لها لقول الله سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) وقوله عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) وهكذا لو قال: إن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بخاتم الأنبياء، أو ليس مرسلا للثقلين بل هو للعرب خاصة كان كافرا بالله عز وجل بالنص وإجماع أهل العلم، فلا بد أن يؤمن المكلف بأنه رسول الله إلى جميع الثقلين، ولا بد أن يؤمن بأنه خاتم الأنبياء ليس بعده نبي ولا رسول هذا هو الأصل الأصيل، ثم بعد هذا يطالب المسلم بالصلاة وبالزكاة وبالصيام وبالحج وببقية الأوامر وترك النواهي، ولا بد مع الإيمان بأن محمدا رسول الله من التصديق بجميع الأنبياء الماضين، وأنهم أدوا الرسالة وبلغوها عليهم الصلاة والسلام، ولا بد أيضا مع هذا
__________
(1) سورة الأنعام الآية 88
(2) سورة الزمر الآية 65(7/37)
كله من التصديق بما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم مما كان وما سيكون في آخر الزمان وفي يوم القيامة.(7/38)
السؤال الثاني: ارتكاب بعض المعاصي ولا سيما الكبائر هل يؤثر على هذا الركن من أركان الإسلام
الجواب:
ارتكاب الكبائر كالزنا وشرب الخمر وقتل النفس بغير حق وأكل الربا والغيبة والنميمة وغير ذلك من الكبائر يؤثر في توحيد الله وفي الإيمان بالله ويضعفه ويكون ضعيف الإيمان، لكن لا يكفر بذلك خلافا للخوارج، فالخوارج تكفره وتجعله مخلدا في النار إذا مات على ذلك ولم يتب، فمن سرق أو عق والديه أو أكل الربا يجعلونه كافرا وإن لم يستحل ذلك وهذا غلط كبير من الخوارج، فأهل السنة والجماعة يقولون: ليس بكافر بل هو عاص وناقص الإيمان لكن لا يكفر كفرا أكبر بل يكون في إيمانه نقص وضعف ولهذا شرع الله في الزنا حدا إذا كان الزاني بكرا يجلد مائة ويغرب عاما، ولو كان الزنا ردة لوجب قتله فدل على أنه ليس بردة، والسارق لا يقتل بل تقطع يده فدل ذلك على أن هذه المعاصي ليست ردة ولا كفرا ولكنها ضعف في الإيمان ونقص في الإيمان فلهذا شرع الله تأديبهم وتعزيرهم بهذه الحدود ليتوبوا ويرجعوا إلى ربهم ويرتدعوا عما فعلوه من المعاصي.
وقالت المعتزلة: إنه في منزلة بين المنزلتين ولكن يخلد في النار إذا مات عليها، فخالفوا أهل السنة(7/38)
في تخليد أهل المعاصي في النار، ووافقوا الخوارج في ذلك، والخوارج قالوا: يكفر ويخلد في النار وهؤلاء قالوا: يخلد في النار ولكن لا نسميه كافرا يعني الكفر الأكبر، وكلتا الطائفتين قد ضلت عن السبيل.
والصواب قول أهل السنة والجماعة أنه لا يكون كافرا يعني كفرا أكبر ولكن يكون عاصيا ويكون ضعيفا ناقص الإيمان على خطر عظيم من الكفر، ولكن ليس بكافر إذا كان لم يستحل هذه المعصية بل فعلها وهو يعلم أنها معصية ولكن حمله عليها الشيطان والهوى والنفس الأمارة بالسوء هذا هو قول أهل الحق، ويكون تحت مشيئة الله إذا مات على ذلك إن شاء غفر له وإن شاء عذبه على قدر معاصيه سبحانه وتعالى لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) ثم بعد مضي ما حكم الله به على العاصي من دخول النار يخرجه الله إلى الجنة هذا هو قول أهل الحق وهذا الذي تواترت به الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم خلافا للخوارج والمعتزلة كما تقدم.
أما من مات على الشرك الأكبر فإن الله لا يغفر له أبدا والجنة عليه حرام نعوذ بالله من ذلك وهو مخلد في النار أبد الآباد للآية المذكورة آنفا وغيرها من الآيات الدالة على خلود الكفار في النار نعوذ بالله من حالهم.
أما العاصي فإن دخل النار فإنه لا يخلد فيها أبد الآباد بل يبقى فيها ما شاء الله وقد تطول مدته ويكون هذا خلودا لكنه خلود مؤقت ليس مثل خلود الكفار كما قال الله تعالى:
__________
(1) سورة النساء الآية 48(7/39)
{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (1) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (2) {إِلَّا مَنْ تَابَ} (3) الآية، فهذا الخلود مؤقت له نهاية في حق القاتل والزاني إذا لم يعف الله عنهما ولم يتوبا. نسأل الله السلامة.
أما المشرك فإن خلوده في النار دائم كما قال الله سبحانه في حق المشركين: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (4) وقال سبحانه: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (5) وقال سبحانه: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (6) نعوذ بالله من حالهم.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 68
(2) سورة الفرقان الآية 69
(3) سورة الفرقان الآية 70
(4) سورة البقرة الآية 167
(5) سورة المائدة الآية 37
(6) سورة فاطر الآية 36(7/40)
السؤال الثالث: هل يكفي النطق والاعتقاد بهذا الركن من أركان الإسلام أم لا بد من أشياء أخر حتى يكتمل إسلام المرء ويكتمل إيمانه؟ الجواب: هذا الركن يدخل به الكافر في الإسلام وذلك بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله عن صدق وعن يقين وعن علم بمعناها وعمل بذلك إذا كان لا يأتي بهما في حال كفره، ثم(7/40)
يطالب بالصلاة وبقية الأركان وسائر الأحكام، ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال له: «ادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم (1) » .
فلم يأمرهم بالصلاة إلا بعد التوحيد والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، فالكفار أولا يطالبون بالتوحيد والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا أقر الكافر بذلك وأسلم صار له حكم المسلمين، ثم يطالب بالصلاة وبقية أمور الدين، فإذا امتنع من ذلك صار له أحكام أخر، فمن امتنع عن الصلاة يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرا وإن لم يجحد وجوبها في أصح قولي العلماء، وإن امتنع من الزكاة وكابر عليها وقاتل دونها فكذلك يقاتل كما قاتل الصحابة مانعي الزكاة مع أبي بكر رضي الله عنه وحكموا عليهم بالردة، فإن لم يقاتل دونها أجبره الإمام على تسليمها وعزره التعزير الشرعي الرادع لأمثاله، وهكذا يطالب المسلم بصوم رمضان، وحج البيت مع الاستطاعة وسائر ما أوجب الله عليه ويطالب أيضا بترك ما حرم الله عليه لأن دخوله في الإسلام والتزامه به يقتضي ذلك، ومن أخل بشيء مما أوجبه الله أو تعاطى شيئا مما حرم الله عومل بما يستحق شرعا، أما إن كان الكافر يأتي بالشهادتين في حال كفره كغالب الكفار اليوم فإنه يطالب بالتوبة مما أوجب كفره ولا يكتفي بنطقه بالشهادتين، لأنه ما زال يقولها في حال كفره لكنه لم يعمل بهما فإذا كان كفره بعبادة الأموات أو الجن أو الأصنام أو غير ذلك
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1395) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .(7/41)
من المخلوقات والاستغاثة بهم ونحو ذلك وجب عليه أن يتوب من ذلك وأن يخلص العبادة لله وحده وبذلك يدخل في الإسلام، وإذا كان كفره بترك الصلاة وجب عليه أن يتوب من ذلك وأن يؤديها فإذا فعل ذلك دخل في الإسلام.
وهكذا إذا كان كفره باستحلال الزنا أو الخمر وجب عليه أن يتوب من ذلك فإذا تاب من ذلك دخل في الإسلام.
وهكذا يطالب الكافر بترك العمل أو الاعتقاد الذي أوجب كفره فإذا فعل ذلك دخل في الإسلام.
وهذه مسائل عظيمة يجب على طالب العلم أن يعتني بها وأن يكون فيها على بصيرة وقد أوضحها أهل العلم في باب حكم المرتد، وهو باب عظيم يجب على طالب العلم أن يعتني به وأن يقرأه كثيرا.
والله ولي التوفيق،،(7/42)
أسئلة على العقيدة وأجوبتها
السؤال الأول:
انتشرت في بعض المجتمعات الإسلامية مخالفات متعددة منها ما يقع عند بعض القبور ومنها ما يتصل بالحلف والأيمان والنذور، وقد تختلف أحكام هذه المخالفات بين ما يكون منها من قبيل الشرك المخرج من الملة، وما يكون دون ذلك فحبذا لو تفضل سماحتكم ببسط القول وبيان أحكام تلك المسائل لهم، ونصيحة أخرى لعامة المسلمين ترهيبا لهم من التساهل بأمر تلك المخالفات والتهاون بشأنها.
الجواب: الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فإن كثيرا من الناس تلتبس عليهم الأمور المشروعة بالأمور الشركية والمبتدعة حول القبور، كما أن كثيرا منهم قد يقع في الشرك الأكبر بسبب الجهل والتقليد الأعمى. فالواجب على أهل العلم في كل مكان أن يوضحوا للناس دينهم وأن يبينوا لهم حقيقة التوحيد، وحقيقة الشرك، كما يجب على أهل العلم أن يوضحوا للناس وسائل الشرك وأنواع البدع الواقعة بينهم حتى يحذروها لقول الله عز وجل:(7/43)
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (1) الآية.
وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (3) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (4) » رواه مسلم في صحيحه.
وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (5) » رواه مسلم أيضا.
وفي الصحيحين عن معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (6) » ، والآيات والأحاديث في الدعوة إلى نشر العلم وترغيب الناس في ذلك والتحذير من الإعراض وكتمان العلم كثيرة.
أما ما يقع عند القبور من أنواع الشرك والبدع في بلدان كثيرة فهو أمر معلوم وجدير بالعناية والبيان والتحذير منه، فمن ذلك دعاء أصحاب القبور والاستغاثة بهم، وطلب شفاء المرضى والنصر على الأعداء ونحو ذلك، وهذا كله من الشرك الأكبر الذي كان عليه أهل الجاهلية قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (7) وقال
__________
(1) سورة آل عمران الآية 187
(2) سورة البقرة الآية 159
(3) سورة البقرة الآية 160
(4) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(5) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(6) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(7) سورة البقرة الآية 21(7/44)
سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) والمعنى أمر وأوصى، وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (3) الآية.
والآيات في هذا المعنى كثيرة، والعبادة التي خلق الثقلان لأجلها وأمروا بها هي توحيده سبحانه وتخصيصه بجميع الطاعات التي أمر بها من صلاة وصوم وزكاة وحج وذبح ونذر وغير ذلك من أنواع العبادة كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (5) والنسك هو العبادة ومنها الذبح كما قال سبحانه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (6) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (7) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله (8) » أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال الله سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (9) وقال عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (10) وقال عز وجل في سورة فاطر: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (11) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (12)
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة الأنعام الآية 162
(5) سورة الأنعام الآية 163
(6) سورة الكوثر الآية 1
(7) سورة الكوثر الآية 2
(8) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(9) سورة الجن الآية 18
(10) سورة المؤمنون الآية 117
(11) سورة فاطر الآية 13
(12) سورة فاطر الآية 14(7/45)
فأوضح سبحانه في هذه الآيات أن الصلاة لغيره والذبح لغيره ودعاء الأموات والأصنام والأشجار والأحجار كل ذلك من الشرك بالله والكفر به.
وأن جميع المدعوين من دونه من أنبياء أو ملائكة أو أولياء أو جن أو أصنام أو غيرهم لا يملكون لداعيهم نفعا ولا ضرا، وأن دعوتهم من دونه سبحانه شرك وكفر، كما أوضح سبحانه أنهم لا يسمعون دعاء داعيهم ولو سمعوا لم يستجيبوا له.
فالواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس الحذر من ذلك والتحذير منه وبيان بطلانه، وأنه يخالف ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام من الدعوة إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) وقد مكث صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة ثلاث عشرة سنة يدعو فيها إلى الله سبحانه ويحذر الناس من الشرك به، ويوضح لهم معنى لا إله إلا الله فاستجاب له الأقلون، واستكبر عن طاعته واتباعه الأكثرون، ثم هاجر إلى المدينة عليه الصلاة والسلام فنشر الدعوة إلى الله سبحانه هناك بين المهاجرين والأنصار، وجاهد في سبيل الله، وكتب
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25(7/46)
إلى الملوك والرؤساء، وأوضح لهم دعوته وما جاء به من الهدى، وصبر وصابر في ذلك هو وأصحابه رضي الله عنهم، حتى ظهر دين الله ودخل الناس في دين الله أفواجا، وانتشر التوحيد وزال الشرك من مكة والمدينة ومن سائر الجزيرة على يده صلى الله عليه وسلم وعلى يد أصحابه من بعده، ثم قام أصحابه بالدعوة إلى الله سبحانه والجهاد في سبيله في المشارق والمغارب حتى نصرهم الله على أعدائه ومكن لهم في الأرض وظهر دين الله على سائر الأديان، كما وعد بذلك سبحانه في كتابه العظيم حيث قال عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (1)
ومن البدع ووسائل الشرك ما يفعل عند القبور من الصلاة عندها والقراءة عندها وبناء المساجد والقباب عليها، وهذا كله بدعة ومنكر ومن وسائل الشرك الأكبر، ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » متفق على صحته من حديث عائشة رضي الله عنها.
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (3) » ، فأوضح صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين وما جاء في معناهما: أن اليهود والنصارى كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد. فحذر أمته من التشبه بهم باتخاذها مساجد والصلاة عندها والعكوف
__________
(1) سورة التوبة الآية 33
(2) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (529) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(7/47)
عندها والقراءة عندها، لأن هذا كله من وسائل الشرك، ومن ذلك البناء عليها واتخاذ القباب والستور عليها، فكل ذلك من وسائل الشرك والغلو في أهلها.
كما قد وقع ذلك من اليهود والنصارى ومن جهال هذه الأمة حتى عبدوا أصحاب القبور وذبحوا لهم واستغاثوا بهم، ونذروا لهم وطلبوا منهم شفاء المرضى والنصر على الأعداء كما يعلم ذلك من عرف ما يفعل عند قبر الحسين، والبدوي، والشيخ عبد القادر الجيلاني، وابن عربي وغيرهم من أنواع الشرك الأكبر والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تجصيص القبور والقعود عليها والبناء عليها والكتابة عليها، وما ذاك إلا لأن تجصيصها والبناء عليها من وسائل الشرك الأكبر بأهلها.
فالواجب على جميع المسلمين حكومات وشعوبا الحذر من هذا الشرك ومن هذه البدع وسؤال أهل العلم المعروفين بالعقيدة الصحيحة، والسير على منهج سلف الأمة عما أشكل عليهم من أمور دينهم حتى يعبدوا الله على بصيرة عملا بقول الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (2) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (3) » .
ومعلوم أن العباد لم يخلقوا عبثا وإنما خلقوا لحكمة عظيمة وغاية شريفة، وهي عبادة الله وحده دون كل ما سواه كما قال عز وجل:
__________
(1) سورة النحل الآية 43
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(3) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(7/48)
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) ولا سبيل إلى معرفة هذه العبادة إلا بتدبر الكتاب العظيم والسنة المطهرة، ومعرفة ما أمر الله به ورسوله من أنواع العبادة وسؤال أهل العلم عما أشكل في ذلك، وبذلك تعرف عبادة الله سبحانه وتعالى التي خلق العباد من أجلها وتؤدى على الوجه الذي شرعه الله، وهذا هو السبيل الوحيد إلى مرضاة الله سبحانه والفوز بكرامته، والنجاة من غضبه وعقابه، وفق الله المسلمين لكل ما فيه رضاه، ومنحهم الفقه في دينه وولى عليهم خيارهم وأصلح قادتهم، ووفق علماء المسلمين لأداء ما يجب عليهم من الدعوة والتعليم والنصح والتوجيه إنه جواد كريم.
ومن أنواع الشرك الحلف بغير الله كالحلف بالأنبياء وبرأس فلان وحياة فلان والحلف بالأمانة والشرف، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (2) » متفق على صحته.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف بشيء دون الله فقد أشرك (3) » رواه الإمام أحمد عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإسناد صحيح، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (4) » أخرجه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وقال عليه الصلاة والسلام: «من حلف بالأمانة فليس منا (5) » ، وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون (6) » .
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) صحيح البخاري الشهادات (2679) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/47) .
(4) سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) .
(5) سنن أبو داود الأيمان والنذور (3253) ، مسند أحمد بن حنبل (5/352) .
(6) سنن النسائي الأيمان والنذور (3769) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3248) .(7/49)
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، والحلف بغير الله من الشرك الأصغر وقد يفضي إلى الشرك الأكبر إذا اعتقد تعظيمه مثل تعظيم الله أو أنه ينفع ويضر دون الله، أو أنه يصلح لأن يدعى أو يستغاث به، ومن هذا الباب قول: ما شاء الله وشاء فلان، ولولا الله وفلان وهذا من الله وفلان، وهذا كله من الشرك الأصغر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان (1) » ، وبهذا يعلم أنه لا حرج بأن يقول: لولا الله ثم فلان، أو هذا من الله ثم فلان. . إذا كان له تسبب في ذلك.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أن رجلا قال له: ما شاء الله وشئت فقال له صلى الله عليه وسلم: «أجعلتني لله ندا قل ما شاء الله وحده» ، فدل هذا الحديث على أنه إذا قال: ما شاء الله وحده فهذا هو الأكمل، وإن قال: ما شاء الله ثم شاء فلان فلا حرج جمعا بين الأحاديث والأدلة كلها، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (4980) ، مسند أحمد بن حنبل (5/399) .(7/50)
السؤال الثاني: يخلط بعض الناس بين التوسل بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وطاعته والتوسل بذاته وجاهه، كما يقع الخلط بين التوسل بدعائه عليه الصلاة والسلام في حياته وسؤاله الدعاء بعد مماته، وقد ترتب على هذا الخلط التباس المشروع من ذلك بالممنوع منه، فهل من تفصيل يزيل اللبس في هذا الباب ويرد به على أصحاب الأهواء الذين يلبسون على المسلمين في هذه المسائل؟
الجواب: لا شك أن كثيرا من الناس لا يفرقون بين التوسل المشروع(7/50)
والتوسل الممنوع بسبب الجهل وقلة من ينبههم ويرشدهم إلى الحق ومعلوم أن بينهما فرقا عظيما. فالتوسل المشروع هو الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب وخلق من أجله الثقلين، وهو عبادته سبحانه ومحبته ومحبة رسوله عليه الصلاة والسلام، ومحبة جميع الرسل والمؤمنين، والإيمان به وبكل ما أخبر الله به ورسوله من البعث والنشور والجنة والنار وسائر ما أخبر الله به ورسوله.
فهذا كله من الوسيلة الشرعية لدخول الجنة والنجاة من النار، والسعادة في الدنيا والآخرة ومن ذلك دعاؤه سبحانه والتوسل إليه بأسمائه وصفاته ومحبته، والإيمان به وبجميع الأعمال الصالحة التي شرعها لعباده، وجعلها وسيلة إلى مرضاته والفوز بجنته وكرامته والفوز أيضا بتفريج الكروب وتيسير الأمور في الدنيا والآخرة كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (2) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (3) وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (4) وقال عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (5) وقال سبحانه: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (6) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (7) الآية، وهو العلم
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 3
(3) سورة الطلاق الآية 4
(4) سورة الطلاق الآية 5
(5) سورة الحجر الآية 45
(6) سورة القلم الآية 34
(7) سورة الأنفال الآية 29(7/51)
والهدى والفرقان، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ومن التوسل المشروع التوسل إلى الله سبحانه بمحبة نبيه صلى الله عليه وسلم والإيمان به واتباع شريعته، لأن هذه الأمور من أعظم الأعمال الصالحات ومن أفضل القربات.
أما التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم أو بذاته أو بحقه أو بجاه غيره من الأنبياء والصالحين أو ذواتهم أو حقهم فمن البدع التي لا أصل لها بل من وسائل الشرك، لأن الصحابة رضي الله عنهم وهم أعلم الناس بالرسول صلى الله عليه وسلم وبحقه لم يفعلوا ذلك ولو كان خيرا لسبقونا إليه، ولما أجدبوا في عهد عمر رضي الله عنه لم يذهبوا إلى قبره صلى الله عليه وسلم ولم يتوسلوا به ولم يدعوا عنده بل استسقى عمر رضي الله عنه بعمه صلى الله عليه وسلم: العباس بن عبد المطلب أي بدعائه فقال رضي الله عنه وهو على المنبر: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون رواه البخاري في صحيحه.
ثم أمر رضي الله عنه العباس أن يدعو فدعا وأمن المسلمون على دعائه فسقاهم الله عز وجل، وقصة أهل الغار مشهورة وهي ثابتة في الصحيحين، وخلاصتها أن ثلاثة ممن كان قبلنا آواهم المبيت والمطر إلى غار، فدخلوا فيه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار ولم يستطيعوا دفعها، فقالوا فيما بينهم: لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فدعوه سبحانه واستغاثوا به، وتوسل أحدهم ببر والديه، والثاني(7/52)
بعفته عن الزنا بعد القدرة، والثالث بأدائه الأمانة فأزاح الله عنهم الصخرة وخرجوا، وهذه القصة من الدلائل العظيمة على أن الأعمال الصالحة من أعظم الأسباب في تفريج الكروب والخروج من المضائق والعافية من شدائد الدنيا والآخرة.
أما التوسل بجاه فلان أو بحق فلان أو ذاته، فهذا من البدع المنكرة، ومن وسائل الشرك. وأما دعاء الميت والاستغاثة به فذلك من الشرك الأكبر.
والصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم، وأن يستغيث لهم إذا أجدبوا، ويشفع في كل ما ينفعهم حين كان حيا بينهم، فلما توفي صلى الله عليه وسلم لم يسألوه شيئا بعد وفاته ولم يأتوا إلى قبره يسألونه الشفاعة أو غيرها، لأنهم يعلمون أن ذلك لا يجوز بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وإنما يجوز ذلك في حياته صلى الله عليه وسلم قبل موته، ويوم القيامة حين يتوجه إليه المؤمنون ليشفع لهم ليقضي الله بينهم ولدخولهم الجنة، بعدما يأتون آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام فيعتذرون عن الشفاعة، كل واحد يقول نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري فإذا أتوا عيسى عليه الصلاة والسلام اعتذر إليهم وأرشدهم إلى أن يأتوا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، فيأتونه فيقول: أنا لها أنا لها، لأن الله سبحانه قد وعده ذلك فيذهب ويخر ساجدا بين يدي الله عز وجل ويحمده بمحامد كثيرة ولا يزال ساجدا حتى يقال له: ارفع رأسك وقل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفع.(7/53)
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين وهو حديث الشفاعة المشهور، وهذا هو المقام المحمود الذي ذكره الله سبحانه في قوله تعالى في سورة الإسراء: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (1)
صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان، وجعلنا الله من أهل شفاعته إنه سميع قريب.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 79(7/54)
السؤال الثالث:
يلاحظ جهل كثير من المحسوبين على الأمة الإسلامية بمعنى لا إله إلا الله، وقد ترتب على ذلك الوقوع فيما ينافيها ويضادها أو ينقصها من الأقوال والأعمال فما معنى لا إله إلا الله؟ وما مقتضاها؟ وما شروطها؟
الجواب:
لا شك أن هذه الكلمة وهي لا إله إلا الله هي أساس الدين، وهي الركن الأول من أركان الإسلام، مع شهادة أن محمدا رسول الله، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت (1) » متفق على صحته من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وفي الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا - رضي الله عنه - إلى اليمن، قال له:
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/26) .(7/54)
«إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم (1) » الحديث متفق عليه، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله: لا معبود حق إلا الله، وهي تنفي الإلهية بحق عن غير الله سبحانه، وتثبتها بالحق لله وحده، كما قال الله عز وجل في سورة الحج: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (2) وقال سبحانه في سورة المؤمنين: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (3) وقال عز وجل في سورة البقرة: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (4) وقال في سورة البينة: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (5) والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهذه الكلمة العظيمة لا تنفع قائلها ولا تخرجه من دائرة الشرك إلا إذا عرف معناها وعمل به وصدق به.
وقد كان المنافقون يقولونها وهم في الدرك الأسفل من النار لأنهم لم يؤمنوا بها ولم يعملوا بها.
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4347) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(2) سورة الحج الآية 62
(3) سورة المؤمنون الآية 117
(4) سورة البقرة الآية 163
(5) سورة البينة الآية 5(7/55)
وهكذا اليهود تقولها وهم من أكفر الناس - لعدم إيمانهم بها - وهكذا عباد القبور والأولياء من كفار هذه الأمة يقولونها وهم يخالفونها بأقوالهم وأفعالهم وعقيدتهم، فلا تنفعهم ولا يكونون بقولها مسلمين لأنهم ناقضوها بأقوالهم وأعمالهم وعقائدهم.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن شروطها ثمانية جمعها في بيتين فقال:
علم يقين وإخلاص وصدقك مع ... محبة وانقياد والقبول لها
وزيد ثامنها الكفران منك بما ... سوى الإله من الأشياء قد ألها
وهذان البيتان قد استوفيا جميع شروطها:
الأول: العلم بمعناها المنافي للجهل وتقدم أن معناها لا معبود بحق إلا الله فجميع الآلهة التي يعبدها الناس سوى الله سبحانه كلها باطلة.
الثاني: اليقين المنافي للشك فلا بد في حق قائلها أن يكون على يقين بأن الله سبحانه هو المعبود بالحق.
الثالث: الإخلاص وذلك بأن يخلص العبد لربه سبحانه وهو الله عز وجل جميع العبادات، فإذا صرف منها شيئا لغير الله من نبي أو ولي أو ملك أو صنم أو جني أو غيرها فقد أشرك بالله ونقض هذا الشرط وهو شرط الإخلاص.
الرابع: الصدق ومعناه أن يقولها وهو صادق في ذلك، يطابق قلبه لسانه، ولسانه قلبه، فإن قالها باللسان فقط وقلبه لم يؤمن بمعناها فإنها لا تنفعه، ويكون بذلك كافرا كسائر المنافقين.(7/56)
الخامس: المحبة، ومعناها أن يحب الله عز وجل، فإن قالها وهو لا يحب الله صار كافرا لم يدخل في الإسلام كالمنافقين. ومن أدلة ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1) الآية، وقوله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
السادس: الانقياد لما دلت عليه من المعنى، ومعناه أن يعبد الله وحده وينقاد لشريعته ويؤمن بها، ويعتقد أنها الحق. فإن قالها ولم يعبد الله وحده، ولم ينقد لشريعته بل استكبر عن ذلك، فإنه لا يكون مسلما كإبليس وأمثاله.
السابع: القبول لما دلت عليه، ومعناه: أن يقبل ما دلت عليه من إخلاص العبادة لله وحده وترك عبادة ما سواه وأن يلتزم بذلك ويرضى به.
الثامن: الكفر بما يعبد من دون الله، ومعناه أن يتبرأ من عبادة غير الله ويعتقد أنها باطلة، كما قال الله سبحانه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (3) وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله (4) » ،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31
(2) سورة البقرة الآية 165
(3) سورة البقرة الآية 256
(4) صحيح مسلم الإيمان (23) ، مسند أحمد بن حنبل (6/394) .(7/57)
وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه (1) » أخرجهما مسلم في صحيحه.
فالواجب على جميع المسلمين أن يحققوا هذه الكلمة بمراعاة هذه الشروط، ومتى وجد من المسلم معناها والاستقامة عليه فهو مسلم حرام الدم والمال، وإن لم يعرف تفاصيل هذه الشروط لأن المقصود وهو العلم بالحق والعمل به وإن لم يعرف المؤمن تفاصيل الشروط المطلوبة.
والطاغوت هو كل ما عبد من دون الله كما قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} (2) الآية.
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) ومن كان لا يرضى بذلك من المعبودين من دون الله كالأنبياء والصالحين والملائكة فإنهم ليسوا بطواغيت، وإنما الطاغوت هو الشيطان الذي دعا إلى عبادتهم وزينها للناس نسأل الله لنا وللمسلمين العافية من كل سوء، وأما الفرق بين الأعمال التي تنافي هذه الكلمة وهي لا إله إلا الله، والتي تنافي كمالها الواجب، فهو: أن كل عمل أو قول أو اعتقاد يوقع صاحبه في الشرك الأكبر فهو ينافيها بالكلية ويضادها. كدعاء الأموات والملائكة والأصنام والأشجار والأحجار والنجوم ونحو ذلك، والذبح لهم والنذر والسجود لهم وغير ذلك.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (23) ، مسند أحمد بن حنبل (6/394) .
(2) سورة البقرة الآية 256
(3) سورة النحل الآية 36(7/58)
فهذا كله ينافي التوحيد بالكلية، ويضاد هذه الكلمة ويبطلها وهي: لا إله إلا الله، ومن ذلك استحلال ما حرم الله من المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة والإجماع كالزنا وشرب المسكر وعقوق الوالدين والربا ونحو ذلك، ومن ذلك أيضا جحد ما أوجب الله من الأقوال والأعمال المعلومة من الدين بالضرورة والإجماع كوجوب الصلوات الخمس والزكاة وصوم رمضان وبر الوالدين والنطق بالشهادتين ونحو ذلك.
أما الأقوال والأعمال والاعتقادات التي تضعف التوحيد والإيمان وتنافي كماله الواجب فهي كثيرة ومنها: الشرك الأصغر كالرياء والحلف بغير الله، وقول ما شاء الله وشاء فلان، أو هذا من الله ومن فلان ونحو ذلك، وهكذا جميع المعاصي كلها تضعف التوحيد والإيمان وتنافي كماله الواجب، فالواجب الحذر من جميع ما ينافي التوحيد والإيمان أو ينقص ثوابه، والإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
والأدلة على ذلك كثيرة أوضحها أهل العلم في كتب العقيدة وكتب التفسير والحديث فمن أرادها وجدها والحمد لله، ومن ذلك قول الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (1) وقوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2)
__________
(1) سورة التوبة الآية 124
(2) سورة الأنفال الآية 2(7/59)
وقوله سبحانه: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} (1) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سورة مريم الآية 76(7/60)
السؤال الرابع:
تكثر في العصر الحاضر البحوث والمؤلفات والمحاضرات في إثبات وجود الله وتقرير ربوبيته من غير الاستدلال بذلك على لازم ذلك ومقتضاه وهو توحيد الإلهية، وقد ترتب على ذلك: الجهل بتوحيد الإلهية والتهاون بأمره، فحبذا لو ألقيتم الضوء على أهمية توحيد الإلهية من حيث إنه أساس النجاة ومدارها ومفتاح دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام والأصل الذي يبنى عليه غيره.
الجواب:
لا ريب أن الله سبحانه أرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان حقه على عباده ودعوتهم إلى إخلاص العبادة له سبحانه دون كل ما سواه، وتخصيصه بجميع عباداتهم لأن أكثر أهل الأرض قد عرفوا أن الله ربهم وخالقهم ورازقهم، وإنما وقعوا في الشرك به سبحانه بصرف عباداتهم أو بعضها لغيره. . جهلا بذلك وتقليدا لآبائهم وأسلافهم، كما جرى لقوم نوح ومن بعدهم من الأمم، وكما جرى لأوائل هذه الأمة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى توحيد الله استنكروا ذلك واستكبروا عن قبوله، وقالوا كما ذكر الله ذلك عنهم {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (1) هكذا في
__________
(1) سورة ص الآية 5(7/60)
سورة ص، وقال عنهم سبحانه في سورة الصافات: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (1) {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (2) وقال عنهم سبحانه في سورة الزخرف: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على علماء المسلمين وعلى دعاة الهدى أن يوضحوا للناس حقيقة توحيد الألوهية. . . والفرق بينه وبين توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات؛ لأن كثيرا من المسلمين يجهل ذلك فضلا عن غيرهم، وقد كان كفار قريش وغيرهم من العرب وغالب الأمم يعرفون أن الله خالقهم ورازقهم، ولهذا احتج عليهم سبحانه بذلك، لأنه جل وعلا هو المستحق لأن يعبدوه، لكونه خالقهم ورازقهم والقادر عليهم. . من جميع الوجوه، كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (4) وقال عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (5) وقال عز وجل آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسألهم عمن يرزقهم: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} (6) قال الله سبحانه: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (7) والآيات في هذا المعنى كثيرة يحتج عليهم سبحانه بما أقروا به من كونه ربهم، وخالقهم ورازقهم، وخالق السماء والأرض ومدبر الأمر،
__________
(1) سورة الصافات الآية 35
(2) سورة الصافات الآية 36
(3) سورة الزخرف الآية 23
(4) سورة الزخرف الآية 87
(5) سورة لقمان الآية 25
(6) سورة يونس الآية 31
(7) سورة يونس الآية 31(7/61)
على ما أنكروه من توحيد العبادة، وبطلان عبادة الأصنام والأوثان وغيرها من كل ما يعبدون من دون الله.
وهكذا أمر سبحانه عباده بأن يؤمنوا بأسمائه وصفاته، وأن ينزهوه عن مشابهة الخلق، فقال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) وقال في سورة الحشر: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (2) إلى آخر السورة، وقال عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (4) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (5) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (6) وقال عز وجل: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (7) وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (8) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقد أوضح أهل العلم رحمهم الله أن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية - وهو: إفراد الله بالعبادة - ويوجب ذلك ويقتضيه، ولهذا احتج الله عليهم بذلك.
وهكذا توحيد الأسماء والصفات يستلزم تخصيص الله بالعبادة وإفراده بها لأنه سبحانه هو الكامل في ذاته وفي أسمائه وصفاته، وهو المنعم على عباده، فهو المستحق لأن يعبدوه ويطيعوا أوامره وينتهوا عن نواهيه.
وأما توحيد العبادة، فهو يتضمن النوعين، ويشتمل عليها لمن حقق ذلك واستقام عليه علما وعملا. .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) سورة الحشر الآية 22
(3) سورة الإخلاص الآية 1
(4) سورة الإخلاص الآية 2
(5) سورة الإخلاص الآية 3
(6) سورة الإخلاص الآية 4
(7) سورة البقرة الآية 22
(8) سورة الشورى الآية 11(7/62)
وقد بسط أهل العلم بيان هذا المعنى في كتب العقيدة والتفسير كتفسير: ابن جرير، وابن كثير، والبغوي، وغيرهم، وكتاب السنة لعبد الله بن أحمد، وكتاب التوحيد لابن خزيمة، ورد العلامة عثمان بن سعيد الدارمي على بشر المريسي وغيرهم من علماء السلف - رحمهم الله - في كتبهم وممن أجاد في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم - رحمة الله عليهما - في كتبهما.
وهكذا أئمة الدعوة الإسلامية في القرن الثاني عشر وما بعده كالشيخ الإمام: محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وأبنائه وتلاميذه. . . وأتباعهم من أهل السنة.
ومن أحسن ما ألف في ذلك: " فتح المجيد " وأصله تيسير العزيز الحميد الأول للشيخ: عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله - والثاني للشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ - رحمه الله -.
ومن أحسن ما جمع في ذلك الأجزاء الأولى من الدرر السنية التي جمعها الشيخ العلامة عبد الرحمن بن قاسم - رحمه الله - فإنه جمع فيها فتاوى أئمة الدعوة من آل الشيخ وغيرهم من علماء القرن الثاني عشر وما بعده في العقيدة والأحكام، فأنصح بقراءتها ومراجعتها وغيرها من كتب علماء السنة لما في ذلك من الفائدة العظيمة.
ومن ذلك مجموعة الرسائل الأولى لأئمة الدعوة من آل الشيخ وغيرهم - رحمهم الله - وردود المشايخ: الشيخ \ عبد الرحمن بن حسن والشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ عبد الله أبابطين،(7/63)
والشيخ: سليمان بن سحمان، وغيرهم من أئمة الهدى وأنصار التوحيد لما فيها من الفائدة وإزالة الشبه الكثيرة، والرد على أهلها رحمهم الله جميعا رحمة واسعة، وأسكنهم فسيح جناته وجعلنا من أتباعهم بإحسان.
ومن ذلك أعداد مجلة البحوث الإسلامية التي تصدرها الرئاسة العامة لإدرات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد لما فيها من المقالات العظيمة والفوائد الكثيرة في العقيدة والأحكام.
ومن ذلك المجلدات الأولى من الفتاوى والمقالات الصادرة مني فيما يتعلق بالعقيدة وهي مطبوعة بحمد الله وموجودة بيد طلبة العلم. نفع الله بها، وغير ذلك مما هو بحمد الله مبسوط في كتب أهل السنة والجماعة والله الموفق.(7/64)
السؤال الخامس:
هناك من يرى جواز التبرك بالعلماء والصالحين وآثارهم مستدلا بما ثبت من تبرك الصحابة - رضي الله عنهم - بالنبي صلى الله عليه وسلم. فما حكم ذلك؟ ثم أليس فيه تشبيه لغير النبي صلى الله عليه وسلم بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل يمكن التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته؟ وما حكم التوسل إلى الله تعالى ببركة النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: لا يجوز التبرك بأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم لا بوضوئه ولا بشعره ولا بعرقه ولا بشيء من جسده، بل هذا كله خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لما جعل الله في جسده وما مسه من الخير والبركة.
ولهذا لم يتبرك الصحابة - رضي الله عنهم - بأحد منهم، لا في حياته ولا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا مع الخلفاء الراشدين ولا مع غيرهم فدل ذلك على أنهم قد عرفوا أن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، ولأن ذلك وسيلة إلى الشرك وعبادة غير الله سبحانه.
وهكذا لا يجوز التوسل إلى الله سبحانه بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو ذاته أو صفته أو بركته لعدم الدليل على ذلك؛ ولأن ذلك من وسائل الشرك به والغلو فيه عليه الصلاة والسلام.
ولأن ذلك أيضا لم يفعله أصحابه - رضي الله عنهم - ولو كان خيرا لسبقونا إليه، ولأن ذلك خلاف الأدلة الشرعية. فقد قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180(7/65)
ولم يأمر بدعائه سبحانه بجاه أحد أو حق أحد أو بركة أحد.
ويلحق بأسمائه سبحانه التوسل بصفاته كعزته، ورحمته، وكلامه وغير ذلك، ومن ذلك ما جاء في الأحاديث الصحيحة من التعوذ بكلمات الله التامات، والتعوذ بعزة الله وقدرته. ويلحق بذلك أيضا: التوسل بمحبة الله سبحانه، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبالإيمان بالله وبرسوله والتوسل بالأعمال الصالحات، كما في قصة أصحاب الغار الذين آواهم المبيت والمطر إلى غار فدخلوا فيه فانحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدت عليهم باب الغار، ولم يستطيعوا دفعها، فتذاكروا بينهم في وسيلة الخلاص منها. واتفقوا بينهم على أنه لن ينجيهم منها إلا أن يدعوا الله بصالح أعمالهم، فتوسل أحدهم إلى الله سبحانه في ذلك: ببر والديه. . فانفرجت الصخرة شيئا لا يستطيعون الخروج منه. . . ثم توسل الثاني بعفته عن الزنا بعد القدرة عليه، فانفرجت الصخرة بعض الشيء لكنهم لا يستطيعون الخروج من ذلك. . . ثم توسل الثالث بأداء الأمانة فانفرجت الصخرة وخرجوا.
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، من أخبار من قبلنا لما فيه من العظة لنا والتذكير.
وقد صرح العلماء - رحمهم الله - بما ذكرته في هذا الجواب. . . كشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم، والشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد شرح كتاب التوحيد وغيرهم.(7/66)
وأما حديث توسل الأعمى بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته صلى الله عليه وسلم فشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له فرد الله عليه بصره. . . فهذا توسل بدعاء النبي وشفاعته وليس ذلك بجاهه وحقه كما هو واضح في الحديث. . . وكما يتشفع الناس به يوم القيامة في القضاء بينهم. وكما يتشفع به يوم القيامة أهل الجنة في دخولهم الجنة، وكل هذا توسل به في حياته الدنيوية والأخروية. . وهو توسل بدعائه وشفاعته لا بذاته وحقه كما صرح بذلك أهل العلم، ومنهم من ذكرنا آنفا.(7/67)
حكم التقرب إلى الجن أو الأنبياء وما أشبه ذلك (1)
السؤال السادس:
توجد في جنوب الأردن المياه المعدنية والتي يطلق عليها برك سليمان بن داود فيقصدها الناس للاستحمام والاستشفاء ويحضرون معهم الذبائح لذبحها حال وصولهم فما حكم ذبح مثل هذه الذبائح؟ أفيدونا بارك الله فيكم وجزاكم خير الجزاء.
الجواب:
إذا كان الماء المذكور مجربا معروفا ينفع من بعض الأمراض فلا بأس بذلك، لأن الله سبحانه جعل في بعض المياه فائدة لبعض الأمراض، فإذا عرف بالتجارب أن هذا الماء ينفع من بعض الأمراض المعينة كالروماتيزم أو غيره فلا بأس بذلك، أما الذبائح فيها فإن كانت تذبح من أجل حاجتهم وأكلهم ونحو ذلك وما يقع لهم من ضيوف فلا بأس بذلك، وإن كانت تذبح لأجل شيء آخر لأجل
__________
(1) من برنامج نور على الدرب شريط رقم (11) .(7/67)
التقرب إلى الماء أو التقرب إلى الجن أو التقرب إلى الأنبياء أو ما أشبه ذلك من الاعتقادات الفاسدة فهذا لا يجوز، لأن الله يقول سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ} (2) ويقول سبحانه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (3) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (4)
فالذبح لله والنسك لله والصلاة لله فليس لأحد أن يذبح للجن أو للنجم الفلاني أو الكوكب الفلاني أو الماء الفلاني أو النبي الفلاني أو أي شخص بل التقرب كله لله وحده سبحانه وتعالى بالذبائح والصلوات وسائر العبادات، كقوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (5) وقوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (6) ولقوله عز وجل: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (7) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (8)
والذبح من أهم العبادات ومن أفضل العبادات فإذا كان المقصود من هذه الذبائح الأكل لأنهم جالسون هناك فيذبحونها للأكل والحاجة فلا بأس، أما إن كان الذبح لأمر آخر ولقصد آخر إما لأجل المكان أو يذبحون من أجل الماء أو من أجل الجن أو من أجل ملك من الملائكة يقصدونه أو نبي من الأنبياء يقصدونه ويتقربون إليه، أو أي شخص كان أو أي كوكب أو أي صنم أو أي وثن فهذا كله شرك بالله عز وجل، فيجب الحذر والله المستعان، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله من ذبح لغير الله (9) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث علي أمير المؤمنين رضي الله عنه.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة الكوثر الآية 1
(4) سورة الكوثر الآية 2
(5) سورة الفاتحة الآية 5
(6) سورة البينة الآية 5
(7) سورة الزمر الآية 2
(8) سورة الزمر الآية 3
(9) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(7/68)
السؤال السابع:
ظهر في كثير من المجتمعات الإسلامية الاستهزاء بشعائر الدين الظاهرة كإعفاء اللحى وتقصير الثياب ونحوهما - فهل مثل هذا الاستهزاء بالدين الذي يخرج من الملة؟ وبماذا تنصحون من وقع في مثل هذا الأمر وفقكم الله؟
الجواب
لا ريب أن الاستهزاء بالله ورسوله وبآياته وبشرعه وأحكامه من جملة أنواع الكفر لقول الله عز وجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) الآية من سورة التوبة.
ويدخل في ذلك الاستهزاء بالتوحيد أو بالصلاة أو بالزكاة أو الصيام أو الحج أو غير ذلك من أحكام الدين المتفق عليها.
أما الاستهزاء بمن يعفي لحيته، أو يقصر ثيابه ويحذر الإسبال، أو نحو ذلك من الأمور التي قد تخفى أحكامها، فهذا فيه تفصيل، والواجب الحذر من ذلك، ونصيحة من يعرف منه شيء من ذلك حتى يتوب إلى الله سبحانه ويلتزم بشرعه، ويحذر الاستهزاء بمن تمسك بالشرع في ذلك، طاعة لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وحذرا من غضب الله وعقابه، والردة عن دينه وهو لا يشعر، نسأل الله لنا وللمسلمين جميعا العافية من كل سوء إنه خير مسئول.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة التوبة الآية 65
(2) سورة التوبة الآية 66(7/69)
السؤال الثامن:
ما هي الكتب التي ينصح بها سماحتكم أن تقرأ في مجال العقيدة؟
الجواب:
أحسن كتاب، وأعظم كتاب، وأصدق كتاب يجب أن يقرأ في تعليم العقيدة والأحكام والأخلاق، هو كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
وقد قال الله فيه عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (1)
وقال أيضا فيه عز وجل: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (2)
وقال فيه سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3)
وقال فيه عز وجل: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4)
وقال فيه عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (5)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة فصلت الآية 44
(3) سورة ص الآية 29
(4) سورة الأنعام الآية 155
(5) سورة النحل الآية 89(7/70)
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في خطبته في جحة الوداع: «إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به كتاب الله (1) » .
وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم غدير خم حين رجع من حجة الوداع إلى المدينة: «إني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به (2) » .
فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي (3) » خرجهما مسلم في صحيحه، الأول من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، والثاني من حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه -. وقال عليه الصلاة والسلام: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (4) » خرجه البخاري في صحيحه.
وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه (5) » خرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) .
(2) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2408) ، مسند أحمد بن حنبل (4/367) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3316) .
(3) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2408) ، مسند أحمد بن حنبل (4/367) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3316) .
(4) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .
(5) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(7/71)
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ثم إن أحسن الكتب بعد القرآن الكريم كتب الحديث النبوية، وهي: كتب السنة كالصحيحين، والسنن الأربع وغيرها من كتب الحديث المعتمدة، فينبغي أن تعمر المجالس والحلقات بتلاوة القرآن الكريم وتعليمه، وتفقيه الناس فيه، وبدراسة كتب الحديث الشريف، والعناية بها، وتفقيه الناس فيها، وأن يتولى ذلك أهل العلم والبصيرة، الموثوق بعلمهم ودرايتهم، ونصحهم واستقامتهم.
ومن الكتب المناسبة في ذلك قراءة كتاب: رياض الصالحين، والترغيب والترهيب، والوابل الصيب، وعمدة الحديث الشريف وبلوغ المرام، ومنتقى الأخبار وغيرها من كتب الحديث المفيدة.
أما الكتب المؤلفة في العقيدة فمن أحسنها كتاب التوحيد للشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -، وشرحه لحفيديه الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد، والشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد، وهما: تيسير العزيز الحميد، وفتح المجيد.
ومن ذلك: مجموعة التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وكتاب الإيمان، والقاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة، والعقيدة الواسطية، والتدمرية، والحموية، وهذه الخمسة لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -.
ومن ذلك: زاد المعاد في هدي خير العباد، والصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، واجتماع الجيوش الإسلامية، والقصيدة النونية، وإغاثة اللهفان من مكائد الشيطان، وكل هذه الكتب الخمسة(7/72)
للعلامة ابن القيم - رحمه الله -.
ومن ذلك: شرح الطحاوية لابن أبي العز، ومنهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية، واقتضاء الصراط المستقيم له أيضا، وكتاب التوحيد لابن خزيمة، وكتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، والاعتصام للشاطبي، وغيرها من كتب أهل السنة المؤلفة في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة.
ومن أجمع ذلك فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، والدرر السنية في الفتاوى النجدية، جمع العلامة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم - رحمه الله -.(7/73)
السؤال التاسع:
المزاح بألفاظ فيها: كفر أو فسق أمر موجود في بعض المجتمعات المسلمة، فحبذا لو ألقى سماحتكم الضوء على هذا الأمر، وموقف طلبة العلم والدعاة منه.
الجواب:
لا شك أن المزح بالكذب وأنواع الكفر من أعظم المنكرات ومن أخطر ما يكون بين الناس في مجالسهم. فالواجب الحذر من ذلك وقد حذر الله من ذلك بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2)
__________
(1) سورة التوبة الآية 65
(2) سورة التوبة الآية 66(7/73)
وقد قال كثير من السلف رحمهم الله: إنها نزلت في قوم قالوا فيما بينهم في بعض أسفارهم مع النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء، فأنزل الله فيهم هذه الآية. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ثم ويل له (1) » رواه أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد صحيح.
فالواجب على أهل العلم وعلى جميع المؤمنين والمؤمنات، الحذر من ذلك والتحذير منه، لما في ذلك من الخطر العظيم والفساد الكبير والعواقب الوخيمة، عافانا الله والمسلمين من ذلك، وسلك بنا وبهم صراطه المستقيم إنه سميع مجيب.
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (4990) ، مسند أحمد بن حنبل (5/7) ، سنن الدارمي الاستئذان (2702) .(7/74)
السؤال العاشر:
يخطر ببال الإنسان وساوس وخواطر وخصوصا في مجال التوحيد والإيمان، فهل المسلم يؤاخذ بهذا الأمر؟
الجواب:
قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما أنه قال: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم (1) » وثبت أن الصحابة رضي الله عنهم سألوه صلى الله عليه وسلم عما يخطر لهم من هذه الوساس والمشار إليها في السؤال، فأجابهم صلى الله عليه وسلم بقوله: «ذاك صريح الإيمان (2) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا: خلق الله الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله ورسله (3) » ، وفي رواية
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5269) ، صحيح مسلم الإيمان (127) ، سنن الترمذي الطلاق (1183) ، سنن النسائي الطلاق (3435) ، سنن أبو داود الطلاق (2209) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2040) ، مسند أحمد بن حنبل (2/393) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (132) ، سنن أبو داود الأدب (5111) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .
(3) صحيح البخاري بدء الخلق (3276) ، صحيح مسلم الإيمان (134) ، سنن أبو داود السنة (4721) ، مسند أحمد بن حنبل (2/331) .(7/74)
أخرى «فليستعذ بالله ولينته (1) » رواه مسلم في صحيحه.
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3276) ، صحيح مسلم الإيمان (134) ، سنن أبو داود السنة (4722) ، مسند أحمد بن حنبل (2/331) .(7/75)
السؤال الحادي عشر:
بعض طلاب العلم يوصله اجتهاده إلى مخالفة أمر معلوم من الدين بالضرورة، فهل ما علم من الدين بالضرورة محل اجتهاد؟ نريد توجيه سماحتكم والعناية بهذا الأمر.
الجواب:
كل ما علم من الدين بالأدلة الشرعية الصريحة من الكتاب والسنة أو إجماع سلف الأمة فليس للاجتهاد فيه مجال، بل الواجب الإيمان به والعمل به ونبذ ما خالفه بإجماع المسلمين، ليس في هذا الأصل العظيم خلاف بين أهل العلم، وإنما الاجتهاد يكون في مسائل الخلاف التي لم تتضح أدلتها من الكتاب والسنة، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد إذا كان من أهل العلم المتأهلين للاجتهاد وبذل وسعه في طلب الحق عن صدق وإخلاص لله سبحانه وتعالى. ففي الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر (1) » .
السؤال الثاني عشر:
ما حكم من سب الله أو سب رسوله أو انتقصهما، وما حكم من جحد شيئا مما أوجب الله، أو استحل شيئا مما حرم الله؟ ابسطوا لنا الجواب في ذلك لكثرة وقوع هذه الشرور من كثير من الناس.
الجواب:
كل من سب الله سبحانه بأي نوع من أنواع السب، أو سب
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7352) ، صحيح مسلم الأقضية (1716) ، سنن الترمذي الأحكام (1326) ، سنن أبو داود الأقضية (3574) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2314) ، مسند أحمد بن حنبل (4/198) .(7/75)
الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الرسل بأي نوع من أنواع السب أو سب الإسلام، أو تنقص أو استهزأ بالله أو برسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مرتد عن الإسلام إن كان يدعي الإسلام بإجماع المسلمين لقول الله عز وجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) الآية.
وقد بسط العلامة الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله الأدلة في هذه المسألة في كتابه: الصارم المسلول على شاتم الرسول، فمن أراد الوقوف على الكثير من الأدلة في ذلك فليراجع هذا الكتاب لعظم فائدته ولجلالة مؤلفه، واتساع علمه بالأدلة الشرعية رحمه الله.
وهكذا الحكم في حق من جحد شيئا مما أوجبه الله أو استحل شيئا مما حرمه الله من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، كمن جحد وجوب الصلاة، أو وجوب الزكاة، أو وجوب صوم رمضان، أو وجوب الحج في حق من استطاع السبيل إليه، أو جحد وجوب بر الوالدين أو نحو ذلك، ومثل ذلك من استحل شرب الخمر أو عقوق الوالدين، أو استحل أموال الناس ودماءهم بغير حق، أو استحل الربا أو نحو ذلك من المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة وبإجماع سلف الأمة - فإنه كافر مرتد عن الإسلام إن كان يدعي الإسلام بإجماع أهل العلم. وقد بسط العلماء رحمهم الله هذه المسائل وغيرها من نواقض الإسلام في باب حكم المرتد، وأوضحوا
__________
(1) سورة التوبة الآية 65
(2) سورة التوبة الآية 66(7/76)
أدلتها فمن أراد الوقوف على ذلك فليراجع هذا الباب في كتب أهل العلم من الحنابلة والشافعية والمالكية والحنفية وغيرهم، ليجد ما يشفيه ويكفي إن شاء الله.
ولا يجوز أن يعذر أحد بدعوى الجهل في ذلك؛ لأن هذه الأمور من المسائل المعلومة بين المسلمين وحكمها ظاهر في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والله ولي التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.(7/77)
السؤال الثالث عشر:
كثير في هذا العصر تعاطي السحر وإتيان السحرة. فما حكم ذلك وما الطريقة المباحة لعلاج المسحور؟
الجواب:
السحر من أعظم الكبائر الموبقات بل هو من نواقض الإسلام كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 102(7/77)
فأخبر سبحانه في هاتين الآيتين أن الشياطين يعلمون الناس السحر، وأنهم كفروا بذلك، وأن الملكين ما يعلمان من أحد حتى يخبراه أن ما يعلمانه كفر وأنهما فتنة.
وأخبر سبحانه أن متعلمي السحر يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، وأنهم ليس لهم عند الله من خلاق في الآخرة، والمعنى ليس لهم حظ ولا نصيب من الخير في الآخرة.
وبين سبحانه أن السحرة يفرقون بين المرء وزوجه بهذا السحر، وأنهم لا يضرون أحدا إلا بإذن الله. والمراد بذلك إذنه الكوني القدري لا إذنه الشرعي؛ لأن جميع ما يقع في الوجود يكون بإذنه القدري، ولا يقع في ملكه ما لا يريده كونا وقدرا، وبين سبحانه أن السحر ضد الإيمان والتقوى.
وبهذا كله يعلم أن السحر كفر وضلال وردة عن الإسلام إذا كان من فعله يدعي الإسلام، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قلنا: وما هن يا رسول الله؟ قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات (1) » ، فبين النبي. في هذا الحديث الصحيح: أن الشرك والسحر من السبع الموبقات أي المهلكات. والشرك أعظمها؛ لأنه أعظم الذنوب والسحر من جملته ولهذا قرنه الرسول صلى الله عليه وسلم به؛ لأن السحرة لا يتوصلون إلى السحر إلا بعبادة الشياطين والتقرب إليهم بما يحبون
__________
(1) صحيح البخاري الوصايا (2767) ، صحيح مسلم الإيمان (89) ، سنن النسائي الوصايا (3671) ، سنن أبو داود الوصايا (2874) .(7/78)
من الدعاء والذبح والنذر والاستعانة وغير ذلك.
روى النسائي رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق شيئا وكل إليه (1) » وهذا يفسر قوله تعالى في سورة الفلق: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (2) قال أهل التفسير: إنهن الساحرات اللاتي يعقدن العقد وينفثن فيها بكلمات شركية يتقربون بها إلى الشياطين لتنفيذ مرادهم في إيذاء الناس وظلمهم.
وقد اختلف العلماء في حكم الساحر هل يستتاب وتقبل توبته أم يقتل بكل حال ولا يستتاب إذا ثبت عليه السحر؟ والقول الثاني هو الصواب، لأن بقاءه مضر بالمجتمع الإسلامي والغالب عليه عدم الصدق في التوبة، ولأن في بقائه خطرا كبيرا على المسلمين. واحتج أصحاب هذا القول على ما قالوه: بأن عمر رضي الله عنه أمر بقتل السحرة ولم يستتبهم وهو ثاني الخلفاء الراشدين الذين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع سنتهم، واحتجوا أيضا بما رواه الترمذي رحمه الله عن جندب بن عبد الله البجلي أو عن جندب الخير الأزدي مرفوعا وموقوفا: «وحد الساحر ضربه بالسيف (3) » ، وقد ضبطه بعض الرواة بالتاء فقال: «حد الساحر ضربة بالسيف (4) » ، والصحيح عند العلماء وقفه على جندب.
وصح عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها: أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت من غير استتابة. قال الإمام أحمد رحمه الله: ثبت ذلك - يعني قتل الساحر - من غير استتابة عن
__________
(1) سنن النسائي تحريم الدم (4079) .
(2) سورة الفلق الآية 4
(3) سنن الترمذي الحدود (1460) .
(4) سنن الترمذي الحدود (1460) .(7/79)
ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعني بذلك: عمر وجندبا وحفصة.
وبما ذكرنا يعلم أنه لا يجوز إتيان السحرة وسؤالهم عن شيء ولا تصديقهم كما لا يجوز إتيان العرافين والكهنة، وأن الواجب قتل الساحر متى ثبت تعاطيه السحر بإقراره أو بالبينة الشرعية من غير استتابة.
أما العلاج للسحر فيعالج بالرقى الشرعية والأدوية النافعة المباحة. ومن أنفع العلاج علاج المسحور بقراءة الفاتحة عليه مع النفث، وآية الكرسي، وآيات السحر في: الأعراف، ويونس، وطه، وبقراءة قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس. ويستحب تكرار هذه السور الثلاث ثلاث مرات مع الدعاء الصحيح المشهور الذي كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم لعلاج المرضى وهو: «اللهم رب الناس أذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما (1) » ، ويكرر ذلك ثلاثا.
ويدعو أيضا بالرقية التي رقى بها جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم وهي: «بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، بسم الله أرقيك (2) » ، ويكررها ثلاثا، وهذه الرقية من أنفع العلاج بإذن الله سبحانه.
ومن العلاج أيضا إتلاف الشيء الذي يظن أنه عمل فيه السحر من صوف أو خيوط معقدة أو غير ذلك مما يظن أنه سبب السحر، مع العناية من المسحور بالتعوذات الشرعية ومنها التعوذ (بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ثلاث مرات صباحا ومساء وقراءة السور الثلاث المتقدمة بعد الصبح والمغرب ثلاث مرات
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5750) ، صحيح مسلم السلام (2191) ، سنن ابن ماجه الطب (3520) ، مسند أحمد بن حنبل (6/126) .
(2) صحيح مسلم السلام (2186) ، سنن الترمذي الجنائز (972) ، سنن ابن ماجه الطب (3523) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) .(7/80)
وقراءة آية الكرسي بعد الصلاة وعند النوم.
ويستحب أن يقول صباحا ومساء: «بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم (1) » ، ثلاث مرات، لصحة ذلك كله عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع حسن الظن بالله والإيمان بأنه مسبب الأسباب وأنه هو الذي يشفي المريض إذا شاء، وإنما التعوذات والأدوية أسباب والله سبحانه هو الشافي، فيعتمد على الله سبحانه وحده دون الأسباب ولكن يعتقد أنها أسباب إن شاء الله نفع بها، وإن شاء سلبها المنفعة، لما له سبحانه من الحكمة البالغة في كل شيء وهو سبحانه على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا راد لما قضى، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وهو سبحانه ولي التوفيق.
السؤال الرابع عشر:
في هذا الزمان عظم النفاق وكثر أهله وتعددت وسائلهم في محاربة الإسلام والمسلمين، فحبذا لو ألقيتم الضوء على خطر النفاق مع بيان أنواعه وذكر صفة أهله وتحذير المسلمين منهم.
الجواب:
النفاق خطره عظيم وشرور أهله كثيرة، وقد أوضح الله صفاتهم في كتابه الكريم في سورة البقرة وغيرها. كما أوضح صفاتهم أيضا نبيه صلى الله عليه وسلم. قال الله سبحانه في وصفهم في سورة البقرة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (2) {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (3) {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (4)
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3388) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3869) .
(2) سورة البقرة الآية 8
(3) سورة البقرة الآية 9
(4) سورة البقرة الآية 10(7/81)
والآيات بعدها، وقال في سورة النساء: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (1) {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (2) الآية. وذكر عنهم صفات أخرى في سورة التوبة وغيرها.
والخلاصة أنهم يدعون الإسلام ويتخلقون بأخلاق تخالفه وتضر أهله كما بين سبحانه في هذه الآيات وغيرها.
والنفاق نوعان: اعتقادي وعملي.
وما ذكر الله عن المنافقين في سورة البقرة والنساء من صفات المنافقين: النفاق الاعتقادي الأكبر. وهم بذلك أكفر من اليهود والنصارى وعباد الأوثان لعظم خطرهم وخفاء أمرهم على كثير من الناس، وقد أخبر الله عنهم سبحانه أنهم يوم القيامة في الدرك الأسفل من النار.
أما النفاق العملي فهو التخلق ببعض أخلاقهم الظاهرة مع الإيمان بالله وبرسوله والإيمان باليوم الآخر كالكذب والخيانة والتكاسل عن الصلاة في الجماعة. ومن صفاتهم ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان (3) » وقوله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) سورة النساء الآية 142
(2) سورة النساء الآية 143
(3) صحيح البخاري الإيمان (33) ، صحيح مسلم الإيمان (59) ، سنن الترمذي الإيمان (2631) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5021) ، مسند أحمد بن حنبل (2/357) .(7/82)
«أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا (1) » ، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يحذر صفاتهم غاية الحذر، ومما يعين على ذلك تدبر ما ذكره الله في كتابه من صفاتهم، وما صحت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين للفقه في دينه، والثبات عليه، والحذر من كل ما يخالف شرعه ومن التشبه بأعدائه في أخلاقهم وأعمالهم إنه خير مسئول.
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (651) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (797) ، مسند أحمد بن حنبل (2/531) ، موطأ مالك النداء للصلاة (295) ، سنن الدارمي الصلاة (1273) .(7/83)
نصيحة هامة إلى جميع الأمة
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه وصفوته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين أما بعد:
فإن الله جل وعلا خلق الخلق ليعبد وحده لا شريك له وأرسل الرسل هذا الأمر العظيم من أولهم إلى آخرهم وأمر عباده بهذه العبادة فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) وقال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (4)
فالله عز وجل خلق الخلق: الجن والإنس ليعبدوه وحده لا شريك له وأرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام لبيان هذه العبادة وإيضاحها للناس فنصيحتي لجميع المسلمين من الذكور
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة النحل الآية 36
(4) سورة الأنبياء الآية 25(7/84)
والإناث والعرب والعجم والجن والإنس، نصيحتي للجميع أن يتفهموا هذه العبادة ويتبصروا فيها، وأن يلتزموا بها ويعملوا بها جملة وتفصيلا، وأن يحذروا الغفلة عنها والإعراض عنها فإن الإعراض والغفلة من صفات الكفرة قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} (1) وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} (2) فليس هناك أظلم ممن أعرض عن آيات الله وعما خلق له من طاعته وعبادته.
فالنصيحة لجميع المسلمين التفقه في هذه العبادة والتبصر بها ومعرفتها من طريق الكتاب والسنة أي من طريق القرآن العظيم ومن طريق أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة ثم القيام بها: علما وعملا. وهكذا النصح لجميع المكلفين من غير المسلمين في جميع الأرض بأن يدخلوا في الإسلام وأن يعرفوا هذه العبادة ويتفقهوا فيها من طريق القرآن العظيم ومن طريق السنة الصحيحة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام هذا هو الواجب على جميع المكلفين من الإنس والجن من الكفرة والمسلمين من اليهود والنصارى والوثنيين وغيرهم. الواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس أن يعبدوا الله وأن يدخلوا في الإسلام وأن يلتزموا بالدين الذي بعث الله به نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام لأن الله بعثه إلى الناس جميعا جنهم وإنسهم عربهم وعجمهم ذكورهم وإناثهم، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (3) وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (4)
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 3
(2) سورة الكهف الآية 57
(3) سورة الأعراف الآية 158
(4) سورة سبأ الآية 28(7/85)
وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1)
فجميع العالمين من جن وإنس فمن عرب وعجم ومن كفار ومسلمين يجب على أهل العلم دعوتهم، فمن قبل الدعوة واستقام عليها حصلت له السعادة والرحمة الكاملة والهداية المطلقة والفوز بالجنة والنجاة من النار ومن أعرض عنها واستكبر فله الخيبة والندامة والعاقبة الوخيمة والعذاب الأليم يوم القيامة، وهذه العبادة التي خلق الثقلان لأجلها هي الحكمة في خلق الجن والإنس وهي الإسلام المذكور في قوله جل وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (2) فالإسلام هو دين الله الذي بعث الله نبيه عليه الصلاة والسلام لتبليغه وهو الدين المذكور في قوله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3) وفي قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (4) وفي قوله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5)
فهذه العبادة هي الإسلام سمي عبادة لأنه ذل وخضوع لله سبحانه وسمي هذا الدين الإسلام لأنه خضوع لله وانقياد لأمره سبحانه فالعبد يفعل أوامر الله وينتهي عن نواهيه عن ذل وخضوع وهذا هو الإسلام وهذه هي العبادة خضوعك لله وانقيادك لأوامره
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 107
(2) سورة آل عمران الآية 19
(3) سورة المائدة الآية 3
(4) سورة آل عمران الآية 19
(5) سورة آل عمران الآية 85(7/86)
وترك نواهيه عن إيمان به سبحانه وعن إخلاص له وعن تعظيم له وعن رغبة فيما عنده هذا هو الإسلام، يقال أسلم أي ذل وانقاد، وأسلم لفلان أي ذل له وانقاد له، وأسلم لله ذل وانقاد وأطاع وهذه العبادة هي الخضوع لله والذل لله بطاعة أوامره وترك نواهيه سبحانه وتعالى، يقول العرب: طريق معبد يعني مذلل قد وطئته الأقدام وصار معبدا معروفا ويقولون جمل معبد يعني مذلل قد شد عليه ورحل.
فالعبادة عند العرب الذل والخضوع فسمى الله تكاليفه عبادة لأنها تؤدى بالذل والخضوع لله وسماها إسلاما لأنها تؤدى أيضا بالذل والخضوع لله سبحانه فهي إسلام وهي عبادة وسماها تقوى قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (1) وقال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} (2) سماها تقوى لأن العبد يفعلها يتقي بها غضب الله ويتقي بها عقابه وهو يفعل أوامر الله وينتهي عن نواهيه مسلما منقادا خاضعا ذليلا يرجو رحمة ربه ويخشى عقابه ويتقي بذلك سوء المنقلب فلهذا سمى الله دينه تقوى وهو إيمان أيضا سمي إيمانا لأنه تصديق لله ولرسوله كما قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} (3) الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (4) وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (5) وقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (6)
__________
(1) سورة البقرة الآية 189
(2) سورة الطور الآية 17
(3) سورة التغابن الآية 8
(4) سورة النساء الآية 136
(5) سورة التوبة الآية 72
(6) سورة الروم الآية 47(7/87)
فهذه العبادة وهذا الإسلام كلاهما يسمى إيمانا لأنهما إيمان بالله ورسوله وتصديق بما أخبر الله به ورسوله وتصديق بأوامر الله وتصديق بما نهى عنه، فهو إيمان، ويسمى هدى لأن الله يهدي به من الضلالة ويرشد به إلى أسباب السعادة فهو هدى لمن التزم به واستقام عليه واهتدى به إلى الحق والصواب وسلم من البلاء والشر والفساد كما قال جل وعلا: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (1) هذا هو الهدى هو دين الله وهو الإسلام وهو التقوى وهو الإيمان سماه الله إسلاما وإيمانا وسماه الله تقوى كلها أسماء حق وكلها معانيها واضحة فهو هدى من الله يهدي به من يشاء لأداء حقه وترك معصيته وتنفيذ أوامره وترك نواهيه قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (2) وقال سبحانه في الفاتحة أعظم سورة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (3) وقال في وصف نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (4)
فدين الله هدى، هدى من الضلالة وهدى من كل سوء وهدى إلى الخيرات وهدى إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال وهدى إلى كل ما يرضي الله سبحانه وتعالى ويقرب لديه وهدى إلى كل ما يباعد عن غضب الله وعقابه وهو أيضا يسمى برا قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (5) قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (6) وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (7) الآية فهو بر لما
__________
(1) سورة النجم الآية 23
(2) سورة النجم الآية 23
(3) سورة الفاتحة الآية 6
(4) سورة الشورى الآية 52
(5) سورة البقرة الآية 189
(6) سورة الانفطار الآية 13
(7) سورة البقرة الآية 177(7/88)
فيه من الخصال الحميدة والأعمال المجيدة لله عز وجل ولهذا سمي برا لأنه طاعة لله وقيام بحقه وترك لمناهيه فهو بر وهدى بر ورشد إيمان وتقوى فالواجب على جميع العالمين من الجن والإنس من الذكور والإناث من الكفرة والمسلمين أن يلتزموا به فمن دخل فيه يجب أن يلتزم به ويستقيم عليه ويتفقه فيه ومن لم يدخل فيه فالواجب عليه الدخول فيه والتوبة إلى الله مما هو عليه من الباطل والدخول في دين الله الذي هو الإسلام وهو الهدى وهو الإيمان وهو التقوى وهو البر وهو طاعة الله ورسوله وهو الإخلاص لله وهو توحيد الله بترك الإشراك به والقيام بحقه والاستقامة على دينه هذا هو الإسلام وهذا هو البر والتقوى وهذا هو الهدى وهذا هو الإيمان.
وهذا هو دين الله الذي بعث به الرسل وأنزل به الكتب وأنزل به القرآن العظيم وجاءت به السنة الصحيحة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأعظم واجب وأهم واجب وألزم واجب أن تعرف هذه الحقيقة وأن تعرف دين الله حتى تعبده وحده وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم وأرشد إليها فقال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأني رسول الله (1) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها (2) » ، فإن من قالها عن إيمان أدى بقية الأمور ومن قالها عن إيمان فقد دخل في العبادة التي خلق لها وجاء بأصلها وأساسها وعليه أن يلتزم مع ذلك بأن يشهد أن محمدا رسول الله وأن يؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2946) ، صحيح مسلم الإيمان (21) ، سنن الترمذي الإيمان (2606) ، سنن النسائي تحريم الدم (3971) ، سنن أبو داود الجهاد (2640) ، سنن ابن ماجه الفتن (3928) ، مسند أحمد بن حنبل (1/11) .(7/89)
عن المرسلين الماضين وعن كتب الله وعما أخبر الله به في كتابه عن الجنة والنار واليوم الآخر وعن كل ما أخبر الله به ورسوله كله داخل في هذه العبادة، وفي هذا الإيمان - فالدعوة إلى توحيد الله دعوة إلى الدين كله فإن من دخل في توحيد الله والتزم بالإخلاص لله لزمه أن يؤدي ما أوجبه الله عليه من الحقوق وأن يدع ما حرم الله عليه فهي فروع ومكملات لهذا الأساس - فلا بد من توحيد الله والإخلاص له وترك الإشراك به - هذا أول واجب وأهم واجب - ولهذا بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم في أهل مكة وفي غيرهم - كان أول شيء يدعو إليه الدعوة إلى توحيد الله والإخلاص له وترك الإشراك به هذا هو أول واجب وأعظم واجب، والدعوة الإيمان به وأنه رسول الله حقا - ثم بعد ذلك الدعوة إلى بقية أمور الإسلام من الصلاة وغيرها.
ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا رضي الله عنه إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله (1) » ، وفي رواية أخرى: «فادعهم إلى أن يوحدوا الله فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة (2) » فأمره أن يدعوهم أولا إلى توحيد الله والإخلاص له إلى عبادة الله وحده إلى ترك الإشراك به هذا هو أول واجب، وهذه هي العبادة التي خلق الله لها الناس كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3)
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4347) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1395) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(3) سورة الذاريات الآية 56(7/90)
المعنى يوحدوني ويطيعوا أمري ذلا وخضوعا وانكسارا وإيمانا وتصديقا وأن يؤدوا ما أمرتهم به من الطاعات وترك المعاصي، هذه هي العبادة التي خلقهم الله لها ليعبدوه وليخصوه بالعبادة بفعل الأوامر وترك النواهي وأعظمها وأهمها أن يخصوه بالعبادة ويؤمنوا بأنه الواحد الأحد المستحق للعبادة دون كل ما سواه كما قال سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) وقال سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (2)
فالتوحيد هو أول واجب وأعظم واجب أن تؤمن بأنك عبد الله وأنك يجب عليك أن تخصه بالعبادة وأنه إلهك الحق ومعبودك الحق وأن تؤمن برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وتشهد أنه رسول الله حقا إلى جميع الثقلين الجن والإنس وتشهد أيضا أنه خاتم الأنبياء وليس بعده نبي ولا رسول وعليك مع هذا أن تؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله هذا هو أصل الأصول وهذا هو الواجب على كل مكلف من جن وإنس من رجال ونساء من عرب وعجم من كافر ومسلم من جميع الثقلين وجميع المكلفين عليهم أن يعبدوا الله وحده وعليهم أن يؤمنوا بأنه لا إله إلا الله وبأن محمدا رسول الله وأنه خاتم الأنبياء وأن ما جاء به هو الحق وأن الواجب اتباعه والسير على منهاجه حتى تلقى ربك. هذه هي العبادة التي خلقت لها وهذا هو الدين وهذا هو التقوى وهذا هو الإيمان وهذا هو الإسلام
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة محمد الآية 19(7/91)
وهذا هو البر، كلمات لها معاني من حيث اللغة ترجع إلى شيء واحد وهو أن ذلك هو دين الله فهو الإسلام وهو الهدى وهو التقوى وهو البر وهو الإيمان وهو العبادة لله وحده وهذه المعاني كلها واضحة فهو عبادة لأنه خضوع لله وإسلام، لأنه ذل وانقياد لله وتقوى لأن العبد يتقي بذلك غضب الله، وإيمان لأنه تصديق بكل ما أخبر الله به ورسوله وهدى لأن الله هدى به العباد إلى الخير والصلاح وبر لأنه كله خير وكله سبب للسعادة ولهذا قال جل وعلا: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} (1) وقال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (2) لأن المتقين هم المسلمون هم المؤمنون وهم الذين عبدوا الله وحققوا معنى قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3)
وذلك لتقواهم لله وقيامهم بحقه وإخلاصهم له وإيمانهم بأنه معبودهم الحق وإيمانهم برسوله محمد عليه الصلاة والسلام وإيمانهم بكل ما أخبر الله به ورسوله في كتابه العظيم وعلى لسان نبيه الأمين عليه الصلاة والسلام فلا يتم إسلام ولا إيمان إلا بهذا ولا بد من شهادة أن لا إله إلا الله وأنه لا معبود حق إلا الله وأن جميع ما يعبده الناس من دون الله كله باطل قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (4)
ولا بد من الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله عما كان وعما يكون وعن الرسل الماضين وعن الجنة والنار وعن أخبار القيامة وعن الحساب
__________
(1) سورة الطور الآية 17
(2) سورة القلم الآية 34
(3) سورة الذاريات الآية 56
(4) سورة الحج الآية 62(7/92)
والجزاء إلى غير ذلك لا بد أن تصدق بكل ما أخبر الله به مما جاء في القرآن أو صحت به السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام على حسب ما أعطاك الله من العلم، ثم بعد هذا الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله وتوحيد الله والإخلاص له والإيمان بأسمائه وصفاته وإمرارها كما جاءت عن الله وعن رسوله بلا كيف ولا تحريف ولا تمثيل كما قال أهل السنة والجماعة، بعد هذا أنت يا عبد الله مأمور بالالتزام بما أوجب الله على عبادة من صلاة وزكاة وصيام وحج وغير ذلك وعليك أن تمتثل بكل ما أمر الله به ورسوله وأن تبتعد عن كل ما نهى الله عنه ورسوله كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} (1) فهو خطاب للناس كلهم جنهم وإنسهم عربهم وعجمهم يعم الكفار ويعم المسلمين، ومعنى اتقوا ربكم افعلوا أوامره واتركوا نواهيه طلبا لمرضاته وحذرا من عقابه فكلهم ملزمون بالتقوى في جميع الأحوال.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) فلا بد من عبادته سبحانه بإخلاص وصدق في العبادة له وطاعة أوامره وترك نواهيه وقد يخص سبحانه المؤمنين بالأمر فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} (3) في آيات كثيرات لأن المؤمنين هم بعض الناس المأمورين بالتقوى، فالواجب عليهم أعظم لأنهم آمنوا بالله ورسوله وعليهم أن يكملوا هذا الإيمان وأن يلتزموا به
__________
(1) سورة النساء الآية 1
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة البقرة الآية 278(7/93)
حتى الموت كما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2)
فالواجب على المكلف المسلم أن يلتزم بهذا الإسلام حتى الموت، وأن يلزم نفسه بهذا التقوى لله وطاعته حتى الموت، وعلى الكافر أن يدخل في الإسلام، وأن يبادر بذلك قبل أن يحل الأجل. والإسلام هو دين الله الذي بعث به محمدا عليه الصلاة والسلام وجميع المرسلين كما قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (3) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (4) ومحمد صلى الله عليه وسلم هو رسول الله لأهل الأرض جميعا من عرب وعجم وجن وإنس وهو خاتم الأنبياء والمرسلين. فعلى جميع الكفار من يهود ونصارى وغيرهم أن يبادروا بالدخول في الإسلام وأن يلتزموا من حين بعثه الله إلى يوم القيامة عليهم أن يلتزموا بذلك ويعملوا به وعلى جميع الجن والإنس والعرب والعجم والذكور والإناث والأغنياء والفقراء عليهم جميعا أينما كانوا في أرض الله أن يعبدوا الله وحده، وأن يلتزموا بشريعة الإسلام التي بعث الله بها نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام كما تقدم في قوله سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (5) وفي قوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (6) وفي قوله سبحانه:
__________
(1) سورة الحجر الآية 99
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة آل عمران الآية 19
(4) سورة آل عمران الآية 85
(5) سورة الأعراف الآية 158
(6) سورة سبأ الآية 28(7/94)
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1) ثم وعدهم سبحانه بالنجاة والسعادة والفلاح فقال سبحانه: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2)
فالمفلحون هم أتباعه عليه الصلاة والسلام المتمسكون بشريعته والمستقيمون على دينه - ومما تقدم تعلم أن أهم الواجبات وأهم الفرائض هو أن تعبد الله وحده بهذه العبادة التي خلقك الله لها وأمرك بها في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3) وفي قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (4) فأنت ما خلقت لتأكل وتشرب ما خلقت لبناء القصور أو غرس الأشجار أو شق الأنهار أو النكاح ونحو ذلك لا، فأنت مخلوق لتعبد ربك وأنت مخلوق لتستقيم على طاعته وتتابع رسوله عليه الصلاة والسلام، فعليك أن تستقيم على طاعته سبحانه وأن تتبع رسوله صلى الله عليه وسلم فأنت مخلوق لهذا، وكل ما في الأرض خلق لك لتستعين به على طاعة الله وترك معاصيه، ولم يخلق لك لتستعين به على شهواتك كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (5)
وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (6) فلم تخلق سدى ولا عبثا قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} (7) أي: أيظن
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 107
(2) سورة الأعراف الآية 157
(3) سورة الذاريات الآية 56
(4) سورة البقرة الآية 21
(5) سورة البقرة الآية 29
(6) سورة الجاثية الآية 13
(7) سورة القيامة الآية 36(7/95)
أن يترك سدى أي مهملا معطلا لا، بل خلق لأمر عظيم وهو: عبادة الله وطاعته، وقال تعالى منكرا على المشركين: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (1) أنكر الله عليهم هذا الحسبان وهذا الظن لكونه باطلا.
وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} (2) فهذا ظن الكافرين فأوضح الله سبحانه أنه خلق السماوات والأرض بالحق ليعرف الناس بنفسه وقدرته العظيمة وأنه المستحق لأن يعبد. فعليك يا عبد الله أن تعرف ربك بأسمائه وصفاته ومخلوقاته العظيمة وأنه هو معبودك الحق ولتعمل بذلك فكثير من الكفار بل أكثرهم قد عرفوا أن الله ربهم وأنه خالقهم ورازقهم ولكن لم يعبدوه وحده بل أشركوا معه غيره فصاروا إلى النار.
فلا بد أن تعرف ربك ولا بد مع المعرفة أن تعبده وحده بالإخلاص دون كل من سواه وأن تؤدي حقه وتترك الشرك به ومعصيته، لا بد من هذا كله، فكفار قريش وغيرهم يعرفون ربهم، ويعرفون أن الله خالقهم ورازقهم كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (3) الآيات. لكن كفروا بشركهم بالله وعبادتهم الأصنام والأولياء مع الله ونحو ذلك، وامتناعهم عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتصديقه في عبادة الله وجده فصاروا كفارا بذلك، فلا بد أن تؤمن بالله ربا وإلها ومعبودا بالحق، ولا بد
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 115
(2) سورة ص الآية 27
(3) سورة الزخرف الآية 87(7/96)
أن تؤمن بأسمائه وصفاته على الوجه اللائق به من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف ولا بد من تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به.
وعلى هذا الأصل الأصيل تؤدي حقه من صلاة وصيام وغير ذلك من العبادات وتدع معصيته من الشرك بالله وسائر المعاصي فالتوحيد الذي خلقت له والعبادة التي خلقت لها أن تؤمن بأن الله ربك وخالقك ورازقك ورب كل شيء ومليكه، وأن تخصه بالعبادة من دعاء وخوف ورجاء وذبح ونذر وصلاة وصوم وغير هذا من العبادات تخص الله وحده بذلك دون كل ما سواه قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3)
فلا بد من هذا الأمر وهو أن تخص الله بالعبادة صلاتك وصومك وذبحك ونذرك ودعائك وخوفك ورجاؤك إلى غير ذلك ولا بد مع هذا من الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلى الواردة في القرآن العظيم والثابتة في السنة الصحيحة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فلا بد من الإيمان بأسمائه وصفاته ولا بد من إمرارها كما جاءت على الوجه اللائق بالله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل فلا تؤولها ولا تنفها بل عليك أن تؤمن بها وأن تمرها كما جاءت وكما درج على هذا سلف الأمة
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة الفاتحة الآية 5(7/97)
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان من أهل السنة والجماعة فإنهم قد آمنوا بأن الله ربهم وخالقهم ورازقهم وآمنوا بأن الله معبودهم الحق وآمنوا بأسمائه وصفاته.
وهذه هي أقسام التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
فتوحيد الربوبية الإيمان بأنه الخلاق الرزاق المدبر للأمور الذي أقر به المشركون ولكن لم يدخلوا في الإسلام بذلك لعدم عبادتهم لله وحده، وعدم تخصيصهم له سبحانه بالعبادة بل أشركوا به غيره.
ولا بد من توحيد العبادة الذي هو معنى لا إله إلا الله، وهو: أنه لا معبود حق إلا الله، لا بد من هذا التوحيد والإخلاص لله في أقوالك وأعمالك وعقيدتك لا بد أن تخص الله بالعبادة، وأن تؤمن بأنه المعبود الحق وأن العبادة لا تصح لغيره أبدا لا للأنبياء ولا لغيرهم ولا بد من الإيمان بأسمائه وصفاته كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) لا بد أن تؤمن بأسمائه وصفاته، وتعبده بذلك هو: أن تنفي عنها جميع التشبيه والتمثيل والتحريف ولا بد مع ذلك من طاعة الأوامر وترك النواهي، فعليك أن تؤمن بهذا الأصل الأصيل ثم تنقاد لشرع الله بفعل الأوامر وترك النواهي عن إيمان وعن علم وعن بصيرة وصدق وإخلاص، وقد عبر عنها سبحانه بالإيمان والعمل الصالح في آيات أخرى وعبر عن دينه بالإسلام، وعبر عنه بالعبادة قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (3)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة البقرة الآية 21(7/98)
لأنه يؤدى بالذل والخضوع لله فسمي إسلاما وعبادة، لأن العبد يؤديه بالخضوع والذل لله، وعبر عنه بالتقوى لأن العبد يؤديه متق بذلك ربه ويخاف عقوبته، وسماه إيمانا لأن العبد يؤدي ذلك عن إيمان وعن تصديق لا عن شك وريب بل يؤدي هذه العبادات وهذه الأعمال عن إيمان بالله وحده، وأنه ربه ومعبوده الحق وأنه مستحق لذلك وهو يؤديها عن إيمان وعن صدق وسماه برا لما فيه من الخير العظيم والسعادة، فهو بر، وسماه هدى لما فيه من الخير أيضا لأنه يهدي إلى الخير ويوصل إلى الخير وإلى أسباب السعادة وفي آيات أخرى عبر عن ذلك بالإيمان والعمل الصالح فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} (1)
فالمؤمنون الذين عملوا الصالحات هم أهل التقوى وهم المسلمون وهم الصالحون وهم الذين عبدوا الله حق عبادته قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} (2) كما أنهم هم المتقون في قوله سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} (3) وقال سبحانه: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (4) وهم الأبرار كما في قوله سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (5) وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} (6) فهم الأبرار وهم أهل التقوى
__________
(1) سورة لقمان الآية 8
(2) سورة لقمان الآية 8
(3) سورة الطور الآية 17
(4) سورة القلم الآية 34
(5) سورة الانفطار الآية 13
(6) سورة المطففين الآية 18(7/99)
وهم أهل الإيمان وهم المسلمون وهم الذين عبدوا الله وحده قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (1)
فالذين آمنوا وعملوا الصالحات الموعودون بالنصر والتأييد والاستخلاف في الأرض هم المسلمون حقا وهم المؤمنون وهم الأبرار وهم الصالحون وهم الذين عبدوا الله سبحانه وتعالى كما ترى واستقاموا على دينه، عبدوه واتقوه وعنت وجوههم له فالعبارات متنوعة والحقيقة واحدة فالمؤمنون والمتقون والأبرار والمسلمون والمهتدون هم الذين أطاعوا الله ورسوله وهم الذين وحدوا الله وخصوه بالعبادة وآمنوا به حقا واعترفوا بأنه ربهم ومعبودهم الحق وانقادوا لشريعته سماهم سبحانه مؤمنين في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (2) الآية. وفي قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (3) وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات في قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} (4)
فالعمل الصالح من الإيمان لأن الإيمان قول وعمل فإذا أطلق الإيمان فهو قول وعمل يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي فلهذا
__________
(1) سورة النور الآية 55
(2) سورة التوبة الآية 72
(3) سورة الروم الآية 47
(4) سورة الكهف الآية 107(7/100)
عبر سبحانه عن دينه بالإيمان فقال سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (1) وقال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله - يعني مع الشهادة بأن محمدا رسول الله - وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان (3) » .
فدين الله هو الإيمان وهو الإسلام وهو الهدى وهو التقوى وهو البر كما تقدم بيان ذلك فعليك أن تنتبه لهذا وعليك أن تحذر أن يشتبه عليك هذا الأمر وأن تظنه اختلافا يغير المعنى فليس الأمر كذلك بل هو شيء واحد تنوعت عنه العبارات بحسب المعاني، فإن دين الله الذي بعث به الرسل عليهم الصلاة والسلام وبعث به خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم هو الإسلام وهو الإيمان وهو الهدى وهو البر والتقوى وهو الإيمان والعمل الصالح فافهم هذا جيدا.
فالنصيحة لكل مؤمن ولكل مسلم بل لجميع المكلفين في الدنيا أن يتفقهوا في هذا الأمر وأن يتبصروا وأن يلزموا هذا الدين ويستقيموا عليه حتى الموت فهو طريق النجاة وهو طريق السعادة وهو طريق النصر فمن أراد النجاة فعليه بهذا الدين، ومن أراد النصر في الدنيا والعزة في الآخرة فعليه بهذا الدين ومن أراد الجنة فعليه بهذا الدين، ومن أراد الأمن في الدنيا والسعادة في الآخرة فعليه بهذا الدين وأن يلتزم به. فنصيحتي لجميع الدول المنتسبة للإسلام أن تتقي الله وأن تلتزم بهذا الإسلام حقا لا بالدعوى وأن تعبد الله وحده وأن تلزم شعوبها بعبادة الله وحده،
__________
(1) سورة التوبة الآية 72
(2) سورة الروم الآية 47
(3) صحيح مسلم الإيمان (35) ، سنن الترمذي الإيمان (2614) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5005) ، سنن أبو داود السنة (4676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (57) ، مسند أحمد بن حنبل (2/414) .(7/101)
وأن تحذر عباد أصحاب القبور أو الأصنام أو الأحجار أو الأشجار أو غير ذلك من سائر المخلوقات فالعبادة حق لله وحده لا يعبد مع الله أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا الصديق ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله عنهم ولا أهل البيت ولا غيرهم ولا البدوي ولا الحسين ولا الشيخ عبد القادر الجيلاني ولا غيرهم.
فالعبادة حق الله وحده لا يجوز صرف شيء منها لغيره كائنا ما كان كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} (1) وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس أن يعبدوا الله وحده دون كل ما سواه فالأنبياء حقهم أن يتبعوا وأن يصدقوا عليهم الصلاة والسلام وأن يحبوا في الله وأن ينقاد كل قوم لنبيهم، وعلى هذه الأمة أمة محمد أن تنقاد لما جاء به نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تلتزم به وأن تصدق بكل ما أخبر به الله ورسوله عن الماضين وعما سيأتي، وأن تستقيم على دين الله الذي بعث به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأن تلتزم بالقرآن والسنة الصحيحة في أقوالها وأعمالها وأن تحكم شرع الله فيما بينها.
هذا هو الواجب على جميع المسلمين وعلى جميع الدول الإسلامية أن تلتزم بذلك وأن تحكم شرع الله في عباد الله، وأن تقيم حدود الله في أرض الله هذا هو واجبهم جميعا، كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3)
__________
(1) سورة لقمان الآية 30
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة النساء الآية 65(7/102)
ويقول سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) فليس هناك شيء أحسن من حكم الله أبدا وفي حكم الله السعادة والأمن والنصر في الدنيا والآخرة، فالواجب على ولاة الأمور أن يدعوا إلى حكم الله ويلتزموا به وعلى كل مسلم أن ينقاد إلى حكم الله ويرضى به ولهذا قال جل وعلا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} (2)
هذا من الأساس فإذا عبدوه وحده وعملوا الصالحات وانقادوا لحكمه واستقاموا على الإيمان قولا وعملا استخلفهم الله ونصرهم وأيدهم كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3) وقال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (4) ثم بين من هم المنصورون فقال سبحانه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} (5) يعني بعد توحيد الله فإنهم إذا وحدوا الله وآمنوا به وبرسوله صلى الله عليه وسلم: نفذوا شرائعه من صلاة وصوم وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ويدخل في المعروف الصيام والحج والجهاد وترك المحرمات وإلزام الناس بكل ما أمر الله به ورسوله كل ذلك داخل في المعروف.
ويدخل في النهي عن المنكر النهي عن كل ما نهى الله كالشرك بالله
__________
(1) سورة المائدة الآية 50
(2) سورة النور الآية 55
(3) سورة محمد الآية 7
(4) سورة الحج الآية 40
(5) سورة الحج الآية 41(7/103)
وغيره من سائر المعاصي فهؤلاء هم أهل الإيمان وهم الذين ينصرون في الدنيا والآخرة ينصرون في الدنيا بجعلهم خلفاء في الأرض وتمكينهم في الأرض ضد أعدائهم وفي الآخرة بدخول الجنة والنجاة من النار كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (1) {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (2) نعوذ بالله من ذلك.
ويقول عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (3) آمنوا دخلوا في الإسلام واستقاموا على دين الله وتركوا الشرك وانقادوا للحق فكل معصية تسمى ظلما والظلم هنا هو الشرك كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فهم آمنوا وأخلصوا لله العبادة وتركوا الشرك وانقادوا لما أمر الله به ورسوله لأنه لا يتم إيمانهم إلا بطاعة الله ورسوله ولهذا قال سبحانه: {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (4) بسبب إيمانهم الصحيح وسلامتهم من الشرك وكل معصية تنقص الأمن وتنقص الهداية، فمن آمن إيمانا كاملا بطاعة الله ورسوله وتوحيد الله والإخلاص له وترك الإشراك به وترك المعاصي صار الأمن في حقه كاملا وصارت الهداية كاملة في الدنيا والآخرة.
أما من تعاطى شيئا من المعاصي فإن أمنه ينقص بذلك وهدايته تنقص بحسب ما عنده من المعاصي والشرور كما دلت على ذلك النصوص الأخرى من الكتاب والسنة، لكن ما دام على التوحيد فهو من أهل الأمن وهو من أهل الهداية وإن
__________
(1) سورة غافر الآية 51
(2) سورة غافر الآية 52
(3) سورة الأنعام الآية 82
(4) سورة الأنعام الآية 82(7/104)
جرى عليه خطوب وإن عذب بمعاصيه لكن مصيره في النهاية إلى الجنة إذا مات على التوحيد والإيمان وإن دخل النار يعذب على قدر معاصيه ثم يخرج منها إلى الجنة خلافا للخوارج والمعتزلة، فالخوارج والمعتزلة يقولون: من دخل النار لا يخرج منها أبدا وهذا قول باطل مخالف للكتاب والسنة ولإجماع الأمة فإن أهل السنة والجماعة يقولون: قد يدخل العاصي في النار كما جاءت به النصوص ويعذب بمعاصيه لكن يخرج منها بعد التطهير والتمحيص، إذا كان مسلما موحدا دخل النار بمعاصيه كالزنا والعقوق وشرب الخمر وأكل الربا ونحو ذلك إذا مات على ذلك ولم يتب فقد يعذب وقد يعفو الله سبحانه عنه لأسباب كثيرة وقد يعذب في النار على قدر هذه الجرائم التي مات عليها ثم بعد ما يطهر بالنار من هذه الجرائم يخرجه الله من النار كما تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وأجمع على ذلك أهل السنة والجماعة.
ويشفع النبي صلى الله عليه وسلم عدة شفاعات في العصاة من أمته الذين دخلوا النار ويخرجهم الله بشفاعته، ويشفع الأنبياء والمؤمنون والأفراط والملائكة وكلهم يشفعون ولا يبقى في النار مخلدا فيها إلا أهل الشرك بالله والكفر به فإنهم هم الذين يبقون في النار مخلدين أبد الآباد كما قال الله سبحانه في سورة البقرة: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (1) وقال في سورة المائدة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (2)
__________
(1) سورة البقرة الآية 167
(2) سورة المائدة الآية 37(7/105)
وقال في سورة النبأ: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} (1) والآيات في هذا المعنى كثيرة، وأما عصاة الموحدين الذين ماتوا على الإسلام ولكن لهم معاصي لم يتوبوا منها فإنهم لا يخلدون في النار إن دخلوها بل يعذبون فيها تعذيبا مؤقتا وقد يخلدون فيها تخليدا مؤقتا فإن الخلود خلودان خلود دائم وهذا للكفار وحدهم، وخلود مؤقت لبعض العصاة وقد يطول بقاؤهم في النار لشدة معاصيهم وكثرتها ثم بعد المدة التي كتبها الله عليهم يخرجهم الله من النار إلى الجنة كما جاء ذلك في القاتل والزاني لكنه خلود مؤقت له نهاية إذا مات على التوحيد وإنما الخلود الدائم والأبدي للكفار الذين ماتوا على الكفر بالله من اليهود والنصارى والوثنيين وغيرهم نعوذ بالله من حالهم.
فيا أيها المسلمون ويا أيها المكلفون بادروا بتقوى الله والتوبة إليه، بادروا بالإيمان الصادق والعمل الصالح بادروا بالالتزام بالإسلام قبل أن تندموا غاية الندامة وقبل أن يعض أحدكم على يديه ندما ويقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} (2) يجب على كل مكلف في أرجاء الدنيا لم يدخل في الإسلام أن يبادر بالدخول فيه قبل أن يهجم عليه الأجل فيندم غاية الندامة ومصيره إلى النار وبئس المصير، قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} (3) {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} (4) {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} (5)
__________
(1) سورة النبأ الآية 30
(2) سورة الفجر الآية 24
(3) سورة الفرقان الآية 27
(4) سورة الفرقان الآية 28
(5) سورة الفرقان الآية 29(7/106)
وقال في سورة الفجر: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} (1) {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} (2) {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} (3) {وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} (4)
فاحذر يا عبد الله أن تعض على يديك ندما يوم القيامة بسبب كفرك أو تفريطك في حق الله، احذر وبادر وسارع إلى الخير اليوم قبل الموت فالزم الحق بتوحيد الله والإخلاص له وحقق العبادة التي خلقت لها، حقق الإسلام الذي خلقت له فأنت مخلوق لعبادة الله وهي الإسلام وهي التقوى وهي الهدى وهي طاعة الله ورسوله حقق هذه العبادة وحقق هذا الإسلام واستقم عليه قبل أن تموت وقبل أن يحال بينك وبين ذلك وأنت لا تدري متى يجيء الأجل، كل واحد منا لا يدري متى يجيئه الأجل فقد يصبحه أو يمسيه ولا يدري أيضا ما هي الأسباب التي تكون سببا لموته، فالحزم كل الحزم في البدار إلى طاعة الله والتوبة إليه والاستقامة على ذلك حتى الموت.
فاتق الله يا عبد الله وبادر إلى الحق قبل أن يهجم الأجل وسارع إلى طاعة الله ورسوله والفقه في دين الله وتعلمه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (5) » ، ويقول عليه الصلاة والسلام: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (6) » متفق على صحته. فليتق الله كل مسلم ولينظر في أعماله هل هو على طريق الله وهل هو على ما
__________
(1) سورة الفجر الآية 23
(2) سورة الفجر الآية 24
(3) سورة الفجر الآية 25
(4) سورة الفجر الآية 26
(5) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(6) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(7/107)
كان عليه أصحاب رسول الله من السلف الصالح من توحيد الله وطاعته والإيمان به سبحانه والإيمان بأسمائه وصفاته ولينظر إن كان على بدعة فليحذرها.
ولينظر كل إنسان ما هو عليه هل هو على طريق الله الذي جاء به محمد وهل هو موحد لله، وهل هو يعبده وحده دون كل ما سواه، وهل أدى أوامره وترك نواهيه، لينظر كل إنسان في هذا ويحاسب نفسه، يجب أن ينظر ويتقي الله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (1) انظر يا عبد الله ماذا قدمت، وانظري يا أمة الله ماذا قدمت، فالمؤمن ينظر، والشيعي ينظر، وأي منتسب لطائفة من الطوائف ينظر: أنصار السنة والإخوان المسلمون الجماعة الإسلامية وجماعة التبليغ أي جماعة، كل واحد منهم ينظر ماذا قدم وما هو عليه هل هو على طريق الهدى وهل هو على طريق محمد أم لا، كل واحد ينظر في عمله ولا يقلد لأن التقليد خطر ويحدث التعصب وقد يكون هذا التعصب بغير علم وهذا لا يجوز، يجب طاعة الله ورسوله يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (2) ما قال: أطيعوا فلانا ولا فلانا، بل حدد سبحانه الطاعة لله ورسوله ولأولي الأمر فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (3) يعنى إذا تنازعتم
__________
(1) سورة الحشر الآية 18
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة النساء الآية 59(7/108)
مع أولي الأمر أو مع العلماء أو مع الأمراء أو مع فلان وفلان أو مع أولادك أو مع شيخك أو مع أميرك أو مع زوجتك فيرد الأمر إلى الله وإلى الرسول.
فلا يرد الأمر إلى الهوى ولا يرد إلى زيد أو عمر لا بد أن ترد الأمور إلى الله سبحانه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا أمرك أولي الأمر أو الأمير بأمر يخالف شرع الله فلا طاعة له إنما الطاعة في المعروف، وإذا طلبت منك زوجتك أو أبوك أو أمك شيئا يخالف شرع الله فلا يجاب هذا الطلب ولكن بالحكمة وبالكلام الطيب تعتذر من أبيك أو من أمك أو من ولي الأمر أو من زوجتك بالأسلوب الحسن وتقنعهم بما شرع الله، قل: قال الله، قال رسوله لا يجوز أن أطيعكم في معصية الله يا والدي لك حق علي كبير لكن ما يجوز أن أطيعك في شرب الخمر، ما يجوز أن أطيعك في الربا ما يجوز أن أطيعك في كذا وكذا من معاصي الله.
وهكذا مع الأمير وهكذا مع الأم وهكذا مع الزوجة وهكذا مع أخيك الكبير وهكذا مع شيخ القبيلة وهكذا مع الجميع، لا تطع أحدا في معصية الله أبدا، طاعة الله مقدمة على الجميع فمن أمرك بطاعة الله فعلى العين والرأس سمعا وطاعة في طاعة الله وإن كان دونك وإن كان ولدك إذا قال: يا والدي اتق الله دع الربا قل: سمعا وطاعة، إذا قال: يا والدي اتق الله ودع الزنا دع الخمر فاستجب ولو كان صغيرا.
من أمرك بطاعة الله فسمعا وطاعة واحمد الله أن جعل في ولدك من يأمرك بالخير لا تتكبر على ولدك إذا دعاك إلى الخير ولا على أخيك الصغير ولا على خادمك إذا دعاك إلى خير قل: الحمد لله الذي يسر لي من خدمي أو من أولادي(7/109)
أو من جيراني أو من إخوتي من يأمرني بطاعة الله ومن يساعدني في الخير، لا تتكبر لا تقول: ما شأنك؟ أنت ولدي وتأمرني أو خادمي وتأمرني لا، اتق الله فإن طاعة الله واجبة على الجميع، فمن نصحك من أولادك أو من جيرانك أو من إخوانك أو من خدامك أو من غيره ونصيحتهم موافقة للشرع فقل: جزاك الله خيرا وبادر بالخير لا تتكبر، فالمؤمن يعظم أمر الله ويقبل الحق ممن جاء به ولا يتعالى ولو كان من جاء به أقل من يقول الله سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) فلو كان الناصح تلميذ من تلاميذ الشيخ فلا يرد الحق من التلميذ إذا صار التلميذ قد وفق لأمر خفي على الشيخ فإن الإنصاف يقتضي قبوله وهذه هي التقوى وهذا من التفقه في الدين لأن الدين يأمر بقبول الحق ممن جاء به من رجل أو امرأة من ولدك أو من أخيك الصغير من جارك أو من خادمك بدون تفرقة، فمن عرف الحق فليرشد إليه بالدليل، ومن بلغه ذلك فعليه السمع والطاعة لأن الدليل فوق الجميع ما لأحد فيه كلام لأن الله يقول وقوله الحق: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (2)
فيجب عليك أن تخضع للحق ممن جاء به من جن أو إنس، فمتى عرفت الحق فاقبله بالدليل ولا تقل: جاء به فلان بل عليك أن تقبل الحق لأن الحق فوق الجميع الحق ضالة المؤمن، وحاسب نفسك أنت يا عبد الله، حاسب نفسك وجماعتك التي أنت تنتسب إليهم حاسبهم وانظر فيما دعوك إليه فإن كان
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13
(2) سورة النساء الآية 59(7/110)
موافقا لشرع الله فاقبل وإلا فدعه وإذا كان بقاؤك مع هذه الجماعة أنفع لك في الدين فابق معهم وإن كان بقاؤك معهم يضرك فاهرب منهم اهرب وانصحهم لا تبقى مع الباطل ولا مع أهل الباطل إلا ناصحا لهم وموجها لهم إلى الخير، هكذا تجب النصيحة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » أخرجه مسلم في صحيحه.
فعليك بالنصيحة لهذه الجهات الخمس: لله بتوحيده والإخلاص له وطاعة أوامره وترك نواهيه وتحكيم كتابه، وللرسول بطاعته واتباعه، وللقرآن العظيم بتحكيمه واتباعه والإيمان بأنه كلام الله حقا وليس بمخلوق، والنصيحة لولاة الأمور بتوجيههم إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالأساليب الحسنة وبالدعاء لهم بظهر الغيب أن الله يوفقهم. تدعو لولاة الأمور: اللهم وفقهم اللهم اهدهم سواء السبيل اللهم اهدهم للحق اللهم أعنهم على تنفيذه في أي مكان حتى ولو كنت في بلاد كافرة تدعو الله بأن يهديهم للحق. كما قال بعض الناس: يا رسول الله إن دوسا كفرت واعتدت. قال: «اللهم اهد دوسا وأت بهم (2) » . فهداهم الله وجاءوا وأسلموا تدعو الله لأمرك في بلدك تقول: اللهم اهده اللهم أصلح قلبه وعمله اللهم اهده للحق اللهم أعنه على تنفيذ الحق اللهم وفقه لما يرضيك اللهم اكف المسلمين شره اللهم اهده للصواب.
وهكذا تنصح وتدعو وتستعمل الأساليب الحسنة اللينة الطيبة التي ليس فيها عنف لا تمد يدك على الناس تقاتلهم بل ادعهم بالحسنى قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3)
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2937) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2524) ، مسند أحمد بن حنبل (2/243) .
(3) سورة النحل الآية 125(7/111)
فلو جئت قوما وهم يشربون الخمر تقول يا عباد الله اتقوا الله ما يجوز شرب الخمر، أو رأيت من يدخن تقول: اتق الله يا عبد الله ترى التدخين لا يجوز وهو مضر بدينك ودنياك وصحتك، وهكذا حالق لحيته تقول له: لا تحلقها ما يجوز، الرسول أمر بإعفاء اللحى وإرخائها وتوفيرها وقص الشوارب، وإن رأيت من يسبل الثياب تقول: يا أخي الإسبال ما يجوز ارفع ثوبك إلى الكعب لا ينزل عن الكعب أو رأيت امرأة متبرجة تقول: يا أمة الله اتقي الله ما يجوز هذا، اتقي الله راقبيه سبحانه في أعمالك لا يجوز هذا الشيء، وإن وجدت واحدا يتعامل بالربا في السوق أو في غيره تقول له: اتق الله يا عبد الله لا تتعامل بالربا لأنه محاربة لله ورسوله، وإن رأيت من يسب ويشتم تقول: اتق الله تخاطبه بالحكمة وليس بالعنف ومد اليد والمضاربة، وإذا كان لم يستجب وعندك من يستطيع ترفع أمره إليه، فمثلا عندك الهيئة وعندك من ينفذ ترفع إلى من يقوم بالواجب.
أما أنت فما عليك إلا البلاغ والبيان بالكلام الطيب كما أرشدك ربك وعلمك في قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم والأمة له تبع: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) وقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2) ويقول سبحانه بشأن اليهود والنصارى:
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة آل عمران الآية 159(7/112)
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (1) فمن ظلم يعامل بما يقتضيه ظلمه يعامل بالقوة من طريق أهل القوة، القوة من الجهة المختصة التي تستطيع أن تعمل بالقوة وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (2) » .
فمن استطاع أن يغير باليد فعل ذلك باليد إذا كان المنكر له سلطة التغيير كالهيئة أو القاضي أو الأمير فيعمل بما عنده من السلطة أما إذا كان ما عنده سلطة فينكر باللسان أو يغير باللسان حتى لا يشتبك مع الناس في الشر وحتى لا يقع منكر أكثر وأشد يقول: يا عبد الله اتق الله بالكلام الطيب بالأسلوب الحسن فإن عجز بالكلام أنكر بقلبه وكره بقلبه ولا يحضر المنكر بل عليه أن يفارق أهل المنكر.
هكذا المؤمن لا يترك الواجب حسب الطاقة، فعليكم أيها الأخوة المسلمون في جميع أرض الله تقوى الله في كل وقت والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه، وعلى كل واحد منكم تقوى الله فيما يأتي ويترك وأن يحاسب نفسه في أي عمل هل هو طاعة لله أو معصية لله فإن كان طاعة لله نفذه وإن كان معصية لله تركه، وهكذا مع الناس لا يحقر نفسه إذا رأى المنكر يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالكلام الطيب لا بالعنف والكلام القبيح كأن يقول: يا حمار يا كلب، بل عليه أن يقول: يا عبد الله يا فلان يا أخي إن كان مسلما بالكلام
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 46
(2) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .(7/113)
الطيب هذا لا يجوز اتق الله يا عبد الله إلى غير ذلك من الأساليب الحسنة.
وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح والفقه في الدين، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، كما أسأله سبحانه أن يوفق جميع المسلمين في كل مكان من أرض الله للفقه في الدين والإستقامة عليه، وأن يمنحهم العلم النافع والعمل الصالح، وأن ييسر لهم العلماء الصالحين الذين يرشدونهم ويعلمونهم ويفقهونهم؟ أسأله سبحانه أن يوفق جميع ولاة أمر المسلمين في كل مكان إلى الاستقامة على دينه والنصح له ولعباده وتحكيم شريعته والتحاكم إليها وإلزام الشعوب بها، كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا في هذه البلاد لكل خير، وأن يعينهم على كل خير، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يزيل بهم كل سوء وكل منكر، وأن يعيذهم من شرور النفس وسيئات العمل إنه جل وعلا جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(7/114)
الأمراء والعلماء يطاعون في المعروف لأن بهذا
تستقيم الأحوال
شدد سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز على وجوب طاعة ولاة الأمر في المعروف؛ لأن بهذه الطاعة تستقيم أمور الأمة ويحصل الأمن والاستقرار ويأمن الناس من الفتنة. وأوضح فضيلته أن المراد بولاة الأمر هم العلماء والأمراء والحكام ذوو السلطان.
وأكد سماحته أن وجوب طاعتهم تكون في المعروف وليس في معصيه الله عز وجل. وأوضح سماحته أن الحاكم الذي يأمر بالمعصية لا يطاع في هذه المعصية دون أن يكون للرعية حق الخروج على الإمام بسبب ذلك.
وأوضح سماحته متى يجوز الخروج على الحاكم والتي ضبطها الشرع الكريم بوجود الرعية من الحكام كفرا بواحا عندهم " الخارجين " من الله فيه برهان مع القدرة والاستطاعة على التغيير، فإن عدموا القدرة لعجزهم فليس لهم الخروج ولو رأوا كفرا بواحا؛ لأن خروجهم فيه فساد للأمة ويضر الناس ويوجب الفتنة وهو ما يتعارض ودوافع الخروج الشرعي وهو الإصلاح ومنفعة الناس والأمة.
وأوضح سماحته أنه في هذه الحالة تكتفي الرعية ببذل النصح والكلام بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبهذا تبرأ الذمة.
وأوضح سماحته في معرض إجابته عن الأسئلة التي طرحت(7/115)
عليه في ندوة عقدت بجامع الإمام فيصل بن تركي في الرياض أهمية الطاعة وملازمة الجماعة وعظم الوعيد من الله ورسوله لمن أراد شق عصا الطاعة وفرق المسلمين بغير حق - كما أوضح سماحته أن القوانين إذا كانت توافق الشرع فلا بأس بها مثل قوانين الطرق وغيرها من الأشياء التي فيها نفع للناس وليس فيها مخالفة للشرع - أما القوانين التي فيها مخالفة صريحة للشرع فلا - ومن استحلها - أي القوانين المخالفة للشرع مخالفة لما أجمع عليه العلماء فقد كفر.
وعندما سئل سماحته عن كيفية التعامل مع أمثال هؤلاء المستحلين للقوانين المخالفة للشريعة من الحكام
قال سماحته: نطيعهم في المعروف وليس في المعصية حتى يأتي الله بالبديل -
وعندما سئل سماحته عن الجماعات الإسلامية المختلفة الموجودة في الساحة الإسلامية وعن أيها أولى بالاتباع.
أكد سماحته أن الجماعة التي يجب اتباعها هي الجماعة التي تسير على منهج الكتاب والسنة وهو ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
وأوضح سماحته أن كل جماعة من هذه الجماعات الموجودة لديها حق وباطل وهؤلاء يطاعون في الحق وهو ما قام عليه الدليل من الكتاب والسنة وما خالف الدليل يرد عليهم ويقال لهم أخطأتم في هذا، ويرى سماحته أن على أهل العلم واجبا عظيما ودورا كبيرا في هذا المجال وهو بيان الحق والرد على هذه الجماعات فيما أخطأت فيه ممن يعرفون تفاصيل هذه الجماعات.(7/116)
وأوضح سماحته أيضا أن هذه الجماعات ليست معصومة وليس لأحد منهم أن يدعي العصمة فالواجب البحث عن الحق وهو ما وافق الدليل من الكتاب والسنة أو إجماع سلف الأمة وما خالف الدليل وجب أن يطرح سواء كان من هذه الجماعات أو من غيرهم من أصحاب المذاهب المشهورة: الحنابلة والشافعية والمالكية والظاهرية والحنفية أو غيرهم. إذ إن الأصل وجوب اتباع الدليل من الكتاب والسنة فما وافقهما فهو الحق وما خالفهما فهو الباطل وحذر سماحته من الذين يدعون إلى غير كتاب الله عز وجل وإلى غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم فهؤلاء لا يتبعون ولا يقلدون بل يعادون في الله ويحذر منهم. وفيما يلي نص الحوار:
س 1: ما المراد بطاعة ولاة الأمر في الآية هل هم العلماء أم الحكام ولو كانوا ظالمين لأنفسهم ولشعوبهم؟
ج 1: يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) وأولو الأمر هم العلماء والأمراء أمراء المسلمين وعلماؤهم يطاعون في طاعة الله إذا أمروا بطاعة. الله وليس في معصية الله.
فالعلماء والأمراء يطاعون في المعروف. لأن بهذا تستقيم
__________
(1) سورة النساء الآية 59(7/117)
الأحوال ويحصل الأمن وتنفذ الأوامر وينصف المظلوم ويردع الظالم. أما إذا لم يطاعوا فسدت الأمور وأكل القوي الضعيف - فالواجب أن يطاعوا في طاعة الله في المعروف سواء كانوا أمراء أو علماء - العالم يبين حكم الله والأمير ينفذ حكم الله هذا هو الصواب في أولي الأمر، هم العلماء بالله وبشرعه وهم أمراء المسلمين عليهم أن ينفذوا أمر الله وعلى الرعية أن تسمع لعلمائها في الحق وأن تسمع لأمرائها في المعروف - أما إذا أمروا بمعصية سواء كان الآمر أميرا أو عالما فإنهم لا يطاعون في ذلك، إذا قال لك أمير: اشرب الخمر فلا تشربها أو إذا قال لك كل الربا فلا تأكله، وهكذا مع العالم إذا أمرك بمعصية الله فلا تطعه، والتقي لا يأمر بذلك لكن قد يأمر بذلك العالم الفاسق. والمقصود أنه إذا أمرك العالم أو الأمير بشيء من معاصي الله فلا تطعه في معاصي الله إنما الطاعة في المعروف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (1) » ، لكن لا يجوز الخروج على الأئمة وإن عصوا بل يجب السمع والطاعة في المعروف مع المناصحة ولا تنزعن يدا من طاعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «على المرء السمع والطاعة في المنشط والمكره وفيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية الله فإن أمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة (2) » . ويقول عليه الصلاة والسلام: «من رأى من أميره شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة فإنه من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية (3) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق جماعتكم وأن يشق عصاكم فاقتلوه كائنا من كان (4) » ، والمقصود أن الواجب السمع والطاعة في المعروف لولاة الأمور من الأمراء والعلماء - وبهذا تنتظم الأمور وتصلح الأحوال
__________
(1) صحيح البخاري أخبار الآحاد (7257) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/94) .
(2) صحيح البخاري الأحكام (7144) ، صحيح مسلم الإمارة (1839) ، سنن الترمذي الجهاد (1707) ، سنن أبو داود الجهاد (2626) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2864) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) .
(3) صحيح البخاري الفتن (7054) ، صحيح مسلم الإمارة (1849) ، مسند أحمد بن حنبل (1/297) ، سنن الدارمي السير (2519) .
(4) صحيح مسلم الإمارة (1852) ، سنن النسائي تحريم الدم (4020) ، سنن أبو داود السنة (4762) ، مسند أحمد بن حنبل (4/341) .(7/118)
ويأمن الناس وينصف المظلوم ويردع الظالم وتأمن السبل ولا يجوز الخروج على ولاة الأمور وشق العصا إلا إذا وجد منهم كفر بواح عند الخارجين عليه من الله برهان ويستطيعون بخروجهم أن ينفعوا المسلمين وأن يزيلوا الظلم وأن يقيموا دولة صالحة. أما إذا كانوا لا يستطيعون فليس لهم الخروج ولو رأوا كفرا بواحا. لأن خروجهم يضر الناس ويفسد الأمة ويوجب الفتنة والقتل بغير الحق - ولكن إذا كانت عندهم القدرة والقوة على أن يزيلوا هذا الوالي الكافر فليزيلوه وليضعوا مكانه واليا صالحا ينفذ أمر الله فعليهم ذلك إذا وجدوا كفرا بواحا عندهم من الله فيه برهان وعندهم قدرة على نصر الحق وإيجاد البديل الصالح وتنفيذ الحق.(7/119)
س 2: هل عجزهم يعتبر براءة للذمة أي ذمتهم؟
ج 2: نعم، يتكلمون بالحق ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويكفي ذلك، والمعروف هو ما ليس بمعصية فيدخل فيه المستحب والواجب والمباح كله معروف مثل الأمر بعدم مخالفة الإشارة في الطريق فعند إشارة الوقوف يجب الوقوف. لأن هذا ينفع المسلمين وهو في الإصلاح وهكذا ما أشبهه.(7/119)
س 3: ما حكم سن القوانين الوضعية؟ وهل يجوز العمل بها؟ وهل يكفر الحاكم بسنه هذه القوانين؟
ج 3: إذا كان القانون يوافق الشرع فلا بأس به مثل أن يسن قانونا للطرق ينفع المسلمين وغير ذلك من الأشياء التي تنفع المسلمين وليس فيها مخالفة للشرع ولكن لتسهيل أمور المسلمين فلا بأس بها. أما القوانين التي تخالف الشرع فلا يجوز سنها فإذا(7/119)
سن قانونا يتضمن أنه لا حد على الزاني أو لا حد على السارق أو لا حد على شارب الخمر فهذا قانون باطل وإذا استحله الوالي كفر لكونه استحل ما يخالف النص والإجماع وهكذا كل من استحل ما حرم الله من المحرمات المجمع عليها فهو يكفر بذلك.(7/120)
س 4: كيف نتعامل مع هذا الوالي؟
ج 4: نطيعه في المعروف وليس في المعصية حتى يأتي الله بالبديل.
س 5: تعلم يا سماحة الشيخ ما حل في الساحة من فتن فأصبح هناك جماعات مثل جماعة التبليغ وجماعة الإخوان والسلفية وغيرهم من الجماعات وكل جماعة تقول: إنها هي التي على صواب في اتباع السنة - من هم الذين على صواب من هذه الجماعات ومن نتبع منهم؟ ونرجو منك أن تسميهم بأسمائهم؟
ج 5: الجماعة التي يجب اتباعها والسير على منهاجها هم أهل الصراط المستقيم، هم أتباع النبي وهم أتباع الكتاب والسنة الذين يدعون إلى كتاب الله وسنة رسوله قولا وعملا، أما الجماعات الأخرى فلا تتبع منها أحدا إلا فيما وافقت فيه الحق. سواء كانت جماعة الإخوان المسلمين أو جماعة التبليغ أو أنصار السنة أو من يقولون: إنهم السلفيون أو الجماعة الإسلامية أو من تسمي نفسها بجماعة أهل الحديث وأي فرقة تسمي نفسها بأي شيء فإنهم يطاعون ويتبعون في الحق والحق ما قام عليه الدليل وما خالف الدليل يرد عليهم ويقال لهم: قد أخطأتم في هذا، فالواجب موافقتهم فيما يوافق الآية الكريمة أو الحديث الشريف(7/120)
أو إجماع سلف الأمة.
أما ما خالفوا فيه الحق فإنه يرد عليهم فيه فيقول لهم أهل العلم: قولكم كذا وفعلكم كذا خلاف الحق - هذا يقوله لهم أهل العلم فهم الذين يبصرون الجماعات الإسلامية. فأهل العلم العالمون بالكتاب والسنة الذين تفقهوا في الدين من طريق الكتاب والسنة، هم الذين يعرفون تفاصيل هذه الجماعات وهذه الجماعات عندها حق وباطل فهي ليست معصومة وكل واحد غير معصوم ولكن الحق ما قام عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو إجماع سلف الأمة سواء من هذه الجماعات أو من الحنابلة أو الشافعية أو المالكية أو الظاهرية أو الحنفية أو غيرهم - فما قام عليه الدليل فهو الحق وما خالف الدليل من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الإجماع القطعي يكون خطأ - وأما الذين يدعون إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء لا يتبعون ولا يقلدون، إنما يطاع ويتبع من دعا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأصاب الحق فإذا أخطأ فإنه يقال له: أحسنت إذا أحسن وأخطأت إذا أخطأ ويتبع في الصواب، ويدعي له بالتوفيق، وإذا أخطأ يقال له: أخطأت في كذا وخالفت الدليل الفلاني والواجب عليك التوبة إلى الله والرجوع إلى الحق - هذا يقوله أهل العلم وأهل البصيرة - أما العامي فليس من أهل العلم وإنما العلماء هم العلماء بالكتاب والسنة المعروفون الذين يتبعون الكتاب والسنة فعلى العامي أن يسأل هؤلاء الذين عرفوا الكتاب والسنة عما أشكل عليه مثل أن يسألهم ما تقولون في دعوة فلان الذي يقول كذا ويقول كذا حتى يتبصر(7/121)
ويعرف الحق كما قال الله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) وهم أهل العلم بكتاب الله وسنة رسوله أما أهل البدعة فليسوا من أهل الذكر، والدعاة إلى البدعة ليسوا من أهل الذكر أيضا. والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة النحل الآية 43(7/122)
حوار خاص في جملة من القضايا الهامة
س 1: نبدأ - سماحة الشيخ - بسؤالكم عن مكانة العلماء في المجتمع والدور المناط بهم خاصة في الظروف الحالية؟
- 123 - ج 2: لا شك أن دور العلماء دور عظيم في المجتمع. لأنهم خلفاء الرسل وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس ويجتهدون في توجيه الناس إلى الخير وقد أخبر النبي أن العلماء هم ورثة الأنبياء والواجب على أهل العلم أن يجتهدوا في إصلاح أمور الناس وتوجيههم إلى الخير وأن يأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر وأن يصبروا على الأذى عملا بقوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) وعملا بقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (3) والواجب على المجتمع أن يعطي العلماء قدرهم وأن يعمل بتوجيههم ونصيحتهم وأن يحرص على الذب عنهم وعلى عدم غيبتهم وعلى سلامة أعراضهم فليس
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة يوسف الآية 108(7/123)
هناك واحد منهم معصوما وقد يقع الخطأ والزلل فإذا وقع الخطأ أو الزلل وجب على العلماء أن ينبه بعضهم بعضا بالأسلوب الحسن وبالعبارة الطيبة حتى يزول الخطأ ويظهر الله الحق.(7/124)
س 2: عندما يقع الاختلاف - سواء بين العلماء أو الدعاة أو طلبة العلم - فما الأمور التي لا يجوز الاختلاف فيها؟ وما الأمور التي يجوز فيها الاختلاف؟ وما المنهج الراشد في سبيل حسم الخلاف حتى يؤدي إلى الهدف الإيجابي منه؟
ج 2: الواجب على أهل العلم والدعاة إلى الله عز وجل تحري الحق بالأدلة الشرعية وأن يتثبتوا في كل ما يقولون أو يقدرون أو يفتون به حتى تتضح الأدلة لمن يرشدونه أو يوجهونه. لأن الله سبحانه وتعالى حرم عليهم القول بغير علم - فالواجب على أهل العلم التثبت في الأمور وفيما يقولونه من أحكام وما يدعون إليه وما ينهون عنه حتى تكون جميع الأحكام التي يصدرونها عن. بينة وعن بصيرة.
وأما ما لا يجوز الخلاف فيه فهو ما أوضحته النصوص من الكتاب والسنة فإنه يجب على الجميع أن يتفقوا على ما دل عليه الكتاب أو السنة الصحيحة وأن يحذروا النزاع والخلاف في ذلك وإنما يكون الخلاف في المسائل الاجتهادية التي ليس فيها دليل. من القرآن أو السنة بل هي محل لاجتهاد العلماء واستنباطهم من القواعد الشرعية - فهذه هي محل الخلاف - ويقال عنها " مسائل الاجتهاد " ومن أصاب فيها فله أجران ومن أخطأ فله أجر إذا كان من أهل العلم والبصيرة وممن يستطيع أن يجتهد في استخراج الأحكام بالأدلة(7/124)
الشرعية - والمقصود أنه إذا كان من أهل العلم وبذل وسعه في الاجتهاد فهو بين أمرين: إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر وخطؤه مغفور- أما ما كان واضحا بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة فلا يجوز فيه الخلاف بل يجب اجتماع أهل العلم على ذلك.(7/125)
س 3: ما الواجب إذا حصل الخلاف؟
ج 3: الواجب التنبيه، تنبيه من أخطأ على أنه خالف النص الفلاني - والواجب الرجوع إلى النص، لأن الله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) فالواجب على العالم إذا أخطأ في مسألة فنبهه أخوه واتضح الدليل أن يرجع إلى الدليل.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10(7/125)
س 4: تحدثتم سماحة الشيخ في اللقاء المفتوح الذي عقد في جدة مؤخرا عن نعم الله تعالى على هذه البلاد، نعمة الإسلام ونعمة الأمن ونعمة تطبيق شرع الله، فكيف يحافظ المجتمع على هذه النعم؟
ج 4: الواجب على المسلمين حكومة وشعبا في هذه البلاد أن يشكروا الله سبحانه وتعالى على ما من به عليهم من نعمة الإسلام ونعمة الأمن وأن يتواصوا بذلك دائما - ويكون الشكر بأداء الفرائض وترك المحارم والوقوف عند حدود الله - هذا هو الشكر(7/125)
كما قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} (1) وقال سبحانه وتعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (2) فالواجب هو الشكر الحقيقي قولا وعملا وعقيدة فيشكر كل فرد الله بقلبه وقوله وعمله ويخافه ويرجوه ويتحدث بنعمه جل شأنه؟ قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (3) كما يجب الشكر بالعمل وذلك بأداء الفرائض وبترك المحارم التي حرمها الله من الزنى والسرقة والعقوق وقطع الأرحام والربا والغيبة والنميمة إلى غير ذلك من المعاصي فهذا كله من الشكر.
__________
(1) سورة البقرة الآية 152
(2) سورة سبأ الآية 13
(3) سورة الضحى الآية 11(7/126)
س 5: لقد قامت الدولة في المملكة العربية السعودية منذ أن تأسست على تطبيق شرع الله وعلى إقامة حكمه فما الواجب علينا جميعا تجاه هذه المسئولية؟
ج 5: من الواجب على الرعية مساعدة الدولة في الحق والشكر لها على ما تفعل من خير والثناء عليها بذلك. يجب عليهم معاونة الدولة في إصلاح الأوضاع فيما قد يقع فيه شيء من الخلل بالأسلوب الطيب وبالكلام الحسن لا بالتشهير وذكر العيوب في الصحف وعلى المنابر ولكن بالنصيحة وبالمكاتبة والتنبيه على ما قد يخفى حتى تزول المشاكل وحتى يحل محلها الخير والإصلاح وحتى تستقر النعم ويسلم الناس من حدوث النقم ولا سبيل إلى هذا إلا(7/126)
بالتناصح والتواصي بالخير - والواجب على الدولة - وفقها الله - أن تجتهد فيما يكون قد وقع من خلل في إصلاحه، وأن تجتهد في كل ما يرضي الله عز وجل ويقرب إليه - وفي إزالة كل ما نهانا عنه الله عز وجل وأن تقوم بواجبها في إصلاح ما هو مخالف للشرع، وأن تجتهد في إزالة ذلك بالتعاون مع العلماء والموظفين والمسئولين الطيبين والصالحين ومع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(7/127)
س 6: عندما تقع بعض السلبيات أو المنكرات في المجتمع فما السبيل الأمثل - في نظر سماحتكم - نحو معالجة هذه السلبيات وإنكار المنكرات؟
ج 6: السبيل أوضحه الله عز وجل حيث يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) ويقول سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) ويقول جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) ويقول سبحانه وتعالى: {وَالْعَصْرِ} (4) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (5) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (6) وهذا هو السبيل وهو التعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والنصحية ودعوة الناس إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالأسلوب الحسن والكلمات الطيبة والرفق حتى يعم الخير ويكثر وحتى
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة آل عمران الآية 104
(3) سورة النحل الآية 125
(4) سورة العصر الآية 1
(5) سورة العصر الآية 2
(6) سورة العصر الآية 3(7/127)
يزول الشر ويندثر. وهذا مطلوب من الجميع من الدولة ومن العلماء ومن أهل الخير ومن أعيان المسلمين ومن العامة كل بحسب طاقته ولكن بتحري العبارات الطيبة والأسلوب الحسن حتى يحصل الخير ويزول الشر.(7/128)
س 7: من الملاحظ - سماحة الشيخ - أن هناك غيرة صادقة لدى الشباب الملتزم على دين الله وحماسة لفعل الخير وإنكار المنكر، فهل ترون أن هذا من الأمور المحمودة للصحوة الإسلامية في عصرنا الحاضر؟
ج 7: نعم، إن هذا يسر والحمد لله نشاط الشباب في الخير وغيرتهم الإسلامية وحرصهم على العلم كل هذا مما يسر كل مؤمن ويبشر بالخير وهذا من اليقظة الإسلامية ومن أسباب انتشارها أيضا فالواجب تشجيع ذلك. والواجب أيضا ترشيده ونصيحتي للشباب أن يرجعوا إلى العلماء فيما أشكل عليهم ومن أهم الأمور عدم العجلة وعدم الغلو وسلوك منهج التوسط في الأمور.(7/128)
حكم التوسل بجاه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم
س: هذه رسالة وردت إلى البرنامج من فواز محمد علي من العراق محافظة نينوى يقول في رسالته: ما هو الحكم على المسلم الذي يقيم الفرائض ويتوسل بجاه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وهل يجوز رميه بالشرك؟ أفيدونا أفادكم الله.
ج: المسلم الذي يوحد الله ويدعوه وحده سبحانه وتعالى ويؤمن بأنه الإله الحق، ويعتقد معنى لا إله إلا الله وأن معناها لا معبود حق إلا الله، ويؤمن بمحمد أنه رسول الله حقا أرسله الله إلى الجن والإنس، هذا يقال له مسلم لكونه أتى بالشهادتين ووحد الله، وحده وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يكون مسلما بذلك فإذا أتى شيئا من المعاصي فإنه يكون بذلك ناقص الإيمان كالزنى والسرقة والربا إذا لم يعتقد حل ذلك ولكنه أطاع الهوى والشيطان فعل هذه المعاصي أو بعضها فهذا يكون نقصا في إيمانه وضعفا في إيمانه، أما إذا توسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم إني أسألك بجاه محمد أو بحق محمد فهذا بدعة عند جمهور أهل العلم نقص في الإيمان ولا يكون مشركا ولا يكون كافرا بل هو مسلم ولكن يكون هذا نقصا في الإيمان وضعفا بالإيمان مثل بقية المعاصي التي تخرج عن الدين؛ لأن الدعاء ووسائل الدعاء توقيفية ولم يرد في الشرع ما يدل على التوسل بجاه محمد صلى الله عليه وسلم بل هذا مما أحدثه الناس فالتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو بجاه الأنبياء أو بحق النبي أو بحق الأنبياء أو بجاه فلان أو بجاه علي أو بجاه أهل(7/129)
البيت كل هذا من البدع، والواجب ترك ذلك لكن ليس بشرك وإنما هو من وسائل الشرك فلا يكون صاحبه مشركا ولكن أتى بدعة تنقص الإيمان وتضعف الإيمان عند جمهور أهل العلم. لأن الوسائل في الدعاء توقيفية فالمسلم يتوسل بأسماء الله وصفاته؟ قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) ويتوسل بالتوحيد والإيمان كما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد (2) » فهذا توسل بتوحيد الله. وهكذا التوسل بالأعمال الصالحات؟ في حديث أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم صخرة لما دخلوا الغار من أجل المطر أو المبيت فانطبقت عليهم صخرة عظيمة فلم يستطيعوا دفعها فقال بعضهم لبعض: إنه لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فدعوا الله بصالح أعمالهم فتوسل أحدهم ببره لوالديه فانفرجت الصخرة بعض الشيء، ثم توسل الآخر بعفته عن الزنى وأنه كان له بنت عم يحبها كثيرا فأرادها لنفسه فأبت عليه ثم إنها ألمت بها سنة وحاجة، فجاءت إليه تطلبه العون فقال: إلا أن تمكنيني من نفسك فوافقت على أن يعطيها مائة وعشرين دينارا من الذهب فلما جلس بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فخاف من الله سبحانه وقام عنها ولم يأت الفاحشة وترك لها الذهب وقال: اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة بعض الشيء
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) سنن الترمذي الدعوات (3475) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3857) .(7/130)
ولكن لا يستطيعون الخروج. ثم توسل الثالث بأدائه الأمانة وقال: إنه كانت عنده أمانة لبعض العمال تركها عنده فنماها وعمل فيها حتى صارت مالا كثيرا من الإبل والبقر والغنم والرقيق فلما جاء صاحبها أداها إليه كلها كاملة فقال: يا ربي إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة وخرجوا. وهذا يدل على أن التوسل بالأعمال الصالحات من أسباب الإجابة، أما التوسل بجاه محمد صلى الله عليه وسلم، أو بجاه فلان، أو بجاه الصديق، أو بجاه عمر، أو بجاه علي، أو بجاه أهل البيت، أو ما أشبه ذلك فهذا ليس له أصل بل هو بدعة وإنما التوسل الشرعي أن يتوسل المسلم بأسماء الله وصفاته أو بإيمانه بالله فيقول: اللهم إني أتوسل إليك بإيماني بك أو بإيماني بنبيك، أو بمحبتي لك، أو بمحبتي لنبيك عليه الصلاة والسلام فهذا طيب وهذه وسيلة شرعية طيبة، أو يتوسل بالتوحيد بأن يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد. كل هذا طيب أو يتوسل إلى الله ببره لوالديه، أو بمحافظته على الصلوات، أو بعفته عن الفواحش كل هذه وسائل طيبة بأعمال صالحة، هذا هو الذي قرره أهل العلم وأهل التحقيق من أهل البصرة، أما التوسل بجاه النبي، أو بجاه فلان، أو بحق فلان فهذا بدعة؟ تقدم بيان ذلك والذي عليه جمهور أهل العلم أنه غير مشروع والله ولي التوفيق.(7/131)
من هو الذي يعذر بالجهل في
العقيدة والأمور الفقهية
س: الأخ: م. ص من جمهورية مصر العربية يقول في سؤاله: من هم الذين يعذرون بالجهل؟ وهل يعذر الإنسان بجهله في الأمور الفقهية؟ أم في أمور العقيدة والتوحيد؟ وما هو واجب العلماء نحو هذا الأمر؟
ج: دعوى الجهل والعذر به فيه تفصيل، وليس كل واحد يعذر بالجهل، فالأمور التي جاء بها الإسلام وبينها الرسول صلى الله عليه وسلم للناس وأوضحها كتاب الله وانتشرت بين المسلمين لا تقبل فيها دعوى الجهل، ولا سيما ما يتعلق بالعقيدة وأصل الدين. فإن الله عز وجل بعث نبيه صلى الله عليه وسلم ليوضح للناس دينهم ويشرحه لهم وقد بلغ البلاغ المبين وأوضح للأمة حقيقة دينها وشرح لها كل شيء وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وفي كتاب الله الهدى والنور فإذا ادعى بعض الناس الجهل فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، وقد انتشر بين المسلمين، كدعوى الجهل بالشرك وعبادة غير الله عز وجل، أو دعوى أن الصلاة غير واجبة، أو أن صيام رمضان غير واجب أو أن الزكاة غير واجبة، أو أن الحج مع الاستطاعة غير واجب فهذا وأمثاله لا تقبل فيه دعوى الجهل ممن هو بين المسلمين لأنها أمور معلومة بين المسلمين. وقد علمت بالضرورة من دين الإسلام وانتشرت بين المسلمين فلا تقبل(7/132)
دعوى الجهل في ذلك، وهكذا إذا ادعى أحد بأنه يجهل ما يفعله المشركون عند القبور أو عند الأصنام من دعوة الأموات والاستغاثة بهم والذبح لهم والنذر لهم، أو الذبح للأصنام أو الكواكب أو الأشجار أو الأحجار، أو طلب الشفاء أو النصر على الأعداء من الأموات أو الأصنام أو الجن أو الملائكة أو الأنبياء. . فكل هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة وأنه شرك كبير، وقد أوضح الله ذلك في كتابه الكريم وأوضحه رسوله صلى الله عليه وسلم وبقي ثلاث عشرة سنة في مكة وهو ينذر الناس هذا الشرك وهكذا في المدينة عشر سنين، يوضح لهم وجوب إخلاص العبادة لله وحده ويتلو عليهم كتاب الله مثل قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) وقوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) وقوله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (3) وقوله سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (4) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (5) وقوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (6) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (7) وبقوله سبحانه مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (8) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (9) وبقوله سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (10) وبقوله سبحانه وتعالى:
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة الزمر الآية 2
(5) سورة الزمر الآية 3
(6) سورة الأنعام الآية 162
(7) سورة الأنعام الآية 163
(8) سورة الكوثر الآية 1
(9) سورة الكوثر الآية 2
(10) سورة الجن الآية 18(7/133)
{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (1) وهكذا الاستهزاء بالدين والطعن فيه والسخرية به والسب كل هذا من الكفر الأكبر ومما لا يعذر فيه أحد بدعوى الجهل، لأنه معلوم من الدين بالضرورة أن سب الدين أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم من الكفر الأكبر وهكذا الاستهزاء والسخرية، قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (2) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (3)
فالواجب على أهل العلم في أي مكان أن ينشروا هذا بين الناس وأن يظهروه حتى لا يبقى للعامة عذر وحتى ينتشر بينهم هذا الأمر العظيم، وحتى يتركوا التعلق بالأموات والاستعانة بهم في أي مكان في مصر أو الشام أو العراق أو في المدينة عند قبر النبي أو في مكة أو غير ذلك وحتى ينتبه الحجيج وينتبه الناس ويعلموا شرع الله ودينه، فسكوت العلماء من أسباب هلاك العامة وجهلهم، فيجب على أهل العلم أينما كانوا أن يبلغوا الناس دين الله وأن يعلموهم توحيد الله وأنواع الشرك بالله حتى يدعوا الشرك على بصيرة وحتى يعبدوا الله وحده على بصيرة وهكذا ما يقع عند قبر البدوي أو الحسين رضي الله عنه أو عند قبر الشيخ عبد القادر الجيلاني أو عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أو عند غيرهم يجب التنبيه على هذا الأمر وأن يعلم الناس أن العبادة حق لله وحده ليس لأحد فيها حق كما قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (4)
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 117
(2) سورة التوبة الآية 65
(3) سورة التوبة الآية 66
(4) سورة البينة الآية 5(7/134)
وقال سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (1) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (2) وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (3) يعنى أمر ربك، فالواجب على أهل العلم في جميع البلاد الإسلامية وفي مناطق الأقليات الإسلامية وفي كل مكان أن يعلموا الناس توحيد الله وأن يبصروهم بمعنى عبادة الله وأن يحذروهم من الشرك بالله عز وجل الذي هو أعظم الذنوب وقد خلق الله الثقلين ليعبدوه وأمرهم بذلك. لقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4) وعبادته هي: طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وإخلاص العبادة له وتوجيه القلوب إليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (5)
أما المسائل التي قد تخفى مثل بعض مسائل المعاملات وبعض شئون الصلاة وبعض شئون الصيام فقد يعذر فيها الجاهل؟ عذر النبي علي الذي أحرم في جبة وتلطخ بالطين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اخلع عنك الجبة واغسل عنك هذا الطيب واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجتك (6) » ، ولم يأمره بفدية لجهله، وهكذا بعض المسائل التي قد تخفى يعلم فيها الجاهل ويبصر فيها، أما أصول العقيدة وأركان الإسلام والمحرمات الظاهرة فلا يقبل في ذلك
__________
(1) سورة الزمر الآية 2
(2) سورة الزمر الآية 3
(3) سورة الإسراء الآية 23
(4) سورة الذاريات الآية 56
(5) سورة البقرة الآية 21
(6) صحيح البخاري الحج (1789) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1180) ، سنن الترمذي الحج (835) ، سنن النسائي مناسك الحج (2668) ، سنن أبو داود المناسك (1819) ، مسند أحمد بن حنبل (4/222) ، موطأ مالك الحج (728) .(7/135)
دعوى الجهل من أي أحد بين المسلمين فلو قال أحد، وهو بين المسلمين: إنني ما أعرف أن الزنى حرام فلا يعذر، أو قال: ما أعرف أن عقوق الوالدين حرام فلا يعذر بل يضرب ويؤدب، أو قال: ما أعرف أن اللواط حرام فلا يعذر، لأن هذه أمور ظاهرة معروفة بين المسلمين في الإسلام.
لكن لو كان في بعض البلاد البعيدة عن الإسلام أو في مجاهل أفريقيا التي لا يوجد حولها مسلمون قد يقبل منه دعوى الجهل وإذا مات على ذلك يكون أمره إلى الله ويكون حكمه حكم أهل الفترة والصحيح أنهم يمتحنون يوم القيامة، فإن أجابوا وأطاعوا دخلوا الجنة وإن عصوا دخلوا النار، أما الذي بين المسلمين ويقوم بأعمال الكفر بالله ويترك الواجبات المعلومة، فهذا لا يعذر؛ لأن الأمر واضح والمسلمون بحمد الله موجودون، ويصومون ويحجون ويعرفون أن الزنى حرام وأن الخمر حرام وأن العقوق حرام وكل هذا معروف بين المسلمين وفاش بينهم فدعوى الجهل في ذلك دعوى باطلة والله المستعان.(7/136)
حكم من هجر والدته (1)
س: يسأل الأخ م. ق. ل من جيزان يقول: هناك رجل طالب علم يصلي ويصوم ويتصدق لكن مع الأسف قد هجر أمه. فهل صلاته وصدقته وصومه تنفعه وهو هاجر لأمه لا يلتفت إليها وهي مؤمنة تصلي وتصوم ونحن نعرفها بذلك؟
ج: هجر المسلم لأمه منكر وعقوق عظيم ويجب عليه التوبة إلى الله من ذلك وعليه أن يرجع إلى برها والإحسان إليها والأخذ بخاطرها واستسماحها هذا هو الواجب عليه وليس له أن يبقى على الهجر والعقوق، لأن هذا منكر عظيم وكبيرة عظيمة فيجب عليه تركها واستسماح والدته وطلب رضاها والتوبة إلى الله من ذلك سبحانه وتعالى. أما صلاته وصومه وعباداته فلا تبطل. فعباداته صحيحة وأعماله صحيحة إذا أداها على الوجه الشرعي، ولكن يكون إيمانه ضعيفا بكون إيمانه ناقصا بهذه المعصية. فإن المعاصي عند أهل السنة تنقص الإيمان وتضعف الإيمان ولكن لا يكفر صاحبها إنما يكفر بالكبيرة عند الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، وهم ظلمة فجرة في هذا القول فقد أخطئوا وغلطوا عند أهل السنة والجماعة. وأما أهل السنة فإنهم يقولون: المعصية تنقص الإيمان ولكن لا يكون صاحبها كافرا ولا خالدا في النار بل هو عاص ومعصيته تنقص إيمانه وتضعف إيمانه وتسبب غضب الله عليه وهو
__________
(1) من برنامج نور على الدرب شريط رقم 53.(7/137)
على خطر منها بأن يدخل النار ولكن لا يكون كافرا، وحتى لو دخل النار لا يخلد فيها هكذا يقول أهل السنة والجماعة فيهم، لا يخلدون العصاة في النار إذا دخلوا بمعاصيهم.
فالحاصل أن هجره لأمه معصية وكبيرة بل وعقوق ولكن لا يكون ذلك من أسباب كفره ولا بطلان عمله إلا إذا استحل ذلك ورأى أن عقوق والديه حلال فهذا يكون كافرا نعوذ بالله من استحلال عقوق الوالدين. فإن من عمل ذلك ورأى أنه حلال أو استحل الربا ورأى أنه حلال أو استحل الزنا ورأى أنه حلال هذا يكون كافرا مرتدا عن الإسلام إلا أن يكون مشركا وجاهلا لبعده عن الإسلام كالذي نشأ في بلاد بعيدة عن الإسلام يجب أن يعلم أمور الإسلام ويبين له أن عقوق الوالدين مما حرمه الله على عباده، فالبر بالوالدين مما أوجبه الله على كل مسلم وإن عقوقهما مما حرمه الله، فإذا علم الجاهل وبين الأمر لمن دخل في الإسلام ثم أصر يكون كافرا نعوذ بالله وإذا كان طالب علم فكبيرته أشد نعوذ بالله من ذلك.(7/138)
وصف الأمة بالأمية
كثيرا ما نقرأ في الصحف ونرى إعلانات في الشوارع تشجب الأمية وتعدها من علامات التخلف والله تعالى وصف هذه الأمة بالأمية فقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} (1) فأرجو أن توضحوا ذلك؟ محمد. ع - الرياض.
الجواب: كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم من العرب والعجم لا يقرءون ولا يكتبون، ولهذا سموا أميين وكان الذين يكتبون ويقرأون منهم قليلين جدا بالنسبة إلى غيرهم وكان نبينا محمد لا يقرأ الكتابة ولا يكتب كما قال الله سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (2) وكان ذلك من دلائل صدق رسالته ونبوته عليه الصلاة والسلام، لأنه أتى إلى الناس بكتاب عظيم أعجز به العرب والعجم أوحاه الله إليه ونزل به عليه الروح الأمين جبرائيل عليه الصلاة والسلام وأوحى إليه سبحانه السنة المطهرة وعلوما كثيرة من علوم الأولين، وأخبره سبحانه بأشياء كثيرة مما كان في غابر الزمان ومما يكون في آخر الزمان ومما يكون في يوم القيامة، كما أخبره بأحوال الجنة والنار وأهلهما وكان ذلك مما فضله الله به على غيره وأرشد به الناس إلى منزلته العالية مع وصفه بالأمية، لأن ذلك من أوضح الأدلة على نبوته ورسالته
__________
(1) سورة الجمعة الآية 2
(2) سورة العنكبوت الآية 48(7/139)
ولهذا قال سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (1) أما وصف الأمة بالأمية فليس المقصود منه ترغيبهم في البقاء عليها وإنما المقصود الإخبار عن واقعهم وحالهم حين بعث الله إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم وقد دل الكتاب والسنة على الترغيب في التعلم والكتابة والخروج من وصف الأمية فقال الله سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (2) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (3) وقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (4) الآية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (5) » رواه الإمام مسلم في صحيحه. وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (6) » متفق على صحته والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وبالله التوفيق.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 48
(2) سورة الزمر الآية 9
(3) سورة المجادلة الآية 11
(4) سورة فاطر الآية 28
(5) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(6) سنن الترمذي العلم (2645) ، مسند أحمد بن حنبل (1/306) ، سنن الدارمي المقدمة (225) .(7/140)
أجر الصابرين في الدنيا والآخرة (1)
س: حدثنا لو تكرمتم عما وعد الله به الصابرين في الدنيا والآخرة والعاملين بطاعة الله؟
ج: إن الله خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له وأمرهم بذلك فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) وهذه العبادة التي خلقوا لها وأمروا بها هي أن يطيعوا أوامره وينتهوا عن نواهيه ويكثروا من ذكره. وأساس هذه العبادة هو توحيده سبحانه بدعائه وبخوفه ورجائه والإخلاص له في جميع العبادة من صلاة وصوم وغير ذلك.
وقد وعدهم الله الخير الكثير والعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة؟ وعدهم في الآخرة بالجنة والكرامة قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (4) وقال سبحانه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (5) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (6) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (7) وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (8) وقال عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (9)
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة البقرة الآية 21
(4) سورة هود الآية 49
(5) سورة البقرة الآية 155
(6) سورة البقرة الآية 156
(7) سورة البقرة الآية 157
(8) سورة الزمر الآية 10
(9) سورة النحل الآية 97(7/141)
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر (1) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن (2) » ، فالصابر له العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة أو له الجنة والكرامة في الآخرة إذا صبر على تقوى الله سبحانه وطاعته وصبر على ما ابتلي به من شظف العيش والفاقة والفقر والمرض ونحو ذلك؟ قال الله سبحانه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (3) إلى أن قال سبحانه: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (4)
والصبر والتقوى عاقبتهما حميدة في جميع الأحوال. قال تعالى في حق المؤمنين مع عدوهم: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (5)
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1469) ، صحيح مسلم الزكاة (1053) ، سنن الترمذي البر والصلة (2024) ، سنن النسائي الزكاة (2588) ، سنن أبو داود الزكاة (1644) ، مسند أحمد بن حنبل (3/94) ، موطأ مالك الجامع (1880) ، سنن الدارمي الزكاة (1646) .
(2) صحيح مسلم الزهد والرقائق (2999) ، مسند أحمد بن حنبل (6/16) ، سنن الدارمي الرقاق (2777) .
(3) سورة البقرة الآية 177
(4) سورة البقرة الآية 177
(5) سورة آل عمران الآية 120(7/142)
حكم الاستعانة بساحر لإخراج السحر
س: هل يجوز لي أن أستعين بساحر حتى يخرج لي السحر المتواجد في زرع الحوش ولا أستعين به إلا في هذا الموضوع فقط؟ أرجو من سماحتكم الرد السريع لأنني في ضرورة قصوى وجزاكم الله خيرا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. سيدة من الطائف.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعده:
لا يجوز الاستعانة بالسحرة في شيء من الأمور بل الواجب قتلهم والقضاء عليهم من جهة الدولة إذا ثبت عليهم تعاطي السحر من طريق المحاكم الشرعية ونوصيك بتقوى الله سبحانه وسؤاله الشفاء والعافية من كل سوء والتعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثلاث مرات صباحا ومساء وأن تقولي صباحا ومساء: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات وأن تقرئي آية الكرسي عند النوم، وبعد كل صلاة فريضة بعد الأذكار الشرعية، وأن تقرئي: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (2) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (3) ثلاث مرات بعد صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب وعند النوم، وبذلك تسلمين إن شاء الله من كل سوء، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بذلك شفاك الله وعافاك من كل سوء.
ونرى رفع الموضوع إلى رئيس الهيئة بالطائف وإظهاره عن محل الشخص المتهم بالسحر حتى نقيم الدعوى عليه لدى المحكمة لإجراء ما يلزم نحوه وفق الله الجميع لما يرضيه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الفلق الآية 1
(3) سورة الناس الآية 1(7/143)
اللعن كبيرة
نرى بصورة كبيرة انتشار اللعن لأتفه الأسباب بين كثير من الناس، كلعن الشخص المعين، ولعن الوالدين والأقارب. نرجو من سماحتكم بيان خطر ذلك على دين المسلم. .؟
إ. س - الرياض
الجواب: لعن المسلم بغير حق من كبائر الذنوب ومن المعاصي الظاهرة، وإذا كان اللعن للوالدين صار الإثم أكبر وأعظم لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن المؤمن كقتله (1) » متفق على صحته. وقال عليه الصلاة والسلام: «إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة (2) » رواه مسلم في صحيحه. . . وقال عليه الصلاة والسلام: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر (3) » متفق عليه. . وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله فقال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقول الزور أو قال: وشهادة الزور (4) » متفق على صحته. . ولا شك أن لعن الوالدين من أقبح العقوق، فالواجب على المسلمين عموما وعلى الأولاد خصوصا مع والديهم الحذر من هذه الجريمة وتطهر ألسنتهم منها حذرا من غضب الله وعقابه، وحرصا على بقاء المودة والأخوة بين المسلم وإخوانه وبين الولد ووالديه.
نسأل الله أن يوفق المسلمين لكل خير.
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6105) ، صحيح مسلم الإيمان (110) ، مسند أحمد بن حنبل (4/33) ، سنن الدارمي الديات (2361) .
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2598) ، سنن أبو داود الأدب (4907) ، مسند أحمد بن حنبل (6/448) .
(3) صحيح البخاري الإيمان (48) ، صحيح مسلم الإيمان (64) ، سنن الترمذي البر والصلة (1983) ، سنن النسائي تحريم الدم (4108) ، سنن ابن ماجه المقدمة (69) ، مسند أحمد بن حنبل (1/385) .
(4) صحيح البخاري الشهادات (2654) ، صحيح مسلم الإيمان (87) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3019) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) .(7/144)
حكم قتل الحشرات التي توجد في البيت
مثل النمل والصراصير وما أشبه ذلك
س: الحشرات التي توجد في البيت مثل النمل والصراصير وما أشبه ذلك هل يجوز قتلها بالماء أو بالحرق، وإن لم يجز فماذا نفعل؟
ج: هذه الحشرات إذا حصل منها الأذى تقتل لكن بغير النار من أنواع المبيدات. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خمس من الدواب كلهن فواسق يقتلن في الحل والحرم الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور (1) » ، وجاء في الحديث الآخر الصحيح ذكر الحية.
وهذا الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على شرعية قتل هذه الأشياء المذكورة وما في معناها من المؤذيات كالنمل والصراصير والبعوض والذباب والسباع دفعا لأذاها، أما إذا كان النمل لا يؤذي فإنه لا يقتل، لأن «النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد (2) » ، وذلك إذا لم يؤذ شيء منها.
أما إذا حصل منه أذى فإنه يلحق بالخمس المذكورة في الحديث. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1829) ، صحيح مسلم الحج (1198) ، سنن الترمذي الحج (837) ، سنن النسائي مناسك الحج (2887) ، مسند أحمد بن حنبل (6/87) ، سنن الدارمي المناسك (1817) .
(2) سنن أبو داود الأدب (5267) ، مسند أحمد بن حنبل (1/332) ، سنن الدارمي الأضاحي (1999) .(7/145)
الصبر على البلاء والترغيب فيه
س: ما حكم إنكار المنكر هل هو صبر على البلاء وكفى، وما صحة الأحاديث الواردة في الترغيب في الصبر على البلاء؟
ج: ليس من الصبر على البلاء عدم إنكار المنكر فالواجب عند وجود البلاء بالمنكرات هو إنكارها باليد أو باللسان أو بالقلب حسب الطاقة، لقول الله سبحانه {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) الآية وعلى المسلمين عند الابتلاء بالمنكرات سواء كان ذلك في البيت أو في الطريق أو في غيرها الإنكار ولا يجوز التساهل في ذلك.
أما الأحاديث الواردة في الصبر على البلاء فهي كثيرة ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل (2) » . . . الحديث وهو حديث صحيح، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم مثلا: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له (3) » رواه الإمام مسلم في صحيحه عن صهيب بن سنان رضي الله عنه، وقد قال الله سبحانه في كتابه الكريم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (4) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (5) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (6)
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سنن الترمذي الزهد (2398) ، سنن ابن ماجه الفتن (4023) ، مسند أحمد بن حنبل (1/172) ، سنن الدارمي الرقاق (2783) .
(3) صحيح مسلم الزهد والرقائق (2999) ، مسند أحمد بن حنبل (6/16) ، سنن الدارمي الرقاق (2777) .
(4) سورة البقرة الآية 155
(5) سورة البقرة الآية 156
(6) سورة البقرة الآية 157(7/146)
وقال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1) والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة نسأل الله أن يجعلنا وإخواننا من الصابرين إنه جواد كريم. ومما ورد في الأحاديث في الصبر على البلاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده أو في ماله أو في ولده حتى يلقى الله سبحانه وما عليه خطيئة (2) » رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة.
وبعض الناس يظن أن هذا الذي يصاب بالأمراض ونحوها مغضوب عليه وليس الأمر كذلك فإنه قد يبتلى بالمرض والمصائب من هو من أعز الناس عند الله وأحبهم إليه كالأنبياء والرسل وغيرهم من الصالحين كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء الأنبياء (3) » الحديث وكما حصل لنبينا صلى الله عليه وسلم في مكة وفي يوم أحد وغزوة الأحزاب وعند موته صلى الله عليه وسلم وكما حصل لنبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام، ولنبي الله يونس عليه الصلاة والسلام، وذلك ليرفع شأنهم ويعظم أجورهم وليكونوا أسوة صالحة للمبتلين بعدهم.
وقد يبتلى الإنسان بالسراء كالمال العظيم والنساء والأولاد وغير ذلك فلا ينبغي أن يظن أنه بذلك يكون محبوبا عند الله إذا لم يكن مستقيما على طاعته، فقد يكون من حصل له ذلك محبوبا، وقد يكون مبغوضا، والأحوال تختلف والمحبة عند الله ليست بالجاه
__________
(1) سورة الزمر الآية 10
(2) سنن الترمذي الزهد (2399) ، مسند أحمد بن حنبل (2/287) .
(3) سنن الترمذي الزهد (2398) ، سنن ابن ماجه الفتن (4023) ، مسند أحمد بن حنبل (1/180) ، سنن الدارمي الرقاق (2783) .(7/147)
والأولاد والمال والمناصب وإنما تكون المحبة عند الله بالعمل الصالح والتقوى لله والإنابة إليه والقيام بحقه وكل من كان أكمل تقوى كان أحب إلى الله.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب وإنما يعطي الإيمان والدين من أحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه (1) » ، فمن ابتلي بالكفر والمعاصي فهذا دليل على أنه مبغوض عند الله على حسب حاله ثم أيضا قد يكون الابتلاء استدراجا فقد يبتلى بالنعم يستدرج بها حتى يقع في الشر وفيما هو أسوأ من حاله الأولى قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} (2) {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (3) روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب على معصيته فاعلم أنما هو استدراج، ثم قرأ قوله تعالى: (5) » أي آيسون من كل خير والعياذ بالله.
ويقول جل وعلا: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} (6) {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} (7)
وقد يبتلى الناس بالأسقام والأمراض ونحو ذلك لا عن بغض ولكن لحكمة بالغة منها رفع الدرجات وحط الخطايا كما تقدم بيان ذلك.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/387) .
(2) سورة الأعراف الآية 182
(3) سورة الأعراف الآية 183
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/145) .
(5) سورة الأنعام الآية 44 (4) {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}
(6) سورة المؤمنون الآية 55
(7) سورة المؤمنون الآية 56(7/148)
المذاهب الأربعة ومدى صحتها
س: المذاهب الأربعة: الحنبلية والشافعية والمالكية والحنفية - هل هي صحيحة وفي أي زمن وجدت؟
ج: هذه المذاهب الأربعة هي مذاهب معروفة انتشرت في القرن الثاني وما بعده. أما مذهب أبي حنيفة فقد عرف وانتشر في القرن الثاني وهكذا مذهب مالك في القرن الثاني - وأما مذهب الإمام الشافعي وأحمد فانتشر مذهبهما في القرن الثالث وكلهم على خير وهدى وهدفهم تحري الحق الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولكن ليس معناه أن كل واحد منهم معصوم ولا يقع منه الخطأ بل كل واحد منهم له أغلاط حسب ما بلغهم من السنة وحسب ما عرفوه من كتاب الله عز وجل.
فقد يفوت بعضهم شيء من العلم بكتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفتي بما علم. وهذا أمر معلوم عند أهل العلم.
ويلتحق بهؤلاء الأربعة غيرهم من أهل العلم كالأوزاعي وإسحاق بن راهويه وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح وغيرهم من الأئمة المعروفين - فكل واحد منهم يجتهد فيما وصل إليه من العلم فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر اجتهاده وإن فاته أجر الصواب كما صحت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم. والله ولي التوفيق.(7/149)
الأخلاق الإسلامية (1)
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن موضوع هذه الكلمة هو بيان الأخلاق الإسلامية التي ينبغي لكل مؤمن ولكل مؤمنة التخلق بها والاستقامة عليها حتى الموت، وما ذاك إلا لأن الله سبحانه خلق الثقلين لعبادته ووعدهم عليها أحسن الجزاء إذا استقاموا عليها، وأعد لأوليائه المستقيمن على الأخلاق التي أمر بها ودعا إليها الجنة والكرامة مع التوفيق في الدنيا والإعانة على الخير، وأعد لمن حاد عنها واستكبر عنها دار الهوان وهي النار وبئس المصير نسأل الله العافية.
والأخلاق الإسلامية هي التي أمر الله بها في كتابه العظيم، أو أمر بها رسوله الكريم محمد عليه الصلاة والسلام، أو مدح أهلها وأثنى عليهم ووعدهم عليها الأجر العظيم والفوز الكبير، ومنها الأخلاق التي وعد الرب عز وجل أو الرسول من تركها وهجرها الجزاء الحسن، فإن ترك المذموم من الخلق الممدوح، ففعل المأمورات وترك المحظورات هو جماع الأخلاق التي أمر الله بها ودعا إليها أو أمر بها الرسول ودعا إليها أو مدح أهلها،
__________
(1) محاضرة ألقيت في جامع الطائف بتاريخ 5 \ 2 \ 1412 هـ.(7/150)
وهذه هي العبادة التي خلق لها الثقلان في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) والمعنى يعبدونه سبحانه وتعالى بفعل المأمور من صلاة وصوم وأعظم ذلك توحيده والإخلاص له، وترك المحظور الذي نهى عنه وأعظم ذلك الشرك بالله ودعوة غيره معه وسائر أنواع الكفر والضلال.
وهذه الأخلاق التي هي فعل المأمور وترك المحظور هي التي بعث الله بها الرسل جميعا عليهم الصلاة والسلام من عهد آدم أول رسول أرسل إلى أهل الأرض، وعهد نوح الذي هو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض بعد أن وقع فيهم الشرك إلى آخرهم إلى خاتمهم وأفضلهم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فأبونا آدم عليه الصلاة والسلام رسول أرسل لأهل الأرض ونبي كريم شرع الله له التوحيد، وشرع له شرائع وسار عليها هو وذريته حتى وقع الشرك في قوم نوح، فأرسل الله نوحا إلى أهل الأرض وهو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض بعدما وقع الشرك فيهم، فدعا إلى توحيد الله وأنكر الشرك بالله، وأقام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى توحيد الله وطاعته وترك الإشراك به ومعصيته، ثم بعث الله الرسل عليهم الصلاة والسلام بعد ذلك كلهم يدعون إلى توحيد الله وطاعته وترك ما نهى عنه سبحانه وتعالى؟ قال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) وقال تعالى:
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة النحل الآية 36(7/151)
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (1) ثم ختمهم جميعا بأفضلهم وإمامهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فهو خاتم الأنبياء وخاتم المرسلين ليس بعده نبي ولا رسول كما قال الله عز وجل: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (2) وخاتم النبين هو خاتم المرسلين لأن كل رسول نبي ولا ينعكس، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، وخاتم النبيين هو خاتم المرسلين عليهم الصلاة والسلام، والدعوة التي دعا إليها هي الدعوة التي دعا إليها إخوانه المرسلين وهي توحيد الله عز جل والإخلاص له وفعل ما أمر به سبحانه من الطاعات وترك ما نهى عنه من المعاصي.
وهذه الأخلاق بينها الله في كتابه العظيم وبينها الرسول عليه الصلاة والسلام، بينها في القرآن الكريم في غالب سور القرآن بينها آمرا بها وداعيا إليها ومثنيا على أهلها ومحذرا من أضرارها من الإشراك بالله وسائر المعاصي.
والله سبحانه بعث رسوله عليه الصلاة والسلام يدعو إلى ذلك كما في الحديث الصحيح وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق (3) » ، وفي اللفظ الآخر: «لأتمم مكارم الأخلاق» ، فبعثه الله ليدعو الناس لمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال.
وأساسها توحيد الله والإخلاص له هذا هو أصل الأخلاق الكريمة وأساسها وأعظمها وأوجبها وهو توحيد الله والإخلاص له وترك الإشراك به، ثم يلي ذلك الصلوات الخمس
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 25
(2) سورة الأحزاب الآية 40
(3) مسند أحمد بن حنبل (2/381) .(7/152)
فهي أعظم الأخلاق وأهمها بعد التوحيد وترك الإشراك بالله سبحانه وتعالى، وقد وصف الله سبحانه وتعالى نبيه بأنه على خلق عظيم فقال جل وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) وخلقه صلى الله عليه وسلم هو اتباع القرآن والسير على منهج القرآن فعلا للأوامر وتركا للنواهي، هذا هو خلقه عليه الصلاة والسلام؟ كما قالت أم المؤمنين رضي الله عنها عائشة لما سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كان خلقه القرآن (2) » ، والمعنى أنه كان يعمل بأوامر القرآن وينتهي عن نواهي القرآن ويسير على المنهج الذي رسمه القرآن - عليه الصلاة والسلام - فهذا هو الخلق العظيم الذي أعطاه الله نبيه وهو الامتثال لأوامر الله وترك نواهيه والاستقامة على الأخلاق والأعمال التي يحبها ويرضاها سبحانه وتعالى.
ومن تدبر القرآن الكريم واعتنى به وأكثر من تلاوته يريد فهم هذه الأخلاق ويريد العلم بها وجد ذلك. يقول سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) ويقول سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (4) ويقول سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (5) ويقول عز وجل: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (6) ويقول سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (7)
__________
(1) سورة القلم الآية 4
(2) سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1601) ، سنن أبو داود الصلاة (1342) ، مسند أحمد بن حنبل (6/91) .
(3) سورة ص الآية 29
(4) سورة الإسراء الآية 9
(5) سورة محمد الآية 24
(6) سورة الأنعام الآية 155
(7) سورة النحل الآية 89(7/153)
فهذا الكتاب العظيم فيه بيان الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، وبيان الأخلاق الذميمة والأعمال السيئة ليحذرها المؤمن ويحذرها إخوانه المسلمين، وليحذر أعمال الكافرين والمنافقين والفجار والمجرمين، لأن الله سبحانه بينها ليحذرها عباده المؤمنون، كما بين الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة ليأخذ بها المؤمنون وليستقيموا عليها.
فعلينا جميعا رجالا ونساء أن نتدبر كتاب الله وأن نتعقل كتاب الله في جميع الأوقات ليلا ونهارا حتى نعرف هذه الصفات وهذه الأخلاق التي يحبها سبحانه ويرضاها، وحتى نعرف الصفات والأخلاق التي يذمها ويعيبها وينهى عنها، والرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله مبينا في أعماله وأقواله وسيرته الحميدة كل ما يحبه الله ويرضاه، وناهيا عن كل ما يبغضه ويباعد عن رحمته؟ قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) وقال سبحانه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2)
فهو عليه الصلاة والسلام يبين لنا الأخلاق والصفات التي يرضاها ربنا والتي أمرنا بها سبحانه وتعالى، ويبين لنا أيضا بتفسيره وسنته ما قد يخفى علينا من الأخلاق والأعمال التي ذمها وعابها سبحانه وتعالى، ومن ذلك ما بينه سبحانه في سورة الفاتحة فإنه أنزلها ليستقيم عليها المؤمنون ويعملوا بمقتضاها وهي أم القرآن علمهم
__________
(1) سورة النحل الآية 44
(2) سورة النحل الآية 64(7/154)
كيف يحمدونه ويثنون عليه ويطلبون منه الهداية سبحانه وتعالى، وهذه من الأخلاق العظيمة أن تكثر الثناء على ربك وتحمده، وأن تعترف بأنك عبده وأنه معبودك الحق وأنه المستعان هذا من الأخلاق العظيمة وأن تطلب منه الهداية والتوفيق قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (2) {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (3) تعليما لعباده سبحانه أن يثنوا عليه بهذه الأسماء العظيمة ويقول بعد هذا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (4) {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (5) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (6)
وقال جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين (7) » يعني الفاتحة - سماها صلاة لأنها ركن الصلاة - فإذا قال العبد: «الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي وإذا قال: الرحمن الرحيم قال الله: أثنى علي عبدي وإذا قال: مالك يوم الدين قال الله: مجدني عبدي (8) » لأن التمجيد كثرة الثناء «وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين قال الله سبحانه: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل (9) » .
فإياك نعبد حق الله، وإياك نستعين حاجة العبد ومطلوبه أن يستعين بربه لأنه المستعان سبحانه وتعالى المالك لكل شيء جل وعلا القادر على كل شيء يستعين به العبد في عبادته وطاعته وترك معصيته، ويستعين به أيضا في أموره الخاصة من أمور الدنيا كما في حديث ابن عباس: «فإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله (10) » فربك هو المستعان وهو المعبود بالحق، فيعلمك سبحانه أن
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 2
(2) سورة الفاتحة الآية 3
(3) سورة الفاتحة الآية 4
(4) سورة الفاتحة الآية 5
(5) سورة الفاتحة الآية 6
(6) سورة الفاتحة الآية 7
(7) صحيح مسلم الصلاة (395) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2953) ، مسند أحمد بن حنبل (2/286) ، موطأ مالك النداء للصلاة (189) .
(8) صحيح مسلم الصلاة (395) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2953) ، مسند أحمد بن حنبل (2/286) ، موطأ مالك النداء للصلاة (189) .
(9) صحيح مسلم الصلاة (395) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2953) ، مسند أحمد بن حنبل (2/286) ، موطأ مالك النداء للصلاة (189) .
(10) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، مسند أحمد بن حنبل (1/308) .(7/155)
تقول: إياك نعبد وإياك نستعين هذا بينك وبين ربك، إياك نعبد حقه عليك، وإياك نستعين حاجتك إليه تستعين بربك على أمر دينك ودنياك.
فعبادته وحده هي أعظم الأخلاق أن تعبده وحده وتخصه بالعبادة، لا تعبد معه ملكا ولا نبيا ولا وليا ولا صنما ولا شجرا ولا كوكبا ولا غير ذلك، تعبده وحده سبحانه وتعالى؟ قال عز وجل: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (3) وهو المعبود بالحق جل وعلا كما قال سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (4)
وهذه العبادة هي أعظم الواجبات وأعظم الحقوق وأعظم الأخلاق أن تعبده وحده أينما كنت في الشدة والرخاء في الصحة والمرض في السفر والإقامة حتى تلقى ربك لا تصل إلا له ولا تدع إلا إياه، ولا تستغث إلا به ولا تذبح إلا له، ولا تنذر إلا له، ولا تتصدق إلا له، تقصد بأعمالك كلها وجهه سبحانه وتعالى دون كل من سواه، لأن العبادات كلها يجب أن تكون لله وحده؟ قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (5) وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (6) وكل العبادات التي أمر الله بها وشرعها لنا يجب أن تكون لله وحده، فلا يستغاث بالأموات ولا ينذر لهم ولا يطلب منهم النصر على الأعداء ولا شفاء المرضى، ولا يطلب من الأنبياء
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة الحج الآية 62
(5) سورة الفاتحة الآية 5
(6) سورة الإسراء الآية 23(7/156)
ولا من الكواكب ولا من الملائكة ولا من الجن ولا من غير ذلك، كل هذا يختص بالله وحده فهو الذي يدعى ويرجى ويسأل سبحانه وتعالى.
أما المخلوق الحي فلا بأس أن يسأل فيما يقدر عليه فيما يجيزه شرع الله المطهر بينك وبينه، كما قال الله في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (1)
وقال تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} (2) فلا بأس في الأشياء الحسية الدنيوية أن تخشى اللص والسراق فتغلق بابك أو تجعل عليه حراسة خوفا من شرهم كما قال تعالى عن موسى عليه السلام: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} (3) خرج من مصر خائفا يترقب من شر الفراعنة وهذا من الأسباب الحسية التي شرعها الله لعباده.
وهكذا قول الله سبحانه وتعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (4) والمعنى أنه استغاثه الإسرائيلي على القبطي فأغاثه موسى لأنه حي موجود قادر على المطلوب، فإذا قلت لصاحبك: يا فلان أعني على إصلاح سيارتي، وهو حاضر يسمعك فلا بأس بذلك فليس هذا من العبادة، وهكذا لو قلت يا أخي أقرضني كذا وكذا من المال، ساعدني على بناء هذا البيت وهو من خواص إخوانك القادرين تطلب منه المساعدة في شيء يقدر عليه فهذا ليس من العبادة أيضا ولا بأس به في الحدود الشرعية، أما أن تأتي لميت فتقول: يا فلان أو يا سيدي فلان انصرني أو اشف مريضي أو نحو
__________
(1) سورة القصص الآية 15
(2) سورة القصص الآية 21
(3) سورة القصص الآية 21
(4) سورة القصص الآية 15(7/157)
ذلك فهذا شرك أكبر، أو تطلب من الجن أن يغيثوك ويمنعوك من عدوك، أو تطلب من الملائكة أو من الأنبياء الذين قد ماتوا فهذا من الشرك الأكبر، أو تدعو الشمس أو القمر أو النجوم وتسألها النصر أو الغوث على الأعداء وما أشبه ذلك فكل هذا من الشرك الأكبر المخالف لما بينه الله في قوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) وهذا هو توحيد الله وهذا هو الخلق العظيم خلق الرسل وأتباعهم توحيد الله والإخلاص له دون كل ما سواه سبحانه وتعالى.
وهكذا طلب الهداية تطلب من ربك الهداية فأنت في حاجة إلى الهداية ولو كنت أتقى الناس ولو كنت أعلم الناس، أنت في حاجة إلى الهداية حتى تموت ولهذا علمنا سبحانه في الفاتحة أن نقول في كل ركعة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (2) في اليوم والليلة سبع عشرة مرة في الفريضة غير النافلة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (3) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (4)
وكان النبي وهو أعلم الناس وأكمل الناس هداية عليه الصلاة والسلام ومع هذا يقول في استفتاحه في الصلاة: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراطك المستقيم (5) » ، يطلب من ربه الهداية وهو سيد ولد آدم قد هداه الله وأعطاه كل خير، ومع هذا يطلب من ربه الهداية فإننا كلنا في حاجة إلى الهداية، العالم والمتعلم والعامة والخاصة والرجال والنساء كلنا في حاجة إلى الهداية.
ولهذا شرع الله لنا أن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (6) والمعنى دلنا على الخير وأرشدنا إليه
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) سورة الفاتحة الآية 6
(3) سورة الفاتحة الآية 6
(4) سورة الفاتحة الآية 7
(5) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (770) ، سنن الترمذي الدعوات (3420) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1625) ، سنن أبو داود الصلاة (767) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) ، مسند أحمد بن حنبل (6/156) .
(6) سورة الفاتحة الآية 6(7/158)
وثبتنا عليه، والصراط المستقيم هو دين الله وهو القرآن والسنة يعني ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فهذا هو الصراط المستقيم وهو الإسلام وهو الإيمان والبر والتقى وهو دين الله.
تطلب من ربك الهداية لهذا الصراط أن تستقيم عليه وأن يثبتك عليه حتى تموت وأنت على هذا الصراط وهو صراط المنعم عليهم من الرسل وأتباعهم وهو الصراط الذي استقاموا عليه وساروا عليه قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (1) ثم يقول تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (2) والمعنى أنك تسأله أن يجنبك طريق هؤلاء المغضوب عليهم والضالين، والمغضوب عليهم هم الذين عرفوا الحق ولم يعملوا به وهم اليهود وأشباههم، والضالون هم الجهال الذين يتعبدون على غير علم وهم النصارى وأشباههم، تسأل الله أن يجنبك طريق هؤلاء وهؤلاء، وأن يهديك طريق المنعم عليهم وهم الرسل وأتباعهم أهل العلم والعمل الذين عرفوا الحق وعملوا به هؤلاء هم أهل الصراط المستقيم، تسأل الله أن يهديك طريقهم وأن يمنحك العلم النافع والعمل الصالح حتى تستقيم، وهذا كله من الأخلاق العظيمة، وقال سبحانه في أول سورة البقرة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (3) {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (4) {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (5) {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (6)
__________
(1) سورة النساء الآية 69
(2) سورة الفاتحة الآية 7
(3) سورة البقرة الآية 2
(4) سورة البقرة الآية 3
(5) سورة البقرة الآية 4
(6) سورة البقرة الآية 5(7/159)
هذه من الأخلاق الفاضلة أيضا، من أخلاق المؤمنين، والإقامة للصلاة، والإيمان بالغيب، والإيمان بالله ورسوله، والإيمان بالآخرة، والإيقان بها، والإيمان بالرسل الماضين وما أنزل إليهم كل هذا من الأخلاق العظيمة، ومنها الإنفاق والجود والكرم كل هذا من الأخلاق العظيمة وهكذا يقول سبحانه في سورة البقرة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (1) هذه أيضا من صفات الأخيار.
وهذه من الأخلاق العظيمة التي مدحها الله وأخبر سبحانه أن أهلها هم الصادقون المتقون، فعليك بهذه الأخلاق استقم عليها، وهكذا في سورة آل عمران في أثنائها يقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (3) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (5) اسمع ما مدحهم الله به من الأخلاق، واستقم عليها، ثم قال سبحانه في وصف المتقين: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (6)
__________
(1) سورة البقرة الآية 177
(2) سورة آل عمران الآية 130
(3) سورة آل عمران الآية 131
(4) سورة آل عمران الآية 132
(5) سورة آل عمران الآية 133
(6) سورة آل عمران الآية 134(7/160)
هذه من أخلاقهم العظيمة من أخلاق المتقين ومنها ما ذكره الله سبحانه بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} (1) والفاحشة هي المعصية. . .
هذه من أخلاقهم العظيمة التوبة والاستغفار من جميع المعاصي ثم قال سبحانه: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (2) فليس هناك غافر إلا الله جل وعلا فهو سبحانه الذي يغفر الذنوب ويقبل التوبة. ثم قال جل وعلا: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (3) والمعنى أنهم لم يقيموا على المعاصي بل تابوا وأقلعوا منها خوفا من الله سبحانه وتعظيما له، وهذه من أخلاقهم العظيمة أخلاق أهل الإيمان {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (4) هذا هو جزاء التائبين الصادقين، فالمؤمنون والمؤمنات هذه أخلاقهم: التقوى لله والاستقامة على هذا الدين والإنفاق في السراء والضراء والشدة والرخاء، ولو بدرهم واحد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا النار ولو بشق تمرة (5) »
وفي سورة براءة ذكر سبحانه أيضا جملة من أخلاقهم وذلك في قوله سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (6)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 135
(2) سورة آل عمران الآية 135
(3) سورة آل عمران الآية 135
(4) سورة آل عمران الآية 136
(5) صحيح البخاري الزكاة (1417) ، صحيح مسلم الزكاة (1016) ، سنن النسائي الزكاة (2552) ، مسند أحمد بن حنبل (4/256) .
(6) سورة التوبة الآية 71(7/161)
هذه من أخلاق أهل الإيمان الرجال والنساء بعضهم أولياء بعض، والأولياء فيما بينهم من أخلاقهم: المحبة والتواصي بالخير، والتعاون على البر والتقوى، فلا يغتاب بعضهم بعضا، ولا ينم عليه، ولا يشهد عليه بالزور، ولا يظلمه، هكذا المؤمنون والمؤمنات أولياء ليسوا متباغضين، ولا متحاسدين، ولا متشاحنين، ولا يكذب بعضهم على بعض، ولا يغتابه، ولا ينم عليه، ولا يشهد عليه بالزور، ولا يظلمه في قول ولا عمل ولا دم ولا مال، ولا يغشه في معاملة، ولا يخونه في جميع الأحوال.
ثم قال سبحانه: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} (1) هكذا أينما كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بالأسلوب الحسن وبالطريقة الحميدة وبالعلم والبصيرة كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (2) فهم يأمرون عن بصيرة وينهون عن بصيرة، والمعروف ما أمر الله به ورسوله، والمنكر ما أنكره الله ورسوله ونهى عنه، هكذا المؤمنون والمؤمنات إذا رأوا من بعض إخوانهم تقصيرا في طاعة الله أمروهم بمعروف، وإن رأوهم يتخلفون عن الصلاة في الجماعة قالوا لهم: اتقوا الله وحافظوا على الجماعة فهي مفروضة عليكم ولا تتشبهوا بالمنافقين، وهكذا لو رأيته يتعاطى الربا نصحته لله، أو رأيته يجالس من ليس من الطيبين تنصحه وتذكره بالله فالمؤمن مرآة أخيه المؤمن، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم مثلا.
هذه من صفات المؤمنين وأخلاقهم دعاة
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة يوسف الآية 108(7/162)
إلى الله ناصحون لله ولعباده يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لكن بالأساليب الطيبة، لا بالعنف والشدة حتى يقبل منهم الحق وحتى يستفيدوا ويستفاد منهم قال الله تعالى في كتابه العظيم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (1) وقال سبحانه في دعوة الكفار: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وهم اليهود والنصارى {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (3) فمن ظلم يعامل بما يستحق، وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (4) هكذا المؤمن من أخلاقه العظيمة الدعوة بالتي هي أحسن ويجادل بالتي هي أحسن يرفق بالناس يقول النبي: «إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف (5) » ، ويقول عليه الصلاة والسلام: «إن الرفق لا يكون في الشيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (6) » ، ويقول أيضا عليه الصلاة والسلام: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (7) » ، فلا بد من صبر ولا بد من حلم ولا بد من رفق في أمرك ونهيك ودعوتك.
ويقول سبحانه في آخر سورة التوبة لما ذكر المجاهدين قال في وصفهم: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} (8) هذه أخلاق أهل الإيمان، والجهاد قبلها يقول
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2) سورة العنكبوت الآية 46
(3) سورة العنكبوت الآية 46
(4) سورة النحل الآية 125
(5) صحيح البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6927) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2593) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2701) ، مسند أحمد بن حنبل (6/37) .
(6) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/171) .
(7) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2592) ، سنن أبو داود الأدب (4809) ، سنن ابن ماجه الأدب (3687) ، مسند أحمد بن حنبل (4/366) .
(8) سورة التوبة الآية 112(7/163)
سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) ثم ذكر صفاتهم فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} (2) هذه صفات الأخيار من أهل الإيمان والجهاد، وقال سبحانه في سورة يونس عليه الصلاة والسلام: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) ثم بينهم فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (4) هؤلاء أولياء الله إذا أردت أن تصير منهم فعليك بهذا الخلق العظيم، وهو الإيمان الصادق بالله ورسوله وبكل ما أخبر الله به ورسوله، والتقوى بطاعة الأوامر وترك النواهي، فمن تخلق بهذا الخلق فهو من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وهم: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (5)
والمعنى أنهم آمنوا بالقلوب وصدقوا بالأقوال والأعمال، فهؤلاء هم أولياء الله الذين آمنوا بأن الله هو الواحد المستحق للعبادة وصدقوا ذلك بالعمل ووحدوا الله وخصوه بالعبادة وتركوا الإشراك به، وعرفوا أن الله أوجب الصلاة فصلوا وحافظوا عليها في الجماعة
__________
(1) سورة التوبة الآية 111
(2) سورة التوبة الآية 112
(3) سورة يونس الآية 62
(4) سورة يونس الآية 63
(5) سورة يونس الآية 63(7/164)
وعرفوا الزكاة فأدوا الزكاة وأنها فريضة، وهكذا عرفوا الصوم وأنه من أخلاق المؤمنين فريضة فصاموا رمضان، وعرفوا الحج فأدوه كما أمر الله، وعرفوا الجهاد فجاهدوا، وهكذا عرفوا المحارم فاجتنبوها وحذروها مثل الزنى وعقوق الوالدين وشرب المسكر والربا وأكل مال اليتامى وغير هذه المحرمات عرفوها واجتنبوها، طاعة لله وتعظيما له ورغبة فيما عنده سبحانه وتعالى، هكذا المؤمنون الصادقون والمؤمنات الصادقات.
وقال سبحانه في سورة المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (1) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2) {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (3) {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (4) {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (5) {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (6) {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (7) {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (8) {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (9) {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} (10) {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (11)
هذه أخلاق المؤمنين في كل مكان وزمان يذكرها سبحانه ليعلمها العباد ويستقيموا عليها ويحفظوها ومعنى قوله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (12) أي فازوا وظفروا بكل خير وحصلوا على كل خير ثم ذكر صفاتهم فقال: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (13) بدأ بالخشوع في الصلاة لعظم شأنه وشأن الصلاة، فإذا دخلت في الصلاة فاخشع فيها لربك، واطمئن وأقبل عليها بقلبك وبدنك حتى تكتب لك كاملة ويحصل لك الأجر العظيم، وإياك والوسوسة وقت
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 1
(2) سورة المؤمنون الآية 2
(3) سورة المؤمنون الآية 3
(4) سورة المؤمنون الآية 4
(5) سورة المؤمنون الآية 5
(6) سورة المؤمنون الآية 6
(7) سورة المؤمنون الآية 7
(8) سورة المؤمنون الآية 8
(9) سورة المؤمنون الآية 9
(10) سورة المؤمنون الآية 10
(11) سورة المؤمنون الآية 11
(12) سورة المؤمنون الآية 1
(13) سورة المؤمنون الآية 2(7/165)
الصلاة وإياك والخوض هاهنا وهاهنا بالأفكار والهواجس أقبل على صلاتك واخشع فيها لربك واجمع عليها قلبك تفلح غاية الفلاح ثم قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (1) والمعنى أنهم يعرضون عن كل باطل، وقد فسر اللغو بالشرك وبالمعاصي وبكل ما لا خير فيه، فالمؤمن في صلاته يجتنب ذلك كله ثم قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (2) والزكاة هنا تشمل زكاة المال وزكاة النفس، وهكذا المؤمن يزكي نفسه بطاعة الله ورسوله ويزكي ماله بأداء الحق الذي عليه، ثم قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (3) {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (4) فالمؤمن حافظ فرجه إلا من زوجته أو سريته وهي ملك يمينه، وهكذا المؤمنة تحفظ فرجها إلا من زوجها أو سيدها وهو مالكها إذا كان لها سيد مالك، فمن فعل الزنى أو اللواط أو أتى المرأة في دبرها أو في حالة الحيض أو النفاس أو تعاطى العادة السرية - وهي الاستمناء - ولم يحفظ فرجه صار عاديا أي ظالما، فالمؤمن يأتي زوجته في قبلها في غير الحيض والنفاس وفي غير الإحرام بل في الوقت الذي أباح الله له أن يأتيها فيه، ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (5) هكذا المؤمن والمؤمنة يحفظ الأمانة ويؤديها ولا يخونها أبدا عملا بهذه الآية وبقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (6) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (7)
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 3
(2) سورة المؤمنون الآية 4
(3) سورة المؤمنون الآية 5
(4) سورة المؤمنون الآية 6
(5) سورة المؤمنون الآية 8
(6) سورة النساء الآية 58
(7) سورة الأنفال الآية 27(7/166)
فلا بد من أداء الأمانة ورعايتها وقد عظم الله شأنها فقال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (1) فالأمانة أمرها عظيم، والأمانة أمانتان أمانة الله، وأمانة العباد، فعليك أن تؤدي أمانة الله من صلاة وصوم وغير ذلك من الفرائض على الوجه الذي شرعه الله، وعليك أن تؤدي أمانات الناس من ودائع ورهون وعواري وغير ذلك، فعليك أن تؤدي الأمانتين وترعاهما بكل صدق وبكل حرص وبكل عناية.
وقال سبحانه في سورة المعارج: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} (2) والمعنى أنهم لا يزيدون عليها ولا ينقصون بل يؤدون الشهادة كما أمر الله بدون زيادة ولا نقصان ولا كتمان، عملا بهدي الله وبقوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (3) والشهادة بالزور من أكبر الكبائر، فالمؤمن والمؤمنة يشهدان بالحق الذي عندهما لا يزيدان ولا ينقصان، ولا يكتمان الشهادة بل يؤديانها كما حفظا وكما رأيا وكما سمعا.
ثم قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (4) هكذا المؤمنون والمؤمنات يحافظون على الصلاة ويؤدونها في وقتها فالرجل يؤديها في الجماعة كما أمر الله بذلك، والمرأة تؤديها في بيتها في وقتها
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 72
(2) سورة المعارج الآية 33
(3) سورة البقرة الآية 283
(4) سورة المؤمنون الآية 9(7/167)
كذلك.
وكل ما تقدم من الأخلاق التي أمر الله بها يجب على كل مؤمن ومؤمنة مراعاتها والمحافظة عليها، وقد وعدهم الله سبحانه على ذلك بالفردوس الأعلى في دار النعيم في قوله سبحانه في خاتمة الآيات: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} (1) {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2) ويقول سبحانه في سورة الحجرات: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (3) فمن أخلاق المؤمنين والمؤمنات الصدق واليقين الكامل في إيمانهم بالله ورسوله وبكل ما أخبر الله به ورسوله، والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس.
وقال سبحانه في سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (4)
هذه الصفات هي صفات المؤمنين والمؤمنات وأخلاقهم ذكرها الله سبحانه في هذه الآية ترغيبا فيها وحثا عليها وهي عشر صفات لأهل الإيمان من الرجال والنساء فقال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} (5) وهم الذين دخلوا في الإسلام ووحدوا الله وانقادوا لشرعه واعتقدوا
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 10
(2) سورة المؤمنون الآية 11
(3) سورة الحجرات الآية 15
(4) سورة الأحزاب الآية 35
(5) سورة الأحزاب الآية 35(7/168)
الإسلام ودانوا به {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (1) يعني أنهم مع خضوعهم لله ظاهرا هم مؤمنون أيضا بالقلوب ومصدقون لا كالمنافقين.
{وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} (2) القنوت دوام الطاعة يعني أنهم مع إسلامهم وإيمانهم استقاموا على طاعة الله ورسوله. {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} (3) والمعنى أنهم صابرون على طاعة الله وعلى ترك معصيته رجالا ونساء ولا شك أن الصبر من أخلاق المؤمنين والمؤمنات فهم صابرون على الطاعة، وصابرون عن المعصية، وصابرون على المصائب وهذه أنواع الصبر فمن استكملها استكمل دينه.
وقوله: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} (4) والمعنى أنهم خاشعون في طاعة الله ورسوله، فهم يؤدون صلواتهم في خشوع وخضوع وطمأنينة، وهم مع ذلك متواضعون في جميع أعمالهم غير متكبرين ولا فخرين، عملا بهذه الآية الكريمة وبالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد (5) » ، رواه الإمام مسلم في صحيحه. {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} (6) يعني أنهم مجتهدون في الصدقة والإحسان بالمال والنفس والجاه، يتصدقون بكل ما يستطيعون حسب الطاقة.
{وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} (7) كذلك فالصوم من أعظم الطاعات ومن أخلاق المؤمنين والمؤمنات وصوم رمضان هو أحد أركان الإسلام، {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} (8) المعنى أنهم يحفظونها عن الزنى وعن كل ما حرم الله.
{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} (9) هذه من صفاتهم وأخلاقهم العظيمة. فعليك يا عبد الله، وعليك يا أمة الله العناية بهذه الأخلاق العظيمة التي أثنى الله على أهلها وأعد لهم المغفرة والأجر العظيم. وقال
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 35
(2) سورة الأحزاب الآية 35
(3) سورة الأحزاب الآية 35
(4) سورة الأحزاب الآية 35
(5) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865) ، سنن أبو داود الأدب (4895) ، سنن ابن ماجه الزهد (4179) ، مسند أحمد بن حنبل (4/162) .
(6) سورة الأحزاب الآية 35
(7) سورة الأحزاب الآية 35
(8) سورة الأحزاب الآية 35
(9) سورة الأحزاب الآية 35(7/169)
سبحانه في سورة الذاريات: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (1) {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} (2) {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} (3) {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (4) {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (5) هذه الصفات من أخلاق المتقين العظيمة: التهجد بالليل والاستغفار في السحر والصدقة للسائل والمحروم وهو الفقير.
وقال تعالى في سورة الحديد: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (6) هذه أيضا من أخلاقهم العظيمة: الإنفاق مما جعلهم الله مستخلفين فيه حسب الطاقة وقد وعدهم الله على ذلك بالأجر الكبير، فعليك يا عبد الله، وعليك يا أمة الله التخلق بهذه الأخلاق العظيمة.
ويقول سبحانه في سورة الملك: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (7) فالخشية لله أمرها عظيم وعاقبتها حميدة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له (8) » فلا بد من خوف الله وخشيته مع رجائه وحسن الظن به في جميع الأحوال حتى يؤدي المؤمن والمؤمنة ما أوجب الله ويدع ما حرم الله عن إيمان بالله سبحانه وخوف منه ورجاء لفضله، وهذه الصفات من أعظم الأخلاق وأهمها وأنفعها للعبد في دينه ودنياه، وهي أن يخشى الله ويراقبه ويرجو فضله وإحسانه
__________
(1) سورة الذاريات الآية 15
(2) سورة الذاريات الآية 16
(3) سورة الذاريات الآية 17
(4) سورة الذاريات الآية 18
(5) سورة الذاريات الآية 19
(6) سورة الحديد الآية 7
(7) سورة الملك الآية 12
(8) صحيح البخاري النكاح (5063) .(7/170)
مع القيام بحقه وترك معصيته أينما كان ولقد صدق من قال:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فالأخلاق التي شرعها الله لعباده وأمرهم بها هي أسباب سعادة الأمة ورقيها وبقاء حكمها ودولتها، ويقول آخر:
وليس بعامر بنيان قوم ... إذا أخلاقهم كانت خرابا
ومما ذكره الله سبحانه وتعالى من صفات أهل الإيمان وأخلاقهم يعلم أن الأمة لا تستقيم إلا بهذه الأخلاق ولا تقوم دولتهم إلا بهذه الأخلاق، فلا بد من التواصي بهذه الأخلاق من الدولة والأمة حتى ينصرهم الله ويعينهم على عدوهم وحتى يحفظ عليهم دينهم ودنياهم وأخلاقهم وصحتهم وملكهم وقهرهم لأعدائهم.
فالأخلاق التي شرعها الله ودعا إليها وبعث بها رسوله صلى الله عليه وسلم إذا استقامت عليها الأمة حاكما ومحكوما كتب الله لهم النصر وأيدهم بروح منه ونصرهم على أعدائهم كما جرى لسلفنا الصالح في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده فقد نصرهم الله على عدوهم مع قلة عددهم وعدتهم وفتح عليهم الفتوحات العظيمة وأيدهم بنصر من عنده كما وعدهم سبحانه بذلك في قوله عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2)
وفي قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3)
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة الحج الآية 41
(3) سورة محمد الآية 7(7/171)
هكذا حصل لهم النصر لما استقاموا على الأخلاق العظيمة التي مدحها الله وأمر بها، لما استقاموا وتواصوا بها نصرهم الله وملكوا غالب الدنيا وقهروا العالم وأدت لهم الجزية اليهود والنصارى والمجوس، وأدى الخراج لهم آخرون من الكفار حتى ملك الصين، إذ بلغت الدولة إلى هناك إلى أقصى المشرق وإلى أقصى المغرب، فمنهم من أدى الخراج، ومنهم من أدى الجزية ومنهم من دخل في دين الله بسبب قوة المؤمنين وأخلاقهم العظيمة التي مدحها الله وأوصاهم بها، فلما قام بها ولاتهم وأمراؤهم وعامتهم وعلماؤهم استقام لهم الأمر وخافهم عدوهم ونصرهم الله عليه، وفتحوا البلاد ودانت لهم العباد وأقاموا شرع الله في بلاد الله حتى بلغ ملك هذه الأمة أقصى المغرب وأقصى المشرق كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث ثوبان رضي الله عنه المخرج في صحيح مسلم، فلما غير الناس غير الله عليهم وأخذ العدو بعض ما في أيديهم، ومتى رجعوا إلى ربهم وأنابوا إليه واعتصموا بدينه رجعوا إلى دينهم واستقاموا عليه - رد الله لهم ما كان شاردا وأصلح لهم ما كان فاسدا ونصرهم على عدوهم ورد عليهم ملكهم السليب ومجدهم الغابر.
فالواجب على الحكام والأمراء والعلماء والأغنياء والفقراء الإنابة إلى الله والرجوع إليه والتمسك بالأخلاق التي أوصى الله بها عباده، والحذر الحذر من الأخلاق التي نهى الله عنها، فمتى(7/172)
استقام الجميع وتعاونوا على البر والتقوى وتواصوا بهذه الأخلاق في جميع الأحوال في الشدة والرخاء في السفر والإقامة أيدهم الله ونصرهم على أعدائهم وأعطاهم الملك العظيم ورد إليهم ما سلب منهم وأصلح لهم ما فسد وهابهم أعداؤهم وخضعوا لهم وأدوا لهم الجزية والخراج خوفا من قهرهم لهم أو دخلوا في الإسلام كما جرى لسلفنا الصالح.
فوصيتي لكل من قرأ هذه الكلمة أو سمعها، ولكل من تبلغه أن يتقي الله وأن يراقبه سبحانه أينما كان، وأن يتمسك بالأخلاق التي أمر الله بها وأثنى على أهلها في القرآن العظيم أو أقرها أو أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة المطهرة، فيشرع للمسلم أن يلزمها وأن يستقيم عليها وأن يوصي بها إخوانه وأن ينصحهم بها أينما كانوا، وأن يحذر الأخلاق التي ذمها الله وعابها، أو ذمها رسوله محمد عليه الصلاة والسلام ليحذرها ولينهى عنها وليوصي إخوانه بتركها، وهذا هو معنى قوله جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) وهذه الآية جامعة لجميع الأخلاق الفاضلة.
ثم قال سبحانه في ختامها: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) ومن رحمة الله لهم أن ينصرهم ويؤيدهم على عدوهم، ومن رحمته أن يكفيهم شر الأعداء، ومن رحمته أن يعينهم على هذه الأخلاق ويوفقهم لها، ومن رحمته أن يدر لهم الأرزاق وينزل الأمطار وينبت لهم
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة التوبة الآية 71(7/173)
النبات ويعطيهم كل ما يطلبون، ومن رحمته سبحانه إدخالهم الجنة وإنجاؤهم من النار كما قال سبحانه بعدها: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) هذا هو جزاؤهم في الآخرة، وفي الدنيا رحمة ونصر وتوفيق وتأييد، وفي الآخرة رحمة لهم بإدخالهم الجنة ونجاتهم من النار.
أسال الله بأسمائه الحسنى أن يوفقنا وإياكم للتمسك بهذه الأخلاق التي مدحها الله وأمر بها وأثنى على أهلها وأن يوفقنا وجميع المسلمين في كل مكان وجميع ولاتهم وقادتهم في كل مكان من مشارق الأرض ومغاربها للتمسك بهذه الأخلاق العظيمة الفاضلة، وأن يجنبنا وإياهم جميع الأخلاق المذمومة وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح قادة المسلمين وشعوبهم في كل مكان، وأن يوفق ولاة أمرنا في هذه البلاد لكل خير، وأن يعينهم عليه وأن يجمع كلمتهم على التقوى وأن ينصرهم بالحق وينصر الحق بهم، وأن يفقههم في دينه، وأن يثبتهم عليه، وأن يصلح لهم البطانة ويعينهم على كل خير، وأن يكثر أعوانهم في ذلك إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان.
__________
(1) سورة التوبة الآية 72(7/174)
أسئلة تتعلق بالمحاضرة بعنوان
الأخلاق الإسلامية (1)
السؤال الأول:
إن كثيرا من طلاب العلم الذين يحضرون الدروس والمحاضرات ويزاحمون العلماء في المحاضرات لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر نأمل من سماحتكم توجيه كلمة بهذه المناسبة؟
الجواب: الواجب على الجميع التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر حسب الطاقة، وإذا قام بذلك من يكفي سقط عن الباقين، ولكن إذا أهمل الجميع أثموا.
فعلى كل إنسان أن يبذل وسعه، وإذا كان في مكان ليس فيه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لزمه أن يقوم بذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (2) » ، رواه الإمام مسلم في الصحيح. فالواجب على المسلمين التعاون في هذا الأمر والتواصي به أينما كانوا، في المسجد وفي الطريق وفي البيت مع أهله وفي غير ذلك، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (3) الآية.
فالواجب في مثل هذا التعاون على الخير والصبر في ذلك.
__________
(1) ألقى سماحته هذه المحاضرة في جامع الطائف بتاريخ 5 \ 2 \ 1412 هـ.
(2) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .
(3) سورة التحريم الآية 6(7/175)
حكم الانتماء إلى أحزاب دينية
السؤال الثاني:
بماذا تنصحون الدعاة حيال موقفهم من المبتدعة؟ كما نرجو من سماحتكم توجيه نصيحة خاصة إلى الشباب الذين يتأثرون بالانتماءات الحزبية المسماة بالدينية؟
الجواب:
نوصي إخواننا جميعا بالدعوة إلى الله سبحانه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن؟ أمر الله سبحانه بذلك مع جميع الناس ومع المبتدعة إذا أظهروا بدعتهم، وأن ينكروا عليهم سواء كانوا من الشيعة أو غيرهم - فأي بدعة رآها المؤمن وجب عليه إنكارها حسب الطاقة بالطرق الشرعية.
والبدعة هي ما أحدثه الناس في الدين ونسبوه إليه وليس منه، لقول النبي: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » ، ومن أمثلة ذلك بدعة الرفض، وبدعة الاعتزال، وبدعة الإرجاء، وبدعة الخوارج، وبدعه الاحتفال بالموالد، وبدعة البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها إلى غير ذلك من البدع، فيجب نصحهم وتوجيههم إلى الخير، وإنكار ما أحدثوا من البدع بالأدلة الشرعية وتعليمهم ما جهلوا من الحق بالرفق والأسلوب الحسن والأدلة الواضحة لعلهم يقبلون الحق.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(7/176)
أما الانتماءات إلى الأحزاب المحدثة فالواجب تركها، وأن ينتمي الجميع إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأن يتعاونوا في ذلك بصدق وإخلاص، وبذلك يكونون من حزب الله الذي قال الله فيه سبحانه في آخر سورة المجادلة: {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) بعدما ذكر صفاتهم العظيمة في قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (2) الآية.
ومن صفاتهم العظيمة ما ذكره الله عز وجل في سورة الذاريات في قول الله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (3) {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} (4) {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} (5) {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (6) {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (7) فهذه صفات حزب الله لا يتحيزون إلى غير كتاب الله، والسنة والدعوة إليها والسير على منهج سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان.
فهم ينصحون جميع الأحزاب وجميع الجمعيات ويدعونهم إلى التمسك بالكتاب والسنة، وعرض ما اختلفوا فيه عليهما فما وافقهما أو أحدهما فهو المقبول وهو الحق، وما خالفهما وجب تركه.
ولا فرق في ذلك بين جماعة الإخوان المسلمين، أو أنصار السنة والجمعية الشرعية، أو جماعة التبليغ أو غيرهم من الجمعيات والأحزاب المنتسبة للإسلام. وبذلك تجتمع الكلمة ويتحد الهدف ويكون الجميع حزبا
__________
(1) سورة المجادلة الآية 22
(2) سورة المجادلة الآية 22
(3) سورة الذاريات الآية 15
(4) سورة الذاريات الآية 16
(5) سورة الذاريات الآية 17
(6) سورة الذاريات الآية 18
(7) سورة الذاريات الآية 19(7/177)
واحدا يترسم خطا أهل السنة والجماعة الذين هم حزب الله وأنصار دينه والدعاة إليه.
ولا يجوز التعصب لأي جمعية أو أي حزب فيما يخالف الشرع المطهر.(7/178)
السؤال الثالث:
نرجو التفضل بإرشادنا إلى أهم كتب العقيدة؟
الجواب: أهم كتب العقيدة وأعظمها وأنفعها القرآن العظيم فهو أهم كتاب وأصدق كتاب وأعظم كتاب وأشرف كتاب، فعليك أن تعض عليه بالنواجذ وتكثر من تلاوته من أوله وآخره، فكله عقيدة وتوجيه إلى كل خير وتحذير من كل شر، فاقرأه بتدبر وعناية ورغبة في العلم واستقم على ما دل عليه قولا وعملا وعقيدة تجد فيه كل خير من أوله إلى آخره من الفاتحة إلى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (1) تأمل ذلك الكتاب العظيم وأكثر من تلاوته وتدبر معانيه، ففيه بيان العقيدة التي رضيها الله لك ورضيها للمؤمنين.
ثم بعد ذلك عليك بكتب الحديث الشريف كالصحيحين وغيرهما.
ثم كتب أهل العلم المعروفين بالعلم والفضل والعقيدة الصحيحة ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية، ومنها العقيدة الواسطية والتدمرية والحموية ومنهاج السنة ومجموع الفتاوى، وعقيدة ابن أبي زيد القيرواني وشرح ابن أبي العز للعقيدة الطحاوية فهو شرح مفيد.
ومن ذلك كتب ابن القيم رحمه الله فهذه كتب طيبة ومفيدة، ومنها كتاب فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن، وكتاب التوحيد للشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، وكشف الشبهات، وثلاثة الأصول له
__________
(1) سورة الناس الآية 1(7/178)
أيضا، ومنها الدرر السنية المشتملة على فتاوى علماء نجد. وأوصي طلبة العلم في ابتداء طلبهم أن يحفظوا كتاب الله عز وجل أو ما تيسر منه، وأن يحفظوا كتاب التوحيد، وكشف الشبهات، وثلاثة الأصول والعقيدة الواسطية فهي مختصرة في بيان التوحيد بأقسامه الثلاثة، والعقيدة السلفية.
وهذه هي العقيدة التي دعا إليها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وهي عقيدة السلف، وهي عقيدة الدولة السعودية، وحقيقتها التمسك بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة في العقيدة والأحكام حسبما دل عليه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما درج عليه الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان، ويسميها بعض الناس العقيدة الوهابية ويحسب أنها عقيدة جديدة تخالف الكتاب والسنة، وليس الأمر كذلك وإنما هي العقيدة التي درج عليها سلف الأمة كما تقدم ولكن الأعداء لقبوها بهذا اللقب تنفيرا منها ومن أهلها، وبعض الناس فعل ذلك جهلا وتقليدا لغيره.
فينبغي لطالب العلم ألا يغتر بذلك وأن يعرف الحقيقة من كتبهم وما درجوا عليه لا من أقوال خصومهم ولا ممن يجهل عقيدتهم نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق.(7/179)
السؤال الرابع:
ذكرت يا فضيلة الشيخ في كلامك بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون بالرفق واللين ولكن هناك البعض من الناس لا ينفع معهم اللين والرفق؟
الجواب:
إذا كنت ذا سلطة فاعمل بسلطتك حسب ما تقتضيه القواعد(7/179)
الشرعية، أما الذي ليس له سلطة فيعمل بالرفق واللين وبذلك يؤدي ما عليه لقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (1) الآية، وقوله سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (3) » .
أما إذا كان الآمر والناهي صاحب سلطة كأمير أو رئيس الهيئة أو عضو الهيئة فعليهم أن ينفذوا سلطتهم في المعاند لقول الله سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (4) فالظالم يعامل بشدة، والمعاند يعامل بالشدة أيضا حسب الطاقة مع مراعاة القواعد الشرعية من الأمير أو غيره من أصحاب السلطة ولمن له الأمر. فالرجل مع أهل بيته يعمل حسب طاقته، وهكذا المدرس مع تلاميذه، وشيخ القبيلة مع جماعته - أما غيرهم ممن ليس له سلطة فعليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالحكمة والأسلوب الحسن والتوجيه إلى الخير والدعاء بالهداية، فإن لم يحصل المقصود رفع الأمر إلى ذوي السلطة.
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .
(4) سورة العنكبوت الآية 46(7/180)
السؤال الخامس:
اشتهر عند بعض العوام أن يقول أحدهم قبل النوم يا ملائكة الحفظ أيقظوني في الساعة كذا أو عند وقت كذا؟(7/180)
الجواب:
هذا لا يجوز بل هو من الشرك الأكبر؛ لأنه دعاء لغير الله وطلب من الغائب، فهو كالطلب من الجن والأصنام والأموات لعموم قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) وقوله سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (2) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (3) فسمى سبحانه دعاء غيره من الأموات والأصنام والجن والملائكة شركا به سبحانه، وقال عز وجل: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (4) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (5) فسمى الداعين لغيره كافرين، وهذا يعم جميع المدعوين من دون الله من أموات أو أصنام أو جن أو ملائكة، ولا يستثنى من ذلك إلا الحي الحاضر القادر لقول الله سبحانه في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (6) ومن هذا الشرك قول بعض الناس: يا جن خذوه يا سبعة خذوه، أو يا جن الظهيرة خذوه، أو يا جن الشعب الفلاني أو يا جن
__________
(1) سورة الجن الآية 18
(2) سورة فاطر الآية 13
(3) سورة فاطر الآية 14
(4) سورة الجن الآية 6
(5) سورة المؤمنون الآية 117
(6) سورة القصص الآية 15(7/181)
بلد فلان، فهذا كله شرك أكبر ودعوة لغير الله من الغائبين، فإذا قال يا ملائكة الله أيقظوني أو احفظوني فهذا شرك أكبر، أو يا جن البيت احفظوني أو أيقظوني فهذا شرك أكبر نعوذ بالله من ذلك.
والواجب على المسلم أن يحذر ذلك وأن يستغيث بالله وحده ويسأله وحده ففيه الكفاية سبحانه، وهو القادر على كل شيء وهو القائل عز وجل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) والقائل سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (2) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله (3) » .
نسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين للفقه في دينه والسلامة من أسباب غضبه إنه سميع قريب.
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة البقرة الآية 186
(3) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، مسند أحمد بن حنبل (1/303) .(7/182)
السؤال السادس:
هل يصل ثواب قراءة القرآن إلى الميت، وما هو نص الحديث الذي فيه يا رسول الله ماذا بقي من بر والدي بعد موتهما؟
الجواب:
ليس على قراءة القرآن للموتى دليل يدل على استحبابها فيما نعلم فالأحوط ترك ذلك والاكتفاء بما شرع الله من الدعاء لهم والصدقة عنهم وغير ذلك مما ثبت في الشرع المطهر كالحج والعمرة(7/182)
وقضاء الدين فإن هذا ينفعه.
أما الحديث الذي سألت عنه فلفظه: «إن رجلا قال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به قال: نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما (1) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعوا له (2) » ، رواه مسلم في صحيحه. وفي الصحيحين أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله إن أمي ماتت ولم توص وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها قال النبي: نعم (3) » .
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (5142) ، سنن ابن ماجه الأدب (3664) .
(2) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .
(3) صحيح البخاري الجنائز (1388) ، صحيح مسلم الزكاة (1004) ، سنن النسائي الوصايا (3649) ، سنن أبو داود الوصايا (2881) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2717) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) ، موطأ مالك الأقضية (1490) .(7/183)
السؤال السابع:
لي ابنة عم تبلغ من العمر سبعين عاما هل يجوز لي تقبيل رأسها من فوق حجابها أو مصافحتها لكبر سنها أم لا؟
الجواب:
ليس لك أن تصافحها ولا أن تقبل رأسها ولا غيره بل يشرع لك أن تسلم بالكلام فقط ولو كانت كبيرة السن؛ لأنها ليست محرما لك. ولا حرج أن تقول: كيف حالك وكيف أولادك ونحو ذلك، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إني لا أصافح النساء (1) » ، وذلك يعم العجائز وغيرهن، وقالت عائشة رضي الله عنها: «والله ما مست يد رسول الله يد امرأة قط (2) » ، يعني غير محارمه ما كان يبايعهن إلا بالكلام.
__________
(1) سنن النسائي البيعة (4181) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2874) ، مسند أحمد بن حنبل (6/357) ، موطأ مالك الجامع (1842) .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4891) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2941) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2875) ، مسند أحمد بن حنبل (6/270) .(7/183)
السؤال الثامن:
نرجو من سماحتكم أن تذكروا بعض الأسباب المؤدية إلى التحلي بالأخلاق الإسلامية؟(7/183)
الجواب:
الذي يؤدي إلى ذلك هو الإكثار من قراءة القرآن وتدبر معانيه، والاجتهاد في التخلق بما ذكر الله في القرآن الكريم من صفات الأخيار من عباد الله الصالحين فذلك مما يعين على التخلق بالأخلاق الفاضلة.
وهكذا مجالسة الأخيار ومصاحبتهم، وقراءة الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على ذلك.
وهكذا تدبر أخبار الماضين في السيرة النبوية وفي التاريخ الإسلامي من صفات العباد والأخيار، كل هذه تعين على التخلق بالأخلاق الفاضلة والاستقامة عليها، وأعظم ذلك القرآن والإكثار من تلاوته وتدبر معانيه بقلب حاضر ورغبة صادقة، هذا هو أعظم ما يعين على ذلك، مع العناية بما جاءت به السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. والله ولي التوفيق.(7/184)
السؤال التاسع:
إن بعض الآباء لا يهتم بأبنائه من ناحية أمور الدين فمثلا لا يأمرهم بالصلاة ولا بقراءة القرآن ومجالسة الأخيار، ونجده يأمر بالمحافظة على المدارس ويغضب إذا تخلف ابنه عنها، فما هي نصيحتكم يا سماحة الشيخ؟
الجواب:
نصيحتي للآباء والأعمام والإخوان أن يتقوا الله فيمن تحت أيديهم من الأولاد ويأمروهم بالصلاة إذا بلغوا سبعا ويضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا كما صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع (1) » ، فالواجب على الآباء والأمهات وعلى الإخوان
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (495) ، مسند أحمد بن حنبل (2/187) .(7/184)
الكبار أن يقوموا على من تحت أيديهم في الصلاة وغيرها ويمنعوهم مما حرم الله ويلزموهم بما أوجب الله، هذا هو الواجب فهم أمانة عندهم. يقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (1) ويقول الله عز وجل: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (2) ويقول عن نبيه ورسوله إسماعيل عليه الصلاة والسلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (3) {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (4) فعلينا أن نمتثل أمر الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم وأن نلزم أهلينا وأولادنا بطاعة الله ورسوله في الصلاة وغيرها، ونمنعهم مما نهى الله ورسوله كالتخلف عن الصلاة، وشرب الخمر، والتدخين، والاستماع لآلات الملاهي، وصحبة الأشرار ونحو ذلك.
ونلزمهم بصحبة الأخيار. هكذا يجب على الأولياء مع من تحت أيديهم من ذكور وإناث. والله سبحانه سائلهم عن ذلك يوم القيامة كما قال عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (5) {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (6)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها والعبد راع في مال سيده ومسئول عن رعيته (7) » .
__________
(1) سورة التحريم الآية 6
(2) سورة طه الآية 132
(3) سورة مريم الآية 54
(4) سورة مريم الآية 55
(5) سورة الحجر الآية 92
(6) سورة الحجر الآية 93
(7) صحيح البخاري الجمعة (893) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .(7/185)
السؤال العاشر:
ما رأي سماحتكم في رجل يقرأ القرآن الكريم وهو لا يحسن القراءة بسبب أنه لم يحصل على قسط وافر من التعليم، وهو في قراءته يلحن لحنا جليا بحيث يتغير مع قراءته المعنى ويحتج بحديث عائشة رضي الله عنها: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به (1) » الحديث؟
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4937) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (798) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2904) ، سنن أبو داود الصلاة (1454) ، سنن ابن ماجه الأدب (3779) ، مسند أحمد بن حنبل (6/192) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3368) .(7/185)
الجواب:
عليه أن يجتهد ويحرص على أن يقرأه على من هو أعلم منه ولا يدع القراءة؛ لأن التعلم يزيده خيرا، والحديث المذكور حجة له وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق ويتتعتع فيه له أجران (1) » رواه مسلم، ومعنى يتتعتع قلة العلم بالقراءة، وهكذا قوله: وهو عليه شاق معناه قلة علمه بالقراءة، فعليه أن يجتهد ويحرص على تعلم القراءة على من هو أعلم منه، وفي ذلك فضل عظيم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (2) » خرجه البخاري في صحيحه، فخيار المسلمين هم أهل القرآن تعلما وتعليما وعملا ودعوة وتوجيها.
والمقصود من العلم والتعلم هو العمل، وخير الناس من تعلم القرآن وعمل به وعلمه الناس، ويقول عليه الصلاة والسلام: «اقرءوا هذا القرآن فإنه يأتي شفيعا لأصحابه يوم القيامة (3) » ، رواه مسلم في صحيحه، ويقول عليه الصلاة والسلام: «القرآن حجة لك أو عليك (4) » ، خرجه مسلم أيضا في صحيحه، والمعنى أنه حجة لك إن عملت به، أو حجة عليك إن لم تعمل به.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4937) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (798) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2904) ، سنن أبو داود الصلاة (1454) ، سنن ابن ماجه الأدب (3779) ، مسند أحمد بن حنبل (6/98) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3368) .
(2) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .
(3) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (804) ، مسند أحمد بن حنبل (5/249) .
(4) صحيح مسلم الطهارة (223) ، سنن الترمذي الدعوات (3517) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (280) ، مسند أحمد بن حنبل (5/344) ، سنن الدارمي كتاب الطهارة (653) .(7/186)
السؤال الحادي عشر:
هل يجوز أن أقبل أختي أو تقبلني؟
الجواب:
لا بأس أن تقبل أختك وتقبلك، وهكذا جميع محارمك كعمتك وخالتك وزوجة أبيك وأمك وبنت أخيك تقبلها مع الخد أو مع الأنف أو جبهتها أو رأسها إن كانت كبيرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل فاطمة إذا دخلت عليه أو دخل عليها يأخذ بيدها عليه الصلاة والسلام، والصديق أبو بكر رضي الله عنه لما دخل على ابنته عائشة وهي مريضة قبلها مع خدها.
السؤال الثاني عشر:
ما حكم الكشف على الشغالة في المنزل؟
الجواب: عليها الاحتجاب، وعليك أن تغض البصر وتأمرها بالحجاب لقول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (1) وعليها الحجاب والتستر، وعليك ألا تخلو بها لأن الخلوة من أسباب الفتنة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما (2) » ، فلا تخلو بها، ولا تخلو بزوجة أخيك ولا زوجة عمك ولا غيرهن ممن ليست محرما لك، للحديث المذكور، أما السلام فلا بأس به ولا بالكلام للحاجة لكن بدون خلوة وبدون مصافحة.
__________
(1) سورة النور الآية 30
(2) سنن الترمذي الفتن (2165) ، مسند أحمد بن حنبل (1/18) .(7/187)
أخلاق المؤمنين والمؤمنات (1)
بسم الله الرحمن الرحيم والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وأفضل الدعاة إلى سبيل الله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوتي في الله وأخواتي في الله في مقر مستشفى النور التخصصي في مكة المكرمة في رحاب بيت الله العتيق، أسأله سبحانه أن يجعله لقاء مباركا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يمنحنا الفقه في دينه، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
ثم أشكر القائمين على هذا المستشفى وعلى رأسهم سعادة المدير على دعوتهم لي لهذا اللقاء، واسأل الله أن يبارك في جهود الجميع، وأن يعينهم على كل ما فيه رضاه وعلى كل ما فيه نجاح هذا المستشفى وسلامة القائمين عليه والمعالجين فيه، كما أسأله سبحانه أن يوفق الجميع لكل خير، وأن يثبت الجميع على دينه ويعيذنا جميعا من مضلات الفتن إنه خير مسئول.
أيها الإخوة في الله والأخوات في الله عنوان كلمتي: (أخلاق المؤمنين والمؤمنات) بين الله سبحانه في كتابه الكريم في مواضع
__________
(1) كلمة ألقاها سماحته في لقائه بمنسوبي وزارة الصحة في مستشفى النور بمكة المكرمة في 27 \ 7 \ 1412 هـ.(7/188)
كثيرة من القرآن أخلاق المؤمنين وأخلاق المؤمنات، وكررها كثيرا ليعلمها المؤمن فيأخذ بها ويستقيم عليها ولتعلمها المؤمنة فتأخذ بها وتستقيم عليها، ولا فرق في ذلك بين الأمراء والأطباء والعلماء وعامة المؤمنين من الذكور والإناث كلهم مطالبون بهذه الأخلاق، مطالبون بالتحلي بالأخلاق الإيمانية التي شرعها الله لعباده وأمرهم بها وجعلها طريقا للسعادة في الدنيا والآخرة، وسبيلا لمصلحة الجميع في هذه الدار وطريقا للنجاة يوم القيامة، ومن جملة الآيات وأجمعها في ذلك قول الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1)
ثم ذكر بعد ذلك جزاءهم في الآخرة فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) هذا جزاؤهم في الآخرة فجدير بكل مسلم ومسلمة وبكل مؤمن ومؤمنة أن يتدبر هذه الآية وما جاء في معناها من الآيات ويتفقه في ذلك، وأن يعمل بمقتضاها حتى يكون من المستحقين لرحمة الله في الدنيا والآخرة ومن الفائزين بالجنة والكرامة يوم القيامة.
فجميع، المؤمنين والمؤمنات من جميع الطبقات من عرب وعجم
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة التوبة الآية 72(7/189)
وجن وإنس وأمراء وعلماء ومديرين وأطباء وطبيبات وباعة وممرضين وممرضات وغير ذلك، جميع هذه الطبقات كلهم إذا آمنوا بالله ورسوله كلهم داخلون في هذه الآية وهي قوله سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (1) يعني كل واحد ولي أخيه وأخته في الله وكل مؤمنة ولية أخيها في الله وأختها في الله بالتناصح والتواصي بالحق وأداء الأمانة وصدق الحديث وعدم الغش في المعاملة إلى غير ذلك، كلهم أولياء كل واحد ينصح للآخر ويؤدي حقه ولا يغتابه ولا ينم عليه ولا يخونه ولا يشهد عليه بالزور ولا يظلمه لا في نفسه ولا في ماله ولا في عرضه وبذلك يفوز بما وعد الله به المؤمنين إذا استكمل هذه الصفات العظيمة، وعلى المؤمن والمؤمنة أن يعتنيا بهذا الواجب، وأن يجاهدا أنفسهما في التطبيق حتى يكونا ممن شملتهم هذه الآية، فالطبيب ينصح في عمله ويؤدي الواجب في حق المريض من جميع الوجوه ويتقي الله فيه في وصفه للدواء وكيفية العلاج وفي جميع الشئون التي يعتقد أنها تنفع المريض، والطبيبة كذلك وموظفو المستشفى والممرض والممرضة كذلك؛ ولهذا قال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) على كل منهم واجبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لله ولعباده مع الصدق والإخلاص والاستقامة، فالأمير والمدير والطبيب كل واحد منهم عليه واجبه إذا رأى منكرا أنكره ونهى عنه، وإذا رأى المعروف الذي قد أضاعه مؤمن نهاه عن إضاعته وأمره به قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (3)
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة آل عمران الآية 110(7/190)
وبهذا يصلح المجتمع وتستقيم أحواله إذا كان كل واحد ينصح لأخيه ويؤدي الحق الذي عليه ولا يخون أخاه في شيء، وهكذا سائر المجتمع في أعماله كلها في البيع والشراء وفي الزراعة وفي رعاية الإبل والغنم يؤدي الأمانة وينصح لله ولعباده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » ، وقال جرير بن عبد الله البجلي أحد الصحابة رضي الله عنهم: «بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (2) » .
ثم ذكر الله بعد ذلك الصلاة والزكاة فقال سبحانه: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (3) يعني أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويحافظون عليها كما أمرهم الله في أوقاتها هكذا يجب على المؤمن والمؤمنة العناية بالصلاة والمحافظة عليها وإقامتها كما شرعها الله، الرجل يؤديها في الجماعة، والمرأة تؤديها في وقتها في بيتها وفي محل عملها بإخلاص وطمأنينة وخشوع، كما قال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (4) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (5) وقال جل وعلا: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (6) وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (7) فالصلاة عمود الإسلام وركنه الأعظم بعد الشهادتين، يجب على
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1401) ، صحيح مسلم الإيمان (56) ، سنن الترمذي البر والصلة (1925) ، سنن النسائي البيعة (4175) ، مسند أحمد بن حنبل (4/364) ، سنن الدارمي البيوع (2540) .
(3) سورة التوبة الآية 71
(4) سورة المؤمنون الآية 1
(5) سورة المؤمنون الآية 2
(6) سورة البقرة الآية 238
(7) سورة البقرة الآية 43(7/191)
كل مؤمن ومؤمنة أن يعتنيا بها بالطمأنينة والخشوع وأدائها كاملة مع التعاون بين المؤمن وأهله وجيرانه وغيرهم في المحافظة عليها، وهكذا المرأة مع أهلها ومع زوجها ومع أمها ومع إخوانها ومع بناتها ومع غيرهم في المحافظة والتواصي والتناصح.
يقول سبحانه وتعالى: {وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) هكذا المؤمنون يتناصحون ويتواصون بالحق والصبر عليه قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4) فالمؤمن يعين أخاه في الخير، والمؤمنة كذلك تعين أخاها وأختها في الخير، ولا يتعاونون على الإثم والعدوان، ومن ذلك ترك الصلاة وترك الأمر بالمعروف، ولكن يتعاونون على طاعة الله ورسوله وعلى البر والتقوى وينهون عن ضد ذلك من الآثام والعدوان والمعاصي.
وهكذا الزكاة حق المال يتعاونون على أدائها ويتناصحون في أدائها، فالمؤمن يطيع الله ورسوله في كل شيء، ومن أسباب ذلك ووسائله العناية بالقرآن الكريم وتدبر معانيه فإن هذا من أعظم الأسباب في تقوى الله وصلاح القلوب وأن تؤدي حق الله وحق عباده.
وأوصي الجميع بتقوى الله والاستقامة على دينه، والنصح
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3
(4) سورة المائدة الآية 2(7/192)
لله ولعباده وبوجه أخص النصح مع المرضى والمريضات وعدم التساهل في حقهم، بل يجب أن تؤدي الأمانة في حقهم على أكمل وجه.
وكما أنصح بالعناية بحق الله من صلاة وزكاة وصوم وحج وغير ذلك فحق الله أعظم وأكبر، وأوصي الجميع بالتواصي بطاعة الله ورسوله في جميع الأحوال في الشدة والرخاء. في السفر والإقامة في بلدك وفي غيرها، وفي الجو وفي الأرض وفي البحر وفي كل مكان، عليك أن تتقي الله وأن تحاسب نفسك وأن تصونها عن محارم الله وأن تلزمها بحق الله، وقد وعد الله سبحانه عباده على هذا بالرحمة فقال سبحانه: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (1) والمعنى أنهم متى أدوا حقه سبحانه وحق عباده يرحمهم سبحانه بمزيد من التوفيق والهداية لهم، ثم يرحمهم بعد ذلك بدخول الجنة والنجاة من النار.
ومن المهمات التفقه في الدين فإن المؤمن والمؤمنة مأموران بالتفقه في الدين والتعلم، وهذا من الإيمان بالله ورسوله. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (3) » ، ومتى صدق العبد مع الله واجتهد وأخلص لله يسر الله أمره وفقهه في الدين وعلمه ما جهل وأعانه على الخير كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (4) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (5) وكما
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(4) سورة الطلاق الآية 2
(5) سورة الطلاق الآية 3(7/193)
قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (1) وكما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (2)
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يهدينا صراطه المستقيم إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
__________
(1) سورة الطلاق الآية 4
(2) سورة العنكبوت الآية 69(7/194)
الأدب الإسلامي (1)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإني أشكر الله تعالى على ما من به من هذا اللقاء بإخواني في الله في النادي الأدبي للتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والتواصي بالآداب الإسلامية، والحث على كل ما يرضي الله ويقرب إليه، وأدعوه سبحانه أن يجعله لقاء مباركا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يمنحنا الفقه بدينه والثبات عليه، ثم أشكر صاحب الفضيلة رئيس النادي الأدبي بالرياض على دعوته لي في هذا اللقاء كما أشكر جميع الأخوة القائمين على هذا النادي، وأشكر الأخوة الحضور، وبعد:
فإنه لا يخفى على كل من له بصيرة بالدين أن الإسلام هو دين الله الذي جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب وخلق من أجله الثقلان؟ قال الله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (2) وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3)
__________
(1) محاضرة ألقاها سماحته في النادي الأدبي بالرياض في عام 1413 هـ.
(2) سورة آل عمران الآية 19
(3) سورة المائدة الآية 3(7/195)
وقال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1)
وحقيقة الإسلام تتمثل في عبادة الله وحده والطاعة لأوامره، والترك لنواهيه، والإيمان بكل ما أخبرنا به سبحانه أو أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام عن أمر الآخرة والجنة والنار وأنباء الرسل وغير ذلك.
والإسلام مصدر أسلم إسلاما ومعناه الانقياد والذل لمن أسلم له، فمن أسلم لله وخضع له واتبع أوامره وترك نواهيه وآمن به وبرسله وبكل ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم فقد أسلم حقا.
وأصل الإسلام وأساسه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله مع الإيمان بجميع الأنبياء والرسل والكتب السماوية والملائكة والإيمان بالآخرة وبالقدر خير وشره. فعلى كل مسلم أن ينقاد لأوامر الله ويجعل نفسه طوعا لأوامره سبحانه، ويترك ما نهى الله عنه عن محبة له سبحانه وإخلاص وصدق.
وأركان الإسلام خمسة كما هو معروف. . شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا. وبقية العبادات تابعة لها كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبر الوالدين وصلة الرحم إلى غير ذلك من أوامر الله ورسوله، وللإسلام ستة أركان باطنية وتسمى:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 85(7/196)
أركان الإيمان وهي: الإيمان بالله ربا ومعبودا بالحق، وخالقا ورازقا ومتصرفا في الكون سبحانه، وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره - فعلى المؤمن أن يعتقد لهذه الأصول الظاهرة والباطنة، وأن يؤمن بها ويستقيم عليها - ويأتي بعد مرتبتي الإسلام والإيمان مرتبة الإحسان وهي: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. . كما جاء ذلك في حديث عمر بن الخطاب، وأبي هريرة رضي الله عنهما في سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، وهو أداء ما أمر الله به وترك ما حرمه تعالى بغاية الكمال والإتقان. كما يجب على كل المؤمنين والمؤمنات أن يجتهدوا في العبادة وأن يخلصوا العمل لله وحده والاستقامة على العقيدة الصحيحة ويستحوا من الله أن يراهم على معصية.
ثم إن الآداب الإسلامية التي جاء بها كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم توضح ذلك وترشد إليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين الآداب الإسلامية وأوضحها في كتابه الكريم، وبينها لنا الرسول عليه الصلاة والسلام في سنته المطهرة. فالمؤمن عليه أن يتأدب بالآداب الشرعية في أقواله وأعماله وعباداته وسائر تصرفاته الأخرى. ولا بد أن يلتزم بهذه الآداب الإسلامية التي تقربه من الله سبحانه وتعالى ومن جنته وتباعده من أسباب غضبه وعقابه - وعلى المسلم أن يتدبر القرآن الكريم ويعرف مواضع المدح والذم ويتبين معاني الآيات الكريمة ويأخذ منها الآداب الإسلامية التي ينبغي أن يتبعها، ويترك كل ما ذمه الله سبحانه وتعالى ويترفع عنه - كما أنه يجب على المسلم أن يخاف الله في جميع أعماله وعبادته، ومعاملاته، والخوف(7/197)
من الله يكون في كل وقت وفي كل مكان وزمان - فإذا خاف المسلم الله خوفا حقيقيا لم يقدم على أي معصية، بل يجتهد في عباداته لله راغبا في جنته مبتعدا عن أعمال أهل النار.
ومما يجب الحذر منه ما قد وقع في كثير من بلاد المسلمين من الغلو في أصحاب القبور ودعائهم والاستغاثة بهم وسؤالهم شفاء المرضى والنصر على الأعداء إلى غير ذلك من أنواع العبادة، ولا شك أن هذا شرك كبر واتخاذ لأصحاب القبور آلهة مع الله. فالواجب الحذر من ذلك والتحذير منه - وقد أخبر الله في كتابه الكريم أن هذا هو دين المشركين الأولين فقال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (1) الآية، وقال سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (2) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (3)
هنا يأتي دور الآداب الإسلامية التي تنهى عن مثل هذه الأعمال وتدعو إلى عبادة الله وحده والاستقامة على أوامره وترك نواهيه والسير على منهج رسوله وأصحابه رضي الله عنهم. وأوصي الجميع أن يتدبروا القرآن الكريم، ويحفظوه أو ما تيسر منه، ويكثروا من تلاوته، ويخصصوا لذلك جزءا من أوقاتهم - كذلك أوصيهم بدراسة السنة النبوية المطهرة، وقراءة السيرة النبوية وحياة
__________
(1) سورة يونس الآية 18
(2) سورة الزمر الآية 2
(3) سورة الزمر الآية 3(7/198)
الصحابة والتابعين للاستفادة من ذلك والعمل بمقتضاه، كما أنني أوصي إخواني المسلمين جميعا أن يتفقهوا في الدين وأن يسألوا أهل العلم المعروفين بحسن العقيدة والسيرة عما أشكل عليهم. والمسلم يجب عليه أن يستفيد من أهل العلم ويسألهم عما أشكل عليه مبتغيا في ذلك مرضاة الله سبحانه وتعالى عملا بقول الله جل وعلا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1)
والله المسئول أن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا وأن يرزقنا الاستقامة على دينه والتأدب بالآداب التي شرعها وأرشد إليها رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يعيذنا وجميع المسلمين من مضلات الفتن وأسباب النقم إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة النحل الآية 43(7/199)
فضل العلم وشرف أهله
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه - نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين. . أما بعد:
فهذه كلمة موجزة في: فضل العلم، وشرف أهله. لقد دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على فضل العلم والتفقه في الدين، وما يترتب على ذلك من الخير العظيم والأجر الجزيل، والذكر الجميل، والعاقبة الحميدة لمن أصلح الله نيته، ومن عليه بالتوفيق.
والنصوص في هذا كثيرة معلومة، ويكفي في شرف العلم وأهله أن الله عز وجل استشهدهم على وحدانيته، وأخبر أنهم هم الذين يخشونه على الحقيقة والكمال. قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1)
فاستشهد الملائكة وأولي العلم على وحدانيته سبحانه، وهم العلماء بالله، العلماء بدينه، الذين يخشونه سبحانه ويراقبونه، ويقفون
__________
(1) سورة آل عمران الآية 18(7/200)
عند حدوده، كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1) ومعلوم أن كل مسلم يخشى الله، وكل مؤمن يخشى الله، ولكن الخشية الكاملة إنما هي لأهل العلم، وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم من يليهم من العلماء على طبقاتهم.
فالعلماء هم ورثة الأنبياء، فالخشية لله حق، والخشية الكاملة إنما هي من أهل العلم بالله والبصيرة به، وبأسمائه، وصفاته، وعظيم حقه سبحانه وتعالى، وأرفع الناس في ذلك هم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم يليهم أهل العلم على اختلاف طبقاتهم في علمهم بالله ودينه. والجدير بالعالم أينما كان، وبطالب العلم، أن يعنى بهذا الأمر، وأن يخشى الله، وأن يراقبه في كل أموره، في طلبه للعلم، وفي عمله بالعلم، وفي نشره للعلم، وفي كل ما يلزمه من حق الله، وحق عباده.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين في حديث معاوية رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » . وهذا الحديث العظيم له شواهد أخرى، عن عدة من الصحابة رضي الله عنهم، وهو يدل على أن من علامات الخير ودلائل السعادة، أن يفقه العبد في دين الله، وكل طالب مخلص في أي جامعة أو معهد علمي أو غيرهما، إنما يريد هذا الفقه ويطلبه، وينشده. . فنسأل
__________
(1) سورة فاطر الآية 28
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(7/201)
الله لهم في ذلك التوفيق والهداية وبلوغ الغاية.
ومن أعرض عن الفقه في الدين فذلك من العلامات على أن الله ما أراد به الخير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (1) » .
فالعلماء الذين وفقوا لحمل هذا العلم طبقتان: إحداهما حصلت العلم ووفقت للعمل به، والتفقه فيه، واستنبطت منه الأحكام، فصاروا حفاظا وفقهاء، نقلوا العلم وعلموه الناس وفقهوهم فيه، وبصروهم ونفعوهم، فهم ما بين معلم ومقرئ، وما بين داع إلى الله عز وجل، ومدرس للعلم، إلى غير ذلك من وجوه التعليم والتفقيه.
أما الطبقة الثانية فهم الذين حفظوه ونقلوه لمن فجر ينابيعه، واستنبط منه الأحكام، فصار للطائفتين الأجر العظيم، والثواب الجزيل، والنفع العميم للأمة. وأما أكثر الخلق فهم كالقيعان التي لا تمسك ماء، ولا تنبت
__________
(1) صحيح البخاري العلم (79) ، صحيح مسلم الفضائل (2282) ، مسند أحمد بن حنبل (4/399) .(7/202)
كلأ لإعراضهم وغفلتهم وعدم عنايتهم بالعلم.
فالعلماء وطلبة العلم في دور العلم الشرعي على خير عظيم، وعلى طريق بحمد الله مستقيم، لمن وفقه الله لإخلاص النية، والصدق في الطلب. وهنيئا لطلبة العلم الشرعي أن يتفقهوا في دين الله، وأن يتبصروا فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم، وأن ينافسوا في ذلك، وأن يصبروا على ما في ذلك من التعب والمشقة، فإن العلم لا ينال براحة الجسم، بل لا بد من الجد والصبر والتعب، وهذا الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه في أبواب المواقيت من كتاب الصلاة لما ساق عدة أسانيد ذكر فيها عن يحيى بن أبي كثير رحمه الله أنه قال: (لا ينال العلم براحة الجسم) ، ومقصوده رحمه الله من هذا التنبيه على أن تحصيل العلم والتفقه في الدين يحتاج إلى صبر ومثابرة، وعناية وحفظ للوقت، مع الإخلاص لله، وإرادة وجهه سبحانه وتعالى.
والدور العلمية التي يدرس فيها العلم الشرعي، وهكذا المساجد التي تقام فيها الحلقات العلمية الشرعية، شأنها عظيم، وفائدتها كبيرة؛ لأنها مهيأة لنفع الناس وحل مشاكلهم. فالمتخرجون فيها يرجى لهم الخير العظيم، والفائدة الكبيرة، والنفع العام، فلا ينبغي لمن من الله عليه بالعلم أن ينزوي عن نفع الناس وتفقيههم وتذكيرهم بالله، وبحقه وحق عباده، سواء كان ذلك من طريق التدريس أو القضاء أو الوعظ والتذكير، أو المذاكرة بين الزملاء والإخوان في المجالس العامة والخاصة، كما ينبغي لأهل(7/203)
العلم أن يشاركوا في نشر العلم عن طريق وسائل الإعلام، لعظم الفائدة في ذلك، ووصول العلم إلى ما شاء الله من أنحاء الأرض. ومعلوم ما في ذلك من الخير العظيم، والنفع العام للمسلمين، وشدة الحاجة إلى ذلك في هذا العصر، بل في كل عصر، ولكن في هذا العصر أشد لقلة العلم. وكثرة دعاة الباطل.
فالواجب على من رزق العلم، أن يتحمل المشقة في نفع الناس به: قضاء وتدريسا، ودعوة إلى الله عز وجل، وفي غير هذا من شئون المسلمين، حتى تحصل الفائدة الكبيرة، والثمرة العظيمة من هذا الطلب.
وطالب العلم يطلب العلم لينفع نفسه، ويخلصها من الجهالة ويتقرب إلى ربه عز وجل بما يرضيه، على بصيرة وحسن دراية، ولينفع الناس أيضا، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويقضي بينهم في مشاكلهم، ويصلح بينهم، ويعلم جاهلهم، ويرشد ضالهم، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر إلى غير ذلك. فطالب العلم تدخل مهمته في أشياء كثيرة، ولا تنحصر في أبواب معدودة، ولا سيما القاضي. فإن القاضي إن وفقه الله وصبر تدخل وظيفته في أشياء كثيرة، فهو مع العلم محسوب، ومع القضاة محسوب، ومع المدرسين محسوب، ومع أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محسوب، ومع الدعاة إلى الله عز وجل، ومع المصلحين، إلى غير ذلك من شئون المسلمين. فينبغي له أن يهيئ(7/204)
نفسه لذلك، ويوطنها على تحمل الشدائد، في سبيل الله، وأن تكون همته عالية، كما كان سلفنا الصالح وأئمتنا - رحمهم الله جميعا - ينفعون الناس بكل ما يستطيعون. وإن وصيتي لأهل العلم وطلبته، ولكل مسلم ومسلمة، أن يصبروا في هذا الأمر، وأن يواصلوا الجهود في سبيل الحق، وأن يحفظوا الوقت، وأن يكثروا من المذاكرة بينهم فيما قد يشكل على بعضهم، حتى يتوافر لديهم من المعلومات ما يحصل به الخير لهم، وللمسلمين إن شاء الله، مع الحرص على إصلاح النية والإخلاص في كل ما يتقرب به العبد إلى ربه، وفي كل ما ينفع الناس.
ومن الأمور التي تنفع الناس، وتحل بها المشاكل، وينتشر بها العدل توجه أهل العلم والبصيرة والخشية لله سبحانه للقضاء بين الناس وتعليمهم. ومعلوم أن القضاء مما يعظم الله به الأجور، ويرفع به الدرجات، لمن أصلح الله نيته، ومنحه العلم النافع، وقصد به الخير للمسلمين. وهو وإن كان خطيرا وإن كان سلفنا الصالح يهابونه، ويخافونه، ولكن الأحوال تختلف، والزمان يتفاوت، والناس اليوم في أشد الضرورة إلى العالم الذي يقضي بين الناس على بصيرة، ويخاف الله ويراقبه في حل مشاكلهم. فلا ينبغي لمن أهله الله للقضاء بين الناس، ومنحه العلم والبصيرة، واشتدت إليه الحاجة أن يمتنع عن قبول القضاء، بل يجب عليه أن يقبله وأن يوطن نفسه على العمل بعلمه، وأن ينفذ(7/205)
ما أريد منه، وأن ينفع الناس بعلمه، ويسأل ربه التوفيق والإعانة فإن عجز بعد ذلك، ورأى من نفسه أنه لا يستطيع، أمكنه بعد ذلك أن يعتذر وأن يستقيل. أما من أول وهلة فلا ينبغي له ذلك، وهذا باب لا ينبغي لأهل العلم والإيمان والقدرة على نفع الناس أن يفتحوه، بل ينبغي لأهل العلم أن تكون عندهم الهمة العالية والقصد الصالح، والرغبة في نفع المسلمين، وحل المشاكل التي تعترض لهم، حتى لا يتولى ذلك الجهلة. فإنه إذا ذهب أهل العلم تولى الجهلة ولا شك. . . إما هذا، وإما هذا، فلا بد للناس من قضاة يحلون مشاكلهم، ويحكمون بينهم بالحق، فإن تولى ذلك الأخيار وإلا تولاه غيرهم. فالواجب على أهل العلم، وعلى كل من يخشى الله أن يقدر هذا الوضع، وأن يحتسب الأجر عند الله، وأن يصبر ويتحمل ويرجو ما عند الله عز وجل من المثوبة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا (1) » ، خرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وبذا يعلم أهل العلم والإيمان عظم الخطر، وسوء العاقبة، إذا فقد علماء الحق، أو تركوا الميدان لغيرهم.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (100) ، صحيح مسلم العلم (2673) ، سنن الترمذي العلم (2652) ، سنن ابن ماجه المقدمة (52) ، مسند أحمد بن حنبل (2/162) ، سنن الدارمي المقدمة (239) .(7/206)
ولا يخفى أن العالم سواء كان قاضيا أو غيره إذا اجتهد فأصاب، فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا خطر عليه مع الصدق والإخلاص والتحري للحق، وإنما الخوف والخطر العظيم على من يتهجم على القضاء أو الفتوى بالجهل، أو يقضي بالجور، كما في حديث بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وقضى به ورجل عرف الحق فجار فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار (1) » ، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم.
أما من يتحرى الحق، ويجتهد في العمل به، ويتحرى النفع للمسلمين فهو بين أمرين، بين أجر وأجرين كما تقدم بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إني أوصي جميع إخواني المسلمين عامة، وأهل العلم وطلبته بصفة خاصة، ونفسي بتقوى الله عز وجل في كل الأمور، والعمل بالعلم بأداء فرائض الله، والبعد عن محارمه؛ لأن طالب العلم قدوة لغيره فيما يأتي ويذر في جميع الأحوال في حال القضاء وغير القضاء، في طريقه وفي بيته، وفي اجتماعه بالناس وفي سيارته، وفي طائرته وفي جميع الأحوال. فهو قدوة في الخير، عليه أن يراقب الله ويعمل بما علمه سبحانه، ويدعو الناس إلى الخير بقوله وعمله جميعا، حتى يتميز بين الناس ويعرف بعلمه وفضله، وهديه الصالح،
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1322) ، سنن أبو داود الأقضية (3573) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2315) .(7/207)
وسيره على المنهج النبوي الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، رضي الله عنهم، مع العناية بالتواضع، وعدم التكبر.
فالعالم وغيره على خطر عظيم، تارة من جهة الرياء، وتارة من جهة الكبر، وتارة من جهات أخرى، ومقاصد متعددة، فعليه أن يتقي الله، ويخلص له العمل، ويراقب الله سبحانه وتعالى في جميع شئونه، ويتواضع لعباد الله، ولا يتكبر عليهم بما أعطاه الله من العلم وحرمه كثيرا من الناس، فليشكر الله ومن شكر الله التواضع، وعدم التكبر، ومن شكر الله نشر العلم في المساجد وفي غير المساجد.
فالقاضي يخطب الناس إذا احتيج إليه، ويدرس طلبة العلم، ويدعو إلى الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويجتهد في إصلاح أحوال المسلمين، ويتصل بولاة الأمور ويرفع إليهم ما يرى أنه من نصحهم. فيكون دائما في مصالح المسلمين، وفي كل ما ينفعهم، وفي كل ما يبرئ ذمته، ويرفع شأن الإسلام وأهله.
وأيضا أوصي إخواني جميعا وعلى رأسهم أهل العلم وطلبته بالقرآن الكريم، فإنه أعظم كتاب، وأشرف كتاب، وقد حوى خير العلوم كلها وأنفعها كما لا يخفى، وهو أعظم عون بعد الله عز وجل على الفقه في الدين، والتبصر فيه، والخشية لله عز وجل، وهو المعين في التأسي بالأخيار، فأوصي الجميع ونفسي بهذا الكتاب العظيم، تدبرا وتعقلا وإكثارا من تلاوته ليلا ونهارا، والرجوع(7/208)
إليه في كل شيء، ومراجعة كلام أهل التفسير فيما أشكل، فهو خير معين على فهم كتاب الله جل وعلا؛ لأن هذا الكتاب هو خير كتاب، وأفضل كتاب وأصدق كتاب، يقول الله سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1)
ويقول عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (2) ويقول جل وعلا: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (3) ويقول سبحانه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (4) فجدير بالمؤمنين والمؤمنات عامة، وبأهل العلم خاصة أن يولوه العناية العظيمة، وأن يعضوا عليه بالنواجذ، وأن يجتهدوا في تدبره وتعقله والعمل به، ومراجعة كلام أهل العلم فيما أشكل، كما قال الله سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (5) وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (6)
ثم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والعناية بها وحفظ ما تيسر منها، مع إكثار المذاكرة فيها، ولا سيما ما يتعلق بالعقيدة، وما يجب
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة النحل الآية 89
(3) سورة فصلت الآية 44
(4) سورة الأنعام الآية 38
(5) سورة ص الآية 29
(6) سورة محمد الآية 24(7/209)
على المكلف فعله، وما يتعلق بعمل الإنسان الخاص به، فإنه به ألصق، وعنايته أوجب، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (1) ولا سبيل إلى اتباعه صلى الله عليه وسلم على الكمال إلا بدراسة سنته، والعناية بها مع العناية بكتاب الله عز وجل.
وأوصي أهل العلم وطلبته بالعناية بكتب الحديث والإكثار من قراءتها وتدريسها والمذاكرة فيها، وأهمها الصحيحان، ثم بقية الكتب الستة، مع موطأ الإمام مالك، ومسند الإمام أحمد، وسنن الدارمي وغيرهما من كتب الحديث المعروفة، ضاعف الله الأجر لمؤلفيها، وجزاهم عن المسلمين خير الجزاء.
ثم مؤلفات أهل العلم المعروفين بحسن العقيدة، وسعة العلم بالأدلة الشرعية، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذاه: العلامة ابن القيم، والحافظ ابن كثير رحمة الله عليهم جميعا. وقد برزوا في ذلك، ونشروا بين المسلمين العلم الكثير، وبينوا للناس عقيدة أهل السنة والجماعة بأدلتها من الكتاب والسنة.
ومن أهم كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: منهاج السنة، ومجموع الفتاوى، ومطابقة صريح المعقول لصحيح المنقول، والجواب الصحيح في الرد على من بدل دين المسيح، وغيرها من الكتب المفيدة النافعة والمشتملة على بيان العقيدة الصحيحة والأحكام
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31(7/210)
والرد على خصوم الإسلام. ومن أفضل كتب ابن القيم رحمه الله: الطرق الحكمية، وأعلام الموقعين، وزاد المعاد، فهذه الكتب لها شأن عظيم، ولا سيما في حق القضاة والمفتين.
وهكذا فتاوى أئمة الدعوة: المسماة الدرر السنية، فقد جمعت رسائل كثيرة وأجوبة مفيدة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وتلاميذه وأتباعه رحمهم الله جميعا، وهكذا فتاوى شيخنا العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، فقد اشتملت على علم عظيم، وفوائد جمة. فأوصي بهذه الكتب بعد كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، لما فيها من العلم العظيم، والعون على كل خير. وهكذا ما أشبهها من الكتب المفيدة النافعة التي تعتني بالدليل مثل المغني، وشرح المهذب، والمحلى وغيرها من الكتب التي تعنى بالدليل ونقل أقوال أهل العلم، فهي من أهم الكتب لأهل العلم وطلبته من القضاة وغيرهم. وأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يوفقنا وجميع المسلمين للعلم النافع، والعمل الصالح، وأن يمنحنا جميعا النية الخالصة، والصبر والفقه في الدين، والفوز بالعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، إنه تعالى جواد كريم، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يوفق ولاة أمرنا وجميع ولاة أمر المسلمين، ويصلح بطانتهم، وأن يعينهم على كل خير، وأن ينصر بهم الحق، ويخذل بهم الباطل، وأن يعينهم على(7/211)
تحكيم كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل شيء، وأن يعيذنا وإياهم وسائر المسلمين من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه سميع قريب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(7/212)
مسئولية طالب العلم (1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (4) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5)
أما بعد: أيها الإخوة في الله. . أيها الأبناء الكرام. . فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء، وأسأله سبحانه أن
__________
(1) محاضرة ألقاها سماحة الشيخ في كلية الشريعة بجامعة الإمام بالرياض عام 1410 هـ.
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الأحزاب الآية 70
(5) سورة الأحزاب الآية 71(7/213)
يجعله لقاء مباركا، وأن ينفعنا به جميعا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يهدينا جميعا سواء السبيل. فنعم الله لا تحصى، وفضله لا يستقصى، فهو المنعم بكل النعم، كما قال سبحانه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (1) وقال عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (2) فنشكره سبحانه ونسأله المزيد من فضله لنا ولكم ولجميع المسلمين في كل مكان.
أيها الإخوة في الله، أيها الأبناء الأعزاء، سمعتم عنوان الكلمة وهي: مسئولية طالب العلم في المجتمع، فالموضوع موضوع عظيم، ومسئولية طالب العلم مسئولية كبيرة، وهي متفاوتة على حسب ما عنده من العلم، وعلى حسب حاجة الناس إليه، وعلى حسب قدرته وطاقته.
فهناك مسئولية من جهة نفسه: من جهة إعداد هذه النفس للتعليم والدعوة، وأداء الواجب، ومن جهة العناية بالعلم والتفقه في الدين، ومراجعة الأدلة الشرعية، والعناية بها، فإن طالب العلم بحاجة شديدة إلى أن يكون لديه رصيد عظيم من الأدلة الشرعية، والمعرفة بكلام أهل العلم وخلافهم، ومعرفة بالراجح في مسائل الخلاف بالدليل من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بدون تقليد لزيد وعمرو، فالتقليد كل يستطيعه، وليس من العلم في شيء. قال الإمام أبو عمر بن عبد البر الإمام المشهور صاحب التمهيد وغيره:
__________
(1) سورة النحل الآية 53
(2) سورة إبراهيم الآية 34(7/214)
(أجمع العلماء على أن المقلد لا يعد من العلماء) .
فطالب العلم عليه مسئولية كبيرة ومفترضة، وهي أن يعنى بالدليل، وأن يجتهد في معرفة براهين المسائل، وبراهين الأحكام من الكتاب العزيز والسنة المطهرة، ومن القواعد المعتبرة. . وأن يكون على بينة كبيرة، وعلى صلة وثيقة بكلام العلماء، فإن معرفته بكلام أهل العلم تعينه على فهم الأدلة، وتعينه على استخراج الأحكام، وتعينه على التمييز بين الراجح والمرجوح.
ثم عليه مسئولية أخرى من جهة الإخلاص لله سبحانه، ومراقبته وأن يكون هدفه إرضاءه عز وجل، وأداء الواجب وبراءة الذمة، ونفع الناس، فلا يهدف إلى مال وعرض عاجل، فذلك شأن المنافقين وأشباههم من أهل الدنيا، ولا يهدف للرياء والسمعة، ولكن هدفه أن ينفع عباد الله، وأن يرضي ربه قبل ذلك، وأن يكون على بينة فيما يقول، وفيما يفتي به، وفيما يعمل به ولا يجوز له التساهل؛ لأن طالب العلم متبع متأسى بتصرفاته وأعماله. فإن كان مدرسا تأسى به الطلبة، وإن كان مفتيا أخذ الناس فتواه، وإن كان داعية كذلك خطره عظيم، وإن كان قاضيا فالأمر أعظم.
فالواجب على طالب العلم أن يكون له موقف مع ربه، موقف يرضاه مولاه، موقف يشتمل على الإخلاص لله، والصدق في طلب رضاه، والحرص الذي لا حدود له، في معرفة الأدلة الشرعية، والتفتيش عنها حتى يقف على الدليل، وبذلك تنفسح(7/215)
أمامه الدنيا، ويفتي على بصيرة، ويدعو إلى الله على بصيرة، ويعلم الناس على بصيرة، ويأمر بالمعروف على بصيرة، وينهى عن المنكر على بصيرة، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (1) وقد فسرت البصيرة بالعلم.
أما من ليس له بصيرة، فلا يعد من أهل العلم، ولا ينفع الناس، لا في دعوة ولا في غيرها من جهة أمور الدين، أعني النفع الحقيقي المثمر، وإن كان قد ينفع بعض الناس بنصيحة يعرفها، أو مسألة يحفظها، أو مساعدة مادية يقدمها. ولكن النفع الحقيقي من طالب العلم، يترتب على صدقه وإخلاصه، وعلى كثرة علمه. وتمكن فقهه، وعلى صبره ومصابرته.
وهناك مسألة مهمة، وهي المسئولية الملقاة على طالب العلم من جهة البلاغ والتعليم للناس، فإن العلماء هم خلفاء الرسل، وهم ورثتهم، ولا يخفى مرتبة الرسل، وأنهم هم القادة. وهم الهداة للأمة، وهم أسباب سعادتها ونجاتها، فالعلماء حلوا محلهم، ونزلوا منزلتهم في البلاغ والتعليم؛ لأنهم ختموا بمحمد عليه الصلاة والسلام، فلم يبق إلا البيان والتبليغ لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، والدعوة إليها وبيانها ونشرها بين الناس، وليس لذلك أهل إلا أهل العلم، هم الذين أهلهم الله لهذا الأمر دعاة وقادة بأقوالهم وأفعالهم وسيرتهم الظاهرة والباطنة.
فواجبهم عظيم، والخطر عليهم عظيم، والأمة في ذمتهم؛ لأنها
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(7/216)
بأشد الحاجة إلى البلاغ والبيان بالطرق الممكنة.
والطرق اليوم كثيرة: منها وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية. . فلها آثارها العظيمة في إضلال الناس، وفي هدايتهم. . وهكذا الخطب في الجمع والأعياد والمناسبات والندوات، والاحتفالات لأي سبب، لها أثرها أيضا. والنشرات المستقلة والمؤلفات والرسائل لها أثرها العظيم.
فالطرق بحمد الله اليوم ميسرة وكثيرة، وإنما المصيبة ضعف الطالب، وقلة نشاطه، وإعراضه وغفلته. . هذه هي المصيبة العظمى. . فالله يقول عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) فليس في الوجود من هو أحسن قولا من هؤلاء، وعلى رأسهم الرسل الكرام والأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، ثم يليهم أهل العلم.
فكلما كثر العلم، وكملت التقوى والخوف من الله عز وجل، والإخلاص له سبحانه صار النفع أكثر، وصار التبليغ عن الله وعن رسوله أكمل. وكلما ضعفت التقوى، أو قل العلم، أو قل الخوف من الله، أو بلي العبد بمشاغل الدنيا والشهوات العاجلة - قل هذا العلم وقل هذا الخير. يقول سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (2) بين سبحانه أن مهمة النبي الدعوة إلى الله على بصيرة، وأمره
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة يوسف الآية 108(7/217)
أن يبلغ الناس ذلك، قل أي: قل يا أيها الرسول للناس {هَذِهِ سَبِيلِي} (1) أي هذه التي أنا عليها، هذه الشريعة وهذه الطريقة التي أنا عليها من القول والعمل هي سبيلي، وهي منهجي وطريقي إلى الله.
فوجب على أهل العلم أن يسيروا على الطريق الذي سلكه المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهو الدعوة إلى الله على بصيرة. فذلك سبيله وسبيل أتباعه أيضا. فلا يكون العبد من أتباعه على الحقيقة وعلى الكمال إلا إذا سلك ذلك المسلك، فمن دعا إلى الله على بصيرة، وتبرأ من الشرك، واستقام على الحق، فهو من أتباعه عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال بعدها: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) فالداعي إلى الله الصادق في الدعوة هو المتبع للرسول على بصيرة، وعلى علم - وليس بالكذب والقول على الله بغير علم تعالى الله عما لا يليق به - مع وصفه سبحانه بصفات الكمال، وتنزيهه عن مشابهة خلقه، وتوحيده والإخلاص له، والبراءة من الشرك وأهله.
والداعي إلى الله يجب أن يوحد الله، ويستقيم على شريعته، مع تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين، ووصفه سبحانه بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وتنزيهه عن صفات النقص والعجز، وإثبات أسمائه الحسنى، وصفاته العلى الكاملة له جل وعلا التي جاء بها كتابه العظيم، أو جاءت بها سنة رسوله الأمين
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة يوسف الآية 108(7/218)
صلى الله عليه وسلم إثباتا يليق بجلاله وعظمته، بلا تمثيل، وتنزيها له سبحانه بلا تعطيل.
فيثبت العبد صفات الله وأسماءه إثباتا كاملا، ليس فيه تمثيل، ولا تشبيه، وينزه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين في جميع صفاته، تنزيها بريئا من التعطيل.
فهو يسمي الله بأسمائه الحسنى، ويصف الله بصفاته العليا الواردة في الكتاب العظيم، والسنة الصحيحة، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ولا زيادة ولا نقصان، فهو متبع لا مبتدع، سائر على النهج القويم، الذي سلكه الرسل، وسلكه أتباعهم بإحسان، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضي الله عنهم من بعده، ثم أتباعهم بإحسان، وعلى رأسهم الأئمة المشهورون بعد الصحابة: كالإمام مالك بن أنس، والإمام محمد بن إدريس الشافعي، والإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت، والإمام أحمد بن محمد بن حنبل، والإمام الأوزاعي، والإمام سفيان الثوري، والإمام إسحاق بن راهويه، وغيرهم من أئمة العلم والهدى، الذين ساروا على النهج القويم، في إثبات أسماء الله وصفاته، وتنزيه الله عن مشابهة خلقه.
ثم طالب العلم بعد ذلك حريص جدا أن لا يكتم شيئا مما علم، حريص على بيان الحق والرد على الخصوم لدين الإسلام، لا يتساهل ولا ينزوي، فهو بارز في الميدان دائما حسب طاقته، فإن ظهر خصوم للإسلام يشبهون ويطعنون - برز للرد عليهم كتابة(7/219)
ومشافهة وغير ذلك لا يتساهل ولا يقول هذه لها غيري، بل يقول: أنا لها. . أنا لها. . ولو كان هناك أئمة آخرون يخشى أن تفوت المسألة، فهو بارز دائما لا ينزوي، بل يبرز في الوقت المناسب لنصر الحق، والرد على خصوم الإسلام بالكتابة وغيرها. . من طريق الإذاعة، أو من طريق الصحافة، أو من طريق التلفاز، أو من أي طريق يمكنه، وهو أيضا لا يكتم ما عنده من العلم، بل يكتب ويخطب، ويتكلم ويرد على أهل البدع، وعلى غيرهم من خصوم الإسلام بما أعطاه الله من قوة، حسب علمه وما يسر الله له من أنواع الاستطاعة. . قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (1) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2)
فينبغي أن نقف عند هاتين الآيتين وقفة عظيمة: فربنا حذر من كتمان العلم وتوعد على ذلك، ولعن من فعل ذلك، ثم بين الله أن لا سلامة من هذا الوعيد، وهذا اللعن إلا بالتوبة والإصلاح والبيان. التوبة مما مضى من التقصير والذنوب. وإصلاح للأوضاع التي يستطيع إصلاحها من نفسه وبنفسه، وبيان لما لديه من العلم الذي قد يقال إنه كتمه، أو فعلا قد كتمه لحظ عاجل، أو تأويل باطل، ثم من الله عليه بالهدى فلا توبة إلا بهذا البيان، ولا نجاة إلا بهذه التوبة وهي تشتمل: على الندم على ما مضى من التقصير
__________
(1) سورة البقرة الآية 159
(2) سورة البقرة الآية 160(7/220)
واقتراف الذنب وإقلاع وترك لهذا الذنب خائفا من ربه عز وجل، حذرا من عقابه.
وشرط ثالث وهو العزم الصادق بأن لا يعود فيه ثانية، ثم بيان مع ذلك وإصلاح؛ لأنه قد يتوب ولا يعلم الناس توبته، فإذا أظهر ذلك وبينه للناس برئت ذمته وصحت توبته، وهنا أمر آخر يتعلق بطالب العلم أمام الله سبحانه أولا، ثم بعد هذا أمام إخوانه وزملائه ومجتمعه، وهو أن يتقي الله في نفسه. . فكلما علم شيئا بادر بالعمل لا يتساهل: يعلم ويعمل. لا بد من العلم، ولا بد من العمل، فهو يحاسب نفسه أبدا، ويجتهد في تطبيق أحكام الله على نفسه، الواجب واجب، والمستحب مستحب، حتى يمثل العلم في أخلاقه وأعماله وسيرته، وحلقات علمه وخطبه وأسفاره وإقامته في البر والبحر والجو، بل في كل مكان؛ لأن هذا الأمر يهمه ويحرص على أن يأخذ عنه إخوانه وزملاؤه وطلبته، ليعطيهم مما لديه من العلم: من قول وعمل. . وهكذا كان نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام، كانت دعوته كاملة في القول والعمل، فسيرته أحسن السير، وكلامه أطيب الكلام بعد كلام الله عز وجل، وأخلاقه أحسن الأخلاق، كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) وكان خلقه القرآن كما قالت عائشة رضي الله عنها. . يأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه، ويتأدب بآدابه، ويعتبر بما فيه من الأمثال والقصص العظيمة، ويدعو الناس إلى ذلك.
__________
(1) سورة القلم الآية 4(7/221)
وأهل العلم عليهم أن يتأسوا به عليه الصلاة والسلام في هذا الخلق العظيم، وأن يصدقوا الله في أقوالهم وأعمالهم، وأن يبلغوا عن الله أمره ونهيه، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، حسب الطاقة وأن يبذلوا المستطاع والنصائح لولاة الأمور بالتوجيه والإرشاد والتنبيه. . ولأهليهم ولجيرانهم ولسائر مجتمعهم، وللناس جميعا بكل وسيلة حسب الطاقة. لا يجوز التساهل في هذه الأمور ولا سيما في عصرنا هذا لقلة العلماء وانتشار الشرور وكثرة الرذائل والمنكرات في أرجاء الدنيا في الدول الإسلامية وغيرها.
وكل ذي بصيرة يعلم ما ينشر في هذا العصر من الشرور العظيمة، في الإذاعات والصحافة، والتلفاز وفي النشرات الأخرى. وفي المؤلفات الداعية إلى النار.
وهذا الجيش المتنوع الذي يدعو إلى طرق النار، يحتاج إلى جيش مثله، وقوة مثله. بل وأكثر منه. هذه الجيوش التي يسوقها أعداء الإسلام إلى المسلمين، وهذه الوسائل الخطيرة المتنوعة الكثيرة، كلها يسوقها وينشرها أعداء الإسلام إلى المسلمين، وإلى غير المسلمين، لإهلاكهم وقيادتهم إلى النار. وأن يكونوا معهم في أخلاقهم الخبيثة، وسيرتهم الذميمة، وأن يكونوا معهم في النار؛ لأن قائدهم يريد هذا كما قال الله سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (1)
__________
(1) سورة فاطر الآية 6(7/222)
فلا يليق بطالب العلم أن ينزوي ويقول: حسبي نفسي، لا، فإن عليه واجبات. . حسبه نفسه من جهة عمله أن يعمل. . وعليه واجبات من جهة البلاغ والبيان والدعوة فربنا يقول سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) ويقول سبحانه: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} (2) فالله سبحانه يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة، وأمره له أمر لنا جميعا، ليس المقصود له وحده عليه الصلاة والسلام. . فإذا وجه له الأمر فليس له وحده بل هو له ولنا ولأهل العلم جميعا إلا ما خصه الدليل به.
فعليك يا عبد الله أن تبتعد عن الخمول والانزواء وأن تبلغ أمر الله إلى عباد الله، وعليك أيضا أن تنصح من استطعت نصيحته في كل مكان: أمير القرية، وعالم القرية، وقاضي القرية، وعريف القرية، ومن له شأن في القرية، وفي المدينة وفي القبيلة وفي كل مكان تتصل به اتصالا حسنا، وتناصحه وتوجهه إلى الخير، وتتعاون معه على البر والتقوى بالأساليب الحسنة، بالعظة والتذكير بالكلام الطيب، بالرفق لا بالعنف.
وهكذا مع الإمام الأعظم في الدولة، ومع الوزراء في مسئولياتهم، ومع القضاة ومع الدعاة ومع إخوانك في الله جميعا تتعاون معهم.
هكذا يكون طالب العلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة الحج الآية 67(7/223)
«الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » ، أخرجه مسلم في صحيحه. وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (2) » .
وقال عليه الصلاة والسلام: «نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع (3) » ، وفي لفظ: «رب حامل فقه ليس بفقيه (4) » ، وفي لفظ: «ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه (5) » . وقال في إحدى خطبه عليه الصلاة والسلام: «فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع (6) » ، والناس بخير ما تعاونوا على البر والتقوى، مع ملوكهم وأمرائهم، ومع قضاتهم ومع الدعاة إلى الله، وجميع المسلمين، لكن مع مراعاة الأساليب الحسنة، والرفق والحكمة، وقد جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (7) » ، رواه في الصحيح عن جرير بن عبد الله، وعن عائشة رضي الله عنهما.
وفي رواية له عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه (8) » . ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (9) » .
ويكفي في هذا قول الله سبحانه:
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (57) ، صحيح مسلم الإيمان (56) ، سنن الترمذي البر والصلة (1925) ، سنن النسائي البيعة (4175) ، مسند أحمد بن حنبل (4/365) ، سنن الدارمي البيوع (2540) .
(3) سنن ابن ماجه كتاب المناسك (3056) ، مسند أحمد بن حنبل (4/80) .
(4) سنن الترمذي العلم (2656) ، سنن أبو داود العلم (3660) ، مسند أحمد بن حنبل (5/183) .
(5) سنن الترمذي العلم (2656) ، سنن أبو داود العلم (3660) ، سنن ابن ماجه كتاب المقدمة (230) ، سنن الدارمي المقدمة (229) .
(6) صحيح البخاري الحج (1741) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، سنن ابن ماجه المقدمة (233) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .
(7) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2592) ، سنن أبو داود الأدب (4809) ، سنن ابن ماجه الأدب (3687) ، مسند أحمد بن حنبل (4/366) .
(8) صحيح البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6927) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2593) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2701) ، مسند أحمد بن حنبل (6/37) .
(9) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .(7/224)
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) وقول الله تبارك وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2) وفي قصة موسى وهارون عندما بعثهما الله إلى فرعون يقول الله سبحانه لهما: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (3)
وأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين إلى ما يرضيه، وأن يسلك بنا جميعا صراطه المستقيم، وأن يرزقنا جميعا العلم النافع، والعمل به، والتأدب بالآداب الشرعية، والخلق العظيم، الذي أثنى الله به على نبيه عليه الصلاة والسلام، ولنذكر قوله عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (4) » . . فالأمر في طلب العلم عظيم، والخطب في التفقه في الدين كبير. . ولنذكر أيضا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (5) » ، رواه الشيخان من حديث معاوية رضي الله عنه، وهذا الحديث العظيم يدلنا على أن التفقه في الدين من الدلائل على أن الله أراد بالعبد خيرا، ومفهومه أن من لم يتفقه في الدين فذلك مخذول لم يرد الله به خيرا. ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونسأله سبحانه أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يتوفانا مسلمين، وأن
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) سورة طه الآية 44
(4) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(5) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(7/225)
يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يولي عليهم خيارهم، ويصلح قادتهم، وأن يكثر بينهم دعاة الهدى، وأن يرزقهم جميعا وفي كل مكان الفقه في دينه، والعمل بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.. والله أعلم وصلى الله وسلم على محمد.(7/226)
الأسئلة
السؤال الأول:
مما يشاع بين طلاب العلم وخاصة في الكليات والمؤسسات العلمية قولهم: العلم ذهب مع أهله، وأنه لا يوجد أحد يتعلم في المؤسسات العلمية إلا من أجل الشهادات والدنيا، فبماذا يرد عليهم، وما الحكم إذا اجتمع قصد الدنيا والشهادة مع نية طلب العلم لنفع نفسه ومجتمعه؟
الجواب: هذا الكلام ليس بصحيح، ولا ينبغي أن يقال هذا الكلام وأمثاله، ومن قال: هلك الناس فهو أهلكهم.
ولكن ينبغي التشجيع والتحريض على طلب العلم، والتفرغ لذلك، والصبر والمصابرة على ذلك، وحسن الظن بطلبة العلم، إلا من علم منه خلاف ذلك. ولما حضرت المنية معاذا - فيما يذكر - أوصى من حوله بطلب العلم، وقال: (إن العلم والإيمان مكانهما من أرادهما وجدهما) يعني: مكانها في كتاب الله العظيم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الأمين. . وإنما العالم يقبض بعلمه. . فالعلم يقبض بموت العلماء، لكن لا تزال(7/226)
بحمد الله طائفة على الحق منصورة. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا (1) » ، رواه البخاري في صحيحه. وهذا هو الذي يخاف منه، يخاف أن يتقدم للإفتاء والتعليم الجهلة، فيضلون ويضلون، وهذا الكلام الذي يقال: ذهب العلم، ولم يبق إلا كذا وكذا، يخشى منه التثبيط لبعض الناس، وإن كان الحازم والبصير لا يثبطه ذلك، بل يدفعه إلى طلب العلم، حتى يسد الثغرة. والفاهم المخلص، والصادق البصير بمثل هذا الكلام لا يثبطه ذلك، بل يتقدم ويجتهد، ويثابر ويتعلم ويسارع لشدة الحاجة للعلم، وليسد الثغرة التي زعمها هؤلاء القائلون: إنه لم يبق أحد، والحاصل أنه وإن نقص العلم وذهب أكثر أهله.
فإنه ولله الحمد لا تزال طائفة على الحق منصورة. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله (2) » ، فعلينا أن نجتهد في طلب العلم، وأن نشجع عليه، وأن نحرص على سد الثغرة، والقيام بالواجب في مصرنا وغيره، عملا بالأدلة الشرعية المرغبة في ذلك، وحرصا على نفع المسلمين، وتعليمهم، كما ينبغي أن نشجع على الإخلاص والصدق في طلب العلم، من أراد الشهادة ليتقوى بها على تبليغ العلم، والدعوة إلى الخير، فقد أحسن في ذلك، وإن أراد المال
__________
(1) صحيح البخاري العلم (100) ، صحيح مسلم العلم (2673) ، سنن الترمذي العلم (2652) ، سنن ابن ماجه المقدمة (52) ، مسند أحمد بن حنبل (2/162) ، سنن الدارمي المقدمة (239) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1920) ، سنن الترمذي الفتن (2229) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4252) ، سنن ابن ماجه المقدمة (10) ، مسند أحمد بن حنبل (5/279) .(7/227)
ليتقوى به فلا بأس أن يدرس ليتعلم وينال الشهادة التي يستعين بها على نشر العلم، وأن يقبل الناس منه هذا العلم، وأن يأخذ المال الذي يعينه على ذلك، فإنه لولا الله سبحانه ثم المال لم يستطع الكثير من الناس التعلم وتبليغ الدعوة. فالمال يساعد المسلم على طلب العلم، وعلى قضاء حاجته، وعلى تبليغه للناس، «ولما ولي عمر رضي الله عنه أعمالا، أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مالا، قال: أعطه من هو أفقر مني فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذ هذا المال فتموله أو تصدق به وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك (1) » ، خرجه مسلم في صحيحه. وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم.
ورغبهم حتى دخلوا في دين الله أفواجا، ولو كان حراما لم يعطهم، بل أعطاهم قبل الفتح وبعده. وفي يوم الفتح أعطى بعض الناس على مائة من الإبل، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر عليه الصلاة والسلام، ترغيبا في الإسلام ودعوة إليه. وقد جعل الله سبحانه للمؤلفة قلوبهم حقا في الزكاة، وجعل في بيت المال حقا لهم ولغيرهم من المدرسين والقضاة، وغيرهم من المسلمين. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7164) ، صحيح مسلم الزكاة (1045) ، سنن النسائي الزكاة (2608) ، سنن أبو داود الزكاة (1647) ، مسند أحمد بن حنبل (1/17) ، سنن الدارمي الزكاة (1647) .(7/228)
السؤال الثاني:
لقد ظهر بين الشباب ظاهرة ألا وهي أنهم يقولون: لا نتبع شيئا(7/228)
من المذاهب الأربعة، بل نجتهد مثلهم، ونعمل مثلما عملوا ولا نرجع إلى اجتهادهم. فما رأيكم في هذا وما نصيحتك لهؤلاء؟
الجواب: هذا الكلام قد يستنكر بالنسبة لبعض الناس. ولكن معناه في الحقيقة لمن تأهل صحيح، فلا يجب على الناس أن يقلدوا أحدا، ومن قال: إنه يجب تقليد الأئمة الأربعة فقد غلط، إذ لا يجب تقليدهم، ولكن يستعان بكلامهم وكلام غيرهم من أئمة العلم، وينظر في كتبهم رحمهم الله، وما ذكروا من أدلة، ويستفيد من ذلك طالب العلم الموفق، أما القاصر فإنه ليس أهلا لأن يجتهد، وإنما عليه أن يسأل أهل الفقه، ويتفقه في الدين، ويعمل بما يرشدونه إليه، حتى يتأهل ويفهم الطريق التي سلكها العلماء، ويعرف الأحاديث الصحيحة والضعيفة، والوسائل لذلك في مصطلح الحديث، ومعرفة أصول الفقه. وما قرره العلماء في ذلك، حتى يستفيد من هذه الأشياء، ويستطيع الترجيح فيما تنازع فيه الناس.
أما ما أجمع عليه العلماء فأمره ظاهر، وليس لأحد مخالفته، وإنما النظر لأهل العلم فيما تنازع فيه العلماء.
والواجب في ذلك رد مسائل النزاع إلى الله ورسوله، كما قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (1) الآية.
__________
(1) سورة النساء الآية 59(7/229)
وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) أما أن يجتهد وهو لا يستطيع ذلك، فهذا من الأغلاط الكبيرة، ولكن يسعى بالهمة العالية في طلب العلم، ويجتهد ويتبصر، ويسلك مسالك أهل العلم.
فهذه هي طرق العلم في دراسة الحديث وأصوله، والفقه وأصوله، واللغة العربية وقواعدها، والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي.
فيستعين بهذه الأمور على ترجيح الراجح في مسائل الخلاف، مع الترحم على أهل العلم، ومع السير على منهجهم الطيب، والاستعانة بكلامهم وكتبهم الطيبة، وما أوضحوه من أدلة وبراهين في تأييد ما ذهبوا إليه، وتزييف ما ردوه.
وبذلك يوفق طالب العلم لمعرفة الحق إذا أخلص لله، وبذل وسعه في طلب الحق، ولم يتكبر. . والله سبحانه ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الشورى الآية 10(7/230)
السؤال الثالث:
ينفر كثير من طلبة العلم من المناصب الدينية فما هو السبب، وهل من نصيحة للحضور، كما يلاحظ أن كثيرا من الطلبة في كليات الشريعة، يبحث بشتى الطرق للتخلص من القضاء، فما نصيحة فضيلتكم لهم؟
الجواب:
المناصب الدينية من القضاء والتعليم والفتوى والخطابة، مناصب(7/230)
شريفة ومهمة، والمسلمون في أشد الحاجة إليها. وإذا تخلى عنها العلماء تولاها الجهال، فضلوا وأضلوا.
فالواجب على من دعت الحاجة إليه من أهل العلم والفقه في الدين أن يمتثل؛ لأن هذه الأمور من القضاء والتدريس والخطابة والدعوة إلى الله وأشباه ذلك من فروض الكفايات، فإذا تعينت على أحد من المؤهلين وجبت عليه، ولم يجز له الاعتذار منها والامتناع. ثم لو قدر أن هناك من يظن أنه يكفي، وأنها لا تجب عليه هذه المسألة، فينبغي له أن ينظر الأصلح، كما ذكر الله سبحانه عن يوسف عليه الصلاة والسلام، أنه قال لملك مصر: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (1) لما رأى المصلحة في توليه ذلك، طلب الولاية، وهو نبي ورسول كريم، والأنبياء هم أفضل الناس، طلبها للإصلاح: يصلح أهل مصر، ويدعوهم إلى الحق.
فطالب العلم إذا رأى المصلحة في ذلك طلب الوظيفة ورضي بها قضائية أو تدريسا أو وزارة أو غير ذلك. على أن يكون قصده الإصلاح والخير، وليس قصده الدنيا، وإنما يقصد وجه الله، وحسن المآب في الآخرة، وأن ينفع الناس في دينهم أولا، ثم في دنياهم، ولا يرضى أن يتولى المناصب الجهال، والفساق، فإذا دعي إلى منصب صالح يرى نفسه أهلا له، وأن فيه قوة عليه، فليجب إلى ذلك، وليحسن النية، وليبذل وسعه في ذلك ولا يقل أخشى كذا، وأخشى كذا.
__________
(1) سورة يوسف الآية 55(7/231)
ومع النية الصالحة والصدق في العمل يوفق العبد ويعان على ذلك، إذا أصلح الله نيته وبذل وسعه في الخير وفقه الله.
ومن هذا الباب «حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي، أنه قال: يا رسول الله: اجعلني إمام قومي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت إمامهم واقتد بأضعفهم واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا (1) » ، رواه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح. فطلب رضي الله عنه إمامة قومه للمصلحة الشرعية، ولتوجيههم للخير، وتعليمهم وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، مثلما فعل يوسف عليه الصلاة والسلام.
قال العلماء: إنما نهي عن طلب الإمرة والولاية إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك؛ لأنه خطر كما جاء في الحديث النهي عن ذلك، لكن متى دعت الحاجة والمصلحة الشرعية إلى طلبها جاز ذلك، لقصة يوسف عليه الصلاة والسلام، وحديث عثمان رضي الله عنه المذكور.
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (209) ، سنن النسائي الأذان (672) ، سنن أبو داود الصلاة (531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/217) .(7/232)
السؤال الرابع:
من أكبر المشكلات التي يعاني منها طالب العلم مشكلة انصراف المجتمع عنه، وعن علمه، فهو لا يشعر بمكانه المناسب له في المجتمع؛ لأن المجتمع المادي في هذا العصر لا يقيس الأشخاص إلا بمقدار الكسب المادي الحاصل من أي عمل فما هو العلاج في نظر فضيلتكم؟ وكيف يعمل طالب العلم هل يكون في مجتمع خاص يستطيع أن يتعلم ويعيش فيه، أم ماذا يصنع؟ أرجو أن تقدموا لنا النصيحة(7/232)
التي استفدتموها عن شيوخكم. واستفادها شيوخكم عن شيوخهم؟
الجواب: هذا الذي قاله السائل ليس بصحيح، ولكن الصحيح أن العلم يقدم أهل العلم، ويرفع أهله في كل مجتمع. . فلو ذهب إلى أمريكا أو انجلترا أو فرنسا أو أي مكان لرفعه علمه بين الأقليات الإسلامية، وبين من يدعوهم إلى الله على بصيرة من نفس المشركين؛ لأنهم سينقادون إلى الحق إذا عرفوه بأدلته الواضحة، وبأخلاق أهله الكريمة.
فالإسلام هو دين الفطرة، وهو دين العدالة والأخلاق، ودين القوة، ودين النشاط، ودين المواساة، ودين كل فضيلة. فطالب العلم الذي يسير على بصيرة، يعرف الأدلة الشرعية، ويعرف أحكام الإسلام، ويعمل بها، مرفوع الرأس أينما كان، ومحترم أينما حل، ولا سيما بين جماعته وأهل بلده إذا عرفوا منه العلم والنصح، والصدق وعدم العجلة، التي ليس لها ما يبررها، بل يكون طبيبا حكيما، يدعو إلى الله بالحكمة والرفق.
فهذا مرفوع الرأس، ومحترم أينما كان: في قرية أو قبيلة، أو غير ذلك إذا كان متخلقا بالعلم قولا وعملا، مبتعدا عن أخلاق الفساق، والمجرمين. فإن هذا وأمثاله محبوب عند الله، وعند عباده الصالحين، ما دام يعلم ويعمل، وينصح إخوانه، ويعطف عليهم، ويحرص على نفعهم بعلمه، وأخلاقه، وماله، وجاهه. كما فعل الأنبياء والصالحون.
والقول بأن طالب العلم لا محل له في المجتمع، ولا يلتفت إليه(7/233)
قول في عمومه باطل غير موافق للواقع كما بينا.
فطالب العلم البصير بدينه الناصح لله ولعباده مرفوع الرأس، ومحترم أينما كان في الطائرة وفي القطار وفي البر والبحر، وفي أي مكان إذا أخلص لله، وأظهر العلم والدعوة إلى الله، وأحسن إلى الناس بالرفق والكلام الطيب فله البشرى والعاقبة الحميدة، والثناء الحسن من المجتمع، والأجر العظيم من الله عز وجل، كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (1) وكما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (2) وقال جل وعلا يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ثم لو قدر أن بعض الدعاة إلى الله لم يحصل مطلوبه، بل أوذي وامتحن، أليس له قدوة في الرسل الذين أوذوا وامتحنوا وأهانهم الناس بل قتلوا بعضهم؟ فلطالب العلم أسوة فيهم، عليهم الصلاة والسلام وفي تحملهم وصبرهم. ولو فرضنا أن طالب العلم ما وجد الاحترام بين الناس، فإن ذلك لا يضره؛ لأنه لم يطلب العلم لهذا، وإنما طلب العلم لإنقاذ نفسه من الجهالة، ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فإن قبلوا منه، ورفعوا مكانته فالحمد لله، وإلا فهو على خير،
__________
(1) سورة يوسف الآية 90
(2) سورة العنكبوت الآية 69
(3) سورة هود الآية 49(7/234)
ولو قتلوه أو أهانوه، فله أسوة بالرسل عليهم الصلاة والسلام، وبخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أوذي وأخرج من بلاده مكة إلى المدينة.
فالداعي إلى الله سبحانه الصادق المخلص له البشرى بالخير والعزة والكرامة، وحسن العاقبة، إذا سلك الطريق السوي. وكان على خلق عظيم وهدى وسيرة حميدة، من غير عنف ولا شدة، ولا دخول فيما لا يعنيه، فإنه على خير عظيم، كما حصل للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ولخاتمهم وأفضلهم، وإمام الدعاة والمجاهدين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ما حصل للتابعين لهم بإحسان.
والله ولي التوفيق.(7/235)
السؤال الخامس:
نجد في هذا الزمان فجوة بين العلماء وبين طلاب العلم، وعموم المجتمع، وهذه الفجوة تعتبر مشكلة من المشكلات. . فما هي الحلول التي تراها لهذه المشكلة؟
الجواب:
الفجوة تنشأ عن انحراف الطالب أو انحراف العالم الذي ينسب إلى العلم، فإذا كان الطالب رديئا في الصلاة، أو يتظاهر بالمعاصي، أو بالعجلة والشدة، كرهه العلماء، وكرهه الأخيار، فلم يفرحوا بطلبه. وكذلك العالم الفاسق، والعالم المعرض، يكرهه الطلبة الطيبون والمجتهدون في الدعوة إلى الخير، الراغبون في الأجر، فيكون بينهم فجوة، أما العلماء الصالحون، والطلاب الصالحون، فليس بينهم فجوة أبدا، بل بينهم التعاون الصادق في كل خير.(7/235)
ولكن الفجوة بين المنحرف الذي يدعي العلم، وهو مع الفساق والمدخنين، ومع شراب الخمر، ومع المنحرفين عن الصلاة، وأشباه ذلك.
فمن يحب هذا، ومن يقبل منه وهذه أخلاقه، فهو يحتاج إلى دعوة ونصيحة، وعناية وصبر ومصابرة، حتى يستقيم.
فالفجوة جاءت من جهته هو، الذي بعد بأقواله وأعماله عن أهل العلم، وسيرتهم الحميدة، والعالم الذي لا يمثل علمه بالتقوى والسيرة الحميدة، بل هو مع الخرافيين، ومع عباد القبور، ومع الخمارين، ومع أشباههم ليس بعالم، ولا يستحق التقدير، بل يستحق أن يجفوه أهل العلم النافع، والطلبة الصالحون، حتى يرجع إلى الحق، ويستقيم مع أهل الحق.
ولا شك أن طلبة العلم يمقتونه، ولا يفرحون بقربه لسوء سيرته، بل تسرهم الفجوة التي تكون بينهم وبينه، لعدم الفائدة منه، ولضرره على المجتمع، وعلى طلبة العلم، فهو بحاجة إلى أن يدعى إلى الله وينصح، حتى ينفعه علمه، وحتى ينفع الناس أيضا.
والواجب على الجميع التعاون على البر والتقوى، بصدق وإخلاص، والاستقامة على أمر الله، والحرص على ما يبعد الشحناء، وما يضيق الفجوة بينهم، وذلك بالعلم النافع والعمل الصالح، والسيرة الحميدة والصبر على ذلك والله الموفق.(7/236)
السؤال السادس:
ما معنى قولك: حفظك الله، على طالب العلم أن يجتهد، وهل(7/236)
كل واحد منا مهيأ لذلك، وما موقفنا من مذاهب الأئمة الأربعة التي انتشرت في البلاد، وبين العباد، وقلدها الكثير في كل مكان وزمان؟
الجواب:
على طالب العلم أن يجتهد حسب طاقته: المبتدئ يجتهد في الاستمرار في طلب العلم، ويحرص على أن يكون أهلا للترجيح في المسائل الخلافية، وعلى طالب العلم المتأهل الذي رزقه الله العلم، وتخرج من الدراسات العليا، ونظر في الكتب، وعرف أقوال الناس أن يجتهد في ترجيح الراجح، وتزييف الزائف بالأدلة الشرعية والصبر والمطالعة.
فالعلم ليس بالسهل، العلم يحتاج إلى صبر ومصابرة، ومراجعة الأحاديث التي تتعلق بموضوع البحث، فقد تمكث أياما كثيرة ما وجدت الحديث الذي تريد أو ما قدرت على تكوين رأي فيه من جهة صحته أو ضعفه.
وهكذا مراجعة كلام أهل العلم. وترجيح الراجح يحتاج إلى صبر ونظر في الأدلة، فالاجتهاد معناه بذل الجهد في تحصيل العلم والترقي فيه، حتى تكون من أهله العارفين بالأحكام الشرعية، ومواقف أهل العلم في المسائل الخلافية، وأن تقف في ذلك موقف الناصح والمحب لهم، المترضي عنهم الذي يعرف أقدارهم وما يبذلون من جهود في تحصيل العلم ونشره بين الناس، والاستفادة من كلامهم وعلومهم، وعدم سبهم وكراهتهم، أو إظهار الانتقاد على(7/237)
سبيل التنقص لهم، وعدم الفائدة منهم، وما أشبه ذلك.
فطالب العلم، يعرف قدر من قبله، وما ألفوا وما جمعوا، ونصحهم لله ولعباده، ويستفيد من كلامهم، وليس معناه أن يقلدهم في الحق والباطل، بل يعرف الحق بدليله. . قال مالك رحمه الله: (ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
وقال الشافعي رحمه الله: (أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس) .
وقال رحمه الله: (إذا قلت قولا يخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي الحائط) ، وهكذا قال أحمد وأبو حنيفة: معنى ما قاله مالك والشافعي رحم الله الجميع.
وهكذا قال غيرهم من الأئمة كلهم نصحوا الناس، وأوصوهم باتباع الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وألا يقدم على قول الله ورسوله قول أحد من الناس، بل يجب أن يقدم قول الله، وقول رسوله وما أجمع عليه سلف الأمة على من خالف ذلك.
هذا هو موقف العلماء المعتبرين، وهذا هو موقف طالب العلم منهم، حتى ينشأ على أخلاقهم، في تقديم قول الله، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وترجيح الراجح بالأدلة، واحترام العلماء، ومعرفة أقدارهم، والترضي عنهم، والترحم عليهم.
أما علماء السوء من الجهمية والمعتزلة وأشباههم فهؤلاء(7/238)
يجب أن يمقتوا، ويبغضوا في الله، وأن يحذر الناس من شرهم وأعمالهم القبيحة، وعقائدهم الباطلة، نصحا لله ولعباده، وعملا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله الموفق.(7/239)
السؤال السابع:
ما رأي فضيلتكم في هذه العبارة التي تتردد على ألسنة كثير من طلبة العلم وهي من كان شيخه كتابه ضل عن صوابه؟
الجواب:
المعروف أن من كان شيخه كتابه فخطؤه أكثر من صوابه هذه هي العبارة التي نعرفها.
وهذا صحيح: أن من لم يدرس على أهل العلم، ولم يأخذ عنهم، ولا عرف الطرق التي سلكوها في طلب العلم، فإنه يخطئ كثيرا، ويلتبس عليه الحق بالباطل، لعدم معرفته بالأدلة الشرعية، والأحوال المرعية التي درج عليها أهل العلم، وحققوها وعملوا بها.
أما كون خطئه أكثر فهذا محل نظر، لكن على كل حال أخطاؤه كثيرة، لكونه لم يدرس على أهل العلم، ولم يستفد منهم، ولم يعرف الأصول التي ساروا عليها فهو يخطئ كثيرا، ولا يميز بين الخطأ والصواب في الكتب المخطوطة والمطبوعة.
وقد يقع الخطأ في الكتاب ولكن ليست عنده الدراية والتمييز فيظنه صوابا، فيفتي بتحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله، لعدم بصيرته؛ لأنه قد وقع له خطأ في كتاب، مثلا: لا يجوز كذا(7/239)
وكذا، بينما الصواب أنه يجوز كذا وكذا، فجاءت لا زائدة أو عكسه: يجوز كذا وكذا والصواب: ولا يجوز فسقطت لا في الطبع أو الخط فهذا خطأ عظيم.
وكذلك قد يجد عبارة: ويصح كذا وكذا، والصواب: ولا يصح كذا وكذا، فيختلط الأمر عليه لعدم بصيرته، ولعدم علمه، فلا يعرف الخطأ الذي وقع في الكتاب، وما أشبه ذلك.(7/240)
السؤال الثامن:
إذا سئل شخص عن مسألة فأفتى فيها وبعد مدة تبين له أن ما أفتى به غير صحيح فماذا عليه أن يفعل؟
الجواب:
عليه أن يرجع إلى الصواب، ويفتي بالحق، ويقول: أخطأت، كما قال عمر: الحق قديم، فعليه أن يرجع إلى الصواب، ويفتي بالحق، ويقول: أخطأت في المسألة الأولى: أفتيت بكذا وكذا، ثم اتضح لي أنها خطأ، والصواب كذا وكذا. ولا بأس عليه في ذلك، بل هذا هو الواجب عليه فالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو رأس المفتين، لما سأله الناس عن التلقيح، وهو تأبير النخل، قال: ما أظنه يضره لو ترك، ثم أخبروه بأنه يضره: فقال: «إنما أخبرتكم عن رأيي والرأي يخطئ ويصيب أما ما أحدثكم به عن الله فإني لن أكذب على الله (1) » ، وأمرهم أن يرجعوا إلى التلقيح.
كذلك عمر رضي الله عنه أفتى بإسقاط الإخوة في مسألة المشركة، ثم أفتى بالتشريك بناء على ما ترجح لديه في ذلك.
__________
(1) صحيح مسلم الفضائل (2361) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2470) ، مسند أحمد بن حنبل (1/162) .(7/240)
فالرجوع إلى ما يعتقد العالم أنه الصواب والحق أمر معروف، وهو طريق أهل العلم والإيمان، ولا حرج في ذلك ولا نقص بل ذلك يدل على فضله، وقوة إيمانه، حيث رجع إلى الصواب وترك الخطأ.
ولو قال بعض الناس أو بعض الجهلة: إن هذا عيب، فهذا ليس بشيء، والصواب أنه فضل وأنه منقبة وليس بنقص.(7/241)
السؤال التاسع:
أنا طالب علم، كثيرا ما توجه إلي المسائل عن أمر من الأمور، سواء في العبادة أو غيرها، فأعرف الإجابة جيدا، إما عن سماع أحد المشايخ، أو في الفتاوى، ولكن يصعب علي استحضار الدليل الصحيح فقد يصعب علي ترجيحه فبماذا توجهون طلبة العلم في ذلك؟
الجواب:
لا تفتي إلا على بصيرة، وأرشدهم إلى غيرك ممن تظن في البلد أنه خير منك وأعلم بالحق، وإلا فقل: أمهلوني حتى أراجع الأدلة وأنظر في المسألة، فإذا اطمأننت إلى الصواب بالأدلة، فأفتهم بما ظهر لك من الحق.
وأوصي المدرسين لأجل هذا السؤال وغيره: أن يعنوا بتوجيه الطلبة إلى هذا الأمر العظيم، وأن يحثوهم على التثبت في الأمور، وعدم العجلة في الفتوى والجزم في المسائل إلا على بصيرة، وأن يكونوا قدوة لهم في ذلك بالتوقف عما يشكل والوعد(7/241)
بالنظر فيه بعد يوم أو يومين، أو في الدرس الآتي، حتى يتعود الطالب ذلك من الأستاذ بعدم العجلة في الفتوى والحكم، إلا بعد التثبت والوقوف على الدليل، والطمأنينة إلى أن الحق ما يقوله الأستاذ، ولا حرج أن يؤجل إلى وقت آخر، حتى يراجع الدليل، وحتى يراجع كلام أهل العلم في ذلك.
فقد أفتى مالك في مسائل قليلة، ورد مسائل كثيرة، قال فيها: لا أدري. وهكذا غيره من أهل العلم.
فطالب العلم من مناقبه أن لا يعجل، وأن يقول: لا أدري فيما يجهل.
والمدرسون عليهم واجب عظيم، بأن يكونوا قدوة صالحة، في أخلاقهم وأعمالهم للطلبة، ومن الأخلاق الكريمة أن يعود الطالب كلمة لا أدري، وتأجيل المسائل. حتى يفهم دليلها وحتى يعرف حكمها. مع التحذير من الفتوى بغير علم، والجرأة عليها. .
والله ولي التوفيق.(7/242)
نصيحة عامة للمسلمين من طلبة العلم وغيرهم (1)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وصفوته من خلقه وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد فإن النصيحة أمرها عظيم وشأنها كبير في إصلاح شئون المسلمين، وإرشادهم إلى أقوم سبيل كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة قال الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) فالتواصي بالحق، والصبر على ذلك من أعظم أبواب النصح الصادق الأمين، وضد ذلك لا يأتي إلا بالخسران، فالذين لا يتواصون بالحق، ولا بالصبر عليه خاسرون لا محالة؛ لأنهم تركوا واجب التناصح.
وقال رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (5) » ، خرجه الإمام مسلم في صحيحه. فالرسول عليه الصلاة والسلام جعل الدين كله النصيحة، وهذا حديث عظيم جامع للخير كله.
ومن المعلوم أن أنبياء الله ورسله عليهم صلوات الله وسلامه
__________
(1) نصيحة وجهها سماحته إلى عامة الأمة ونشرتها جريدة الرياض والجزيرة وغيرها في 9 \ 10 \ 1413 هـ.
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .(7/243)
هم أنصح الناس للناس، وأقومهم بواجب النصح والدعوة والتواصي بالحق والصبر عليه.
فهذا نوح صلى الله عليه وسلم يقول لقومه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) وهذا هود صلى الله عليه وسلم يقول لقومه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} (2)
وهذا صالح صلى الله عليه وسلم يقول لقومه: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} (3)
فأمر النصح عظيم جدا وأولى الناس بالتناصح والتواصي بالحق بعد الأنبياء هم العلماء وطلبة العلم.
فمن توفيق الله للعبد أن يسلك سبيل الأنبياء والمؤمنين الناصحين المتناصحين، وقد رأيت توجيه هذه النصيحة لإخواني من العلماء وطلبة العلم وسائر المؤمنين قياما بواجب النصح والتعاون على البر والتقوى كما قال سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4)
وأول ما أنصح به أن نتواصى بتقوى الله تعالى كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (5) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (6) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (7) وقال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (8)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 62
(2) سورة الأعراف الآية 68
(3) سورة الأعراف الآية 79
(4) سورة المائدة الآية 2
(5) سورة التوبة الآية 119
(6) سورة الأحزاب الآية 70
(7) سورة الأحزاب الآية 71
(8) سورة النساء الآية 131(7/244)
وأن نتواصى بإخلاص العبادة لله وحده عملا بقول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (1) ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (2) » .
وأنصح إخواني العلماء وطلبة العلم وكل مسلم في كل مكان بأن يتذكروا دائما أن أهم شيء يدعى إليه ويلتزم به ويسار عليه هو توحيد الله سبحانه وإخلاص العبادة له سبحانه، والإيمان به وبرسله، ودعوة الناس إلى عبادته وطاعته وترك نواهيه والاستقامة على ذلك وتحبيبه إليهم عز وجل، ودعوتهم إلى التوبة وبيان أن ذلك هو عين سعادتهم في الدنيا والآخرة.
وأنصح لهم بأن يتذكروا ما نحن فيه من نعم عظيمة ومنن كثيرة توجب الشكر لله آناء الليل وآناء النهار، وأعظمها نعمة الإسلام والأمن فإن الله ندب المؤمنين جميعا إلى أن يتذكروا هذه النعم والمنن فقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (3) وقال: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} (4)
__________
(1) سورة الكهف الآية 110
(2) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(3) سورة العنكبوت الآية 67
(4) سورة القصص الآية 57(7/245)
وقال عز وجل: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} (1) {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (2) وقال جل وعلا: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} (3) وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (4) وقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} (5) وقال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (6) وقال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (7)
وأنصح أيضا إخواني العلماء وطلبة العلم وجميع المسلمين بتعظيم وحدة الجماعة والمحافظة عليها أشد المحافظة والحذر من أسباب الفرقة والاختلاف وأذكرهم في هذا المقام بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (8) {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (9)
__________
(1) سورة قريش الآية 3
(2) سورة قريش الآية 4
(3) سورة الأعراف الآية 86
(4) سورة الأنفال الآية 26
(5) سورة البقرة الآية 152
(6) سورة إبراهيم الآية 7
(7) سورة سبأ الآية 13
(8) سورة آل عمران الآية 102
(9) سورة آل عمران الآية 103(7/246)
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم (1) » .
ومن المعلوم لدى أهل العلم أن تأليف القلوب على الحق من أعظم القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه عز وجل فالواجب السعي في ذلك والحرص عليه بكل إخلاص وصدق، وأنصح إخواني جميعا بالتثبت فيما يشيعه الناس عن العلماء أو غيرهم؛ لأن كثيرا من الناس يشيعون عن العلماء وطلبة العلم أشياء كثيرة لا أصل لها، فإذا لم يتثبت المؤمن في الأمور التي يتحدث فيها أوقع الناس في الغلط وهذا ليس من النصح في الدين، وقد أنكر الله سبحانه على من لم يتثبت في الأخبار ولم يردها إلى أهلها بقوله سبحانه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} (2) وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (3) وقال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت (4) » متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع (5) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1715) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) ، موطأ مالك الجامع (1863) .
(2) سورة النساء الآية 83
(3) سورة الحجرات الآية 6
(4) صحيح البخاري الأدب (6018) ، صحيح مسلم الإيمان (47) ، مسند أحمد بن حنبل (2/267) .
(5) صحيح مسلم مقدمة (5) ، سنن أبو داود الأدب (4992) .(7/247)
والإنسان مسئول عن كل قول وعمل كما قال عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (1) وقال سبحانه: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (2) {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3)
فاحذر أيها المؤمن أن يستزلك الشيطان ويغريك بعدم التثبت في الأمور والأخبار فتقع فيما لا تحمد عقباه، وتندم حين لا ينفع الندم، واعلم يا أخي أن الشيطان يحرص على إيقاع الفتن والشحناء بين المؤمنين، وعلى إشغال المؤمن بكل ما ينقص من حسناته إن لم يستطع إيقاعه في البدعة والمعصية كما قال الله سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (4)
وهناك أمر عظيم يستوجب النصح والتنبيه وهو الأسلوب الطيب الحسن في الدعوة إلى الله سبحانه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة، فعلى العلماء وطلبة العلم وكل مؤمن ومؤمنة أن يستعملوا الأسلوب الحسن في جميع ذلك، فإن شأن الأمر والنهي والنصيحة عظيم جدا ولا يجوز الإساءة إليه بأسلوب غير حسن، ولذلك أرشد الله عباده إلى الأسلوب الحسن في الدعوة فقال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (5)
__________
(1) سورة ق الآية 18
(2) سورة الحجر الآية 92
(3) سورة الحجر الآية 93
(4) سورة فاطر الآية 6
(5) سورة النحل الآية 125(7/248)
وقال سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (1) الآية.
وقال سبحانه: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} (2) وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (3) الآية، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
والخلاصة أن الأسلوب الحسن في الدعوة والنصح والأمر والنهي من أسباب القبول وعدم النفرة، وضد ذلك الأسلوب السيئ الذي يسبب النفرة. ولذا نبه الله تعالى المؤمنين على ذلك في الآيات السابقة وغيرها، فالواجب على الدعاة إلى الله سبحانه أن يتثبتوا في الأمر، وأن يتبصروا أولا حتى يتيقنوا أن هذا الأمر معروف أو منكر، وعلى القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يتحروا في ذلك الدليل الشرعي حتى يكون إنكارهم على بصيرة لقول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (4) مع نصيحتي لهم أيضا بأن يكون الإنكار بالرفق والكلام الطيب والأسلوب الحسن حتى يقبل منهم لقول الله عز وجل:
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 46
(2) سورة الإسراء الآية 53
(3) سورة آل عمران الآية 159
(4) سورة يوسف الآية 108(7/249)
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) وقوله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (3) » ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة.
وكذلك أوصي طلبة العلم وجميع المؤمنين بالحذر الشديد من كيد الأعداء وشبهاتهم وافتراءاتهم، وقد أرشدنا كتاب الله عز وجل إلى الحذر من افتراءاتهم وتآمرهم بقوله جل وعلا: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (4) وبقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (5) الآية، وكتاب الله تعالى يبين لنا أن العدو الكاشح يحزن إذا رآنا في نعمة وخير ودين ويفرح إذا أصابتنا مصيبة.
وقال تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (6) فأوصي إخواني العلماء وطلبة العلم وسائر المؤمنين بأن يتذكروا هذا الكيد، وأن يعملوا بموجب هذه الذكرى حتى
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2592) ، سنن أبو داود الأدب (4809) ، سنن ابن ماجه الأدب (3687) ، مسند أحمد بن حنبل (4/366) .
(4) سورة آل عمران الآية 186
(5) سورة النساء الآية 71
(6) سورة آل عمران الآية 120(7/250)
يسدوا كل الذرائع التي يتذرع بها العدو لأجل الكيد لنا وتمزيق شملنا.
كذلك أنصح لطلبة العلم بالنظرة السليمة إلى الأمور والأحوال العامة، فإن الخير والصلاح في بلادنا كثير ونحمد الله تعالى على ذلك وندعوه جل وعلا أن يزيدنا من فضله وكرمه وأن يوفقنا وولاة أمرنا لكل ما يرضيه وينفع عباده، ويجب أن نعرف هذا الخير والصلاح؛ لأن ذلك من أسباب شكر الله على نعمه وطلب المزيد من فضله، ثم بعد ذلك ننظر في الأخطاء لنعالجها بالقرآن الكريم وحكمته وهديه وإرشاده كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) وهكذا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته وإبلاغه الناس فيها الخير العظيم والدلالة على الطريق القويم والأسلوب المفيد في الدعوة والتوجيه، كما سبق بيان ذلك.
ومن أعظم وسائل النصح والقضاء على أسباب الشر التعاون مع ولاة الأمر في الحق وإصلاح الأوضاع، زادهم الله من التوفيق والهداية إلى أحسن طريق، وأصلح بهم العباد والبلاد، وجعل التوفيق للحق حليفهم في الأقوال والأعمال إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9(7/251)
نصيحة عامة موجهة للمسلمين في باكستان وغيرهم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإني أوصي إخواني في الباكستان حكومة وشعبا بتقوى الله سبحانه في جميع الأمور؛ لأنها وصية الله سبحانه ووصية رسوله الأمين محمد عليه الصلاة والسلام كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (2) الآية.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أمته في خطبه بتقوى الله، والتقوى كلمة جامعة تجمع الدين كله وتشمل العناية بمصالح الدنيا والآخرة وهي الدين كله، وهي البر، وهي الإيمان والإسلام والهدى والصلاح وسمى الله سبحانه دينه تقوى؛ لأن من استقام عليه وحافظ عليه وقاه الله شر الدنيا والآخرة، وأهم التقوى إخلاص العبادة لله وحده والصدق في متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم وتحكيم شريعته في جميع الأمور والحذر مما يخالفها كما قال الله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (3) الآية، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4)
__________
(1) سورة النساء الآية 131
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة البقرة الآية 21(7/252)
وقال عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) وقال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2)
ولا يخفى على ذوي الألباب أن في تحكيم الشريعة صلاح أمر الدنيا والآخرة كما أن فيه جمع الكلمة على الحق والقضاء على الفساد، ومن أهم التقوى التعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه، واتحاد العلماء واجتماع كلمتهم على الحق، وإرشادهم العامة إلى أسباب النجاة وتحذيرهم من أسباب الهلاك ومناصحتهم ولاة الأمور وإعانتهم على الخير كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم (3) » .
كما أوصي الجميع بالحذر من جميع أنواع الشرك والبدع والمعاصي؛ لأن ظهورها في المجتمع سبب لهلاك الجميع، كما أن الحذر منها والتواصي بتركها من أعظم أسباب النجاة، ولا صلاح للمجتمع الإسلامي إلا بالتعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه هي أخلاق المؤمنين وصفاتهم كما قال الله سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (4)
__________
(1) سورة المائدة الآية 50
(2) سورة النساء الآية 65
(3) صحيح مسلم الأقضية (1715) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) ، موطأ مالك الجامع (1863) .
(4) سورة التوبة الآية 71(7/253)
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (2) » خرجهما الإمام مسلم في صحيحه.
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وجميع إخواننا في الباكستان، وجميع المسلمين في كل مكان لما فيه رضاه وصلاح عباده، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يمن على الجميع بالفقه في دينه والثبات عليه والدعوة إليه على بصيرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .(7/254)
وجوب التضامن والتكاتف ضد أعداء المسلمين
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله إمام المجاهدين خير الدعاة أجمعين، وقائد الغر المحجلين صلى الله عليه وسلم، وبارك عليه وعلى آله وأصحابه جميعا وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإني أشكر الله جل وعلا على ما من به من هذا اللقاء بأخوة في الله من علماء المسلمين وقادتهم أعضاء المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية والثلاثين وفي رحاب بيت الله العتيق لتدارس شئون المسلمين وقضاياهم، وبذل المستطاع من الجهود في كل ما ينفع المسلمين ويعينهم على حل مشكلاتهم، وعلى إقامة دينهم وعلى تمسكهم بما جاء به نبيهم عليه الصلاة والسلام دين الهدى ودين الحق.
وقد سمعنا جميعا كلمة خادم الحرمين الشريفين الطيبة المباركة، التي شرح فيها - وفقه الله - أحوال المسلمين بعد حادث الخليج من النظام العراقي وما ترتب على ذلك وما حصل بسبب ذلك، وما(7/255)
حصل بسبب انحسار الشيوعية وتنفس المسلمين الصعداء بعد ذلك ولا شك أن ما جرى من النظام العراقي من العدوان على دولة الكويت يعتبر جريمة عظيمة ومنكرا عظيما ترتب عليه فساد كبير، ولكن الله جل وعلا برحمته وإحسانه رد كيده في نحره وأذله وقضى على عدوانه وصار بذلك عبرة للمسلمين ورحمة للمؤمنين بأن رد كيد العدو في نحره وهزم جنده ورد المظلومين إلى بلادهم ويسر أمورهم، فالحمد لله على ذلك ولقد أشار خادم الحرمين في كلمته إلى أمر عظيم وهو أن الواجب على المسلمين التضامن الإسلامي والتكاتف ضد أعدائهم والتمسك بكتاب ربهم وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام.
ولا شك أن هذا هو الطريق لاستعادة مجدهم وإقامة دينهم ونصرهم على أعدائهم فهم إخوة كما وصفهم الله في قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) فيجب عليهم أن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يتناصحوا، وأن يتواصوا بالحق والصبر عليه، وأن يبذلوا جهودهم في إقامة شعائر ربهم ونصر دينهم ودحض كيد أعدائهم بكل طريق شرعها الله لإقامة الدين ورد كيد الكائدين.
ولا ريب أن اعتصامهم بحبل الله جميعا وتضامنهم في نصر دينهم أينما كانوا من أعظم الأسباب في نصرهم على عدوهم واستعادة مجدهم الغابر.
فالواجب علينا جميعا في هذا المجلس وعلى جميع علماء المسلمين أينما كانوا التعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه،
__________
(1) سورة الحجرات الآية 10(7/256)
والتضامن الإسلامي الذي يوجبه الله علينا في قوله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وفي قوله عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (5) » .
فالواجب على المسلمين أينما كانوا التعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق، والتمسك بدين الله الذي جاء به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وذلك بالتمسك بالقرآن العظيم والسنة الصحيحة المطهرة وتحكيمهما في كل شيء والرجوع إليهما في كل شيء فهما الطريق للسعادة والسيادة، وهما الطريق للسلامة في الدنيا والآخرة.
فالواجب على جميع الدول الإسلامية وعلى علماء المسلمين التناصح والتكاتف في هذا الأمر، وأن يتواصوا به، وأن يحكموا شريعة الله في عباد الله كما دل على ذلك كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم.
والواجب على الدول الإسلامية أيضا تشجيع المجاهدين والداعين إلى الله حتى يحققوا ما جاهدوا من أجله في أفغانستان وفي الفلبين وفي كل مكان، يجب على المسلمين حكومات وشعوبا أن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يتناصحوا ويهتموا بإخوانهم في حفظ دينهم والاستقامة عليه بكل وسيلة من الوسائل التي شرعها الله لعباده.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .(7/257)
والواجب على رؤساء المسلمين وحكوماتهم أن يتقوا الله ويستقيموا على دين الله، وأن يحكموا شرع الله أينما كانوا في شعوبهم لقول الله عز وجل في كتابه العظيم: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1)
فالواجب على جميع الدول الإسلامية أن يهتموا بهذا الأمر وأن يقوموا به خير قيام؛ لأن في ذلك عزهم ونصرهم على عدوهم وسعاداتهم في العاجل والآجل، وعليهم أن ينشئوا المعاهد والجامعات الإسلامية لتخريج العلماء والقضاة الذين يعلمون الناس دينهم ويحكمون بينهم بشرع الله، وأن يشجعوا الحكام ويعينوهم ويرشدوهم إلى ما فيه سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، وأن يرشدوا الناس ويعلموهم شريعة ربهم وأحكام دينهم بكل صبر وإخلاص. . وأن يعينوهم على ذلك حسب الطاقة، يرجون بذلك ثواب الله ويخشون عقابه سبحانه وتعالى. ولا شك أن في ذلك عزهم وسعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة.
والواجب على علماء الإسلام أيضا أينما كانوا أن يدرسوا طلابهم ويفقهوا المسلمين في بلادهم في دين الله، وأن يعلموهم شريعة الله في المساجد والمدارس وفي جميع الأماكن حسب الطاقة وفي المجالس العامة، والاحتفالات العامة، وفي دور العلم حسب الطاقة والإمكان كل واحد يتحرى الفرصة المناسبة والمكان المناسب لتعليم شرع الله وإرشاد الناس إلى دين الله، وحثهم على القيام بأمر
__________
(1) سورة النساء الآية 65(7/258)
الله والتمسك بشرع الله والتواصي بالحق والصبر عليه أينما كان.
هذا هو واجب العلماء وهذا هو واجب رؤساء بلاد المسلمين أن يتقوا الله، وأن يتعاونوا مع علمائهم في تحكيم شرع الله والقيام بأمر الله في كل شيء، والعامة في ذمة الدول وفي ذمة الرؤساء والعلماء فيجب عليهم أن يتعاونوا في تفقيه الناس وتعليمهم وإرشادهم وحل مشاكلهم على ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فلا بد من التواصي بذلك والتعاون فيه حتى يحكم شرع الله وحتى يستقيم المسلمون عليه، وحتى يدخل الناس في دين الله أفواجا بعد ما خرج منه من خرج جهلا وضلالا، أو بسبب دعاة الباطل وأعوانهم حتى استجاب له من استجاب عن جهل وقلة بصيره، فإذا رجع المسلمون إلى دينهم واستقاموا عليه حصل لهم كل خير وسلموا من كل شر ونصرهم الله على أعدائهم وصارت لهم العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة.
وإني لأرجو من هذه المجالس المجلس التأسيسي للرابطة، والمجلس الأعلى العالمي للمساجد، والمجمع الفقهي أن ينفع الله بها المسلمين، وأن يجعلها سببا لكل خير في جميع الدول الإسلامية وفي جميع مواطن المسلمين في كل مكان، وتعلمون بحمد الله باليقظة الإسلامية والصحوة الإسلامية في سائر أرجاء الدنيا في أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا، وفي كل مكان نشاط إسلامي وصحوة إسلامية ورغبة في الدين وهذا يبشر بالخير ويحتاج إلى تكاتف وتعاون من رؤساء الدول الإسلامية وعلماء المسلمين، ومن أغنياء المسلمين حتى يكون الجميع متعاونين على البر والتقوى.(7/259)
وهكذا يجب على المسلمين في كل مكان: في مصر، وفي ليبيا، وفي تونس، وفي الجزائر، وفي المغرب، وفي أمريكا، وفي أوروبا وفي كل مكان يجب أن يتعاونوا على البر والتقوى وأن يتواصوا بالحق والصبر عليه، ويجب أن يتفقهوا في الإسلام ويحرصوا على الاستفادة من علمائهم في كل وقت حتى يكونوا على بصيرة في دينهم، وحتى يؤدوا أعمالهم على الوجه المطلوب الذي يرضيه سبحانه، وحتى يستقيم أمر الله بينهم، وحتى يحكموا شرع الله في شئونهم الدينية والدنيوية.
نسأل الله للجميع التوفيق والهداية ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يفقههم في الدين، وأن يصلح ولاة أمرهم وقادتهم، وأن يعينهم على تحكيم شرع الله في بلاد الله والرفق بعباد الله، وأن يوجهوهم إلى كل خير، وأن يمنحهم الله الهدى والثبات، وأن يوفق أغنياء المسلمين لإعانة القائمين بالدعوة إلى الله ومعلمي الناس الخير والبذل في سبيل الله. . ولما في ذلك من إعانتهم على هذه المهمة العظيمة، كما نسأله سبحانه أن يعين دولنا الإسلامية وأغنياءنا جميعا على مواساة الفقير والإحسان إليه، والأخذ بيده وتعليمه دينه وإرشاده إلى كل خير إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي والرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(7/260)
حكمة الداعي وأدب المدعو (1)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين أما بعد:
فإن التذكير بالله والدعوة إلى سبيله من سنة المرسلين عليهم الصلاة والسلام، فقد بعثهم الله دعاة للحق وهداة للخلق، يبشرون وينذرون لإقامة الحجة وقطع المعذرة كما قال جل وعلا: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (2) وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (3) {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (4) وهكذا خلفاؤهم من أهل العلم وورثتهم هذا طريقهم وسبيلهم، الدعوة إلى الله والتذكير بالله والتبشير للمتقين والإنذار لغيرهم، فالله سبحانه خلق الخلق لعبادته، وأرسل الرسل ليبينوا ذلك ويدعوا إليه، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (5) فالثقلان:
__________
(1) أصل الكلمة محاضرة ألقاها سماحته في مسجد الفقيه بمكة المكرمة في رجب عام 1412 هـ.
(2) سورة النساء الآية 165
(3) سورة الأحزاب الآية 45
(4) سورة الأحزاب الآية 46
(5) سورة الذاريات الآية 56(7/261)
الجن والإنس خلقوا ليعبدوا الله، وهذه العبادة هي حق الله على عباده المكلفين من جن وإنس، وقد بعث الله الرسل عليهم الصلاة والسلام ليبينوا هذه العبادة ويدعوا إليها ويشرحوها للناس، وأنزل الكتب لهذا الأمر، وأعظمها وأفضلها وأكملها وخاتمها القرآن العظيم، فيه بيان الهدى وطريق السعادة، فيه بيان ما يرضي الله ويقرب إليه من أقوال وأعمال ومقاصد، وبيان ما يغضب الله ويباعد من رحمته كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) وقال سبحانه: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (2) {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} (3)
وقال سبحانه في أول سورة إبراهيم: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (4) وقال سبحانه في سورة النحل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (5) وقال عز وجل في سورة الحديد: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (6) الآية، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فجدير بكل مؤمن ومؤمنة التدبر لكتاب الله والتعقل لما ذكره الله فيه، والإكثار من تلاوته لمعرفة ما فيه، وللعمل بما دل عليه كما قال عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (7)
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة هود الآية 1
(3) سورة هود الآية 2
(4) سورة إبراهيم الآية 1
(5) سورة النحل الآية 89
(6) سورة الحديد الآية 25
(7) سورة الإسراء الآية 9(7/262)
وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (1) وقال عز وجل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) وقال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (3)
فجدير بنا جميعا من الرجال والنساء، جدير بالعلماء وغير العلماء التدبر لكتاب الله والتعقل له والعناية به لمعرفة الحق وأتباعه ولمعرفة ما يرضي الله ويقرب إليه من قول وعمل حتى نعمل به، ولمعرفة ما يغضب الله ويباعد من رحمته حتى نتجنبه، وحتى نقوم بالدعوة إلى الخير وإلى ترك الشر على بصيرة وعلى علم، والرسل عليهم الصلاة والسلام بعثوا لهذا الأمر كما تقدم قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (4) وهكذا الكتب أنزلت لهذا الأمر كما سبق قال سبحانه: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (5) {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} (6) وقال جل وعلا: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (7) فالكتب المنزلة من السماء كلها تدعوا إلى طاعة الله ورسوله والإيمان به والوقوف عند حدوده، وهكذا الرسل عليهم الصلاة والسلام كلهم بعثوا لبيان حق الله وإرشاد الناس إلى ذلك من قول وعمل وعقيدة.
فالواجب على أهل الإسلام التفقه في العبادة التي خلقوا
__________
(1) سورة فصلت الآية 44
(2) سورة ص الآية 29
(3) سورة النحل الآية 89
(4) سورة النحل الآية 36
(5) سورة هود الآية 1
(6) سورة هود الآية 2
(7) سورة إبراهيم الآية 52(7/263)
لها وهي توحيد الله، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، هذه هي العبادة التي خلقنا لها جميعا، توحيد الله عز وجل بأفعالنا وبجميع عباداتنا من قول وعمل واعتقاد وطاعة الأوامر وترك النواهي، أما معنى قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) فالمعنى: يطيعوني بإخلاص العبادة له وحده، وبفعل الأوامر وترك النواهي والوقوف عند الحدود.
والدعاة إلى الله وعلماء الحق هم خلفاء الرسل، وهم الورثة للرسل في الدعوة إلى الخير، وبيان طريق السعادة ليسلك، وبيان طريق الشقاء والهلاك ليجتنب ويحذر، وعنوان كلمتي هذه كما سبق هو: (حكمة الداعي وأدب المدعو) وهذا العنوان اختارته التوعية ووافقت عليه؛ لأن الحكمة من الداعي إلى الله لها شأن عظيم، فالداعي يتحرى في دعوته الكلمات المناسبة والأوقات المناسبة، والأسلوب المناسب، حتى يكون ذلك أقرب إلى النجاح، ومن أسماء الله جل وعلا الحكيم العليم لأنه سبحانه يضع الأمور مواضعها عن علم: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (2) ، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (3) وهو يعلم الأشياء على ما هي عليه ويضع أفعاله وأحكامه على ما هو اللائق به سبحانه والمناسب لمنفعة العباد وصلاحهم، فهو الحكيم العليم في قوله وعمله في أمره ونهيه في كل ما يقول ويفعل سبحانه وتعالى.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الأنعام الآية 83
(3) سورة النساء الآية 11(7/264)
فالحكيم هو الذي يعلم الأشياء ويضع الأعمال والأقوال مواضعها، وهذا الوصف على الكمال إنما يصدق على الله عز وجل؛ لأنه العالم بكل شيء والحكيم في كل شيء سبحانه وتعالى، ومن حكمة الداعي أن يكون عنده العلم بما يدعو إليه وما ينهى عنه، كما قال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} (1) يعني: بالعلم قال الله وقال رسوله.
ومن حكمة الداعي أن يأتي بالأسلوب المناسب والبيان المناسب ويخاطب كل قوم بما يعقلون ويفهمون، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (2) يعني على علم، وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} (3) أي بالعلم {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (4) أي الترغيب والترهيب التي تلين القلوب وتقربها من قبول الحق، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (5) أي بالأسلوب الحسن لا بالعنف والشدة لكن بالتي هي أحسن حتى يقبلوا الحق وحتى ينقادوا له، وقال تعالى في أهل الكتاب: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (6) وهم اليهود والنصارى، فلا يجوز جدالهم إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم فمن ظلم له شأن آخر.
وإذا كان هذا التوجيه من المولى سبحانه في جدال أهل الكتاب فالمسلمون من باب أولى، وقال عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (7)
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة النحل الآية 125
(4) سورة النحل الآية 125
(5) سورة النحل الآية 125
(6) سورة العنكبوت الآية 46
(7) سورة آل عمران الآية 159(7/265)
يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (1) يعني المدعوين من قريش وغيرهم، {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2) وقال لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (3) وهذا توجيه من الله سبحانه لرسوليه موسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون، ليتأسى بذلك الدعاة ويتخلقوا به في دعوتهم إلى الله لا سيما مع الرؤساء والعظماء، ولا سيما في عصرنا هذا، فإن الحكمة والأسلوب الحسن والرفق من أهم المهمات في كل وقت وفي هذا الوقت بوجه أخص، لكثرة الجهل وغلبة الهوى على أكثر الخلق، وبالشدة ينفر منك الناس ويبتعدون عنك ولا يقبل الحق إلا من رحم الله.
وقد ذكر بعض المؤرخين أن أحد الدعاة قابل بعض الحكام من بني العباس فقال له: إني قائل لك ومشدد عليك، فقال له الخليفة: لا يا أخي ارفق بي فلست بشر من فرعون ولست خيرا من موسى، وقد قال الله لموسى وهارون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (4) والمقصود أن تحري الألفاظ المناسبة للمدعو والمنصوح أولى مع الرفق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (5) » ويقول عليه الصلاة والسلام: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (6) » .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) سورة طه الآية 44
(4) سورة طه الآية 44
(5) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2592) ، سنن أبو داود الأدب (4809) ، سنن ابن ماجه الأدب (3687) ، مسند أحمد بن حنبل (4/366) .
(6) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .(7/266)
ثم إن لكل مقام مقالا فالداعي ينظر حاجة المجتمع الذي يتكلم فيه وما فشا فيه من منكرات فيعالج تلك الأمور بالأدلة الشرعية وهي: قال الله، وقال رسوله بالأدلة، ويرفق بمن سأل أو طرح شبهة حتى يوضح له الحق ويجادله بالتي هي أحسن وحتى تزول الشبهة، إذ المقصود هداية الخلق وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وليس المقصود إظهار علمك ولا توبيخهم وإظهار جهلهم، وإنما المقصود دعوتهم إلى الخير وهدايتهم إلى الحق وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
فالواجب سلوك الطرق والأخذ بالوسائل التي تؤدي إلى هذا الأمر ويرجى منها المنفعة.
وهكذا المدعو له آداب: منها الإنصات والإقبال على ما يسمع من الدعوة والتذكير ليستفيد ويفهم، ومنها إخلاص النية، وأن يكون قاصدا للفائدة وللعلم والمعرفة والعمل، ومنها حسن السؤال إذا سأل، هذا كله من أدب المدعو: الإنصات، والإقبال على الناصح، والإخلاص في ذلك، وحسن الرغبة، وطلب الحق، والعزم على فعل الخير، والأخذ بالنصيحة، قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} (1) {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} (3) {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} (4) {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (5) وقال سبحانه: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (6)
__________
(1) سورة الزمر الآية 17
(2) سورة الزمر الآية 18
(3) سورة النساء الآية 66
(4) سورة النساء الآية 67
(5) سورة النساء الآية 68
(6) سورة فصلت الآية 35(7/267)
فالمدعو مشروع له أن يقبل بقلبه وقالبه على الدعوة، وأن يريد وجه الله والدار الآخرة، وأن يؤسس بقلبه ونيته قبول الحق والعمل بالحق متى عرفه ومحاربة الهوى والشيطان، وإن أهم الأمور التي يجب التنبيه عليها دائما هو إخلاص العبادة لله وحده، وأن يحاسب العبد نفسه حتى تكون أعماله وأقواله لله وحده في جميع تصرفاته في صلاته وفي صومه ودعوته إلى الله وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر إلى غير ذلك فيخلص لله في جميع أعماله، وأن يكون هدفه طاعة الله ورسوله وإرضاءه سبحانه، والفوز بكرامته، وأداء الحق الذي على العبد.
وأساس الدين وأصله توحيد الله والإخلاص له سبحانه كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) وقال سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (3) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (4) والنبي صلى الله عليه وسلم مكث عشر سنين في مكة يدعو الناس إلى توحيد الله والإخلاص له، وينهاهم عن الشرك بالله ويبين لهم بطلان دعوة الأصنام ودعوة الأنبياء والصالحين، وأن الواجب إخلاص العبادة لله وحده وهو الذي يدعى ويرجى، وهو الذي يتقرب إليه بالذبائح
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة الزمر الآية 2
(4) سورة الزمر الآية 3(7/268)
والنذور والصلاة والصوم وغير هذا من أنواع العبادة، كما قال سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (1) وقال عز وجل: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (2) وفي الأحاديث الصحيحة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (3) » ، يعني حتى يشهدوا بها قولا وعملا واعتقادا فيعتقدون معناهما ويعملون به وذلك بتوحيد الله والإخلاص له وترك الإشراك به سبحانه وتعالى، ثم يؤدون ما أمروا به من صلاة وصوم وزكاة وغير ذلك ويجتنبون ما نهوا عنه.
وفي الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله (4) » .
فجميع المكلفين من جن وإنس مأمورون بتوحيد الله والإخلاص له في العبادة، وأن يصدقوا رسوله عليه الصلاة والسلام ويؤمنوا بما جاء به من الهدى، وأن يعتقدوا أنه عبد الله ورسوله أرسله الله إلى الناس كافة من الجن والإنس وجعله خاتم الأنبياء، وأوجب على جميع المكلفين الإيمان به وتصديقه واتباع شريعته عليه الصلاة والسلام.
ثم على كل فرد أن يؤدي الحقوق التي عليه بعد توحيد الله، والإخلاص له، وترك الإشراك به، والإيمان برسوله محمد عليه الصلاة والسلام وبكل ما أخبر به الله ورسوله، يجب أن تؤدي الحقوق
__________
(1) سورة غافر الآية 14
(2) سورة الزمر الآية 2
(3) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .
(4) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .(7/269)
التي أوجب الله عليك من صلاة وزكاة وصوم وحج وبر الوالدين وصلة الرحم وصدق الحديث وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله إلى غير ذلك مع الحذر من كل ما نهى الله عنه، وأعظم ذلك الشرك بالله فإنه أعظم الذنوب، وهكذا جميع المعاصي عليك أن تحذرها من العقوق والزنى وشرب المسكر وقطيعة الرحم وأكل الربا إلى غير ذلك مما حرم الله، فالمؤمن والمؤمنة عليهما الجهاد للنفس حتى يستقيم المؤمن على طاعة الله ورسوله، وحتى تستقيم المؤمنة على طاعة الله ورسوله في جميع الأحوال في الشدة والرخاء في الليل والنهار في السفر والإقامة وفي كل وقت وفي كل مكان، كل واحد يجاهد نفسه حتى يستقيم على أمر الله، وحتى يدع ما حرم الله، وحتى يقف عند حدود الله.
والصلاة هي عمود الإسلام وأعظم الواجبات وأهم الأمور بعد الشهادتين، فالواجب على كل مؤمن ومؤمنة العناية بالصلاة، والمحافظة عليها في أوقاتها وأن يؤديها كل منهما بطمأنينة، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (1) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2) وعلى المؤمن أن يحافظ عليها في الجماعة في بيوت الله لا يتشبه بالمنافقين والكسالى بل ويسارع إليها ويحافظ عليها مع إخوانه في بيوت الله كل وقت، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (3) يعني صلوا مع المصلين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر، قيل
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 1
(2) سورة المؤمنون الآية 2
(3) سورة البقرة الآية 43(7/270)
لابن عباس: ما هو العذر قال: خوف أو مرض، فجاءه رجل أعمى فقال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فهل لي من رخصة إذا صليت في بيتي؟ قال: هل تسمع النداء للصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب (1) » .
فهذا رجل أعمى ليس له قائد يقال له: أجب فكيف بحال غيره.
فعلى المسلم أن يحافظ على هذه العبادة العظيمة التي هي عمود الإسلام من حفظها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، وقد ذكر مالك رحمه الله في موطئه عن نافع «أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يكتب إلى عماله وأمرائه ويقول لهم: (إن أهم أمركم عندي الصلاة فمن حفظها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع) (2) » .
وكثير من الناس اليوم ليس عنده عناية بالجماعة وهذا خطر عظيم وشر كبير، وربما ترك بعضهم صلاة الفجر فلم يصلها إلا بعدما تطلع الشمس ويقوم لعمله وهذا منكر عظيم، فالصلاة عمود الإسلام من حفظها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، والله يقول سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (3) فالواجب العناية بها والمحافظة عليها في أوقاتها، وفي الجماعة في حق الرجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (4) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (5) » ، وهذا وعيد عظيم، وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أن ذلك كفر أكبر،
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (551) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (793) .
(2) موطأ مالك وقوت الصلاة (6) .
(3) سورة البقرة الآية 238
(4) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/370) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .
(5) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .(7/271)
وأن تركها كفر أكبر وإن لم يجحد وجوبها، أما إذا جحد وجوبها فهذا كفر أكبر عند جميع العلماء، فالواجب الحذر، وأن نحافظ عليها في الجماعة، وأن نعظمها ونؤديها بقلب حاضر وخشوع وإقبال نرجو ثواب الله ونخشى عقاب الله.
وهكذا زكاتك حق المال وهي الركن الثالث من أركان الإسلام الخمسة عليك أن تعتني بها، وأن تؤديها عن طيب نفس وعن رغبة فيما عند الله، وأن تجتهد في تخليص مالك منها، وأن تضعها في يد المستحقين لها ترجو ثواب الله وتخشى عقاب الله.
وهكذا صوم رمضان عليك أن تصومه في وقته، وأن تحافظ عليه، وأن تصونه مما حرم الله من غيبة ونميمة ومن سائر المعاصي.
وهكذا حج البيت في حق من استطاع السبيل إليه يجب عليه أن يحج من رجل وامرأة مرة واحدة في العمر لقول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (1) الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس (2) » ، وذكر منها الحج.
وهكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليك أن تعتني بهذا مع أهل بيتك ومع جيرانك ومع غيرهم من إخوانك المسلمين، لكونه من أهم أخلاق المؤمنين والمؤمنات كما قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) هكذا المؤمنون والمؤمنات
__________
(1) سورة آل عمران الآية 97
(2) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/26) .
(3) سورة التوبة الآية 71(7/272)
جميعا ذكر الله سبحانه أنهم أولياء ليسوا أعداء، بل بينهم المحبة والإخاء والتعاون على الخير، وهكذا يجب على المؤمنين والمؤمنات أن تسود بينهم المحبة والإخاء والحب في الله والبغض في الله، وأن يكونوا بعيدين عن الكذب والخيانة والغيبة والنميمة وعن شهادة الزور وعن كل ما يسبب الفرقة والاختلاف والشحناء، وأوضح سبحانه أنهم: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) وقدم ذلك على الصلاة والزكاة، لعظم الفائدة والمصلحة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي آية أخرى وصف الأمة كلها بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر يعني: أمة الإجابة كما في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (2) وما ذلك إلا لأهمية هذا الواجب وعظم المصلحة فيه.
فعلى المؤمن أن يقوم على أهل بيته بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من زوجة وأولاد وغيرهم، ينصحهم جميعا ويحذرهم من معاصي الله ويحثهم على الصلاة والمحافظة عليها في أوقاتها، ويحثهم على كل ما أوجب الله، وينهاهم عما حرم الله عليهم ويحذرهم من الغيبة والنميمة ومن إيذاء بعضهم لبعض ومن إيذاء الجيران ومن تخلف الرجال عن الصلاة في الجماعة إلى غير هذا، عملا بهذه الآية الكريمة وهي قوله سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) الآية، وعملا بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (4) الآية.
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة آل عمران الآية 110
(3) سورة التوبة الآية 71
(4) سورة التحريم الآية 6(7/273)
وبقول الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (1) وبقوله سبحانه عن نبيه ورسوله إسماعيل عليه الصلاة والسلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (2) {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (3)
فأنت يا عبد الله عليك أهلك جاهدهم في الله بالحكمة والكلام الطيب والشدة تارة والرخاء تارة أخرى من لم ينفع فيه اللين والكلام الطيب ينتقل معه إلى القوة والتأديب كما قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (4) فمن ظلم يعاقب بما يستحق حسب الطاقة وفي حدود الشرع المطهر، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع (5) » ، فإذا ما نفع الكلام يضرب، هكذا مع الفساق والعصاة إذا لم تجد فيهم النصيحة والتوجيه إلى الخير وجب على المسئولين أن يؤدبوا ويزجروا بما يردع عن الباطل ويقيم الحق.
وعليهم أن يقيموا الحدود الشرعية على أهلها حسب الطاقة لقول الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (6) ؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (7) » ، فأنت يا عبد الله عليك
__________
(1) سورة طه الآية 132
(2) سورة مريم الآية 54
(3) سورة مريم الآية 55
(4) سورة العنكبوت الآية 46
(5) سنن أبو داود الصلاة (495) ، مسند أحمد بن حنبل (2/187) .
(6) سورة التغابن الآية 16
(7) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .(7/274)
أن تجتهد حسب طاقتك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع أهلك ومع جيرانك ومع غيرهم من المسلمين مع تحريك الأسلوب الحسن لعلك تنجح ولعله يستجاب لك، وإذا قدرت باليد كضرب ولدك أو ضرب زوجتك عند مخالفتهما لأمر الله وعدم انصياعهما للدعوة والحق والهدى، وهكذا خادمك إذا لم يقم بالواجب ولم يقبل النصيحة.
والمقصود أن المؤمن يسلك مسلك الحكمة في جميع أموره بالكلمة الطيبة والأسلوب الحسن مهما أمكن فهذا هو المقدم، فإذا دعت الحاجة إلى الضرب أو التوبيخ حين تستطيع الضرب أو التوبيخ فافعل ذلك حسب طاقتك على قدر ما يحتاج إليه مع من تستطيع من ولد أو زوجة أو غيرهما، والأمير مع من تحت يده، والهيئة على حسب ما عندها من التعليمات، وولي الأمر كذلك، كل عليه نصيبه وكل عليه واجبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلزام الناس بالحق؛ لأن هذه الدار هي دار العمل وهي دار المجاهدة وهي دار الدعوة وهي دار التوجيه إلى الخير وهي دار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآخرة هي دار الجزاء. يقول سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (1) {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (2)
فلا يجوز التساهل وتمشية الأمور وأنت قادر على إنكار المنكر وإيجاد الحق وعلى التوجيه والإرشاد وعندك علم، يقول سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) ويقول جل وعلا:
__________
(1) سورة الزلزلة الآية 7
(2) سورة الزلزلة الآية 8
(3) سورة فصلت الآية 33(7/275)
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) فعليك يا عبد الله أن تقوم بالواجب من الدعوة والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى إخوانك المستمعين والمأمورين أن يستجيبوا للحق، وأن يتأدبوا بالآداب الشرعية من قول الحق وإيثاره والرضا به وتقديمه على الهوى، هذا هو طريق السعادة.
يقول سبحانه في كتابه العظيم: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} (2) {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (3) {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (4) {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} (5) {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (6) فمن خاف مقام الله وراقبه سبحانه قبل النصيحة وخضع للحق وقبله وتأدب بالآداب الشرعية، وسارع إلى ما أوجب الله وإلى ترك ما حرم الله، فالهوى يفضي بأهله إلى النار، ويفضي بأهله إلى الضلالة وإلى سوء المصير، كما قال جل وعلا: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (7) وقال تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (8)
فبين سبحانه أن الواقع أمران وهما: إما الاستجابة لله والرسول وإما اتباع الهوى فقال سبحانه: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} (9) يعنى يا محمد {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} (10) ثم قال سبحانه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (11)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2) سورة النازعات الآية 37
(3) سورة النازعات الآية 38
(4) سورة النازعات الآية 39
(5) سورة النازعات الآية 40
(6) سورة النازعات الآية 41
(7) سورة ص الآية 26
(8) سورة القصص الآية 50
(9) سورة القصص الآية 50
(10) سورة القصص الآية 50
(11) سورة القصص الآية 50(7/276)
ويقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (1) فالله ورسوله إنما يدعوان لما يحيي العباد وينقذهم من الضلال، فالحياة والسعادة في قبول الدعوة لما أمر الله به ورسوله، وفي الأخذ بما شرع الله هذا هو طريق السعادة وطريق الحياة وطريق النور، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (2) فالكافر ميت وفي ظلمة، وحياته: بالإيمان والإسلام، والنور هو ما جاء به الرسول من الإيمان والهدى والعلم النافع في القرآن والسنة، لا يستويان، لا يستوي الكافر الميت البعيد عن الهدى مع المؤمن الذي قد أعطاه الله النور والهدى، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (3)
فبين سبحانه أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة هو الروح وهو النور، فالقرآن والسنة هما الروح الذي تحصل به الحياة، وهما النور الذي تحصل به البصيرة، فكلما قوي علمك بالكتاب والسنة حصل لك الروح الطيبة والنور، وكلما قل علمك ضعفت الحياة وضعف النور، فالحياة السعيدة لمن أخذ بالوحي واستقام عليه، حيث يحصل به النور وهو البصيرة
__________
(1) سورة الأنفال الآية 24
(2) سورة الأنعام الآية 122
(3) سورة الشورى الآية 52(7/277)
ولهذا قال سبحانه: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (1) فأنت يا عبد الله وأنت يا أمة الله كلاكما عليه أن يحرص على هذا النور وعلى هذه الحياة بتدبر القرآن العظيم والعناية بكتاب الله والحرص على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسماعها من أهلها ومراجعتها في الكتب الصحيحة، وسؤال أهل العلم المعروفين بحسن العقيدة والسيرة، طالب العلم يسمع من الواعظين والمذكرين والمرشدين في المساجد، وفي خطب الجمعة، وفي الإذاعة مثل: إذاعة القرآن الكريم، وفي نور على الدرب وفي غير هذا من طرق التبليغ لما قاله الله ورسوله فمن حرص عليها وجدها واستفاد منها لكن المصيبة العظيمة هي الإعراض والغفلة واتباع الهوى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} (2) وهل ترضى أيها المؤمن وهل ترضين أيتها المؤمنة بمشابهة هؤلاء الكافرين في الإعراض عن دين الله، وقال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} (3) فلا أحد أظلم من هذا الصنف من الناس فاحذر يا عبد الله أن تكون منهم، ويقول جل وعلا: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (4) والأنعام هي الإبل والبقر والغنم، شبه سبحانه من أعرض عن دينه وغفل عن اتباع الحق
__________
(1) سورة الشورى الآية 52
(2) سورة الأحقاف الآية 3
(3) سورة الكهف الآية 57
(4) سورة الأعراف الآية 179(7/278)
بهذه البهائم لعدم انتفاعه بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، وجعلهم سبحانه أضل من الأنعام؛ لأنهم أعطوا عقولا وأسماعا وأبصارا فلم يستفيدوا منها في اتباع الحق، فصاروا بذلك شرا من الأنعام وأضل منها.
وقال عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (1)
فهل ترضى يا عبد الله وهل ترضين يا أمة الله بمشابهة الأنعام في عدم معرفة الحق واتباعه. . فعليكما بالجد في فهم القرآن والسنة، وفي التعلم والسؤال عما أشكل عليكما والعمل بالحق حتى لا تشبها هذه البهائم، فمن جد وجد، ومن خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، فالمهم الصدق في طلب الحق، وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة (2) » ، أخرجه الترمذي رحمه الله بإسناد حسن، فمن خاف صادقا تعلم وتفقه، قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (3) علق الحكم بالخوف؛ لأن الخوف الصادق يحمل على طاعة الله ورسوله، ويحمل على التفقه والتعلم وعلى ترك كل ما نهى الله عنه ورسوله ومن هذا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (4) فالخشية لله والخوف منه كل ذلك يقتضي الجد في طاعة الله والتعلم والتفقه في الدين.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 44
(2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2450) .
(3) سورة الرحمن الآية 46
(4) سورة الملك الآية 12(7/279)
والمقصود من هذا كله التنبيه على أن الواجب على كل مؤمن ومؤمنة التفقه في دين الله والتبصر والتعلم والعمل، فالإعراض والغفلة من دلائل الهلاك وأن الله ما أراد بالعبد خيرا، والإقبال على الله والتعلم والتفقه في الدين والسؤال من دلائل الهداية والصلاح وأن الله أراد بالعبد خيرا كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » ، فالتفقه في الدين والتعلم وقبول النصائح وحضور المواعظ والاستفادة منها والإقبال بالقلب على ذلك من الدلائل على أن الله أراد بالعبد خيرا، والإعراض عن ذلك والغفلة عن العلم والتعلم من الدلائل على أن الله أراد بالعبد شرا نسأل الله العافية.
فعليك يا عبد الله بالحرص على قبول الحق وعلى الأخذ بأسبابه وعلى الإقبال بقلبك عند الموعظة والذكرى، وأن يكون همك وقصدك أن تفهم حكم الله، وأن تعرف مراد الله وتعمل به، وأن تعرف ما يغضب الله حتى تجتنبه، والله سبحانه يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (3) ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (4) ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (5) الآية.
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 3
(4) سورة الطلاق الآية 4
(5) سورة الأنفال الآية 29(7/280)
ومن سيئات أعمالنا، وأن يهدينا جميعا صراطه المستقيم، وأن يجعلنا وإياكم من المسارعين إلى كل خير والمتباعدين عن كل شر، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق ولاة أمرنا لكل خير، وأن ينصر بهم دينه، وأن يصلح لهم البطانة وأن يعينهم على كل خير وأن يعيذهم من كل شر، وأن يوفق جميع المسئولين لكل ما فيه رضاه وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، كما أسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان وأن يولي عليهم خيارهم وأن يصلح قادتهم، وأن يمنحهم الفقه في الدين والثبات عليه إنه سميع قريب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(7/281)
أسئلة وأجوبتها بعد المحاضرة
السؤال الأول:
ما هو الموقف من البنوك الربوية اليوم؟ وما حكم التعامل معها؟ وما هو موقفنا تجاه ما يحدث لكثير من إخواننا المسلمين في بعض البلاد الإسلامية؟
الجواب:
أما ما يتعلق بالربا فالأمر واضح وليس في وجود الربا وتحريمه شك، وهو أمر تدل عليه آيات من القرآن الكريم ودلت عليه السنة وإجماع أهل العلم. فالربا من أكبر الكبائر ومن المحرمات المجمع عليها، وقد بين الله ذلك في كتابه العظيم فقال جل وعلا: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) الآية.
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (3) والرسول صلى الله عليه وسلم «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء (4) » ، خرجه مسلم في صحيحه - فالواجب على المسلمين الحذر من الربا وعدم المساهمة فيه لا في بنك فلان ولا بنك فلان. فجميع البنوك الربوية
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سنن النسائي الزينة (5104) .(7/282)
في الداخل والخارج يجب الحذر منها وعدم المساهمة فيها وعدم المعاملة معها، ووجود الشيء بين الناس لا يحله، فالخير موجود، والشر موجود والواجب الأخذ بالخير والحذر من الشر، ووجود الشر ليس بدليل على حله، بل يجب الحذر منه.
فالحاصل أن الربا من المحرمات والواجب الحذر من ذلك والبعد عن ذلك، والتواصي بترك ذلك، وعن قريب إن شاء الله تزول البنوك الربوية من هذه المملكة، فقد وافق خادم الحرمين الشريفين على إيجاد البنوك الإسلامية، وسيغني الله بها عن هذه البنوك وتزول إن شاء الله من هذه البلاد.
فالحاصل أن الإخوان والمحبين للخير حريصون على إيجاد البنوك الإسلامية والمساهمة فيها وينبغي للإخوان جميعا أن يتشجعوا في هذا، وأن يحرصوا على التقدم في طلب البنوك الإسلامية حتى تكثر وحتى يغني الله بها عن هذه البنوك الربوية، وحتى ينتهي أمرها عن قريب إن شاء الله.
أما ما يتعلق بإخواننا المسلمين في كل مكان كالجزائر والفلبين وفي أفغانستان والبوسنة والهرسك وغيرها فالواجب الدعاء لهم بالتوفيق والهداية، وأن يفقههم الله في الدين، وأن يجمع كلمتهم على خيرهم، وأن ينصرهم على عدوهم، وأن يهدي المسئولين في جميع بلاد المسلمين، وأن ينصر بهم الحق.
والدعاء لإخوانكم بظهر الغيب في كل مكان أمر مشروع وفائدته عظيمة. فالمسلم يدعو الله لإخوانه في الفلبين وفي الجزائر وفي تونس وفي المغرب وفي أفغانستان وفي البوسنة والهرسك وفي(7/283)
كل مكان، وفي بلده أيضا يدعو الله للجميع بالتوفيق والصلاح والإعانة على كل خير، وأن يجمعهم الله سبحانه على الخير والهدى، وأن يكفيهم شر الولاة، وأن يعينهم على إظهار الحق والدعوة إليه على بصيرة، وأن يعيذهم من الأساليب التي تنفر من الحق وتصد عنه، وأن يوفقهم للأساليب الطيبة والطرق الصالحة التي تعينهم على إظهار الحق والدعوة إليه وتعينهم على قبوله والرضى به.(7/284)
السؤال الثاني:
ما رأيكم في الحملة الإعلامية من كثير من الصحف على الدعاة وبالذات على بعض الهيئات الإسلامية كهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
الجواب:
الدعاة إلى الحق والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر لهم أعداء ولهم خصوم من الملاحدة والشيوعيين والفساق، فالواجب على الدعاة إلى الله، وعلى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر التحمل والصبر لقول الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (1) ولقوله سبحانه عن لقمان أنه قال لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (2) ولقوله عز وجل: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (3)
فالحملات
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 35
(2) سورة لقمان الآية 17
(3) سورة الأنفال الآية 46(7/284)
التي يشنها أهل الباطل من العلمانيين ومن الملاحدة ومن الشيوعيين ومن الوثنيين ومن النصارى ومن اليهود ومن غيرهم على دعاة الحق يجب أن تقابل بالذب عنهم والدعوة إلى الخير، وبيان فساد تلك الأقوال، ووجوب طرحها وعدم الالتفات إليها، مع العناية بتشجيع الدعاة وتشجيع الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ووعدهم بأن الله سيعينهم، فعليهم بالصدق وعليهم بالصبر وعليهم بالأسلوب الحسن وعليهم بالعلم والله يجعل العاقبة للمتقين قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (1) ويقول سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (2)
فلا بد من الصبر، ولا بد من الجهاد، ولا بد من النصح للذين يدعون إلى الباطل ويثبطون عن الحق، فلا بد من الرد عليهم وبيان باطلهم وبيان أن الواجب على أهل الحق مناصرة الحق وأهله والدعوة إلى الحق والصبر على ذلك، وعلى ولاة الأمور وفقهم الله القيام بذلك، وقمع كل من يتعرض لأهل الخير وردعه عن باطله، حتى يستقيم على الحق، وحتى يكف عن إيذاء الدعاة وإيذاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، ويجب على ولاة الأمور أيضا القيام بما أوجب الله عليهم من ردع المبطل وتأديبه ونصر المظلوم والداعي إلى الحق.
نسأل الله لهم التوفيق، وهم بحمد الله يقومون بجهود كبيرة مع الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ومع الداعين إلى الله، نسأل الله لهم المزيد من الخير، ونسأل الله أن يعينهم على ما فيه
__________
(1) سورة هود الآية 49
(2) سورة العنكبوت الآية 69(7/285)
صلاح الأمة ونجاتها.
والواجب على جميع المؤمنين والمؤمنات التعاون على البر والتقوى، والتعاون مع ولاة الأمور في الدعوة إلى الخير، وإبلاغ ولاة الأمور بما قد يخفى عليهم بالمكاتبة الصالحة بالنصيحة حتى يكون ولاة الأمور والمسئولون على علم بما يقع من الشر مما قد يخفى عليهم، والمقصود أن التعاون على الخير بين المسلمين حكاما ومحكومين من أهم الواجبات لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) ولقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) فلا بد من التعاون بين المسئولين وبين العلماء وبين الدعاة إلى الحق في إظهار الحق والدعوة إليه وفي قمع الباطل وفي القضاء عليه، نسأل الله أن يوفق الجميع لما فيه رضاه ولما فيه صلاح الجميع.
السؤال الثالث:
تكثر المؤسسات التي تشجع على نشر الفاحشة والرذيلة كمحلات الفيديو والتسجيلات الغنائية، فما هي نصيحتكم لأصحاب هذه المحلات، وما هي نصيحتكم لمن يريد أن يدعوهم؟
الجواب:
النصيحة لجميع أهل المحلات المذكورة أن يتقوا الله، وأن يحذروا إيجاد فيديو أو شريط أو غيره يدعو إلى الباطل، ويجب على
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(7/286)
من كان عنده أشرطة أو فيديو أو غيرها أن يتحرى الحق، وأن لا يكون عنده إلا ما يدعو إلى الخير والحق والهدى والصلاح، وأن يحذر نشر الباطل بأي وسيلة.
وعلى المراقبة أن تراقبهم بكل حزم وقوة. نسأل الله أن يعينها على أداء الواجب حتى يمنع الباطل وحتى يؤدب من يتساهل في إظهار الباطل، وعلى كل من علم ذلك أن يرفع إلى ولاة الأمور إن علم أحدا يتعاطى الباطل ويؤذي الناس به وينشر الرذيلة، يجب أن يرفع بأمره إلى الهيئات، وإلى وزير الداخلية، وإلى أمير البلد الذي هو فيها أي بلد من بلاد المملكة يرفع إلى الأمير وإلى الهيئة، يكون التعاون من الجميع على البر والتقوى، ولا يسكت، يرفع الأمر إلى أمير البلد ورئيس الهيئة حتى يتعاون الجميع على دحض الباطل، وإقامة الحق ونصره.
السؤال الرابع:
أكثر الحاضرين هم من: الأساتذة سواء في الجامعات، أو المدارس الأخرى بجميع مستوياتها، فما هي نصيحتكم لهؤلاء المعلمين وهم يؤدون هذه الرسالة؟
الجواب:
نصيحتي للجميع أن يتقوا الله، وأن يكونوا قدوة في الخير وأئمة في العلم والعمل الصالح حتى يقتدي بهم الطلبة والموظفون وغيرهم، وعلى المعلم أن يكون قدوة في المحافظة على الصلوات في الجماعة، والمسابقة إليها، وتوفير اللحية، وعدم التدخين وعدم الإسبال، وفي الأسلوب الحسن والكلمات الطيبة، وفي كل خير،(7/287)
ليكون قدوة صالحة في جميع أحواله وأينما كان في التدريس، وفي الطريق، وفي المسجد، وفي البيت، وفي الطائرة، وفي الباخرة، وفي السيارة، وفي كل مكان قدوة حسنة يعرف بأخلاقه الطيبة وأعماله الصالحة وأسلوبه الصالح، وهذا هو الواجب على أهل العلم، وعلى المدرسين.
وعلى القادة من الأمراء وغيرهم، فكل أعظم من غيره بقدر مسئوليته وحسب طاقته لأنه يقتدى به، ولا سيما العلماء فهم قادة الناس وهم خلفاء الرسل، وهكذا من كان إماما في قومه مثل شيخ القبيلة، ومثل أمير البلد، ومثل كبار القوم في مستشفى أو في مستوصف أو في غيره يجب أن يكونوا قدوة في الخير، وأن يبتعدوا عن الشر، فالأطباء من المديرين يجب أن يكونوا قدوة في المسارعة إلى الصلوات في الجماعة، وفي إعفاء اللحى، وفي الكلام الطيب، والأسلوب الحسن في عدم الفحش في الكلام حتى يقتدي بهم الموظفون ومن تحت أيديهم من الأتباع، يقتدون بهم في الأعمال الطيبة والأخلاق الفاضلة والمسارعة إلى الصلاة وغير هذا من الأخلاق الطيبة، فيتحرى المسئول كل شيء طيب حتى يقتدى به في ذلك أينما كان سواء كان في السيارة أو في الطائرة أو في الباخرة أو في أي مكان يكون، فيشرع له أن يظهر العمل الصالح والتقوى والعلم النافع حتى يسأل وحتى يستفاد منه ويقتدى به.
السؤال الخامس:
في الربا كثرت الأسئلة عن بعض الشركات مثل شركة مكة للإنشاء والتعمير، وشركة القصيم الاستثمارية للزراعة يقولون هل المشاركة فيها من الربا أو لا تتعامل بالربا؟(7/288)
الجواب:
شركة طيبة وشركة مكة وغيرها من الشركات لا نعلم عنها ما يمنع المشاركة فيها إلا أنه يبلغنا عن كثير من الشركات أنها تستعمل أموالها بالربا بواسطة البنوك، فننصح جميع الشركات التي تستعمل هذا أن تدعه، أو أن تستعمل أموالها في الطرق الشرعية لا بالربا، فالشركة التي تستعمل أموالا بالربا يجب أن تجتنب، وأن لا يتعاون معها في هذا الشيء وإذا عرف الإنسان مقدار الربا الذي دخل عليه فليخرج ما يقابله للفقراء عشرة في المائة أو عشرين في المائة أو أقل أو أكثر حتى يسلم من شر الربا.
وعلى كل شركة أن تتقي الله، وأن تحذر الربا في جميع المعاملات فإن الله جل وعلا قد حرم الربا ونزع بركته كما قال سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) وقال سبحانه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (2) فالربا منزوع البركة فالواجب الحذر منه، فعلى جميع الشركات: شركة مكة، شركة المدينة، شركة القصيم، وأي شركة كانت، على جميع الشركات أن تتقي الله وأن يتقي رؤساؤها ومديروها في ذلك وأن يحرصوا على أن تكون أعمالهم ومعاملاتهم كلها طبق الشرع، وأن يستفتوا أهل العلم فيما أشكل عليهم حتى يكونوا على بصيرة، وما تجمع لديهم من الأموال يعملون به ما شرع الله من المعاملات السليمة سواء كانت بالنقد أو بالأجل
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 276(7/289)
فيشترون به السلع ويبيعونها إلى أجل، أو يشترون العمل المختلفة المتنوعة ثم يبيعونها بالعمل الأخرى يدا بيد بفائدة إذا كانت من أجناس مختلفة.
فالعملة لا تباع بمثلها إلا يدا بيد مثلا بمثل، وإذا كانت عملة بعملة أخرى كريال بالدولار أو جنيه استرليني بغيره جاز البيع يدا بيد بدون تأجيل ولو تفاضلا، فالطرق الشرعية موجودة وكافية بحمد الله وليس الناس بحاجة إلى الربا لولا أن الشيطان يدعوهم إلى ذلك ويزين لهم الفائدة السريعة بالربا، نسأل الله لنا ولجميع المسلمين السلامة من كل ما يغضبه.
السؤال السادس:
فيما يتعلق بالربا أسئلة كثيرة منها التحرج عن أخذ الرواتب من البنوك الربوية فما رأي سماحتكم؟
الجواب:
هذا لا حرج فيه فأخذ الرواتب بواسطة البنوك لا يضر لأن الموظف لم يجعلها للربا، وإنما جعلت بواسطة ولاة الأمر لحفظها هناك حتى تؤخذ، وهكذا ما يحول عن طريق البنوك من بلد إلى بلد، أو من دولة إلى دولة هذا لا بأس به لدعاء الحاجة إليه، فالمحذور كونه يستعمل الربا أو يعين عليه، أما كونه يحفظ ماله في البنك للضرورة لعدم وجود مكان يحفظه فيه، أو لأسباب أخرى وبدون ربا، أو يحوله بواسطة البنك فلا بأس بذلك إن شاء الله ولا حرج فيه، لكن لو جعلت الدولة الرواتب في غير البنوك لكان أسلم وأحسن.(7/290)
السؤال السابع:
ما حكم السفر إلى بلاد الكفار من أجل الدراسة فقط؟
الجواب:
السفر إلى بلاد الكفار خطير يجب الحذر منه إلا عند الضرورة القصوى يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين (1) » ، وهذا خطر فيجب الحذر، فيجب على الدولة وفقها الله أن لا تبعث إلى بلاد المشركين إلا عند الضرورة. مع مراعاة أن يكون المبعوث ممن لا يخشى عليه لعلمه وفضله وتقواه، وأن يكون مع المبعوثين من يلاحظهم ويراقبهم ويتفقد أحوالهم، وهكذا إذا كان المبعوثون يقومون بالدعوة إلى الله سبحانه، ونشر الإسلام بين الكفار لعلمهم وفضلهم فهذا مطلوب ولا حرج فيه.
أما إرسال الشباب إلى بلاد الكفار على غير الوجه الذي ذكرنا، أو السماح لهم بالسفر إليها فهو منكر وفيه خطر عظيم، وهكذا ذهاب التجار إلى هناك فيه خطر عظيم؛ لأن بلاد الشرك - الشرك فيها ظاهر - والمعاصي فيها ظاهرة، والفساد منتشر، والإنسان على خطر من شيطانه وهواه ومن قرناء السوء فيجب الحذر من ذلك.
السؤال الثامن:
ما رأيكم في الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول بعضهم: إنه الأول والآخر والظاهر والباطن. . فما رأيكم في مثل هذا الاعتقاد فيه صلى الله عليه وسلم؟
الجواب:
الأول والآخر والظاهر والباطن هو الله عز وجل قال تعالى في سورة الحديد: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2)
__________
(1) سنن الترمذي السير (1604) ، سنن أبو داود الجهاد (2645) .
(2) سورة الحديد الآية 3(7/291)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر (1) » ، رواه الإمام مسلم في صحيحه.
فمن قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم: هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم فهو كافر، لكونه وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأسماء أربعة مختصة بالله عز وجل لا يستحقها غيره. وهذا لا يقوله عاقل يفهم ما يقول، الأول والظاهر هو الله وحده سبحانه، وهو الذي قبل كل شيء وبعد كل شيء سبحانه وتعالى. وهو الظاهر فوق جميع خلقه، والباقي بعدهم، والذي يعلم أحوالهم، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم إلا ما علمه الله، وقد توفي عليه الصلاة والسلام، ووجد بعد أن كان معدوما، وجد في مكة بين أمه آمنة وأبيه عبد الله، وكان عدما قبل ذلك، ثم وجد من ماء مهين، وغيره من البشر كذلك فالذي يقول: إنه الأول والآخر والظاهر والباطن فهو ضال ومرتد إن كان مسلما.
السؤال التاسع:
نود منكم نصيحة حول قضاء الإجازة وبماذا تنصحون الإخوة؟
الجواب:
أنصح إخواني في الإجازة أن يستغلوها في كل ما يرضي الله: في حفظ القرآن الكريم والإكثار من تلاوته، وفي عمارة المكتبات للمطالعة والاستفادة بحضور المحاضرات العلمية والندوات المفيدة،
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) ، سنن الترمذي الدعوات (3481) ، سنن أبو داود الأدب (5051) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3831) ، مسند أحمد بن حنبل (2/404) .(7/292)
وفي التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق، والصبر عليه، وفي النصائح إلى غير هذا من وجوه الخير كالتزاور في الله فيما بينهم في أنحاء هذه البلاد؛ لأنها فرصة ينبغي أن تستغل في الخير.
ومن أحسن ما تستغل فيه العناية بالقرآن الكريم حفظا وتلاوة وتدبرا. والعناية بالكتب النافعة ومطالعتها، وحفظ الكتب المهمة والمقررات المفيدة ككتاب: التوحيد، وبلوغ المرام، وعمدة الحديث، والعقيدة الواسطية، والأربعين النووية وتتمتها لابن رجب، وبذلك صارت خمسين حديثا من جوامع الكلم، وهذه الخمسون ينبغي أن تحفظ مع مراجعة شرحها للحافظ ابن رجب رحمه الله، ومما يحسن الاهتمام به في الإجازة زيارة العلماء وسؤالهم عما أشكل على الطالب في وجوه العلم، ونسأل الله للجميع التوفيق والهداية وصلاح النية والعمل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(7/293)
الدعوة إلى الله بالرفق والحكمة
والموعظة الحسنة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخواني في الله من: الخطباء، والدعاة، وأئمة المساجد في رحاب بيت الله العتيق للتناصح والتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى. وقد سمعنا جميعا كلمة الأمين العام للتوعية عن الدعاة وأعمالهم وعما حصل من الخير العظيم على يد الدعاة، ومن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والتعاون فيما بينهم مع الأجهزة الحكومية، وقد سرنا هذا كثيرا والحمد لله، ونسأل الله أن يزيد الجميع من التوفيق والإعانة والتسديد، وأن يجعلهم مفاتيح خير ومغاليق شر، وأن يسدد خطاهم ويصلح قلوبهم وأعمالهم.(7/294)
ولا شك أن الواجب على الجميع التعاون على البر والتقوى، وأن على الدعاة التعاون مع الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وعلى الأجهزة الحكومية التعاون مع الجميع في هذا الأمر؛ لأن التعاون على البر والتقوى يحصل به الخير العظيم وإنجاز المهمة وتحصيل المقصود والحمد لله على ذلك.
إن الكلمة الوافية التي تفضل بها فضيلة الشيخ: محمد بن عبد الله بن سبيل الرئيس العام لشئون المسجد الحرام وشئون المسجد النبوي فيما يتعلق بالدعوة والدعاة اتسمت بالجودة وقد أفاد، وأبان ما ينبغي بيانه، وإنني أؤكد على ما ذكره في هذا الباب من أن الداعية عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وأن يتحلى بالرفق واللين وعدم الشدة، وكذلك الخطيب والواعظ يجب أن يتحريا الأسلوب الذي يحصل به المطلوب، وإزالة المنكر، وتحريك القلوب إلى الخير، وزجرها عن الشر، ولا شك أن الخطيب عليه أن يدعو إلى الخير وإقامة أمر الله وإزالة ما نهى الله عنه، والسعي إلى ذلك بالطرق والوسائل التي يرجى فيها تحقيق ذلك.
ولقد استمعنا أيضا إلى كلمة الشيخ: سعيد بن مسفر عن الدعاة هي كلمة أجاد فيها وأفاد وأوضح ما ينبغي إيضاحه فجزاه الله خيرا وبارك فيه، وإنه لا يخفى على الجميع أن الدعوة إلى الله سبحانه وهي وظيفة الرسل وأتباعهم بإحسان وكانوا عليهم الصلاة والسلام يتحرون في دعوتهم، وينظرون في المصالح والمفاسد، ويجتهدون عليهم الصلاة والسلام في تحقيق المصلحة ودرء المفسدة، ويصرون على الأذى وهم أصبر الناس على الأذى، وهم الصفوة في هذا الباب(7/295)
وهم أشد الناس بلاء وهم القدوة الحسنة في كل شيء.
والواجب على الدعاة إلى الله من الخطباء وغيرهم وعلى الأمراء والحكام الصبر في ذلك مع القيام بالواجب قولا وعملا، والبدء بالأهم فالأهم والعناية بما يحتاجه الناس في دينهم ودنياهم، والتحذير مما انتشر بينهم من المنكرات والدعوة إلى تركها والتحذير منها ومن إشاعة الفاحشة بين الناس لقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (1) الآية من سورة النور.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة (2) » رواه الإمام مسلم في صحيحه. وإنما المطلوب النهي عن وجودها والتحذير من اقترافها، والحث على التوبة إلى الله منها، والحث على فعل الأوامر والمسارعة إليها، وإذا كان المؤمن يعلم من إنسان أنه وقع في شيء مما حرم الله فإنه ينصحه بينه وبينه، ويقول للناس كلاما عاما، وينصح الناس ويبين لهم ما حرم الله عليهم.
والداعي إلى الله خطيبا كان أو واعظا أو محاضرا أو آمرا بالمعروف أو ناهيا عن المنكر - عليه أن يتحرى في دعوته وأمره ونهيه ما يحقق المطلوب ويزيل المكروه وما يدعو إلى الخير ويبعد عن الشر، ومن المعلوم أن إنكار المنكر على مراتب أربع:
الأولى: أن يزول المنكر بالطرق الشرعية، فهذا يجب الإسراع في إنكاره بالطرق الشرعية.
__________
(1) سورة النور الآية 19
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الأدب (4946) ، سنن ابن ماجه الحدود (2544) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .(7/296)
الثانية: أن يخف ويقل ولكن لا يزول بالكلية، فهذا كالذي قبله يجب الإسراع في إنكاره بإزالته أو تخفيفه.
الثالثة: أن يزول ويحل محله منكر آخر مثله، فهذا محل اجتهاد ونظر، فإن رأى في اجتهاده أن المنكر الذي يحل محله أقل منه وأيسر قام بإنكار هذا المنكر وسعى في إزالته ولو ترتب عليه شيء أخف منه في اعتقاده وإلا توقف.
الحالة الرابعة: أن يزول المنكر ولكن يأتي شر منه، فهذا لا يجوز إنكاره لما يترتب على إنكاره من وجود ما هو شر منه. كأن تنهى عن معصية ويقع بسبب ذلك الشرك الأكبر أو تنهى عن شرب المسكر فيقع بسبب ذلك القتل.
وقد نبه العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه: إغاثة اللهفان على هذه المراتب الأربع، ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة عرف صحة ذلك ومن ذلك قول الله عز وجل: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) الآية من سورة الأنعام. والمقصود أن الآمر والناهي ينظر ما هو أقرب إلى الخير وما هو أكثر خيرا وما هو أقل شرا.
ومما يتعلق بهذا الموضوع عدم الاشتغال بعيوب الناس عامة كبيرة أو صغيرة، بل يشتغل بالمنكرات الموجودة يحذر من وجودها، ويدعو إلى القضاء عليها وإنكارها بالحكمة والأسلوب الحسن حتى يقضي عليها، فيذكر المنكر الموجود بين الناس، ويدعو الهيئة
__________
(1) سورة الأنعام الآية 108(7/297)
والدعاة إلى إنكاره، ويدعو المجتمع إلى تركه والحذر منه كالربا وشرب المسكر والغيبة والنميمة والاختلاط بين الرجال والنساء وسماع الأغاني والملاهي إلى غيرها من المنكرات الموجودة بين الناس، ومن ذلك أيضا التثاقل عن الصلاة في الجماعة وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم وإيذاء الجار وغير ذلك مما نهى الله عنه سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما ما يقع من بعض الدعاة في بعض الدول من الإنكار باليد فليس من الحكمة، وإنما الحكمة أن يتصل بالرؤساء والمسئولين ويتفاهم معهم ويدعوهم إلى الله عز وجل حتى يقوموا هم بإزالة المنكر، وحتى ينتشر الدعاة في المجتمع ويقوموا بالنصيحة والتوجيه فلا تتعرض لهم الدولة بالحبس والإيذاء والتنكيل بل تكون عونا لهم في نشر الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن. . ويبقى الدعاة على نشاطهم وقوتهم في الدعوة إلى الله عز وجل.
أما أن يغتال فلانا أو يضرب فلانا ويشتم فلانا - فهذا يسبب مشاكل كثيرة وفتنا كبيرة ويخالف قوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) الآية من سورة النحل. وقول الله سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2) الآية من سورة آل عمران. فعلى الداعي إلى الله سبحانه أن يسلك الطريق الذي سلكه
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة آل عمران الآية 159(7/298)
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان، فالنبي بقي في مكة المكرمة ثلاثة عشر عاما ما عاقب أحدا وما قاتل أحدا وإنما كان يدعو إلى الله سبحانه هو وأصحابه بالحكمة والموعظة الحسنة ويترك الإنكار الذي يترتب عليه فتنة وشر. فما ضرب ولا قتل ولا سجن حتى مكنه الله من ذلك بعد الهجرة إلى المدينة، ولما توجه إلى مكة للعمرة عام ست من الهجرة، وحالوا بينه وبين ذلك سلك المسلك الذي فيه الخير وهو قبول الصلح، فرضي بالصلح مع قريش لما في ذلك من تحصيل الخير الأكثر والأعظم، فصالحهم على أمر فيه غضاضة على المسلمين، وصبر على ذلك عليه الصلاة والسلام لما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين، ولمن يرغب في الدخول في الإسلام فللدعاة أسوة في نبيهم عليه الصلاة والسلام.
ونحن بحمد الله في دولة إسلامية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتدعو إلى الله عز وجل وتحكم شرعه، فالواجب التعاون معها على الخير وعلى إزالة ما يوجد من الشر بالطرق الحكيمة والأسلوب الحسن مع الإخلاص لله سبحانه والصدق في العمل وعلاج الأوضاع المحتاجة إلى العلاج بالطرق الشرعية حسب الطاقة فيما بيننا وبين ولاة الأمور وفقهم الله بالمكاتبة والمشافهة وبالتعاون مع العلماء بالمناصحة لهم، وهكذا يجب على الدعاة إلى الله سبحانه في جميع الدول أن يعالجوا الأوضاع المخالفة للشرع المطهر بالحكمة والموعظة الحسنة والأسلوب الحسن، ويتعاونوا مع المسئولين على الخير ويتواصوا بالحق مع الرفق والتعاون مع الدولة بالحكمة حتى لا يؤذى الدعاة وحتى لا تعطل الدعوة، فالحكمة في الدعوة بالأسلوب(7/299)
الحسن وبالتعاون على البر والتقوى هي الطريق إلى إزالة المنكر أو تقليله وتخفيف الشر، ومن أهم ذلك الدعوة إلى تحكيم الشريعة الإسلامية فهذا هو الطريق إلى العلاج والإصلاح ولو لم يحصل المطلوب كله لكن يحصل بعض الخير والتجاوب من الحكومة التي ينكرون عليها فيقل الشر ويكثر الخير.
فلا بد من الحكمة في الدعوة بالعلم، والعلم يدعو إلى الرفق وإلى تقديم الأفضل فالأفضل، ويدعو إلى تقديم الأهم فالأهم.
والدعوة إلى إزالة منكر إذا كانت تؤدي إلى منكر أشد لا تجوز، والدعوة إلى فعل أمر يؤدي إلى ما هو أخطر منه لا تجوز، فالواجب السعي فيما هو سبب لتكثير الخير وتقليل الشر، والبعد عن ما هو أشر وأعظم وما يفضي إلى الشرك الأكبر مع دولتك في بلادك، ومع غيرها، ومع الرؤساء والمسئولين، ومع الأمراء وغيرهم، فالواجب التعاون معهم في إزالة الشر وتقليله وتكثير الخير، وإزالة ما هو مخالف للشرع حسب الطاقة. والمقصود أن الواجب علينا أن نعمل بكتاب الله عز وجل وبسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ونسير على ضوئها، وأن نتفاهم فيما بيننا، وإذا أشكل شيء طرحناه للبحث بيننا ورفعناه لمن فوقنا حتى يزال الشر ويقر الخير.
والتناصح والتعاون لا يأتي إلا بخير والعجلة تأتي بالشر، فالواجب علينا معشر طلبة العلم ومعشر الدعاة ومعشر الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أن نتحرى ما هو الأفضل للحصول على الخير، وأن نتحرى في أسلوبنا وفي أمرنا ونهينا وفي دعوتنا وتصرفاتنا كلها ما هو الأقرب إلى رضى الله، وما هو الأقرب لحصول المطلوب(7/300)
الذي يرضي الله سبحانه وإزالة المنكر وحصول الخير، وعلينا أن نحرص عليه ونتعاون فيه ونتظافر فيه، وإذا دعت الحاجة إلى الشدة فالواجب الرفع إلى المسئولين عن إزالة ذلك الأمر ومتابعته حتى يزول.
الذي أنصح به إخواني في هذه البلاد وفي كل مكان أن يتحروا طريقة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وطريقة أصحابه رضي الله عنهم في القول والعمل، ويكونوا أسوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم وأن يبدءوا بأنفسهم في كل خير وفي ترك كل شر حتى يكونوا قدوة عملية في أعمالهم وأحوالهم وأخلاقهم ورفقهم ورحمتهم وإحسانهم، وأن يحرصوا دائما أن يتحروا في الأمر، وأن يكون خطؤهم في العفو والرفق أولى من خطئهم في الشدة.
وأسأل الله أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يصلح القلوب والأعمال، وأن يوفق جميع الدعاة وجميع العلماء في كل مكان لما هو الأهدى والأصلح، ويزيدهم من العلم والإيمان، وأن يوفق قادتهم لما يرضيه ويصلح بطانتهم ويعيذهم من كل سوء، وأن يجعلهم هداة مهتدين، وأن يوفقهم لتحكيم الشريعة والحكم بها، وأن يزيل كل من لا يرضى بذلك ولا يوافق عليه، وأن يبدلهم بخير منه إنه جل وعلا جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.(7/301)
ليس النصح بالتشهير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. .
أما بعد:
فإنني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوة في الله للتناصح والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه. ومعلوم أن الله جل وعلا خلق الخلق ليعبدوه، ولم يخلقهم سدى، ولا عبثا، ولا باطلا، ولكنه خلقهم ليعبدوه ويعظموه ويمسكوا بشرعه. ووعدهم على ذلك في الدنيا النصر والتأييد والمغفرة والأمن في الأوطان، والهداية إلى الخير، ووعدهم في الآخرة جزيل الثواب، وعظيم النعم يقول الله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (2) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (3)
والله سبحانه وتعالى خلق الخلق للعبادة، والعبادة هي الطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. ورأسها توحيد الله واتباع شريعته،
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الذاريات الآية 57
(3) سورة الذاريات الآية 58(7/302)
وترك ما نهى الله عنه من الشرك، وسمى الله طاعته وتوحيده عبادة لأن العبادة هي الذل والخضوع واتباع الأمر.
ولهذا يقال طريق معبد أي مذلل. فالعبادة هي طاعة الله ورسوله عن ذل لله وخشوع وخضوع وإنكسار يرجو العبد رحمة ربه، ويخشى عذابه تعالى.
وأصلها وأساسها توحيد الله والإخلاص له من العبد في جميع عباداته: في دعائه وخوفه ورجائه وصومه وصلاته وذبحه ونذره. وغير ذلك من أنواع العبادة كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) ويقول سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (3) وهذا معنى لا إله إلا الله؛ لأن معناها لا معبود حق إلا الله.
فهي تنفي العبادة بحق عن غير الله، وتثبتها بحق لله وحده، فجميع المعبودات غير الله من أصنام أو أحجار أو قبور أو ملائكة، أو أنبياء أو غير ذلك كلهم معبود بالباطل، والمعبود بحق هو الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (4) وهذا هو معنى لا إله إلا الله: معناها توحيد الله، والإخلاص له، والاعتقاد أن العبادة حق الله جل وعلا، لا شريك له في ذلك،
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة الحج الآية 62(7/303)
مع الشهادة بأن محمدا عبده ورسوله، وهو خاتم الأنبياء وأفضلهم، مع الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله. ومعنى ذلك: الإيمان بالرسل جميعا، والتصديق بما أخبر الله به ورسوله من البعث والجنة والنار، والحساب والجزاء كل ذلك داخل في الإيمان بالله.
فعلى كل مكلف أن يؤمن بالله ورسوله، وأن ينقاد لشرع الله، وأن يخلص لله في العبادة دون ما سواه، وأن يحذر ما نهى الله عنه من قول وفعل وعقيدة، هذا هو دين الله، وهذا هو الإسلام.
والله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) هذا هو الإسلام: الانقياد لله والعبادة لله، والانقياد لشرعه، وترك ما نهى عنه. ورأس ذلك توحيد الله والإخلاص له، كما قال تعالى عن عباده الصالحين من الأئمة والأخيار: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} (2)
فعلى جميع المكلفين من جن وإنس أن يعبدوا الله بحق، وأن ينقادوا لشرع الله، ويتواصوا بالحق والصبر عليه، وأن يتناصحوا. فالدين النصيحة، وأن يتعاونوا على البر والتقوى، كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (3) ويقول جل وعلا:
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة الأنبياء الآية 90
(3) سورة المائدة الآية 2(7/304)
{وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3)
هؤلاء هم الصالحون، وهم السعداء والبقية خاسرون. فجميع العباد من جن وإنس لا نجاة لهم، ولا سعادة إلا بدين الله تعالى، والعمل الصالح وأداء فرائض الله، وترك نواهيه، والتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالصبر، ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه من التواصي بالحق. وعلى الإنسان أن يعرف قدر هذه النعمة التي خلق لها، فهي نعمة عظيمة، بل هي أعظم نعمة، وأكبر نعمة، وهي نعمة الإسلام.
فكون العبد قد هداه الله للإسلام فهي أكبر نعمة أسبغها الله عليه، فيجب أن يعرف فضل هذه النعمة، وأن يشكر الله عليها كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (4) وفضل الله هو الإسلام ورحمته أن جعلك من أهله، ثم إن من فضل الله ورحمته أن ولي أمر هذه البلاد حكومة إسلامية ترعى أمر الدين والدنيا، وأمر الأمن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحكيم شريعة الله، وتنهى عما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن هذه من نعم الله العظيمة، وهذا الأمر بحمد الله هو الأصل الذي درجت عليه هذه الدولة وأسلافها، ودرج عليه علماء المسلمين في هذه البلاد منذ عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3
(4) سورة يونس الآية 58(7/305)
رحمه الله، وعهد الإمام محمد بن سعود رحمه الله، فالدعوة إلى الله وإلى توحيده والتواصي بالحق والصبر عليه هو منهج هذه الدولة وأسلافها ومنهج علمائها في الشدة والرخاء في جميع الأحوال، فالواجب شكر الله على هذه النعم والتواصي بالثبات عليها والدعوة إليها بين العلماء والأمراء والأغنياء والعامة والخاصة.
هذه كلها نعم، يجب أن نتواصى بشكرها والاستقامة عليها والدعوة إليها وأن نتعاون على البر والتقوى، وأن نتواصى بالحق والصبر عليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى سبيله سبحانه كما أمر جل وعلا في قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1)
فالنصح يكون بالأسلوب الحسن والكتابة المفيدة والمشافهة المفيدة، وليس من النصح التشهير بعيوب الناس، ولا بانتقاد الدولة على المنابر ونحوها، لكن النصح أن تسعى بكل ما يزيل الشر ويثبت الخير بالطرق الحكيمة وبالوسائل التي يرضاها الله عز وجل، ونحن في نعمة عظيمة نعمة الإسلام، ونعمة الأمن، ونعمة الصحة والعافية، ثم النعمة الكبرى التي من الله بها علينا في حادثة الخليج بعد عدوان عدو الله صدام وجنده واجتياحه لبلد الكويت، ثم يسر الله للدولة أن قامت بدورها في هذا الأمر وقامت بجهود عظيمة لرفع هذا الظلم واستعانت بالله العظيم ثم بالجنسيات المتعددة، التي ساعدت في رفع هذا الظلم.
__________
(1) سورة النحل الآية 125(7/306)
وكان هذا من توفيق الله وهدايته سبحانه أن جمع جموعا كبيرة ضد الظلم والعدوان حتى قضي على الظلم والعدوان، وحتى قضى الله على الظالم، وحتى رجع المظلومون إلى بلادهم، فهذا من نعم الله العظيمة.
فعلينا أن نشكر الله على نعمه العديدة، وأن نتفقه في الدين، وأن نتعاون على البر والتقوى، وأن نتناصح في دين الله، وأن نتواصى بالحق والصبر عليه، وأن نحمد الله على جميع نعمه.
وعلى الدولة والعلماء والعامة شكر الله والقيام بحقه، والتواصي بطاعته، وأن نستقيم على أمر الله، وأن نعالج أنفسنا. فما كان مما يرضي الله شجعناه، وقمنا بالسهر عليه، وما كان مما يغضب الله جل وعلا ابتعدنا عنه، وحذرنا الناس منه.
فالدولة عليها واجبها في ترك ما حرم الله، والقيام بما أوجب الله والعناية بشرع الله، وعلى العلماء والأمراء واجبهم في الدعوة والبيان والترغيب والترهيب، وعلى جميع الناس من الأغنياء والأعيان والشركات وسائر الناس، على كل واحد منهم واجب الدعوة إلى الله بالنصيحة ومحاسبة النفس، وجهادها حتى يكون كل واحد قدوة صالحة في طاعة الله ورسوله، وهذا هو الواجب على الجميع، وليس على الدولة وحدها. فالدولة واجبها تقوى الله والقيام بحقه، وترك ما نهى الله عنه، والسير على النهج السليم، وردع الظالم عن ظلمه بالطرق الشرعية.
وكل إنسان عليه أن يحاسب نفسه، ويتقي الله ويؤدي الأمانة،(7/307)
ويحذر الظلم والعدوان ويجتهد في طاعة الله وطاعة رسوله، مع التواصي بالحق والصبر عليه. هذا واجب الجميع الأغنياء والفقراء، والأمراء والدولة والعلماء، كل واحد منهم عليه واجبه، يقول الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1)
وهذا هو الواجب على جميع المؤمنين والمؤمنات لقول الله سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (2) كلهم أولياء فلا يغتب بعضهم بعضا، ولا يشهد عليه بالزور، ولا يظلمه، ولا يدعي عليه الدعاوى الباطلة حكامهم ومحكوموهم، وعلماؤهم وغيرهم، كلهم مقصرون إذا لم يتناصحوا ويتعاونوا على البر والتقوى، ويستقيموا على دين الله قولا وعملا، ويلزموا التوبة إلى الله سبحانه.
ثم قال سبحانه: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) أي يكونون أولياء فيما بينهم بالنصيحة والتوجيه، والأمر بالمعروف، والبعد عن أسباب الفرقة والاختلاف والشحناء والغيبة والنميمة، وسائر ما حرم الله في الكتاب والسنة.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الواجبات، ومن أعظم فرائض الإسلام وليس خاصا بالبعض، بل واجب علي المؤمنين والمؤمنات جميعا، كما قال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (4)
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة التوبة الآية 71
(4) سورة التوبة الآية 71(7/308)
فأوضح سبحانه في هذه الآية أن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، لا فرق بين أمير ومدير وعالم وغيرهم وذكر وأنثى من المؤمنين والمؤمنات فكل واحد منهم عليه واجبه على حسب علمه واستطاعته.
والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (1) وعليهم أن يشكروا الله عز وجل أنهم في بلد آمن، ودولة إسلامية تنصح لله ولكتابه ورسوله وعباده، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتحكم شرع الله في عباده. ويستطيع كل فرد أن يؤدي فرائض الله ويبتعد عن محارمه سبحانه، ويتواصى مع إخوانه بالحق والصبر عليه، في أمن وعافية.
فأسأل الله سبحانه أن يصلح حالهم جميعا، وأن يصلح قادتهم، وأن يوفق جميع حكام المسلمين للحكم بشريعة الله والقيام بها، والتواصي بذلك. كما أسأله أن يصلح ولاة أمرنا وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين، وأسأله سبحانه أن يوفقهم جميعا لما فيه رضاه، وأن يعينهم على شكره وذكره، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يوفقهم لكل خير، وأن يبعدهم عن كل شر، وأن يجعلهم هداة مهتدين.
__________
(1) سورة التحريم الآية 6(7/309)
ونسأل الله لجميع ولاة أمر المسلمين التوفيق والهداية، والإعانة على كل خير، وأن يوفقهم لكل ما يرضى الله، وأن يعينهم على ترك ما نهى عنه جل وعلا، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يعينهم على مساعدة الداعي إلى الحق، وردع صاحب الباطل عن باطله.
وأسأل الله بأسمائه الحسنى، وبصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين للعلم النافع، والعمل الصالح، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، كما أسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يصلح قادتهم، وأن يوفق حكام المسلمين للحكم بشريعة الله، والقيام بها والتواصي بذلك، وأن يعيذنا من الشيطان ونزغاته، وأن يعيننا جميعا على كل خير. إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(7/310)
أسلوب النقد بين الدعاة والتعقيب عليه (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله عز وجل يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الظلم والبغي والعدوان، وقد بعث الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بما بعث به الرسل جميعا من الدعوة إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده. وأمره بإقامة القسط ونهاه عن ضد ذلك من عبادة غير الله، والتفرق والتشتت والاعتداء على حقوق العباد.
وقد شاع في هذا العصر أن كثيرا من المنتسبين إلى العلم والدعوة إلى الخير يقعون في أعراض كثير من إخوانهم الدعاة المشهورين، ويتكلمون في أعراض طلبة العلم والدعاة والمحاضرين. يفعلون ذلك سرا في مجالسهم. وربما سجلوه في أشرطة تنشر على الناس، وقد يفعلونه علانية في محاضرات عامة في المساجد، وهذا المسلك مخالف لما أمر الله به ورسوله من جهات عديدة منها:
أولا: أنه تعد على حقوق الناس من المسلمين، بل من خاصة الناس من طلبة العلم والدعاة الذين بذلوا وسعهم في توعية الناس وإرشادهم
__________
(1) نشرت في الصحف اليومية: الجزيرة والرياض، والشرق الأوسط يوم السبت 22 \ 6 \ 1412 هـ.(7/311)
وتصحيح عقائدهم ومناهجهم، واجتهدوا في تنظيم الدروس والمحاضرات وتأليف الكتب النافعة.
ثانيا: أنه تفريق لوحدة المسلمين وتمزيق لصفهم. وهم أحوج ما يكونون إلى الوحدة والبعد عن الشتات والفرقة وكثرة القيل والقال فيما بينهم، خاصة وأن الدعاة الذين نيل منهم هم من أهل السنة والجماعة المعروفين بمحاربة البدع والخرافات، والوقوف في وجه الداعية إليها، وكشف خططهم وألاعيبهم. ولا نرى مصلحة في مثل هذا العمل إلا للأعداء المتربصين من أهل الكفر والنفاق أو من أهل البدع والضلال.
ثالثا: أن هذا العمل فيه مظاهرة ومعاونة للمغرضين من العلمانيين والمستغربين وغيرهم من الملاحدة الذين اشتهر عنهم الوقيعة في الدعاة والكذب عليهم والتحريض ضدهم فيما كتبوه وسجلوه، وليس من حق الأخوة الإسلامية أن يعين هؤلاء المتعجلون أعداءهم على إخوانهم من طلبة العلم والدعاة وغيرهم.
رابعا: إن في ذلك إفسادا لقلوب العامة والخاصة، ونشرا وترويجا للأكاذيب والإشاعات الباطلة، وسببا في كثرة الغيبة والنميمة وفتح أبواب الشر على مصاريعها لضعاف النفوس الذين يدأبون على بث الشبه وإثارة الفتن ويحرصون على إيذاء المؤمنين بغير ما اكتسبوا.
خامسا: أن كثيرا من الكلام الذي قيل لا حقيقه له، وإنما هو من التوهمات التي زينها الشيطان لأصحابها وأغراهم بها وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} (1)
__________
(1) سورة الحجرات الآية 12(7/312)
والمؤمن ينبغي أن يحمل كلام أخيه المسلم على أحسن المحامل، وقد قال بعض السلف: لا تظن بكلمة خرجت من أخيك سوء وأنت تجد لها في الخير محملا.
سادسا: وما وجد من اجتهاد لبعض العلماء وطلبة العلم فيما يسوغ فيه الاجتهاد فإن صاحبه لا يؤاخذ به ولا يثرب عليه إذا كان أهلا للاجتهاد، فإذا خالفه غيره في ذلك كان الأجدر أن يجادله بالتي هي أحسن، حرصا على الوصول إلى الحق من أقرب طريق ودفعا لوساوس الشيطان وتحريشه بين المؤمنين، فإن لم يتيسر ذلك، ورأى أحد أنه لا بد من بيان المخالفة فيكون ذلك بأحسن عبارة وألطف إشارة، ودون تهجم أو تجريح أو شطط في القول قد يدعو إلى رد الحق أو الإعراض عنه. ودون تعرض للأشخاص أو اتهام للنيات أو زيادة في الكلام لا مسوغ لها. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في مثل هذه الأمور ما بال أقوام قالوا كذا وكذا.
فالذي أنصح به هؤلاء الأخوة الذين وقعوا في أعراض الدعاة ونالوا منهم أن يتوبوا إلى الله تعالى مما كتبته أيديهم، أو تلفظت به ألسنتهم مما كان سببا في إفساد قلوب بعض الشباب وشحنهم بالأحقاد والضغائن، وشغلهم عن طلب العلم النافع، وعن الدعوة إلى الله بالقيل والقال والكلام عن فلان وفلان، والبحث عما يعتبرونه أخطاء للآخرين وتصيدها، وتكلف ذلك.(7/313)
كما أنصحهم أن يكفروا عما فعلوا بكتابة أو غيرها مما يبرئون فيه أنفسهم من مثل هذا الفعل ويزيلون ما علق بأذهان من يستمع إليه من قولهم، وأن يقبلوا على الأعمال المثمرة التي تقرب إلى الله وتكون نافعة للعباد، وأن يحذروا من التعجل في إطلاق التكفير أو التفسيق أو التبديع لغيرهم بغير بينة ولا برهان وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما (1) » متفق على صحته.
ومن المشروع لدعاة الحق وطلبة العلم إذا أشكل عليهم أمر من كلام أهل العلم أو غيرهم أن يرجعوا فيه إلى العلماء المعتبرين ويسألوهم عنه ليبينوا لهم جلية الأمر ويوقفوهم على حقيقته ويزيلوا ما في أنفسهم من التردد والشبهة عملا بقول الله عز وجل في سورة النساء: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} (2)
والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين جميعا ويجمع قلوبهم وأعمالهم على التقوى، وأن يوفق جميع علماء المسلمين، وجميع دعاة الحق لكل ما يرضيه وينفع عباده، ويجمع كلمتهم على الهدى ويعيذهم من أسباب الفرقة والاختلاف، وينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6104) ، صحيح مسلم الإيمان (60) ، سنن الترمذي الإيمان (2637) ، مسند أحمد بن حنبل (2/112) ، موطأ مالك الجامع (1844) .
(2) سورة النساء الآية 83(7/314)
السؤال الأول:
صدر عن سماحتكم بيان قبل أسابيع حول أسلوب النقد بين الدعاة فتأوله بعض الناس بتأويلات مختلفة، فما قول سماحتكم في ذلك؟ - السائل: ع. ف. ع.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن اهتدى بهداه أما بعد:
فهذا البيان الذي أشار إليه السائل أردنا فيه نصيحة إخواني العلماء والدعاة بأن يكون نقدهم لإخوانهم فيما يصدر من مقالات أو ندوات أو محاضرات أن يكون نقدا بناء بعيدا عن التجريح وتسمية الأشخاص؛ لأن هذا قد يسبب شحناء وعداوة بين الجميع.
وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته إذا بلغه عن بعض أصحابه شيء لا يوافق الشرع نبه على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا (1) » ثم يبين الأمر الشرعي عليه الصلاة والسلام.
ومن ذلك أنه بلغه أن بعض الناس قال: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال آخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، فخطب الناس صلى الله عليه وسلم وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني (2) » .
فمقصودي هو ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم أي أن التنبيه يكون بمثل هذا الكلام، بعض الناس قال كذا، وبعض الناس يقول كذا، والمشروع
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5063) ، صحيح مسلم النكاح (1401) ، سنن النسائي النكاح (3217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/285) .
(2) صحيح البخاري النكاح (5063) ، صحيح مسلم النكاح (1401) ، سنن النسائي النكاح (3217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/285) .(7/315)
كذا، والواجب كذا فيكون الانتفاد من غير تجريح لأحد معين، ولكن من باب بيان الأمر الشرعي، حتى تبقى المودة والمحبة بين الإخوان وبين الدعاة وبين العلماء.
ولست أقصد بذلك أناسا معينين وإنما قصدت العموم جميع الدعاة والعلماء في الداخل والخارج.
فنصيحتي للجميع أن يكون التخاطب فيما يتعلق بالنصحية والنقد من طريق الإبهام لا من طريق التعيين إذ المقصود التنبيه على الخطأ والغلط وما ينبغي من بيان الصواب والحق من دون حاجة إلى تجريح فلان وفلان. وفق الله الجميع.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد(7/316)
وصية للهيئة بالرفق والأسلوب الحسن
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم معالي الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفقه الله سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأشفع لمعاليكم مع كتابي هذا الرسالة التي كتبها إلي المدعو / ع. ع. إ المصري الجنسية المتضمنة الإفادة عما حصل لزوجته من سوء المعاملة من بعض رجال الهيئة في جدة، وأرجو بعد الاطلاع عليها وصية الهيئة في جدة وغيرها بالرفق والأسلوب الحسن في إنكارهم المنكر ولا سيما كشف الوجه من المرأة؛ لأن الله سبحانه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف. ولا يخفى أن كشف الوجه محل خلاف بين أهل العلم وشبهة، فالواجب الرفق في إنكاره والدعوة إلى الحجاب بالأسلوب الحسن من دون حاجة إلى طلب الجواز أو الإقامة، أو إركابها السيارة إلى المكتب ولا سيما الغريبات من النساء فإنهن أحق بالرفق لغلبة الجهل عليهن واعتيادهن الكشف في بلادهن إلا من رحم الله.
وأسأل الله سبحانه أن يمنحكم التوفيق لكل ما فيه رضاه ويعينكم على كل خير، إنه سميع قريب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/317)
إنكار المنكر حسب الطاقة
إنني فتاة أسكن في السكن الداخلي مع الطالبات، وقد هداني الله إلى الحق وأصبحت متمسكة به ولله الحمد، لكنني متضايقة جدا مما أرى حولي من بعض المعاصي والمنكرات، خصوصا من بعض زميلاتي الطالبات كسماع الأغاني، والغيبة والنميمة، وقد نصحتهن كثيرا ولكن بعضهن يهزأ بي ويسخر مني ويقلن إنني معقدة.
سماحة الشيخ: أرجو إفادتي. . ماذا أعمل جزاكم الله خيرا؟
الواجب عليك إنكار المنكر حسب الطاقة بالكلام الطيب والرفق وحسن الأسلوب، مع ذكر الآيات والأحاديث الواردة في ذلك حسب علمك، ولا تشاركيهن في الأغاني ولا في الغيبة ولا في غيرها من الأقوال والأفعال المحرمة، واعتزليهن حسب الإمكان حتى يخضن في حديث آخر لقول الله سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (1) الآية.
ومتى أنكرت بلسانك حسب الطاقة واعتزلت عملهن لم يضرك فعلهن ولا عيبهن لك، كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (2)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 68
(2) سورة المائدة الآية 105(7/318)
فأبان سبحانه أن المؤمن لا يضره من ضل إذا لزم الحق واستقام على الهدى، وذلك بإنكار المنكر، والثبات على الحق، وحسن الدعوة إليه، وسيجعل الله لك فرجا ومخرجا وسينفعهن الله بإرشادك إذا صبرت واحتسبت إن شاء الله، وأبشري بالخير العظيم والعاقبة الحميدة ما دمت ثابتة على الحق منكرة لما خالفه كما قال الله سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (1) وقال عز وجل: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (2) وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (3)
وفقك الله لما يرضيه، ومنحك الصبر والثبات، ووفق أخواتك وأهلك وزميلاتك لما يحبه ويرضاه إنه سميع قريب وهو الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 128
(2) سورة هود الآية 49
(3) سورة العنكبوت الآية 69(7/319)
أسئلة وأجوبتها حول الدعوة إلى الله
السؤال الأول:
عندنا في قريتنا عندما تتوفى زوجة الرجل ويتزوج غيرها يذهبون إلى قبرها ليلة زواجه بالزوجة الجديدة ويضعون عليه ماء.
الجواب: لا أصل لهذا وهو بدعة.(7/320)
ثقافة الداعية
سؤال:
نرجو عرض ما ينبغي للداعية أن يفعله تجاه ثقافته؟ ومم يستمد ثقافته حتى تكون دعوته مؤثرة ومستجابة بإذن الله؟
الجواب:
إن الدعوة إلى الله عز وجل من أعظم المهمات ومن أهم الفرائض، وكل مجتمع من الناس في أشد الحاجة إليها سواء كان مجتمعا مسلما أو مجتمعا كافرا. فالمجتمع المسلم في حاجة إلى المزيد من العلم، وإلى التنبيه إلى ما قد يقع منه من أغلاط أو منكرات حتى يدرك ما وقع منه من الأخطاء، وحتى يستقيم على طاعة الله ورسوله وحتى ينتهي عما نهى الله ورسوله، والمجتمع الكافر يدعى إلى الله، ويبين أن الله خلقه لعبادته، وأن الواجب عليه الدخول في الإسلام والالتزام بما جاء به نبي الهدى محمد صلى الله عليه وسلم. ولكن الداعي(7/320)
إلى الله تلزمه أمور لا بد من مراعاتها حتى تكون دعوته ناجحة وحتى تكون لها العاقبة الحميدة. فأعظمها وأهمها العلم، والعلم إنما يؤخذ من كتاب الله العظيم وسنة رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم كما قال عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) قال أهل العلم في معنى قوله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ} (2) يعني على علم؛ لأن العالم بعلمه بالنسبة إلى المعلومات كالبصير بالنسبة إلى المرئيات، فهو يعلم كيف يأمر وكيف ينهى وكيف يدعو إلى الله، كما أن الرائي يرى ما أمامه حتى يتجنب ما يضره من حفر وأشواك ونحو ذلك.
ثم أمر آخر وهو أن يكون رفيقا في دعوته وألا يعجل في ذلك حتى يضع الأمور في مواضعها. فإن كان المدعو ممن يفهم العلم ويمكن أن يستجيب من دون حاجة إلى موعظة أو جدال وضح له الحق وأرشد إليه بالأدلة الشرعية والكلام الطيب والأسلوب الحسن، فإذا تقبل ذلك انتهى الموضوع وحصل المطلوب. وإن كان ممن لديه جفاء وإعراض وغفلة وعدم مبالاة، نصح ووعظ بالتي هي أحسن وذكر بالله لعله يستجيب ويقبل الحق، فإن كان ذا شبهة ومجادلة رفق به وجادله بالتي هي أحسن حتى يزيل شبهته ويوضح له الحق الذي أشكل عليه وحتى لا تبقى شبهة يتشبث بها في ترك الحق أو في الاستمرار على الباطل، وهذه المعاني قد دل عليها قول الله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3)
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة النحل الآية 125(7/321)
ومما يلزم الداعي إلى الله عز وجل الإخلاص لله، وأن يحذر الرياء، وأن يكون في دعوته يقصد وجه الله والدار الآخرة لا رياء الناس ولا مدحهم أو قصد عرض في الدنيا، فالمؤمن إنما يريد وجه الله والدار الآخرة ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1)
وهناك شيء آخر وهو تحري الألفاظ المناسبة والرفق في الكلام وعدم الغلظة إلا عند الضرورة إليها كما قال عز وجل: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) يعني اليهود والنصارى {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (4) فلا بد من العناية بالرفق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في الشيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (5) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (6) » ، فعلى المؤمن في دعوته الرفق والأسلوب الحسن حتى يستجاب له، وحتى لا يقابل بالرد أو بالأسلوب الذي لا يناسب الداعي إلى الله، فإن بعض الناس عند الشدة قد يقابل بسببها بالسب والشتم والأسلوب الرديء مما يزيد الطين بلة، ولكن متى كان الداعي إلى الله رفيقا ذا أسلوب صالح فإنه لن يعدم - إن شاء الله- قبول دعوته أو على الأقل المقابلة الحسنة والكلام الطيب الذي يرجى من ورائه
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة العنكبوت الآية 46
(4) سورة العنكبوت الآية 46
(5) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/171) .
(6) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2592) ، سنن أبو داود الأدب (4809) ، سنن ابن ماجه الأدب (3687) ، مسند أحمد بن حنبل (4/366) .(7/322)
أن يتأثر المدعو بالدعوة والله ولي التوفيق.(7/323)
المرأة والدعوة إلي الله عز وجل
سؤال: ما رأيكم في المرأة والدعوة إلى الله عز وجل؟
جواب:
المرأة كالرجل عليها واجبها في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأدلة من القرآن والسنة تعم الجميع إلا ما خصه الدليل، وكلام أهل العلم واضح في ذلك. ومن أدلة القرآن في ذلك قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) وقوله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (2)
فعليها أن تدعو إلى الله بالآداب الشرعية التي تطلب من الرجل، وعليها مع ذلك الصبر والاحتساب لقول الله سبحانه: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (3) وقوله تعالى عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (4) ثم عليها أيضا أن تراعي أمرا آخر وهو: أن تكون مثالا في العفة
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة آل عمران الآية 110
(3) سورة الأنفال الآية 46
(4) سورة لقمان الآية 17(7/323)
والحجاب والعمل الصالح، وأن تبتعد عن التبرج والاختلاط بالرجال المنهي عنه - حتى تكون دعوتها بالقول والعمل عن كل ما حرم الله عليها.(7/324)
أسلوب الدعوة فيمن تأثر بثقافة معينة
سؤال:
إذا كان المدعوون متأثرين بثقافات معينة أو بمجتمعات معينة ما هو السبيل لدعوتهم؟
جواب:
يبين لهم ما في المذاهب التي تأثروا بها والبيئة التي تأثروا بها من الباطل، ويبين لهم أن هذه المذاهب فيها كذا وكذا، ويوضح ما فيها من أنواع الباطل والبدع إذا كانت كذلك، ويبين لهم أن المرجع في جميع الأمور هو: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما حصلتم عليه من كذا وكذا وما تعلمتم من كذا وكذا وما تخلقتم به بسبب البيئة - الاختلاط - عليكم أن تعرضوا ذلك على الميزان الشرعي مثل ما يعرض العلماء مسائل الفقه على الأدلة الشرعية، فما وافقها وجب أن يبقى، وما خالفها وجب أن يطرح ولو كانت من عادات الآباء والأسلاف والمشائخ وغيرهم.
والخلاصة أن الواجب التمسك بالخلق الصالح والسيرة الحسنة التي دل عليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن لا يتعصب لسيرة أبيه أو جده أو بيئته أو بيئة بلده بل عليه أن يتمسك بالحق الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع سلف الأمة.(7/324)
تهيئة الفرصة أمام المرأة للدعوة إلى الله عز وجل
سؤال:
هل من سبيل إلى تهيئة الفرصة أمام المرأة الداعية إلى الله سبحانه؟
جواب:
لا أعلم مانعا في ذلك متى وجدت المرأة الصالحة للقيام بالدعوة إلى الله سبحانه، فينبغي أن تعان، وأن توظف، وأن يطلب منها أن تقوم بإرشاد بنات جنسها؛ لأن النساء في حاجة إلى مرشدات من بنات جنسهن، وإن وجود المرأة بين النساء قد يكون أنفع في تبليغ الدعوة إلى طريق الحق من الرجل. فقد تستحي المرأة من الرجل فلا تبدي له كل ما يهمها، وقد يمنعها مانع في سماع الدعوة من الرجل، لكنها مع المرأة الداعية بخلاف ذلك؛ لأنها تخالطها وتعرض ما عندها وتتأثر بها أكثر.
فالواجب على من لديها علم من النساء أن تقوم بالواجب نحو الدعوة والتوجيه إلى الخير حسب طاقتها لقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) وقوله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (2) الآية، وقوله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3)
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة فصلت الآية 33(7/325)
وقوله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) والآيات في هذا المعنى كثيرة وهي تعم الرجال والنساء والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(7/326)
كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
والحكمة المقصودة فيه
سؤال:
ما هي الكيفية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وما هي الحكمة المقصودة في هذا المقام؟
جواب:
هذا سؤال عظيم وجدير بالعناية؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الواجبات في الإسلام، ومن فرائضه العظام. ولأن القيام بذلك في أهل العلم والإيمان والبصيرة من أعظم الأسباب لصلاح المجتمعات الإسلامية ونجاتها من عقاب الله سبحانه وتعالى في العاجل والآجل، واستقامتها على الصراط المستقيم، ولهذا يقول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) فجعلهم خير أمة أخرجت للناس بسبب هذه الأعمال الطيبة. وقال عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) فوصفهم بالفلاح المطلق لهذا الأمر العظيم وهو دعوتهم إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فجعلهم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سورة آل عمران الآية 104(7/327)
سبحانه مفلحين بعملهم الطيب، والفلاح هو الحصول على كل خير وهو من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) فوعدهم الرحمة على أعمالهم الطيبة التي منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يدل على أنه واجب على جميع المؤمنين والمؤمنات كل بحسب طاقته وليس خاصا بأحد عن أحد، وهو من صفاتهم العظيمة وأخلاقهم الكريمة، لكن يجب أن يكون ذلك بالحكمة والعلم لا بالجهل ولا بالعنف والشدة، فينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف عن علم وبصيرة فالمعروف هو ما أمر الله به ورسوله، والمنكر هو ما نهى عنه الله ورسوله.
فالواجب على الآمر والناهي أن يكون على بصيرة وعلى علم سواء كان رجلا أو امرأة وإلا فليمسك عن ذلك، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (2) فقوله تعالى على بصيرة أي على علم، ويقول جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) والحكمة هي العلم والدعوة إلى الله من جنس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنها بيان للحق وإظهار له للناس، والآمر بالمعروف
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة النحل الآية 125(7/328)
والناهي قد يكون عنده من السلطة ما يردع بها صاحب المنكر ويلزم بها من ترك المعروف الواجب، والدعوة إلى الله أوسع من ذلك وهي البيان للناس وإرشادهم إلى الحق.
والخلاصة أن الواجب على الداعي إلى الله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون على علم وبينة حتى لا يأمر بما يخالف الشرع، وحتى لا ينهى عن ما هو موافق للشرع. والواجب أيضا أن يكون ذلك بالرفق وعدم العنف وعدم الكلمات البذيئة، بل يكون بكلام طيب وأسلوب حسن ورفق، كما قال الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (1) وقال سبحانه وتعالى لموسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2) سورة طه الآية 44(7/329)
حكم قول: صدق الله العظيم عند انتهاء
قراءة القرآن
سؤال:
إنني كثيرا ما أسمع من يقول: إن (صدق الله العظيم) عند الانتهاء من قراءة القرآن بدعة، وقال بعض الناس: إنها جائزة واستدلوا بقوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (1)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 95(7/329)
وكذلك قال لي بعض المثقفين: إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يوقف القارئ قال له: حسبك، ولا يقول: صدق الله العظيم، وسؤالي هو هل قول: صدق الله العظيم جائز عند الانتهاء من قراءة القرآن الكريم أرجو أن تتفضلوا بالتفصيل في هذا؟
جواب:
اعتياد الكثير من الناس أن يقولوا: صدق الله العظيم عند الانتهاء من قراءة القرآن الكريم وهذا لا أصل له، ولا ينبغي اعتياده بل هو على القاعدة الشرعية من قبيل البدع إذا اعتقد قائله أنه سنة فينبغي ترك ذلك، وأن لا يعتاده لعدم الدليل، وأما قوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} (1) فليس في هذا الشأن، وإنما أمره الله عز وجل أن يبين لهم صدق الله فيما بينه في كتبه العظيمة من التوراة وغيرها، وأنه صادق فيما بينه لعباده في كتابه العظيم القرآن، ولكن ليس هذا دليلا على أنه مستحب أن يقول ذلك بعد قراءة القرآن أو بعد قراءة آيات أو قراءة سورة؛ لأن ذلك ليس ثابتا ولا معروفا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته رضوان الله عليهم.
«ولما قرأ ابن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم أول سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى: قال له النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك قال ابن مسعود: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان عليه الصلاة والسلام (3) » ، أي يبكي لما تذكر هذا المقام العظيم يوم القيامة المذكور في الآية، وهي قوله سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ} (4)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 95
(2) صحيح البخاري فضائل القرآن (5050) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (800) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3024) ، سنن أبو داود العلم (3668) ، سنن ابن ماجه الزهد (4194) ، مسند أحمد بن حنبل (1/433) .
(3) سورة النساء الآية 41 (2) {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}
(4) سورة النساء الآية 41(7/330)
أي يا محمد على هؤلاء شهيدا، أي على أمته عليه الصلاة والسلام، ولم ينقل أحد من أهل العلم فيما نعلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: صدق الله العظيم بعد ما قال له النبي: حسبك، والمقصود أن ختم القرآن بقول القارئ: صدق الله العظيم ليس له أصل في الشرع المطهر، أما إذا فعلها الإنسان بعض الأحيان لأسباب اقتضت ذلك فلا بأس به.(7/331)
حكم قول: بذمتك أو بصلاتك أو محرج إن فعلت كذا
سؤال:
هل يجوز التذميم بقوله لأخيه: بذمتك أو بصلاتك أو بقوله محرج إن فعلت كذا، فمثل هذه العادات منتشرة بين النساء والأطفال، نرجو التوجيه جزاكم الله خيرا؟
جواب:
لا يجوز الحلف بالصلاة ولا بالذمة ولا بالحرج ولا بغير ذلك من المخلوقات، فالحلف يكون بالله وحده فلا يقول: بذمتي ما فعلت كذا ولا بذمة فلان ولا بحياة فلان ولا بصلاتي، ولا يجوز أن يطلب من ذلك، كأن يقول: قل: بذمتي أو قل: بصلاتي أو بزكاتي أو نحو ذلك، وكل هذا من الحلف بغير الله ولا أصل له في الشرع المطهر؛ لأن الصلاة فعل العباد والزكاة فعل العباد وأفعال العباد لا يحلف بها، وإنما الحلف بالله وحده سبحانه وتعالى أو بصفة من صفاته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (1) » ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «من حلف بشيء دون الله فقد أشرك (2) »
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2679) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/47) .(7/331)
خرجه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله بإسناد صحيح عن عمر رضي الله عنه، وخرجه الترمذي وأبو داود بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (1) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «من حلف بالأمانة فليس منا (2) » .
فالواجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يحذر ذلك وأن لا يحلف إلا بالله وحده سبحانه وتعالى فيقول: بالله ما فعلت كذا، أو والله ما فعلت كذا إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
والمشروع أن يحفظ يمينه ولا يحلف إلا لحاجة لقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (3) لكن إذا دعت الحاجة إلى اليمين فلا يحلف إلا بالله وحده أو بصفة من صفاته فيقول: والله ما فعلت كذا، أو وعزة الله ما فعلت كذا إذا كان صادقا فلا حرج عليه في ذلك، أما الحلف بغير الله كالأمانة، أو بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بالكعبة، أو بحياة فلان، أو شرف فلان، أو بصلاتي، أو ذمتي، فلا يجوز ذلك كله للأحاديث السابقة، أما إذا قال هذا في ذمتي أو في ذمة فلان فليس بيمين والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) .
(2) سنن أبو داود الأيمان والنذور (3253) ، مسند أحمد بن حنبل (5/352) .
(3) سورة المائدة الآية 89(7/332)
حكم ضرب المريض
سؤال:
لنا أخت مريضة وأحيانا نضربها ضربا خفيفا لكننا نتألم نفسيا من ذلك فهل علينا في ذلك شيء؟(7/332)
جواب:
الواجب عليكم مراعاة حالها وعدم فعل ما يزيد مرضها، وإذا كانت لا تتحمل الضرب فلا يجوز لكم الضرب، وعالجوا أخطاءها بغير ذلك. وأما إذا كان المرض خفيفا وهي تخطئ وتعمل بعض الأشياء التي تستحق عليها التأديب الخفيف فلا بأس، لكن يجب أن تراعوا حالها، فإن كان الضرب يضرها فلا تضربوها وتزيدوها شرا، أما إن كان لا يضرها هذا الضرب الذي تعملونه معها؛ لأن مرضها خفيف والحاجة ماسة إلى تأديبها حتى تدع ما لا ينبغي فلا حرج في ذلك.(7/333)
بكاؤك فضل من الله
سؤال:
عندما أقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمام الناس أشعر بخشوع غير طبيعي خاصة عندما أكون مع الذين وعظتهم، وأحيانا أبكي من خشية الله، بخلاف ذلك عندما أكون وحدي. فهل هذا يعتبر من الرياء والنفاق؟ وهل لي أن أترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوف الرياء وإحباط العمل؟ س. ف.
جواب:
عليك أن تجتهد في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن لا تدع ذلك، فإن الشيطان يحب أن تدع ذلك، وقد يزين لك أن عملك هذا من أجل أن يمدحك الناس، فاتق الله، وادع إلى الله واجتهد في الإخلاص، وسل ربك أن يعينك وقل: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، ولا تطع الشيطان في ذلك، وخشوعك وبكاؤك إن كان من غير قصد أو هدف ليمدحك الناس، فهذا فضل من الله والله أعلم.(7/334)
أعظم الجهاد
سؤال:
هل الجهاد في سبيل الله على درجة واحدة سواء كان بالنفس، أو بالمال، أو بالدعاء مع القدرة على الجهاد بالنفس؟ س. ص
جواب:
الجهاد أقسام، بالنفس، والمال، والدعاء، والتوجيه، والإرشاد،(7/334)
والإعانة على الخير من أي طريق، وأعظم الجهاد الجهاد بالنفس، ثم الجهاد بالمال والجهاد بالرأي والتوجيه. والدعوة كذلك من الجهاد، فالجهاد بالنفس أعلاها.(7/335)
الجهاد فرض كفاية
سؤال:
لا يخفى على سماحتكم ما يمر به المسلمون في البوسنة والهرسك من تدمير يقصد به استئصال شأفة المسلمين في أوروبا، فهل بعد ذلك التدمير والإبادة وهتك الأعراض نشك أن الجهاد في تلك الأرض هو فرض عين؟ ع. ف.
جواب:
سبق أن بينا أكثر من مرة أن الجهاد فرض كفاية، لا فرض عين، وعلى جميع المسلمين أن يجاهدوا في نصر إخوانهم بالنفس والمال، والسلاح، والدعوة والمشورة، فإذا خرج منهم من يكفي سلم الجميع من الإثم، وإذا تركوه كلهم أثموا جميعا، فعلى المسلمين في المملكة، وإفريقيا، والمغرب، وغيرها أن يبذلوا طاقتهم والأقرب فالأقرب، فإذا حصلت الكفاية من دولة أو دولتين أو ثلاث أو أكثر سقط عن الباقين، وهم مستحقون للنصر والتأييد، والواجب مساعدتهم ضد عدوهم؛ لأنهم مظلومون، والله أمر بالجهاد للجميع، وعليهم أن يجاهدوا ضد أعداء الله حتى ينصروا إخوانهم، وإذا تركوا ذلك أثموا وإذا قام به - من يكفي سقط الإثم عن الباقين.(7/335)
حكم الله تعالى في جهاد أعدائه (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين أما بعد:
فنرى أن من المهم بيان حكم الله سبحانه وتعالى في جهاد أعدائه بالمال والنفس واللسان. وقد أكثر الله سبحانه من ذكر الجهاد في كتابه الكريم، وهكذا نبيه عليه الصلاة والسلام جاءت عنه الأحاديث الصحيحة تأمر بالجهاد وتدعو إليه وتشجع عليه وتذكر فضل أهله وما لهم عند الله من المثوبة العظيمة.
ومن هذا قوله سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) فأمر سبحانه بالجهاد بالمال، والنفس، وبالنفير خفافا وثقالا، وما ذاك إلا لعظم شأن الجهاد وشدة الحاجة إليه لما يحصل به من رفع راية الإسلام ورفع أعلامه وتنفيذ أحكامه وإزاحة العقبات عن طريق دعوته. ولما في الجهاد أيضا من نشر دين الله وبيان حقه على عباده، ولما فيه أيضا من إخراج الناس من الظلمات إلى النور،
__________
(1) وجهت هذه الكلمة عبر إذاعة المملكة العربية السعودية ثم نشرت في جريدة الرياض بتاريخ 5 \ 7 \ 1411 هـ.
(2) سورة التوبة الآية 41(7/336)
وإخراجهم من حكم الطاغوت إلى حكم الله عز وجل، ومن ضيق الدنيا وظلمها وجورها إلى سعة الإسلام وعدل الإسلام.
وقال جل وعلا في كتابه الكريم أيضا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) فأخبر سبحانه وتعالى أن التجارة المنجية من العذاب الأليم هي الإيمان والجهاد، وشوق إليها سبحانه وتعالى بقوله: {تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) وبقوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ} (4)
فالداعي هو الله سبحانه وتعالى، والواسطة هو محمد عليه الصلاة والسلام وهو الذي أنزل الله عليه الكتاب العظيم وبلغه إلينا. والتجارة المنجية من عذاب أليم هي إيماننا بالله سبحانه وبرسوله إيمانا صادقا يتضمن توحيده والإخلاص له وطاعة أوامره وترك نواهيه، ونقف عند حدوده سبحانه وتعالى، ومن جملة طاعته وطاعة رسوله الجهاد في سبيل الله عز وجل، ولهذا ذكر الجهاد بعد الإيمان تنبيها على عظم شأنه وشدة الحاجة إليه، وإلا فمن المعلوم أنه من شعب الإيمان حتى قال بعض أهل العلم أن الجهاد هو: الركن السادس من أركان الإسلام، وما ذاك إلا لعظم ما يترتب عليه من المصالح العظيمة فهو شعبة عظيمة وفرض عظيم من فروض الإيمان وهو يكون بالنفس، ويكون بالمال، ويكون باللسان، ويكون بأنواع التسهيل الذي يعين المجاهدين على قتال عدوهم.
__________
(1) سورة الصف الآية 10
(2) سورة الصف الآية 11
(3) سورة الصف الآية 10
(4) سورة الصف الآية 10(7/337)
فالدعوة إلى الله والإرشاد إليه والتشجيع على الجهاد والتحذير من التخلف والجبن كل هذا من الجهاد باللسان، ونصيحة المجاهدين وبيان ما أعد الله لهم من الخير والعاقبة الحميدة كله من الجهاد باللسان، والإنفاق في سبيل الله في مصالح الجهاد وفي حاجة المجاهدين وتجهيزهم وإعطائهم السلاح والآلة المركوبة من طائرة ومن سيارة ومن غير ذلك كل ذلك من الجهاد في سبيل الله بالمال.
وبين سبحانه وتعالى في الآية الكريمة أن الإيمان والجهاد هما التجارة المنجية من عذاب الله، فما أشرفه من عمل وما أعظمه من عمل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله (1) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما عليها (2) » ، ولكن الجهاد بالمال له شأن عظيم فهو أوسع أنواع الجهاد؛ لأن المال يستعان به على استخدام الرجال واستخدام السلاح واستخدام الدعاة، فالمال أوسعها وأكثرها نفعا، ولهذا بدأ به الله في الآيات قبل النفس في أغلب الآيات، بدأ الله بالمال قبل النفس وما ذاك إلا لعظم نفعه ولكثرة ما يحصل به من الخير والعون للمجاهدين.
فالجهاد بالمال جهاد عظيم ينفع المجاهدين ويعينهم على عدوهم بصرفه في استخدام المجاهدين وتجهيزهم وتفريغهم للجهاد، والإحسان إلى عوائلهم، ويصرف أيضا في شراء السلاح الذي يجاهد به، ويصرف أيضا في حاجتهم من اللباس والطعام والخيام وغير ذلك، ومصالحه
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2616) ، سنن ابن ماجه الفتن (3973) .
(2) صحيح البخاري الرقاق (6568) ، صحيح مسلم الإمارة (1880) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1651) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2824) ، مسند أحمد بن حنبل (3/264) .(7/338)
كثيرة.
ولهذا بدأ الله به في أغلب الآيات كما في قوله سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) وفي هذه الآية يقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (4) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (5)
وهذا فضل من الله عز وجل أن المجاهدين تحصل لهم هذه الأمور العظيمة: غفران الذنوب ودخول الجنة، والنجاة من النار، ومع كل ذلك فتح قريب ينصرهم الله ويؤيدهم على أعدائهم إذا صدقوا واستقاموا وصابروا كما قال عز وجل في حق المجاهدين: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (6) هذا وعده لأهل الإيمان إذا جاهدوا عدوهم وصبروا واتقوا ربهم فالله ينصرهم ويعينهم ويكفيهم شر أعدائهم كما قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (7) ويقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (8) ويقول سبحانه:
__________
(1) سورة التوبة الآية 41
(2) سورة الصف الآية 10
(3) سورة الصف الآية 11
(4) سورة الصف الآية 12
(5) سورة الصف الآية 13
(6) سورة آل عمران الآية 120
(7) سورة آل عمران الآية 120
(8) سورة محمد الآية 7(7/339)
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2)
العاقبة لله سبحانه وتعالى يجعلها لمن يشاء سبحانه وتعالى، فإذا صبر أهل الإيمان واتقوا ربهم وجاهدوا في سبيله عن إيمان وإخلاص وأعدوا العدة اللازمة فإن الله ينصرهم ويعينهم، ويجعل العاقبة لهم سبحانه وتعالى كما وعد سبحانه وتعالى بذلك.
ويقول جل وعلا: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} (3) {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} (4) {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (5)
فالصبر والصدق والتقوى لله عز وجل هي أسباب النصر وعناصر الفوز. والله المسئول سبحانه أن ينصر دينه ويعلي كلمته إنه سبحانه وتعالى جواد كريم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة الحج الآية 41
(3) سورة الصافات الآية 171
(4) سورة الصافات الآية 172
(5) سورة الصافات الآية 173(7/340)
الرابطة الإسلامية هي أعظم الوسائل
التي تربط بين المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد. .
فإن الأخوة الدينية بين الشعوب الإسلامية هي أقوى الوشائج والروابط التي تشد الأمة وتؤلف بينها لتكون قوية متماسكة في وجوه أعدائها المتربصين بها من الكفار والمنافقين، وهذه النعمة - نعمة التآلف بين قلوب المسلمين - هي التي امتن الله بها على نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (1) {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) وامتن بها على المسلمين جميعا رجالا ونساء في قوله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) وفي
__________
(1) سورة الأنفال الآية 62
(2) سورة الأنفال الآية 63
(3) سورة التوبة الآية 71
(4) سورة الحجرات الآية 10(7/341)
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يكذبه ولا يخذله التقوى هاهنا - وأشار إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وهذه النعمة العظيمة قد ضاق بها أعداء الإسلام، وعملوا جاهدين لتفكيك أواصر الأمة وزرع أسباب الفرقة والتنازع بينهم لتذهب ريح الأمة وقوتها وليسهل إذلالها وقهرها والسيطرة عليها. وكما يقولون: فرق تسد.
ومن أقوى وسائل الأعداء في هذا: وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وما تبثه من الأخبار الكاذبة والمحرفة التي تزرع الشر والفتن وأسباب الكراهية والحقد والفرقة بين المسلمين.
ومن أهم الواجبات على المسلمين جميعا ولا سيما العلماء ورجال الإعلام المنصفون: التصدي لهذه الحملات الحاقدة التي تستغل الأحداث لإثارة الشكوك وإزالة الثقة بين المسلمين أفرادا وجماعات، حكاما ومحكومين.
ومما يلاحظ في هذا العام بشكل خاص أن كثيرا من وكالات الأنباء العالمية التي تخدم مخططات أعداء الإسلام وتخضع لمراكز التوجيه النصراني والماسوني تخطط بأسلوب ماكر لإثارة العالم كله
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5144) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، سنن النسائي النكاح (3239) ، مسند أحمد بن حنبل (2/394) ، موطأ مالك البيوع (1391) .(7/342)
ضد ما يسمونه (الأصوليين) وهم يقصدون بذلك الذم والقدح في المسلمين المتمسكين بالإسلام على أصوله الصحيحة، الذين يرفضون مسايرة الأهواء والتقارب بين الثقافات والأديان الباطلة.
وقد وقع بعض الإعلاميين المسلمين في مصيدة الأعداء، وأخذوا ينقلون تلك الأخبار المعادية للإسلام، وأصبحوا يتداولونها عن جهل بمقاصد أصحابها، أو غرض في نفوس بعضهم، فكانوا بفعلهم هذا أعوانا للأعداء على الإسلام والمسلمين بدلا من قيامهم بواجب التصدي لأعداء الإسلام، وإبطال كيدهم ببيان أهمية الرابطة الدينية والأخوة الإسلامية بين الشعوب الإسلامية، وإن الأخطاء الفردية التي لا يسلم منها أحد لا ينبغي أن تكون مبررا للتشنيع على الإسلام والمسلمين والتفريق بينهم.
ولهذا رأيت تحرير هذه الكلمة الموجزة نصيحة للمسلمين جميعا من الإعلاميين وغيرهم في الدول الإسلامية وغيرها، وتحذيرا للجميع من مكائد الأعداء من الكافرين والمنافقين والسائرين على نهجهم. وأن يصونوا الإعلام الإسلامي المقروء والمسموع والمرئي من أن يكون وسيلة للتشكيك في الإسلام والدعاة إليه، أو أن يستخدم للتفريق بين علماء الأمة وشعوبها والناصحين لها، وغرس أسباب الشحناء والتباغض بين حكامها ومحكوميها وعلمائها وعامتها. وأن يبذلوا كل ما يستطيعون في التقريب بين المسلمين وجمع كلمتهم، ودعوتهم حكاما ومحكومين للتمسك بدينهم والاستقامة عليه وتحكيم شريعة الله في عباده والتواصي بذلك، والتعاون عليه بالأساليب الحسنة والنصيحة الخالصة والعمل الصالح الدائب، والسيرة الحميدة عملا بقول الله عز وجل:(7/343)
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) وقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (5) » رواه مسلم في صحيحه.
ولما روى جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: «بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (6) » متفق على صحته.
كما أوصى العلماء وجميع الدعاة وأنصار الحق أن يتجنبوا المسيرات والمظاهرات التي تضر الدعوة ولا تنفعها وتسبب الفرقة بين المسلمين والفتنة بين الحكام والمحكومين.
وإنما الواجب سلوك السبيل الموصلة إلى الحق واستعمال الوسائل التي تنفع ولا تضر وتجمع ولا تفرق وتنشر الدعوة بين المسلمين، وتبين لهم ما يجب عليهم بالكتابات والأشرطة المفيدة والمحاضرات النافعة، وخطب الجمع الهادفة التي توضح الحق وتدعو إليه، وتبين الباطل وتحذر منه، مع الزيارات المفيدة للحكام والمسئولين، والمناصحة كتابة أو مشافهة بالرفق والحكمة والأسلوب الحسن، عملا بقول الله عز وجل في وصف نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (7)
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(6) صحيح البخاري الزكاة (1401) ، صحيح مسلم الإيمان (56) ، سنن الترمذي البر والصلة (1925) ، سنن النسائي البيعة (4175) ، مسند أحمد بن حنبل (4/364) ، سنن الدارمي البيوع (2540) .
(7) سورة آل عمران الآية 159(7/344)
الآية. وقوله عز وجل لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام لما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا وتطاوعوا ولا تختلفوا (2) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (3) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (4) » ، وكل هذه الأحاديث صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به، اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه (5) » ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين جميعا ويجمع كلمتهم على الحق، وأن يصلح قادتهم وولاة أمرهم، ويوفقهم لتحكيم شريعته والرضا بها وإيثارها على ما سواها، وأن ينصر بهم دينه ويعلي بهم كلمته، وأن يعينهم على كل ما فيه صلاح أمور دينهم ودنياهم، وعلى كل ما فيه سعادتهم وسعادة شعوبهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، وأن يوفق علماء المسلمين ودعاة الإسلام لأداء ما يجب عليهم على الوجه الذي يرضيه، وأن يبارك في جهودهم وينصر بهم الحق ويعينهم على كل ما فيه صلاح العباد والبلاد إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة طه الآية 44
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (3038) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1732) ، سنن أبو داود الأدب (4835) ، مسند أحمد بن حنبل (4/412) .
(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2592) ، سنن أبو داود الأدب (4809) ، سنن ابن ماجه الأدب (3687) ، مسند أحمد بن حنبل (4/366) .
(5) صحيح مسلم الإمارة (1828) ، مسند أحمد بن حنبل (6/93) .(7/345)
نداء لإخواني قادة المجاهدين الأفغان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أيها القادة المجاهدون في بلاد الأفغان. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
فقد أنعم الله عليكم سبحانه بالنصر على الأعداء، ومكن لكم في البلاد بعد جهاد طويل وتعب كثير. فالواجب عليكم شكر الله على ذلك والتعاون على البر والتقوى وتحكيم شرع الله في نفوسكم وفي كل أعمالكم وفي شعبكم، أما القتال فيما بينكم فذلك من أكبر المصائب ومن أعظم الكبائر التي يجب عليكم تركها، وفي الاستمرار فيها فرحة الأعداء وسوء العاقبة. فاتقوا الله وأمسكوا عن القتال وحلوا مشاكلكم بالوسائل السلمية والحكم الشرعي، وأنصحكم بتشكيل لجنة من العلماء بشرع الله سبحانه للحكم بينكم في ذلك إن لم يتيسر الصلح والإمساك عن القتال والاتفاق على ما فيه صلاح الجميع وإقامة شرع الله بين عباده.
ولقد دعاكم خادم الحرمين الشريفين الملك: فهد بن عبد العزيز وفقه الله إلى أمر نرجو لكم فيه التوفيق. وحسن العاقبة وحصول الصلح وهو الحضور بين يديه لمناقشة جميع المشاكل وحلها(7/346)
بالوسائل السلمية على ضوء الكتاب والسنة. كما قال الله عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) وقال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3)
فاتقوا الله أيها الإخوة في الله واستجيبوا للحق، واحذروا الاستمرار فيما يضركم ويشمت الأعداء بكم، وفيما ذكرته لكم من الحلين إنهاء النزاع إن شاء الله، وحصول الاتفاق على ما فيه سعادة الجميع والعاقبة الحميدة بإذن الله وهما: تشكيل لجنة من العلماء للنظر في موضوع النزاع والحكم في ذلك بما يقتضيه الشرع المطهر، أو الاستجابة إلى دعوة خادم الحرمين الشريفين للحضور بين يديه والتفاوض في وسائل الحل وإنهاء النزاع على ضوء الكتاب والسنة.
والله المسئول أن يجمع قلوبكم على التقوى، وأن يصلح ذات بينكم، وأن يوفقكم لما فيه صلاحكم وصلاح بلادكم وجمع كلمتكم على الحق، والسلامة من مكائد الأعداء إنه ولي ذلك والقادر عليه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة الشورى الآية 10
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة النساء الآية 65(7/347)
رسالة خاصة إلى المجاهدين الأفغان
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله. أيها الإخوان المجاهدون في أفغانستان السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لقد سر المسلمون جميعا بنبأ افتتاحكم العاصمة الأفغانية " كابل " واستيلاؤكم على مقاليد الحكم فيها فالحمد لله على ذلك، وإنها لنعمة عظيمة وفضل عظيم عليكم وعلى المسلمين، فالواجب عليكم شكر هذه النعمة والحفاظ عليها، والحذر من جميع أسباب الفشل والفرقة عملا بقول الله سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (3)
أيها الإخوة في الله لقد جاهدتم جهادا عظيما وصبرتم كثيرا، وضحيتم في سبيل ذلك بما لا يحصيه إلا الله من الأنفس والأموال فاتقوا الله في جهادكم وفي أنفسكم وفي شعبكم وفي المسلمين عامة أن تفرطوا في هذا الجهاد، وأن تفرحوا الأعداء عليكم بالاختلاف والنزاع، وابذلوا كلما استطعتم من الجهود في جمع الكلمة وتوحيد الصف والقضاء على أسباب الخلاف بالوسائل السلمية، وتحكيم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة الأنفال الآية 45
(3) سورة الأنفال الآية 46(7/348)
الشريعة في كل شيء والحذر من مكائد الأعداء وأطماعهم، وأبشروا بالأجر العظيم والعاقبة الحميدة إذا أخلصتم لله وبذلتم الوسع في جمع الكلمة والتعاون على البر والتقوى، ونبذ أسباب الخلاف قال الله عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (1) وقال سبحانه: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (2) وقال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4) وقال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (5)
وقال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (6) وقال عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (7) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (8) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (9)
والله المسئول بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح قلوبكم وأعمالكم وأن يجمع كلمتكم على الحق، وأن يحسن لكم ولشعبكم ولجميع المسلمين العاقبة وأن يعيذكم وجميع المسلمين من أسباب الفتنة والاختلاف ومكائد الأعداء، وأن يصلح لكم النيات والأقوال والأعمال إنه جواد كريم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 120
(2) سورة هود الآية 49
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة الروم الآية 47
(6) سورة النور الآية 55
(7) سورة العصر الآية 1
(8) سورة العصر الآية 2
(9) سورة العصر الآية 3(7/349)
الاعتداء على المسجد البابري في الهند
وتهديمه جريمة عظيمة(7/349)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد:
فقد تناقلت وكالات الأنباء العالمية والإسلامية هذه الحادثة النكراء، والجريمة الشنعاء الموجهة ضد الإسلام والمسلمين ومقدساتهم التي جرت في مدينة أيوديا الهندية، وهي قيام جماعة من الهندوس بهدم مسجد البابري.
ونحن من حين سمعنا هذا الخبر المؤلم، والتصرف المشين والعمل الإجرامي الأثيم نشجب هذا الحادث الشنيع ونستنكره وندينه بشدة، ونعتبر أن ما حدث للمسجد البابري من اعتداء وتهديم جريمة عظمى بكل المقاييس، إذ هو إساءة للإسلام والمسلمين ومقدساتهم الإسلامية، وإن الحكومة الهندية مطالبة بمعاقبة مرتكبي هذه الكارثة المؤلمة، وإعادة بناء المسجد، وإيقاف مثل هذه الجرائم المنكرة من قبل الهندوس والموجهة ضد الإسلام وأهله ومقدساته؛ لأنها إذا لم تتدخل الحكومة الهندية في مثل هذه الحالات بالعقوبات الصارمة فلا يستبعد قيام الهندوس المتطرفين بمزيد من الأعمال الإجرامية ضد المسلمين ومساجدهم في الهند، خصوصا بعد تصميم الهندوس المتعصبين على عمل مثل هذه الفوضى الغوغائية، وهدم المسجد البابري على مرأى ومسمع من(7/350)
الحكومة الهندية، كما أن على الحكومة الهندية أيضا: احترام الإسلام وأهله في الهند، وإيجاد المناخ المناسب للمسلمين، واحترام مقدساتهم وحمايتهم من أذى المتطرفين بكل قوة وعناية.
والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن ينصرهم على أعدائهم في كل مكان إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
والرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء
والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية(7/351)
وجوب العناية بالإخوة المسلمين أفرادا وجماعات(7/351)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير الخلق أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين. . أما بعد:
أيها الإخوة في الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) ويقول سبحانه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (2) ويقول سبحانه: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (3)
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (4) » ويقول عليه الصلاة والسلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه (5) » ، ويقول عليه الصلاة والسلام: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته (6) » .
هذه الأدلة وغيرها من الكتاب والسنة تدعونا إلى العناية والاهتمام بإخواننا المسلمين أفرادا وجماعات في كل بقاع الأرض،
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة آل عمران الآية 92
(3) سورة الحديد الآية 7
(4) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(5) صحيح البخاري المظالم والغصب (2446) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) .
(6) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) .(7/352)
وتفقد أحوالهم، ومعرفة واقعهم، وتحسس آلامهم، ورصد احتياجاتهم، ومعرفة مطالبهم، ثم العمل على مساعدتهم كل بحسب استطاعته، مع العناية بتقديم الأهم على المهم وهكذا، فهناك من المسلمين في بلاد المسلمين، وفي غيرها من البلدان الأخرى من يحتاجون إلى الطعام والكساء وهناك من يحتاج إلى التعليم والتدريب، وهناك من يحتاج إلى الكتاب والمدرسة، وهناك من يحتاج إلى بناء مسجد تقام فيه الصلاة، ويذكر فيه اسم الله، وهناك من يحتاج إلى المدرس والمرشد والداعية إلى الله يذكرهم بالله، ويبين لهم حقيقة الإسلام، ويوضح لهم أحكام دينهم حتى يعبدوا الله على هدى وبصيرة. وهؤلاء وأولئك يحتاجون إلى الطبيب وإلى المستشفى لعلاج مرضاهم، وإلى المأوى المناسب يقيهم الحر والبرد، ويحفظ لهم إنسانيتهم وكرامتهم.
أيها الإخوان: لا يخفى عليكم ما يعانيه الكثير من إخوانكم المسلمين في سائر بلاد الله من فقر وجهل وبؤس وحرمان وبطالة ومرض وجهل بأحكام الدين مما يوجب التعاون ومضاعفة الجهد لحماية الإنسان المسلم، وإنقاذه من أسباب الهلاك، وإن هذه المؤسسة المباركة (الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية) لهي منشأة خيرة، جديرة بكل دعم وتشجيع ومساندة، فأهدافها وغاياتها واضحة وهي العناية بمعرفة آلام المسلمين، ومعالجة مشاكلهم أينما كانوا، والحفاظ على هويتهم الإسلامية، وعطاؤها للعالم الإسلامي كله. ومن أبرز صفات هذه الهيئة: أنها لا تتسم بصفة بيئية، أو تنخرط في انتماءات معينة مهما كان نوعها إلا الانتماء الإسلامي الخيري المستلهم من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(7/353)
لذا فإنني أدعو جميع أهل الخير ممن وهبهم الله المال، وأعطاهم سعة في الرزق أن يبادروا في الإنفاق في سبيل الله، وذلك بدعم هذه المنشأة الخيرية بالمال، والإسهام في مشاريعها المتنوعة، لكي تتمكن من القيام بأعمالها، وتحقيق أهدافها الإسلامية النافعة.
وقد وعد الله المنفقين بالخلف في الدنيا وفي الآخرة. قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (1) وقال {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (2)
ومن الأمور المعتبرة لدعم هذه الهيئة الخيرية أن القائمين عليها هم من الرجال الثقات المخلصين الذين نذروا أنفسهم، وبذلوا أموالهم، وفرغوا أوقاتهم لإيصال الخير والنفع لأكبر عدد من المحتاجين من المسلمين، فهذا مما يشجع المسلم ويطمئنه إلى أن ما يبذله من مال هو في أيد أمينة تنميه وتزكيه حتى يصل إلى مستحقيه.
إخواني: وبهذه المناسبة فإنني أوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه وتعالى ومراقبته في السر والعلن، وأوصي إخواني القائمين على أمر هذه الهيئة الخيرية أن يتقوا الله في أموال هذه الهيئة، وذلك بأن لا يتصرفوا فيها وينموها إلا بالطرق الشرعية الصحيحة، وأن يبتعدوا عن التعامل بها في كل ما تدخله شائبة الربا، أو المعاملات المحرمة المخالفة للشريعة الإسلامية. ففي الحديث الصحيح: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين (3) » ،
__________
(1) سورة سبأ الآية 39
(2) سورة المزمل الآية 20
(3) صحيح مسلم الزكاة (1015) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (2/328) ، سنن الدارمي الرقاق (2717) .(7/354)
فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} (1) الآية، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (2) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك.
والله المسئول أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه، وأن يمنحكم إصابة الحق في القول والعمل، وأن يعينكم على كل ما فيه إيصال الخير لمستحقيه، وأن يضاعف الأجر لنا ولكم ولجميع المساهمين في هذا المشروع، وأن يتقبل من الجميع إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 51
(2) سورة البقرة الآية 172(7/355)
نداء عام إلى الحكومات والشعوب الإسلامية
لمساعدة المسلمين في البوسنة والهرسك
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن نصر دينه واتبع هداه أما بعد. .
فإني أهيب بجميع الحكومات والشعوب الإسلامية وبجميع الدول المحبة للسلام ونصر المظلوم بأن يمدوا المسلمين في البوسنة والهرسك وأعوانهم بما يعينهم في حرب عدوهم من الصرب وأنصارهم بالرجال والمال والسلاح والدعاء؛ لأنهم مظلومون ومعتدى عليهم، ولم تزل حكومة الصرب وأنصارها مستمرة في العدوان والظلم والتقتيل والتخريب، ولا يخفى على كل مسلم وعلى كل منصف ما في ذلك من الظلم العظيم والعواقب الوخيمة على المسلمين في البوسنة والهرسك وأعوانهم، والله سبحانه أوجب في كتابه الكريم وسنة رسوله الأمين جهاد الأعداء ونصر المظلوم فقال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (1) وقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (3) الآية.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 39
(2) سورة التوبة الآية 41
(3) سورة الحجرات الآية 9(7/356)
فإذا كانت الفئة الباغية من المؤمنين يجب أن تقاتل حتى تفيء إلى أمر الله فالفئة الباغية الكافرة أولى وأحق بأن تقاتل حتى تكف عن ظلمها وعدوانها.
وقال عز وجل: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (1) الآية. وهؤلاء المسلمون وأعوانهم في البوسنة والهرسك قد استنصروا بإخوانهم المسلمين، وبكل من يحب السلم والعدل.
فالواجب نصرهم والوقوف في صفهم ضد العدوان والظلم حتى تقف الحرب ويحصل الصلح بينهم وبين عدوهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم (2) » ، وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصر المظلوم (3) » .
والآيات والأحاديث في وجوب جهاد الأعداء ونصر المظلوم كثيرة جدا، فالواجب على جميع الحكومات والشعوب الإسلامية مناصرة المظلومين بالرجال والسلاح والمال والدعاء حسب الطاقة لقول الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (4) ولقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (5)
__________
(1) سورة الأنفال الآية 72
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/323) .
(3) صحيح البخاري الجنائز (1239) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2066) ، سنن الترمذي الأدب (2809) ، سنن النسائي الجنائز (1939) ، مسند أحمد بن حنبل (4/287) .
(4) سورة التغابن الآية 16
(5) سورة محمد الآية 7(7/357)
وقوله سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1)
وفق الله المسلمين جميعا لما يرضيه، ونصر بهم الحق وأعانهم على كل ما فيه رضاه، وصلاح أمر عباده، ونصر المظلوم، وردع الظالم إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي
بمكة المكرمة
__________
(1) سورة الحج الآية 40(7/358)
مفهوم الأحاديث المتعلقة بالفتن
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ: ع، ح، خ. وفقه الله لما فيه رضاه وزاده من العلم والإيمان آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ في 24 \ محرم \ 1411 هـ وصلكم الله بهداه، واطلعت على جميع ما ذكرتم. ويسرني أن أخبركم أن الأحاديث المتعلقة بالفتن والتحذير منها محمولة عند أهل العلم على الفتن التي لا يعرف فيها المحق من المبطل فهذه الفتن المشروع للمؤمن الحذر منها، وهي التي قصدها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «القاعد فيها خير من القائم والماشي خير من الساعي (1) » الحديث.
أما الفتن التي يعرف فيها المحق من المبطل والظالم من المظلوم فليست داخلة في الأحاديث المذكورة بل قد دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على وجوب نصر المحق والمظلوم على الباغي والظالم.
ومن هذا الباب ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. فإن المصيب عند أهل السنة هو علي وهو مجتهد وله أجران. ومعاوية ومن معه مخطئون وبغاة عليه لكنهم مجتهدون طالبون للحق فلهم أجر واحد رضي الله عن الجميع.
وأما الاستعانة ببعض الكفار في قتال الكفار عند الحاجة أو الضرورة فالصواب أنه لا حرج في ذلك إذا رأى ولي الأمر
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3602) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2886) ، مسند أحمد بن حنبل (2/282) .(7/359)
الاستعانة بأفراد منهم، أو دولة في قتال الدولة المعتدية لصد عدوانها عملا بالأدلة كلها. فعند عدم الحاجة والضرورة لا يستعان بهم، وعند الحاجة والضرورة يستعان بهم على وجه ينفع المسلمين ولا يضرهم، وفي هذا جمع بين الأدلة الشرعية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استعان بالمطعم بن عدي لما رجع من الطائف ودخل في مكة بجواره، واستعان بعبد الله بن أريقط الديلي ليدله على طريق المدينة وكلاهما مشرك، وسمح للمهاجرين من المسلمين بالهجرة إلى الحبشة مع كونها دولة نصرانية لما في ذلك من المصلحة للمسلمين وبعدهم عن أذى قومهم من أهل مكة من الكفار.
واستعان بدروع من صفوان بن أمية يوم حنين وهو كافر «وقال في حديث عائشة رضي الله عنها للذي أراد أن يخرج معه في بدر وهو مشرك: ارجع فلن نستعين بمشرك (1) » وأقر اليهود بخيبر بعد ذلك، واستعان بهم في القيام على مزارعها ونخيلها لحاجة المسلمين إليه واشتغال الصحابة بالجهاد، فلما استغنى عنهم أجلاهم عمر رضي الله عنه، والأدلة في هذا كثيرة.
والواجب على أهل العلم الجمع بين النصوص وعدم ضرب بعضها ببعض. ودولة البعث أخطر على المسلمين من دولة النصارى؛ لأن الملحد أكفر من الكتابي كما لا يخفى. وما فعله حاكم العراق البعثي في الكويت يدل على الحقد العظيم والكيد للإسلام وأهله.
ومما يجب التنبيه عليه أن بعض الناس قد يظن أن الاستعانة بأهل الشرك تعتبر موالاة لهم، وليس الأمر كذلك فالاستعانة شيء
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1817) ، سنن الترمذي السير (1558) ، سنن أبو داود الجهاد (2732) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2832) ، مسند أحمد بن حنبل (6/149) ، سنن الدارمي السير (2496) .(7/360)
والموالاة شيء آخر. فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم حين استعان بالمطعم بن عدي، أو بعبد الله بن أريقط، أو بيهود خيبر مواليا لأهل الشرك، ولا متخذا لهم بطانة، وإنما فعل ذلك للحاجة إليهم واستخدامهم في أمور تنفع المسلمين ولا تضرهم.
وهكذا بعثه المهاجرين من مكة إلى بلاد الحبشة ليس ذلك موالاة للنصارى، وإنما فعل ذلك لمصلحة المسلمين وتخفيف الشر عنهم. فيجب على المسلم أن يفرق ما فرق الله بينه، وأن ينزل الأدلة منازلها، والله سبحانه هو الموفق والهادي لا إله غيره ولا رب سواه، ونشفع لكم نسخة مما كتبناه في ذلك، ونسخة من قرارات المؤتمر بمكة المكرمة في الفترة من 21 - 23 \ 2 \ 1411 هـ، ونسخة من وثيقة مكة المكرمة الصادرة عن المؤتمر المذكور.
وأسأل الله عز وجل أن يمنحنا وإياكم الفقه في الدين والثبات عليه والدعوة إليه على بصيرة، وأن يعيذنا وإياكم وسائر إخواننا من مضلات الفتن إنه سميع قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد(7/361)
جهاد حاكم العراق واجب على الدول
الإسلامية لإنقاذ إخوانهم من الظلم (1)
الحمد لله الذي أمر بالجهاد في سبيله، ووعد عليه الأجر العظيم والنصر المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه الكريم: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله أفضل المجاهدين وأصدق المناضلين وأنصح العباد أجمعين صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الكرام الذين باعوا أنفسهم لله وجاهدوا في سبيله حتى أظهر الله بهم الدين، وأعز بهم المؤمنين، وأذل بهم الكافرين رضي الله عنهم وكرم مثواهم وجعلنا من أتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الجهاد في سبيل الله من أفضل القربات، ومن أعظم الطاعات، بل هو أفضل ما تقرب به المتقربون وتنافس فيه المتنافسون بعد الفرائض، وما ذاك إلا لما يترتب عليه من نصر المؤمنين وإعلاء كلمة الدين، وقمع الكافرين والمنافقين، وتسهيل انتشار الدعوة الإسلامية بين العالمين، وإخراج العباد من الظلمات إلى النور، ونشر محاسن الإسلام وأحكامه العادلة بين الخلق أجمعين، وغير ذلك من المصالح الكثيرة والعواقب الحميدة للمسلمين، وقد ورد في فضله
__________
(1) نشرت في جريدة الدعوة العدد 1277 في 16 \ 7 سنة 1411 هـ.
(2) سورة الروم الآية 47(7/362)
وفضل المجاهدين من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ما يحفز الهمم العالية، ويحرك كوامن النفوس إلى المشاركة في هذا السبيل، والصدق في جهاد أعداء رب العالمين، وهو فرض كفاية على المسلمين إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وقد يكون في بعض الأحيان من الفرائض العينية التي لا يجوز للمسلم التخلف عنها إلا بعذر شرعي كما لو استنفره الإمام، أو حصر بلده العدو، أو كان حاضرا بين الصفين.
والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة معلومة، ومما ورد في فضل الجهاد والمجاهدين من الكتاب المبين قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (2) {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (3) {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (4) {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (5)
__________
(1) سورة التوبة الآية 41
(2) سورة التوبة الآية 42
(3) سورة التوبة الآية 43
(4) سورة التوبة الآية 44
(5) سورة التوبة الآية 45(7/363)
المبادرة إلى الجهاد
ففي هذه الآيات الكريمات يأمر الله عباده المؤمنين أن ينفروا إلى الجهاد خفافا وثقالا أي شيبا وشبابا، وأن يجاهدوا(7/363)
بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ويخبرهم عز وجل بأن ذلك خير لهم في الدنيا والآخرة، ثم يبين سبحانه حال المنافقين وتثاقلهم عن الجهاد وسوء نيتهم وأن ذلك هلاك لهم بقوله عز وجل: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} (1) الآية.
ثم يعاتب نبيه صلى الله عليه وسلم عتابا لطيفا على إذنه لمن طلب التخلف عن الجهاد بقوله سبحانه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} (2) ويبين عز وجل أن في عدم الإذن لهم تبينا للصادقين وفضيحة للكاذبين، ثم يذكر عز وجل أن المؤمن بالله واليوم الآخر لا يستأذن في ترك الجهاد بغير عذر شرعي؛ لأن إيمانه الصادق بالله واليوم الآخر يمنعه من ذلك ويحفزه إلى المبادرة إلى الجهاد والنفير مع أهله، ثم يذكر سبحانه أن الذي يستأذن في ترك الجهاد هو عادم الإيمان بالله واليوم الآخر، المرتاب فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك أعظم حث وأبلغ تحريض على الجهاد في سبيل الله، والتنفير من التخلف عنه، وقال تعالى في فضل المجاهدين: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3)
__________
(1) سورة التوبة الآية 42
(2) سورة التوبة الآية 43
(3) سورة التوبة الآية 111(7/364)
ففي هذه الآية الكريمة الترغيب العظيم في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وبيان أن المؤمن قد باع نفسه وماله على الله عز وجل، وأنه سبحانه قد تقبل هذا البيع وجعل ثمنه لأهله الجنة، وأنهم يقاتلون في سبيله فيقتلون ويقتلون، ثم ذكر سبحانه أنه وعدهم بذلك في أشرف كتبه وأعظمها التوراة، والإنجيل، والقرآن، ثم بين سبحانه أنه لا أحد أوفى بعهده من الله ليطمئن المؤمنون إلى وعد ربهم ويبذلوا السلعة التي اشتراها منهم وهي نفوسهم وأموالهم في سبيله سبحانه عن إخلاص وصدق وطيب نفس، حتى يستوفوا أجرهم كاملا في الدنيا والآخرة، ثم يأمر سبحانه المؤمنين أن يستبشروا بهذا البيع لما فيه من الفوز العظيم، والعاقبة الحميدة، والنصر للحق والتأييد لأهله. وجهاد الكفار والمنافقين وإذلالهم، ونصر أوليائه عليهم، وإفساح الطريق لانتشار الدعوة الإسلامية في أرجاء المعمورة، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (4)
__________
(1) سورة الصف الآية 10
(2) سورة الصف الآية 11
(3) سورة الصف الآية 12
(4) سورة الصف الآية 13(7/365)
التجارة العظيمة
في هذه الآيات الكريمات الدلالة من ربنا عز وجل على(7/365)
أن الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله هما التجارة العظيمة المنجية من العذاب الأليم يوم القيامة. ففي ذلك أعظم ترغيب وأكمل تشويق إلى الإيمان والجهاد. ومن المعلوم أن الإيمان بالله ورسوله يتضمن توحيد الله وإخلاص العبادة له سبحانه. كما يتضمن أداء الفرائض وترك المحارم. ويدخل في ذلك الجهاد في سبيل الله لكونه من أعظم الشعائر الإسلامية ومن أهم الفرائض، ولكنه سبحانه خصه بالذكر لعظم شأنه، وللترغيب فيه لما يترتب عليه من المصالح العظيمة والعواقب الحميدة التي سبق بيان الكثير منها ثم ذكر سبحانه ما وعد الله به المؤمنين المجاهدين من المغفرة والمساكن الطيبة في دار الكرامة ليعظم شوقهم إلى الجهاد وتشتد رغبتهم فيه، وليسابقوا إليه ويسارعوا في مشاركة القائمين به.
ثم أخبر سبحانه أن من ثواب المجاهدين شيئا معجلا يحبونه وهو النصر على الأعداء والفتح القريب على المؤمنين. وفي ذلك غاية للتشويق والترغيب.
والآيات في فضل الجهاد والترغيب فيه وبيان فضل المجاهدين كثيرة جدا. وفيما ذكر سبحانه في هذه الآيات التي سلف ذكرها ما يكفي ويشفي ويحفز الهمم ويحرك النفوس إلى تلك المطالب العالية والمنازل الرفيعة والفوائد الجليلة والعواقب الحميدة. والله المستعان.
أما الأحاديث الواردة في فضل الجهاد والمجاهدين والتحذير من تركه والإعراض عنه فهي أكثر من أن تنحصر وأشهر من أن تذكر، ولكن نذكر منها طرفا يسيرا ليعلم المجاهد الصادق(7/366)
شيئا مما قاله نبيه ورسوله الكريم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم في فضل الجهاد ومنزلة أهله.
ففي الصحيحين عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها (1) » ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بمن يجاهد في سبيله - كمثل الصائم القائم وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة (2) » أخرجه مسلم في صحيحه، وفي لفظ له «تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة (3) » .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي اللون لون الدم والريح ريح المسك (4) » متفق عليه، وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (5) » رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل «أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل ثم ماذا؟ قال: حج مبرور (6) » ، وعن أبي عبس بن جبر
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2892) ، صحيح مسلم الإمارة (1881) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1648) ، سنن النسائي الجهاد (3118) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2756) ، مسند أحمد بن حنبل (5/339) ، سنن الدارمي الجهاد (2398) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2787) ، صحيح مسلم كتاب الإمارة (1876) ، سنن الدارمي الجهاد (2391) .
(3) صحيح مسلم كتاب الإمارة (1876) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2753) ، مسند أحمد بن حنبل (2/231) .
(4) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5533) ، صحيح مسلم كتاب الإمارة (1876) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1656) ، سنن النسائي الجهاد (3147) ، مسند أحمد بن حنبل (2/231) ، موطأ مالك الجهاد (1001) ، سنن الدارمي الجهاد (2406) .
(5) سنن النسائي الجهاد (3096) ، سنن أبو داود الجهاد (2504) ، مسند أحمد بن حنبل (3/251) ، سنن الدارمي الجهاد (2431) .
(6) صحيح البخاري الإيمان (26) ، صحيح مسلم الإيمان (83) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1658) ، سنن النسائي الجهاد (3130) ، مسند أحمد بن حنبل (2/287) ، سنن الدارمي الجهاد (2393) .(7/367)
الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار (1) » رواه البخاري في صحيحه، وفيه أيضا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه به مات على شعبة من نفاق (2) » وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه شيء حتى ترجعوا إلى دينكم (3) » رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن القطان، وقال الحافظ في البلوغ رجاله ثقات.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2811) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1632) ، سنن النسائي الجهاد (3116) ، مسند أحمد بن حنبل (3/479) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1910) ، سنن النسائي الجهاد (3097) ، سنن أبو داود الجهاد (2502) .
(3) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/84) .(7/368)
المنزلة العالية للمجاهدين
والأحاديث في فضل الجهاد والمجاهدين وبيان ما أعد الله للمجاهدين الصادقين من المنازل العالية، والثواب الجزيل، وفي الترهيب من ترك الجهاد والإعراض عنه كثيرة جدا، وفي الحديثين الأخيرين وما جاء في معناهما الدلالة على أن الإعراض عن الجهاد وعدم تحديث النفس به من شعب النفاق، وأن التشاغل عنه بالتجارة والزراعة والمعاملة الربوية من أسباب ذل المسلمين وتسليط الأعداء عليهم كما هو الواقع، وأن ذلك الذل لا ينزع عنهم حتى يرجعوا إلى دينهم بالاستقامة على أمره والجهاد في سبيله، فنسأل الله أن يمن على المسلمين جميعا بالرجوع إلى دينه، وأن يصلح قادتهم ويصلح لهم البطانة ويجمع كلمتهم على الحق ويوفقهم جميعا للفقه في الدين والجهاد في سبيل رب(7/368)
العالمين حتى يعزهم الله ويرفع عنهم الذل، ويكتب لهم النصر على أعدائه وأعدائهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ومن الجهاد في سبيل الله ما يقوم به المسلمون اليوم من قتال عدو الله حاكم العراق لظلمه وعدوانه باجتياحه دولة الكويت، وسفك دماء الأبرياء، ونهب أموالهم، وهتك الأعراض، وامتناعه من الفيئة بإخراج جيشه من البلد. ولا شك أن جهاده من أعظم الجهاد في سبيل الله، وأن ذلك واجب على الدول الإسلامية لإنقاذ إخوانهم من ظلمه ورد بلادهم إليهم وإخراجه من بلادهم بالقوة، لإصراره على الظلم والعدوان وعدم فيئته إلى الحق والخروج من الظلم لقول الله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1)
فأمر سبحانه في هذه الآية الكريمة بقتال الفئة الباغية من المؤمنين حتى تفيء إلى أمر الله، فإذا كانت الفئة الباغية من المؤمنين تقاتل حتى تفيء إلى الحق فقتال الفئة الباغية من غير المؤمنين كحاكم العراق وأشباهه أعظم وأوجب، وبذلك يعلم أن جهاده جهاد إسلامي عظيم والمقتول فيه من المسلمين يعد شهيدا وله أجر عظيم إذا أصلح الله نيته، ولا يضرهم في ذلك من ساعدهم من الدول غير الإسلامية لكونهم مضطرين إليهم؛ ولأنها مساعدة في
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9(7/369)
ردع الظالم الكافر ونصر المظلوم، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر (1) » ، وقد أيد الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب وهو على دين قومه بمكة المكرمة، وأيد الله نبيه صلى الله عليه وسلم أيضا بعد موت عمه أبي طالب لما رجع إلى مكة المكرمة من دعوته أهل الطائف بالمطعم بن عدي وهو كافر على دين قومه. وقد قال الله عز وجل في كتابه العظيم: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (2)
والأدلة في ذلك كثيرة بينها أهل العلم في كتاب الجهاد وكتبنا فيها رسالة مستقلة أوضحنا فيها كلام أهل العلم في ذلك، وقد صدر من المؤتمر الإسلامى المنعقد في مكة المكرمة في 21 \ 2 \ 1411 هـ التأييد لما ذكرنا، كما أصدر المؤتمر المذكور في وثيقة مكة ما يؤيد ذلك أيضا، وفي ذلك إيضاح للحق وإزالة للشبهة التي التبست على بعض الناس، والله سبحانه ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3062) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (111) ، مسند أحمد بن حنبل (2/310) ، سنن الدارمي السير (2517) .
(2) سورة الأنعام الآية 119(7/370)
إعداد القوة
وقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يعدوا للكفار العدة بما استطاعوا من القوة، وأن يأخذوا حذرهم كما في قوله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (2) وذلك يدل على وجوب العناية
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60
(2) سورة النساء الآية 71(7/370)
بالأسباب والحذر من مكائد الأعداء.
ويدخل في ذلك جميع أنواع الإعداد المتعلقة بالأسلحة، والأبدان كما يدخل في ذلك إعداد جميع الوسائل المعنوية والحسية، وتدريب المجاهدين على أنواع الأسلحة وكيفية استعمالها وتوجيههم إلى كل ما يعينهم على جهاد عدوهم والسلامة من مكائده في الكر والفر والأرض والجو والبحر وفي سائر الأحوال؛ لأن الله سبحانه أطلق الأمر بالإعداد وأخذ الحذر ولم يذكر نوعا دون نوع ولا حالا دون حال، وما ذلك إلا لأن الأوقات تختلف والأسلحة تتنوع، والعدو يقل ويكثر ويضعف ويقوى، والجهاد قد يكون ابتداء، وقد يكون دفاعا.
فلهذه الأمور وغيرها أطلق الله سبحانه الأمر بالإعداد، وأخذ الحذر ليجتهد قادة المسلمين وأعيانهم ومفكروهم في إعداد ما يستطيعون من القوة لقتال أعدائهم وما يرونه من المكيدة في ذلك.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحرب خدعة (1) » ومعناه: أن الخصم قد يدرك من خصمه بالمكر والخديعة في الحرب ما لا يدركه بالقوة والعدد وذلك مجرب معروف، وذلك من دون إخلال بالعهود والمواثيق.
وقد وقع في يوم الأحزاب من الخديعة للمشركين واليهود والكيد لهم على يد نعيم بن مسعود - رضي الله عنه - بإذن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان من أسباب خذلان الكافرين وتفريق شملهم واختلاف كلمتهم وإعزاز المسلمين ونصرهم عليهم. وذلك من فضل الله ونصره لأوليائه ومكره لهم كما قال عز وجل: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (2)
ومما تقدم يتضح
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3028) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1740) ، مسند أحمد بن حنبل (2/312) .
(2) سورة الأنفال الآية 30(7/371)
لذوي البصائر أن الواجب امتثال أمر الله والإعداد لأعدائه وبذل الجهود في الحيطة والحذر، واستعمال كل ما أمكن من الأسباب المباحة الحسية والمعنوية، مع الإخلاص لله والاعتماد عليه والاستقامة على دينه، وسؤاله المدد والنصر. فهو سبحانه وتعالى الناصر لأوليائه والمعين لهم إذا أدوا حقه، ونفذوا أمره وصدقوا في جهادهم وقصدوا بذلك إعلاء كلمته وإظهار دينه.
وقد وعدهم الله بذلك في كتابه الكريم وأعلمهم أن النصر من عنده ليثقوا به ويعتمدوا عليه مع القيام بجميع الأسباب. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) وقال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) وقال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4) وقال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (5) الآية، وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (6)
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة الروم الآية 47
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة النور الآية 55
(6) سورة آل عمران الآية 120(7/372)
وقال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (1) {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2)
وقد سبق في هذا المعنى آية سورة الصف وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (5) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (6)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، ولما قام سلفنا الصالح بما أمرهم الله به ورسوله وصبروا وصدقوا في جهاد عدوهم نصرهم الله وأيدهم وجعل لهم العاقبة مع قلة عددهم وعدتهم وكثرة أعدائهم كما قال عز وجل: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (7) وقال عز وجل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (8)
ولما غير المسلمون وتفرقوا ولم يستقيموا على تعاليم ربهم
__________
(1) سورة الأنفال الآية 9
(2) سورة الأنفال الآية 10
(3) سورة الصف الآية 10
(4) سورة الصف الآية 11
(5) سورة الصف الآية 12
(6) سورة الصف الآية 13
(7) سورة البقرة الآية 249
(8) سورة آل عمران الآية 160(7/373)
- إلا من رحم الله - وآثر أكثرهم أهواءهم أصابهم من الذل والهوان وتسلط الأعداء ما لا يخفى على أحد، وما ذاك إلا بسبب الذنوب والمعاصي، والتفرق والاختلاف، وظهور الشرك والبدع والمنكرات في غالب البلاد.
وعدم تحكيم أكثرهم الشريعة كما قال الله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) وقال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2)
ولما حصل من الرماة ما حصل يوم أحد من النزاع والاختلاف والإخلال بالثغر الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلزومه جرى بسبب ذلك على المسلمين من القتل والجراح والهزيمة ما هو معلوم، ولما استنكر المسلمون ذلك أنزل الله قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3)
ولو أن أحدا يسلم من شر المعاصي وعواقبها الوخيمة لسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام يوم أحد وهم خير أهل الأرض ويقاتلون في سبيل الله، ومع ذلك جرى عليهم ما جرى بسبب معصية الرماة التي كانت عن تأويل لا عن قصد للمخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والتهاون بأمره ولكنهم لما رأوا هزيمة المشركين ظنوا أن الأمر قد انتهى، وأن الحراسة لم
__________
(1) سورة الأنفال الآية 53
(2) سورة الروم الآية 41
(3) سورة آل عمران الآية 165(7/374)
يبق لها حاجة.
وكان الواجب أن يلزموا الموقف حتى يأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بتركه. ولكن الله سبحانه قد قدر ما قدر وقضى ما قضى لحكمة بالغة وأسرار عظيمة، ومصالح كثيرة قد بينها في كتابه سبحانه وعرفها المؤمنون.
وكان ذلك من الدلائل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله حقا، وأنه بشر يصيبه ما يصيب البشر من الجراح والآلام ونحو ذلك، وليس بإله يعبد وليس مالكا للنصر، بل النصر بيد الله سبحانه ينزله على من يشاء. ولا سبيل إلى استعادة المسلمين مجدهم السالف واستحقاقهم النصر على عدوهم إلا بالرجوع إلى دينهم والاستقامة عليه وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، وتحكيمهم شرع الله سبحانه في أمورهم كلها، واتحاد كلمتهم على الحق، وتعاونهم على البر والتقوى كما قال الإمام مالك بن أنس رحمة الله عليه: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها) .
وهذا قول جميع أهل العلم، والله سبحانه إنما أصلح أول هذه الأمة باتباع شرعه والاعتصام بحبله والصدق في ذلك والتعاون عليه، ولا صلاح لآخرها إلا بهذا الأمر العظيم.
ونسأل الله أن يوفق المسلمين للفقه في دينه والجهاد في سبيله، وأن يجمعهم على الهدى، وأن يوحد صفوفهم وكلمتهم على الحق، وأن يمن عليهم بالاعتصام بكتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وتحكيم شريعته والتحاكم إليها، والاجتماع على ذلك والتعاون عليه، وأن يصلح قادتهم. إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(7/375)
من أفضل الجهاد في وقتنا هذا جهاد حاكم العراق
[قال سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إن من أفضل الجهاد ومن أعظمه في وقتنا هذا جهاد حاكم العراق - لبغيه وعدوانه، واجتياحه دولة الكويت، وسفكه الدماء، ونهبه الأموال، وهتكه الأعراض، وتهديده الدول المجاورة له من دول الخليج العربي.
وأكد سماحته أن ذلك عدوان عظيم، وجريمة شنيعة، وبغي سافر يستحق عليه الجهاد من المسلمين.
ونصح سماحة الشيخ ابن باز - في كلمة وجهها عبر مجلة الدعوة - المسلمين بعامة، ودول الخليج العربي بخاصة أن يجاهدوا ذلك الظالم، وأن يجتمعوا على جهاده.
كما نصح الذين يساعدون حاكم العراق ويقفون معه أن يتقوا الله، وأن يتوبوا إليه، وأن يكونوا مع الحق أينما دار؛ لأنه أحق بالاتباع وأحق بالنصر.
وفيما يلي نص كلمة سماحته:] .
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. . أما بعد:
فقد دلت الأدلة الشرعية على فضل الجهاد، وأنه من أفضل القربات، وأنه ذروة سنام الإسلام، كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد(7/376)
في سبيل الله (1) » . وقد أمر الله بالجهاد في كتابه العظيم في مواضع كثيرة وأثنى على أهله كثيرا ووعدهم خيرا كثيرا فقال سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2)
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (5) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (6) وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (7)
والآيات في هذا المعنى كثيرة. . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (8) » ، وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما عليها (9) » .
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2616) ، سنن ابن ماجه الفتن (3973) .
(2) سورة التوبة الآية 41
(3) سورة الصف الآية 10
(4) سورة الصف الآية 11
(5) سورة الصف الآية 12
(6) سورة الصف الآية 13
(7) سورة التوبة الآية 111
(8) سنن النسائي الجهاد (3096) ، سنن أبو داود الجهاد (2504) ، مسند أحمد بن حنبل (3/251) ، سنن الدارمي الجهاد (2431) .
(9) صحيح البخاري الرقاق (6568) ، صحيح مسلم الإمارة (1880) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1651) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2824) ، مسند أحمد بن حنبل (3/264) .(7/377)
فالجهاد له شأن عظيم وفضل كبير.
والمجاهد في سبيل الله له وعد من الله بالمغفرة والجنة، ووعد بالنصر والفتح القريب، وهذا يسر كل مؤمن. ويقول جل وعلا في نصر دينه بالجهاد وغيره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) ويقول عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (2) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (3)
وقال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله قال عليه الصلاة والسلام: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (4) » . وقال عليه الصلاة والسلام: «من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد (5) » .
وجاءه رجل فقال: «يا رسول الله الرجل يأتيني يريد مالي قال: لا تعطه مالك، قال: فإن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: فإن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: فإن قتلته؟ قال: فهو في النار (6) » أخرجه مسلم في صحيحه.
والآيات والأحاديث في فضل الجهاد وعظيم أجر أهله كثيرة جدا، وفي وقتنا هذا من أفضل الجهاد ومن أعظم الجهاد جهاد
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة الحج الآية 40
(3) سورة الحج الآية 41
(4) صحيح البخاري العلم (123) ، صحيح مسلم الإمارة (1904) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1646) ، سنن النسائي الجهاد (3136) ، سنن أبو داود الجهاد (2517) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2783) ، مسند أحمد بن حنبل (4/417) .
(5) سنن الترمذي الديات (1421) .
(6) سنن النسائي تحريم الدم (4081) ، مسند أحمد بن حنبل (5/294) .(7/378)
حاكم العراق لبغيه وعدوانه واجتياحه دولة الكويت وسفكه الدماء ونهبه الأموال وهتكه الأعراض وتهديده الدول المجاورة له من دول الخليج.
ولا شك أن هذا العمل عدوان عظيم وجريمة شنيعة وبغي سافر يستحق عليه الجهاد من المسلمين. ومن جاهده بنية صالحة فله أجر عظيم فإن قتل فهو شهيد؛ لأنه قتل في نصره للمظلومين، وحماية للمسلمين من شر حاكم العراق وعدوانه، ومن قتل مع حاكم العراق فهو متوعد بالنار؛ لأنه قد ساعد الظلمة وقاتل في سبيل الظلم والعدوان.
فنصيحتي للمسلمين جميعا ولدول الخليج بصفة خاصة أن يجاهدوا هذا الظالم، وأن يجتمعوا على ذلك فهو جهاد عظيم، وأهله موعودون بالنصر وبالأجر العظيم والعاقبة الحميدة.
ونصيحتي للذين يساعدون حاكم العراق ويقفون معه أن يتقوا الله، وأن يتوبوا إليه وأن يكونوا مع الحق أينما دار؛ لأنه أحق بالاتباع وأحق بالنصر.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قالوا: يا رسول الله نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه (1) » .
وهذا قد ظلم العباد وتعدى على أهل الكويت، وهدد غيرهم من جيرانه مع كونه ملحدا، فقد اجتمع في حقه إلحاده وكفره مع بغيه وظلمه، فلو كان مسلما سليما لوجب جهاده حتى يفيء
__________
(1) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .(7/379)
ويرد الحق إلى أهله لقول الله سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1)
وهذا لم يفئ بل بغى ولم تزل المظالم لديه، فالواجب قتاله حتى يرد الحق إلى أهله، هذا لو كان مسلما فكيف وحاله معلومة من الإلحاد.
فالواجب قتاله حتى يرد المظالم إلى أهلها وحتى يخرج بجيشه من الكويت بدون قيد ولا شرط، ولا توبة لظالم حتى يرد المظالم إلى أهلها.
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن ينصرهم على عدوهم، وأن يعينهم على جهاد هذا الظالم الباغي، وأن ينصرهم عليه، وأن يهزم جمعه ويشتت شمله، وأن يجعل دائرة السوء عليه إنه جل وعلا جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
[وقد أجاب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز على عدد من الأسئلة حيث أوضح أن المشروع للمسلمين نحو إخوانهم المجاهدين الدعاء لهم بالتوفيق والنصر والإعانة، وأن يدعوا لإخوانهم المجاهدين بالنصر والتأييد والإعانة على حرب أعدائهم، وأن يدعوا
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9(7/380)
على عدوهم ويقنتوا قنوت النوازل: أن يهزم الله جمعه ويشتت شمله وأن يعين المسلمين عليه، وأن يرد حق المظلومين إليهم، وأن يخذل الظالم ويرد كيده وشره عليه.
وأضاف سماحته في إجابة على سؤال حول قنوت النوازل بأنه سنة مؤكدة في جميع الصلوات، وهو الدعاء على الظالم بأن يخزيه الله ويذله ويهزم جمعه ويشتت شمله وينصر المسلمين عليه.
وأجاب على سؤال حول التبرع بالدم بأن المشروع للمسلمين إذا أصيب إخوانهم بشيء من الجراحات واحتاجوا إلى دم من إخوانهم الأحياء أن يتبرعوا لهم بذلك بشرط أن يكون التبرع بالدم لا يضر المتبرع إذا قرر الطبيب المختص ذلك.
وقال سماحته في رد على سؤال عن الواجب على المسلم في هذه الأوقات:
أن الواجب عليه حسن الظن بالله والإيمان بأنه سبحانه هو الذي ينصر عباده، وأن النصر بيده وأن المنع والعطاء بيده والضرر والنفع، فهو سبحانه القائل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) وهو القائل جل وعلا: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) وهو القائل جل وعلا فيما رواه عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني (3) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن ظنه بالله (4) » .
__________
(1) سورة الروم الآية 47
(2) سورة الأنفال الآية 10
(3) صحيح البخاري التوحيد (7405) ، سنن الترمذي الدعوات (3603) ، سنن ابن ماجه الأدب (3822) ، مسند أحمد بن حنبل (2/251) .
(4) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2877) ، سنن أبو داود الجنائز (3113) ، سنن ابن ماجه الزهد (4167) ، مسند أحمد بن حنبل (3/391) .(7/381)
ويقول جل وعلا: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (2) أي كافيه.
وأوضح سماحة الشيخ ابن باز أن الواجب على المسلمين حسن الظن بالله والتوكل عليه والاعتماد عليه والثفة به والإيمان بأنه هو الذي ينصر أولياءه، وأن النصر بيده سبحانه وتعالى، وهو القائل جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3) هذا مع تعاطي الأسباب.
وقال: فالمؤمن مأمور بتعاطي الأسباب التي تعينه على قتال عدوه من السلاح وأخذ الحيطة والاستعانة بالجنود والقوة. كل هذا مأمور به مع التوكل على الله وحسن الظن به كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (4) وقال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (5)
وأشار سماحته إلى أن الواجب على أهل الإسلام أن يعدوا العدة لأعدائهم، وأن يأخذوا حذرهم، وأن يستعينوا بأنواع الأسباب المباحة والمشروعة مع الثقة بالله والاعتماد عليه. وبين سماحته أن التوكل يجمع أمرين:
أحدهما: الثقة بالله والاعتماد عليه والإيمان بأنه مصرف الأمور، وأنه الضار النافع، وأنه بيده النصر سبحانه وتعالى.
__________
(1) سورة المائدة الآية 23
(2) سورة الطلاق الآية 3
(3) سورة محمد الآية 7
(4) سورة النساء الآية 71
(5) سورة الأنفال الآية 60(7/382)
ثانيهما: العناية بالأسباب الشرعية والمباحة. وقال: كل هذا داخل في التوكل.
وفي إجابة لسماحته حول ما ينبغي للمسلم إزاء الإشاعات والأخبار المتداولة قال سماحته: ينبغي للمسلم ألا يتحدث إلا بالشيء الثابت عنده لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع (1) » ، فإذا شك فليقل: يروى أو يذكر ولا يجزم بذلك، ولكن إذا كان لديه شيء ثابت قد شاهده أو علمه بطريق ثابتة، أو سمعه من جهة يوثق بها فلا بأس أن يحدث بذلك إذا رأى المصلحة في الحديث به.
وأضاف سماحته قائلا: مع الحرص على تطمين المسلمين وحثهم على حسن الظن بالله، وإشاعة الأخبار السارة بينهم، وترك الأخبار التي تحزنهم إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا (2) » ] .
__________
(1) صحيح مسلم مقدمة (5) ، سنن أبو داود الأدب (4992) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (3038) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1732) ، سنن أبو داود الأدب (4835) ، مسند أحمد بن حنبل (4/412) .(7/383)
كلمة
لعموم المسلمين إثر بدء عمليات تحرير الكويت (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد. .
إن ما حصل من الجهاد لعدو الله صدام حاكم العراق جهاد شرعي من المسلمين ومن ساعدهم في ذلك لكونه قد ظلم وتعدى واجتاح بلادا آمنة بغير حق، ولهذا وجب جهاده على الدول الإسلامية لإخراجه من الكويت دون قيد أو شرط نصرة للمظلومين، وإقامة للحق وردعا للظالم؛ لأن الله سبحانه أمر بذلك وهكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. والواجب على المسلمين بهذه المناسبة تقوى الله سبحانه وتعالى، والاستقامة على دينه، والحذر عما نهى الله عنه، وحسن الظن بالله والتوكل عليه، والإيمان بأنه سبحانه هو الذي بيده النصر والضر والنفع، ولكنه قد شرع الأسباب وأمر بها للاستعانة بها على طاعة الله وأداء حقه وترك معصيته وردع الطاغية عن ظلمه، وحماية بلاد المسلمين وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم.
وينبغي لكل مؤمن ومؤمنة أن يضرع إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء لطلب النصر، وتأييد الحق وأهله، وردع الظالم المعتدي وإبطال كيده وطلب إدارة السوء عليه، والله ولي التوفيق.
__________
(1) صدرت في صحيفة: (المسلمون) بتاريخ 3 \ 7 \ 1411 هـ، وكذلك في جريدة الرياض بتاريخ 5 \7 \ 1411 هـ.(7/384)
لقاء أجراه مندوب مجلة المجتمع (1)
السؤال الأول:
المجتمع: لقد بغى النظام البعثي الكافر في العراق على الكويت، وروع أهلها، واغتصب أرضها وضمها إلى حكمه. ولقد أجاز البعض هذا الفعل بدعوى أنه تمهيد للوحدة بين المسلمين، فهل تجيز الشريعة الإسلامية هذا المسلك الذي سلكه النظام العراقي لتحقيق الوحدة الإسلامية؟
الجواب:
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه. . أما بعد:
فلا ريب أن ما عمله حاكم العراق مع الكويت منكر عظيم، وعدوان شنيع لا تجيزه الشريعة الإسلامية، بل تنكره وتحذر منه لما اشتمل عليه من الظلم والعدوان وسفك الدماء ونهب الأموال بغير حق، هذا لو كان مسلما، فكيف وهو كافر بعثي ملحد وإن ادعى الإسلام في بعض الأحيان، أو مدح بعض شعائر الإسلام في بعض الأوقات فالكافر عند الحاجة ينافق ثم يعود إلى أصله ومعدنه.
__________
(1) لقاء مع سماحة الشيخ أجراه الأستاذ عبد الله المجلي لمجلة المجتمع قي 18 \ 5 \ 1412 هـ العدد 977.(7/385)
كما قال الله سبحانه وتعالى في أمثاله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (1) {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} (2) ومن زعم أن هذا التصرف الذي فعله حاكم العراق تجيزه الشريعة الإسلامية تمهيدا لوحدة المسلمين فهو غالط غلطا كبيرا، وليس ذلك مما تجيزه الشريعة، وليس ذلك أيضا مما يعتبر تمهيدا لوحدة المسلمين، فإن الوحدة إنما يسعى لها ويقوم بالدعوة إليها أهلها المستقيمون عليها المحافظون على حدودها، الداعون إليها قولا وعملا وعقيدة، لا من حاربها بقوله وعمله وعقيدته.
السؤال الثاني:
المجتمع: لقد وقف البعض ضد قوات التحالف التي حررت الكويت بدعوى أنها تضم غير المسلمين، ووقفوا مع النظام الكافر في العراق بدعوى أنه نظام يسوس المسلمين، فهل تجيز الشريعة الإسلامية الوقوف مع النظام الكافر الذي يسوس المسلمين حتى لو كان ظالما لمجرد تعاطف الغربيين من النصارى مع المظلومين من المسلمين؟
الجواب:
لا تجوز مناصرة الظالمين ولو كانوا مسلمين فكيف بغير المسلمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا: يا رسول الله نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تحجزه عن الظلم (3) » .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنصر المظلوم ولو كان المظلوم كافرا
__________
(1) سورة النساء الآية 142
(2) سورة النساء الآية 143
(3) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .(7/386)
فكيف إذا كان المظلوم مسلما فإن الأمر يكون أشد إثما وأعظم جريمة في حق الظالم، والله يقول سبحانه في كتابه العظيم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وليس من البر ولا من التقوى نصر الظالم وإعانته على ظلمه.
أما الاستعانة ببعض الدول الكافرة لنصر المظلومين من المسلمين ضد الظالم، والوقوف في صفهم ضده فهذا شيء لا حرج فيه، وقد استعان النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أريقط الديلي وهو وثني في الدلالة على طريق المدينة حين هاجر إليها عليه الصلاة والسلام، واستعان بدروع من صفوان بن أمية في حرب هوازن يوم حنين وهو كافر، واستعان باليهود في تعمير مزارع خيبر بالنصف من ثمارها لما كان المسلمون مشغولين عنها بالجهاد.
والأدلة في ذلك كثيرة وهي دالة على جواز الاستعانة بمن يراه ولي الأمر من أهل الشرك على أهل الشرك عند الحاجة إلى ذلك، وعند غلبة الظن في أن المستعان به ينفع المظلومين وينصرهم ولا يضرهم، لما ذكرنا من الأدلة، ولغيرها من الأدلة التي ذكرها أهل العلم في هذه المسألة.
السؤال الثالث:
تراكض البعض في مبايعة طاغية العراق لمجرد أنه رفع بعض الشعارات الإسلامية، بالرغم من ماضيه القبيح في حربه للإسلام وفتكه بالمسلمين، وبالرغم من استمرار حاضره على منواله المعروف،
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(7/387)
فهل تقبل الشريعة الإسلامية مبايعة طاغية سفاح يعلن الكفر منهجا له لمجرد مدحه لبعض شعارات الإسلام؟ وما رأي الشريعة فيمن بايع أو أيد أو ناصر هذا الطاغوت؟
الجواب:
لا ريب أن مبايعة مثل هذا الطاغوت ومناصرته من أعظم الجرائم، ومن أعظم الجناية على المسلمين وإدخال الضرر عليهم؛ لأن من شرط البيعة أن يكون المبايع مسلما ينفع المسلمين ولا يضرهم.
أما حاكم العراق فهو بعثي ملحد قد أضر المسلمين بأنواع من الضرر في بلاده، ثم اعتدى على جيرانه، فجمع بين أنواع الظلم علاوة على ما هو عليه من العقيدة الباطلة البعثية، ولو أظهر بعض الشعارات الإسلامية، فالمنافقون يصلون مع الناس ويتظاهرون بالإسلام وذلك لا ينفعهم لفساد عقيدتهم، وقد أخبر الله عنهم سبحانه في كتابه العظيم بصفاتهم الذميمة وأخلاقهم المنكرة.
وأخبر أن مصيرهم هو الدرك الأسفل من النار يوم القيامة كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (1) {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (2) الآية، وقال عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (3) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} (4) نسأل الله
__________
(1) سورة النساء الآية 142
(2) سورة النساء الآية 143
(3) سورة النساء الآية 145
(4) سورة النساء الآية 146(7/388)
لحاكم العراق وأنصاره من الظالمين أن يردهم إلى الهداية، وأن ينقذهم مما هم فيه من الضلال، وأن يكفي المسلمين شرهم وشر غيرهم إنه خير مسئول.
السؤال الرابع:
يميل البعض إلى تفسير الكارثة التي حلت بالكويت على أنها عقاب من الله تعالى للكويتيين للفساد الذي انتشر في بلادهم، ويرى بعض آخر أن الكويت كانت من البلدان التي تحارب الفساد وتنشط في الدعوة للخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي أقل فسادا من كثير من البلاد الإسلامية، وأن شعبها من أنشط الشعوب الإسلامية في الأعمال الخيرية والدعوة للإسلام، وأن ما حل بهم بلاء من الله لإيمانهم، فكيف يرى فضيلتكم تفسير هذه الكارثة من منظور إسلامي؟
الجواب:
لا ريب أن المعاصي لها آثار سيئة على المجتمع الذي تظهر فيه ولا تنكر لقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) ولقوله عز وجل: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (2)
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (3) » ، فالمعاصي شرها عظيم وعواقبها وخيمة، وكل ما أصاب المسلمين من العقوبات والنقمات وتسليط الأعداء
__________
(1) سورة الشورى الآية 30
(2) سورة النساء الآية 79
(3) سنن الترمذي الفتن (2168) ، سنن ابن ماجه الفتن (4005) .(7/389)
كله بأسباب الذنوب والمعاصي، كما قال الله جل وعلا فيما أصاب الناس يوم أحد وفيهم رسول الله عليه السلام وهو أفضل الخلق وفيهم الصحابة، وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء قال فيهم جل وعلا: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} (1) والجواب محذوف تقديره: سلط عليكم العدو، ثم قال بعدها: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (2) وقال في الآية الأخرى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} (3) يعني يوم أحد: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} (4) يعني يوم بدر {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} (5) قال الله سبحانه: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (6) فبين سبحانه أن ما أصابهم بأسباب ما حصل من الرماة الذين أخلوا بالموقف وعصوا الرسول عليه الصلاة والسلام فسلط عليهم العدو حتى قتلوا من قتلوا وجرحوا من جرحوا وحصلت الهزيمة حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أصيب وجرح، وكسرت البيضة على رأسه، وكسرت رباعيته عليه الصلاة والسلام.
فالمعاصي شرها كبير وعواقبها سيئة، والواجب على جميع المسلمين الحذر منها والبدار بالتوبة إلى الله منها.
السؤال الخامس:
ما هي الكلمة التي توجهونها لحكام الكويت وشعبها بعد أن من الله تعالى عليهم بالنصر على عدوهم وتحرير بلدهم؟
__________
(1) سورة آل عمران الآية 152
(2) سورة آل عمران الآية 152
(3) سورة آل عمران الآية 165
(4) سورة آل عمران الآية 165
(5) سورة آل عمران الآية 165
(6) سورة آل عمران الآية 165(7/390)
الجواب:
أوصي أهل الكويت وغيرهم بالبدار إلى التوبة والإصلاح والحرص على إقامة شريعة الله في أرضهم وبلادهم، وعلى إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بلادهم. هذا هو الواجب عليهم سواء أصابتهم عقوبة أم لم تصبهم عقوبة.
ولا شك أن هذه المصيبة التي أصابتهم بسبب حاكم العراق لا شك أنها موعظة وذكرى، ونسأل الله أن يجعلها كفارة للذنوب وحطا من خطايا المسلمين في الكويت وغيرها.
ولكن يجب على أهل الكويت حكومة وشعبا أن يتقوا الله، وأن يصلحوا ذات بينهم، وأن يحكموا شريعة الله في جميع شئونهم، وأن يبادروا بالتوبة النصوح من جميع الذنوب، وأن يحاسبوا أنفسهم ويجاهدوها لله حتى لا تصيبهم مصائب أخرى، وحتى يسلموا من عقاب الله في الدنيا والآخرة.
وهذا هو واجب المسلمين جميعا عليهم أن يتقوا الله أينما كانوا، وأن يحاسبوا أنفسهم، وأن يتوبوا إلى الله من سالف ذنوبهم، وأن يحكموا شرعه المطهر فيما بينهم، وأن يستقيموا على الحق حتى يلقوا ربهم سبحانه وتعالى، هذا هو طريق النجاة وهذا هو سبيل السلامة في الدنيا والآخرة كما قال الله عز وجل في كتابه العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (1)
__________
(1) سورة الحشر الآية 18(7/391)
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (2) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (4)
وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (5) وقال سبحانه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (6) وقال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (7) فالواجب على أهل الإسلام أينما كانوا أن يتقوا الله، وأن يحاسبوا أنفسهم أبدا، وأن يحذروا المعاصي، وأن يتوبوا إلى الله مما سلف منها، وأن يستقيموا على طاعة الله ورسوله حتى يلقوا ربهم، وأن يتواصوا بذلك، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر كما قال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (8)
هذا وعده سبحانه لمن استقام على دينه أنه يرحمه في الدنيا بالتوفيق والنصر، وفي الآخرة بدخول الجنة والنجاة من النار.
رزق الله الجميع التوفيق والهداية. وقد يمهل الله سبحانه بعض الكفرة والعصاة ولا يعاجلهم بالعقوبة لحكمة بالغة وأسرار عظيمة، ومنها أن ذلك يكون أشد
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة آل عمران الآية 103
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 3
(5) سورة الطلاق الآية 4
(6) سورة الأنفال الآية 25
(7) سورة النور الآية 31
(8) سورة التوبة الآية 71(7/392)
لعقوبتهم في الآخرة كما قال الله سبحانه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد به الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة (2) » .
نسأل الله لنا ولجميع المسلمين العافية من غضبه وأسباب عقابه، والتوفيق لحسن العاقبة إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 42
(2) سنن الترمذي الزهد (2396) .(7/393)
إنكار النظام الاشتراكي في العراق
برقية
فخامة رئيس الجمهورية أخذ الله بيده إلى الحق: إن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تستنكر ما أصدرته الحكومة العراقية من القرارات الاشتراكية، وتضم صوتها إلى صوت علماء العراق وغيرهم من العلماء في إنكار النظام الاشتراكي، وتؤكد بأنه نظام كفري يصادم نظام الإسلام ويناقضه، وتنصح حكومة العراق بالرجوع إلى نظام الإسلام وتطبيقه في البلاد، لكونه أعدل نظام وأصلح تشريع عرفته البشرية، وهو كفيل بتحقيق العدالة الاجتماعية السليمة وحل للمشاكل الاقتصادية وغيرها، وإيصال حق الفقير إليه على خير وجه إذا أخلص المسلمون في تطبيقه.
والإسلام يحرم على المسلم دم أخيه وماله وعرضه ويعطيه حرية التصرف الكامل في ماله في ظل الحكم الشرعي، وتصرح تعاليمه بأن ما يزعمه بعض الناس من أن النظام الاشتراكي مستمد من روح الإسلام زعم باطل لا يستند لأي أساس من الصحة.
هذا وأسأل الله أن يهدي الجميع صراطه المستقيم.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(7/394)
استعمال الدش منكر كبير
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يطلع عليه من المسلمين. وفقني الله وإياهم لما فيه رضاه وأعاذني وإياهم من أسباب غضبه وعقابه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
فقد شاع في هذه الأيام بين الناس ما يسمى: (بالدش) أو بأسماء أخرى، وأنه ينقل جميع ما يبث في العالم من أنواع الفتن والفساد والعقائد الباطلة والدعوة إلى أنواع الكفر والإلحاد، مع ما يبثه من الصور النسائية ومجالس الخمر والفساد وسائر أنواع الشر الموجودة في الخارج بواسطة التلفاز. وثبت لدي أنه قد استعمله الكثير من الناس، وأن آلاته تباع وتصنع في البلاد فلهذا وجب علي التنبيه على خطورته ووجوب محاربته والحذر منه وتحريم استعماله في البيوت وغيرها، وتحريم بيعه وشرائه وصنعته أيضا لما في ذلك من الضرر العظيم والفساد الكبير والتعاون على الإثم والعدوان، ونشر الكفر والفساد بين المسلمين والدعوة إلى ذلك بالقول والعمل.
فالواجب على كل مسلم ومسلمة الحذر من ذلك والتواصي بتركه والتناصح في ذلك عملا بقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(7/395)
ويقول سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) وقوله عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (5) » ، وقوله: «الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (6) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (7) » ، وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (8) » .
والآيات والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب التناصح والتواصي بالحق والتعاون على الخير كثيرة جدا، فالواجب على جميع المسلمين حكومات وشعوبا العمل بها والتناصح فيما بينهم والتواصي بالحق والصبر عليه، والحذر من جميع أنواع الفساد والتحذير من ذلك رغبة فيما عند الله وامتثالا لأوامره وحذرا من سخطه وعقابه.
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين لما يرضيه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يوفق ولاة أمرنا لمنع هذا البلاء والقضاء عليه وحماية المسلمين من شره، وأن يعينهم على كل ما فيه
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .
(6) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(7) صحيح البخاري الإيمان (13) ، صحيح مسلم الإيمان (45) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2515) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5016) ، سنن ابن ماجه المقدمة (66) ، مسند أحمد بن حنبل (3/272) ، سنن الدارمي الرقاق (2740) .
(8) صحيح البخاري الزكاة (1401) ، صحيح مسلم الإيمان (56) ، سنن الترمذي البر والصلة (1925) ، سنن النسائي البيعة (4175) ، مسند أحمد بن حنبل (4/364) ، سنن الدارمي البيوع (2540) .(7/396)
صلاح العباد والبلاد ويصلح لهم البطانة وينصر بهم الحق، وأن يوفق جميع ولاة أمور المسلمين في كل مكان لما فيه رضاه، وأن ينصر بهم الحق ويوفقهم لتحكيم شريعته والالتزام بها والحذر مما يخالفها، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا ويمنحهم الفقه في الدين والثبات عليه والحذر مما يخالفه، إنه ولي ذلك والقادر عليه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد(7/397)
الكاملون من الرجال والنساء
يتردد على ألسنة بعض الناس قولهم: (ما كامل إلا محمد صلى الله عليه وسلم) فهل هذا القول صحيح؟ أ. ع - أبها.
ليس هذا القول بصحيح، بل الكامل من الرجال كثير، ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم هو أكملهم، وأفضلهم، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران وآسية ابنة مزاحم - يعنى زوجة فرعون - وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام (1) » . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن خديجة رضي الله عنها بنت خويلد، أم أولاده صلى الله عليه وسلم، ممن كمل من النساء، وهكذا فاطمة ابنته صلى الله عليه وسلم ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنها سيدة نساء أهل الجنة، فهؤلاء الخمس هن الكاملات من النساء رضي الله عنهن جميعا.
وأما الكاملون من الرجال فهم كثير، يعني في الصفات الإنسانية التي مدحها الله وأثنى على أهلها من العلم والجود والاستقامة على دين الله، والشجاعة في الحق، وغير ذلك من الصفات العظيمة التي مدحها الله سبحانه وأثنى على أهلها أو رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أكمل الناس في ذلك هم الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ وأكملهم وأفضلهم هو خاتمهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر (2) » ، والأدلة الأخرى من الكتاب والسنة تدل
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3434) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2431) ، سنن الترمذي الأطعمة (1834) ، سنن النسائي عشرة النساء (3947) ، سنن ابن ماجه الأطعمة (3280) ، مسند أحمد بن حنبل (4/394) .
(2) سنن الترمذي تفسير القرآن (3148) ، سنن ابن ماجه الزهد (4308) .(7/398)
على ذلك.
أما الكمال المطلق في جميع الصفات فهو لله وحده ليس له في ذلك شريك ولا مثيل، لقول الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) وقوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (5) وقوله سبحانه: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (6) وقوله عز وجل في سورة الروم: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (7)
والمثل الأعلى هو الوصف الأعلى الذي لا يشاركه فيه أحد من خلفه من العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر وغير ذلك من صفات الكمال، تعالى وتقدس وتنزه عن مشابهة خلقه لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2
(3) سورة الإخلاص الآية 3
(4) سورة الإخلاص الآية 4
(5) سورة الشورى الآية 11
(6) سورة النحل الآية 74
(7) سورة الروم الآية 27(7/399)
حكم من قال: إن الأنبياء ما حققوا التوحيد
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم صاحب الفضيلة الشيخ ع، س، ع، غ. وفقه الله لما فيه رضاه وزاده من العلم والإيمان آمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد.
قد وصلتني الرسالة الموجهة إلى فضيلتكم من الأخ في الله ص، س، ح المتضمن السؤال عن حكم من قال: إن الأنبياء يحتاجون إلى تعليم لا إله إلا الله وعن حكم من قال: إن الأنبياء ما حققوا التوحيد. ورغبة فضيلتكم بواسطة مندوبكم الإجابة عن السؤالين.
والجواب: لا شك أن الأنبياء والمرسلين وغيرهم من العلماء يحتاجون إلى التنبيه من ربهم سبحانه على فضل التوحيد والأعمال الصالحة؛ لأن العلم بجميع أنواعه - أعني العلم الشرعي - إنما يتلقى عن الله سبحانه وهو الذي يبعث الرسل سبحانه وتعالى ويعلمهم ما لم يعلموا حتى يبلغوا رسالاته إلى عباده، كما قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في سورة النساء: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (1) وقال تعالى في
__________
(1) سورة النساء الآية 113(7/400)
سورة المائدة: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (1) {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} (2) الآية.
والآيات في هذا المعنى كثيرة، ومن هذا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال موسى: يا رب علمني شيئا أذكرك وأدعوك به قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله» .
الحديث أخرجه ابن حبان والحاكم كما في كتاب التوحيد. لكنهم لا يحتاجون أن يعلمهم الناس بل هم الذين يعلمون الناس مما علمهم الله عليهم الصلاة والسلام، ومن زعم أن الأنبياء يحتاجون إلى أن يعلمهم الناس فهو كافر ضال متنقص للأنبياء وهكذا من قال: إن الأنبياء ما حققوا التوحيد هو كافر ضال متنقص للأنبياء وقاذف لهم بما هم براء منه عليهم الصلاة والسلام، بل هم الذين يعلمون الناس حقيقة التوحيد وجميع أحكام الشرع الذي بعثوا به، وأكملهم في ذلك وأرفعهم منزلة خاتمهم نبينا محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام. وهذا شيء لا يخفى على مثلكم، وقد نص عليه أهل العلم في باب حكم المرتد، ولكن لرغبتكم في الإفادة حسب ما ذكره مندوبكم جرى تحريره.
وأسأل الله عز وجل أن يمنحني وإياكم
__________
(1) سورة المائدة الآية 109
(2) سورة المائدة الآية 110(7/401)
وسائر إخواننا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا ويمنحهم الفقه في الدين، ويصلح قادتهم، ويوفق علماءهم للقيام بما يجب عليهم من الدعوة إلى الله سبحانه وإبلاغ شريعته إلى عباده إنه سميع قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد.(7/402)
ملخصات عن البابية والبهائية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه.
أما بعد: فهذه كلمات مختصرة في التعريف بالبابية والبهائية.
الباب يشار به عندهم إلى شخص جاهل إيراني ينتسب إلى التصوف يدعى: علي بن محمد الشيرازي ويزعم أنه الباب إلى بهاء الله مرزا حسين علي، وأنه الرسول الذي أتاه الوحي من قبل بهاء.
والبابية تنسب إليه، وهو عندما يضيق عليه ويستتاب يتوب من البابية ويعلن أنه جعفري من الطائفة الاثني عشرية الإمامية.
وقد عقد البابيون مؤتمرا عاما في صحراء بدشت لإظهار مذهبهم وبيان البشائر عن الإمام المنتظر الذي يزعمون خروجه.
والبابيون في عقائدهم وآرائهم في الباب لم يكونوا على عقيدة واحدة ولا على رأي واحد في ذلك كما في صفحة 97 من كتاب: (البهائية تاريخها وعقيدتها وصلتها بالباطنية والصهيونية) لرئيس جماعة أنصار السنة المحمدية. في مصر الشيخ عبد الرحمن الوكيل رحمه الله.
وكان البابيون في مؤتمرهم فريقين أحدهما: تابع لرئاسة البشروئي والقدوس، والثاني: تابع لرئاسة البهاء وقرة العين كما في صفحة 98 من هذا الكتاب، كما كانت منتدياتهم نوعين: نوع خاص بأئمة البابية، والثاني: للعموم، وكان موضع البحث في هذه المنتديات الخاصة هو مسألة نسخ البابية للشريعة الإسلامية، وقد انتهى رأيهم إلى أن الباب أعظم وأجل مقاما من جميع الرسل،(7/403)
وأن ما أوحي إليه من دين هو أتم وأكمل من كل وحي ودين سابق.
وقد خطبت قرة العين في المؤتمر كما في صفحة 99 وصفحة 100 من الكتاب المذكور خطبة شنيعة عند احتجاب البشروئي والقدوس، وتغيب البهاء بعذر المرض خوفا من معرة خطبتها وانتظارا لما سينجم عنها من قبول المؤتمرين لها ومقاومتهم لها. فصرحت في الخطبة المذكورة بأن دين محمد منسوخ كله بالدين الجديد: (دين البهائية) الواصل إلى الأمة من طريق الباب وإن لم يصل منه الآن إلا نزر يسير، وأنهم الآن في وقت فترة، والاشتغال بأحكام الإسلام أمر لا وجه له، وأباحت للناس بل شرعت لهم الاشتراك في أموالهم ونسائهم.
وذكر الوكيل أن هذا هو ما صرح به مؤرخ البهائية في كتابه الكواكب الدرية صفحة 180، 219 وقد صرحت في خطبتها بإنكار البعث.
وقرة العين المذكورة يشار بها إلى امرأة تدعى أم سلمان بنت ملا صالح القزويني، حملت راية مذهبهم والدعوة إليه، وهي القائمة بالفتوى قبل اتصالها بالبهاء فلما اتصلت بالبهاء خضعت له وأسندت الفتوى إليه.
وقد قام البابيون بحركة رهيبة مسلحة سفكوا بها الدماء وقتلوا فيها مئات من الناس، وقامت الدولة الإيرانية ضدهم، وجندت لهم قوة حتى قضت عليهم وفرقت شملهم وقتلت باب الباب البشروئي وصاحبه القدوس وذلك في عام 1265 كما في الكتاب المذكور أعني- كتاب الوكيل - ثم أفتى العلماء بكفر الباب وردته واستحقاقه القتل- أعني علماء الشيعة - فأمرت الحكومة بقتله فقتل(7/404)
على مشهد من الناس، وكان قبل ذلك في القلعة مسجونا.
وقد نوظر أمام العلماء- أعني علماء الشيعة - عدة مرات فافتضح وظهر جهله وغباؤه وكان من أحكم الأسئلة التي وجهت إليه أن سئل عن النقص الذي في الشريعة الإسلامية وعن الكمال الذي أتى به فلم يستطع أن يجد جوابا بل ارتج عليه وانقطعت حجته، فطلب أن يخطب فخطب خطبة باردة لا قيمة لها ولا تستحق أن يصغى لها، ولذلك أفتى العلماء بكفره وإعدامه فأعدم.
(تنبيه) : تقدم أن الباب يعتقد فيه البهائيون أنه المبشر بالبهاء ومحل الوحي والتبليغ فهو بمثابة الرسول عن البهاء - يعتقد البابيون في الباب، وهو علي بن محمد الشيرازي الجاهل المركب الصوفي المخدوع أنه أتم وأكمل هيكل بشري ظهرت فيه حقيقة الإلهية، وأنه هو الذي خلق كل شيء بكلمته انظر صفحة 117، رووا عنه أنه قال: كنت في يوم نوح نوحا، وفي يوم إبراهيم إبراهيم، وفي يوم موسى موسى، وفي يوم عيسى عيسى، وفي يوم محمد محمدا، وفي يوم علي عليا إلى أن قال: وسأكون في يوم من يظهره الله من يظهره الله آخر الذي لا آخر له قبل أول الذي لا أول له، كنت في ظهور حجة الله على العالمين.
فاعجب لهذا الهذيان الذي لا يقوله عاقل (شرعة الباب) صفحة 119. ألغى الباب الصلوات الخمس والجمعة والجماعة إلا في الجنازة، وقرر أن التطهير في الجنابة غير واجب، القبلة هي البيت الذي ولد فيه بشيراز، أو محل سجنه، أو البيوت التي عاش فيها هو وأتباعه وهي الأماكن التي فرض على أتباعه الحج إليها.(7/405)
أما الصوم فمن شروق الشمس إلى غروبها، وعدته شهر بابي وهو تسعة عشر يوما، أما الزكاة فخمس العقار يؤخذ في آخر العام ويسلم للمجلس البابي، وهناك شرائع أخرى مضحكة انظرها صفحة 120 من كتاب الوكيل.
البهائية.
أما البهاء ويقال له بهاء الدين فهو: مرزا حسين بن علي بن الميرزا عباس بزرك المازندراني النوري الإيراني ولد بطهران سنة 1233 هـ واشتغل في أثناء عمره بعلم التصوف، وأخذ عن شيوخه خرافاته وإشاراته، ثم بعد انتقاله إلى بغداد من طهران زائرا أو طريدا، ثم بعد انتقالات كثيرة من بغداد إلى غيرها، ثم إلى عكا لأمور سياسية ومآرب خاصة ونزاع كثير بين أتباعه من البابية وأتباع أخيه: يحيى بن علي بن ميرزا، بعد هذا كله وبعد تطورات كثيرة ادعى البهاء ما يلي انظر صفحة 143 من كتاب الشيخ: الوكيل. ادعى البهاء أول أمره أنه خليفة الباب أو بمعنى آخر خليفة القائم، ثم زعم أنه هو القائم نفسه، ثم خلع على نفسه صفة النبوة فالألوهية والربوبية زاعما أن الحقيقة الإلهية لم تنل كمالها الأعظم إلا بتجسدها فيه.
هلاك البهاء:
في عنفوان قوته وسلطان دعوته سلط الله عليه الحمى فهلك بها وهو على عقيدته القذرة ودعاويه الباطلة وخرافاته المضحكة(7/406)
المحزنة، وكان هلاكه في ذي القعدة من عام 1309 هـ انظر صفحة 144 من رسالة أبي الفضائل وحاشيتها، أبو الفضائل أحد دعاة البهاء ومروجي نحلته الباطلة.
أسلوب البهاء في الدعوة
صوفي فج يعتمد على التقليد في المغموض والتلويحات والرموز وكثرة المصطلحات انظر صفحة 147 من كتاب الوكيل.
كتبه:
أشهرها الإيقان والأقدس. صنف الأول في بغداد وموضوعه إثبات مهدوية الباب وقائميته، وفيه إشارة إلى ما ادعاه البهاء وقد ألف هذا الكتاب تلبية لسؤال من سأله عن شأن الباب، وقد اعترف البهاء في هذا الكتاب بأنه مذنب وعاص في تأليفه هذا الكتاب واشتغاله بمقالاته، فاعجب أيها القارئ بصنع هذا المجرم وسوء التصرف - فسبحان الله ما أعظم شأنه - لقد أبى سبحانه إلا أن يفضح المجرمين والكذابين بما يقولونه بألسنتهم ويعملونه بجوارحهم فلله الحمد سبحانه على إيضاح الحق وفضح الباطل. انظر نص الوكيل صفحة 150.
حقد البهاء على المسلمين:
ما حقد الميرزا على أمة حقده على أمة خاتم المرسلين، وحسبك أن يبهت السلفي والخلف جميعا بأنهم لم يفقهوا شيئا من القرآن فيقول: انقضى ألف سنة ومائتان وثمان من السنين من ظهور نقطة الفرقان، وجميع هؤلاء الهمج الرعاع يتلون الفرقان في كل صباح(7/407)
وما فازوا للآن بحرف من المقصود - ثم يقول البهاء: إن الذي ما شرب من رحيقنا المختوم الذي فككنا ختمه باسمنا القيوم إنه ما فاز بأنوار التوحيد، وما عرف المقصود من كتب الله، وكان من المشركين.
تنبيه:
ما رأيت في هذه الخلاصة عن البابية، والبهائية من كلمات لم تجدها في كتاب الوكيل فاعلم أن بعضها من كتاب الدكتور محمد مهدي خان الإيراني التبريزي نزيل مصر المسمى: (مفتاح باب الأبواب) ، وبعضها أخذ من مقالات كتبها محب الدين الخطيب في شأن البابية والبهائية، وبشيء يسير من كلامي والله الموفق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة(7/408)
حقيقة الإخلاص (1)
سؤال: هل يصح أن نقول: إن الإخلاص هو الإحسان وهو الإيمان والأمانة؟
ع. م الرياض.
جواب: الإخلاص جزء من الأمانة والإيمان، وكون العمل موافقا للشريعة جزء من الأمانة والإيمان، وتأدية الصلاة بالوضوء من الأمانة والإيمان، وتأديتها في وقتها إيمان وأمانة. هكذا الزكاة وغيرها من الواجبات، والإحسان في العمل شيء آخر فهو كمال الأمانة والإيمان وذلك بأن تستكمل العمل في طاعة الله من واجب ومندوب، وتبتعد عن معاصي الله وما كرهه الله من ذلك لعباده.
والإحسان: هو أن تعبد الله كأنك تراه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك (2) » ، وأهل هذه المرتبة هم السابقون المقربون المذكورون في قوله سبحانه في سورة الواقعة: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} (3) {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} (4) {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (5) {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} (6) {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} (7) الآية، وبالله التوفيق.
__________
(1) مجلة الدعوة العدد 1367 في 25 \ 5 \ 1413 هـ.
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4777) ، صحيح مسلم الإيمان (10) ، سنن ابن ماجه المقدمة (64) ، مسند أحمد بن حنبل (2/426) .
(3) سورة الواقعة الآية 10
(4) سورة الواقعة الآية 11
(5) سورة الواقعة الآية 12
(6) سورة الواقعة الآية 13
(7) سورة الواقعة الآية 14(7/409)
هذا الجواب منكر وغلط عظيم
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم \ رئيس تحرير جريدة عكاظ
وفقه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فقد اطلعت على ما ورد في العدد 943 من الجريدة الصادر في يوم الاثنين 23 \ 11 \ 1412 هـ في الصفحة 22 الأخيرة عن الأطفال الذين أصابهم الاختناق في مكة بسبب الحريق وقول والدهم لما سأله الأطفال أين الله؟ أجاب بأنه موجود في كل مكان.
وأفيدكم أن هذا الجواب منكر وغلط عظيم بل كفر أكبر؛ لأن الله سبحانه فوق العرش، فوق جميع خلقه، وعلمه في كل مكان كما دل على ذلك القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وإجماع سلف الأمة.
فالواجب على والد الأطفال أن يتوب إلى الله من ذلك، وأن يعلم يقينا أن الله سبحانه فوق العرش، فوق جميع خلقه كما قال سبحانه في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} (1) الآية، وقال سبحانه في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 54
(2) سورة طه الآية 5(7/410)
وقال عز وجل: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (1) وقال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (2)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، كلها تدل على علوه سبحانه واستوائه على العرش.
أما قوله سبحانه: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (3) وقوله سبحانه لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (4) وما جاء في معنى هاتين الآيتين، فمعنى المعية هنا الكلاءة والحفظ والنصر والتأييد مع العلم بكل شيء.
وهكذا قوله سبحانه: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (5) وقوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (6) ومعنى المعية هنا العلم والإحاطة والاطلاع على شئونهم وهو سبحانه فوق العرش لا تخفى عليه خافية.
وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر، وأبو عمر الطلمنكي
__________
(1) سورة غافر الآية 12
(2) سورة الأعلى الآية 1
(3) سورة التوبة الآية 40
(4) سورة طه الآية 46
(5) سورة المجادلة الآية 7
(6) سورة الحديد الآية 4(7/411)
وآخرون من أهل العلم إجماع العلماء على هذا المعنى، والمراد العلماء من أهل السنة والجماعة، ولا شك أن ذلك هو معنى الآيات المذكورة وما جاء في معناها من الآيات والأحاديث. فالواجب التمسك بذلك والإيمان به، والحذر مما يخالفه من أقوال أهل البدع والضلال.
فأرجو نشر هذا الإيضاح للمسألة في الصحيفة، تصحيحا لما نشر وبيانا للحق وفق الله الجميع لما يرضيه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد(7/412)
من لم يكفر الكافر فهو مثله
سؤال:
هل تارك الصلاة يكون معذورا إذا لم يكن يدري بأن عقوبة تارك الصلاة الكفر الأكبر الناقل عن الملة؟ وهل علي إثم أن أصل رحمي الذي لا يصلي أو أتناول معهم الأطعمة، وما حكم من يصر على عدم تكفير تارك الصلاة، أو تكفير من يأتي بأفعال شركية مثل: (الذبح، النذر، المدد) ويقول: إن هذا العمل شرك ولكن فاعله لا يجوز أن نطلق عليه كلمة الكفر بعينه؟
ت. ر مصري مقيم في الخرج.
جواب:
حكم من ترك الصلاة من المكلفين الكفر الأكبر في أصح قولي العلماء وإن لم يعتقد ذلك هو؛ لأن الاعتبار في الأحكام بالأدلة الشرعية لا بعقيدة المحكوم عليه.
وهكذا من تعاطى مكفرا من المكفرات كالاستهزاء بالدين، والذبح لغير الله، والنذر لغير الله، والاستغاثة بالأموات وطلبهم النصر على الأعداء أو شفاء المرض ونحو ذلك لقول الله عز وجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) وقوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (4)
__________
(1) سورة التوبة الآية 65
(2) سورة التوبة الآية 66
(3) سورة الأنعام الآية 162
(4) سورة الأنعام الآية 163(7/413)
وقوله سبحانه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (1) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) وقوله عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (3) ومعلوم أن من دعا الأموات، أو استغاث بهم، أو نذر لهم، أو ذبح لهم قد اتخذهم آلهة مع الله وإن لم يسمهم آلهة.
وقال عز وجل في سورة فاطر: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (4) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (5)
فسمى دعاءهم غير الله شركا به سبحانه، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (6) » خرجه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وقال صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (7) » أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، والأدلة في ذلك من
__________
(1) سورة الكوثر الآية 1
(2) سورة الكوثر الآية 2
(3) سورة المؤمنون الآية 117
(4) سورة فاطر الآية 13
(5) سورة فاطر الآية 14
(6) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/370) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .
(7) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .(7/414)
الكتاب والسنة كثيرة. . ومن لم يكفر الكافر فهو مثله إذا أقيمت عليه الحجة وأبين له الدليل فأصر على عدم التكفير، كمن لا يكفر اليهود أوالنصارى أو الشيوعيين أو نحوهم ممن كفره لا يلتبس على من له أدنى بصيرة وعلم.
وليس للمسلم أن يتخذ من ترك الصلاة أو فعل شيئا من أنواع الكفر صديقا، ولا أن يجيب دعوته، ولا أن يدعوه إلى بيته؛ بل الواجب هجره مع النصيحة والدعوة حتى يتوب إلى الله سبحانه مما هو عليه من الكفر إلا إذا دعت المصلحة الشرعية لعدم الهجر، ليتمكن من دعوته ويتابعها لعله يستجيب للحق ويدع ما هو عليه من الباطل من دون اتخاذه صديقا أو جليسا، وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم هجر عبد الله بن أبي رأس المنافقين من أجل المصلحة العامة، وهجر الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر لعدم ما يقتضي عدم هجرهم.
فالواجب على ولاة الأمور وعلى العلماء والدعاة إلى الله سبحانه أن يراعوا في هذه الأمور ما تقتضيه القواعد الشرعية، والمصلحة العامة للمدعو وللمسلمين، والله ولي التوفيق.(7/415)
حكم طلب المدد من الرسول
سؤال:
نسمع أقواما ينادون مدد يا رسول الله، أو مدد يا نبي، فما الحكم في ذلك؟
جواب:
هذا الكلام من الشرك الأكبر، ومعناه طلب الغوث من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجمع العلماء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهم - وأتباعهم من علماء السنة على أن الاستغاثة بالأموات من الأنبياء وغيرهم، أو الغائبين من الملائكة أو الجن وغيرهم، أو بالأصنام والأحجار والأشجار أو بالكواكب ونحوها من الشرك الأكبر، لقول الله عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) وقوله سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (2) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (3)
وقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (4)
__________
(1) سورة الجن الآية 18
(2) سورة فاطر الآية 13
(3) سورة فاطر الآية 14
(4) سورة المؤمنون الآية 117(7/416)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهذا العمل هو دين المشركين الأولين من كفار قريش وغيرهم، وقد بعث الله الرسل جميعا عليهم الصلاة والسلام وأنزل الكتب بإنكاره والتحذير منه، كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) وقال عز وجل: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (3) {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} (4) وقال سبحانه: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (5) {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (6) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (7) فأوضح سبحانه في هذه الآيات أنه أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده لا شريك له بأنواع العبادة من الدعاء والاستغاثة والخوف والرجاء والصلاة والصوم والذبح والنذر وغير ذلك من أنواع العبادة، وأخبر أن المشركين من قريش وغيرهم يقولون للرسل ولغيرهم من دعاة الحق: " ما نعبدهم - يعنون الأولياء - إلا ليقربونا إلى الله زلفى "، والمعنى أنهم عبدوهم
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25
(3) سورة هود الآية 1
(4) سورة هود الآية 2
(5) سورة الزمر الآية 1
(6) سورة الزمر الآية 2
(7) سورة الزمر الآية 3(7/417)
ليقربوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم، لا لأنهم يخلقون ويرزقون ويتصرفون في الكون، فأكذبهم الله وكفرهم بذلك.
فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (1) فبين سبحانه أنهم كذبة في قولهم: إن الأولياء المعبودين من دون الله يقربونهم إلى الله زلفى، وحكم عليهم أنهم كفار بذلك.
فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (2) وبين سبحانه في آية أخرى من سورة يونس أنهم يقولون في معبوديهم من دون الله: إنهم شفعاء عند الله، وذلك في قوله سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (3) فأكذبهم سبحانه فقال: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (4)
وبين عز وجل في سورة الذاريات أنه خلق الثقلين الجن والإنس ليعبدوه وحده دون كل ما سواه، فقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (5)
فالواجب على جميع الجن والإنس أن يعبدوا الله وحده وأن يخلصوا له العبادة، وأن يحذروا عبادة ما سواه من الأنبياء وغيرهم، لا بطلب المدد ولا بغير ذلك من أنواع العبادة، عملا بالآيات
__________
(1) سورة الزمر الآية 3
(2) سورة الزمر الآية 3
(3) سورة يونس الآية 18
(4) سورة يونس الآية 18
(5) سورة الذاريات الآية 56(7/418)
المذكورات وما جاء في معناها، وعملا بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم وعن غيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام أنهم دعوا الناس إلى توحيد الله وتخصيصه بالعبادة دون كل ما سواه، ونهوهم عن الشرك به وعبادة غيره، وهذا هو أصل دين الإسلام الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب وخلق من أجله الثقلين، فمن استغاث بالأنبياء أو غيرهم، أو طلب منهم المدد أو تقرب إليهم بشيء من العبادة، فقد أشرك بالله وعبد معه سواه، ودخل في قوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) وفي قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) وقوله سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (4) ولا يستثنى من هذه الأدلة إلا من لم تبلغه الدعوة ممن كان بعيدا عن بلاد المسلمين، فلم يبلغه القرآن ولا السنة، فهذا أمره إلى الله سبحانه،
والصحيح من أقوال أهل العلم في شأنه أنه يمتحن يوم القيامة، فإن أطاع الأمر دخل الجنة، وإن عصى دخل النار، وهكذا أولاد المشركين الذين ماتوا قبل البلوغ، فإن الصحيح فيهم قولان:
أحدهما: أنهم يمتحنون يوم
__________
(1) سورة الأنعام الآية 88
(2) سورة الزمر الآية 65
(3) سورة النساء الآية 48
(4) سورة المائدة الآية 72(7/419)
القيامة، فإن أجابوا دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عنهم: «الله أعلم بما كانوا عاملين (1) » متفق على صحته. فإذا امتحنوا يوم القيامة ظهر علم الله فيهم.
والقول الثاني: أنهم من أهل الجنة؛ لأنهم ماتوا على الفطرة قبل التكليف، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة (2) » ، وفي رواية: «على هذه الملة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (3) » ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في روضة من رياض الجنة وعنده أطفال المسلمين وأطفال المشركين.
وهذا القول هو أصح الأقوال في أطفال المشركين للأدلة المذكورة، ولقوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (4) ونقل الحافظ ابن حجر رحمه الله، في الفتح جـ 3 ص 247 في شرح باب: ما قيل في أولاد المشركين من كتاب الجنائز: إن هذا القول هو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون، انتهى المقصود.
ويستثنى من ذلك أيضا دعاء الحي الحاضر، فيما يقدر عليه، فإن ذلك ليس من الشرك لقول الله عز وجل في قصة موسى مع القبطي: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (5) ولأن كل إنسان يحتاج إلى إعانة إخوانه فيما يحتاج إليه في الجهاد وفي غيره مما يقدرون عليه، فليس ذلك من الشرك، بل ذلك من الأمور المباحة، وقد يكون ذلك التعاون مسنونا، وقد يكون واجبا على حسب الأدلة الشرعية. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1383) ، صحيح مسلم القدر (2660) ، سنن النسائي الجنائز (1951) ، سنن أبو داود السنة (4711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/358) .
(2) صحيح البخاري الجنائز (1358) ، صحيح مسلم القدر (2658) ، سنن الترمذي القدر (2138) ، سنن أبو داود السنة (4714) ، مسند أحمد بن حنبل (2/275) ، موطأ مالك الجنائز (569) .
(3) صحيح البخاري الجنائز (1358) ، صحيح مسلم القدر (2658) ، سنن الترمذي القدر (2138) ، سنن أبو داود السنة (4714) ، مسند أحمد بن حنبل (2/315) ، موطأ مالك الجنائز (569) .
(4) سورة الإسراء الآية 15
(5) سورة القصص الآية 15(7/420)
زيارة قبور الأولياء (1)
سؤال:
ما حكم من يزور القبور ثم يقرأ الفاتحة، وخاصة على قبور الأولياء كما يسمونهم في بعض البلاد بالرغم أن بعضهم يقول: لا أريد الشرك، ولكن إذا لم أقم بزيارة هذا الولي فإنه يأتي إلي في المنام ويقول لي: لماذا لم تزرني؟ فما حكم ذلك جزاكم الله خيرا؟
جواب:
يسن للرجال من المسلمين زيارة القبور كما شرعه الله سبحانه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (2) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه، وروى مسلم في صحيحه أيضا عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية (3) » .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه كان إذا زار القبور يقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد (4) » .
ولم يكن حال الزيارة عليه الصلاة والسلام يقرأ سورة الفاتحة ولا غيرها من القرآن، فقراءتها وقت الزيارة بدعة، وهكذا قراءة غيرها من القرآن، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (5) » متفق على صحته،
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة عدد 1337 في 13 \ 10 \ 1412 هـ.
(2) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .
(3) سنن النسائي الجنائز (2037) .
(4) صحيح مسلم الجنائز (974) ، سنن النسائي الجنائز (2039) .
(5) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(7/421)
وفي رواية مسلم رحمه الله يقول صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » .
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (2) » ، وأخرجه النسائي وزاد: «وكل ضلالة في النار (3) » .
فالواجب على المسلمين التقيد بالشرع المطهر والحذر من البدع في زيارة القبور وغيرها. والزيارة مشروعة لقبور المسلمين جميعا سواء سموا أولياء أم لم يسموا أولياء.
وكل مؤمن وكل مؤمنة من أولياء الله كما قال الله عز وجل: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (4) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (5) وقال سبحانه في سورة الأنفال: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (6) ولا يجوز للزائر ولا لغيره دعاء الأموات أو الاستغاثة بهم أو النذر لهم أو الذبح لهم عند قبورهم أو في أي مكان يتقرب بذلك إليهم ليشفعوا له أو يشفوا مريضه أو ينصروه على عدوه أو لغير ذلك من الحاجات؛ لأن هذه الأمور من العبادة، والعبادة كلها لله وحده، كما قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (7) وقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (8) وقال
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(3) سنن النسائي صلاة العيدين (1578) .
(4) سورة يونس الآية 62
(5) سورة يونس الآية 63
(6) سورة الأنفال الآية 34
(7) سورة البينة الآية 5
(8) سورة الذاريات الآية 56(7/422)
سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) وقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2)
والمعنى أمر ووصى، وقال عز جل: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (3) وقال عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (5) والآيات في هذا المعنى كثيرة، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (6) » متفق على صحته من حديث معاذ رضي الله عنه.
وهذا يشمل جميع العبادات من صلاة وصوم وركوع وسجود وحج ودعاء وذبح ونذر وغير ذلك من أنواع العبادة، كما أن الآيات السابقات تشمل ذلك كله وفي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله من ذبح لغير الله (7) » .
وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله (8) » .
والأحاديث في الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن الإشراك به، وعن وسائل ذلك كثيرة معلومة.
أما النساء فليس لهن زيارة القبور؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن زائرات القبور» ، والحكمة في ذلك - والله أعلم - أن زيارتهن قد تحصل بها الفتنة لهن ولغيرهن
__________
(1) سورة الجن الآية 18
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة غافر الآية 14
(4) سورة الأنعام الآية 162
(5) سورة الأنعام الآية 163
(6) صحيح البخاري الجهاد والسير (2856) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد بن حنبل (5/238) .
(7) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(8) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/24) .(7/423)
من الرجال، وقد كانت الزيارة للقبور في أول الإسلام ممنوعة حسما لمادة الشرك، فلما فشا الإسلام وانتشر التوحيد أذن صلى الله عليه وسلم في الزيارة للجميع ثم خص النساء بالمنع حسما لمادة الفتنة بهن.
أما قبور الكفار فلا مانع من زيارتها للذكرى والاعتبار، ولكن لا يدعى لهم ولا يستغفر لهم لما ثبت في صحيح مسلم عن النبي أنه استأذن ربه أن يستغفر لأمه فلم يأذن له، واستأذنه أن يزور قبرها فأذن له، وذلك أنها ماتت في الجاهلية على دين قومها.
وأسأل الله أن يوفق المسلمين رجالا ونساء للفقه في الدين والاستقامة عليه قولا وعملا وعقيدة، وأن يعيذهم جميعا من كل ما يخالف شرعه المطهر إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(7/424)
لا يجوز تعظيم آثار العلماء بما يفضي
إلى الغلو فيهم والشرك بهم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد.
فقد نشرت صحيفة الرياض في عددها الصادر في 21 \ 10 \1412 هـ مقالا بقلم: س. د تحت عنوان: (ترميم بيت الشيخ محمد بن عبد الوهاب بحريملاء) وذكر أن الإدارة العامة للآثار والمتاحف أولت اهتماما بالغا بمنزل مجدد الدعوة السلفية الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في حي غيلان بحريملاء؛ حيث تمت صيانته وأعيد ترميمه بمادة طينية تشبه مادة البناء الأصلية. إلى أن قال: وتم تعيين حارس خاص لهذا البيت. إلخ وقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية على المقال المذكور ورأت أن هذا العمل لا يجوز، وأنه وسيلة للغلو في الشيخ محمد رحمه الله وأشباهه من علماء الحق والتبرك بآثارهم والشرك بهم، ورأت أن الواجب هدمه وجعل مكانه توسعة للطريق سدا لذرائع الشرك والغلو، وحسما لوسائل ذلك وطلبت من الجهة المختصة القيام بذلك فورا، ولإعلان الحقيقة والتحذير من هذا العمل المنكر جرى تحريره، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
ورئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(7/425)
لا يجوز دفن الميت في المسجد (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم: هـ. ع. ن. م. م، سلمه الله آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد. .
فإشارة إلى رسالتك الكريمة المتضمنة طلب بعض الكتب والإجابة عن السؤال الذي ذكرته. نشكر لك اهتمامك وغيرتك ويسرنا تحقيق رغبتك بإرسال نسخة من زاد المعاد، والعقيدة الواسطية شرح محمد خليل الهراس، والقاعدة الجليلة لشيخ الإسلام ابن تيمية. وفتح المجيد، وشرح الطحاوية لابن أبي العز.
أما بالنسبة للسؤال فالواجب منع الدفن في المسجد، وإزالة ما أعده الشخص المذكور ليدفن فيه، وأن يستعان في ذلك بالله ثم بأهل العلم حتى يقنع الرجل بأن عمله لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » متفق على صحته من حديث عائشة رضي الله عنها، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (3) » أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: «أن
__________
(1) رسالة جوابية بعثها سماحته برقم 1988 في 14 8 / 1412 هـ.
(2) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (529) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(7/426)
أم سلمة، وأم حبيبة رضي الله عنهما ذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها في أرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال عليه الصلاة والسلام: أولئك إذا مات الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله (1) » .
فهذه الأحاديث وما جاء في معناها كلها تدل على تحريم بناء المساجد على القبور، ووضع القبور في المساجد؛ لأن ذلك من وسائل الشرك الأكبر، وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه (2) » .
وما ذلك إلا أن البناء على القبور وتجصيصها ووضع الستور عليها والصلاة عندها وبناء المساجد عليها كل ذلك من وسائل الشرك.
نسأل الله أن يعافي المسلمين من ذلك، وأن يفقههم في الدين، وأن يعينهم على التمسك بشرع الله والاستقامة عليه، وأن يوفق علماءهم لتبصيرهم وتوجيههم إلى الخير على ضوء الكتاب والسنة إنه سميع مجيب.
وأسأل الله لك التوفيق والإعانة على كل خير إنه خير مسئول. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (427) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (528) ، سنن النسائي المساجد (704) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .(7/427)
سؤال الميت والاستغاثة به من الشرك الأكبر
سؤال:
ما يفعله بعض الجهلة حول بعض القبور من سؤال الميت والاستغاثة به وطلبه الشفاء أو النصر على الأعداء أو المدد، ما حكمه؛ لأن هذا موجود في كثير من الأمصار؟
جواب:
بسم الله والحمد لله: هذا العمل من الشرك الأكبر وهو شرك المشركين الأولين من قريش وغيرهم كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة وأوثانا وأصناما كثيرة ويستغيثون بها ويستعينون بها على الأعداء كما قال أبو سفيان يوم أحد: «قولوا له: الله مولانا ولا مولى لكم، فقال أبو سفيان: (اعل هبل) (1) » ، مراده اعل يا هبل يعني الصنم الذي كانت تعبده قريش في مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ردوا عليه، فقالوا: ما نقول يا رسول الله قال: قولوا: الله أعلى وأجل (2) » .
والمقصود أن دعاء الأموات والأصنام والأحجار والشجر وغيرها من المخلوقات والاستغاثة بها أو الاستنصار بها والذبح لها والنذر لها والطواف بها كل ذلك من الشرك الأكبر؛ لأن ذلك كله من العبادة لغير الله ومن أعمال المشركين الأولين والآخرين، فالواجب الحذر منها والتوبة إلى الله من ذلك.
والواجب على أهل العلم والدعاة إلى الله سبحانه أن ينصحوا من يتعاطى ذلك ويعلموه ويرشدوه ويوضحوا له أن هذا شرك المشركين الأولين الذين قال
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4043) ، سنن أبو داود الجهاد (2662) ، مسند أحمد بن حنبل (4/293) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4043) ، سنن أبو داود الجهاد (2662) ، مسند أحمد بن حنبل (4/293) .(7/428)
الله فيهم: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (1) الآية، وقال سبحانه في ذلك: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) وقال فيه سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) وقال فيه سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (4) وقال فيه عز وجل يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5) وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار (6) » رواه البخاري في صحيحه وقال صلى الله عليه وسلم: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (7) » متفق على صحته، وقال عليه الصلاة والسلام: «من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار (8) » رواه مسلم في صحيحه، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ونسأل الله أن يمنح المسلمين الفقه في دينه، وأن يعيذهم من كل ما يغضبه، وأن يمن عليهم بالتوبة النصوح من كل شر، وأن يوفق علماء المسلمين في كل مكان لنشر العلم وإرشاد الجهال إلى ما خلقوا له من توحيد الله وطاعته، وأن ينصر
__________
(1) سورة يونس الآية 18
(2) سورة النساء الآية 48
(3) سورة الأنعام الآية 88
(4) سورة المائدة الآية 72
(5) سورة الزمر الآية 65
(6) صحيح البخاري تفسير القرآن (4497) ، مسند أحمد بن حنبل (1/374) .
(7) صحيح البخاري الجهاد والسير (2856) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد بن حنبل (5/238) .
(8) صحيح البخاري العلم (129) ، صحيح مسلم الإيمان (32) ، مسند أحمد بن حنبل (3/157) .(7/429)
دينه ويعلي كلمته وأن يوفق قادة المسلمين ورؤساءهم للبصيرة في دينه وتحكيم شريعته وإلزام الشعوب بها إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء
والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(7/430)
عادات الاحتفال بعد موت أحد
سؤال:
هناك في اليمن عادات يفعلها بعض الناس بعد موت أحد أقاربهم فهم يضطرون إلى أن يستدينوا من أجل الاحتفالات والأكل والشرب وما أشبه ذلك حتى وإن كان المتوفى فقيرا لم يخلف شيئا، فما الحكم في ذلك جزاكم الله خيرا؟
جواب:
لا يجوز الاحتفال عند موت أحد من الناس وليس لأهل الميت أن يقيموا احتفالا ولا يذبحوا ذبائح ويصنعوا طعاما للناس كل هذا من البدع ومن أعمال الجاهلية فالواجب تركه.
وقد ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: "كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد الموت من النياحة" رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح، فالمشروع للمسلمين إذا مات الميت المسلم أن يسألوا الله له المغفرة والرحمة، وأن يتركوا هذه الاحتفالات الجاهلية لكن يشرع لجيرانهم وأقاربهم أن يصنعوا لهم طعاما؛ لأنهم مشغولون بالمصيبة لما ثبت من حديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما قتل في غزوة مؤتة في أرض الشام إلى المدينة أمر النبي عليه الصلاة والسلام أهله أن يصنعوا لآل جعفر طعاما قال: لأنه أتاهم ما يشغلهم (1) » ، أما أهل الميت فليس لهم صنع الطعام للناس لما تقدم، أما إذا صنعوا ذلك فلا بأس لأنفسهم أو لضيوف نزلوا بهم فلا بأس.
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (998) ، سنن أبي داود الجنائز (3132) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1610) ، مسند أحمد (1/205) .(7/431)
تنويه
يلاحظ القارئ أن الأجزاء المتعلقة بالعقيدة وما يلحق بها من مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز -أمد الله في عمره- يدخل فيها أسئلة وأجوبة عن موضوعات ليست في العقيدة.
ومن باب التنويه، فإن هذه الأسئلة كانت جزءا من محاضرات تداولها الناس على الأشرطة، ومن المصلحة أن ترد كاملة. وبتوجيه من سماحة الشيخ فإن كل سؤال وجوابه سوف يوضع في مكانه من أبواب الفقه عندما يصل إليها الكتاب وينبه على مكانه السابق من الكتاب.(7/432)
صفحة فارغة(8/1)
صفحة فارغة(8/2)
صفحة فارغة(8/3)
نصيحة واجبة لتحكيم شرع الله المطهر (1)
__________
(1) نشرت في جريدة العالم الإسلامي الصادرة من رابطة العالم الإسلامي في 11\6\1415 هـ.(8/4)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قيل: لمن يا رسول الله؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » .
وقياما بهذا الواجب فإني أعيد التذكير بما سبق أن كتبت وتحدثت عنه مرارا، من بيان وجوب التحاكم إلى شرع الله، ونبذ ما خالفه.
لقد دلت الأدلة الشرعية الصريحة من الكتاب والسنة على أنه يجب على المسلمين جميعا؛ أفرادا أو جماعات، أو حكومات ودولا: التحاكم فيما شجر بينهم من خصومات ونزاعات إلى شرع الله سبحانه، والرضوخ له، والتسليم به.
ومن هذه الأدلة الصريحة: قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (3) وقوله عز وجل. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (4) وقوله سبحانه:
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(2) سورة النساء الآية 65
(3) سورة المائدة الآية 50
(4) سورة النساء الآية 59(8/5)
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ومنها يعلم أنه لا يجوز للمسلم التحاكم إلى القوانين الوضعية، أو الأعراف القبلية المخالفة للشرع.
كما أوجه نصيحتي الخالصة في هذه الكلمة إلى حكام الدول الإسلامية جميعا بسبب ما وقع ويقع بينهم من النزاعات المتعددة، بأن الطريق الوحيد الذي يجب اللجوء إليه لحل النزاعات بين دولهم في الممتلكات والحقوق والحدود السياسية وغيرها - هو تحكيم شرع الله، وذلك بتشكيل لجنة أو محكمة شرعية، أعضاؤها من علماء الشرع المطهر ممن هم محل رضا الجميع: علما، وفهما، وعدلا، وورعا، تنظر في محل النزاع، ثم تحكم بما تقتضيه الشريعة الإسلامية، وليعلموا أن ما يقع من بعضهم من التحاكم إلى محكمة العدل الدولية وأمثالها من الهيئات غير الإسلامية هو تحاكم إلى غير شرع الله، ولا يجوز التقاضي إليها، أو تحكيمها بين المسلمين، فليحذروا ذلك، وليتقوا الله ويخشوا عقابه الذي توعد به من يعرض عن شرعه، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (2) {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} (3) {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (4)
وقال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (5) {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (6)
__________
(1) سورة الشورى الآية 10
(2) سورة طه الآية 124
(3) سورة طه الآية 125
(4) سورة طه الآية 126
(5) سورة المائدة الآية 49
(6) سورة المائدة الآية 50(8/6)
والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة، كلها تؤكد أن طاعة الله ورسوله سبب لسعادة الدنيا ونعيم الآخرة، وأن معصية الله ورسوله، والإعراض عن ذكر الله، والتولي عن حكمه سبب لضنك العيش وشقاء الحياة والعذاب في الآخرة.
والله أسأل أن يهدي الجميع إلى الحق، ويرزقهم الاستقامة، ويصلح أحوالهم، ويعينهم على كل ما فيه صلاح أمر دينهم ودنياهم، وأن يمنح الجميع الرضا بحكم الله ورسوله، إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء
وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(8/7)
القوادح في العقيدة ووسائل السلامة منها (1)
__________
(1) محاضرة ألقيت في شهر صفر عام 1403 هـ في الجامع الكبير بمدينة الرياض، وصدرت في كتاب بنفس العنوان.(8/7)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على عبده ورسوله وخليله، وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فلا ريب أن سلامة العقيدة أهم الأمور، وأعظم الفرائض؛ ولهذا رأيت أن يكون عنوان هذه الكلمة: (القوادح في العقيدة ووسائل السلامة منها) .
العقيدة: هي ما يعتقده الإنسان ويدين به، من خير وشر، من فساد وصلاح.
والمطلوب: هو التمسك بالعقيدة الصحيحة، وما يجب على العبد في ذلك؛ لأن في هذا العالم عقائد كثيرة، كلها فاسدة إلا العقيدة التي جاء بها كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي العقيدة الإسلامية الصافية النقية من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، هذه هي العقيدة التي جاء بها كتاب الله، ودلت عليها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: الإسلام.
قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) وقال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19
(2) سورة المائدة الآية 3(8/8)
فالإسلام هو دين الله، لا يقبل من أحد سواه، قال الله عز وجل:
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1)
وهو دين الأنبياء كلهم؛ فهو دين آدم أبينا عليه الصلاة والسلام، وهو دين الأنبياء بعده: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وداود، وسليمان، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، ودين غيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو دين نبينا محمد عليه الصلاة والسلام الذي بعثه الله به للناس عامة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد (2) » وفي لفظ: «أولاد علات (3) » .
والمعنى: أن دين الأنبياء واحد: وهو توحيد الله، والإيمان بأنه رب العالمين، وأنه الخلاق العليم، وأنه المستحق للعبادة دون كل ما سواه، والإيمان بالآخرة والبعث والنشور، والجنة والنار والميزان، وغير هذا من أمور الآخرة، أما الشرائع فهي مختلفة، وهذا معنى أولاد علات: أولاد لضرات، كنى بهذا عن الشرائع، كما قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (4)
إخوة الأب: أبوهم واحد وأمهاتهم متفرقات، هكذا الأنبياء دينهم واحد وهو: توحيد الله والإخلاص له.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 85
(2) جزء من حديث رواه البخاري (3442، 3443) ، ومسلم (2365) (143، 144، 145) وغيرهما، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال في (مختار الصحاح) : بنو العلات: أولاد الرجل من نسوة شتى، سميت بذلك؛ لأن الذي تزوج أخرى على أولى قد كانت قبلها ناهل، ثم عل من هذه،
و (3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3442) ، صحيح مسلم الفضائل (2365) ، سنن أبو داود السنة (4675) ، مسند أحمد بن حنبل (2/463) .
(4) سورة المائدة الآية 48(8/9)
وهو معنى (لا إله إلا الله) ، وهو: إفراد الله بالعبادة، والإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وما يتفرع بعد ذلك من البعث والنشور، والجنة والنار، والميزان والحساب والصراط، وغير هذا.
هكذا الأنبياء دينهم واحد، كلهم جاءوا بهذا الأمر - عليهم الصلاة والسلام - ولكن الشرائع تفرقت، بمثابة الأولاد لأمهات العلات، فشريعة التوراة فيها ما ليس في شريعة الإنجيل، وفي الشرائع التي قبلها أشياء ليست فيها، وفي شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أشياء غير ما في التوراة والإنجيل، فقد يسر الله على هذه الأمة وخفف عنها الكثير، كما قال جل وعلا:
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (1) وقال عليه الصلاة والسلام: «بعثت بالحنيفية السمحة (2) » .
فالله بعثه بشريعة سمحة ليس فيها آصار، وليس فيها أغلال، وليس فيها حرج، كما قال سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (3)
كان أتباع الشرائع الماضية قبل شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم لا يتيممون عند فقد الماء، بل يؤخرون الصلوات ويجمعونها حتى يجدوا الماء، ثم يتوضئون ويصلون، وجاء في هذه الشريعة المحمدية التيمم، فمن عدم الماء أو عجز عنه تيمم بالتراب وصلى، وجاء في ذلك أنواع كثيرة من التيسير والتسهيل.
وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة؛ إلى الجن والإنس، والعرب والعجم، وجعله الله خاتم الأنبياء.
وكان من قبلنا لا يصلون إلا في بيعهم ومساجدهم ومحلات
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/266) .
(3) سورة الحج الآية 78(8/10)
صلاتهم، أما في هذه الشريعة المحمدية فإنك تصلي حيث كنت، في أي أرض الله حضرت الصلاة صليت، في أي أرض الله. من الصحاري والقفار، كما قال عليه الصلاة والسلام: «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (1) » .
فالشريعة الإسلامية التي جاء بها نبينا صلى الله عليه وسلم شريعة واسعة ميسرة ليس فيها حرج ولا أغلال، ومن ذلك: المريض؛ لا يلزمه الصوم، بل له أن يفطر ويقضي، والمسافر يقصر الصلاة الرباعية، ويفطر في رمضان، ويقضي الصوم، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (2)
والمصلي إن عجز عن القيام صلى قاعدا، وإن عجز عن القعود صلى على جنبه، وإن عجز عن الصلاة على جنبه صلى مستلقيا، كما صحت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا لم يجد من الأكل ما يسد رمقه من الحلال جاز له أن يأكل من الميتة ونحوها ما يسد رمقه حتى لا يموت.
فالعقيدة الإسلامية: هي توحيد الله والإخلاص له سبحانه، والإيمان به، وبرسله، وبكتبه، وبملائكته، وباليوم الآخر من البعث والنشور، ومن الجنة والنار وغير ذلك من أمور الآخرة، والإيمان بالقدر خيره وشره، وأنه سبحانه قدر الأشياء، وعلمها وأحاط بها، وكتبها عنده سبحانه وتعالى.
ومن أركان الإسلام: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج.
ومن واجباته وفرائضه: الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف
__________
(1) جزء من حديث رواه البخاري (335، 438، 3122) ، ومسلم (521) .
(2) سورة البقرة الآية 185(8/11)
والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، إلى غير ذلك.
فالإسلام: هو الاستسلام لله، والانقياد له سبحانه بتوحيده، والإخلاص له والتمسك بطاعته وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، ولهذا سمي إسلاما؛ لأن المسلم يسلم أمره لله، ويوحده سبحانه، ويعبده وحده دون ما سواه، وينقاد لأوامره ويدع نواهيه، ويقف عند حدوده، هكذا الإسلام.
وله أركان خمسة، وهي: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.
والشهادتان معناهما: توحيد الله والإخلاص له، والإيمان بأن محمدا رسوله عليه الصلاة والسلام إلى جميع الثقلين الجن والإنس، وهاتان الشهادتان هما أصل الدين، وهما أساس الملة، فلا معبود بحق إلا الله وحده، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، كما قال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (1)
وأما شهادة أن محمدا رسول الله فمعناها: أن تشهد - عن يقين وعلم - أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي المكي ثم المدني هو رسول الله حقا، وهو أشرف عباد الله، وقرابته وأسرته هم أفضل العرب على الإطلاق، فهو خيار من خيار من خيار عليه الصلاة والسلام، وهو أشرف الخلق وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه.
فعليك أن تؤمن بأن الله بعثه للناس عامة؛ إلى الجن والإنس، إلى الذكور والإناث، إلى العرب والعجم، إلى الأغنياء والفقراء، إلى الحاضرة
__________
(1) سورة الحج الآية 62(8/12)
والبادية، هو رسول الله إلى الجميع، من اتبعه فله الجنة، ومن خالف أمره فله النار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قيل: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى» . خرجه البخاري في صحيحه (1) .
فهذه العقيدة الإسلامية العظيمة مضمونها: توحيد الله، والإخلاص له، والإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسوله حقا، والإيمان بجميع المرسلين، مع الإيمان بوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، والإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، والإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله.
هذه هي العقيدة الإسلامية المحمدية، وقد وقع من بعض الناس قوادح فيها، ونواقض تنقضها يجب أن نبينها في هذه الكلمة.
والقوادح قسمان:
قسم ينقض هذه العقيدة ويبطلها، فيكون صاحبه كافرا، نعوذ بالله.
وقسم ينقص هذه العقيدة ويضعفها.
فالأول: يسمى: ناقضا، وهو: الذي يبطلها ويفسدها، ويكون صاحبه كافرا مرتدا عن الإسلام، وهذا النوع هو: القوادح المكفرة:
وهي نواقض الإسلام، وهي الموجبة للردة، هذه تسمى: نواقض.
والناقض: يكون قولا، ويكون عملا، ويكون اعتقادا، ويكون شكا. فقد يرتد الإنسان بقول يقوله أو بعمل يعمله، أو باعتقاد يعتقده، أو بشك يطرأ عليه، هذه الأمور الأربعة كلها يأتي منها الناقض الذي يقدح في العقيدة ويبطلها، وقد ذكرها أهل العلم في كتبهم وسموا بابها:
__________
(1) صحيح البخاري (8\139) .(8/13)
(باب حكم المرتد) ، فكل مذهب من مذاهب العلماء، وكل ففيه من الفقهاء ألف كتبا - في الغالب - عندما يذكر الحدود يذكر (باب حكم المرتد) : وهو الذي يكفر بعد الإسلام، ويسمى هذا: مرتدا، يعني: أنه رجع عن دين الله وارتد عنه، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» خرجه البخاري في الصحيح (1) .
وفي الصحيحين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى الأشعري إلى اليمن، ثم أتبعه معاذ بن جبل رضي الله عنهما فلما قدم عليه قال: انزل. وألقى له وسادة، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: هذا كان يهوديا فأسلم ثم راجع دينه - دين السوء - فتهود. فقال معاذ: لا أنزل حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، فقال: انزل. قال: لا أنزل حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، ثلاث مرات، فأمر به أبو موسى رضي الله عنه فقتل» .
فدل ذلك على أن المرتد عن الإسلام يقتل، إذا لم يتب، يستتاب فإن تاب ورجع فالحمد لله، وإن لم يرجع وأصر على كفره وضلاله يقتل، ويعجل به إلى النار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه (2) » .
فالنواقض التي تنقض الإسلام كثيرة، منها:
الردة بالقول: مثل: سب الله، هذا قول ينقض الدين، وهكذا سب الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: اللعن والسب لله ولرسوله، أو العيب والتنقص، مثل أن يقول: إن الله ظالم، إن الله بخيل، إن الله فقير، إن الله جل وعلا
__________
(1) صحيح البخاري (3017) .
(2) صحيح البخاري (3017) .(8/14)
لا يعلم بعض الأمور، أو لا يقدر على بعض الأمور، كل هذه الأقوال وأشباهها سب وردة عن الإسلام.
فمن انتقص الله أو سبه أو عابه بشيء فهو كافر مرتد عن الإسلام - نعوذ بالله من ذلك - وهذه ردة قولية، إذا سب الله أو استهزأ به أو تنقصه أو وصفه بأمر لا يليق، كما تقول اليهود: إن الله بخيل، إن الله فقير ونحن أغنياء، وهكذا لو قال: إن الله لا يعلم بعض الأمور، أو لا يقدر على بعض الأمور، أو نفى صفات الله ولم يؤمن بها، فهذا يكون مرتدا بأقواله السيئة.
أو قال مثلا: إن الله لم يوجب علينا الصلاة، فهذه ردة عن الإسلام، فمن قال: إن الله لم يوجب الصلاة فقد ارتد عن الإسلام بإجماع المسلمين، إلا إذا كان جاهلا بعيدا عن المسلمين لا يعرف، فيعلم، فإن أصر كفر، وأما إذا كان بين المسلمين، ويعرف أمور الدين، ثم قال: ليست الصلاة بواجبة. فهذه ردة، يستتاب منها، فإن تاب وإلا قتل، أو قال: الزكاة غير واجبة على الناس، أو قال: صوم رمضان غير واجب على الناس، أو الحج مع الاستطاعة غير واجب على الناس، من قال هذه المقالات كفر إجماعا، ويستتاب فإن تاب وإلا قتل - نعوذ بالله من ذلك - وهذه الأمور ردة قولية.
ومنها: الردة بالفعل:
والردة الفعلية مثل: ترك الصلاة، فكونه لا يصلي وإن قال: إنها واجبة - لكن لا يصلي - هذه ردة على الأصح من أقوال العلماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» رواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه بإسناد(8/15)
صحيح، وقوله صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» . أخرجه مسلم في صحيحه.
وقال عبد الله بن شقيق العقيلي - التابعي المتفق على جلالة قدره رحمه الله: (كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) رواه الترمذي (1) ، وإسناده صحيح.
وهذه ردة فعلية، وهي ترك الصلاة عمدا.
ومن ذلك: لو استهان بالمصحف الشريف وقعد عليه مستهينا به، أو لطخه بالنجاسة عمدا، أو وطأه بقدمه يستهين به، فإنه يرتد بذلك عن الإسلام.
ومن الردة الفعلية: كونه يطوف بالقبور يتقرب لأهلها بذلك، أو يصلي لهم أو للجن، وهذه ردة فعلية.
أما دعاؤه لهم والاستعانة بهم والنذر لهم: فردة قولية.
أما من طاف بالقبور، يقصد بذلك عبادة الله، فهو بدعة قادحة في الدين، ووسيلة من وسائل الشرك، ولا يكون ردة، إنما يكون بدعة قادحة في الدين إذا لم يقصد التقرب إليهم بذلك، وإنما فعل ذلك تقربا إلى الله سبحانه جهلا منه.
ومن الكفر الفعلي: كونه يذبح لغير الله، ويتقرب لغيره سبحانه بالذبائح، يذبح البعير أو الشاة أو الدجاجة أو البقرة لأصحاب القبور تقربا إليهم يعبدهم بها، أو للجن يعبدهم بها، أو للكواكب يتقرب
__________
(1) السنن (2624) .(8/16)
إليها بذلك، وهذا مما أهل به لغير الله، فيكون ميتة، ويكون كفرا أكبر، نسأل الله العافية من ذلك، هذه كلها من أنواع الردة والنواقض عن الإسلام الفعلية.
ومنها: الردة بالاعتقاد:
ومن أنواع الردة العقدية التي يعتقدها بقلبه وإن لم يتكلم بها ولم يفعل، بل بقلبه يعتقد: إذا اعتقد بقلبه أن الله جل وعلا فقير، أو أنه بخيل، أو أنه ظالم، ولو أنه ما تكلم، ولو لم يفعل شيئا، هذا كفر - بمجرد هذه العقيدة - بإجماع المسلمين.
أو اعتقد بقلبه أنه لا يوجد بعث ولا نشور، وأن كل ما جاء في هذا ليس له حقيقة، أو اعتقد بقلبه أنه لا يوجد جنة أو نار، ولا حياة أخرى، إذا اعتقد ذلك بقلبه ولو لم يتكلم بشيء، هذا كفر وردة عن الإسلام - نعوذ بالله من ذلك - وتكون أعماله باطلة، ويكون مصيره إلى النار بسبب هذه العقيدة.
وهكذا لو اعتقد بقلبه - ولو لم يتكلم - أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بصادق، أو أنه ليس بخاتم الأنبياء وأن بعده أنبياء، أو اعتقد أن مسيلمة الكذاب نبي صادق، فإنه يكون كافرا بهذه العقيدة.
أو اعتقد بقلبه أن نوحا، أو موسى، أو عيسى، أو غيرهم من الأنبياء عليهم السلام أنهم كاذبون أو أحدا منهم، هذا ردة عن الإسلام.
أو اعتقد أنه لا بأس أن يدعى مع الله غيره كالأنبياء أو غيرهم من الناس، أو الشمس والكواكب أو غيرها، إذا اعتقد بقلبه ذلك صار مرتدا عن الإسلام؛ لأن الله تعالى يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (1)
__________
(1) سورة الحج الآية 62(8/17)
وقال سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (3) وقال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (4) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فمن زعم أو اعتقد أنه يجوز أن يعبد مع الله غيره؛ من ملك، أو نبي، أو شجر، أو جن، أو غير ذلك فهو كافر، وإذا نطق وقال بلسانه ذلك صار كافرا بالقول والعقيدة جميعا، وإن فعل ذلك ودعا غير الله واستغاث بغير الله صار كافرا بالقول والعمل والعقيدة جميعا، نسأل الله العافية من ذلك.
ومما يدخل في هذا: ما يفعله عباد القبور اليوم في كثير من الأمصار من دعاء الأموات، والاستغاثة بهم، وطلب المدد منهم، فيقول بعضهم: يا سيدي، المدد المدد، يا سيدي، الغوث الغوث، أنا بجوارك، اشف مريضي، ورد غائبي، وأصلح قلبي.
يخاطبون الأموات الذين يسمونهم: الأولياء، ويسألونهم هذا السؤال، نسوا الله وأشركوا معه غيره - تعالى الله عن ذلك - فهذا كفر قولي وعقدي وفعلي.
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة الإسراء الآية 23
(4) سورة غافر الآية 14
(5) سورة الزمر الآية 65(8/18)
وبعضهم ينادي من مكان بعيد وفي أمصار متباعدة: يا رسول الله، انصرني. . . ونحو هذا، وبعضهم يقول عند قبره: يا رسول الله، اشف مريضي، يا رسول الله، المدد المدد، انصرنا على أعدائنا، أنت تعلم ما نحن فيه، انصرنا على أعدائنا.
والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب؛ إذ لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه، هذا من الشرك القولي والعملي، وإذا اعتقد مع ذلك أن هذا جائز، وأنه لا بأس به صار شركا قوليا وفعليا وعقديا، نسأل الله العافية من ذلك.
وهذا واقع في دول وبلدان كثيرة، وكان واقعا في هذه البلاد، كان واقعا في الرياض والدرعية قبل قيام دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقد كانت لهم آلهة في الرياض والدرعية وغيرهما، أشجار تعبد من دون الله، وأناس يقال: إنهم من الأولياء يعبدونهم مع الله، وقبور تعبد مع الله.
وكان قبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه موجودا في الجبيلة حيث قتل في حروب الردة أيام مسيلمة، كان قبره يعبد من دون الله حتى هدم ذلك القبر، ونسي اليوم والحمد لله، بأسباب دعوة الشيخ محمد، قدس الله روحه وجزاه عنا وعن المسلمين أفضل الجزاء.
وقد كان في نجد والحجاز من الشرك العظيم والاعتقادات الباطلة، ودعوة غير الله ما لا يعد ولا يحصى، فلما جاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، أي: قبل ما يزيد عن مائتي سنة، دعا إلى الله وأرشد الناس، فعاداه كثير من العلماء الجهلة وأهل الهوى، لكن الله أيده بعلماء الحق، وبآل سعود - رحم الله الجميع - فدعا إلى الله، وأرشد الناس إلى توحيد الله، وبين(8/19)
لهم: أن عبادة الجن والأحجار والأولياء والصالحين وغيرهم شرك من عمل الجاهلية، وأنها أعمال أبي جهل وأمثاله من كفار قريش في عبادتهم اللات، والعزى، ومناة، وعبادة القبور، هذه هي أعمالهم.
فبين - رحمه الله- للناس وهدى الله على يديه من هدى، ثم عمت الدعوة بلاد نجد والحجاز وبقية الجزيرة العربية، وانتشر فيها التوحيد والإيمان، وترك الناس الشرك بالله وعبادة القبور والأولياء بعد أن كانوا يعبدونها إلا من رحم الله، بل كان بعضهم يعبد أناسا مجانين لا عقول لهم، ويسمونهم: أولياء، وهذا من عظيم جهلهم الذي كانوا واقعين فيه.
ومنها: الردة بالشك:
عرضنا للردة التي تكون بالقول، والردة بالعمل، والردة بالعقيدة، أما الردة بالشك: فمثل الذي يقول: أنا لا أدري هل الله حق أم لا؟ أنا شاك. هذا كافر كفر شك، أو قال: أنا لا أعلم هل البعث حق أم لا؟ أو قال: أنا لا أدري هل الجنة والنار حق أم لا؟ أنا لا أدري، أنا شاك. فمثل هذا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرا لشكه فيما هو معلوم من الدين بالضرورة وبالنص والإجماع.
فالذي يشك في دينه ويقول: أنا لا أدري هل الله حق؟ أو هل الرسول حق؟ وهل هو صادق أم كاذب؟ أو قال: لا أدري هل هو خاتم النبيين؟ أو قال: لا أدري مسيلمة كاذب أم لا؟ أو قال: ما أدري هل الأسود العنسي - الذي ادعى النبوة في اليمن - كاذب أم لا؟ هذه الشكوك كلها ردة عن الإسلام، يستتاب صاحبها ويبين له الحق، فإن تاب وإلا قتل. ومثل لو قال: أشك في الصلاة هل هي واجبة أم لا؟ أو الزكاة هل هي واجبة أم لا؟ وصيام رمضان هل هو واجب أم لا؟ أو(8/20)
شك في الحج مع الاستطاعة هل هو واجب في العمر مرة أم لا؟ فهذه الشكوك كلها كفر أكبر يستتاب صاحبها، فإن تاب وآمن وإلا قتل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» رواه البخاري في الصحيح (1) .
فلا بد من الإيمان بأن هذه الأمور - أعني: الصلاة والزكاة والصيام والحج - كلها حق وواجبة على المسلمين بشروطها الشرعية.
هذا الذي تقدم هو القسم الأول من القوادح، وهو القسم الذي ينقض الإسلام ويبطله، ويكون صاحبه مرتدا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
أما النوع الثاني: فهو وجود القوادح دون الكفر، لكنها تضعف الإيمان وتنقصه، وتجعل صاحبها معرضا للنار وغضب الله، لكن لا يكون صاحبها كافرا.
وأمثلة ذلك كثيرة منها: الزنا إذا آمن أنه حرام ولم يستحله، بل يزني ويعلم أنه عاص، هذا لا يكون كافرا وإنما يكون عاصيا، لكن إيمانه ناقص. وهذه المعصية قدحت في عقيدته لكن دون الكفر. فلو اعتقد أن الزنا حلال صار بذلك كافرا.
وهكذا لو قال: السرقة حلال، أو ما أشبه ذلك، يكون كافرا؛ لأنه استحل ما حرم الله.
وكذلك الغيبة والنميمة وعقوق الوالدين وأكل الربا وأشباه ذلك، كل هذه من القوادح في العقيدة المضعفة للدين والإيمان.
وهكذا البدع، وهي أشد من المعاصي، فالبدع في الدين تضعف الإيمان، ولا تكون ردة ما لم يوجد فيها شرك.
__________
(1) صحيح البخاري (3017) .(8/21)
ومن أمثلة ذلك: بدعة البناء على القبور، كأن يبني على القبر مسجدا أو قبة، فهذه بدعة تقدح في الدين وتضعف الإيمان، لكن إذا بناها وهو لا يعتقد جواز الكفر بالله، ولم يقترن بذلك دعاء الميتين والاستغاثة بهم والنذر لهم، بل ظن أنه بفعله هذا يحترمهم ويقدرهم، فهذا العمل حينئذ ليس كفرا، بل بدعة قادحة في الدين تضعف الإيمان وتنقصه، ووسيلة إلى الشرك.
ومن أمثلة البدع: بدعة الاحتفال بالمولد النبوي؛ حيث يحتفل بعض الناس في الثاني عشر من ربيع الأول بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا العمل بدعة، لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا خلفاؤه الراشدون، ولم يفعلها أهل القرن الثاني ولا الثالث، بل هذه بدعة محدثة.
أو الاحتفال بمولد البدوي، أو عبد القادر الجيلاني، أو غيرهما، فالاحتفال بالموالد بدعة من البدع، ومنكر من المنكرات التي تقدح في العقيدة؛ لأن الله ما أنزل بها من سلطان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» رواه مسلم (1) ، وقال عليه الصلاة والسلام: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» متفق على صحته (2) ، أي: فهو مردود عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» خرجه مسلم في صحيحه، وقال: «إياكم
__________
(1) جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه (867) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(2) صحيح البخاري (2697) ، صحيح مسلم (1718) [17] ، واللفظ هنا لمسلم، وعند البخاري: ((ما ليس فيه)) .(8/22)
ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (1) » .
فالبدع من القوادح في الدين التي دون الكفر، إذا لم يكن فيها كفر، أما إذا كان في الاحتفال بالمولد دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به وطلبه النصر صار شركا بالله، وكذا دعاؤهم: يا رسول الله انصرنا، المدد المدد يا رسول الله.. الغوث الغوث، أو اعتقادهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب أو غيره، كاعتقاد بعض الشيعة في علي والحسن والحسين أنهم يعلمون الغيب، كل هذا شرك وردة عن الدين، سواء كان في المولد أو في غير المولد.
ومثل هذا قول بعض الرافضة: إن أئمتهم الاثني عشر يعلمون الغيب، وهذا كفر وضلال وردة عن الإسلام؛ لقوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (2)
أما إذا كان الاحتفال بمجرد قراءة السيرة النبوية، وذكر ما جرى في مولده وغزواته، فهذا بدعة في الدين تنقصه ولكن لا تنقضه.
ومن البدع: ما يعتقده بعض الجهال في شهر صفر من أنه لا يسافر فيه، فيتشاءمون به (3) ، وهذا جهل وضلال، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة (4) » متفق على صحته، وزاد مسلم: «ولا نوء ولا غول (5) » ؛ لأن اعتقاد العدوى والطيرة والتعلق
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده (4\126، 127) ، وأبو داود (4607) ، والترمذي (2676) ، وابن ماجه (42) ، والحاكم (1\95) وصححه من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.
(2) سورة النمل الآية 65
(3) انظر فتح الباري: (10\ 158، 159) .
(4) صحيح البخاري الطب (5753) ، صحيح مسلم السلام (2225) ، سنن ابن ماجه الطب (3540) .
(5) رواه البخاري في مواضع مختلفة في صحيحه، وبألفاظ عدة، منها (5774) كتاب الطب، باب (لا عدوى ولا طيرة) ، ورواه مسلم (2221) أيضا.(8/23)
بالأنواء أو الغول، كل هذه من أمور الجاهلية التي تقدح في الدين.
ومن زعم أن هناك عدوى فهذا باطل، ولكن الله جعل المخالطة لبعض المرضى قد تكون سببا لوجود المرض في الصحيح، ولكن لا تعدي بطبعها، ولما سمع بعض العرب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ... قال: يا رسول الله، الإبل تكون في الرمال كأنها الظباء، فإذا دخلها الأجرب أجربها؟ قال صلى الله عليه وسلم: فمن أعدى الأول؟ (1) » أي: من الذي أنزل الجرب في الأول؟ .
فالأمر بيد الله سبحانه وتعالى إذا شاء أجربها بسبب هذا الجرب، وإن شاء لم يجربها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا يوردن ممرض على مصح (2) » يعني: لا توردوا الإبل المريضة على الصحيحة، بل تكون هذه على حدة وهذه على حدة، وذلك من باب اتقاء الشر والبعد عن أسبابه، وإلا فالأمور بيد الله، لا يعدي شيء بطبعه، إنما هو بيد الله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (3) فالخلطة من أسباب وجود المرض فلا
__________
(1) رواه البخاري (5717، 5770، 5775) ، ومسلم (2220) [101، 102، 103] .
(2) رواه البخاري (5771) ، ومسلم (2221) ، والممرض: هو الذي له إبل مرضى، والمصح: من له إبل صحاح.
(3) سورة التوبة الآية 51(8/24)
تنبغي الخلطة، فالأجرب لا يخالط الصحيح، هكذا أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من باب الاتقاء والحذر من أسباب الشر، لكن ليس المعنى: أنه إذا خالط فإنه سيعدي، لا، قد يعدي وقد لا يعدي، والأمر بيد الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «فمن أعدى الأول؟ (1) » .
ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: «فر من المجذوم فرارك من الأسد (2) » والمقصود: أن تشاؤم أهل الجاهلية بالعدوى وبالتطير أو الهامة - وهي: روح الميت، يقولون: إنها تكون كأنها طائر حول قبره يتشاءمون بها - وهذا باطل لا أصل له، وروح الميت مرتهنة بعمله إما في الجنة أو النار.
والطيرة والتشاؤم بالمرئيات والسمعيات من عمل الجاهلية، حيث كانوا يتشاءمون إذا رأوا شيئا لا يناسبهم مثل الغراب، أو الحمار الأسود، أو مقطوع الذنب، أو ما أشبه ذلك، فيتشاءمون به، هذا من جهلهم وضلالهم، قال الله جل وعلا في الرد عليهم: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} (3) فالله بيده الضر والنفع، وبيده العطاء والمنع، والطيرة لا أصل لها، ولكنه شيء يجدونه في صدورهم ولا حقيقة له، بل هو شيء باطل، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لا طيرة (4) » .
ولذا يجب على المسلم إذا رأى ما يتشاءم به: ألا يرجع عن حاجته، فلو خرح ليسافر، وصادفه حمار غير مناسب أو رجل غير مناسب أو ما أشبه ذلك، فلا يرجع، بل يمضي في حاجته ويتوكل
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5717) ، صحيح مسلم السلام (2220) ، سنن أبو داود الطب (3911) ، مسند أحمد بن حنبل (2/434) .
(2) رواه البخاري في صحيحه (3707) تعليقا، ورواه أحمد في مسنده 2\443، وذكر الحافظ ابن حجر في شرحه (فتح الباري) (10\158) : أن أبا نعيم وصله من طريق أبي داود الطيالسي، وسنده صحيح، وذكر أيضا أن ابن خزيمة وصله كذلك، وقال البغوي بعد أن أورده في شرح السنة (3247)
(3) سورة الأعراف الآية 131
(4) صحيح البخاري الطب (5754) ، صحيح مسلم السلام (2223) ، سنن ابن ماجه الطب (3536) ، مسند أحمد بن حنبل (2/267) .(8/25)
على الله، فإن رجع فهذه هي الطيرة، والطيرة قادحة في العقيدة ولكنها دون الشرك الأكبر، بل هي من الشرك الأصغر.
وهكذا سائر البدع، كلها من القوادح في العقيدة، لكنها دون الكفر، إن لم يصاحبها كفر.
فهذه البدع مثل: بدعة الموالد، والبناء على القبور، واتخاذ المساجد عليها، ومثل صلاة الرغائب هذه كلها بدع، والاحتفال بليلة الإسراء والمعراج التي يحددونها بسبع وعشرين من رجب، هذه بدعة ليس لها أصل، وبعض الناس يحتفل بليلة النصف من شعبان ويعمل فيها أعمالا يتقرب بها، وربما أحيا ليلها أو صام نهارها يزعم أن هذا قربة، فهذا لا أصل له، والأحاديث فيه غير صحيحة، بل هو من البدع.
والجامع في هذا: أن كل شيء من العبادات يحدثه الناس ولم يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفعله ولم يقره فهو بدعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » ، وقال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » وكان يقول في خطبة الجمعة: «وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (3) » ، يحذر الناس من البدع ويدعوهم إلى لزوم السنة صلى الله عليه وسلم.
فالواجب على أهل الإسلام أن يلزموا الإسلام ويستقيموا عليه، وفي هذا كفايتهم وكمالهم، فليسوا بحاجة إلى بدع، يقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (4)
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه (867) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(4) سورة المائدة الآية 3(8/26)
فالله أكمل الدين وأتمه بحمده وفضله، فليس الناس بحاجة إلى بدع يأتون بها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ (1) » .
فليس الناس بحاجة إلى بدع زيد وعمرو، بل يجب التمسك بما شرعه الله، والسير على منهج الله، والوقوف عند حدوده، وترك ما أحدثه الناس، كما قال الله سبحانه وتعالى ذما للبدع وأهلها: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (2)
وفق الله الجميع لما فيه الخير، وأصلح أحوال المسلمين، ووفقهم للفقه في دينه، وجنبهم أسباب الزيغ والضلال والانحراف، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) رواه أبو داود (4607) ، والترمذي (2678) ، وابن ماجه (42، 43، 44) .
(2) سورة الشورى الآية 21(8/27)
أخطاء في العقيدة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من المسلمين
وفقهم الله لما فيه رضاه وزادهم من العلم والإيمان، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
بلغني أن كثيرا من الناس يقع في أخطاء كثيرة في العقيدة، وفي أشياء يظنونها سنة وهي بدعة، ومن ذلك إنكار علو الله واستوائه على عرشه، ومعلوم أن الله سبحانه بين ذلك في كتابه الكريم حيث قال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) الآية، ذكر ذلك سبحانه في سبع آيات من كتابه العظيم منها هذه الآية، ولما سئل مالك عن ذلك رحمه الله قال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب) ، وهكذا قال غيره من أئمة السلف.
ومعنى الاستواء معلوم، يعني: من جهة اللغة العربية: وهو العلو والارتفاع، وقال سبحانه: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (2) وقال سبحانه: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (3) وقال عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (4) في آيات كثيرة كلها تدل على: علوه وفوقيته، وأنه سبحانه فوق العرش فوق جميع الخلق، وهذا قول أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 54
(2) سورة غافر الآية 12
(3) سورة البقرة الآية 255
(4) سورة فاطر الآية 10(8/28)
فالواجب اعتقاد ذلك، والتواصي به، وتحذير الناس من خلافه.
ومن ذلك: اتخاذ المساجد على القبور والصلاة عندها وجعل القباب عليها، وهذا كله من وسائل الشرك، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى على ذلك، وحذر منه فقال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » متفق على صحته، وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ إني أنهاكم عن ذلك (2) » أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جندب، وخرج مسلم في صحيحه أيضا عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه (3) » . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على المسلمين الحذر من ذلك، والتواصي بتركه؛ لتحذير النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، ولأن ذلك من وسائل الشرك بأصحاب القبور ودعائهم والاستغاثة بهم وطلبهم النصر. . إلى غير ذلك من أنواع الشرك.
ومعلوم أن الشرك هو أعظم الذنوب وأكبرها وأخطرها، فالواجب: الحذر منه، ومن وسائله وذرائعه، وقد حذر الله عباده من ذلك في آيات كثيرات، منها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (4) ومنها قوله سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5) ومنها قوله عز وجل: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (6) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (529) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .
(3) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .
(4) سورة النساء الآية 48
(5) سورة الزمر الآية 65
(6) سورة الأنعام الآية 88(8/29)
ومن أنواع الشرك الأكبر: دعاء الأموات والغائبين والجن والأصنام والأشجار والنجوم، والاستغاثة بهم، وسؤالهم شفاء المرضى والنصر على الأعداء. وهذا هو دين المشركين الأولين من كفار قريش وغيرهم، كما قال الله سبحانه عنهم: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (1) الآية، وقال سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (2) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (3)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل على أن المشركين الأولين يعلمون أن الله هو الخالق الرازق النافع الضار، وإنما عبدوا آلهتهم ليشفعوا لهم عند الله، ويقربوهم لديه زلفى، فكفرهم سبحانه بذلك، وحكم بكفرهم وشركهم، وأمر نبيه بقتالهم حتى تكون العبادة لله وحده، كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (4) الآية.
وقد كتب العلماء في ذلك كتبا كثيرة، وأوضحوا فيها حقيقة الإسلام الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، وبينوا فيها دين الجاهلية وعقائدهم وأعمالهم المخالفة لشرع الله، كعبد الله بن الإمام أحمد، والإمام الكبير: محمد بن خزيمة في (كتاب التوحيد) ، ومحمد بن وضاح، وغيرهم من الأئمة. ومن أحسن ما كتب في ذلك ما كتبه
__________
(1) سورة يونس الآية 18
(2) سورة الزمر الآية 2
(3) سورة الزمر الآية 3
(4) سورة الأنفال الآية 39(8/30)
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتبه الكثيرة، ومن أخصرها كتابه (القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة) ، ومن ذلك ما كتبه الشيخ: عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله في كتابه (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) .
ومن الأعمال المنكرة الشركية: الحلف بغير الله؛ كالحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بغيره من الناس، والحلف بالأمانة، وكل ذلك من المنكرات ومن المحرمات الشركية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حلف بشيء دون الله فقد أشرك (1) » خرجه الإمام أحمد رحمه الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإسناد صحيح، وأخرج أبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (2) » ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف بالأمانة فليس منا (3) » . والأحاديث في ذلك كثيرة.
والحلف بغير الله من الشرك الأصغر عند أهل العلم، فالواجب: الحذر منه، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر، وهكذا قول: ما شاء الله وشاء فلان، ولولا الله وفلان، وهذا من الله ومن فلان، والواجب: أن يقال: ما شاء الله ثم شاء فلان، أو لولا الله ثم فلان، أو هذا من الله ثم من فلان؛ لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقولوا: ماشاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان (4) » .
ومن المحرمات الشركية التي قد وقع فيها كثير من الناس: تعليق التمائم والحروز من العظام أو الودع أو غير ذلك، وتسمى: التمائم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له، ومن تعلق تميمة فقد أشرك (5) » وقال صلى الله عليه وسلم: «إن
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/47) .
(2) سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) .
(3) سنن أبو داود الأيمان والنذور (3253) ، مسند أحمد بن حنبل (5/352) .
(4) سنن أبو داود الأدب (4980) ، مسند أحمد بن حنبل (5/399) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (4/154) .(8/31)
الرقى والتمائم والتولة شرك (1) » . وهذه الأحاديث تعم الحروز والتمائم من القرآن وغيره؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستثن شيئا، ولأن تعليق التمائم من القرآن وسيلة إلى تعليق غيرها، فوجب منع الجميع؛ سدا لذرائع الشرك، وتحقيقا للتوحيد، وعملا بعموم الأحاديث، إلا الرقى فإن الرسول صلى الله عليه وسلم استثنى منها ما ليس فيه شرك، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (2) » . وقد رقى صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فالرقى لا بأس بها، فهي من الأسباب الشرعية إذا كانت من القرآن الكريم أو مما صحت به السنة أو من الكلمات الواضحة التي ليس بها شرك ولا لفظ منكر.
ومن المنكرات المبتدعة: الاحتفال بالموالد سواء كان ذلك بمولد النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا بقية الصحابة رضي الله عنهم، ولا أتباعهم بإحسان في القرون الثلاثة المفضلة، وإنما حدث في القرن الرابع وما بعده؛ بسبب الفاطميين وغيرهم من الشيعة، ثم فعله بعض أهل السنة؛ جهلا بالأحكام الشرعية، وتقليدا لمن فعله من أهل البدع، فالواجب: الحذر من ذلك؛ لكونه من البدع المنكرة الداخلة في قوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (3) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (4) » متفق على صحته من حديث عائشة رضي الله عنها، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (5) » خرجه مسلم في صحيحه، وقوله صلى الله عليه وسلم في خطبه: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (6) » خرجه مسلم في صحيحه،
__________
(1) سنن أبو داود الطب (3883) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) .
(2) صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبو داود الطب (3886) .
(3) سنن أبو داود السنة (4607) .
(4) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(5) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(6) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .(8/32)
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
ولأن الاحتفال بالموالد من وسائل الغلو والشرك، فالواجب الحذر منها، والتحذير منها، والتواصي بالاستقامة على السنة وترك ما خالفها.
والله المسئول أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين لما فيه رضاه، وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يعيذنا وجميع المسلمين من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/33)
حوار مع سماحة الشيخ في أمور تتعلق بالحياة الشخصية
والأمة الإسلامية أجرته معه مجلة المجلة (1)
أدلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء بأحاديث صحفية، تركزت على نفسه، أو على عائلته، وأشار فيه إلى أمور هي مثار جدل في العالم الإسلامي.
وفيما يلي نص الحديث:
س1: متى انتقلت عائلة الباز إلى الرياض؟
ج1: عائلتي وجماعتي أصلهم من الرياض، أي: أن الآباء والأمهات والأجداد في الرياض، وطائفة منهم في الحوطة، وطائفة في الأحساء، وطائفة في الحجاز، وكلهم يرجعون لنفس العائلة، وهناك ناس يقال لهم: آل باز في الأردن وفي مصر وفي بلاد العجم ولا نعرف عنهم شيئا، ولكن بعضهم يدعي أنه من أهل البيت، وهم الموجودون في الأردن.
س2: لأن وقتك للناس وليس لك، فهل تلتقي بأبنائك وأحفادك كثيرا؟
ج2: ألتقي بهم بين وقت وآخر، قد رتبت لهم بعض الليالي من الشهر لقراءة القرآن والسؤال عما يشكل عليهم، ولكن قد تحصل عوارض تخل بالموعد، لقد رتبنا لهم ليلتين في الشهر، ليلة للإناث وليلة للذكور، إلا أنه قد تحصل بعض الأشياء التي تعوق عن التنفيذ في بعض الأحيان.
__________
(1) أجرى الحوار مندوب مجلة المجلة، ونشر في عددها رقم (806) الصادر بتاريخ 23 \ 2 \ 1416 هـ.(8/34)
س3: هل اخترت لأبنائك طريق الدراسة أم تركت لهم الحرية في اختيار ما يشاؤون في تحصيل العلم؟
ج3: نشير عليهم بما نرى، وقد تقبل الإشارة، وقد يختار الفرد منهم شيئا آخر، نشير عليهم بكلية الشريعة دائما، وبعضهم قد يختار كلية أخرى.
س4: أي المدن تحب السكنى فيها؟ أي تشعر فيها بالارتياح؟
ج4: الحمد لله كل مدن المملكة طيبة، لكن أحبها إلينا مكة، ثم المدينة، ثم الرياض، هذه أحسن ما في المملكة.
س5: وهل ترى بوجود حد لتعليم البنات؟
ج5: لا، ليس هناك حد، بل يتعلمن حتى أعلى المراحل ليستفدن ويفدن.
س6: قبل سنة 1357 هجرية، وقبل توليكم القضاء في الخرج ماذا كنتم تعملون؟
ج6: في طلب العلم في الرياض.
س7: إذا جاز لك أن تسمي شيخا لك فمن هو شيخك؟
ج7: أفضلهم وأعلمهم الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله هو شيخنا، وهو الذي علمنا وتخرجنا على يديه، وهو أعلمهم وأفضلهم، وقرأنا على غيره من المشايخ من آل الشيخ وغيرهم، مثل: الشيخ صالح بن عبد العزيز قاضي الرياض، والشيخ: محمد بن عبد اللطيف رحمه الله. من المدرسين في الرياض، وقرأنا على الشيخ: سعد بن حمد بن عتيق القاضي في الرياض رحمه الله، وقرأنا على الشيخ: سعد وقاص التجويد في مكة، رحمه الله.(8/35)
س8: هل يحفظ سماحتكم شيئا من الشعر؟ ألاحظ أحيانا بعض الفتاوى فيها استشهادات من الشعر.
ج8: لا أعتني بالشعر، هي أشياء قد تأتي. لكن ليس لي عناية بالشعر.
س9: هل هناك فتاوى معينة أصدرتها في فترات سابقة ثم تراجعت عنها بعدما تبين لك مزيد من الأدلة؟
ج9: لا أتذكر شيئا، ربما يكون هناك، لكن لا أتذكر.
س10: وهل تذكرون أول فتوى في حياتكم؟
ج10: لا نتذكر شيئا، نفتي منذ أكثر من خمسين أو ستين سنة، نسأل الله حسن الخاتمة.
س11: حينما كنت قاضيا في الخرج سنة 1357 هـ ذاع صيتك بين طلبة العلم وقصدوك، ما هي الأسباب التي أدت إلى ذلك؟
ج11: لأنني رتبت الدروس للطلبة في كتب العقيدة، وكتب الحديث الشريف، وكتب الفقه، وكتب النحو، ورتبنا لهم مساعدات شهرية على حساب المحسنين، فاجتمع جمع غفير من داخل المملكة وخارجها في العقد السابع من القرن الرابع عشر ونحن في الخرج والدلم، ثم انتقلنا للرياض، وصارت الدروس في الرياض، ثم انتقلنا إلى المدينة وصارت الدروس في المدينة في المسجد النبوي.
س12: كيف ترون الآن الاختلافات بين القضاء في تلك الفترة والقضاء في هذه الأيام؟
ج12: أهل القضاء أعلم بهذا، الله يعينهم، ونسأل الله لهم العون والتوفيق، لكن لا شك أن الأمر أشد الآن؛ لتغير أحوال الناس، وكثرة الجهل، وكثرة الحيل والمكر، كل هذا يسبب شدة في القضاء وتعبا(8/36)
على القاضي، نسأل الله لهم العون والتوفيق.
س13: تعلمون كثرة القضايا والمشاكل بين الناس، من ازدحام المدن ونموها، فهل تؤيدون استخدام الحاسب الآلي لحفظ القضايا والصكوك بدلا من تعرضها للتلف والضياع؟
ج13: على كل حال استعمال الحاسب الآلي مفيد للقضاة وفي القضايا، لكن الصكوك التي درج عليها الأولون كافية، وإذا أعطوا الخصم صكا بحقه الذي له سوف يحفظه، لكن الحاسب الآلي قد يضيع الصك أو ما شابه ذلك، إلا أنهم قد ينتفعون بالحاسب الآلي.
س14: كثير من الناس يعجزون عن تبيان حجتهم أو استجماع أدلتهم، فهل تؤيدون نظام المرافعات؟
ج14: هذا ممكن الاستغناء عنه بالوكيل، والذي عنده عجز في الدعوى يمكن أن يوكل من هو خير منه وأقوى منه.
س15: سماحتكم توليتم القضاء في سن مبكرة، في سن السابعة والعشرين تقريبا، أليست هذه سنا مبكرة لتولي القضاء؟
ج15: تولى القضاء قبلي من هم أقل مني سنا.
س16: سماحتكم تنقلتم بين القضاء والتعليم والإفتاء ورئاسة هيئة البحوث، أي من هذه الأماكن وجدتم فيها دورا أفضل لكم؟
ج16: لا أستطيع أن أحكم على شيء في هذا،. كلها بحمد الله خير، وكلها بحمد الله فعلنا فيها ما نستطيع من الخير، وبذلنا فيها ما نفدر عليه من الخير، ونسأل الله أن يتقبل الأعمال، وأن يعفو عن السيئات والتقصير، ونسأل الله أن يتقبل منا ومنكم ما قدمنا من خير، وأن يعفو عن السيئات والزلل.(8/37)
س17: لا شك أنه تصلكم أخبار عن أناس خارج البلاد يتهمون سماحتكم بالتعصب، فما ردكم على مثل هؤلاء؟ بمعنى: أنهم يقولون: هذه الدولة وهابية، وأن الشيخ ابن باز متعصب، بماذا ترد على هؤلاء؟
ج17: لا أعلم أنه وردني في هذا شيء لكن لا يستبعد، وقد رمي الأنبياء بأكبر من هذا، رمي الأنبياء والسلف الصالح من أعداء الله ومن الجهال، وأنا والحمد لله لست بمتعصب، ولكن أحكم الكتاب والسنة، وأبني فتاواي على ما قاله الله ورسوله، لا على تقليد الحنابلة ولا غيرهم، الفتاوى التي تصدر مني إنما أبنيها على الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة حسب ما ظهر لي، وهذا هو الذي سرت عليه منذ عرفت العلم، منذ أن كنت في الرياض قبل القضاء وبعد القضاء، وكذلك في المدينة، وما بعد المدينة، وإلى الآن والحمد لله.
س18: سماحتكم أميل للحديث في الدراسة؟
ج18: (مقاطعا) لا بد من الحديث، الحديث سمعناه مع القرآن، وكما قال الله جل وعلا: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) فالرد إلى الله الرد إلى القرآن، والرد إلى الرسول الرد إليه في الحياة وإلى السنة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فلا علم ولا فتوى إلا عن طريق القرآن والحديث، هذا هو العلم، أما التقليد فليس بعلم.
س19: ولا تميل إلى كتب الفقه كثيرا؟
ج19: نطلع عليها ونستفيد منها، نستفيد من كتب العلم، كتب الفقهاء نقرؤها ونستفيد منها، ولا سيما كتب الخلاف، والكتب التي تقيم الأدلة، نعتمد على الله ثم عليها في أخذ العلم؛ لأنها تأتي
__________
(1) سورة النساء الآية 59(8/38)
بالأدلة من القرآن والسنة وترجح.
س20: تحفظون عن ظهر قلب عددا من أمهات الكتب؟
ج20: لا، لا أحفظها، قرأنا الكثير ولكن لا أحفظ منها الشيء الكثير، قرأنا البخاري ومسلم مرات، قرأنا سنن النسائي وأكملناها، وسنن أبي داود وما أكملناها، قرأنا سنن الترمذي وأكملناها، قرأنا سنن ابن ماجه لكن ما أكملناها، قرأنا جملة كبيرة من مسند الإمام أحمد، والدارمي، وصحيح ابن خزيمة، نسأل الله أن يتقبل وينفع بالأسباب.
س21: سمعنا أنكم تعرضتم لمحاولة اغتيال منذ سنوات؟
ج21: لا صحة لهذا.
س22: ترد عليكم كثير من القضايا المستجدة، خاصة بعض المسائل العلمية، فهل هناك أشخاص معينون تلتقون بهم وتستأنسون برأيهم؟
ج22: عندنا اللجنة الدائمة وأنا رئيسها منذ عام 1395 هجرية إلى الآن، ولها إحدى وعشرون سنة، وهي لجنة الإفتاء في دار الإفتاء، نتشاور وإياهم في القضايا التي ترد، ونصدر الفتوى إما جميعا أو بالأكثرية تارة وتارة، وتارة تكون الفتوى مني وحدي.
س23: لكن إذا وردت مسألة تتعلق باختراع جديد أو مسألة طبية؟
ج23: ندرسها جميعا ونستعين بأهل الخبرة فيها.
س24: شيخ عبد العزيز، في فتاويكم توجد أحيانا لغة مختلفة، فهل تكتب بعض الفتاوى أو النصائح قبلا ثم تصادق عليها، أم أنك تمليها جميعا إملاء؟
ج24: نمليها كلها إملاء، ثم تقرأ علينا جميعا لنصادق عليها.
س25: يلاحظ في هذه الفترة أن بعض طلبة العلم يتطاولون(8/39)
على كبار المشايخ إذا لم يقولوا ما يتفق مع أهوائهم أو رغباتهم أو معتقداتهم، ما رأيك؟
ج25: نسأل الله لنا ولهم الهداية، والواجب على أهل العلم وعلى غيرهم الحذر من الغيبة، واحترام أعراض المسلمين، والحذر من النميمة، كل هذه يجب الحذر منها، فالغيبة والنميمة من أقبح الخصال، فالواجب على المسلم: الحذر منهما جميعا، فالغيبة: ذكرك أخاك بما يكره، والنميمة: نقل الكلام السيئ من قوم إلى قوم، أو من شخص إلى شخص؛ لأن هذا يثير العداوة والشحناء، والواجب على كل مسلم أن يحذر الغيبة والنميمة، وأن يحترم أعراض المسلمين ولا سيما أهل العلم، يحترم أعراضهم، ويحذر من الكلام في أعراضهم، وأما من أظهر المنكر أو البدعة فلا غيبة له فيما أظهر وبين.
س26: زراعة الأعضاء البشرية تسهم في إنقاذ حياة الكثيرين من الناس، ما رأيكم فيها؟
ج26: عندي فيها توقف؛ لأن المسلم محترم، وتقطيع أعضائه فيه ضرر، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «كسر عظم الميت ككسره حيا (1) » ، فأنا عندي توقف في شرائها وفي التبرع بها.
س27: توقف وليس تحريما؟
ج27: نعم، لي توقف فيها، بعض أهل العلم أجازوا ذلك؛ للمصلحة، ولأنها تكون ترابا بعد الدفن، والبعض منهم توقفوا في ذلك، وأنا من المتوقفين في جواز هذا الأمر.
س28: سماحة الشيخ، حركة (الإخوان المسلمين) دخلت المملكة منذ فترة وأصبح لها نشاط واضح بين طلبة العلم، ما
__________
(1) سنن أبو داود الجنائز (3207) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616) ، مسند أحمد بن حنبل (6/105) .(8/40)
رأيكم في هذه الحركة؟ وما مدى توافقها مع منهج السنة والجماعة؟
ج28: حركة الإخوان المسلمين ينتقدها خواص أهل العلم؛ لأنه ليس عندهم نشاط في الدعوة إلى توحيد الله وإنكار الشرك وإنكار البدع، لهم أساليب خاصة ينقصها عدم النشاط في الدعوة إلى الله، وعدم التوجيه إلى العقيدة الصحيحة التي عليها أهل السنة والجماعة.
فينبغي للإخوان المسلمين أن تكون عندهم عناية بالدعوة السلفية، الدعوة إلى توحيد الله، وإنكار عبادة القبور والتعلق بالأموات والاستغاثة بأهل القبور كالحسين أو الحسن أو البدوي، أو ما أشبه ذلك، يجب أن يكون عندهم عناية بهذا الأصل الأصيل بمعنى لا إله إلا الله، التي هي أصل الدين، وأول ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم في مكة دعا إلى توحيد الله، إلى معنى لا إله إلا الله، فكثير من أهل العلم ينتقدون على الإخوان المسلمين هذا الأمر، أي: عدم النشاط في الدعوة إلى توحيد الله، والإخلاص له، وإنكار ما أحدثه الجهال من التعلق بالأموات والاستغاثة بهم، والنذر لهم والذبح لهم، الذي هو الشرك الأكبر، وكذلك ينتقدون عليهم عدم العناية بالسنة: تتبع السنة، والعناية بالحديث الشريف، وما كان عليه سلف الأمة في أحكامهم الشرعية، وهناك أشياء كثيرة أسمع الكثير من الإخوان ينتقدونهم فيها، ونسأل الله أن يوفقهم ويعينهم ويصلح أحوالهم.
س29: تعرفون سماحتكم أن كثيرا من المؤلفات المدرسية ساهم في تأليفها عدد من الإخوان المسلمين منذ الستينات، فهل يتوجب إعادة طباعة ودراسة هذه المؤلفات المدرسية؟
ج29: لا أعرف عنها شيئا، ولأنني مشغول لم أقرأها، أسمع(8/41)
عن دعوة الإخوان المسلمين، وعدم نشاطهم فيما يتعلق بالعقيدة، ولكني لم أقرأ قراءة كافية في كتبهم وما جمعوا، لا من جهة الشيخ حسن - يرحمه الله - ولا غيره.
س30: ما رأيكم في الحوار الإسلامي المسيحي الآن؟
ج30: إذا دعت له الحاجة فلا مانع منه، إذا كان المحاور عنده علم وبصيرة بالكتاب والسنة فلا مانع من الحوار؛ لإظهار الحق والدعوة إليه وكشف الباطل.
س31: إلى أي حد تعتقد أن التسامح يمكن أن يحكم العلاقات الإسلامية والدول الإسلامية بعضها مع بعض؟
ج31: التسامح يجب أن يكون مقيدا بالكتاب والسنة، أي: التسامح فيما أباحه الشرع.
والواجب على ولاة الأمور في الدول العربية والإسلامية التناصح، وأن يحكموا شريعه الله في عباد الله، وأن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن لا يتساهلوا فيما شرعه الله، بل يجب عليهم أن يحكموا شرع الله، وأن ينقادوا لشرع الله، وأن يلزموا شعوبهم بشرع الله، وهذا هو طريق النجاة وطريق العزة والنصر وطريق جمع الكلمة، أما التسامح فيما سوى ذلك، كالتسامح في الديون التي على بعضهم للبعض أو مساعدة بعضهم لبعض، أو ما أشبهه من الأمور التي يجيزها الشرع فلا بأس.(8/42)
العقيدة التي أدين الله بها
سماحة مفتي عام المملكة
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
حفظه الله ورعاه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد: فما هي عقيدتكم التي تدينون الله بها في أسماء الله وصفاته، وبخاصة في إثبات صفة العلو لربنا تبارك وتعالى - باختصار - بارك الله فيكم وفي علمكم؟
مقدمه ابنكم: ع. ص. ب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعده:
عقيدتي التي أدين الله بها وأسأله سبحانه أن يتوفاني عليها هي: الإيمان بأنه سبحانه هو الإله الحق المستحق للعبادة، وأنه سبحانه فوق العرش قد استوى عليه استواء يليق بجلاله وعظمته بلا كيف، وأنه سبحانه يوصف بالعلو فوق جميع الخلق، كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وقال عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2) الآية، وقال عز وجل في آخر آية الكرسي: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (3) وقال عز وجل: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (4) وقال سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (5)
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة الأعراف الآية 54
(3) سورة البقرة الآية 255
(4) سورة غافر الآية 12
(5) سورة فاطر الآية 10(8/43)
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأؤمن بأنه سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلى، كما قال عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1)
والواجب على جميع المسلمين هو الإيمان بأسمائه وصفاته الواردة في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة، وإثباتها له سبحانه على الوجه اللائق بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) وقال عز وجل: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3) وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (4) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (5) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (6) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (7) وهي توقيفية لا يجوز إثبات شيء منها لله إلا بنص من القرآن أو من السنة الصحيحة؛ لأنه سبحانه أعلم بنفسه وأعلم بما يليق به، ورسوله صلى الله عليه وسلم هو أعلم به، وهو المبلغ عنه، ولا ينطق عن الهوى، كما قال الله سبحانه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (8) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (9) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (10) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (11)
وأؤمن بأن القرآن كلامه عز وجل وليس بمخلوق، وهذا قول أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، وأؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله من أمر الجنة والنار والحساب والجزاء،
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) سورة النحل الآية 74
(4) سورة الإخلاص الآية 1
(5) سورة الإخلاص الآية 2
(6) سورة الإخلاص الآية 3
(7) سورة الإخلاص الآية 4
(8) سورة النجم الآية 1
(9) سورة النجم الآية 2
(10) سورة النجم الآية 3
(11) سورة النجم الآية 4(8/44)
وغير ذلك مما كان وما سيكون، مما دل عليه القرآن الكريم، أو جاءت به السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والله المسئول أن يثبتنا وإياكم على دينه، وأن يعيذنا وسائر المسلمين من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يوفق ولاة أمرهم ويصلح قادتهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/45)
توجيهات للأئمة والدعاة ورجال الحسبة
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوة في الله سبحانه وتعالى؛ من خطباء المساجد، وأئمة المساجد، ورجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجماعة من الدعاة إلى الله عز وجل، وجماعة من إخواننا أيضا ممن يحب الخير ويحب أن يسمع الموعظة، وهذه من نعم الله أشكر الله عليها، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ومن مضلات الفتن، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا في كل مكان، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم.
ثم لقد سمعت هذه الكلمات الطيبة التي تفضل بها أصحاب الفضيلة: الشيخ حسن الحجاجي مدير عام فرع وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بمنطقة مكة المكرمة، والشيخ عبد الرحمن السديس إمام وخطيب المسجد الحرام، والشيخ أحمد بن موسى السهلي رئيس الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمحافظة الطائف، والشيخ فراج بن علي العقلا مدير عام فرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة مكة المكرمة.
كلها كلمات بحمد الله جيدة ومفيدة، وأنا أؤيد ما فيها، وجميع(8/46)
ما ذكره المشايخ الأربعة كلمات مفيدة - والحمد لله - وواقعة في محلها، وأنا أؤيد جميع ما ذكره المشايخ، وخاصة ما ذكره الشيخ حسن الحجاجي.
لا شك أن الواجب على الوزارة وفقها الله وإدارة الشئون الإسلامية، الواجب عليهما العناية بالمساجد والأئمة والخطباء وأوقاف المسلمين في هذه المملكة، لا شك أن الواجب عليهما عظيم، ونسأل الله أن يزيدهما من التوفيق، ونسأل الله أن يكثر أعوانهما في الخير. الواجب عظيم والحاجة ماسة إلى مضاعفة الجهود فيما يتعلق بالدعاة وتكثيرهم، وتوصيتهم، وتحريضهم على القيام بالواجب في تبليغ دعوة الله إلى عباد الله في المساجد، والجوامع، والسجون، وفي غير ذلك.
الدعاة إلى الله جل وعلا عليهم أن يحرصوا على بذل الدعوة حيث أمكن ذلك؛ في المسجد، وفي المدرسة، وفي السجن، وفي أي مكان يتيسر لهم، وأن يعتنوا بهذا الأمر في الحاضرة والبادية، وفي الباخرة، وفي السيارة، وفي الطائرة، أينما كانوا، الدعاة لهم شأن عظيم، هم خلفاء الرسل، وهكذا جميع علماء الشريعة، والدعاة من خواص العلماء، والله بعث الرسل ليدعو إلى الحق ويبشروا وينذروا، وعلى رأسهم إمامهم وخاتمهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
فالواجب على العلماء وفقهم الله، وعلى الدعاة بوجه خاص، وعلى القضاة - الواجب على الجميع أن يتقوا الله، وأن يبلغوا دعوة الله حسب الطاقة والإمكان كما قال الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1)
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(8/47)
وقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) فعلى الداعي أينما كان والقاضي أينما كان وعلى كل من لديه علم، أن يتقي الله ويبلغ حسب طاقته وحسب علمه، والواجب أن يحذر أن يدعو إلى الله بغير علم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (2)
الواجب على كل داعية وعالم وقاض ومرشد - الواجب عليهم أن يتقوا الله، وأن لا يقولوا بغير علم، ولا يتكلموا إلا عن بصيرة وعن علم؛ حتى لا يضلوا الناس، وحتى يبلغوا الناس دعوة الله وأحكام الله على بصيرة، وأن يصبروا على الأذى في ذلك.
الواجب على الداعي إلى الله أن يتأدب بالآداب الشرعية التي قال فيها سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) فالحكمة: هي العلم بما قال الله عز وجل، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، مع وضع الأمور في مواضعها، فيتحرى ويضع الأمور في محلها والكلمة في محلها مع ذكر الدليل، قال الله عز وجل، قال الرسول صلى الله عليه وسلم، مع الترغيب والترهيب عند الحاجة.
هكذا الداعي إلى الله، وهكذا العالم في دروسه وفي دعوته إلى الله عز وجل، وإن كان غير معين من جهة ولاة الأمور للدعوة، لكنه مأمور من جهة الله؛ ليعالج الأمور بالدعوة إلى الله، سواء كان معينا من جهة ولاة الأمور أم لا.
والواجب على العلماء أن يقوموا بهذه المهمة، هذه مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهي مهمة العلماء أيضا، فالواجب على الجميع أن يدعو إلى الله، وأن يبشروا الناس وينذروهم بالحكمة والرفق، وبالتي هي أحسن، لا بالعنف والشدة، ولا بالتشهير بأحد، قال فلان: كذا، أو فعل فلان كذا، فالمقصود: بيان الحق والدعوة
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة النحل الآية 125(8/48)
إلى الحق، الدعوة إلى الالتزام بما شرع الله وبما أوجب الله، والحذر مما حرم الله ومما وقع في الناس من الشر، فعلى الداعي إلى الله أن يحذر من الشر من دون بيان أنه فعل فلان كذا، وفعل فلان كذا، أو فعلت الدولة كذا، الواجب بيان المنكر والتحذير منه، وبيان الواجب والدعوة إليه، والدعاء لولاة الأمور وللمسلمين جميعا بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل مع الرفق في كل شيء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يكون الرفق في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه (1) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (2) » . والأصل في هذا: قوله جل وعلا: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (3) وقال الله جل وعلا لموسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (4)
فالواجب على الدعاة الصبر والاحتساب، وتحري الحق، والعناية بالأدلة الشرعية والألفاظ الحسنة في دعوتهم، والرفق بالناس مهما أمكن إلا الظالم؛ فإن الظالم له شأن آخر، كما قال الله جل وعلا: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (5)
فالظالم له شأن آخر يعامل بما يقتضيه ظلمه وردعه عن ظلمه، لكن في الجملة: الداعي إلى الله يتحرى الكلمات الطيبة، ويتحرى الدعوة بالحكمة، والكلام الطيب، والترغيب والترهيب، ويتجنب كل شيء يسبب الفرقة والاختلاف، ويسبب أيضا الوحشة بينه وبين الإخوان.
الواجب على الداعي وعلى العالم أن يتحرى الألفاظ المناسبة،
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/171) .
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2592) ، سنن أبو داود الأدب (4809) ، سنن ابن ماجه الأدب (3687) ، مسند أحمد بن حنبل (4/366) .
(3) سورة آل عمران الآية 159
(4) سورة طه الآية 44
(5) سورة العنكبوت الآية 46(8/49)
وأن يرفق في أمره كله، وأن يحرص على الإخلاص لله بأن يكون هدفه إيصال دعوة الله إلى عباد الله، يرجو ثواب الله ويخشى عقابه، لا لرياء ولا سمعة، ولا عن فخر وخيلاء، ولكن يريد وجه الله والدار الآخرة، ثم يريد بعد ذلك نفع الناس، وإصلاح أوضاعهم، وتقريبهم من الخير وإبعادهم عن الشر، وجمع كلمتهم على الحق، هذا هو المقصود من الداعي والعالم، وهو مقصود الرسل عليهم الصلاة والسلام.
فالمقصود: إيضاح الحق للناس وبيان ما أوجب الله وما حرم الله، وترغيبهم في الخير وتحذيرهم من الشر، وجمع كلمتهم على تقوى الله ودينه، كما قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) هكذا جاء القرآن وجاءت السنة، قال تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (2) ويقول عز وجل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3)
فالواجب على الدعاة إلى الله جل وعلا أن يعتنوا بالدعوة، وأن يصبروا، وأن يتحروا الرفق والكلمات الواضحة، وأن يحرصوا على جمع الكلمة وعلى تجنب أسباب الفرقة والاختلاف، لا مع الشباب ولا مع الشيب ولا مع الدولة ولا مع غيرها.
الواجب تحري الحق وتحري العبارات الحسنة التي توضح الحق وترشد إليه وتمنع من الباطل، مع الرفق في كل الأمور واجتناب أسباب الفرقة والاختلاف إلا من ظلم، أما من ظلم فله شأن آخر مع الهيئة ومع القضاة ومع ولاة الأمور، الظالم له شأنه وله حكمه، لكن في الجملة: الواجب هو تحري الحق والدعوة إليه، كما قال الله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} (4)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة إبراهيم الآية 1
(3) سورة ص الآية 29
(4) سورة النحل الآية 125(8/50)
يعني: بما قال الله عز وجل، أو قال الرسول صلى الله عليه وسلم، مع تحري الوقت المناسب والكلمات المناسبة، ثم قال جل وعلا: {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (1) يعني: الترغيب والترهيب بالعبارات الحسنة، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) عند الشبهة، وعند الخلاف، يكون الجدال بالتي هي أحسن، هكذا أمر جل وعلا ونهى بقوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3)
فالواجب على الدعاة وعلى العلماء وعلى كل ناصح أن يتحرى الحكمة والحق والرفق مع أهله ومع أولاده ومع جيرانه، ومع المسلمين عموما في دعوته إلى الله وإرشاده أينما كان، ولا سيما فيما يتعلق بالشرك، فإن الأمر عظيم، التوحيد والشرك هما أهم الأمور وأعظمها، والتوحيد هو أصل الدين.
فالواجب في هذا الأمر العناية بإيضاح الحق للناس في توحيد الله وإرشادهم إلى الالتزام به، وتحذيرهم من الشرك كله، دقيقه وكثيره، بالعبارات الحسنة الواضحة؛ لأن الإنسان الذي ليس عنده علم يتأثر بكل شيء، فالواجب الرفق به، حتى يتبصر ويتعلم ويعرف دين الله، وهكذا من أسلم جديدا يراعى ويلاحظ الرفق به حتى يتفقه في الدين، وهكذا عامة الناس يرفق بهم لكي يتبصروا ويتعلموا ويعرفوا دين الله، ويعرفوا توحيد الله والإخلاص له، ويعلموا أن الواجب هو تخصيص الله بالعبادة: من الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والذبح والنذر. . وغير ذلك من أنواع العبادة.
وكثير من الناس يصرف هذه العبادات لأصحاب القبور، أو للجن، أو للشجر والحجر في بلدان كثيرة، فالواجب على الدعاة إلى الله - ولا سيما في المواضع التي يكثر فيها الجهلة، ويكون فيها من قد يدعو غير الله - أن يوضحوا الأمر لهم، وأن يصبروا على الأذى في ذلك، وأن يتحروا
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة العنكبوت الآية 46(8/51)
الرفق والعبارات الواضحة والألفاظ البينة؛ حتى يفهم المخاطب ما يريده الداعية، وحتى يرجع عما هو عليه من الباطل، وحتى يسأل عما أشكل عليه، وتجاب مسألته بما يتضح له به الأمر، ثم الدعوة إلى الصلاة بعد ذلك والزكاة والصيام والحج بعدما يوضح له أمر الشهادتين، فالشهادتان هما الأهم، ثم بعد ذلك الصلاة والزكاة، والصلاة أمرها عظيم؛ فهي عمود الإسلام، والواجب أن يعتني بها العناية العظيمة في كل مكان بعد إفهام الناس التوحيد والشرك، وما يتعلق بالصلاة بعد الشهادتين، فالصلاة الآن لا يخفى على كل من لديه علم ما وقع فيها من التساهل من كثير من الناس.
فالواجب على الدعاة أن يعتنوا بالصلاة، وأن يحرضوا الناس على المبادرة إليها والمحافظة عليها في الجماعة في مساجد الله، وهكذا مع النساء في البيوت ومع الأولاد، كل إنسان يعتني بأولاده، بذكورهم وإناثهم، ويعتني بزوجته، ويعتني بأخواته وإخوانه، ويعتني بجيرانه في كل شيء، ولكن أهم شيء الصلاة بعد الشهادتين من حفظها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (1) » ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (2) » ، ويقول عليه الصلاة والسلام: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة (3) » .
ويقول عمر رضي الله عنه فيما يكتب لعماله: (إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع) .
والله ولي التوفيق، وهو المسئول أن يصلح أحوالنا جميعا ويهدينا صراطه المستقيم، وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/370) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(3) سنن الترمذي الإيمان (2616) ، سنن ابن ماجه الفتن (3973) .(8/52)
كلمة بمناسبة مسابقة حفظ القرآن الكريم
والسنة النبوية بالقصيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه، أما بعد:
فإن الله تعالى قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وعلمه الكتاب والحكمة، أي: القرآن والسنة، كما في الحديث الذي رواه أهل السنن بسند صحيح، أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه (1) » .
فالقرآن والسنة هما الأصلان اللذان عليهما مدار الأحكام، ومن رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن قيض لها من يحفظ عليها أمر دينها.
فمنذ العصور الأولى والأمة تعتني بالقرآن حفظا ومدارسة وفهما وتأملا وتفسيرا وتعلما وتعليما وإلى اليوم، والحمد لله على ذلك. فهذه المدارس القرآنية والجمعيات الحكومية والخيرية التي تربي النشء على حفظ كتاب الله وفهمه، والعمل به مما يسر كل مسلم، وإن مما يضاعف الفرحة أن نجد إقبال حفاظ القرآن وغيرهم على التففه في الأمور الشرعية، ودراسة السنة النبوية وحفظها وتعلمها وتعليمها.
فإن هذه الدروس العلمية المقامة في المساجد في سائر المناطق في منطقة القصيم وغيرها لتعليم الحديث والفقه والتفسير؛ هي من رياض الجنة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر (2) » .
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4604) ، مسند أحمد بن حنبل (4/131) .
(2) سنن الترمذي الدعوات (3510) ، مسند أحمد بن حنبل (3/150) .(8/53)
وقد صحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تتداعى إليها.
فنحمد الله على وجودها وكثرتها وكثرة المقبلين عليها، ونسأل الله أن يبارك في عمل القائمين عليها، ويضاعف مثوبتهم ويرزقهم الإخلاص في ذلك، وأن يجزيهم خير الجزاء.
وإن مما ينبغي الإشادة به الاهتمام بالسنة النبوية في هذا الوقت، الذي كثر فيه الإعراض عنها والاعتراض عليها من بعض الجهلة، أو من أهل البدع أو غيرهم.
فالعمل على نشر السنة واجب، وتعليمها من أفضل القربات وأجل الطاعات، وقد كان السلف الصالح يحرصون على تعليم الطلبة شيئا من السنة النبوية، ويحرصون على حفظها في الصدور، وعدم الاكتفاء بالكتب والمصنفات، خاصة ما يتعلق بمتون الأحاديث، وجوامع الألفاظ.
وقد سرني كثيرا ما قام به الإخوة في اللجنة العلمية، ومكتب الدعوة في القصيم من رعاية الدروس وتنظيمها والإشراف عليها؛ لحمايتها من الإفراط والتفريط، ومن الغلو والجفاء، والسير بها إلى الطريق المستقيم، فالحمد لله على ذلك كثيرا، وشكر الله لأصحاب الفضيلة القائمين على مشروع حفظ القرآن والسنة والتفقه في الدين جهدهم وعنايتهم، حيث حفظوا الطلاب وبذلوا لهم من الوقت والجهد الشيء الكثير، ثم أجروا لهم الاختبارات والمسابقات لحفز هممهم على طلب العلم، فضلا عما يقومون به من طباعة الكتب المفيدة وتوزيعها، وغير ذلك من الأعمال النافعة، فجزاهم الله على ذلك كله خير الجزاء، وأفضله وأوفاه.(8/54)
وإنها سنة حسنة محمودة، أن يشجع الطلاب على الحفظ، وتجرى لهم الاختبارات، ويعطون الإعانات والجوائز التشجيعية على ذلك؛ دفعا لهم ولغيرهم إلى الخير، فهو عمل طيب مبارك مشكور.
وإنني أدعو الإخوة المشايخ وطلبة العلم في سائر المناطق إلى القيام بمثل هذه الأعمال النافعة من تربية النشء على القرآن والسنة علما وعملا، ونرجو أن نسمع في المستقبل عن أعمال خيرية كثيرة من جنس هذه الأعمال، والله تعالى يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (1) ويقول سبحانه: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (2) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (3) » . رواه البخاري في صحيحه، ويقول صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (4) » . متفق على صحته.
وإنني بهذه المناسبة أوصي جميع الطلبة، وجميع المعلمين بتقوى الله سبحانه، وإخلاص النية والصدق في العمل، كما أحثهم على مواصلة الطلب، وعدم الملل أو العجز، وعلى أن يجمعوا بين العلم والعمل، فإن العمل هو ثمرة العلم، وعليهم بالإقبال على القرآن والإكثار من تلاوته ومدارسته، وتفهم معانيه؛ فإنه أصل العلوم وأساسها، كما أحث أولياء الأمور على تشجيع أبنائهم المنتسبين إلى هذه الحلقات وتسهيل أمورهم، وحثهم على ذلك.
وإنني أشكر كل من ساهم في تيسير أمر هذا الاجتماع المبارك من المسئولين والتجار والمشايخ وغيرهم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 148
(2) سورة المطففين الآية 26
(3) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .
(4) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(8/55)
فجزى الله الجميع خيرا، كما أدعو الجميع إلى المزيد من المساهمة في دعم هذا المشروع النافع دعما ماديا ومعنويا، فإنه بحسب ما يتوفر من الإمكانات والتسهيلات يكون نجاح العمل واستمراره، وقد جاء في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة (1) » .
نسأل الله للجميع التوفيق والهداية والسداد، وصلاح القول والعمل، والظاهر والباطن، والله تعالى ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .(8/56)
إيضاح وتكذيب
حول مسألة تلبس الجني بالإنسي.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلقد اطلعت على ما نشرته صحيفة (المسلمون) ، في عددها الصادر في يوم الجمعة 3\8\ 1416 هـ من الأسئلة الموجهة إلى علي بن مشرف العمري، وأجوبته عنها، وهذا نص ما ذكرته الصحيفة:
القرآن ليس شفاء لجميع الأمراض العضوية والنفسية.
ابن باز شيخي وأقرني على مذهبي الجديد.
أتحدى معالجة السرطان بالقرآن
س: هل تعتبر جريان الشيطان من ابن آدم الوارد في الحديث جريانا غير حسي؟
ج: نعم، فعندنا نصوص تدل على هذا، ثم هو استعارة كما قال العلماء، فالحديث الوارد لا يفيد الجريان الحسي، ولو سلمنا جدلا بأنه جريان حسي، فهو خاص بالموسوس؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله في الموسوس.
س: إذن ما زلت تصر على أن الجني لا يمكن أن يتلبس بإنسي بأي حال من الأحوال؟
ج: أبدا لا يمكن أن يتلبس الجني بالإنسي.
س: إذا أنت لا تعترض إلا على من يقرأ على من به جني؟
ج: نعم. أنا لما كنت في أبها ألقيت محاضرة بذلك، وكنت في(8/57)
أبها قبلها، وقد ناقشت البعض فكان يرى عدم التلبس وأراه، ولما عدت لرأيه ألقيت المحاضرة في أبها وكتب عنها، فعندها الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله لما سمع بذلك استغرب وتأثر لما سمع بهذا، فاستدعاني، فذهبت إليه بالطائف فقلت له: يا شيخ، أريدك تستمع إلى ما توصلت إليه - والشيخ حفظه الله رجل عاقل وحبيب وعالم جليل - فاستمع إلى ما قلت من أوله إلى آخره، فقال لي: والله الحق معك، ويجب أن تسير على هذا المنهج ولا تبالي بأحد.
س: قال لك: الحق معك. أي: أن الجني لا يتلبس بالإنسي؟
ج: الموضوع ككل لما شرحته له، فخرجت من عند الشيخ ابن باز وكتبت في الصحف: (إخراح الجني من بدن الإنسان ادعاء كاذب) ، فالشيخ ابن باز لديه خلفية، ولو خالفني لرد علي في هذا الموضوع، ولكني بعد أن استوثقت من سماحة الشيخ ابن باز حفظه الله، وأنه قال لي: (اكتب هذه المعلومات) ، فبدأت بهذا الموضوع.
هذه خلاصة ما ذكرته الصحيفة عن علي المذكور في عددها في التاريخ المذكور.
فأقول: إن ما ذكره عني علي المذكور من تصحيح مذهبه، قول باطل وكذب لا أساس له من الصحة، وقد نصحته حين اجتمع بي منذ سنة أو أكثر أن يفصل القول في ذلك، وأن يعترف بتلبس الجني بالإنسي كما هو الحق الذي أجمع عليه العلماء، ونقله أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة، ونقله شيخ الإسلام ابن تيمية عن جميع أهل العلم، كما في الفتاوى (ج 19 من ص 9 إلى ص 65) ، وقد أوضحت لعلي المذكور: أنه ليس كل ما يدعيه الناس من تلبس(8/58)
الجني بالإنسي صحيحا، بل ذلك تارة يكون صحيحا في بعض الأحيان، ويكون غير صحيح في أحيان أخرى؛ بسبب أمراض تعتري الإنسان في رأسه تفقده الشعور فيعالج ويشفى، وقد لا يشفى ويموت على اختلال عقله، وقد يختل العقل بأسباب ووساوس كثيرة تعتري الإنسان، فالواجب: التفصيل، وقد أوضح ذلك ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد) ، وقد حصل لشخص من سكان الدلم - حين كنت في قضاء الخرج - خلل في عقله فلما عرض على المختصين ذكروا أن سبب ذلك فتق في الرأس فكوي وبرئ من ذلك بإذن الله.
وهذا نص كلام شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى في المجلد المذكور، قال ما نصه بعد كلام سبق: (ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة؛ كالجبائي، وأبي بكر الرازي، وغيرهما دخول الجني في بدن المصروع، ولم ينكروا وجود الجن، إذ لم يكن ظهور هذا في المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم كظهور هذا، وإن كانوا مخطئين في ذلك، ولهذا ذكر الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة أنهم يقولون: إن الجني يدخل في بدن المصروع، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (1) الآية.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: قلت لأبي: إن قوما يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي، فقال: يا بني، يكذبون، هو ذا يتكلم على لسانه، وهو مبسوط في موضعه) (2) .
وقال أيضا رحمه الله، في المجلد الرابع والعشرين من الفتاوى (ص 276، 277) ما نصه: (وجود الجن ثابت بكتاب الله وسنة
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (19 \ 12)(8/59)
رسوله صلى الله عليه وسلم واتفاق سلف الأمة وأئمتها، وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (1)
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (2) » ... إلى أن قال رحمه الله: وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع، ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك. .) إلخ.
وبما ذكرنا يعلم بطلان ما ذهب إليه علي المذكور من إنكار دخول الجني في بدن الإنسان، ويعلم كذب علي في دعواه أني صدقته في ذلك وصححت مذهبه، وقد كتبت في ذلك ردا على من أنكر دخول الجني في بدن الإنسي منذ سنوات، ونشر ذلك في كتابي: (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة) ، في المجلد الثالث (ص 299-308) فمن أحب أن يطلع عليه فليراجعه في محله المذكور.
وأما قول علي المذكور: لو أنكر علي لرد علي، فجوابه: أنه ليس كل ما نشر في الصحف من الأخطاء أطلع عليه؛ لكثرة ما ينشر في الصحف، وكثرة مشاغلي عن الاطلاع على ذلك، والله ولي التوفيق، ونسأله سبحانه أن يحفظنا من الخطأ والزلل في القول والعمل.
وأما إنكار علي المذكور كون القرآن الكريم شفاء لبعض الأمراض البدنيه فهو أيضا قول باطل، وقد أوضح الله سبحانه أن كتابه شفاء في
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) صحيح البخاري الأحكام (7171) ، صحيح مسلم السلام (2175) ، سنن أبو داود الصوم (2470) ، سنن ابن ماجه الصيام (1779) ، مسند أحمد بن حنبل (6/337) .(8/60)
كتابه العظيم، فقال سبحانه في سورة بني إسرائيل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (1) وقال سبحانه في سورة فصلت: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (2) الآية.
والآيتان الكريمتان المذكورتان تعمان شفاء القلوب وشفاء الأبدان، ولكن لحصول الشفاء بالقرآن وغيره شروط وانتفاء موانع في المعالج والمعالج، وفي الدواء، فإذا توفرت الشروط وانتفت الموانع حصل الشفاء بإذن الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله (3) » رواه مسلم.
وكثير من الناس لا تنفعه الأسباب ولا الرقية بالقرآن ولا غيره؛ لعدم توافر الشروط، وعدم انتفاء الموانع، ولو كان كل مريض يشفى بالرقية أو بالدواء لم يمت أحد، ولكن الله سبحانه هو الذي بيده الشفاء، فإذا أراد ذلك يسر أسبابه، وإذا لم يشأ ذلك لم تنفعه الأسباب، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها «أنه كان إذا اشتكى شيئا قرأ في كفيه عند النوم سورة: وسورة: وسورة: ثلاث مرات، ثم يمسح بهما على ما استطاع من جسده في كل مرة بادئا برأسه ووجهه وصدره (7) » .
وفي مرض موته عليه الصلاة والسلام كانت عائشة رضي الله عنها تقرأ هذه السور الثلاث في يديه عليه الصلاة والسلام ثم تمسح بهما رأسه ووجهه وصدره رجاء بركتهما، وما حصل فيهما من القراءة، فتوفي صلى الله عليه وسلم في مرضه ذلك؛ لأن الله
__________
(1) سورة الإسراء الآية 82
(2) سورة فصلت الآية 44
(3) صحيح مسلم بشرح النووي (14\159) .
(4) صحيح البخاري فضائل القرآن (5018) ، صحيح مسلم السلام (2192) ، سنن أبو داود الطب (3902) ، سنن ابن ماجه الطب (3529) ، مسند أحمد بن حنبل (6/114) ، موطأ مالك الجامع (1755) .
(5) سورة الإخلاص الآية 1 (4) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
(6) سورة الفلق الآية 1 (5) {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}
(7) سورة الناس الآية 1 (6) {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}(8/61)
سبحانه لم يرد شفاءه من ذلك المرض؛ لأنه قد قضى في علمه سبحانه وقدره السابق أنه يموت بمرضه الأخير عليه الصلاة والسلام، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الشفاء في ثلاث: شربة عسل أو شرطة محجم أو كية نار، وما أحب أن أكتوي (1) » .
ومعلوم أن كثيرا من الناس قد يعالج بهذه الثلاثة ولا يحصل له الشفاء؛ لأن الله سبحانه لم يقدر له ذلك، وهو سبحانه الحكم العدل، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وفي الصحيحين أن ركبا من الصحابة رضي الله عنهم مروا على قوم من العرب وقد لدغ سيدهم، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه، فسألوا الركب المذكور: هل فيكم راق؟ فقالوا: نعم، وشرطوا لهم جعلا على ذلك، فرقاه بعضهم بفاتحة الكتاب فشفاه الله في الحال، وقام كأنما نشط من عقال، فقال الذي رقى لأصحابه: لا نفعل شيئا في الجعل حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم - وكان أصحاب اللديغ لم يضيفوهم؛ فلهذا شرطوا عليهم الجعل - فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه بما فعلوا، فقال: «قد أصبتم واضربوا لي معكم بسهم (2) » ، ففي هذا الحديث الرقية بالقرآن، وقد شفى الله المريض في الحال، وصوبهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وهذا من الاستشفاء بالقرآن من مرض الأبدان.
وقد أخبر الله سبحانه في آية أخرى في سورة يونس أن الوحي شفاء لما في الصدور، وهي قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (3) وكون القرآن شفاء لما في الصدور لا يمنع كونه شفاء لمرض الأبدان،
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5680) ، سنن ابن ماجه الطب (3491) ، مسند أحمد بن حنبل (1/246) .
(2) صحيح البخاري الإجارة (2276) ، صحيح مسلم السلام (2201) ، سنن الترمذي الطب (2063) ، سنن أبو داود البيوع (3418) ، سنن ابن ماجه التجارات (2156) ، مسند أحمد بن حنبل (3/50) .
(3) سورة يونس الآية 57(8/62)
ولكن شفاءه لما في الصدور أعظم الشفائين وأهمهما، ومع ذلك فأكثر الناس لم يشف صدره بالقرآن ولم يوفق للعمل به، كما قال سبحانه في سورة سبحان: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (1) وذلك بسبب إعراضهم عنه وعدم قبول الدعوة إليه.
وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يعالج المجتمع بالقرآن ويتلوه عليهم ويدعوهم إلى العمل به، فلم يقبل ذلك إلا القليل، كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) وقال سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (3) فالقرآن شفاء للقلوب والأبدان، ولكن لمن أراد الله هدايته، وأما من أراد الله شقاوته فإنه لا ينتفع بالقرآن ولا بالسنة ولا بالدعاة إلى الله سبحانه؛ لما سبق في علم الله من شفائه وعدم هدايته، كما قال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (4) وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (5) الآية، وقال سبحانه: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} (6) {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (7) {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (8) {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (9) والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهكذا الأحاديث الصحيحة.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 82
(2) سورة سبأ الآية 20
(3) سورة يوسف الآية 103
(4) سورة الأنعام الآية 35
(5) سورة يونس الآية 99
(6) سورة التكوير الآية 26
(7) سورة التكوير الآية 27
(8) سورة التكوير الآية 28
(9) سورة التكوير الآية 29(8/63)
وأما تأويل علي بن مشرف الحديث: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (1) » بأنه على سبيل الاستعارة، كما حكاه الحافظ ابن حجر في الفتح عن بعضهم، أو أن ذلك بالنسبة لبعض الموسوسين، كما قاله علي المذكور، فهو قول باطل، والواجب: إجراء الحديث على ظاهره وعدم تأويله بما يخالف ظاهره؛ لأن الشياطين أجناس لا يعلم تفاصيل خلقتهم وكيفية تسلطهم على بني آدم إلا الله سبحانه، فالمشروع لكل مسلم: الاستعاذة به سبحانه من شرهم، والاستقامة على الحق، واستعمال ما شرعه الله من الطاعات والأذكار والتعوذات الشرعية، وهو سبحانه الواقي والمعيذ لمن استعاذ به ولجأ إليه، لا رب سواه، ولا إله غيره، ولا حول ولا قوة إلا به.
ونسأل الله سبحانه أن يثبتنا على دينه، وأن يعيذنا وجميع المسلمين من اتباع الهوى ونزغات الشيطان، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق المسلمين لكل خير، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم، وأن يصلح قادتهم، إنه سميع قريب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7171) ، صحيح مسلم السلام (2175) ، سنن أبو داود الصوم (2470) ، سنن ابن ماجه الصيام (1779) ، مسند أحمد بن حنبل (6/337) .(8/64)
السحر وأنواعه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فإن السحر من الجرائم العظيمة، ومن أنواع الكفر، ومما يبتلى به الناس قديما وحديثا في الأمم الماضية، وفي الجاهلية، وفي هذه الأمة، وعلى حسب كثرة الجهل، وقلة العلم، وقلة الوازع الإيماني والسلطاني - يكثر أهل السحر والشعوذة، وينتشرون في البلاد للطمع في أموال الناس والتلبيس عليهم، ولأسباب أخرى، وعندما يظهر العلم ويكثر الإيمان، ويقوى السلطان الإسلامي يقل هؤلاء الخبثاء وينكمشون، وينتفلون من بلاد إلى بلاد لالتماس المحل الذي يروج فيه باطلهم، ويتمكنون فيه من الشعوذة والفساد.
وقد بين الكتاب والسنة أنواع السحر وحكمها.
فالسحر سمي سحرا؛ لأن أسبابه خفية، ولأن السحرة يتعاطون أشياء خفية يتمكنون بها من التخييل على الناس والتلبيس عليهم، والتزوير على عيونهم، وإدخال الضرر عليهم، وسلب أموالهم إلى غير ذلك، بطرق خفية لا يفطن لها في الأغلب، ولهذا يسمى آخر الليل: سحرا؛ لأنه يكون في آخره عند غفلة الناس وقلة حركتهم، ويقال للرئة: سحر؛ لأنها في داخل الجسم وخفية.
ومعناه في الشرع: ما يتعاطاه السحرة من التخييل والتلبيس الذي يعتقده المشاهد حقيقة وهو ليس بحقيقة، كما قال الله سبحانه عن سحرة فرعون: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} (1) {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (2) {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} (3) {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} (4) {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (5)
__________
(1) سورة طه الآية 65
(2) سورة طه الآية 66
(3) سورة طه الآية 67
(4) سورة طه الآية 68
(5) سورة طه الآية 69(8/65)
وقد يكون السحر من أشياء يفعلها السحرة مع عقد ينفثون فيها، كما قال الله سبحانه: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (1) وقد يكون من أعمال أخرى يتوصلون إليها من طريق الشياطين فيعملون أعمالا قد تغير عقل الإنسان، وقد تسبب مرضا له، وقد تسبب تفريقا بينه وبين زوجته فتقبح عنده، ويقبح منظرها فيكرهها، وهكذا هي قد يعمل معها الساحر ما يبغض زوجها إليها، وينفرها من زوجها، وهو كفر صريح بنص القرآن، حيث قال عز وجل: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (2) فأخبر سبحانه عن كفرهم بتعليمهم الناس السحر، وقال بعدها: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} (3) ثم قال سبحانه: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (4) يعني: هذا السحر وما يقع منه من الشر كله بقدر سابق بمشيئة الله، فربنا جل وعلا لا يغلب، ولا يقع في ملكه ما لا يريد، بل لا يقع شيء في هذه الدنيا ولا في الآخرة إلا
__________
(1) سورة الفلق الآية 4
(2) سورة البقرة الآية 102
(3) سورة البقرة الآية 102
(4) سورة البقرة الآية 102(8/66)
بقدر سابق؛ لحكمة بالغة شاءها سبحانه وتعالى، ففد يبتلى هؤلاء بالسحر، ويبتلى هؤلاء بالمرض، ويبتلى هؤلاء بالقتل. . . إلى غير ذلك، ولله الحكمة البالغة فيما يقضي ويقدر، وفيما يشرعه سبحانه لعباده، ولهذا قال سبحانه: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (1) يعني: بإذنه الكوني القدري لا بإذنه الشرعي، فالشرع يمنعهم من ذلك ويحرم عليهم ذلك، لكن بالإذن القدري الذي مضى به علم الله وقدره السابق أنه يقع من فلان السحر، ويقع من فلانة، ويقع على فلان، وعلى فلانة، كما مضى قدره: بأن فلانا يصاب بقتل، أو يصاب بمرض كذا، ويموت في بلد كذا، ويرزق كذا، ويغتني أو يفتقر، وكله بمشيئة الله وقدره سبحانه وتعالى، كما قال جل وعلا: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (2) وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (3)
فهذه الشرور التي قد تقع من السحرة ومن غيرهم، لا تقع عن جهل من ربنا فهو العالم بكل شيء سبحانه وتعالى، لا يخفى عليه خافية جل وعلا، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) وقال سبحانه: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (5) فهو يعلم كل شيء، ولا يقع في ملكه ما لا يريد سبحانه وتعالى، ولكن له الحكمة البالغة، والغايات المحمودة
__________
(1) سورة البقرة الآية 102
(2) سورة القمر الآية 49
(3) سورة الحديد الآية 22
(4) سورة الأنفال الآية 75
(5) سورة الطلاق الآية 12(8/67)
فيما يقضي ويقدر مما يقع فيه الناس من عز وذل، وإزالة ملك، وإقامة ملك، ومرض وصحة، وسحر وغيره.
وسائر الأمور التي تقع في العباد كلها عن مشيئة، وعن قدر سابق. وهؤلاء السحرة قد يتعاطون أشياء تخييلية، كما تقدم في قوله عز وجل: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} (1) {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (2) يخيل إلى الناظر أن هذه العصي، وأن هذه الحبال حيات تسعى في الوادي، وهي حبال وعصي، لكن السحرة خيلوا للناس لما أظهروا أمام أعينهم من أشياء تعلموها تغير الحقائق على الناس بالنظر إلى أبصارهم، قال سبحانه: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (3) وقال تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (4) وهي في الحقيقة ما تغيرت، حبال وعصي، ولكن تغير نظرهم إليها بسبب السحر فاعتقدوها حيات بسبب التلبيس الذي حصل من السحرة، وتسميه بعض الناس: ((تقمير)) ؛ وهو: أن يعمل الساحر أشياء تجعل الإنسان لا يشعر بالحقيقة على ما هي عليه، فيكون بصره لا يدرك الحقيقة فقد يؤخذ من حانوته أو منزله ما فيه ولا يشعر بذلك، يعني: أنه لم يعرف الحقيقة، فقد يرى الحجر دجاجة، أو يرى الحجر بيضة، أو ما أشبه ذلك؛ لأن الواقع تغير في عينيه؛ بسبب عمل الساحر وتلبيسه، فسحرت عيناه،
__________
(1) سورة طه الآية 65
(2) سورة طه الآية 66
(3) سورة طه الآية 66
(4) سورة الأعراف الآية 116(8/68)
وجعل هناك من الأشياء التي يتعاطاها السحرة من المواد ما تجعل عينيه لا تريان الحقيقة على ما هي عليه، هذا من السحر الذي سماه الله: عظيما في قوله جل وعلا في سورة الأعراف: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (1)
والصحيح عند أهل العلم: أن الساحر يقتل بغير استتابة؛ لعظم شره وفساده، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يستتاب، وأنهم كالكفرة الآخرين يستتابون، ولكن الصحيح من أقوال أهل العلم: أنه لا يستتاب؛ لأن شره عظيم، ولأنه يخفي شره، ويخفي كفره، فقد يدعي أنه تائب وهو يكذب، فيضر الناس ضررا عظيما؛ فلهذا ذهب المحققون من أهل العلم إلى أن من عرف وثبت سحره يقتل ولو زعم أنه تائب ونادم، فلا يصدق في قوله.
ولهذا ثبت عن عمر أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن يقتلوا كل من وجدوا من السحرة، حتى يتقى شرهم، قال أبو عثمان النهدي: (فقتلنا ثلاث سواحر) ، هكذا جاء في صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة، وهكذا صح عن حفصة أنها قتلت جارية لها، لما علمت أنها تسحر قتلتها، وهكذا جندب بن عبد الله رضي الله عنه الصحابي الجليل لما رأى ساحرا يلعب برأسه - يقطع رأسه ويعيده، يخيل على الناس بذلك - أتاه من جهة لا يعلمها فقتله، وقال: (أعد رأسك إن كنت صادقا) .
والمقصود: أن السحرة شرهم عظيم؛ ولهذا يجب أن يقتلوا، فولي الأمر إذا عرف أنهم سحرة، وثبت لديه ذلك بالبينة الشرعية
__________
(1) سورة الأعراف الآية 116(8/69)
وجب عليه قتلهم؛ صيانة للمجتمع من شرهم وفسادهم.
ومن أصيب بالسحر ليس له أن يتداوى بالسحر، فإن الشر لا يزال بالشر، والكفر لا يزال بالكفر، وإنما يزال الشر بالخير؛ ولهذا لما سئل عليه الصلاة والسلام عن النشرة قال: «هي من عمل الشيطان (1) » والنشرة المذكورة في الحديث: هي حل السحر عن المسحور بالسحر.
أما إن كان بالقرآن الكريم والأدوية المباحة والرقية الطيبة فهذا لا بأس به، وأما بالسحر فلا يجوز كما تفدم؛ لأن السحر عبادة للشياطين، فالساحر إنما يسحر ويعرف السحر بعد عبادته للشياطين، وبعد خدمته للشياطين، وتقربه إليهم بما يريدون، وبعد ذلك يعلمونه ما يحصل به السحر، لكن لا مانع والحمد لله من علاج المسحور بالقراءة وبالتعوذات الشرعية، بالأدوية المباحة، كما يعالج المريض من أنواع المرض من جهة الأطباء، وليس من اللازم أن يشفى؛ لأنه ما كل مريض يشفى، فقد يعالج المريض فيشفى إذا كان الأجل مؤخرا، وقد لا يشفى ويموت في هذا المرض، ولو عرض على أحذق الأطباء وأعلم الأطباء؛ لأنه متى نزل الأجل لم ينفع الدواء ولا العلاج؛ لقول الله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} (2)
وإنما ينفع الطب، وينفع الدواء إذا لم يحضر الأجل وقدر الله للعبد الشفاء، كذلك هذا الذي أصيب بالسحر قد يكتب الله له الشفاء، وقد لا يكتب له الشفاء؛ ابتلاء وامتحانا، وقد يكون لأسباب أخرى الله يعلمها جل وعلا، منها: أنه قد يكون الذي عالجه ليس عنده العلاج المناسب لهذا الداء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
__________
(1) سنن أبو داود الطب (3868) ، مسند أحمد بن حنبل (3/294) .
(2) سورة المنافقون الآية 11(8/70)
«لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله عز وجل (1) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله (2) » .
ومن العلاج الشرعي: أن يعالج السحر بالقراءة، فالمسحور يقرأ عليه أعظم سورة في القرآن: وهي الفاتحة، تكرر عليه، فإذا قرأها القارئ الصالح المؤمن الذي يعرف أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأنه سبحانه وتعالى مصرف الأمور، وأنه متى قال للشيء: كن فإنه يكون، فإذا صدرت القراءة عن إيمان، وعن تقوى، وعن إخلاص، وكرر ذلك القارئ فقد يزول السحر ويشفى صاحبه بإذن الله.
وقد مر بعض الصحابة رضي الله عنهم على بادية قد لدغ شيخهم، يعني: أميرهم، وقد فعلوا كل شيء ولم ينفعه، فقالوا لبعض الصحابة: هل فيكم من راق؟ قالوا: نعم. فقرأ عليه أحدهم سورة الفاتحة، فقام كأنما نشط من عقال في الحال، وعافاه الله من شر لدغة الحية. والنبي عليه الصلاة والسلام قال: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (3) » . وقد رقى ورقي عليه الصلاة والسلام، فالرقية فيها خير كثير، وفيها نفع عظيم، فإذا قرئ على المسحور بالفاتحة، وبآية الكرسي، وبقل هو الله أحد، والمعوذتين، أو بغيرها من الآيات، مع الدعوات الطيبة الواردة في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل قوله صلى الله عليه وسلم لما رقى بعض المرضى: «اللهم رب الناس، أذهب البأس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما (4) » . يكرر ذلك ثلاث مرات أو أكثر، ومثل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم «أن جبريل عليه السلام رقاه صلى الله عليه وسلم بقوله: باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك. ثلاث مرات (5) » فهذه رقية عظيمة وثابتة
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2204) ، مسند أحمد بن حنبل (3/335) .
(2) صحيح البخاري القدر (6604) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4240) .
(3) صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبو داود الطب (3886) .
(4) صحيح البخاري الطب (5750) ، صحيح مسلم السلام (2191) ، سنن ابن ماجه الطب (3520) ، مسند أحمد بن حنبل (6/126) .
(5) صحيح مسلم السلام (2186) ، سنن الترمذي الجنائز (972) ، سنن ابن ماجه الطب (3523) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) .(8/71)
عن النبي صلى الله عليه وسلم، يشرع أن يرقى بها اللديغ والمسحور والمريض، ولا بأس أن يرقى المريض والمسحور واللديغ بالدعوات الطيبة، وإن لم تكن منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن فيها محذور شرعا؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (1) » . وقد يعافي الله المريض والمسحور وغيرهما بغير الرقية وبغير أسباب من الإنسان؛ لأنه سبحانه هو القادر على كل شيء، وله الحكمة البالغة في كل شيء، وقد قال سبحانه في كتابه الكريم: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2) فله سبحانه الحمد والشكر على كل ما يقضيه ويقدره، وله الحكمة البالغة في كل شيء عز وجل.
وقد لا يشفى المريض؛ لأنه قد تم أجله وقدر موته بهذا المرض. ومما يستعمل في الرقية آيات السحر تقرأ في الماء، وهي آيات السحر في الأعراف، وهي قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} (3) {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} (5) وفي يونس وهي قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} (6) إلى قوله جل وعلا: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (7) وكذلك آيات طه: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} (8) إلى قوله سبحانه: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (9)
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبو داود الطب (3886) .
(2) سورة يس الآية 82
(3) سورة الأعراف الآية 117
(4) سورة الأعراف الآية 118
(5) سورة الأعراف الآية 119
(6) سورة يونس الآية 79
(7) سورة يونس الآية 82
(8) سورة طه الآية 65
(9) سورة طه الآية 69(8/72)
وهذه الآيات مما ينفع الله بها في رقية السحر، وإن قرأ القارئ هذه الآيات في الماء وقرأ معها سورة الفاتحة، وآية الكرسي، وبقل هو الله أحد والمعوذتين في ماء ثم صبه على من يظن أنه مسحور، أو محبوس عن زوجته فإنه يشفى بإذن الله، إن وضع في الماء سبع ورقات من السدر الأخضر بعد دقها كان مناسبا، كما ذكر ذلك الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في (فتح المجيد) عن بعض أهل العلم في باب (ما جاء في النشرة) .
ويستحب أن يكرر قراءة السور الثلاث، وهي: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (2) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (3) ثلاث مرات.
والمقصود: أن هذه الأدوية وما أشبهها هي مما يعالج به هذا البلاء: وهو السحر، ويعالج به أيضا من حبس عن زوجته، وقد جرب ذلك كثيرا فنفع الله به، وقد يعالج بالفاتحة وحدها فيشفى، وقد يعالج بقل هو الله أحد والمعوذتين وحدها ويشفى.
ومن المهم جدا أن يكون المعالج والمعالج عندهما إيمان صادق، وعندهما ثقة بالله، وعلم بأنه سبحانه مصرف الأمور، وأنه متى شاء شيئا كان، وإذا لم يشأ لم يكن سبحانه وتعالى، فالأمر بيده جل وعلا، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فعند الإيمان وعند الصدق مع الله من القارئ والمقروء عليه يزول المرض بإذن الله وبسرعة، وتنفع الأدوية الحسية والمعنوية.
نسأل الله أن يوفقنا جميعا لما يرضيه، إنه سميع قريب.
الواجب على كل من لديه علم من الكتاب والسنة أن يبلغ في بلاده، وفي مجتمعه، وفي أهله، حتى يكون الناس على علم بهذه
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الفلق الآية 1
(3) سورة الناس الآية 1(8/73)
الأمور، وحتى ينتشر العلم؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا خطب الناس وذكرهم يقول: «فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع (1) » ويقول: «بلغوا عني ولو آية (2) » .
فالواجب على من سمع من أهل العلم أن يبلغ الفائدة التي عقلها وفهمها، وليحذر أن يبلغ ما لم يعقل وما لم يفهم؛ لأن بعض الناس قد يبلغ أشياء يغلط فيها فيكون كاذبا ومضرا بمن بلغ عنه وبالمبلغين، فلا يجوز له التبليغ إلا عن علم، وعن تحقق وبصيرة مما سمع حتى يبلغ كما سمع، وكما علم، من دون زيادة ومن دون نقص، وإلا فليمسك حتى لا يكذب على من بلغ عنه، وحتى لا يضر غيره.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1741) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، سنن ابن ماجه المقدمة (233) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461) ، سنن الترمذي العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (2/159) ، سنن الدارمي المقدمة (542) .(8/74)
السحر والكهانة والتنجيم
بسم الله، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فإن تعاطي السحر والكهانة والتنجيم من أعظم المنكرات، ومن أعظم الفساد في الأرض، بل من أنواع الكفر الأكبر فيما يتعلق بالسحر والاعتقاد في النجوم، وأن لها تصرفا في المخلوقات، أما الكهانة ففي حكمها تفصيل.
ولا شك أن الواجب على كل مسلم عرف الباطل أن ينكره، وأن يحاربه، وأن يتعاون مع إخوانه المسلمين في محاربته، كما قال عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2)
وكل مجتمع يقل فيه العلم ويغلب فيه الجهل تكثر فيه هذه الشرور من السحر والكهانة والتنجيم، وسائر أنواع الشعوذة؛ لعدم وجود الرادع عنها، والمنكر لها، وعدم وجود الوازع السلطاني، والوازع الإيماني، وكل مجتمع يكثر فيه أهل الإيمان والعلم ويقل فيه أهل الجهل تقل فيه هذه الشرور وهذه الأباطيل.
وقد كانت هذه الجزيرة العربية في منتصف القرن الثاني عشر
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة التوبة الآية 71(8/75)
وما قبله بأزمنة كثيرة مليئة من هذه الشرور؛ من الكهانة، والسحر، والشرك بعبادة الأصنام والأوثان والأشجار والجن، وغير ذلك في أرجاء الجزيرة جنوبها وشمالها، حتى يسر الله الإمام المصلح الموفق الشيخ العلامة شيخ الإسلام في عصره: محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه فقام بالدعوة إلى الله، وبذل وسعه في بيان ما شرع الله لعباده وما حرمه عليهم، وبيان حقيقة التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وبعث الله به محمدا عليه الصلاة والسلام، وألف المؤلفات في ذلك، مثل (كتاب التوحيد) ، وقد بين فيه ما يتعلق بالكهانة والسحر والتنجيم، وألف رسالة صغيرة هي: (ثلاثة الأصول) فيها أصول العقيدة، وألف كتاب (كشف الشبهات) الذي بين فيه شبها كثيرة، يشبه فيها أعداء الله على المسلمين من عباد الأصنام والأوثان، وألف العلماء قبله مؤلفات كثيرة في بيان هذه الشرور والتحذير منها، ولكن الله وفقه للقيام بمحاربة هذه الشرور والنشاط فيها، وبذل الدروس المفيدة والمحاضرات العظيمة، وساعده في ذلك من من الله عليه بالهداية من العلماء الأخيار، من أبنائه وغيرهم من علماء عصره الذين وفقهم الله للهداية حتى حاربوا هذه الشرور، وحتى طهر الله بهم هذه الجزيرة منها، ولا سيما شمالها.
وحصل في اليمن والهند والشام والعراق وغير ذلك من آثار هذه الدعوة خير كثير، ونقل العلماء إلى بلادهم عن علماء هذه البلاد - حين يجتمعون بهم في الحرمين وغيرهما - هذه العقيدة الطيبة، ونشروها في بلاد كثيرة؛ الهند، والشام، ومصر، والعراق، وغير ذلك، حتى هدى الله بذلك من شاء من أهل تلك البلاد.(8/76)
فكل مجتمع ينشط فيه الحق ويكثر فيه دعاة الحق يختفي فيه هؤلاء الضالون من المنجمين والكهنة والسحرة، ودعاة الشرك، وكل مجتمع يغلب فيه الجهل ويقل فيه العلم يكثر فيه الباطل وأهله ويجدون مجالا لنشر أباطيلهم.
والواجب على أهل العلم والإيمان في كل مكان في هذه الجزيرة وفي غيرها أن يبذلوا وسعهم في محاربة الباطل، ونشر الحق، بالمحاضرات، والدروس، والندوات، وخطب الجمعة، وخطب الأعياد، وغير ذلك عند كل مناسبة، وفي الإذاعة والتلفاز، وفي الصحافة حتى ينتشر الحق، وحتى يعلم الجهال ما وقعوا فيه من الباطل، وحتى تكشف عورات هؤلاء الضالين من المنجمين والكهنة والرمالين والسحرة، ودعاة الباطل بسائر أنواعه.
وإني أنصح كل مسلم أن يعنى بكتاب الله: وهو القرآن الكريم، ويتدبره فيكثر من تلاوته، ويتدبر معانيه، وكذلك يدارسه بعض إخوانه حتى يستفيد بعضهم من بعض، وهكذا يسأل أهل العلم عما أشكل عليه، ويحضر حلقات العلم، ولا سيما في هذا العصر الذي قل فيه العلم وغلب فيه الجهل في غالب الأمصار.
والواجب على كل من تهمه نفسه ويخشى عليها الهلاك أن يحرص على طلب العلم وعلى حلقات العلم ليستفيد ويفيد، ولو بعدت دياره، فعليه أن يسافر لطلب العلم لدى علماء السنة حتى يحضر دروسهم ويستفيد مما يقال عن الله وعن رسوله وعن أهل العلم والتحقيق والبصيرة؛ لبيان ما وقع الناس فيه من الباطل، ولبيان ما أوجب الله وما حرم الله حتى يكثر العلم وينتشر الخير، وقد من الله(8/77)
سبحانه في أول هذا القرن، وفي آخر القرن الرابع عشر بحركة كثيرة إسلامية، وانتباه ويقظة عظيمة بأسباب المحاضرات والندوات الكثيرة، وما يلقى في الصحف وفي الإذاعات، وفي الخطب المنبرية، وفي غير ذلك من الاجتماعات من أنواع العلم والخير في بلدان كثيرة، فحصل بذلك بحمد الله خير كثير ويقظة وانتباه.
فنسأل الله أن يزيد المسلمين خيرا، وأن يوفق علماءهم لنشر ما عندهم من العلم، والاستمرار في ذلك، والصدق فيه والصبر على ذلك، وأن يوفق المسلمين لقبول الحق والانتفاع بأهل العلم والاستفادة منهم، والسؤال عما ينفعهم، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1)
وقد بين الله في كتابه الكريم، وفي سنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم كل ما يحتاجه العباد في أمر دينهم ودنياهم، كما قال الله سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (2) وقال عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (3) وقال سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (4) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قيل: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني
__________
(1) سورة النحل الآية 43
(2) سورة الإسراء الآية 9
(3) سورة النحل الآية 89
(4) سورة ص الآية 29(8/78)
فقد أبى (1) » . رواه البخاري في صحيحه، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا لكم كالوالد أعلمكم ما ينفعكم» . وقال عليه الصلاة والسلام: «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم (2) » .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على كل مسلم أن يتقي الله، وأن يتفقه في الدين عن إخلاص وصدق، وبذلك يوفق إن شاء الله ويفوز بالمطلوب، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (3) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (4) » . والأحاديث في الترغيب في العلم والحث عليه كثيرة، فنسأل الله أن يوفق المسلمين في كل مكان للعلم النافع والعمل به، إنه سميع قريب.
ومن الوسائل لتحصيل العلم النافع: متابعة ما يبث بواسطة إذاعة القرآن الكريم؛ من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، والمحاضرات المفيدة، والندوات العلمية، وبرنامج نور على الدرب، وغير ذلك من الفوائد الكثيرة.
فنوصي جميع المسلمين في كل مكان بأن يستفيدوا من هذه الإذاعة - أعني: إذاعة القرآن الكريم في المملكة العربية السعودية - لما في ذلك من الخير العظيم، والعلم النافع، والفوائد المهمة، وكشف الشبهات التي يروجها أهل الباطل. . . إلى غير ذلك من الفوائد النافعة في الدين والدنيا.
نسأل الله أن يوفق المسلمين لكل خير، وأن يجزي الحكومة السعودية عن جهودها خيرا، وأن يصلح لها البطانة وينصر بها الحق،
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، صحيح مسلم الإمارة (1835) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1844) ، سنن النسائي البيعة (4191) ، سنن ابن ماجه الفتن (3956) ، مسند أحمد بن حنبل (2/191) .
(3) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(4) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(8/79)
وأن يوفق علماء المسلمين في كل مكان لنشر الحق والدعوة إليه والصبر على ذلك، إنه جواد كريم.
هذا العلم المبثوث من الإذاعة المذكورة علم عظيم ساقه الله إلى الناس في كل مكان بسهولة ويسر؛ ليستفيد منه الإنسان وهو في فراشه، وهو في منزله، وهو في سيارته وغير ذلك، فينبغي أن يغتنم هذا العلم ولا سيما برنامج نور على الدرب، نسأل الله أن ينفع به المسلمين، وأن يمن باستمراره على يد العلماء والأخيار الصالحين الموفقين.
أما موضوع السحر والكهانة والتنجيم: فهو موضوع خطير كما أسلفنا في أول هذا الحديث.
والخلاصة في هذه الأمور الثلاثة: أن الساحر يتعاطى أمورا يسحر بها الناس تارة بالتخييل، كما قال الله عن سحرة فرعون: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (1) يعملون أشياء تغير مناظر الأمور في أعين الناس حتى يروا الأشياء على غير ما هي عليه، كما قال تعالى في سورة الأعراف: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (2) فهم يفعلون أشياء تسحر العيون حتى يرى الحبل حية والعصا حية تمشي، وهي ليست حية وإنما هي عصا أو حبل، وكذلك يسحرون الناس بأمور أخرى مما يبغض الرجل إلى امرأته، والمرأة إلى زوجها، مما يسحرون به أعينهم، وبما يعطونهم من أدوية خبيثة يتلقونها عن الشياطين، وبما يعقدون من العقد التي
__________
(1) سورة طه الآية 66
(2) سورة الأعراف الآية 116(8/80)
ينفثون فيها بدعوة غير الله من الشياطين، والاستعانة بهم في إضرار الناس، فيخيل للرجل أن زوجته غير الزوجة المعروفة فيراها في طلعة قبيحة ينفر منها ويبغضها، ويخيل للمرأة أن زوجها غير زوجها المعروف في صورة قبيحة وفي صورة مفزعة، بأسباب ما وقع من هؤلاء المجرمين.
فسحرهم على نوعين: نوع يكون بالتخييل والتزوير على العيون حتى ترى الأشياء على غير ما هي عليه.
ونوع آخر منه ما يسمى: الصرف والعطف، يكون بالعقد والنفث والأدوية التي يصنعونها من وحي الشياطين، وما تزينه لهم ويدعونهم إليه.
وهذا النوع الثاني يحصل به تحبيب الرجل إلى امرأته، أو بغضه لها والعكس، وهكذا غير الزوج والزوجة مع الناس الآخرين؛ ولهذا شرع الله لنا الاستعاذة من شر النفاثات في العقد، وشرع لنا الاستعاذة من كل سوء.
وحكم الساحر الذي يعلم منه أنه يخيل على الناس، أو يترتب على عمله مضرة على الناس؛ من سحر العيون، والتزوير عليها، أو تحبيب الرجل إلى امرأته والمرأة إلى زوجها، أو ضد ذلك مما يضر الناس، متى ثبت ذلك بالبينة لدى المحاكم الشرعية وجب قتل هذا الساحر، ولا يقبل منه توبة ولو تاب.
وقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى عماله بقتل السحرة وعدم استتابتهم، وثبت عن ابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها أمرت بقتل الجارية التي سحرتها فقتلت، وثبت عن جندب الخير، ويقال: جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه وجد ساحرا يلعب عند الوليد فأتاه من حيث لا يعلم فقتله، وقال:(8/81)
(حد الساحر ضربه بالسيف) يروى عنه مرفوعا وموقوفا، والصحيح عند أهل العلم: أنه موقوف من كلام جندب رضي الله عنه.
وقد سبق ما ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه أمر عماله - أعني: أمراءه- بقتل السحرة، لمنع فسادهم في الأرض، وإيذائهم للمسلمين وإدخالهم الضرر على الناس، فمتى عرفوا وجب على ولاة أمر المسلمين قتلهم، ولو قالوا: تبنا؛ لأنهم لا يؤمنون، لكن إن كانوا صادقين في التوبة نفعهم ذلك عند الله عز وجل؛ لعموم قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «التوبة تهدم ما كان قبلها» . والأدلة في هذا كثيرة.
أما من جاء إلى ولاة الأمور من غير أن يقبض عليه يخبر عن توبته، وأنه كان فعل كذا فيما مضى من الزمان وتاب إلى الله سبحانه وظهر منه الخير فهذا تقبل توبته؛ لأنه جاء مختارا طالبا للخير معلنا توبته من غير أن يقبض عليه أحد أو يدعي عليه أحد، والمقصود: أنه إذا جاء على صورة ليس فيها حيلة ولا مكر فإن مثل هذا تقبل توبته؛ لأنه جاء تائبا نادما، كغيره من الكفرة ممن يكون له سلف سيئ ثم يمن الله عليه بالتوبة من غير إكراه ولا دعوى عليه من أحد.
وأما الكهان: فهم أناس يدعون علم الغيب بواسطة قرنائهم من الجن فيقولون: كان كذا وكذا، وسيكون كذا وكذا، وفلان سوف يصيبه كذا، أو فلان سوف يتزوج فلانة، وفلان سوف يقتل في وقت كذا. . . إلى غير هذا مما يدعون.
فهم في هذه الأقوال تارة يكذبون، وقد يقع القدر بما يقولون
__________
(1) سورة الشورى الآية 25(8/82)
فيظن المغفلون أنه بأسباب صدقهم، ويظن الجهلة ذلك.
وتارة بما يلقي إليهم الشياطين مما يسترقون السمع من السماء فيسمع الكلمة الصادقة ويكذب معها الشيء الكثير، كما جاء في الحديث، أنهم يكذبون معها مائة كذبة، وقد يزيدون، كما في الحديث الآخر، وقد يكذبون كذبات لا حصر لها، فيقول الناس: صدقوا في يوم كذا وكذا ثم يصدقونهم في كل شيء، وهذا من الابتلاء والامتحان.
وتارة بواسطة الشياطين الذين يتجسسون على الناس، فإن كل إنسان معه شيطان، فهذا الشيطان الذي معك يلقي إليه أولياؤه من الشياطين الذين مع الكهنة وعند الكهنة وعند السحرة فيخبرهم ببعض الأشياء التي فعلها الإنسان حتى يروج باطل هذا الساحر وهذا الكاهن بأسباب ما تلقيه إليه الشياطين مما قد وقع في البيوت والبلدان، ومما قد يسترق من السمع فيظن الجهلة والمغفلون أن هذا بعلمهم وبصيرتهم، وأن عندهم شيئا من علم الغيب.
فالواجب الحذر من هؤلاء الكهنة والعرافين، وأن لا يصدقوا ولو قالوا: إنه وقع كذا وكذا مما قد تخبرهم به شياطينهم وأصحابهم في البيوت أو البلدان التي يخبرون عنها، فلا يجوز أن يصدقوا ولا أن يلتفت إلى كلامهم، ولا يجوز أن يقروا على باطلهم، بل يجب على ولاة الأمر منعهم وعقابهم بما يقتضيه الشرع المطهر، فقد «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال: لا تأتوهم. وقال: ليسوا بشيء (1) » . وقال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم يقبل له صلاة أربعين ليلة (2) » رواه مسلم في الصحيح، وقال عليه الصلاة والسلام: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (3) » صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7561) ، صحيح مسلم السلام (2228) ، مسند أحمد بن حنبل (6/87) .
(2) صحيح مسلم السلام (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (4/68) .
(3) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/476) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .(8/83)
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وما ذلك إلا لأن علم الغيب من خصائص الله سبحانه وتعالى، فمن ادعاه كفر بذلك؛ لقول الله سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (1) وقوله عز وجل: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (2) وقوله سبحانه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3) هكذا يقول عليه الصلاة السلام بما أمره الله أن يبلغ الناس، وأنه لا يعلم الغيب، وقال عز وجل: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} (4) هكذا أمره الله أن يبلغ الناس عليه الصلاة والسلام: أنه لا يعلم الغيب، وليس عنده خزائن الله وأنه ليس بملك.
فالواجب على المسلم أن يحذر هذه الشرور، وأن يتباعد عنها، وأن لا يأتي أهلها، ولو مات مريضا، فالموت علمه عند الله جل وعلا، وشفاء الأمراض بيد الله سبحانه وتعالى، ليس بيد زيد ولا عمرو، فليعالج بالعلاج الشرعي، العلاج المباح: عند الأطباء، وعند القراء، وعند من يعرفون بالخير؛ عند الأطباء الذين عرفوا مرضه وشخصوه، أو عند غيرهم من القراء المعروفين بالخير من أهل الخير والفضل، ففي كتاب الله شفاء لأمراض كثيرة، قال جل وعلا: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (5)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 59
(2) سورة النمل الآية 65
(3) سورة الأعراف الآية 188
(4) سورة الأنعام الآية 50
(5) سورة فصلت الآية 44(8/84)
وقال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (1) وقد ينفع الله به من أمراض كثيرة، والأمر إلى الله جل وعلا إن شاء نفع بهذا الدواء من الطبيب أو من القارئ، وإن شاء جعل هذا المرض سببا للموت؛ لأنه قد انتهى أمر صاحبه ولا حيلة فيه.
وقد رقى بعض الصحابة لديغا من رؤساء العرب، وقد جمعوا له كل شيء وفعلوا كل شيء لعلاجه فلم ينفعه، فمر عليهم ركب من الصحابة رضي الله عنهم فقالوا لهم: هل منكم راق؟ قالوا: نعم، فرقاه بعضهم بفاتحة الكتاب: وهي الحمد فقط، كررها عليه حتى شفاه الله وقام كأنما نشط من عقال، وكأنه لم يصب بلدغة، فقد عافاه الله في الحال.
فإذا كان القارئ يحمل الإيمان والصدق والإخلاص، وكان المقروء عليه ممن يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعلم عظمة القرآن، وأنه كلام الله، وأن الله سبحانه هو الذي بيده الشفاء، فإنه يتركب من هذا وهذا من إيمان القارئ وإيمان المقروء عليه، ومن صدق هذا وهذا الخير الكثير، وإجابة الدعاء، والتأثر بالقرآن الكريم، وزوال المرض بإذن الله عز وجل، ولا ينبغي أن يغتر الإنسان بكون الساحر أو الكاهن يقرأ القرآن فيقول: هذا طيب، فإن الشياطين قد يقرءون القرآن وهم على شيطنتهم وعلى خبثهم، وقد يقرأ الكفار القرآن ولا ينفعهم ولا يفيدهم؛ لعدم إيمانهم به وعدم إسلامهم، وقد ذكر ابن كثير رحمه الله حديثا ثبت في صحيح البخاري: (عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: «وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 82(8/85)
قال دعني فإني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة. قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته وخليت سبيله. قال: أما إن قد كذبك وسيعود. فعرفت أنه سيعود؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيعود، فرصدته فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود. فرحمته وخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، شكا حاجة وعيالا، فرحمته فخليت سبيله. قال: أما إنه قد كذبك وسيعود. فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود. فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قلت: وما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: حتى تختم الآية؛ فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية
__________
(1) البخاري 3 / 63 - 64، 4 / 92، 6 / 104 (تعليقا) ، والنسائي في (عمل اليوم والليلة) ص / 532 - 533 برقم (959) وابن خزيمة 4 / 91 - 92 برقم (2424) ، والبيهقي في (الدلائل) 7 / 107 - 108. وانظر (تغليق التعليق) لابن حجر 3 / 295، 296.
(2) سورة البقرة الآية 255 (1) {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}(8/86)
وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. وكانوا أحرص شيء على الخير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه صدقك وهو كذوب. تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قلت: لا. قال: ذاك شيطان (1) » اهـ.
والمقصود: أن الشياطين وهكذا نوابهم وأولياؤهم من الكهنة والمنجمين والرمالين والعرافين قد يقرءون القرآن كثيرا عند العامة، وعند الناس حتى يوهموا أنهم ليسوا أهل شر، وليسوا أهل فساد حتى يأخذوا أموال الناس ويبتزوها بكذبهم وافترائهم وما ينقلونه عن شياطين الجن، وما يفعلونه من الشرك بالله وعبادة غيره من الذبح للجن والاستغاثة بهم والنذر لهم ... إلى غير هذا من ولايتهم لهم، فإن الجن يستمتعون بالإنس حتى يعبدوهم من دون الله، والإنس يستمتعون بالجن بما يخبرونهم به من أمور الغيب.
فالواجب الحذر من هذه البلايا وهذه المحن، وتحذير الناس من ذلك، وأن يكتفي من عنده المريض بما شرع الله وأباح من العلاج الحسي المعروف عند الأطباء المعروفين، فكل مرض له طبيب خاص به، فيطلب من الأطباء المختصين أن يعالجوه، ومن القراء المعروفين بحسن العقيدة والقراءة على المرضى أن يقرءوا عليه. والله سبحانه هو الذي بيده الشفاء، ثم إن المريض نفسه عليه أن يتحصن بحصن الله، وعليه أن يجتهد بالتعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، ويكثر من ذلك صباحا ومساء ويقول: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء
__________
(1) سورة البقرة الآية 255 (2) {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}(8/87)
في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم (ثلاث مرات) صباحا ومساء، كل هذه من أسباب السلامة والحفظ من كل بلاء، وهكذا قراءة: آية الكرسي بعد كل صلاة بعد الأذكار الشرعية، وقراءتها عند النوم، وقراءة: قل هو الله أحد، والمعوذتين بعد كل صلاة من أسباب العافية والسلامة، وقراءتها بعد المغرب وبعد الفجر (ثلاث مرات) كل ذلك من أسباب العافية والسلامة إن شاء الله، وهكذا قراءة السور الثلاث المذكورة عند النوم (ثلاث مرات) ؛ تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقد كان إذا اشتكى يقرأ السور الثلاث المذكورة في كفيه عند النوم ثلاث مرات يمسح في كل مرة بيديه على ما استطاع من جسده بادئا برأسه ووجهه وصدره، هكذا جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، وعلى المريض أن يلجأ إلى الله سبحانه دائما، يسأله العافية من كل شيطان ومن كل شر، فالعبد يلجأ إلى الله ويتضرع إليه دائما ويسأله من فضله، والله سبحانه هو القريب المجيب جل وعلا، وهو القادر على كل شيء، وهو القائل سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (1)
وينبغي للمؤمن أن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن يصبر ويحتسب، مع الدعاء وبذل الأسباب المباحة النافعة ويأخذ بها، وهو يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (2) وقد
__________
(1) سورة البقرة الآية 186
(2) سورة التوبة الآية 51(8/88)
ثبت عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال لابنه: (إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، جفت الأقلام وطويت الصحف) .
فالمؤمن يتعاطى الأسباب ويفعلها، مع الإيمان بأن قدر الله نافذ، وأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، حتى يكون مطمئن القلب، مستريح النفس، مستريح البال، ولا يمنعه ذلك من تعاطي الأسباب الشرعية والحسية المباحة.
وأما التنجيم فإنه أيضا شعبة من شعب دعوى علم الغيب، وهو من عمل العرافين والمشعوذين، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد (1) » .
والمنجم يلبس على الناس، ويقول: إذا صادف اسمك أو اسم أمك أو اسم أبيك نوء كذا ونوء كذا جرى كذا وكذا، وربما شبه على الناس فقال: أعطني اسمك واسم أمك واسم أبيك وأنا أنظر - بزعمه أنه ينظر في النجوم - فإذا توافقت الأسماء على ما يزعم يكون كذا ويقع كذا ويقع كذا، وكل هذا من الخرافات والباطل، وكله من التلبيس على الناس حتى يأخذوا أموالهم بغير حق، وقد يصادف القدر حاجة شخص فيظن المسكين أنه بأسباب هذا المنجم أو بأسباب هذا الكاهن حصل هذا الأمر، وقد يكون وصف لشخص دواء آخر غير ما يزعمه عن النجوم والتنجيم من الأدوية المعروفة، والتي يعرفها لهذا المرض فيظن المريض أنه حصل له الشفاء بأسباب دعوى هذا المنجم علم الغيب، أو من أسباب تعاطيه النظر في النجوم، أو غير ذلك.
فالحاصل: أن وجود الشفاء في بعض الأحيان بعد إتيان الكهان أو المنجمين أو الرمالين أو غيرهم لا يدل على صحة ما هم عليه.
__________
(1) سنن أبو داود الطب (3905) ، سنن ابن ماجه الأدب (3726) ، مسند أحمد بن حنبل (1/227) .(8/89)
فالمشركون أنفسهم عباد الأصنام، قد يأتون إلى الصنم ويسألونه فيقع لهم ما أرادوا بإذن الله عز وجل صدفة ولحكمة أرادها الله جل وعلا، أو بواسطة الشياطين فصارت ابتلاء وامتحانا لا من الصنم، فالصنم ما فعل شيئا، والجني الذي عنده ما فعل شيئا، ولكن قد يوافق القدر أن هذا المرض يزول، وهذا البلاء يزول بعدما جاء هذا المسكين إلى الصنم وسأله أو ذبح له، فيقع ذلك ابتلاء وامتحانا، من غير أن يكون ذلك من عمل الساحر، أو من عمل الصنم، أو من عمل الجن، أو غير ذلك، فيقع للمشركين أشياء تغريهم بأصنامهم حتى يعبدوها من دون الله.
فلا ينبغي للعاقل أبدا أن يغتر بما يقع على أيدي هؤلاء المنجمين، أو الكهنة والعرافين أو السحرة، بل يجب أن يبتعد عنهم وألا يصدقهم، ولما «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن النشرة وهي حل السحر عن المسحور قال: هي من عمل الشيطان (1) » يعني: حل السحر على يد الساحر، هو من عمل الشيطان؛ لأنه يحله بدعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله، وعمل ما حرمه الله، ولكن حل السحر إذا كان بالأدوية المباحة، والرقية الشرعية، والدعاء الشرعي، من طريق الأطباء المختصين، أو من طريق القراء المعروفين بحسن العقيدة أمر أباحه الله جل وعلا، ولا بأس به، وقد صحت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدل على جوازه، بل على استحبابه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «عباد الله، تداووا، ولا تداووا بحرام (2) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله (3) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (4) » . والأحاديث في هذا الباب كثيرة. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن أبو داود الطب (3868) ، مسند أحمد بن حنبل (3/294) .
(2) سنن أبو داود الطب (3874) .
(3) صحيح البخاري القدر (6604) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4240) .
(4) صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبو داود الطب (3886) .(8/90)
أسئلة وأجوبة تتعلق بالسحر والكهانة والتنجيم وغيرها
من هم الرمالون؟
س1: من هم الرمالون؟ .
ج1: الرمالون: هم الذين يضربون في التراب ويخطون خطوطا وربما يضعون عليها ودعا أو حجارة أو كذا أو كذا، ويقولون: إنه يقع كذا أو يقع كذا، أو يصير كذا ويصير كذا، يشبهون بذلك على الناس ويدعون به علم الغيب، وذلك باطل، ولا يجوز إقرارهم عليه ولا تصديقهم، بل يجب على ولاة الأمر منعهم من ذلك وعقابهم بما يقتضيه الشرع المطهر، وقد روى الإمام أحمد رحمه الله بإسناد حسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت (1) » . والعيافة: زجر الطير، كما تفعل العرب في الجاهلية، إذا مر بهم الغراب ينعق قالوا: يكون كذا ويكون كذا، أو رأوا حمارا مشوها أو دابة مشوهة أو إنسانا مشوها تطيروا بهذا ورجعوا عن حاجاتهم، هذه من عيافة الجاهلية.
والطرق: هو الخطوط في الأرض، يخطون في الرمل وفي التراب، وربما حفروا أشياء، وربما وضعوا ودعا أو حجرا أو نوى يزعمون: أنه بهذا يكون كذا وكذا.
والجبت: هو الشيء الذي لا خير فيه، ويطلق على الصنم، وعلى السحر، وعلى كل ما لا خير فيه.
__________
(1) سنن أبو داود الطب (3907) ، مسند أحمد بن حنبل (5/60) .(8/91)
ما المقصود بالرقم في حديث إلا "رقما في ثوب"؟
س2: جاء في بعض كتب فضيلتكم عن التصوير: " إلا رقما في ثوب " ما المقصود بالرقم، هل هو الصورة أم هو معنى آخر؟(8/91)
ج2: فسر العلماء رحمهم الله الرقم بأمرين:
أحدهما: أنه الصورة التي تكون في البسط ونحوها مما يداس ويمتهن كالوسائد، فهذا معفو عنه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عفا عنه، والمقصود: العفو عن استعماله، أما التصوير فلا يجوز.
والثاني: أنه النقوش التي تكون في الثياب من غير الصور، فإن النقوش في الثياب لا تضر وليس حكمها حكم الصورة، إنما المحرم صورة ما له روح من آدمي أو غيره؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه دخل يوما على عائشة ورأى ثوبا فيه صورة فغضب وهتكه وقال: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم. قالت عائشة: فجعلت منه وسادتين يرتفق بهما النبي صلى الله عليه وسلم (1) » ، وخرج النسائي بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان على موعد مع جبرائيل عليه السلام فتأخر عنه، فخرج إليه ينتظره فقال له جبرائيل: إن في البيت تمثالا وسترا فيه صورة وكلبا فمر برأس التمثال أن يقطع حتى يكون كهيئة الشجرة، ومر بالستر أن يتخذ منه وسادتان منتبذتان توطآن، ومر بالكلب أن يخرج. ففعل النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل جبرائيل عليه السلام. قال أبو هريرة: وكان الكلب جروا تحت نضد في البيت أدخله الحسن أو الحسين (2) » .
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5181) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) ، مسند أحمد بن حنبل (6/246) ، موطأ مالك الجامع (1803) .
(2) سنن الترمذي الأدب (2806) ، سنن النسائي الزينة (5365) ، سنن أبو داود اللباس (4158) ، مسند أحمد بن حنبل (2/305) .(8/92)
هل الساحر يقوم بسحر أعين الجالسين معه أم يتعدى سحره؟
س3: سمعنا أن من السحر الخداع، كالذي يقوم بسحب السيارة بشعرة من شعره، فهل الساحر يقوم بسحر أعين الجالسين معه فقط، أم يتعدى سحره إلى أعين الحاضرين معه وغير الحاضرين؟ ذلك لأننا نشاهد في منازلنا وعبر شاشات التلفاز من يقوم بسحب(8/92)
سيارة بشعره أو بفمه، ونحن لم نكن بجواره حتى يسحر أعيننا فعلى أي شيء يدل ذلك؟ جزاكم الله خيرا.
ج3: الساحر يسحر المشاهدين الذين يشهدون عمله، وقد يكون هناك من يساعده في هذه العملية ولا يراه المشاهدون من الشياطين الذين يساعدونه، فهم يروننا ولا نراهم، وقد يكون سحر العين بما فعل من الشعوذة مثل من يخرج من جيبه أو فمه طائرا أو بيضة أو غير ذلك في أعين الناس، والأمر بخلاف ذلك، كما قال الله عز وجل في سحرة فرعون في سورة الأعراف: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (1) وقال في سورة طه: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} (2) {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (3)
وقد يكون ذلك فيما يجره من الأثقال بشعرة أو شعرتين مما ساعده فيه الشياطين، وهم لا يرون، ولكنهم يجرونها معه ويساعدونه وهم لا يرون، بل لهم طرق أخرى مكنهم الله منها بحيث لا نراهم، وهم يفعلون الشيء الذي يساعد أولياءهم من الإنس، كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (4) نسأل الله العافية.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 116
(2) سورة طه الآية 65
(3) سورة طه الآية 66
(4) سورة الأعراف الآية 27(8/93)
هل يعالج المسلم نفسه بنفسه بالقراءة والنفث في الماء؟
س4: هل يمكن للمسلم أن يعالج نفسه بنفسه بالقراءة والنفث في الماء؟
ج4: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أحس بمرض ينفث في يديه (ثلاث مرات) بـ (قل هو الله أحد) و (المعوذتين) ، ويمسح بهما في كل مرة ما استطاع من جسده عند النوم عليه الصلاة والسلام، بادئا برأسه ووجهه وصدره، كما أخبرت بذلك عائشة رضي الله عنها في الحديث الصحيح، ورقاه جبرائيل لما مرض في الماء بقوله: «باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك (1) » (ثلاث مرات) ، وهذه الرقية مشروعة ونافعة.
وقد قرأ صلى الله عليه وسلم في ماء لثابت بن قيس رضي الله عنه، وأمر بصبه عليه، كما روى ذلك أبو داود في الطب بإسناد حسن ... إلى غير هذا من أنواع الرقية التي وقعت في عهده عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم رقى بعض المرضى بقوله: «اللهم رب الناس، أذهب البأس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما (2) » .
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2186) ، سنن الترمذي الجنائز (972) ، سنن ابن ماجه الطب (3523) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) .
(2) صحيح البخاري الطب (5750) ، صحيح مسلم السلام (2191) ، سنن ابن ماجه الطب (3520) ، مسند أحمد بن حنبل (6/126) .(8/94)
هل الإنسان مسير أم مخير؟
س5: هل الإنسان مسير أو مخير؟
ج5: الإنسان مسير وميسر ومخير، فهو مسير وميسر بحسب ما مضى من قدر الله، فإن الله قدر الأقدار وقضى ما يكون في العالم قبل أن يخلق السماء والأرض بخمسين ألف سنة، قدر كل شيء سبحانه وتعالى، وسبق علمه بكل شيء، كما قال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (1)
__________
(1) سورة القمر الآية 49(8/94)
وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (1) وقال عز وجل في كتابه العظيم: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (2)
فالأمور كلها قد سبق بها علم الله وقضاؤه سبحانه وتعالى، وكل مسير وميسر لما خلق له، كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (3) وقال سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} (4) {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} (5) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (6) {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} (7) {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} (8) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (9) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء (10) » أخرجه مسلم في صحيحه.
ومن أصول الإيمان الستة: الإيمان بالقدر خيره وشره، فالإنسان ميسر ومسير من هذه الحيثية لما خلق له على ما مضى من قدر الله، لا يخرج عن قدر الله، كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (11) وهو مخير أيضا من جهة ما أعطاه الله من العقل والإرادة والمشيئة، فكل إنسان له عقل إلا أن يسلب كالمجانين، ولكن الأصل هو العقل، فمن كان عنده العقل فهو مخير يستطيع أن يعمل الخير والشر، قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (12) {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (13) وقال جل وعلا: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} (14)
__________
(1) سورة الحديد الآية 22
(2) سورة التغابن الآية 11
(3) سورة يونس الآية 22
(4) سورة الليل الآية 5
(5) سورة الليل الآية 6
(6) سورة الليل الآية 7
(7) سورة الليل الآية 8
(8) سورة الليل الآية 9
(9) سورة الليل الآية 10
(10) صحيح مسلم القدر (2653) ، سنن الترمذي القدر (2156) ، مسند أحمد بن حنبل (2/169) .
(11) سورة يونس الآية 22
(12) سورة التكوير الآية 28
(13) سورة التكوير الآية 29
(14) سورة الأنفال الآية 67(8/95)
فللعباد إرادة، ولهم مشيئة، وهم فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (1) وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (2) وقال تعالى: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (3) فالعبد له فعل وله صنع وله عمل، والله سبحانه هو خالقه وخالق فعله وصنعه وعمله، وقال عز وجل: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} (4) {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (5) وقال سبحانه: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (6) {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (7) فكل إنسان له مشيئة، وله إرادة، وله عمل، وله صنع، وله اختيار؛ ولهذا كلف، فهو مأمور بطاعة الله ورسوله، وبترك ما نهى الله عنه ورسوله، مأمور بفعل الواجبات، وترك المحرمات، مأمور بأن يعدل مع إخوانه ولا يظلم، فهو مأمور بهذه الأشياء، وله قدرة، وله اختيار، وله إرادة؛ فهو المصلي، وهو الصائم، وهو الزاني، وهو السارق، وهكذا في جميع الأفعال؛ هو الآكل، وهو الشارب.
فهو مسئول عن جميع هذه الأشياء؛ لأن له اختيارا وله مشيئة، فهو مخير من هذه الحيثية؛ لأن الله أعطاه عقلا وإرادة ومشيئة وفعلا، فهو ميسر ومخير، مسير من جهة ما مضى من قدر الله، فعليه أن يراعي القدر فيقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (8) إذا أصابه شيء مما يكره، ويقول: قدر الله وما شاء فعل، يتعزى بقدر الله، وعليه أن
__________
(1) سورة المائدة الآية 8
(2) سورة النور الآية 30
(3) سورة النمل الآية 88
(4) سورة المدثر الآية 55
(5) سورة المدثر الآية 56
(6) سورة التكوير الآية 28
(7) سورة التكوير الآية 29
(8) سورة البقرة الآية 156(8/96)
يجاهد نفسه ويحاسبها بأداء ما أوجب الله، وبترك ما حرم الله، بأداء الأمانة، وبأداء الحقوق، وبالنصح لكل مسلم، فهو ميسر من جهة قدر الله، ومخير من جهة ما أعطاه الله من العقل والمشيئة والإرادة والاختيار، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة ومقعده من النار. فقال بعض الصحابة رضي الله عنهم: ففيم العمل يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة. ثم تلا عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: (7) » .
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وكلها تدل على ما ذكرنا. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4949) ، صحيح مسلم القدر (2647) ، سنن الترمذي القدر (2136) ، سنن أبو داود السنة (4694) ، سنن ابن ماجه المقدمة (78) ، مسند أحمد بن حنبل (1/157) .
(2) سورة الليل الآية 5 (1) {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}
(3) سورة الليل الآية 6 (2) {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}
(4) سورة الليل الآية 7 (3) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}
(5) سورة الليل الآية 8 (4) {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}
(6) سورة الليل الآية 9 (5) {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}
(7) سورة الليل الآية 10 (6) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}(8/97)
مصير من لم يتبلغ بالإسلام يوم القيامة
س6: ما هو مصير من لم يتبلغ بالإسلام يوم القيامة، باعتباره لم يتبلغ ولم يعرف الإسلام؟
ج6: هذا حكمه حكم أهل الفترة الذين لم تبلغهم رسالة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أنهم يمتحنون يوم القيامة: فمن نجح منهم دخل الجنة، ومن عصى دخل النار، فمن لم تبلغه دعوة الإسلام ممن يكون نشأ في جاهلية بعيدة عن المسلمين، كما في زماننا، مثلا في أطراف أمريكا أو شواطئ أفريقيا البعيدة عن(8/97)
الإسلام، أو ما أشبه ذلك من الجهات التي لم يبلغها الإسلام، فهذا يمتحن يوم القيامة، يؤمر وينهى في ذلك اليوم: فإن أجاب الأمر وأطاع دخل الجنة، وإن عصى دخل النار، وقد بسط العلامة: ابن القيم رحمه الله هذا المعنى في كتابه (طريق الهجرتين) في آخر الكتاب في بحث سماه: (طبقات المكلفين) ، وأطال في هذا، وبين كلام أهل العلم، وذكر الأحاديث الواردة في ذلك.
فالإنسان الذي لم تبلغه الدعوة؛ لكونه بعيدا عن الإسلام والمسلمين، أو إنسان بلغ وهو مجنون أو معتوه ليس له عقل، وكأولاد المشركين إذا ماتوا صغارا بين المشركين في أحد أقوال أهل العلم في شأنهم، كلهم يمتحنون يوم القيامة، فمن أجاب دخل الجنة، ومن عصى دخل النار، نسأل الله السلامة.
والقول الصواب في أولاد المشركين إذا ماتوا صغارا قبل التكليف: أنهم من أهل الجنة؛ لصحة الأحاديث الدالة على ذلك.(8/98)
حكم لعب الورق والشطرنج والكيرم
س7: ما هو حكم لعب الورق والشطرنج والكيرم؟
ج7: حكم اللعب بهذه الأشياء المنع؛ لكونها من آلات اللهو الصادة عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا هو المعروف عند أهل العلم؛ لأنها تشغل وتلهي وتصد عن الخير، وفيها مغالبة قد تفضي إلى شر عظيم بين اللاعبين، وقد تشغلهم عن ما أوجبه الله عليهم.(8/98)
حكم شرب الدخان والشيشة
س8: ما هو حكم شرب الدخان والشيشة؟
ج8: حكم ذلك أنها من المحرمات؛ لما فيها من الخبث والأضرار الكثيرة، فالله سبحانه إنما أباح لعباده الطيبات وحرم عليهم(8/98)
الخبائث، كما قال جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (1) وقال سبحانه في وصف نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (2)
فجميع أنواع التدخين ليست من الطيبات، بل كلها من الخبائث؛ لما فيها من الأضرار الكثيرة، فليست من الطيبات التي أباحها الله.
فالواجب تركها، والحذر منها، وجهاد النفس في ذلك؛ لأن النفس أمارة بالسوء إلا من رحم الله، فينبغي للمؤمن أن يجاهد نفسه في ترك ما يضره من هذه الخبائث وغيرها.
__________
(1) سورة المائدة الآية 4
(2) سورة الأعراف الآية 157(8/99)
حكم لبس ساعة الذهب أو تشبه الذهب
س9: هل يجوز لبس ساعة الذهب أو الساعة الصفراء ذات اللون الذي كأنه لون ذهب؟
ج9: يجوز ذلك للنساء، أما الرجل فلا يجوز له ذلك إذا كانت الساعة من الذهب أو مطلية بالذهب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها (1) » .
أما إن كان تشبه الذهب وليست ذهبا فالأولى للرجل: تركها؛ صيانة لعرضه عن التهمة بمخالفة الشرع المطهر.
__________
(1) سنن الترمذي اللباس (1720) ، سنن النسائي الزينة (5148) .(8/99)
أفضل العلوم لزكاة النفوس في الدنيا والآخرة
س10: ما هو أفضل العلوم لزكاة النفوس في الدنيا والآخرة الواجب على المسلم الالتزام به؟
ج10: أفضل العلوم لزكاة النفوس: توحيد الله سبحانه،(8/99)
وطاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأصلها: توحيد الله، والإخلاص له، وتحقيق معنى لا إله إلا الله بإخلاص العبادة لله وحده، وترك عبادة ما سواه، والإخلاص له في كل الأعمال، ثم بقية الأوامر من الصلاة والزكاة وغير هذا، وترك ما حرم الله، مع مخالقة الناس بالخلق الحسن والحلم والصبر والجود والكرم وكف الأذى، هكذا يكون المؤمن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «البر حسن الخلق (1) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة - يعني في ضواحي الجنة - لمن ترك المراء وإن كان محقا، وأنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وأنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه (2) » .
فالحلم، والجود، والكرم، وحسن الخلق، والمبادرة إلى الخيرات، والبعد عن السيئات، والحرص على نفع الناس، كل هذا من الأخلاق العظيمة التي تزكي النفوس، كما قال عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (3) أي: بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واتباع شريعته، ونفع الناس ورحمتهم، {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (4) أي: بالمعاصي والمخالفات.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2553) ، سنن الترمذي الزهد (2389) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) ، سنن الدارمي الرقاق (2789) .
(2) سنن أبو داود الأدب (4800) .
(3) سورة الشمس الآية 9
(4) سورة الشمس الآية 10(8/100)
تعليق على آراء العلماء المشاركين في ندوة
(السحرة والمشعوذين) (1) .
__________
(1) نشرت في جريدة المدينة المنورة في العدد (11702) ليوم الخميس 20 / 11 / 1415 هـ.(8/100)
علق سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء على آراء العلماء المشاركين في الندوة التي عقدت بجامع الإمام: تركي بن عبد الله بالرياض حول السحرة والمشعوذين بقوله:
سمعنا جميعا هذه الندوة المباركة العظيمة المفيدة في شأن السحر والسحرة من أصحاب الفضيلة: الشيخ يوسف بن محمد المطلق، والشيخ إبراهيم بن عبد الله الغيث، والشيخ عمر بن سعود العيد، ولقد أجادوا وأفادوا، وأوضحوا الكثير من شأن السحر والسحرة، وأعمالهم الخبيثة، وطرقهم المنحرفة، وعظيم ضررهم، وأوضحوا - أيضا - شيئا من العلاج والتوقي من شرهم، فجزاهم الله خيرا وضاعف مثوبتهم، وزادنا وإياكم وإياهم علما وهدى وتوفيقا، ونفعنا جميعا بما سمعنا وعلمنا.
لا شك أن السحرة شرهم عظيم وخطرهم كبير، وهم موجودون من قديم الزمان، فقد كانوا في عهد فرعون، وقد استعان بهم في محاربة ما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام، وجمعهم لذلك، فأبطل الله كيدهم، وأظهر موسى عليهم، وهدى الله السحرة فأسلموا؛ لما رأوا من الآيات العظيمة التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} (1) {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 117
(2) سورة الأعراف الآية 118(8/101)
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} (1) {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} (2) {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} (3) فالمقصود: أن السحرة استعان بهم الخبيث فرعون على موسى، وقال تعالى في سورة طه: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} (4) {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (5)
فالآيات الكريمات وما جاء في معناها تبين أن السحر له وجود وله حقيقة، وأن السحرة يستعملون سحرهم فيما يضر الناس.
فالواجب الحذر منهم، وعدم إتيانهم، وعدم تصديقهم، والله جل وعلا هو القادر على إبطال سحرهم ولا يضرون أحدا إلا بإذنه سبحانه، كمل قال جل وعلا: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (6) فكل شيء بإذنه جل وعلا، لا يكون في هذا العالم شيء بغير علمه، فهو مدبر الأمور سبحانه وتعالى، ولا يكون في ملكه ما لا يريد، فله الحكمة البالغة فيما يقع في هذا العالم من خير وشر.
.. {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (7)
والنبي الكريم عليه الصلاة والسلام حذر منهم، كما حذر منهم
__________
(1) سورة يونس الآية 79
(2) سورة يونس الآية 80
(3) سورة الشعراء الآية 44
(4) سورة طه الآية 65
(5) سورة طه الآية 66
(6) سورة البقرة الآية 102
(7) سورة الأنبياء الآية 35(8/102)
الله جل وعلا في كتابه العظيم، وأبان شرهم، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (1) {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (2) {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} (3) {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (4) وهن: الساحرات ينفثن في العقد، ويقلن ما لديهن من الكلمات الباطلة، فيتم ما أردن بإذن الله، وقد لا يتم ذلك إذا لم يرد الله ذلك، فقد روى النسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك (5) » .
وقد أبان الله جل وعلا السحرة في قوله جل وعلا: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (6) فجعل تعليم السحر من أعمال الكفر، قال سبحانه: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} (7) فدل ذلك على: أن تعلمه كفر، {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (8) فمن أراد الله أن ينضر بذلك أصابه الضرر، {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} (9) فالضرر عظيم نعوذ بالله، {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} (10) أي: من حظ ولا نصيب. نسأل الله العافية، {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (11)
ثم قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (12) فدل على أنه ضد الإيمان وضد التقوى، وما ذلك إلا أنهم يتوصلون لسحرهم بعبادة الشياطين، والتقرب إليهم بما يريدون من ذبح ونذر وسجود
__________
(1) سورة الفلق الآية 1
(2) سورة الفلق الآية 2
(3) سورة الفلق الآية 3
(4) سورة الفلق الآية 4
(5) سنن النسائي تحريم الدم (4079) .
(6) سورة البقرة الآية 102
(7) سورة البقرة الآية 102
(8) سورة البقرة الآية 102
(9) سورة البقرة الآية 102
(10) سورة البقرة الآية 102
(11) سورة البقرة الآية 102
(12) سورة البقرة الآية 103(8/103)
وغير ذلك، فالسحرة يتقربون للشياطين بعبادتهم من دون الله، فيساعدونهم على ما يريدون من الضرر بالناس بكسب الدنيا.
فالواجب على كل مسلم الحذر منهم، ومن سؤالهم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن السحر من السبع الموبقات - يعني: المهلكات- كما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات. قلنا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (1) » . فأعظمها الشرك بالله، ثم السحر، والسحر من الشرك؛ لأنه لا يتوصل إليه إلا بعبادة الشياطين والتقرب إليهم بمن يرضون به وبما يريدون من ذبح ونذر وسجود وغير ذلك.
وقد يكون سحرهم بالتخييل - ولم يتعرض المشايخ للتخييل - والله بين: أنهم أيضا يخيلون للناس، كما قال جل وعلا في سورة طه: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (2) فهم قد يخيلون للناس بإلقاء حبال يظنون أنها حيات تسعى، وعصي كذلك يخيل للناظر أنها حيات، وإنما هي تخييل للأعين، فلما ألقى موسى عصاه التقفتها وذهبت بهذه الحبال والعصي، فلما رآها السحرة آمنوا وخروا سجدا مؤمنين بما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام، ولما توعدهم فرعون لم يبالوا به {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (3) {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (4)
__________
(1) صحيح البخاري الوصايا (2767) ، صحيح مسلم الإيمان (89) ، سنن النسائي الوصايا (3671) ، سنن أبو داود الوصايا (2874) .
(2) سورة طه الآية 66
(3) سورة طه الآية 72
(4) سورة طه الآية 73(8/104)
فالمقصود: أن السحرة قد يستعملون أشياء يغيرون بها الحقائق بإذن الله عز وجل، من أعمال كثيرة: من طعام وشراب وغير ذلك، وقد يخيلون تخييلا فيراه الرائي على غير ما هو عليه، يخيلون له أشياء فيرى الحبل أو العصا حية تمشي، وقد يخيل أنه خرج من فمه طيور أو حيات أو عقارب يخرجها من جوفه، وليس له حقيقة، كله تخييل، يلبس عليه بما يصنعون من التخييل، ومن ذلك أنهم يخيلون إليه قبح صورة امرأته حتى يكرهها ويبغضها، أو يخيل إليها قبح صورته إذا أقبل عليها حتى تكرهه وتبغضه ... إلى غير هذا مما يفعلون، وكله كفر، كل سحرهم كفر، سواء بأعمالهم الشيطانية التي يضرون بها الناس، أو بالتخييل الذي يخيل إلى الشخص أنه خلاف ما هو عليه، يخيل إليه أنه حيوان قبيح، ويخيل أن زوجها أسود بعدما كان أبيض، ويخيل إليها أن زوجها مريض إلى غير ذلك، وهو يخيل إليه أنها كذا وأنها كذا بسبب عمل السحرة، فعند ذلك تقع البغضاء والعداوة والفرقة.
فالواجب على كل مسلم: أن يحذر هؤلاء، وأن يبتعد عن سؤالهم، وقد سمعت فيما ذكره الشيخ عمر شيئا من علاماتهم كسؤالهم عن الأم: أمك من هي؟ وسؤالهم: أصابك كذا وأصابك كذا فيما مضى، مما خبرهم به الجن، هذه من علامات أنهم سحرة وكهنة، والكاهن عند العرب: هو الشخص الذي له صاحب من الجن يخبره عن بعض الأشياء التي تقع، والغيب لا يعلمه إلا الله، يقول سبحانه: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (1) لكن هؤلاء يخبرون: أن قد وقع له كذا
__________
(1) سورة النمل الآية 65(8/105)
ووقع لأمه كذا، من الأشياء الواقعة التي حفظها الشياطين وأدلوا بها إليه، فالشياطين تخبر بها على الساحر، والساحر يخبر بها على المريض، فيظن المريض لجهله أن عنده علما، وأنه ينبغي أن يستطب، وأن يؤخذ بقوله.
فالواجب الحذر من ذلك، وعدم سؤال السحرة والكهنة والمنجمين، فلا يسألون ولا يصدقون، يقول صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة (1) » ، فكيف إذا صدقه؟ ويقول: «من أتى عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (2) » صلى الله عليه وسلم. من صدقه في دعوى علم الغيب كفر، وإنما هم يخبرون عن أشياء واقعة، وأما علم الغيب فإلى الله، ما سيقع إلى الله وهم يخبرون عن أشياء، وقع لك كذا، أو لأمك أو لأبيك أو لأخيك أو لفلان، حتى يروجوا على الناس بأباطيلهم.
فينبغي للمؤمن، بل الواجب عليه أن يحذر هؤلاء، ويحذر سؤالهم، ويتحرز بالأوراد الشرعية والأذكار الشرعية، ويبتعد عن خرافات السحرة والمشعوذين، ومن اعتصم بالله كفاه الله جل وعلا، لكن أكثر الناس ليس عندهم عناية بالأوراد الشرعية، ولا عناية بالقرآن، ولا عناية بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا تتمكن منهم الشياطين، وتلبس عليهم، وتزين لهم الباطل؛ لجهلهم وإعراضهم، والله سبحانه يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (3) ويقول جل وعلا: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (4)
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (4/68) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/429) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .
(3) سورة الزخرف الآية 36
(4) سورة الأعراف الآية 200(8/106)
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن الآيتين من آخر سورة البقرة إذا قرأهما الإنسان في ليلة كفتاه، وهما: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (1) {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (2)
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه (3) » أي: كفتاه من كل شر، مع الإيمان الصادق ينفعك الله بهذه الأوراد الشرعية، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن من قرأ: قل هو الله أحد، والمعوذتين صباحا ومساء (ثلاث مرات) كفتاه من كل سوء، وهكذا عند النوم، فكان يقرؤها صلى الله عليه وسلم عند النوم، ينفث في يديه: في كفيه، ويقرأ هذه السور الثلاث عند النوم (ثلاث مرات) ، ويمسح بهما على ما استطاع من جسده ورأسه ووجهه وصدره، وأخبر أنها تكفي من كل سوء، ولما أصابه السحر وكان يخيل إليه، كما قالت عائشة: يخيل إنه فعل الشيء ولم يفعله، أنزل الله هاتين السورتين: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (4) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (5) فاستعملهما صلى الله عليه وسلم مع {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (6) فذهب عنه ما يجيئه، وعافاه الله من ذلك، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما تعوذ متعوذ بمثل هاتين السورتين (7) » .
فالنصيحة لكل مسلم وكل مسلمة أن يقرأ هذه السور الثلاث
__________
(1) سورة البقرة الآية 285
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) صحيح البخاري فضائل القرآن (5010) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (807) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2881) ، سنن أبو داود الصلاة (1397) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1369) ، مسند أحمد بن حنبل (4/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1487) .
(4) سورة الفلق الآية 1
(5) سورة الناس الآية 1
(6) سورة الإخلاص الآية 1
(7) سنن أبو داود الصلاة (1463) .(8/107)
قل هو الله أحد، والمعوذتين، صباحا ومساء وعند النوم، وفيها الكفاية والخير العظيم، تكفيه من شر السحر وغيره، وأن يكون مؤمنا صادقا مصدقا بما قاله الله ورسوله، وهكذا التعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق من أعظم الأسباب في الوقاية، يقول صلى الله عليه وسلم: «من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك (1) » ، وإذا قالها ثلاثا كان أكمل، وجاءه رجل فقال: «يا رسول الله، ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة؟ يعني: من الأذى، فقال صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك (2) » .
وهكذا ثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات، لم يضره شيء (3) » .
فنوصي الجميع بهذه الأذكار، وهذه التعوذات الشرعية، وبذلك يحصل الخير العظيم والفائدة الكبيرة والوقاية من كل شر، ومما يعين العبد على ذلك: أن يكثر من تلاوة القرآن الكريم ففيه الهدى والنور، فالإكثار من تلاوة القرآن فيه التبصير، وفيه الدعوة إلى كل خير، وفيه التوجيه إلى كل خير، اقرأ القرآن وتدبر معانيه، ففيه الخير العظيم، والدلالة على كل خير، والتحذير من كل شر، كما قال الله سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (4) ، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (5) أكثر من تلاوته ليلا ونهارا ففيه الشفاء
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) ، سنن الترمذي الدعوات (3437) ، سنن ابن ماجه الطب (3547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/378) ، سنن الدارمي الاستئذان (2680) .
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2709) ، مسند أحمد بن حنبل (2/375) ، موطأ مالك الجامع (1774) .
(3) سنن الترمذي الدعوات (3388) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3869) .
(4) سورة الإسراء الآية 9
(5) سورة فصلت الآية 44(8/108)
والفائدة الكبيرة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه (1) » ، وفيه إرشادك إلى أسباب النجاة، وتعرف الأعمال الطيبة حتى تعمل بها، وتعرف الأعمال الرديئة حتى تحذرها، تعرف صفات المؤمنين والأخيار حتى تأخذ بها، وتعرف صفات الأشرار حتى تحذرها، هذه من أعظم فوائد القرآن، تعرف أخبار الماضين وما جرى عليهم من أسباب أعمالهم الخبيثة وتحذرها، وتعرف أخبار الماضين وما حصل لهم من الخير، أخبار المؤمنين وأخبار الرسل بأسباب أعمالهم الطيبة، فتحرص على أعمالهم الطيبة، واقرأ كتب الأذكار التي ألفها العلماء، وفيها الفائدة العظيمة، وقد جمعت رسالة صغيرة فيها بعض الأذكار والأدعية مفيدة أيضا توجد بين الإخوان، توزع من دار الإفتاء سميتها: (تحفة الأخيار فيما يتعلق بالأدعية والأذكار) ، مختصرة فيما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيما دل عليه القرآن العظيم.
فالمؤمن يعتني بالأذكار الشرعية، والدعوات الشرعية، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: «من تصبح بسبع تمرات من عجوة المدينة لم يضره سحر ولا سم (2) » ، وفي رواية: «مما بين لابتيها (3) » ، يعني: من جميع تمر المدينة، العجوة وغير العجوة، كما رواه مسلم في الصحيح، ويرجى أن ينفع الله بذلك التمر كله، لكن نص على المدينة؛ لفضل تمرها والخصوصية فيه، ويرجى: أن الله ينفع ببقية التمر إذا تصبح بسبع تمرات، وقد يكون صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك؛ لفضل خاص، ومعلم خاص لتمر المدينة لا يمنع من وجود تلك الفائدة من أنواع التمر الأخرى التي أشار إليها عليه الصلاة والسلام، وأظنه جاء في بعض الروايات: "من تمر" من غير قيد.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (6\78)
(2) صحيح البخاري الطب (5768) ، صحيح مسلم الأشربة (2047) ، سنن أبو داود الطب (3875) ، مسند أحمد بن حنبل (1/181) .
(3) صحيح مسلم الأشربة (2047) .(8/109)
فالمقصود: أن الإنسان يأخذ بالأسباب، وأهمها: الأذكار الشرعية، والتعوذات الشرعية، هذا أهم الأسباب.
أهمها: طاعة الله ورسوله، والاستقامة على دين الله، والحذر من المعاصي، هذا أهم الأسباب: الاستقامة على دين الله، والحذر مما حرم الله من المعاصي مع استعمال الأذكار الشرعية والدعوات الشرعية، هذه الأسباب التي أرشد الله إليها، وأرشد إليها رسوله عليه الصلاة والسلام، وفيها الكفاية.
وأحذر من سؤال الكهنة والمنجمين والسحرة والعرافين ومن يتهم بذلك، أحذر غاية الحذر.
أما الرقية الشرعية من المعروفين بالخير فلا بأس بها.
ونسأل الله أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يمنحنا وإياهم الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ومن شر كل ذي شر من الناس ومن الجن والإنس، كما نسأله سبحانه: أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم، وأن يعيذنا وإياهم وسائر المسلمين من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، كما أسأله سبحانه: أن يوفق ولاة أمرنا لكل خير، وأن يعينهم على كل خير، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يكثر أعوانهم في الخير، وأن يمنحهم الهدى والتوفيق، وأن يجعلهم من أنصار دينه والدعاة إلى سبيله على بصيرة، وأن يعيذهم من شر كل ذي شر، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وأصحابه وسلم.(8/110)
ثم أجاب سماحته على أسئلة الحضور واستفساراتهم.
وردا على سؤال عن مدى جواز توبة الساحر، وهل يقام عليه الحد بعدها؟ .
أجاب سماحته: إذا تاب الساحر توبة صادقة فيما بينه وبين الله نفعه ذلك عند الله، فالله يقبل التوبة من المشركين وغيرهم، كما قال جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (1) وقال جل وعلا: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) لكن في الدنيا لا تقبل.
الصحيح: أنه يقتل، فإذا ثبت عند حاكم المحكمة أنه ساحر يقتل، ولو قال: إنه تائب، فالتوبة فيما بينه وبين الله صحيحة إن كان صادقا تنفعه عند الله، أما في الحكم الشرعي فيقتل، كما أمر عمر بقتل السحرة؛ لأن شرهم عظيم، قد يقولون: تبنا، وهم يكذبون، يضرون الناس، فلا يسلم من شرهم بتوبتهم التي أظهروها ولكن يقتلون، وتوبتهم إن كانوا صادقين تنفعهم عند الله.
__________
(1) سورة الشورى الآية 25
(2) سورة النور الآية 31(8/111)
وفي سؤال آخر لسماحته عن حكم الصلاة على الساحر ودفنه في مقابر المسلمين بعد قتله.
ج: إذا قتل لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، يدفن في مقابر الكفرة، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يصلى عليه، ولا يغسل ولا يكفن، ونسأل الله العافية.(8/111)
أسئلة ألقيت على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بعد تعليقه على ندوة (السحر وأنواعه)(8/111)
حكم من يرى: أن السحر لا يضر ما دام أنه لم يسبب شيئا من المشاكل.
س 1: ما رأي سماحتكم في رجل استعمل الرقية، ولم ير أنها تنفعه فتحول إلى السحر، ويقول: إنه لا يضر ما دام أنه لا يسبب شيئا من المشاكل؟
ج 1: السحر منكر وكفر، وإذا كان المريض لم يشف بالقراءة فالطب أيضا لا يلزم منه الشفاء؛ لأنه ليس كل علاج ينفع ويحصل به المقصود، فقد يؤجل الله الشفاء إلى مدة طويلة، وقد يموت الإنسان بهذا المرض، وليس من شرط العلاج أن يشفى الإنسان، وليس ذلك بعذر إذا عالج عند إنسان بالقراءة ولم يظهر له الشفاء أن يتوجه إلى السحرة؛ لأن المكلف مأمور بتعاطي الأسباب الشرعية والمباحة، وممنوع من تعاطي الأسباب المحرمة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عباد الله، تداووا، ولا تداووا بحرام (1) » . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» .
فالأمور كلها بيد الله سبحانه، فهو الذي يشفي من يشاء، ويقدر الموت والمرض على من يشاء، كما قال سبحانه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} (3) الآية.
__________
(1) سنن أبو داود الطب (3874) .
(2) سورة الأنعام الآية 17
(3) سورة يونس الآية 107(8/112)
فعلى المسلم الصبر والاحتساب، والتقيد بما أباح الله له من الأسباب، والحذر مما حرم الله عليه، مع الإيمان بأن قدر الله نافذ وأمره سبحانه لا راد له، كما قال عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1) وقال سبحانه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سورة يس الآية 82
(2) سورة التكوير الآية 29(8/113)
ذكر السحر بعد الشرك وقبل القتل هل هو دليل على عظم خطره؟
س 2: ذكر السحر في المرتبة الثانية بعد الشرك بالله قبل القتل مع عظم القتل في قوله صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (1) » . فهل هذا دليل على عظم خطره مع أن القتل أشنع، وقد قيل: «إن القتيل يأتي يوم القيامة تقطر أوداجه دما يوم القيامة ممسكا بمن قتله ليحاجه أمام الله: يا رب، سل هذا: فيم قتلني؟ (2) » .
ج 2: ليس القتل بأشنع من الكفر، فالكفر أعظم من القتل؛ لأن صاحبه مخلد في النار إذا مات عليه.
أما القتل فهو كبيرة من الكبائر لكنه دون الشرك، فالقتل أسهل من الشرك؛ لأن المشرك مخلد في النار أبد الآباد إذا مات على شركه، أما القاتل فقد يعفو الله عنه لأسباب كثيرة، وإن دخل النار فإنه لا يخلد فيها، بل يخرج منها بعد بقائه فيها ما شاء الله، ويدخل الجنة إذا كان لم يستحل
__________
(1) صحيح البخاري الوصايا (2767) ، صحيح مسلم الإيمان (89) ، سنن النسائي الوصايا (3671) ، سنن أبو داود الوصايا (2874) .
(2) سنن النسائي تحريم الدم (3999) ، سنن ابن ماجه الديات (2621) .(8/113)
القتل، وقد مات على التوحيد والإيمان، كسائر أهل الكبائر دون الشرك، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1)
والخلاصة: أن القتل دون السحر؛ لأن السحر كفر، ولا يتعاطاه الساحر إلا بعد كفره، وبعد عبادته للشياطين؛ ولهذا قرن بالشرك، وقال الله في حق السحرة: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة البقرة الآية 102(8/114)
الطريقة الشرعية للوقاية من السحر
س 3: ما هي الطريقة الشرعية للوقاية من السحر؟ .
ج 3: أن يسأل الله جل وعلا: العافية، ويتعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، وأن يقول: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم (ثلاث مرات) في اليوم والليلة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم يضره شيء (1) » ، وكذلك إذا نزل بيتا فقال: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك (2) » ، ويكرر في الصباح والمساء: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق (3) » ثلاث مرات «باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم (4) » ثلاث مرات، كذلك يقرأ آية الكرسي بعد كل صلاة وعند النوم.
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3388) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3869) .
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) ، سنن الترمذي الدعوات (3437) ، سنن ابن ماجه الطب (3547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/409) ، سنن الدارمي الاستئذان (2680) .
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) ، سنن الترمذي الدعوات (3437) ، سنن ابن ماجه الطب (3547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/409) ، سنن الدارمي الاستئذان (2680) .
(4) سنن الترمذي الدعوات (3388) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3869) .(8/114)
ومن أسباب السلامة أيضا قراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) و (المعوذتين) بعد كل صلاة، فهي من أسباب السلامة، وبعد الفجر والمغرب (ثلاث مرات) : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) و (المعوذتين) ، هذه من أسباب السلامة أيضا مع الإكثار من ذكر الله جل وعلا، والإكثار من قراءة كتابه العظيم، وسؤاله سبحانه وتعالى: أن يكفيك شر كل ذي شر.
ومن أسباب السلامة أيضا أن يقول: «أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة، أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر طوارق الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن (3) » .
هذه من التعوذات التي يقي الله بها العبد الشر.
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 1
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3371) ، سنن الترمذي الطب (2060) ، سنن أبو داود السنة (4737) ، سنن ابن ماجه الطب (3525) ، مسند أحمد بن حنبل (1/270) .(8/115)
هل هاروت وماروت ملكان أو بشران؟
س 4: هل هاروت وماروت ملكان أو بشران؟ نرجو بيان القول الراجح من أقوال العلماء في ذلك.
ج 4: اختلف العلماء في هذا. والأظهر: أنهما ملكان نزلا ابتلاء وامتحانا، كما قال الله عز وجل: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} (1) الآية.
وقال بعض أهل العلم: إنهما ملكان من بني آدم ابتلي الناس بهما. والقول الأول هو الأظهر. والقراءة على هذا في القول الأول بفتح اللام، وعلى القول الثاني بكسرها.
__________
(1) سورة البقرة الآية 102(8/115)
فك السحر عن الزوج ليلة الزواج
لما يسمى بـ: الربط عن زوجته.(8/115)
س 5: يحدث عندنا في مصر أن كل إنسان حينما يتزوج في أول ليلة زواجه لا يقوم بواجبه نحو زوجته، بحجة أن هناك سحرا ويسمونه: رباط، أو مربوط، أو ربط، يعني: أنه مربوط عن زوجته ولا بد من شيء ليفكه، هل هذا صحيح؟
ج 5: ليس ذلك بلازم ولكنه قد يقع، فقد يبتلى بعض الناس بأن يسحره غيره بما يمنعه عن زوجته؛ لقول الله عز وجل: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (1) الآية من سورة البقرة، ولكنه إذا استعمل التعوذات الشرعية كفاه الله شر السحرة وغيرهم، وأزال الله ذلك عنه متى وجد.
وعليه أن يقرأ على نفسه آية الكرسي، والفاتحة، وآيات السحر، وقل هو الله أحد، والمعوذتين، ويزول بإذن الله، وقد جرب هذا كثيرا، قد يقرأ له قارئ طيب من أهل الخير والصلاح الذين يرجى فيهم الخير، يقرأ هذا في ماء فيشرب منه ويغتسل منه فيذهب عنه الأذى، أو يقرأ عليه وينفث عليه بذلك فيشفيه الله من ذلك، وكل هذا من أسباب العافية.
__________
(1) سورة البقرة الآية 102(8/116)
هل للساحر توبة؟
س 6: أليس للساحر توبة؟
ج 6: الصحيح: أنه لا توبة له في حكم الظاهر، بل يجب قتله متى ثبت أنه ساحر بالبينة الشرعية لدى المحكمة؛ حماية للمجتمع الإسلامي من شره.
والأصل في ذلك: أن عمر رضي الله عنه أمر عماله بقتل السحرة من غير استتابة، وهكذا حفصة رضي الله عنها أم المؤمنين أمرت بقتل(8/116)
جارية لها سحرتها، ولم تستتبها.
وثبت عن جندب بن عبد الله الصحابي الجليل رضي الله عنه أنه قال: حد الساحر ضربه بالسيف. أما فيما بينه وبين الله فتوبته مقبولة إن صدق في ذلك؛ لعموم قوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «التوبة تهدم ما كان قبلها» ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (2) » ، ولأن الله سبحانه قبل توبة المشركين وعفا عنهم، والساحر من جملتهم إذا تاب وصدق.
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .(8/117)
أشكال الأذى التي يتعرض لها المبتلى بالسحر وهل يؤثر على عضو الرجل؟
س7: ما هي أشكال الأذى التي يتعرض لها الإنسان الذي يبتلى بالسحر؟ وهل يمكن بواسطة السحر التأثير على عضو الرجل؟
ج 7: قد يترتب عليه آثار: منها الخبل، ومنها بغضه لإخوانه أو لزوجته، أو فلان أو فلانة، ومنها: حبسه عن زوجته، ومنها: أشياء غير ذلك، ومنها: أنه يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله.... إلى غير ذلك من أنواع الضرر.(8/117)
هل سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
س 8: هل سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ .
ج 8: سحر وعافاه الله، فالسحر لم يؤثر على رسالته وعلى تبليغه، وإنما شيء أثر فيما بينه وبين أهله ثم زال بحمد الله لما أنزل الله عليه المعوذتين، ورقى نفسه بهما، فأزال الله عنه الأذى.(8/117)
حكم تعلم حل وفك السحر عن المسحور
س 9: هل يجوز تعلم حل أو فك السحر عن المسحور؟ .
ج 9: إذا كان بالشيء المباح من الأدعية الشرعية، أو الأدوية المباحة، أو الرقية الشرعية، فلا بأس، أما أن يتعلم السحر ليحل به السحر، أو لمقاصد أخرى فذلك لا يجوز، بل هو من نواقض الإسلام؛ لأنه لا يمكن تعلمه إلا بالوقوع في الشرك، وذلك بعبادة الشياطين من الذبح لهم، والنذر لهم، ونحو ذلك من أنواع العبادة، والذبح لهم والتقرب إليهم بما يحبون حتى يخدموه بما يحب، وهذا هو الاستمتاع الذي ذكره الله سبحانه بقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (1)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 128(8/118)
حكم الذهاب لمن يدعي أنه يعالج السحر
س 10: مرض لي أخ فترة طويلة من الزمن وذهبت به إلى كثير من المستشفيات ولكن لم يستفد من كل ذلك، وبعد ذلك قالوا: إن عنده بعض السحر، فذهبت به إلى شخص يدعي أنه يعالج مرض السحر، وعالجه بطرق غريبة حسب طرقهم الخاصة والمعروفة للجميع، وقد شفي بإذن الله، وسؤالي: هل أنا آثم بذلك؟ .
ج 10: إذا كان معروفا بأنه يتعاطى السحر أو علم الغيب، فأنت آثم، وعليك التوبة إلى الله، والرجوع إليه، وعدم العود، وإن كان يتعاطى العلاج بالقراءة والأدعية المباحة فلا بأس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(8/118)
«من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة (1) » رواه مسلم في الصحيح، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (2) » عليه الصلاة والسلام. رواه أهل السنن بإسناد جيد، وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «ليس منا من سحر أو سحر له، وليس منا من تطير أو تطير له، وليس منا من تكهن أو تكهن له» .
فلا يجوز للمسلم أن يأتي هؤلاء الكهنة أو السحرة أو العرافين - وهم الذين يدعون معرفة أمور الغيب - أو يسألهم، فقد يشفى المريض بأسباب كثيرة، وقد لا يشفى، وليس كل مريض يشفى، فقد يعالج بدواء لا يناسب داءه، وقد يكون أجله قد حضر فلا تنفع الأدوية، ونفع الأدوية مشروط بعدم حضور الأجل، كما قال الله عز وجل: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} (3) أما إذا جاء الأجل فلا تنفع الأدوية. وفق الله الجميع.
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (4/68) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/429) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .
(3) سورة المنافقون الآية 11(8/119)
فوائد مهمة تتعلق بالعقيدة(8/119)
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذه فوائد تتعلق بالعقيدة:
الفائدة الأولى:
جميع الاعتقادات في النجوم، والبروج، والشهور، والأيام، والأماكن كلها باطلة إلا ما ثبت في الشرع المطهر.
ولا شك أن الاعتقادات في النجوم التي يتعاطاها الكهنة، والمنجمون، والسحرة، والرمالون وغيرهم كلها اعتقادات موروثة عن الجاهلية، والكفرة من العرب والعجم، وعباد النجوم، ومن عباد الأوثان والأصنام، ومن غيرهم، فإن الشياطين من الإنس والجن يدخلون على الناس اعتقادات فاسدة إذا رأت قلوبهم خالية من العلم النافع، والبصيرة النافذة، والإيمان الصادق، فإنها تدس عليهم علوما فاسدة، واعتقادات خاطئة، فيتقبل أولئك هذه الاعتقادات الفاسدة، وهذه الأعمال السيئة؛ لأن لديهم قلوبا فارغة ليس فيها حصانة، وليس عندهم علم يردها ويدفعها؛ كما قال الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكنا
فإن القلوب الخالية من العلوم النافعة تتقبل كل شيء، ويعلق بها كل باطل إلا من رحم الله، فإذا انتشرت العلوم النافعة في البلد أو في القبيلة أو في الدولة، وكثر علماء الخير والهدى والصلاح، وانتشرت العلوم التي جاء بها كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم - طفئت نار هؤلاء(8/120)
الشياطين، وخمدت حركاتهم، وانتقلوا إلى مكان آخر يجدون فيه الفرصة لنشر ما عندهم من الباطل، وهذا هو الواقع في كل زمان ومكان، كلما غلب الجهل كثرت الاعتقادات الفاسدة، والأعمال الضارة المخالفة لشرع الله عز وجل.
وكلما انتشر العلم الشرعي بين الناس في أي مكان، أو في أي قرية ارتحل عنها الجهل والبلاء، وارتحل عنها من يدعو إلى الاعتقادات الفاسدة والظنون الباطلة، والأعمال الشركية ... إلى غير ذلك.
وبهذا يعلم أن الناس في أشد الضرورة والحاجة إلى العلم النافع؛ العلم بالله عز وجل، وبشرعه وبدينه وبكتابه وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن التعلق بالنجوم والبروج وغيرهما من المخلوقات أقسام:
منها: ما هو كفر أكبر بلا شبهة، ولا خلاف بين أهل العلم، وهو: أن يعتقد أن هذه النجوم والبروج - وهي اثنا عشر برجا - أو الشمس، أو القمر، أو أحدا من الناس أن له التصرف في الكون، أو أنه يدبر بعض الكون فهذا شرك أكبر، وكفر أعظم، نسأل الله العافية؛ لأن الله عز وجل مصرف الكائنات، ومدبر الأمور، لا مدبر سواه عز وجل، ولا خالق غيره، كما قال سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1) وقال في سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (2)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 54
(2) سورة يونس الآية 3(8/121)
فهو سبحانه وتعالى مدبر الأمور ومصرف الكائنات، وليس معه شريك في ذلك، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي، ولا غير ذلك، ومن زعم أن لله تعالى شريكا في تدبير الأمور العلوية أو السفلية فقد كفر إجماعا.
فهو سبحانه الواحد الأحد، الخالق الرازق، ليس له شريك في تدبير الأمور، ولا في خلق الأشياء، ولا شريك له في العبادة، وهو المتصرف في عباده سبحانه وتعالى كيف يشاء، كما أنه ليس له شريك في أسمائه ولا في صفاته، وله الكمال المطلق في أسمائه الحسنى وصفاته العليا جل وعلا، قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) وقال سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (5) وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (6)
الفائدة الثانية:
كل من يعتقد أن لبعض النجوم تأثيرا في الحوادث والأحوال الفلكية من سير النجوم، والشمس، والقمر، وأن لها تأثيرا في هذه المخلوقات؛ في تدبيرها وتصريف شئونها، وأن هذه المخلوقات لها تصرف في الكون بإذن الله، ويزعم أن هذا التصرف بإذن الله، وأنها تدبر كذا وتدبر كذا، وهذا أيضا باطل وكفر وضلال.
كما يعتقد هذا عباد القبور، فإن عباد القبور، وعباد المشايخ،
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2
(3) سورة الإخلاص الآية 3
(4) سورة الإخلاص الآية 4
(5) سورة البقرة الآية 163
(6) سورة الشورى الآية 11(8/122)
وعباد الصالحين، وعباد الأصنام يعتقدون: أن الله جعل لها شيئا من التصرف في خلقه، وأن لبعض الأولياء تصرفا في الكون يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، وهذا باطل أيضا، وجهل وكفر وضلال - نسأل الله العافية - بل التصرف لله وحده، وإنما جعل للعباد أشياء محدودة كإعطاء الله عز وجل الرجل ما يعينه على أسباب الرزق؛ كاليد، والعقل، والسمع، والبصر، وإعطائه ما يعينه على أسباب النسل والذرية؛ من النكاح، وجعل فيه الشهوة، والميل إلى النساء، وجعل للشمس أشياء محدودة من طبعها بسبب حرارتها، ولها آثار في النباتات، هذه الأشياء كلها من خلق الله سبحانه؛ كطبيعة القمر جعله الله تعالى سراجا منيرا، ويعرف به عدد الشهور والأعوام والحساب إلى غير ذلك، وكطبيعة الماء، وطبيعة النار وغيرهما.
كل مخلوق جعل الله له طبيعة تخصه ليست متعلقة بالكائنات كلها، أما من ظن أن لبعض المخلوقات تصرفا في الكائنات، أو أن لها تدبيرا في الكائنات؛ من صنم، أو ولي، أو نبي، أو نجم، أو غير ذلك، فهذا كفر وضلال، نسأل الله العافية.
الفائدة الثالثة:
تتعلق بعلم التسيير لا التأثير:
فالتسيير للنجوم والكواكب يستدل به على: أوقات البذر، وأوقات غرس الأشجار، والاستدلال على: جهة القبلة، وعلى دخول أوقات الصلاة، وعلى شبه ذلك، وتمييز الفصول بعضها من بعض، وتمييز الأوقات بعضها من بعض، وهذا يسمى بـ: علم التسيير، ولا بأس به، وهو معروف، فإن الله جعل لكل شيء وقتا مناسبا، وجعل سير الشمس والقمر والنجوم من الدلائل على هذه الأوقات التي يحتاج العباد إلى(8/123)
معرفة خصائصها، وما ينتفع به فيها، كما يستدل بالنجوم أيضا على البلدان، وعلى مواضع المياه التي يحتاجها الناس ويريدونها ... إلى غير ذلك، كما قال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (1) وقال سبحانه: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (2) فالله جعل لهذه النجوم في سيرها - خصوصا النجوم المعروفة والنجوم الثابتة - عملا يستدل بها على أشياء كثيرة من أماكن البلاد وجهاتها، وجهة القبلة، وما أشبه ذلك حتى يهتدى بها، ويسار على ضوئها في تلك الأماكن الخافية، كل ذلك جعله سبحانه لمصلحة العباد.
ومن هذا الباب ما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب الناس في يوم مطير، قال لهم عليه الصلاة والسلام: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا:: الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب (3) » .
فهذا الذي يظن أو يعتقد: أن المطر من الكواكب، وأن لها تأثيرا فيه، فهذا هو الذي أنكره الله عز وجل، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم إنكاره، فإذا قال: مطرنا بنوء كذا، أو بنجم كذا، هو كافر بالله مؤمن بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بالله كافر بالكوكب.
فتبين أن الكواكب ليس لها تأثير في المطر ولا في النبات، بل
__________
(1) سورة الأنعام الآية 97
(2) سورة النحل الآية 16
(3) صحيح البخاري (2 / 23) ، وصحيح مسلم بشرح النووي (2 / 52)(8/124)
الله سبحانه وتعالى هو الذي ينزل المطر، ويخرج النبات وينفع عباده بما يشاء، وإنما جعل الله عز وجل غيابها وطلوعها علامات يهتدى بها في البر والبحر، وسببا لصلاح بعض النبات ونموه، فإن الله تعالى جعل بعض المخلوقات سببا لبعض المخلوقات الأخرى، وهو الخالق للجميع، أما إذا أراد القائل بقوله: مطرنا بنوء كذا، بأنه وقت وظرف المطر الذي نزل فيه بإذن الله، مثل أن يقول: نزول المطر في وقت الثريا، في وقت الوسمي، ينبت به بإذن الله كذا وكذا، فيخبر بالأوقات التي جرت العادة بوجود هذه الأشياء فيها، فهذا لا بأس به، لكن يجب أن يأتي بـ (في) الدالة على الظرفية فيقول: مطرنا في الربيع، في الشتاء، في وقت ظهور النجم الفلاني، وما أشبه ذلك من باب الخبر عن الأوقات، ولا يجوز أن يقول: مطرنا بنوء كذا؛ لإنكار الله سبحانه ذلك، وحكمه على قائله بأنه كافر به، ولأن ذلك يوهم أن المطر منها؛ فلهذا جاء الحديث الصحيح بالنهي عن ذلك.
ولهذا فرق أهل العلم بين مطرنا بنوء كذا وبين مطرنا في كذا وكذا في وقت النجم الفلاني، من باب الخبر عن الأوقات التي جرى فيها نزول المطر، أو جرى فيها النبات الفلاني أو الثمرة الفلانية التي جرت العادة أنها توجد في أوقات معينة، فهذا لا بأس به كما تقدم، وبه يعلم الفرق بين الجائز والمحرم. والله ولي التوفيق.
الفائدة الرابعة:
تتعلق بالسحر والسحرة: فنقول: لا شك أن تصديق السحرة والمنجمين والرمالين ونحوهم وسؤالهم لا يجوز؛ لأنهم يدعون علم الغيب بأشياء يتخذونها ويلبسون بها على الناس؛ من الخط في(8/125)
الأرض، أو ضرب الحصى، أو قراءة الكف، أو السؤال عن برج فلان وفلان، وأنه سيموت له كذا وكذا، أو يذكرون له اسم أمه وأبيه، وأنه إذا كان في وقت كذا كان كذا، وكل هذا باطل، وهو من أعمال المنجمين والسحرة والكهان والمشعوذين، فلا يجوز تصديقهم ولا سؤالهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن سؤالهم وتصديقهم، «فقد ثبت أن معاوية بن الحكم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن عندنا كهانا. قال: لا تأتوهم. قال: وإن منا أناسا يتطيرون. قال: ذلك شيء يجده أحدكم في صدره فلا يصدنكم (1) » .
وقال صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة (2) » . خرجه مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي، وقال صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (3) » صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «الطيرة شرك. قالها ثلاثا (4) » .
فبين عليه الصلاة والسلام أن هذه الأمور من أعمال الجاهلية التي يجب اجتنابها وطرحها والحذر منها، وأن لا يؤتى أهلها ولا يسألوا ولا يصدقوا؛ لأن إتيانهم وسؤالهم فيه رفع لشأنهم، ويسبب شيوع أمرهم في البلاد، وتصديق الناس لهم فيما يقولون من الأمور الباطلة التي لا أساس لها، ويسبب بعضها وقوع الشرك، وأنواعا من الباطل والمنكرات، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم: أن الشياطين تسترق السمع من السماء، فيسمعون الكلمة من السماء مما تتحدث به الملائكة فيكذبون معها مائة كذبة، فيصدقهم الناس بكذبهم؛ بسبب تلك الكلمة التي استرقوها.
فيجب على ولاة الأمور الإنكار عليهم، وعقابهم بما يستحقون شرعا، وأعظم من ذلك من ادعى علم الغيب فإنه يستتاب، فإن تاب
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537) ، سنن النسائي السهو (1218) ، سنن أبو داود الصلاة (930) ، مسند أحمد بن حنبل (5/447) .
(2) صحيح مسلم السلام (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (4/68) .
(3) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/476) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .
(4) سنن الترمذي السير (1614) ، سنن أبو داود الطب (3910) ، سنن ابن ماجه الطب (3538) ، مسند أحمد بن حنبل (1/440) .(8/126)
وإلا قتل كافرا، ولا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه، كما قال عز وجل: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (1) الآية من سورة النمل.
ولما سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، قال: «ما المسئول بأعلم من السائل (2) » . والمعنى: أني لا أعلمها أنا ولا أنت، قال سبحانه في سورة الأعراف: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (3) {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (4) الآية.
وقال سبحانه في سورة النمل: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (5) الآية، وقال سبحانه في سورة النازعات: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} (6) {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} (7) {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} (8) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وهكذا السحرة يدعون علم الغيب ومن شأنهم التلبيس على الناس، فالواجب قتلهم من غير استتابة على الصحيح.
وقد وجد في عهد عمر رضي الله عنه ثلاثة من السحرة، وسئل
__________
(1) سورة النمل الآية 65
(2) صحيح البخاري الإيمان (50) ، صحيح مسلم الإيمان (10) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4991) ، سنن ابن ماجه المقدمة (64) ، مسند أحمد بن حنبل (2/426) .
(3) سورة الأعراف الآية 187
(4) سورة الأعراف الآية 188
(5) سورة النمل الآية 65
(6) سورة النازعات الآية 42
(7) سورة النازعات الآية 43
(8) سورة النازعات الآية 44(8/127)
عنهم، فأمر بقتلهم جميعا؛ لأن السحرة ضررهم عظيم مع دعواهم علم الغيب، فيضرون الناس كثيرا.
ومن أعمالهم الخبيثة: الصرف، والعطف، والتفريق بين الزوجين والأقارب، بما يفعلون من أعمال السحر وأنواعه الذي يضر الجميع، ويبغض هذا لهذا وهذا لهذا، مما يتلقونه من الجن والشياطين ويخدمونهم به، فالجن تخدم الإنس، والإنس تخدم الجن؛ فالجن تخدم الإنس بإخبارهم ببعض الحوادث في البلدان القريبة والبعيدة، وتعينهم على ظلم الناس، والإنس تخدم الجن بعبادتهم من دون الله، ودعائهم، والنذر لهم، والذبح لهم، ونحو ذلك.
وهذا هو استمتاع بعضهم ببعض المذكور في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (1)
فعلى ولاة الأمور؛ من الأمراء والعلماء أن يمنعوا الشرور التي تقع في بعض البلدان من السحرة والمنجمين والكهنة، وأن يجعل في الناس من يسأل عنه حتى يقضى عليهم، فالذي يستحق القتل يقتل، والذي يستحق الحبس يحبس، حتى يسلم الناس من شرهم، ولا يجوز التستر عليهم؛ لما يتعلق بوجودهم من الخطر العظيم والشر الكثير، وقد يعالج بعضهم الناس بالطب العربي وهو يكذب عليهم؛ ليعالجهم بالشعوذة وخدمة الجن، وعبادة الجن من دون الله فينجح مرة ويفشل مائة مرة، وهذا كله من التدليس والتلبيس على
__________
(1) سورة الأنعام الآية 128(8/128)
الناس إدخال الشر عليهم، فبعضهم يقول: هات اسم أمك، هات كذا، هات كذا، وأنا أعرف مرضك وأعطيك الدواء المناسب، فيأخذون الأموال الكثيرة ثم لا يفيدونهم بشيء، ولو أفادوهم لم يكن ذلك مسوغا للمجيء إليهم وسؤالهم ولا تصديقهم، فالشيطان قد يعرف دواء المرض لكن خطره وشره أخطر وأعظم.
فالحاصل: أن الاستفادة منهم في بعض الأحيان لا تسوغ المجيء إليهم ولا سؤالهم، ولو زعم بعض الناس أنهم يفيدونهم وأنهم يعالجون المرض بالطب الشعبي ما داموا قد عرفوا أنهم كهان أو سحرة أو مشعوذون، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو لسحر له» .
وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من هؤلاء، وكانوا موجودين في الجاهلية، فقد كان أهل الجاهلية يتحاكمون إليهم ويسألونهم عن علم الغيب؛ لجهلهم وضلالهم، وقد أغنى الله تعالى المسلمين عن ذلك بما شرع الله لهم من الأحكام وبما أباح لهم من الرقية الشرعية، والأدعية، والأدوية المباحة، وقد بين كتاب الله سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ذلك، وجعل الله لهم الشرع حاكما بين الناس يرجعون إليه في كل شيء، فلا حاجة لهم إلى الكهنة، ولا إلى المشعوذين والعرافين والسحرة الذين يتعلمون أشياء يضرون بها الناس، ويفرقون بها بين المرء وزوجه، وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله جل وعلا، كما قال سبحانه: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 102(8/129)
فهذه الأشياء السحرية قد تقع، لكن بإذن الله ومشيئته سبحانه وتعالى، لا يقع في ملكه ما لا يريد جل وعلا، وإن كانت هذه الأشياء تجري بمشيئة الله وقدره، فيجب أن نعالج قدر الله بقدره، ويجب أن نحارب كل الشرك والمعاصي، مع العلم بأنه لا يقع شيء منها إلا بمشيئته جل وعلا، ولكنه سبحانه شرع لنا أن نحاربها، وأن نمتنع منها، وأن تقام فيها الحدود الشرعية.
فالواجب على العلماء وولاة الأمور أن يحاربوا ما حرم الله ورسوله بما شرع الله من إقامة الحدود والتعزيرات بما يقضي على وجود المنكرات والكفر والضلال.
وهكذا الطيرة: مثل أن يتطير الإنسان من طائر، أو حمار، أو شهر كصفر وغيره، أو يوم كيوم الأربعاء وغيره، أو من إنسان، والطيرة هي التي تردك عن حاجتك، وهي من الشرك الأصغر، فيجب الحذر من ذلك، وهكذا إذا تشاءم الإنسان من طائر ينعق كالغراب، أو من البومة، فإذا رآها ذلك اليوم قال: لا أسافر، أو إذا نزلت في بيته تشاءم وظن أنه سيحدث سوء في البيت، وهذا من عمل الجاهلية؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك (1) » ، وفي لفظ آخر: «اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك (2) » .
فالمسلم يعتصم بالله ويتوكل عليه، ويعمل بالأسباب الشرعية
__________
(1) سنن أبو داود الطب (3919) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/220) .(8/130)
ولا يتأثر بهذه الأشياء، ولا يتعلق بها، ولا ترده عن حاجته، فإذا ردته عن حاجته وقع في الشرك وشابه أهل الجاهلية، بل على المسلم أن يتوكل على الله عز وجل.
والتوكل على الله عز وجل يتضمن أمرين:
أحدهما: الاعتماد على الله تعالى، والإيمان بأنه لا يقع شيء في الوجود إلا بمشيئته وقدره.
الثاني: الأخذ بالأسباب الشرعية والمباحة في علاج ما ينزل به من الحوادث فيجمع بين الأمرين: الإيمان بالقدر، وفعل الأسباب.
فالمسلم يعلم أن المرض بإذن الله سبحانه وتعالى، ولكن يعالجه بالأسباب الشرعية والأدوية المباحة، كما يعالج الظمأ بالشرب، ويعالج الجوع بالأكل، ويعالج الخوف بأسباب الأمن، ويعالج أخطار السرقة بإغلاق بابه، وما أشبه ذلك.
وكذلك في البرد يستدفئ بالنار وبالملابس، وهو مع هذا يؤمن بأن كل شيء بيد الله جل وعلا؛ ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان (1) » أخرجه مسلم في الصحيح (2) .
فالمسلم يعالج مريضه ويأخذ بالأسباب، فإذا مات له ميت احتسب وقال: " إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل "، ولا يقول: لو أني سافرت إلى بلاد كذا لكان كذا، وكذلك عليه أن يبيع
__________
(1) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه المقدمة (79) ، مسند أحمد بن حنبل (2/370) .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي (16 \ 176)(8/131)
ويشتري ويأخذ بالأسباب، فإذا خسر فليقل: " إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل "، ولا يقول: لو أني بعت هذه البضاعة في مكان كذا لكان كذا، انتهى الأمر، وما كتبه الله قد وقع فلا اعتراض على قدر الله، ولكن الأخذ بالأسباب مشروع، فانظر وتأمل إذا كان البيع والشراء في المحل الفلاني أحسن فاعمل بذلك أولا، وأما بعد وقوع الحادث أو الخسارة في البيع فقل: " قدر الله وما شاء فعل "، ودع كلمة (لو) فإنها تفتح عمل الشيطان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
والله ولي التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
الفائدة الخامسة:
بيان وجوب تطبيق السنة المطهرة ومكانتها في الإسلام:
لا شك أن السنة المطهرة هي الأصل الثاني من أصول الإسلام، وأن مكانتها في الإسلام الصدارة بعد كتاب الله بإجماع أهل العلم قاطبة، وهي حجة قائمة مستقلة على جميع الأمة، من جحدها أو أنكرها أو زعم أنه يجوز الإعراض عنها والاكتفاء بالقرآن فقط فقد ضل ضلالا بعيدا، وكفر كفرا أكبر، وارتد عن الإسلام بهذا المقال، فإنه بهذا المقال وبهذا الاعتقاد يكون قد كذب الله ورسوله، وأنكر ما أمر الله به ورسوله، وجحد أصلا عظيما من أصول الإسلام قد أمر الله بالرجوع إليه، والاعتماد عليه، والأخذ به، وأنكر إجماع أهل العلم وكذب به وجحده.
وقد أجمع علماء الإسلام على أن الأصول المجمع عليها ثلاثة: الأصل الأول: كتاب الله، والأصل الثاني: سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، والأصل الثالث: إجماع أهل العلم.(8/132)
وتنازع أهل العلم في أمور أخرى أهمها القياس، والجمهور على أنه أصل رابع إذا استوفى شروطه المعتبرة.
أما السنة فلا نزاع ولا خلاف على أنها أصل مستقل، وأنها هي الأصل الثاني من أصول الإسلام، وأن الواجب على جميع المسلمين، بل على جميع الأمة: الأخذ بها، والاعتماد عليها، والاحتجاج بها إذا صح السند عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وقد دل على هذا المعنى آيات كثيرات، وأحاديث صحيحة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، كما دل على هذا المعنى إجماع أهل العلم قاطبة على وجوب الأخذ بها، والإنكار على من أعرض عنها أو خالفها، وقد نبغت نابغة في صدر الإسلام أنكرت السنة: وهم الخوارج، فإن الخوارج كفروا كثيرا من الصحابة وغيرهم، وصاروا لا يعتمدون بزعمهم إلا على كتاب الله عز وجل؛ لسوء ظنهم بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتابعتهم الرافضة فقالوا: لا حجة إلا فيما جاء عن طريق أهل البيت فقط، وما سوى ذلك لا حجة فيه.
ونبغت نابغة بعد ذلك - ولا يزال هذا القول يذكر ما بين وقت وآخر - وتسمى هذه النابغة الأخيرة: (القرامطة) ، ويزعمون أنهم أهل القرآن، وأنهم يحتجون بالقرآن فقط، وأن السنة لا يحتج بها؛ لأنها إنما كتبت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة طويلة، ولأن الإنسان قد ينسى وقد يغلط، ولأن الكتب قد يقع فيها الغلط ... إلى غير ذلك مما قالوه من الترهات والخرافات، والآراء الفاسدة، وزعموا أنهم بذلك يحتاطون لدينهم فلا يأخذون إلا بالقرآن فقط، وقد ضلوا عن سواء السبيل، وكذبوا وكفروا بذلك كفرا أكبر بواحا، فإن الله عز وجل أمر بطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، واتباع ما جاء به، ولو كان رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتبع(8/133)
ولا يطاع لم يكن للأوامر قيمة، وقد أمر أن تبلغ سنته، وكان إذا خطب أمر أن تبلغ سنته، فدل ذلك: على أن سنته صلى الله عليه وسلم واجبة الاتباع، وأن طاعته واجبة على جميع الأمة كما تجب طاعة الله عز وجل، ومن تدبر القرآن العظيم وجد ذلك واضحا، قال تعالى في كتابه الكريم في سورة آل عمران: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (1) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) فقرن طاعة الرسول بطاعته، ثم علق الرحمة بطاعة الله ورسوله، وقال في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (3)
فأمر بطاعة الله وطاعة رسوله، وكرر الفعل في ذلك، وأمر بطاعة أولي الأمر إذا كان ما أمروا به لا يخالف أمر الله ورسوله، ثم نبه أن العمدة في ذلك على طاعة الله ورسوله، فقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (4) ولم يقل: إلى أولي الأمر منكم، فدل ذلك: على أن الرد في مسائل النزاع والخلاف إنما يكون لله ولرسوله.
قال العلماء: معنى إلى الله: أي إلى كتاب الله، ومعنى الرد إلى الرسول: أي إلى الرسول في حياته، ولسنته بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، فعلم بذلك: أن سنته مستقلة، وأنها أصل مستقل من أصول الإسلام، وقال جل وعلا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (5) وقال سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} (6) إلى أن قال
__________
(1) سورة آل عمران الآية 131
(2) سورة آل عمران الآية 132
(3) سورة النساء الآية 59
(4) سورة النساء الآية 59
(5) سورة النساء الآية 80
(6) سورة الأعراف الآية 157(8/134)
سبحانه: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) فجعل الفلاح لمن اتبعه عليه الصلاة والسلام دون غيره، فدل ذلك على أن من أنكر سنته ولم يتبعه فإنه ليس بمفلح وليس من المفلحين، ثم قال بعدها: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2) فجعل الهداية باتباعه عليه الصلاة والسلام، وقال عز وجل في آية أخرى من سورة النور: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (3) وقال في سورة النور أيضا: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) وقال في آخر سورة النور: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (5) وقال جل وعلا في سورة آل عمران: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (6) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وبذلك يعلم أن المخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم على خطر عظيم من أن تصيبه فتنة بالزيغ والشرك والضلال أو عذاب أليم، وقال عز وجل
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) سورة النور الآية 54
(4) سورة النور الآية 56
(5) سورة النور الآية 63
(6) سورة آل عمران الآية 31(8/135)
في سورة الحشر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1)
وهذه الآيات وما جاء في معناها كلها دالة على وجوب اتباعه وطاعته عليه الصلاة والسلام، وأن الهداية والرحمة والسعادة والعاقبة الحميدة كلها باتباعه وطاعته عليه الصلاة والسلام، فمن أنكر السنة فقد أنكر كتاب الله، ومن قال: إنه اتبع كتاب الله من دون السنة فقد كذب وغلط وكفر؛ لأن القرآن أمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبعه فإنه لم يعمل بكتاب الله ولم يؤمن بكتاب الله؛ إذ كتاب الله أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر باتباعه وحذر من مخالفته، فمن زعم أنه يأخذ بالقرآن، ويتبع القرآن دون السنة فقد كذب؛ لأن السنة جزء من القرآن، فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم جزء من القرآن، ودل على الأخذ بها القرآن، وأمر بالأخذ بها القرآن، فلا يمكن أن ينفك هذا عن هذا، ولا يمكن أن يكون الإنسان متبعا للقرآن بدون اتباع السنة، ولا يكون متبعا للسنة دون اتباع القرآن، فهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر.
ومما جاء في السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ما رواه الشيخان في الصحيحين، من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني (2) » .
وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قيل: يا رسول الله، من يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى (3) » . وهذا واضح في أن من
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) سنن النسائي البيعة (4193) ، مسند أحمد بن حنبل (2/387) .
(3) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، صحيح مسلم الإمارة (1835) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .(8/136)
عصى الرسول فقد عصى الله، ومن عصى الله فقد أبى دخول الجنة.
وفي سنن أبي داود، وصحيح الحاكم بإسناد جيد، عن المقدام بن معدي كرب الكندي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه (1) » . المراد بالكتاب: هو القرآن، ومثله معه: أي السنة - الوحي الثاني- «ألا يوشك رجل شبعان متكئا على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه (2) » . وفي لفظ: «يوشك رجل شبعان على أريكته يحدث بالأمر من أمري مما أمرت به ونهيت عنه، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه اتبعناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله (3) » . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على جميع الأمة أن تعظم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تعرف قدرها، وأن تأخذ بها، وتسير عليها، فهي الشارحة والمفسرة لكتاب الله عز وجل، والدالة على ما قد يخفى من كتاب الله، والمقيدة لما قد يطلق من كتاب الله، المخصصة لما قد يعم من كتاب الله، ومن تدبر كتاب الله وتدبر السنة عرف ذلك؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (4) فهو المبين للناس ما نزل عليهم - عليه الصلاة والسلام - فإذا كانت سنته غير معتبرة ولا يحتج بها، فكيف يبين للناس دينهم وكتاب ربهم؟! هذا من أبطل الباطل.
فعلم بذلك أنه صلى الله عليه وسلم هو المبين لكتاب الله، كما قاله الله، وأنه
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4604) .
(2) سنن الترمذي العلم (2664) ، سنن أبو داود السنة (4604) ، سنن ابن ماجه المقدمة (12) ، سنن الدارمي المقدمة (586) .
(3) سنن الترمذي العلم (2664) ، سنن أبو داود السنة (4604) ، سنن ابن ماجه المقدمة (12) ، سنن الدارمي المقدمة (586) .
(4) سورة النحل الآية 44(8/137)
المفسر لما قد يخفى من كتاب الله، وقال سبحانه في سورة النحل: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) فبين جل وعلا أنه أنزل الكتاب عليه ليبين للناس ما اختلفوا فيه، فإذا كانت سنته لا تبين للناس ولا يحتج بها بطل هذا المعنى، فهو سبحانه وتعالى يبين أنه هو الذي يبين للناس ما نزل إليهم، ويفصل النزاع بين الناس فيما اختلفوا فيه، فدل ذلك على أن سنته لازمة الاتباع وواجبة الاتباع، وليس هذا خاصا بأهل زمانه وصحابته رضي الله عنهم، بل هو لهم ولمن يجيء بعدهم إلى يوم القيامة، فإن الشريعة شريعة لزمانه ولمن بعد زمانه إلى يوم القيامة، فهو رسول الله إلى الناس عامة، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2) وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (3) وقال عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (4)
فهو رسول الله إلى جميع العالم: الجن والإنس، العرب والعجم، الأسود والأبيض، الغني والفقير، الحكام والمحكومين إلى يوم القيامة، ليس بعده نبي، فهو خاتم الأنبياء والمرسلين عليه وعليهم الصلاة والسلام، فوجب أن تكون سنته موضحة لكتاب الله، وشارحة لكتاب الله، ودالة على ما قد يخفى من كتاب الله، وسنته جاءت بأحكام لم يأت بها كتاب الله، جاءت بأحكام مستقلة شرعها الله عز وجل لم تذكر في كتاب الله عز وجل، من ذلك تفصيل
__________
(1) سورة النحل الآية 64
(2) سورة الأنبياء الآية 107
(3) سورة سبأ الآية 28
(4) سورة الأعراف الآية 158(8/138)
الصلوات، والزكاة، وتفصيل أحكام الزكاة، وتفصيل أحكام الرضاع، فليس في كتاب الله إلا عن الأمهات والأخوات من الرضاع، وجاءت السنة ببقية المحرمات بالرضاع، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (1) » ، وجاءت السنة بحكم مستقل بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، وجاءت بأحكام أخرى مستقلة لم تذكر في كتاب الله في أشياء كثيرة: في الجنايات، والديات، والنفقات، وأحكام الزكاة، والحج ... إلى غير ذلك.
ولما قال بعض الناس في مجلس عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه: دعنا من الحديث وحدثنا عن كتاب الله، غضب عمران رضي الله عنه وقال: لولا السنة كيف نعرف أن الظهر أربع، والعصر أربع، والمغرب ثلاث، والعشاء أربع، والفجر ركعتان؟!
فالسنة بينت تفاصيل الصلاة، وتفاصيل الأحكام، ولم يزل الصحابة رضي الله عنهم يرجعون إلى السنة ويتحاكمون إليها، ويحتجون بها، ولما ارتد من ارتد من العرب قام الصديق رضي الله عنه فدعا إلى جهادهم، توقف عمر في ذلك وقال: كيف نقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها (2) » ؟! قال الصديق رضي الله عنه: أليست الزكاة من حقها- من حق لا إله إلا الله - والله لو منعوني عناقا - أو قال: عقالا - كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه. فقال عمر: فما هو إلا أن عرفت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق. ثم وافق المسلمون ووافق الصحابة كلهم، واجتمع رأيهم على قتال المرتدين بأمر الله ورسوله.
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/339) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2946) ، صحيح مسلم الإيمان (21) ، سنن الترمذي الإيمان (2606) ، سنن النسائي تحريم الدم (3971) ، سنن أبو داود الجهاد (2640) ، سنن ابن ماجه الفتن (3928) ، مسند أحمد بن حنبل (1/11) .(8/139)
ولما جاءت الجدة إلى الصديق رضي الله عنه تسأل، قال: ما أعلم لك شيئا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن سوف أسأل الناس، فسأل الناس، فاجتمع رأيهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لها بالسدس عند عدم الأم، فقضى لها بالسدس رضي الله عنه وأرضاه.
وهكذا عثمان رضي الله عنه أيضا، لما أشكل عليه حكم المعتدة من الوفاة هل تكون في بيت زوجها أو تنتفل إلى أهلها؟ فشهدت عنده فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد في بيتها، فقضى بذلك عثمان.
ولما سمع ابن عباس بعض الناس ينكر عليه الفتوى بالمتعة - أي متعة الحج - ويحتج عليه بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأنهما يريان إفراد الحج، قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر.
ولما ذكر للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى جماعة يتركون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان الثوري، ويسألونه عما لديه وعما يقول، قال: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته عن رسول الله يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1)
ولما ذكر عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه رجل يدعو إلى القرآن وإلى ترك السنة، قال: (دعوه فإنه ضال) .
والمقصود: أن السلف الصالح عرفوا هذا الأمر، ونبغت عندهم نوابغ بسبب الخوارج في هذا الباب، فاشتد إنكارهم عليهم، وضللوهم،
__________
(1) سورة النور الآية 63(8/140)
مع أنه إنكار له شبهة بالنسبة إلى الخوارج، وما اعتقدوه في بعض الصحابة رضي الله عنهم.
أما هؤلاء المتأخرون المنكرون للسنة فقد أتوا منكرا عظيما، وبلاء كبيرا، ومعصية عظيمة، حيث قالوا: إن السنة لا يحتج بها، وطعنوا فيها وفي رواتها وفي كتبها، وسار على هذا المنهج وأعلنه كثير من الناس في مصر وفي غيرها، وسموا أنفسهم بالقرآنيين، وقد جهلوا ما قاله علماء السنة، فقد احتاطوا كثيرا للسنة تلقوها أولا عن الصحابة حفظا ودرسوها وحفظوها حفظا كاملا، حفظا دقيقا بعناية تامة، ونقلوها إلى من بعدهم، ثم ألف العلماء في القرن الثاني وفي القرن الثالث، وقد كثر ذلك في القرن الثالث، فألفوا الكتب وجمعوا الأحاديث حرصا على السنة وحفظها وصيانتها، فانتقلت من الصدور إلى الكتب المحفوظة المتداولة المتناقلة التي لا ريب فيها ولا شك، ثم نقبوا عن الرجال وعرفوا ثقتهم من ضعيفهم، من سيئ الحفظ منهم، حتى حرروا ذلك أتم تحرير، وبينوا من يصلح للرواية ومن لا يصلح للرواية، ومن يحتج به ومن لا يحتج به.
واعتنوا بما قد وقع من بعض الناس من أوهام وأغلاط وعرفوا الكذابين والوضاعين، فألفوا فيهم وأوضحوا أسماءهم، فأيد الله سبحانه وتعالى بهم السنة، وأقام بهم الحجة وقطع بهم المعذرة، وزال تلبيس الملبسين، وانكشف ضلال الضالين، وبقيت السنة بحمد الله جلية وواضحة لا شبهة فيها ولا غبار عليها، وكان الأئمة يعظمون ذلك كثيرا، وإذا رأوا من أحد تساهلا بالسنة أو إعراضا أنكروا عليه، حدث ذات يوم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله (1) » . فقال بعض أبنائه: والله لنمنعهن - عن اجتهاد منه وخوف من تساهل النساء في ذلك وليس
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (900) ، صحيح مسلم الصلاة (442) ، سنن ابن ماجه المقدمة (16) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) .(8/141)
قصده إنكار السنة - فأقبل عليه عبد الله وسبه سبا سيئا، وقال: أقول: قال رسول الله، وتقول: والله لنمنعهن؟!
ورأى عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه بعض أقاربه يخذف بالحصى، فقال له: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخذف وقال: إنه لا يصيد صيدا ولا ينكأ عدوا (1) » ثم رآه في وقت آخر يخذف، فقال: أقول لك: إن رسول الله نهى عن هذا ثم تخذف؟! لا أكلمك أبدا.
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يعظمون هذا الأمر جدا، ويحذرون الناس من التساهل بالسنة أو الإعراض عنها أو الإنكار لها بأي رأي من الآراء أو اجتهاد من الاجتهادات، وهكذا علماء السنة بعدهم.
قال أبو حنيفة رحمه الله في هذا المعنى: إذا جاء الحديث عن رسول الله فعلى العين والرأس، وإذا جاء عن الصحابة فعلى العين والرأس، وإذا جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال.
وقال مالك رضي الله عنه: ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر، يعني: رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وقال أيضا: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها: وهو اتباع الكتاب والسنة.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا صحيحا ثم رأيتموني خالفته فاعلموا أن عقلي قد ذهب. وفي لفظ آخر قال: إذا جاء الحديث عن رسول الله وقولي يخالفه، فاضربوا بقولي الحائط.
وقال أحمد رضي الله عنه: لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي، وخذوا من حيث أخذنا.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4842) ، سنن النسائي القسامة (4815) ، سنن أبو داود الأدب (5270) ، سنن ابن ماجه الصيد (3227) ، مسند أحمد بن حنبل (5/56) ، سنن الدارمي المقدمة (440) .(8/142)
وكلام أهل العلم في هذا كثير، والأمر في ذلك واضح وجلي، وقد تكلم أهل العلم في هذا المقام كلاما كثيرا. كأبي العباس ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير رحمهم الله تعالى وغيرهم، وأوضحوا أن من أنكر السنة فقد ضل سواء السبيل.
ومن عظم آراء الرجال وقدمها على السنة فقد ضل وأخطأ، وأن الواجب عرض آراء الرجال مهما عظموا على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فما شهدا له بالقبول قبل وما لم يشهدا له بالقبول لم يقبل، والأصل في هذا: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) وقوله سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) الآية.
وقد كتب الحافظ السيوطي رحمه الله رسالة سماها: (مفتاح الجنة في الاحتجاح بالسنة) ، وذكر في أولها: أن من أنكر السنة وزعم أنه لا يحتج بها فقد كفر بالإجماع، ونقل كثيرا من كلام السلف في ذلك.
فهذه مكانة السنة من الإسلام، وأنها الأصل الثاني من أصول الإسلام، وأنها حجة مستقلة قائمة بنفسها يجب الأخذ بها والرجوع إليها متى صح السند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
فنسأل الله تعالى التوفيق والسداد والاستقامة على ذلك، والعافية من كل ما يخالف شرعه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10(8/143)
أسئلة وأجوبة على ما سبق
العلاج لمن به صرف أو عطف أو سحر، وكيف ينجو المؤمن من ذلك، وما الأدعية والأذكار لذلك الشيء؟(8/143)
س 1: ما العلاج لمن به صرف أو عطف أو سحر؟ وكيف يمكن للمؤمن أن ينجو من ذلك ولا يضره فعله؟ وهل هناك أدعية أو ذكر من القرآن والسنة لذلك الشيء؟ .
ج 1: هناك أنواع من العلاج:
أولا: ينظر فيما فعله الساحر، إذا عرف أنه مثلا جعل شيئا من الشعر في مكان، أو جعله في أمشاط، أو في غير ذلك، إذا عرف أنه وضعه في المكان الفلاني أزيل هذا الشيء وأحرق وأتلف فيبطل مفعوله ويزول ما أراده الساحر.
ثانيا: أن يلزم الساحر إذا عرف أن يزيل ما فعل، فيقال له: إما أن تزيل ما فعلت أو تضرب عنقك، ثم إذا أزال ذلك الشيء يقتله ولي الأمر؛ لأن الساحر يقتل على الصحيح بدون استتابة، كما فعل ذلك عمر رضي الله تعالى عنه، وقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حد الساحر ضربه بالسيف (1) » ، ولما علمت حفصة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أن جارية لها تتعاطى السحر قتلتها.
ثالثا: القراءة؛ فإن لها أثرا عظيما في إزالة السحر؛ وهو أن يقرأ على المسحور أو في إناء آية الكرسي وآيات السحر التي في سورة الأعراف، وفي سورة يونس، وفي سورة طه، ومعها سورة الكافرون، وسورة الإخلاص، والمعوذتين، ويدعو له بالشفاء والعافية، ولا سيما
__________
(1) سنن الترمذي الحدود (1460) .(8/144)
بالدعاء الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو: «اللهم رب الناس أذهب البأس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما (1) » . ومن ذلك ما رقى به جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو: «باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك (2) » ويكرر هذه الرقية ثلاثا، ويكرر قراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) و (المعوذتين) ثلاثا.
ومن ذلك أن يقرأ ما ذكرناه في ماء ويشرب منه المسحور، ويغتسل بباقيه مرة أو أكثر حسب الحاجة، فإنه يزول بإذن الله تعالى، وقد ذكر هذا العلماء رحمهم الله، كما ذكر ذلك الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في كتاب: (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) في باب (ما جاء في النشرة) وذكره غيره.
رابعا: أن يأخذ سبع ورقات من السدر الأخضر ويدقها ويجعلها في ماء ويقرأ فيه ما تقدم من الآيات والسور السابقة والدعوات فيشرب منه ويغتسل، كما أن ذلك ينفع في علاج الرجل إذا حبس عن زوجته فتوضع السبع الورقات من السدر الأخضر في ماء فيقرأ فيه ما سبق ثم يشرب منه ويغتسل، فإنه نافع بإذن الله جل وعلا.
والآيات التي تقرأ في الماء وورق السدر الأخضر بالنسبة للمسحورين، ومن حبس عن زوجته ولم يجامعها هي كما يلي:
1 - قراءة الفاتحة.
2 - قراءة آية الكرسي من سورة البقرة، وهي قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (4)
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5750) ، صحيح مسلم السلام (2191) ، سنن ابن ماجه الطب (3520) ، مسند أحمد بن حنبل (6/126) .
(2) صحيح مسلم السلام (2186) ، سنن الترمذي الجنائز (972) ، سنن ابن ماجه الطب (3523) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) .
(3) سورة الإخلاص الآية 1
(4) سورة البقرة الآية 255(8/145)
3 - قراءة آيات الأعراف، وهي قوله تعالى: {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (1) {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} (2) {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} (3) {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} (4) {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} (5) {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} (6) {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} (7) {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} (8) {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (9) {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} (10) {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (11) {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} (12) {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (13) {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} (14) {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} (15) {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (16) {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} (17)
4 - قراءة آيات في سورة يونس، وهي قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} (18) {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} (19) {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} (20) {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (21)
5 - قراءة آيات في سورة طه، وهي قوله عز وجل: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} (22) {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (23) {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} (24) {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} (25) {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (26)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 106
(2) سورة الأعراف الآية 107
(3) سورة الأعراف الآية 108
(4) سورة الأعراف الآية 109
(5) سورة الأعراف الآية 110
(6) سورة الأعراف الآية 111
(7) سورة الأعراف الآية 112
(8) سورة الأعراف الآية 113
(9) سورة الأعراف الآية 114
(10) سورة الأعراف الآية 115
(11) سورة الأعراف الآية 116
(12) سورة الأعراف الآية 117
(13) سورة الأعراف الآية 118
(14) سورة الأعراف الآية 119
(15) سورة الأعراف الآية 120
(16) سورة الأعراف الآية 121
(17) سورة الأعراف الآية 122
(18) سورة يونس الآية 79
(19) سورة يونس الآية 80
(20) سورة يونس الآية 81
(21) سورة يونس الآية 82
(22) سورة طه الآية 65
(23) سورة طه الآية 66
(24) سورة طه الآية 67
(25) سورة طه الآية 68
(26) سورة طه الآية 69(8/146)
6 - قراءة سورة الكافرون.
7 - قراءة سورة الإخلاص والمعوذتين: وهما سورة الفلق والناس (ثلاث مرات) .
8 - قراءة بعض الأدعية الشرعية مثل: " اللهم رب الناس، أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما " (ثلاث مرات) فهذا طيب، وإذا قرأ مع ذلك " باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك " (ثلاث مرات) فهذا طيب.
وإن قرأ ما سبق على المسحور مباشرة ونفث على رأسه أو على صدره فهذا من أسباب الشفاء بإذن الله أيضا كما تقدم.(8/147)
حكم حرق الساحر بالنار
س 2: هل يجوز حرق الساحر بالنار؟ .
ج 2: لا يحرق بالنار أحد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وقال: «إن النار لا يعذب بها إلا الله (1) » بل يقتل بالسيف.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3016) ، سنن الترمذي السير (1571) ، سنن أبو داود الجهاد (2673) ، مسند أحمد بن حنبل (2/307) ، سنن الدارمي السير (2461) .(8/147)
هل يجوز تغسيل المريض بدم الذبيحة؟
س 3: هل يجوز تغسيل المريض بدم الذبيحة؟ .
ج 3: لا يجوز؛ لأنه نجس فلا يجوز التداوي بالنجس.(8/147)
حكم الذهاب إلى الكهان لقتل الجن الذي بهم أو يخرجونهم.
س 4: هل يجوز لبعض الناس أن يذهبوا إلى الكهان؛ لعلمهم(8/147)
أنهم سوف يقتلون الجن الذي بهم أو يخرجونهم؟ .
ج 4: هذا كله لا يجوز؛ لأن الكهنة يستخدمون الشياطين حتى في عهد الجاهلية، والكاهن له صاحب من الجن يأتيه ويخبره أن في المكان الفلاني كذا، وفي المكان الفلاني حصل كذا، وفي الشام مات فلان إلى غير ذلك.
فهكذا تتناقل الشياطين الأخبار، فيظن الجاهل أن هذا الكاهن أو الرمال يعلم الغيب، وإنما هي الشياطين تنقل له بعض الأخبار، فيتظاهر للناس أن عنده معلومات عن الغيب، وقد يستخدم بعض الشياطين الآخرين الذين لهم قوة من ملوك الشياطين ورؤسائهم، فيأتون بهذا الشيطان الذي تلبس في المريض أو في المجنون، فإذا أرضاهم هذا الإنسي بعبادتهم من دون الله أو نذر لهم وذبح لهم من دون الله - إذا أرضاهم بذلك، قد يحضرون الشيطان الذي تحت إمرتهم فيقولون: إما أن تفعل كذا وكذا وإلا قتلناك، وإلا سجناك، وإلا فعلنا بك كذا وكذا، فيدع عمله القبيح من أجل طاعته لسادته من الشياطين والرؤساء، فيحصل نفع للإنسان بهذه الطرق الخبيثة الشركية الضارة، وليس هذا بعذر، ولا يجوز إتيان هؤلاء الكهنة والعرافين أبدا، ولا يجوز سؤالهم ولا تصديقهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن ذلك.
ولو قدر له أنه انتفع به بعض الناس عن طريق الشرك فليس بعذر، فعباد الجن قد ينتفعون بالجن لكن ضررهم أعظم، فقد يأتيهم الجني بأشياء أو بدراهم يسرقها، فهذا ليس بعذر في عبادة الجن واتخاذهم آلهة مع الله - نسأل الله العافية - وكان أهل الجاهلية تكلمهم الأصنام: تأتي الشياطين في جوف الأصنام فيكلمون الناس الذين يعبدونها من دون الله، ويقولون: جرى كذا وكذا، فيغرونهم بالشرك.(8/148)
من مات وهو يذبح للجن ويصر على ذلك هل يصلى عليه ويدعى له؟(8/148)
س 5: إذا مات إنسان وهو يذبح للجن، ومصر على ذلك هل يصلى عليه ويدعى له؟ .
ج 5: لا يجوز أن يصلى عليه، ولا يغسل، ولا يكفن، ولا يعتبر من المسلمين، ولا يقبر معهم؛ لأنه مشرك. وهكذا الذي يدعو الجن أو الأولياء أو أهل القبور، وينذر لهم والعياذ بالله.(8/149)
كيف سحر الرسول صلى الله عليه وسلم؟
س 6: كيف يسحر الرسول صلى الله عليه وسلم والله يقول له: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (1) ؟ وكيف يسحر وهو يتلقى الوحي عن ربه ويبلغ ذلك للمسلمين، فكيف يبلغ وهو مسحور وقول الكفار والمشركين: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} (2) ؟ نرجو إيضاحها، وبيان هذه الشبهات. .
ج 6: هذا ثبت في الحديث الصحيح أنه وقع في المدينة، وعندما استقر الوحي واستقرت الرسالة، وقامت دلائل النبوة وصدق الرسالة، ونصر الله نبيه على المشركين وأذلهم، تعرض له شخص من اليهود يدعى: لبيد بن الأعصم، فعمل له سحرا في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر النخل، فصار يخيل إليه أنه فعل بعض الشيء مع أهله ولم يفعله، لكن لم يزل بحمد الله تعالى عقله وشعوره وتمييزه معه فيم يحدث به الناس، ويكلم الناس بالحق الذي أوحاه الله إليه، لكنه أحس بشيء أثر عليه بعض الأثر مع نسائه، كما قالت عائشة رضي الله عنها: «إنه كان يخيل إليه أنه فعل بعض الشيء في البيت مع أهله
__________
(1) سورة المائدة الآية 67
(2) سورة الإسراء الآية 47(8/149)
وهو لم يفعله» . فجاءه الوحي من ربه عز وجل بواسطة جبرائيل عليه السلام فأخبره بما وقع، فبعث من استخرج ذلك الشيء من بئر لأحد الأنصار فأتلفه، وزال عنه بحمد الله تعالى ذلك الأثر، وأنزل عليه سبحانه سورتي المعوذتين فقرأهما وزال عنه كل بلاء، وقال عليه الصلاة والسلام: «ما تعوذ المتعوذون بمثلهما (1) » ولم يترتب على ذلك شيء مما يضر الناس أو يخل بالرسالة أو بالوحي، والله جل وعلا عصمه من الناس مما يمنع وصول الرسالة وتبليغها.
أما ما يصيب الرسل من أنواع البلاء فإنه لم يعصم منه عليه الصلاة والسلام، بل أصابه شيء من ذلك، فقد جرح يوم أحد، وكسرت البيضة على رأسه، ودخلت في وجنتيه بعض حلقات المغفر، وسقط في بعض الحفر التي كانت هناك، وقد ضيقوا عليه في مكة تضييقا شديدا، فقد أصابه شيء مما أصاب من قبله من الرسل، ومما كتبه الله عليه، ورفع الله به درجاته، وأعلى به مقامه، وضاعف به حسناته، ولكن الله عصمه منهم فلم يستطيعوا قتله ولا منعه من تبليغ الرسالة، ولم يحولوا بينه وبين ما يجب عليه من البلاغ، فقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (814) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2902) ، مسند أحمد بن حنبل (4/144) ، سنن الدارمي كتاب فضائل القرآن (3440) .(8/150)
معنى قول الله تعالى عن الكهنة:
{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (1) الآية
س 7: نرجو إيضاح قول الله تعالى عن الكهنة ومن شابههم الذين تركوا طريق الله وذهبوا إلى الشياطين؛ ليتعلموا منهم ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله، كيف يكون ذلك، وهل يحدث ذلك الضرر للمؤمنين الفاسقين؟ وما طريق الوقاية من هذه الشرور والأضرار حيث يروج كثير من
__________
(1) سورة البقرة الآية 102(8/150)
الكهنة للعوام قدرتهم على ذلك؟ .
ج 7: قد تكون هذه الطرق الخبيثة من خدمة الشياطين، وخدمة من تعاطى هذه الأمور، وصحبتهم لهم، وتعلمهم منهم من أنواع السحرة والكهنة والرمالين والعرافين، وغيرهم من المشعوذين، فيتعاطون هذه الأمور من أجل المال، والاستحواذ على عقول الناس، وحتى يعظمهم الناس فيقولوا: إنهم يعرفون كذا ويعرفون كذا، وهذا واقع، والله يبتلي عباده بالسراء والضراء، ويبتلي عباده بالأشرار والأخيار، حتى يتميز الصادق من الكاذب، وحتى يتميز ولي الله من عدو الله، وحتى يتميز من يعبد الله، ويسعى في سلامة دينه، ويحارب الكفر والنفاق والمعاصي والخرافات، وبين من هو ضعيف في ذلك أو مخلد إلى الكسل والضعف، والله يميز الناس بما يبتليهم به من السراء والضراء، والشدة والرخاء، وتسليط الأعداء والجهاد.
حتى يتبين أولياء الله من أعدائه المعاندين لدين الله، وحتى يتبين أهل القوة في الحق من الضعفاء والخاملين، وهذا واقع لا شك فيه، والتوقي لذلك مشروع بحمد الله، بل واجب، وقد شرع الله لعباده أن يتوقوا شرهم بما شرع سبحانه من التعوذات والأذكار الشرعية وسائر الأسباب المباحة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك (1) » أخرجه مسلم في صحيحه.
وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن «من قال: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات في المساء، لم يضره شيء حتى يصبح، ومن قالها ثلاث مرات في الصباح لم يضره شيء حتى يمسي (2) » ، وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن «من
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) ، سنن الترمذي الدعوات (3437) ، سنن ابن ماجه الطب (3547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/378) ، سنن الدارمي الاستئذان (2680) .
(2) سنن الترمذي الدعوات (3388) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3869) .(8/151)
قرأ آية الكرسي حين ينام على فراشه لم يضره شيء حتى يصبح (1) » ، وهذا من فضل الله عز وجل، وأخبر صلى الله عليه وسلم: أن «من قرأ سورة الإخلاص {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) وسورتي الفلق والناس ثلاث مرات عند نومه لم يضره شيء» فهي من أسباب السلامة من كل سوء إذا قرأها المؤمن عند النوم (ثلاث مرات) ، وهكذا بعد الصلوات الخمس، ويشرع تكرارها بعد صلاة الفجر والمغرب ثلاثا، وذلك بعد أن ينتهي من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، وذلك من فضل الله سبحانه وتعالى على عباده، وإرشاده لهم إلى أسباب العافية والوقاية من شر الأعداء.
وهكذا من الأسباب الشرعية الإكثار من الكلمات الأربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فهي من أسباب السلامة والعافية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر (3) » أخرجه مسلم في صحيحه.
وهكذا العناية بقراءة القرآن الكريم والإكثار منها بالتدبر والتعقل والعناية بأمر الله عز وجل بطاعته وترك معاصيه.
وهكذا الإكثار من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كلها من أسباب السلامة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتب الله له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكان في حرز من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من عمله (4) » . متفق على صحته.
__________
(1) سنن الترمذي كتاب فضائل القرآن (2879) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3386) .
(2) سورة الإخلاص الآية 1
(3) صحيح مسلم كتاب الآداب (2137) .
(4) صحيح البخاري بدء الخلق (3293) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2691) ، سنن الترمذي الدعوات (3468) ، سنن ابن ماجه الأدب (3798) ، مسند أحمد بن حنبل (2/375) ، موطأ مالك النداء للصلاة (486) .(8/152)
ومما يجمع الخير كله للمسلم العناية بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قولا وعملا، والأخذ بما أوصى به الله عباده وأمرهم به في كتابه الكريم وسنة رسوله الأمين، ومن ذلك أنه أوصى عباده بالتقوى وأمرهم بها في آيات كثيرة، ولا شك أن التقوى هي أعظم الوصايا؛ فهي وصية الله عز وجل، ووصية رسوله عليه الصلاة والسلام، وهي جامعة للخير كله.
ومن جملة التقوى العناية بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وقد أوصى الله بذلك، فقال جل وعلا: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) وقال جل وعلا: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (3) ثم قال بعد ذلك: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4)
فقال أولا: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (5) ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (6) ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (7)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 155
(2) سورة الأنعام الآية 151
(3) سورة الأنعام الآية 152
(4) سورة الأنعام الآية 153
(5) سورة البقرة الآية 73
(6) سورة الأنعام الآية 152
(7) سورة البقرة الآية 21(8/153)
والحكمة في ذلك كما قال جمع من أهل التفسير: أن الإنسان إذا تعقل ما خلق له وما أمر به، وما خوطب به، ونظر فيه وتأمله حصل له به التذكر، لما يجب عليه، ولما ينبغي له تركه، ثم بعد ذلك تكون التقوى: بفعل الأوامر وترك النواهي، وبذلك يكمل للعبد العناية بما قرأ، أو بما سمع، فإنه يبدأ بالتعقل والتذكر ثم العمل وهو المقصود.
فالوصية بكتاب الله قولا وعملا تشمل الدعوة إليه، والذب عنه، والعمل به؛ لأنه كتاب الله الذي من تمسك به نجا، ومن حاد عنه هلك، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بكتاب الله، وذلك حينما سئل عبد الله بن أبي أوفى: هل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال: نعم، أوصى بكتاب الله. فالرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بكتاب الله لأنه يجمع الخير كله.
وفي صحيح مسلم، عن جابر رضي الله تعالى عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام أوصى في حجة الوداع بكتاب الله، فقال: «إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به: كتاب الله من تمسك به نجا ومن أعرض عنه هلك (1) » . وفي صحيح مسلم أيضا، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني تارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به (2) » .
فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي (3) » ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أوصى بكتاب الله، كما أوصى الله بكتابه، ثم الوصية بكتاب الله وصية بالسنة؛ لأن القرآن أوصى بالسنة وأمر بتعظيمها، فالوصية بكتاب الله وصية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما الثقلان، وهما الأصلان اللذان لا بد منهما، من
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(2) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2408) ، مسند أحمد بن حنبل (4/367) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3316) .
(3) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2408) ، مسند أحمد بن حنبل (4/367) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3316) .(8/154)
تمسك بهما نجا، ومن حاد عنهما هلك، ومن أنكر واحدا منها كفر بالله وحل دمه وماله، وقد جاء في رواية أخرى: «إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به؛ كتاب الله وسنتي» . أخرجها الحاكم بسند جيد.
وقد عرفت أيها المسلم: أن الوصية بكتاب الله والأمر بكتاب الله وصية بالسنة وأمر بالسنة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) ويقول سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) الآية، ويقول أيضا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (3) الآية. وهناك آيات كثيرة يأمر فيها سبحانه بطاعته، وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، والعلم النافع هو المتلقى عنهما والمستنبط منهما، فهذا هو العلم، فالعلم: قال الله سبحانه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم.
لأنهم أعلم بكتاب الله وأعلم بالسنة، فاستنباطهم وأقوالهم يعين طالب العلم، ويرشد طالب العلم إلى الفهم الصحيح عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام، ثم الاستعانة بكلام أهل العلم بعد ذلك: أئمة الهدى؛ كالتابعين، وأتباع التابعين، ومن بعدهم من علماء الهدى، وهكذا أئمة اللغة يستعان بكلامهم على فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فطالب العلم يعنى بكتاب الله سبحانه، ويعنى بالسنة، ويستعين على ذلك بكلام أهل العلم المنقول عن الصحابة ومن بعدهم في
__________
(1) سورة النور الآية 56
(2) سورة الحشر الآية 7
(3) سورة النساء الآية 80(8/155)
كتب التفسير والحديث، وكتب أهل العلم والهدى؛ لكي يعرف معاني كتاب الله، فيتعلمه ويعمل به ويعلمه للناس؛ لما في ذلك من الأجر العظيم والثواب الجزيل، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (2) » .
وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على المحافظة على كتاب الله عز وجل وتدبر معانيه؛ لما في ذلك من الأجر العظيم، مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «من قرأ حرفا من القرآن فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها (3) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه» خرجه مسلم في صحيحه (4) ، وأصحابه: هم العاملون به، كما في الحديث الآخر: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما» . أخرجه مسلم في صحيحه (5) . والآيات والأحاديث في فضل القرآن والعمل به وفضل السنة والتمسك بها كثيرة جدا.
فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا والمسلمين للتمسك بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعمل بهما، إنه جواد كريم.
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(3) سنن الترمذي فضائل القرآن (2910) .
(4) صحيح مسلم بشرح النووي (6\78)
(5) صحيح مسلم بشرح النووي (6\79) .(8/156)
حكم الذهاب إلى الكهان والعرافين (1)
س: من: أ. ع. م - يقول: هل يجوز الذهاب إلى الكهان والعرافين والمشعوذين وسؤالهم والتداوي عندهم بالزيت ونحوه؟ .
ج: لا يجوز الذهاب إلى العرافين والسحرة والمنجمين والكهنة ونحوهم، ولا يجوز سؤالهم ولا تصديقهم، ولا يجوز التداوي عندهم بزيت ولا غيره؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن إتيانهم وسؤالهم وعن تصديقهم؛ لأنهم يدعون علم الغيب، ويكذبون على الناس، ويدعونهم إلى أسباب الانحراف عن العقيدة.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة (2) » أخرجه مسلم في صحيحه، وقال صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (3) » صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: «ليس منا من سحر أو سحر له، أو تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له» .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وفيما أباح الله من التداوي بالرقية الشرعية والأدوية المباحة عند المعروفين بحسن العقيدة والسيرة ما يكفي والحمد لله. والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشرت في مجلة الدعوة في العدد (1498) بتاريخ 8 \ 2 \ 1416 هـ.
(2) صحيح مسلم السلام (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (4/68) .
(3) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/476) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .(8/157)
حكم الذهاب إلى السحرة والكهنة بقصد العلاج (1)
__________
(1) نشرت في جريدة المسلمون الصادرة بتاريخ 2 \ 10 \ 1415 هـ.(8/157)
س: قارئ يسأل: ما حكم الذهاب للسحرة والكهنة بقصد العلاج إذا كان مضطرا إلى ذلك؟ .
ج: لا يجوز الذهاب إلى الكهان والسحرة والمشعوذين ولا سواهم، بل يجب أن ينبه عليهم ويؤخذ على أيديهم ويمنعوا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة (1) » رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (2) » صلى الله عليه وسلم «وسئل عن الكهان، فقال: لا تأتوهم (3) » ، والكهان يدعون علم الغيب بواسطة شياطينهم، فلا يجوز إتيان الكهان والعرافين، ولا سؤالهم عن شيء، بل يجب أن ينكر عليه، وأن يؤدب حتى لا يعود لشيء من ذلك، لكن يذهب إلى أهل الخير المعروفين بالرقية الشرعية فيرقونه.
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (4/68) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/429) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537) ، سنن النسائي السهو (1218) ، سنن أبو داود الصلاة (930) ، مسند أحمد بن حنبل (5/447) .(8/158)
علاج السحر بعد وقوعه
س: الأخت التي رمزت لاسمها بـ: ح. س. هـ - من مكناس في المغرب بعثت برسالة طويلة خلاصتها: سؤال عن: كيفية علاج السحر بعد وقوعه. .
ج: يعالج السحر بعد وقوعه بالرقية الشرعية والأدوية المباحة، من المعروفين بحسن العقيدة والسيرة، من دون خلوة إذا كانت المريضة امرأة. والله ولي التوفيق.(8/158)
المصاب بالعين يعالج بالرقية الشرعية (1)
س: تعاني أختي من مرض، وقد غلب على ظننا أنها أصيبت بالعين، وذلك منذ سنتين، وفي إحدى الليالي القريبة وقبل الفجر رأيت إحدى قريباتي وهي تنصحني بأخذ أختي لعلاجها عند شخص أسمته بأحد أحياء مدينتنا، وقولها: إنه سبق أن عالج مثل هذه الحالة بالرقية الشرعية، فبماذا تنصحوننا؟ جزاكم الله خيرا. .
ج: يشرع علاج المصاب بالعين بالرقية الشرعية، من الرجل الثقة المعروف بذلك، أو المرأة المعروفة بذلك، لكن إذا كانت الرقية من الرجل فإنه لا يجوز أن يخلو بها، بل يجب أن يكون معهما ثالث تزول به الخلوة.
وإن عرف العائن شرع استغساله بأن يغسل وجهه وكفيه في إناء ثم يغتسل به المعين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حق العائن: «وإذا استغسلتم فاغسلوا (2) » . .
والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشرت في مجلة الدعوة في العدد (1479) بتاريخ 10 \ 9 \ 1415 هـ.
(2) صحيح مسلم السلام (2188) ، سنن الترمذي الطب (2062) .(8/159)
يجوز التداوي بالأدوية المباحة شرعا(8/159)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من إخواننا المسلمين سلك الله بي وبهم سبيل أهل الإيمان، وأعاذني وإياهم من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فالموجب لهذا هو النصيحة والتذكير؛ عملا بقول الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة. ثلاث مرات. قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم (3) » .
ونظرا لكثرة المشعوذين في الآونة الأخيرة ممن يدعون معرفة الطب ويعالجون عن طريق السحر أو الكهانة، وانتشارهم في بعض البلاد واستغلالهم للسذج من الناس ممن يغلب عليهم الجهل - رأيت من باب النصيحة لله ولعباده أن أبين ما في ذلك من خطر عظيم على الإسلام والمسلمين؛ لما فيه من التعلق بغير الله تعالى، ومخالفة أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فأقول مستعينا بالله تعالى:
يجوز التداوي اتفاقا، وللمسلم أن يذهب إلى دكتور أمراض باطنية أو جراحية أو عصبية أو نحو ذلك؛ ليشخص له مرضه ويعالجه
__________
(1) سورة الذاريات الآية 55
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .(8/160)
بما يناسبه من الأدوية المباحة شرعا، حسبما يعرفه في علم الطب؛ لأن ذلك من باب الأخذ بالأسباب العادية المباحة، ولا ينافي التوكل على الله سبحانه وتعالى.
وقد أنزل الله سبحانه وتعالى الداء وأنزل معه الدواء، عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله، ولكنه سبحانه وتعالى لم يجعل شفاء عباده فيما حرمه عليهم، فلا يجوز للمريض أن يذهب إلى الكهنة ونحوهم ممن يدعون معرفة الغيبيات ليعرف منهم مرضه، كما لا يجوز له أن يصدقهم فيما يخبرونه به؛ فإنهم يتكلمون رجما بالغيب أو يستحضرون الجن؛ ليستعينوا بهم على ما يريدون، وهؤلاء شأنهم الكفر والضلال؛ لكونهم يدعون أمور الغيب.
وقد روى مسلم في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة (1) » .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (2) » صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود، وخرجه أهل السنن الأربع، وصححه الحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: «من أتى عرافا أو كاهنا وصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (3) » صلى الله عليه وسلم.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (4) » صلى الله عليه وسلم، رواه البزار بإسناد جيد.
ففي هذه الأحاديث الشريفة النهي عن إتيان العرافين وأمثالهم، وسؤالهم وتصديقهم والوعيد على ذلك.
فالواجب على ولاة الأمور وأهل الحسبة وغيرهم ممن لهم قدرة
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (4/68) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/476) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .
(3) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/429) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .
(4) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/476) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .(8/161)
وسلطان إنكار إتيان الكهان والعرافين ونحوهم، ومنع من يتعاطى شيئا من ذلك في الأسواق وغيرها، والإنكار عليهم أشد الإنكار، والإنكار على من يجيء إليهم، ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور، ولا بكثرة من يأتي إليهم ممن ينتسب إلى العلم فإنهم غير راسخين في العلم، بل من الجهال؛ لما في إتيانهم من المحذور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن إتيانهم وسؤالهم وتصديقهم؛ لما في ذلك من المنكر العظيم والخطر الجسيم والعواقب الوخيمة، ولأنهم كذبة فجرة.
كما أن في هذه الأحاديث دليلا على كفر الكاهن والساحر؛ لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر، ولأنهما لا يتوصلان إلى مقصودهما إلا بخدمة الجن وعبادتهم من دون الله، وذلك كفر بالله وشرك به سبحانه، والمصدق لهم بدعواهم علم الغيب يكون مثلهم، وكل من تلقى هذه الامور عمن يتعاطاها فقد برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز للمسلم أن يخضع لما يزعمونه علاجا، كنمنمتهم بكلام لا يفهم، وكتابة الطلاسم: وهي الحروف المقطعة، أو صب الرصاص، ونحو ذلك من الخرافات التي يعملونها؛ فإن هذا من الكهانة والتلبيس على الناس، ومن رضي بذلك فقد ساعدهم على باطلهم وكفرهم.
كما لا يجوز لأحد من المسلمين الذهاب لأحد من الكهان ونحوهم لسؤاله عمن سيتزوج ابنه أو قريبه، أو عما سيكون بين الزوجين وأسرتيهما من المحبة والوفاء، أو العداوة والفراق، ونحو ذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
والسحر من المحرمات الكفرية، كما قال الله عز وجل في شأن الملكين في سورة البقرة: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 102(8/162)
نسأل الله العافية والسلامة من شر السحرة والكهنة وسائر المشعوذين، كما نسأله سبحانه وتعالى أن يقي المسلمين شرهم، وأن يوفق المسلمين للحذر منهم وتنفيذ حكم الله فيهم، حتى يستريح العباد من شرهم وضررهم وأعمالهم الخبيثة، إنه جواد كريم.
وقد شرع الله سبحانه وتعالى لعباده ما يتقون به شر السحر قبل وقوعه، وأوضح لهم سبحانه ما يعالجونه به بعد وقوعه؛ رحمة منه لهم، وإحسانا منه إليهم، وإتماما لنعمته عليهم.
وفيما يلي بيان للأشياء التي يتقى بها خطر السحر قبل وقوعه، والأشياء التي يعالج بها بعد وقوعه من الأمور المباحة شرعا:
أما النوع الأول: وهو الذي يتقى به خطر السحر قبل وقوعه، فأهم ذلك وأنفعه هو التحصن بالأذكار الشرعية، والدعوات والتعوذات المأثورة، ومن ذلك: قراءة آية الكرسي خلف كل صلاة مكتوبة بعد الأذكار المشروعة بعد السلام، ومن ذلك قراءتها عند النوم، وآية الكرسي: هي أعظم آية في القرآن الكريم وهي قوله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 255(8/163)
ومن ذلك قراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (2) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (3) خلف كل صلاة مكتوبة، وقراءة السور الثلاث (ثلاث مرات) : في أول النهار بعد صلاة الفجر، وفي أول الليل بعد صلاة المغرب.
ومن ذلك قراءة الآيتين من آخر سورة البقرة في أول الليل، وهما قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (4) {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (5)
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح (6) » . وصح عنه أيضا صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه (7) » . والمعنى والله أعلم: كفتاه من كل سوء.
ومن ذلك الإكثار من التعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، في الليل والنهار، وعند نزول أي منزل في البناء، أو الصحراء، أو الجو، أو البحر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نزل منزلا فقال أعوذ
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الفلق الآية 1
(3) سورة الناس الآية 1
(4) سورة البقرة الآية 285
(5) سورة البقرة الآية 286
(6) صحيح البخاري فضائل القرآن (5010) .
(7) صحيح البخاري فضائل القرآن (5010) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (807) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2881) ، سنن أبو داود الصلاة (1397) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1369) ، مسند أحمد بن حنبل (4/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1487) .(8/164)
بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك (1) » .
ومن ذلك: أن يقول المسلم في أول النهار وأول الليل (ثلاث مرات) : «باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم (2) » ؛ لصحة الترغيب في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك سبب للسلامة من كل سوء.
وهذه الأذكار والتعوذات من أعظم الأسباب في اتقاء شر السحر وغيره من الشرور لمن حافظ عليها بصدق وإيمان، وثقة بالله واعتماد عليه، وانشراح صدر لما دلت عليه.
وهي أيضا من أعظم السلاح لدفع السحر بعد وقوعه، مع الإكثار من الضراعة إلى الله، وسؤاله سبحانه: أن يكشف الضرر، ويزيل البأس، ومن الأدعية الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في علاج الأمراض من السحر وغيره، وكان صلى الله عليه وسلم يرقي بها أصحابه: «اللهم رب الناس، أذهب البأس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما (3) » ، ومن ذلك الرقية التي رقى بها جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم وهي قوله: «باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك (4) » وليكرر ذلك (ثلاث مرات) .
ومن علاج السحر بعد وقوعه أيضا، وهو علاج نافع للرجل إذا حبس من جماع أهله: أن يأخذ سبع ورقات من السدر الأخضر فيدقها بحجر أو نحوه، ويجعلها في إناء ويصب عليه من الماء ما يكفيه للغسل، ويقرأ فيه (آية الكرسي) ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (5) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (6) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (7) وآيات السحر التي في سورة الأعراف، من قوله سبحانه وتعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} (8)
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) ، سنن الترمذي الدعوات (3437) ، سنن ابن ماجه الطب (3547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/378) ، سنن الدارمي الاستئذان (2680) .
(2) سنن الترمذي الدعوات (3388) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3869) .
(3) صحيح البخاري الطب (5750) ، صحيح مسلم السلام (2191) ، سنن ابن ماجه الطب (3520) ، مسند أحمد بن حنبل (6/126) .
(4) صحيح مسلم السلام (2186) ، سنن الترمذي الجنائز (972) ، سنن ابن ماجه الطب (3523) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) .
(5) سورة الإخلاص الآية 1
(6) سورة الفلق الآية 1
(7) سورة الناس الآية 1
(8) سورة الأعراف الآية 117(8/165)
إلى قوله تعالى: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} (1) والآيات التي في سورة يونس، من قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} (2) إلى قوله تعالى: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (3) والآيات في سورة طه من قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} (4) إلى قوله تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (5)
وبعد قراءة ما ذكر في الماء يشرب منه بعض الشيء ويغتسل بالباقي، وبذلك يزول الداء إن شاء الله تعالى، وإذا دعت الحاجة لاستعماله أكثر من مرة فلا بأس، حتى يزول الداء بإذن الله تعالى. ومن علاجه أيضا إتلاف ما فعله الساحر من عقد أو غيرها فيما يعتقد أنه من أعمال الساحر.
أما علاجه بعمل السحرة ونحوهم مما يتقربون إلى الجن بالذبح أو غيره من القربات: فهذا لا يجوز؛ لأنه من عمل الشيطان، بل هو من الشرك الأكبر، كما لا يجوز علاجه بسؤال الكهنة والعرافين والمشعوذين، واستعمال ما يقولون؛ لأنهم لا يؤمنون، ولأنهم كذبة فجرة يدعون علم الغيب، ويلبسون على الناس، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من إتيانهم وسؤالهم وتصديقهم، كما سبق بيان ذلك.
والله سبحانه وتعالى المسئول أن يوفق المسلمين للعافية من كل سوء، وأن يحفظ عليهم دينهم ويرزقهم الفقه فيه، والعافية من كل ما يخالف شرعه. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه، وأتباعهم بإحسان.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 122
(2) سورة يونس الآية 79
(3) سورة يونس الآية 82
(4) سورة طه الآية 65
(5) سورة طه الآية 69(8/166)
القيام بالمسيرات في مواسم الحج في مكة المكرمة
باسم البراءة من المشركين بدعة لا أصل لها(8/166)
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسوله محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحابته، ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فإن الله أوجب على عباده المؤمنين البراءة من المشركين في كل وقت، وأنزل في ذلك قوله سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (1)
وأنزل في ذلك سبحانه في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم قوله عز وجل: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) الآيات.
وصحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بعث الصديق رضي الله عنه عام تسع من الهجرة يقيم للناس حجهم ويعلن البراءة من المشركين، ثم أتبعه بعلي رضي الله عنه ليبلغ الناس ذلك، وبعث الصديق رضي الله عنه مؤذنين مع علي رضي الله عنه ينادون في الناس بكلمات أربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد فأجله إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فله أربعة أشهر يسيح في الأرض، كما قال عز وجل: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (3) الآية.
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 4
(2) سورة التوبة الآية 1
(3) سورة التوبة الآية 2(8/167)
وبعدها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين إذا لم يسلموا، كما قال الله عز وجل في سورة التوبة: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} (1) يعني: الأربعة التي أجلها لهم عليه الصلاة والسلام في أصح قولي أهل العلم في تفسير الأشهر المذكورة في هذه الآية. {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2)
هذا هو المشروع في أمر البراءة، وهو الذي أوضحته الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبينه علماء التفسير في أول تفسير سوره براءة: (التوبة) .
أما القيام بالمسيرات والمظاهرات في مواسم الحج في مكة المكرمة أو غيرها؛ لإعلان البراءة من المشركين فذلك بدعة لا أصل لها، ويترتب عليه فساد كبير وشر عظيم، فالواجب على كل من كان يفعله تركه، والواجب على الدولة وفقها الله منعه؛ لكونه بدعة لا أساس لها في الشرع المطهر، ولما يترتب على ذلك من أنواع الفساد والشر والأذى للحجيج وغيرهم، والله سبحانه يقول في كتابه الكريم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (3) الآية، ولم يكن هذا العمل من سيرته عليه الصلاة والسلام، ولا من سيرة أصحابه رضي الله عنهم، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، وقال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (4) وقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (5)
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) سورة التوبة الآية 5
(3) سورة آل عمران الآية 31
(4) سورة الشورى الآية 21
(5) سورة الحشر الآية 7(8/168)
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق على صحته، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عن جابر رضي الله عنه في خطبة الجمعة: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (2) » . أخرجه مسلم في صحيحه، وقال عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » . أخرجه مسلم أيضا، وقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «خذوا عني مناسككم (4) » ، ولم يفعل صلى الله عليه وسلم مسيرات ولا مظاهرات في حجة الوداع، وهكذا أصحابه بعده رضي الله عنهم، فيكون إحداث ذلك في موسم الحج: من البدع في الدين التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي فعله عليه الصلاة والسلام بعد نزول سورة التوبة: هو بعث المنادين في عام تسعة من الهجرة؛ ليبلغوا الناس: أنه لا يحج بعد هذا العام - يعني: عام تسع - مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، مع نبذ العهود التي للمشركين بعد أربعة أشهر إلا من كان له عهد أكثر من ذلك فهو إلى مدته، ولم يفعل صلى الله عليه وسلم هذا التأذين في حجة الوداع؛ لحصول المقصود بما أمر به من التأذين في عام تسع.
والخير كله، والسعادة في الدنيا والآخرة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والسير على سنته، وسلوك مسلك أصحابه رضي الله عنهم؛ لأنهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، هم وأتباعهم بإحسان، كما قال الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (5)
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(3) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(4) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .
(5) سورة التوبة الآية 100(8/169)
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين للعلم النافع، والعمل الصالح، والفقه في الدين، والسير على منهج سيد المرسلين وأصحابه المرضيين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وأن يعيذنا وجميع المسلمين من مضلات الفتن، ونزغات الشيطان، ومن البدع في الدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه.(8/170)
لقاء مجلة الإصلاح مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (1)
المخرج للأمة الإسلامية مما تتعرض له من هجوم أعدائها
س 1: لا شك، يعلم سماحتكم ما تتعرض له الأمة من هجوم شرس من أعدائها في كل مكان وعلى كل صعيد. فما المخرج من ذلك أثابكم الله؟ .
ج 1: بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.. أما بعد:
فلا ريب أن الأمة تبتلى بأعدائها، كما قال الله عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (2) فالأمة تبتلى بأعدائها، لكن لا بد من الصبر؛ ولهذا قال الله عز وجل: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (3) وقال سبحانه. {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (4)
فالواجب على الأمة الإسلامية الصبر والاحتساب، والاستقامة على دين الله، وأن لا تلتفت إلى ما يقوله أعداؤها، وعليها أن تلتزم بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن تستقيم على ذلك
__________
(1) نص اللقاء الذي نشر في مجلة الإصلاح في العدد (241) ليوم الخميس الموافق27 \ 12 \ 1413 هـ.
(2) سورة محمد الآية 31
(3) سورة آل عمران الآية 186
(4) سورة آل عمران الآية 120(8/171)
قولا وعملا وعقيدة، وأن تحكم شرع الله في عباد الله، هذا هو الواجب على جميع البلدان الإسلامية حكومات وشعوبا، ومتى استقامت على دين الله صدقا في القول والعمل والعقيدة فإنه لا يضرها نباح أعدائها ولا كيدهم، كما سبق في قوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (1) ويقول سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2) ويقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3) ويقول سبحانه وتعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (4) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (5) ويقول سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (6)
فالمؤمنون: هم المستقيمون على أمر الله، التاركون لمحارم الله، الواقفون عند حدود الله، المحكمون لشرع الله، هؤلاء المسلمون، وهم أولياء الله، كما قال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (7) فمتى تمسك المسلمون بدين الله، والتزموا بما أوجب الله عليهم، وابتعدوا عما حرم عليهم، وحكموا
__________
(1) سورة آل عمران الآية 120
(2) سورة الأنفال الآية 46
(3) سورة محمد الآية 7
(4) سورة الحج الآية 40
(5) سورة الحج الآية 41
(6) سورة الروم الآية 47
(7) سورة النور الآية 55(8/172)
شريعته فإن الله سبحانه ينصرهم، ويؤيدهم على أعدائهم، ويكتب لهم النجاح والسعادة في الدنيا والآخرة، ويمنحهم الأمن في الدنيا وفي الآخرة، كما قال عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (1)
والإيمان إذا أطلق دخل فيه كل ما أمر به الله ورسوله وترك ما نهى الله عنه ورسوله، فالمعنى: أنهم استقاموا على توحيد الله، وأدوا حق الله، وابتعدوا عن محارم الله، فلهم الأمن ولهم الهداية في الدنيا والآخرة، ولا يضرهم أعداؤهم إذا التزموا بالحق، أما إذا فعلوا بعض ما حرم الله، أو تساهلوا ببعض ما أوجب الله فقد يبتلون ويصابون بما يكرهون، فأفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم لما أخل الرماة يوم أحد بما يجب عليهم من الموقف الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلزومه لما أخلوا به دخل عليهم الأعداء من ذلك الموقف وحصلت الهزيمة على المسلمين والقتل والجرح بأسباب المعصية التي ذكرها الله في قوله جل وعلا: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} (2) والمعنى: سلطوا عليكم، وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} (3)
والمقصود: أن الواجب على المؤمنين - حكومات وشعوبا - الاستقامة على دين الله، والتمسك بشرع الله، والوقوف عند حدوده قولا وعملا
__________
(1) سورة الأنعام الآية 82
(2) سورة آل عمران الآية 152
(3) سورة آل عمران الآية 165(8/173)
وعقيدة، والولاء والبراء في ذلك، والمحبة والبغض في ذلك.
هذا هو الطريق للنصر والسعادة، فإذا استقاموا على ذلك فإنه لا يضرهم أعداؤهم، كما قال سبحانه في الآيات السابقة: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (1) وإنما يؤتى المسلمون من جهة تقصيرهم وتفريطهم، فإذا قصروا في أمر الله أو فرطوا فيه، أو تركوا ما يجب عليهم من الإعداد الواجب الذي أمر الله به في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (2) أو تركوا الحذر الذي أمرهم الله بأخذه في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (3) متى فرط المسلمون في شيء مما أوجبه الله عليهم، أو فرطوا باكتساب ما حرم الله عليهم فإنهم قد يصابون بسبب ذلك، أو يسلط عليهم العدو بسبب ذلك.
نسأل الله أن يوفق المسلمين - حكومات وشعوبا - لما يرضيه، وأن يصلح قلوبهم وأعمالهم، وأن يوفقهم لتحكيم شرع الله والاستقامة عليه.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 120
(2) سورة الأنفال الآية 60
(3) سورة النساء الآية 71(8/174)
واجب الدعاة أمام اتهام وسائل الإعلام العالمية لهم بالتطرف
والإرهاب والأصولية
س 2: دأبت كثير من وسائل الإعلام العالمية على اتهام الدعاة بالتطرف والإرهاب والأصولية، فما توجيه سماحتكم حيال ذلك؟ .
ج 2: هذا لا ينبغي أن يمنع الدعاة من قول الحق، ولا ريب أن بعض الدعاة قد يكون عندهم نقص في العلم، وقد يكون عندهم نقص(8/174)
في الأسلوب، وكل إنسان يؤخذ بذنبه، إذا قصر في شيء أو فرط في شيء يوجه للأصلح، ويعلم كيف يأمر وكيف ينهى، وكيف يدعو إلى الله عز وجل حتى لا يكون سببا لمنع الدعاة، وحتى لا يكون سببا لتعطيل الدعوة.
فالواجب على الداعية إلى الله أن يكون على بصيرة، كما قال الله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (1) والمعنى: أن يكون عنده علم وبصيرة وفقه في كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، حتى يتكلم عن علم، وحتى يدعو على بصيرة، مع العناية بالأسلوب الحسن وعدم العنف والشدة، قال الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (3)
فإذا استقام الداعية وصبر لا يضره كلام من تكلم في عرضه أو سعى في منعه أو ما أشبه ذلك، إنما الواجب عليه: أن يتقي الله، وأن يراقب الله، وأن يقف عند حدوده حتى لا يكون حجر عثرة في طريق الدعوة، وحتى لا يضيق على الدعوة بأسبابه، وأن يسلك مسلكا شرعيا؛ بالحكمة، والكلام الطيب، والأسلوب الحسن، وعدم التعرض للأشخاص، وأن ينكر المنكر، ويدعو إلى المعروف، ولا ينظر إلى الناس بأعيانهم ويتكلم فيهم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام قالوا: كذا وكذا (4) »
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة آل عمران الآية 159
(4) صحيح مسلم النكاح (1401) ، سنن النسائي النكاح (3217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/285) .(8/175)
فالداعية إلى الله يعتني ببيان الحق والدعوة إليه، ويعتني ببيان المنكر والتحذير منه، مع كف لسانه عن الكلام في أشخاص الناس، لا رؤساء الحكومات ولا غيرهم، إنما المقصود إنكار المنكر والدعوة إلى المعروف، هذا هو المقصود.(8/176)
حكم شراء أو بيع أو الترويج للمطبوعات التي تسخر من الإسلام
وتقع في الدعاة وتنشر الفساد
س 3: كثير من الصحف والمجلات تسخر من الإسلام وتقع في الدعاة وتشيد بالكفار والفجار وأهل الفن، وتنشر صور النساء السافرات، فما حكم شراء هذه المطبوعات أو بيعها أو الترويج لها؟ .
ج 3: الصحف التي بهذه المثابة: من نشر الصور الخليعة، أو سب الدعاة، أو التثبيط عن الدعوة، أو نشر المقالات الإلحادية أو ما شابه ذلك - الصحف التي هذا شأنها يجب أن تقاطع، وأن لا تشترى، ويجب على الدولة إذا كانت إسلامية أن تمنعها؛ لأن هذه تضر المجتمع وتضر المسلمين، فالواجب على المسلم أن لا يشتريها، وأن لا يروجها، وأن يدعو إلى تركها، ويرغب في عدم اقتنائها وعدم شرائها، وعلى المسئولين الذين يستطيعون منعها أن يمنعوها، أو يوجهوها إلى الخير، حتى تدع الشر وتستقيم على الخير.(8/176)
التوجيه بشأن عدم الاهتمام بالدعوة والتعليم
بحجة الانشغال بتحصيل العلم
س 4: بعض طلبة العلم لا يهتمون بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الناس؛ بحجة أنهم مشغولون بتحصيل العلم والتفرغ لذلك، فما توجيه سماحتكم لهؤلاء؟ .(8/176)
ج4: الواجب على من عنده علم أن يدعو إلى الله حسب طاقته، فكل من عنده علم وبصيرة من طريق الكتاب والسنة عليه أن يدعو إلى الله على حسب علمه، وأن لا يقدم إلا على بصيرة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1)
والقول على الله بغير علم جعله الله في المرتبة العليا من المحرمات، كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2) وأخبر سبحانه: أن القول على الله بغير علم مما يأمر به الشيطان، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (3) {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (4)
فالواجب على من عنده علم وبصيرة أن يدعو إلى الله بالطريقة التي رسمها الله لعباده في قوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (5) فمن الحكمة العلم، قال الله سبحانه، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، والموعظة الحسنة يعني: الترغيب في الجنة والأجر والسعادة والعاقبة الحميدة، والترهيب من عذاب الله وغضبه لمن ترك الواجب أو قصر فيه، أو ارتكب المحرم، ثم قال سبحانه: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (6) يعني: الأسلوب الحسن في إزالة الشبهة وإيضاح الحق، وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (7)
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة الأعراف الآية 33
(3) سورة البقرة الآية 168
(4) سورة البقرة الآية 169
(5) سورة النحل الآية 125
(6) سورة النحل الآية 125
(7) سورة العنكبوت الآية 46(8/177)
هذا وهم أهل الكتاب: اليهود والنصارى؛ لأن الجدال بالتي هي أحسن من أسباب قبول الحق والخضوع له، والجدال بالعنف من أسباب النفرة عن الحق وعدم قبوله؛ ولهذا أثنى الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بما منحه الله من اللين وعدم العنف في الدعوة، فقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (1)
فالواجب على الدعاة إلى الله أن يعتنوا بهذا الأسلوب الذي رسمه الله لعباده وأمرهم به، وأن يحذروا ما يخالفه، هكذا ينبغي للدعاة أن يتكلموا بالحق ويصدعوا به، ويصبروا على ذلك، لكن بالأسلوب الحسن، بالعلم والجدال بالتي هي أحسن، لا بالعنف والشدة، ولا بالتعرض لفلان وفلان، ولكن على الداعي أن يبين الحق ويدعو إليه بأدلته، ويبين الباطل ويدعو إلى تركه بأدلته، يريد ثواب الله والسعادة لا رياء ولا سمعة، بل يريد وجه الله والدار الآخرة.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159(8/178)
حكم التعاون والتآزر في أمر الدعوة إلى الله
س 5: ما حكم التعاون والتآزر والتعاضد في أمر الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، خاصة وأن البعض يقول: إنه من البدع المحدثة؟ .
ج 5: التعاون مطلوب في الدعوة إلى الله، وفي كل خير، كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته (2) » ، والله سبحانه يقول: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5)
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) .
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3(8/178)
فإذا ذهب جماعة للدعوة إلى الله تعالى فعليهم أن يتعاونوا - في أي بلد أو في أي مكان - على البر والتقوى، هذا من أحسن الأشياء.
والنبي صلى الله عليه وسلم بعث سبعين من القراء إلى بعض القبائل؛ للدعوة إلى الله، والتعليم عليه الصلاة والسلام، وكان يبعث الدعاة إلى الله - أفرادا وجماعات - إلى القبائل لتعليمهم وتفقيههم في الدين، وبعث مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة قبل الهجرة؛ لتعليم من أسلم من الأنصار، وتفقيههم في الدين.
المقصود: أن التعاون على الدعوة وإرشاد الناس من اثنين أو ثلاثة أو أكثر؛ ليتعاونوا، ويشجع بعضهم بعضا، وليتذاكروا فيما يجب من العلم والعمل، ويتبصروا. هذا فيه خير كثير، لكن عليهم أن يتحروا الحق بأدلته، ويحذروا الأساليب المنفرة عن الحق، وعليهم أن يتحروا الأساليب المفيدة النافعة، التي توضح الحق وتبينه وترغب فيه، وتحذر من الباطل، فهذا التعاون أمر مطلوب بشرط الإخلاص لله، وعدم قصد الرياء والسمعة، وأن يكونوا على علم وبصيرة.(8/179)
هل الفرق التي ورد الأمر باعتزالها في حديث حذيفة
رضي الله عنه هي الجماعات الإسلامية؟
س 6: في الساحة من يقول: إن الفرق التي ورد الأمر باعتزالها في حديث حذيفة هي الجماعات الإسلامية؛ كالسلفيين؛ والإخوان والتبليغيين، فما قول سماحتكم في ذلك؟ .
ج 6: «النبي صلى الله عليه وسلم قال لحذيفة لما قال: يا رسول الله، كنا في(8/179)
جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. قال حذيفة: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر. فقال حذيفة: يا رسول الله، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله، صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا. يعني من العرب. قلت: يا رسول الله، فما تأمرنا عند ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (1) » . رواه البخاري ومسلم.
هذا الحديث العظيم يبين لنا أن الواجب على المسلم: لزوم جماعة المسلمين، والتعاون معهم في أي مكان، سواء كانت جماعة وجدت في الجزيرة العربية، أو في مصر، أو في الشام، أو في العراق، أو في أمريكا، أو في أوربا، أو في أي مكان.
فمتى وجد المسلم جماعة تدعو إلى الحق ساعدهم وصار معهم، وأعانهم وشجعهم وثبتهم على الحق والبصيرة، فإذا لم يجد جماعة بالكلية فإنه يلزم الحق، وهو الجماعة، ولو كان واحدا، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه لعمرو بن ميمون: الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك.
فعلى المسلم أن يطلب الحق، فإذا وجد مركزا إسلاميا يدعو إلى الحق، أو جماعة في أي مكان يدعون إلى الحق - أي: إلى كتاب
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الفتن (7084) ، صحيح مسلم الإمارة (1847) ، سنن ابن ماجه الفتن (3979) .(8/180)
الله وسنة رسوله، وإلى العقيدة الطيبة - في أوربا، أو في أفريقيا، أو في أي مكان، فليكن معهم يطلب الحق ويلتمس الحق ويصبر عليه ويكون مع أهله.
هذا هو الواجب على المسلم، فإذا لم يجد من يدعو إلى الحق لا دولة ولا جماعة لزم الحق وحده واستقام عليه، فهو الجماعة حينئذ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه لعمرو بن ميمون.
وفي زمننا هذا - والحمد لله - توجد الجماعات الكثيرة الداعية إلى الحق، كما في الجزيرة العربية: الحكومة السعودية، وفي اليمن والخليج، وفي مصر والشام، وفي أفريقيا وأوربا وأمريكا، وفي الهند وباكستان، وغير ذلك من أنحاء العالم، توجد جماعات كثيرة ومراكز إسلامية وجمعيات إسلامية تدعو إلى الحق وتبشر به، وتحذر من خلافه.
فعلى المسلم الطالب للحق في أي مكان أن يبحث عن هذه الجماعات، فإذا وجد جماعة أو مركزا أو جمعية تدعو إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تبعها ولزمها.
كأنصار السنة في مصر والسودان، وجمعية أهل الحديث في باكستان والهند، وغيرهم ممن يدعو إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويخلص العبادة لله وحده، ولا يدعو معه سواه من أصحاب القبور ولا غيرهم.(8/181)
الذي يقول بأن الجماعات الإسلامية من الفرق التي أمر
النبي صلى الله عليه وسلم باعتزالها هل فهمه غير صحيح؟
س 7: إذا يا شيخنا الكريم، الذي يقول بأن هذه الجماعات الإسلامية من الفرق التي تدعو إلى جهنم والتي أمر النبي باعتزالها فهمه على كلامكم غير صحيح؟ .(8/181)
ج 7: الذي يدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليس من الفرق الضالة، بل هو من الفرق الناجية المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قيل: ومن هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي (1) » . وفي لفظ: " هي الجماعة ".
والمعنى: أن الفرقة الناجية: هي الجماعة المستقيمة على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم؛ من توحيد الله، وطاعة أوامره وترك نواهيه، والاستقامة على ذلك قولا وعملا وعقيدة، هم أهل الحق وهم دعاة الهدى ولو تفرقوا في البلاد، يكون منهم في الجزيرة العربية، ويكون منهم في الشام، ويكون منهم في أمريكا، ويكون منهم في مصر، ويكون منهم في دول أفريقيا، ويكون منهم في آسيا، فهم جماعات كثيرة يعرفون بعقيدتهم وأعمالهم، فإذا كانوا على طريقة التوحيد والإيمان بالله ورسوله، والاستقامة على دين الله الذي جاء به الكتاب وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهم أهل السنة والجماعة، وإن كانوا في جهات كثيرة، ولكن في آخر الزمان يقلون جدا.
فالحاصل: أن الضابط هو استقامتهم على الحق، فإذا وجد إنسان أو جماعة تدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتدعو إلى توحيد الله واتباع شريعته فهؤلاء هم الجماعة، وهم من الفرقة الناجية، وأما من دعا إلى غير كتاب الله، أو إلى غير سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا ليس من الجماعة، بل من الفرق الضالة الهالكة، وإنما الفرقة الناجية: دعاة الكتاب والسنة، وإن كانت منهم جماعة هنا وجماعة هناك ما دام الهدف والعقيدة واحدة، فلا يضر كون هذه تسمى: أنصار السنة،
__________
(1) سنن ابن ماجه الفتن (3992) .(8/182)
وهذه تسمى: الإخوان المسلمين، وهده تسمى: كذا، المهم عقيدتهم وعملهم، فإذا استقاموا على الحق وعلى توحيد الله والإخلاص له واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وعملا وعقيدة فالأسماء لا تضرهم، لكن عليهم أن يتقوا الله، وأن يصدقوا في ذلك، وإذا تسمى بعضهم بـ: أنصار السنة، وتسمى بعضهم بـ: السلفيين، أو بالإخوان المسلمين، أو تسمى بعضهم بـ: جماعة كذا، لا يضر إذا جاء الصدق، واستقاموا على الحق باتباع كتاب الله والسنة وتحكيمهما والاستقامة عليهما عقيدة وقولا وعملا، وإذا أخطأت الجماعة في شيء فالواجب على أهل العلم تنبيهها وإرشادها إلى الحق إذا اتضح دليله.
والمقصود: أنه لا بد أن نتعاون على البر والتقوى، وأن نعالج مشاكلنا بالعلم والحكمة والأسلوب الحسن، فمن أخطأ في شيء من هذه الجماعات أو غيرهم مما يتعلق بالعقيدة، أو بما أوجب الله، أو ما حرم الله، نبهوا بالأدلة الشرعية بالرفق والحكمة والأسلوب الحسن، حتى ينصاعوا إلى الحق، وحتى يقبلوه، وحتى لا ينفروا منه، هذا هو الواجب على أهل الإسلام أن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يتناصحوا فيما بينهم، وأن لا يتخاذلوا فيطمع فيهم العدو.(8/183)
الرأي فيمن يقول: العدل والإنصاف مع المخالفين
ليس من الواجبات الشرعية
س 8: البعض يقول: إن العدل والإنصاف مع المخالفين ليس من الواجبات الشرعية، فما رأي سماحتكم في هذا القول؟ .
ج 8: العدل والإنصاف واجب مع العدو ومع الصديق، قال الله جل وعلا: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) يعني: العادلين،
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9(8/183)
وقال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (1) فهو يأمر بالعدل والإحسان سبحانه وتعالى مع كل واحد، مع العدو ومع الصديق، مع المؤمن ومع الكافر، لا بد من العدل، ولا يجوز له أن يظلم ويتعدى، بل يجب أن يعدل، فإذا دعا الكفار وأصروا على الكفر قاتلهم، وأما أن يقاتلهم قبل الدعوة فلا، هذا ظلم، لا بد أن يعلمهم، وأن يدعوهم إلى الله أولا، فإذا أصروا قاتلهم وجاهدهم في سبيل الله مع القدرة على ذلك.
وهكذا إذا ترافع إليه الخصمان يحكم بينهم بالعدل، وإن كان أحدهما مسلما والآخر كافرا، لا بد أن يحكم بالعدل والبينة الشرعية ولو كان المحكوم له كافرا، فإذا كان مثلا مسلم مع كافر يدعي الكافر عليه أنه أخذ سيارته، أو أنه أخذ كذا وكذا وعنده البينة الشرعية، فإن القاضي يحكم له على المسلم.
الواجب: العدل، والله يقول: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن يوم القيامة، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا (3) » .
__________
(1) سورة النحل الآية 90
(2) سورة الحجرات الآية 9
(3) صحيح مسلم الإمارة (1827) ، سنن النسائي آداب القضاة (5379) ، مسند أحمد بن حنبل (2/160) .(8/184)
تعليق على قصيدة فيها دعوة إلى الشرك(8/184)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم معالي الأستاذ علي بن حسن الشاعر وزير الإعلام سلمه الله آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أبعث لمعاليكم بطيه نسخة من إحدى صفحات ملحق الأربعاء الصادرة مع جريدة المدينة في 14 \ 2 \ 1416 هـ المتضمن: قصيدة لمن سمى نفسه: فؤاد أمين حمدي جاء فيها:
وإن ضاقت حياتك ذات يوم ... عليك بأحمد النور المبين
وهذا البيت يتضمن الدعوة إلى اللجوء للرسول صلى الله عليه وسلم ودعائه أن يفرج الكربة، وهذا من أعظم الشرك الأكبر.
فالواجب تنبيه الشاعر إلى ذلك حتى يتوب إلى الله سبحانه، ويحذر العودة إلى مثل ذلك، وتحذير الجريدة من نشر مثل هذا الشعر، وتكليفهم بأن ينبهوا على هذا الخطأ بمضمون ما ذكرته بهذه الرسالة، وإن من الواجب على كل مسلم تعتريه أي كربة أن يفزع إلى الله سبحانه، وأن يسأله تفريجها، وأن يأخذ بالأسباب التي تنفع في ذلك، كما قال الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (1) وقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (2) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (3) وكان المشركون في
__________
(1) سورة النمل الآية 62
(2) سورة غافر الآية 60
(3) سورة المؤمنون الآية 117(8/185)
الجاهلية إذا اشتدت بهم الكروب فزعوا إلى الله سبحانه وتركوا آلهتهم، كما قال سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (1) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ومعلوم أن الأموات جميعا لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعا ولا ضرا، بل ذلك إلى الله سبحانه، كما قال الله سبحانه عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (2) الآية، هذا وهو حي عليه الصلاة والسلام فكيف بعدما مات؟! وقال جل وعلا {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (3) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (4) وقال سبحانه: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} (5) {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} (6) {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} (7) {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (8) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يمنحهم الفقه في الدين والثبات عليه، وأن يصلح القائمين على وسائل إعلامنا، وأن يوفقهم لكل خير، وأن يكفي المسلمين كل شر، إنه جواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 65
(2) سورة الأعراف الآية 188
(3) سورة فاطر الآية 13
(4) سورة فاطر الآية 14
(5) سورة فاطر الآية 19
(6) سورة فاطر الآية 20
(7) سورة فاطر الآية 21
(8) سورة فاطر الآية 22(8/186)
تعقيب على بعض (نظم رياض الجنة في عقيدة أهل السنة)
(1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ أحمد بن علي بن حمود حبيبي. المدرس في معهد ضمد العلمي وفقه الله لما فيه رضاه وزاده من العلم والإيمان آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابكم الكريم رقم بدون وتاريخ بدون، ومشفوعه المنظومة المسماة: (نظم رياض الجنة في عقيدة أهل السنة) .
وقد قرأت المنظومة المذكورة فألفيتها جيدة، إلا أن لي عليها ست ملاحظات، وإليكم بيانها، والله المسئول أن يبارك في جهودكم، ويمنحنا وإياكم المزيد من العلم النافع والعمل به، إنه خير مسئول.
1 - قلتم في المعية: إنها ذاتية.
والصواب: عدم ذكر كلمة ذاتية؛ لأنها توهم الاختلاط والحلول، وذلك خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة، وإنما يقال: علمية عامة وخاصة، وقد أجمع أهل العلم على هذا المعنى، كما حكى ذلك أبو عمر بن عبد البر، وأبو عمر الطكنكي رحمة الله عليهما.
2 - قلتم في الرؤية ما نصه:
قبل دخول الجنة يرونه ... جميع الأنام ليس شيء دونه
والبيت بعده.
والصواب: أنه لا يراه إلا المؤمنون، كما قال الله سبحانه في الكافرين: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (2) وقال سبحانه:
__________
(1) ملاحظات من سماحته في (نظم رياض الجنة في عقيدة أهل السنة) للشيخ: أحمد بن علي بن حمود حبيبي.
(2) سورة المطففين الآية 15(8/187)
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (1) وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير الآية بأن الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله.
3 - قلتم في القنطرة التي بعد الصراط ما نصه:
يقتص للإنسان والحيوان ... من ظالم أو صاحب الطغيان
وهذه القنطرة إنما يقتص فيها ما بين المؤمنين المستحقين لدخول الجنة، وهم الذين جاوزوا الصراط، ولا يجاوزه إلا المؤمنون، كما دلت على ذلك الأحاديث، وهو صريح كلام شيخ الإسلام في (العقيدة الواسطية) .
4 - قلتم في الجنة:
وبعض أهل العلم في الفناء ... قالوا وآخرون بالبقاء
وهذا وهم منكم، وإنما هذا القول في أهل النار، وهو قول ضعيف، والحق: أنهم مخلدون فيها أبد الآباد؛ لقول الله سبحانه في أهل النار: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (2) وقوله سبحانه: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (3) في آيات كثيرات تدل على هذا المعنى.
أما الجنة فهي باقية أبدا، وأهلها مخلدون فيها أبدا بإجماع أهل السنة.
__________
(1) سورة يونس الآية 26
(2) سورة البقرة الآية 167
(3) سورة المائدة الآية 37(8/188)
5 - قلتم في ص 11 عن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب ما نصه:
ثم لعمه شفاعة ترى ... يخرجه من قعر نار أثرا
ولم تكملوا ما جاء في الحديث، وهو أنه يخرجه إلى ضحضاح من النار وليس إخراجا منها بالكلية، وكلامكم يوهم ذلك، فلا بد من إصلاح البيت.
6 - قلتم في ص 17 ما نصه:
ثم نعت الله الذين أمروا ... بحكمه وبالهدوء نكروا
ولم يظهر لي معنى هذا البيت.
وفق الله الجميع لما يرضيه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/189)
تعقيب على مقالة الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر
بعنوان: علاقة الإسلام بالأديان الأخرى(8/189)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ سماحة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر وفقه الله للخير.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد اطلعت على مقالة لسماحتكم نشرتها صحيفة الجزيرة السعودية في عددها الصادر في يوم الجمعة 16 \ 5 \ 1415 هـ بعنوان: (علاقة الإسلام بالأديان الأخرى) ورد في أولها من كلامكم ما نصه:
(الإسلام يحرص على أن يكون أساس علاقاته مع الأديان والشعوب الأخرى هو السلام العام والود والتعاون؛ لأن الإنسان عموما في نظر الإسلام هو مخلوق عزيز كرمه الله تعالى وفضله على كثير من خلقه؛ يدل لهذا قول الله تعالى في سورة الإسراء: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (1) والتكريم الإلهي للإنسان بخلقه وتفضيله على غيره يعد رباطا ساميا يشد المسلمين إلى غيرهم من بني الإنسان.
فإذا سمعوا بعد ذلك قول الله تعالى في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (2) أصبح واجبا عليهم أن يقيموا علاقات المودة والمحبة مع غيرهم من أتباع الديانات الأخرى، والشعوب غير المسلمة؛ نزولا عند هذه الأخوة
__________
(1) سورة الإسراء الآية 70
(2) سورة الحجرات الآية 13(8/190)
الإنسانية، وهذا هو معنى التعارف الوارد في الآية ... ) إلخ.
ولقد كدرني كثيرا ما تضمنته هذه الجمل من المعاني المخالفة للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ورأيت من النصح لسماحتكم التنبيه على ذلك؛ فإنه لا يخفى على سماحتكم أن الله سبحانه قد أوجب على المؤمنين بغض الكفار، ومعاداتهم، وعدم مودتهم وموالاتهم، ما في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1) وقال سبحانه في سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (2) وقال سبحانه في سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (3) {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} (4) {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (5) {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (6) الآية.
__________
(1) سورة المائدة الآية 51
(2) سورة آل عمران الآية 118
(3) سورة الممتحنة الآية 1
(4) سورة الممتحنة الآية 2
(5) سورة الممتحنة الآية 3
(6) سورة الممتحنة الآية 4(8/191)
وقال سبحانه في سورة المجادلة: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (1) الآية.
فهذه الآيات الكريمات وما جاء في معناها من الآيات الأخرى كلها تدل على وجوب بغض الكفار، ومعاداتهم، وقطع المودة بينهم وبين المؤمنين حتى يؤمنوا بالله وحده.
أما التعارف الذي دلت عليه آية الحجرات فلا يلزم منه المودة ولا المحبة للكفار، وإنما تدل الآية أن الله جعل بني آدم شعوبا وقبائل ليتعارفوا، فيتمكنوا من المعاملات الجائزة بينهم شرعا؛ كالبيع والشراء وتبادل السفراء، وأخذ الجزية من اليهود والنصارى والمجوس ... وغير ذلك من العلاقات التي لا يترتب عليها مودة ولا محبة.
وهكذا تكريم الله سبحانه لبني آدم لا يدل على جواز إقامة علاقة المودة والمحبة بين المسلم والكافر، وإنما يدل ذلك على أن جنس بني آدم قد فضله الله على كثير من خلقه.
فلا يجوز أن يستنبط من الآيتين ما يخالف الآيات المحكمات المتقدمة وغيرها الدالة على وجوب بغض الكفار في الله ومعاداتهم، وتحريم مودتهم وموالاتهم؛ لما بينهم وبين المسلمين من البون العظيم في الدين.
والواجب على أهل العلم تفسير القرآن بما يصدق بعضه بعضا،
__________
(1) سورة المجادلة الآية 22(8/192)
وتفسير المشتبه بالمحكم، كما قال الله جل وعلا: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (1) الآية، مع أن الحكم بحمد الله في الآيات المحكمات المذكورة وغيرها واضح لا شبهة فيه، والآيتان اللتان في التعارف والتكريم ليس فيهما ما يخالف ذلك.
وقد ورد في المقال أيضا ما نصه: (فنظرة المسلمين إذن إلى غيرهم من أتباع اليهودية والنصرانية هي نظرة الشريك إلى شركائه في الإيمان بالله والعمل بالرسالة الإلهية التي لا تختلف في أصولها العامة) .
وهذا - كما لا يخفى على سماحتكم - حكم مخالف للنصوص الصريحة في دعوة أهل الكتاب وغيرهم إلى الإيمان بالله ورسوله، وتسمية من لم يستجب منهم لهذه الدعوة كفارا.
ومن المعلوم أن جميع الشرائع التي جاءت بها الأنبياء قد نسخت بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحد من الناس أن يعمل بغير الشريعة التي جاء بها القرآن الكريم والسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (2) وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) وقال
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2) سورة النور الآية 54
(3) سورة الأعراف الآية 157(8/193)
سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1) وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (2) وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} (3) الآية، وقال عن اليهود والنصارى في سورة التوبة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (4) والآيتين بعدها.
والآيات في هذا المعنى كثيرة، كلها تدل على كفر اليهود والنصارى باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وقول اليهود: عزير ابن الله، وقول النصارى: المسيح ابن الله، وتكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، وعدم إيمانهم به إلا من هداه الله منهم للإسلام.
وقد روى مسلم في صحيحه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار (5) » ، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (6) » . والأحاديث الدالة على كفر اليهود والنصارى، وأنهم أعداء لنا كثيرة.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة المائدة الآية 17
(3) سورة المائدة الآية 73
(4) سورة التوبة الآية 31
(5) صحيح مسلم الإيمان (153) ، مسند أحمد بن حنبل (2/350) .
(6) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (529) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(8/194)
وإباحة الله سبحانه للمسلمين طعام أهل الكتاب ونساءهم المحصنات منهن لا تدل على جواز مودتهم ومحبتهم، كما لا يخفى على كل من تدبر الآيات وأعطى المقام حقه من النظر والعناية.
وبذلك كله يتبين لسماحتكم خطأ ما ورد في المقال من:
1 - القول بأن الود والمحبة من أساسيات العلاقة في الإسلام بين الأديان والشعوب.
2 - الحكم لأتباع اليهودية والنصرانية بالإيمان بالله والعمل بالرسالة الإلهية التي لا تختلف في أصولها العامة.
وتواصيا بالحق كتبت لسماحتكم هذه الرسالة، راجيا من سماحتكم إعادة النظر في كلامكم في هذين الأمرين، وأن ترجعوا إلى ما دلت عليه النصوص، وتقوموا بتصحيح ما صدر منكم في الكلمة المذكورة؛ براءة للذمة، ونصحا للأمة، وذلك مما يحمد لكم إن شاء الله، وهو يدل على قوة الإيمان، وإيثار الحق على غيره متى ظهرت أدلته.
والله المسئول بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم وسائر علماء المسلمين لمعرفة الحق واتباعه، وأن يمن علينا جميعا بالنصح له ولعباده، وأن يجعلنا جميعا من الهداة المهتدين، إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.(8/195)
بيان كفر وضلال من زعم أنه يجوز لأحد الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم (1)
__________
(1) نشرت في جريدة الشرق الأوسط في العدد (5895) بتاريخ 17 \ 8 \ 1415 هـ الموافق 18 \ 1 \ 1995 م.(8/195)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد اطلعت على المقال المنشور بجريدة الشرق الأوسط بعددها رقم (5824) وتاريخ 5 \ 6 \ 1415هـ كتبه من سمى نفسه: عبد الفتاح الحايك تحت عنوان: (الفهم الخاطئ) .
وملخص المقال: إنكاره لما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة، وبالنص والإجماع، وهو عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، وادعاؤه أن من لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يطعه، بل بقي يهوديا أو نصرانيا فهو على دين حق، ثم تطاول على رب العالمين سبحانه في حكمته في تعذيب الكفار والعصاة وجعل ذلك من العبث.
وقد قام بتحريف النصوص الشرعية ووضعها في غير مواضعها، وفسرها بما يمليه هواه، وأعرض عن الأدلة الشرعية والنصوص الصريحة الدالة على عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى كفر من سمع به ولم يتبعه، وأن الله لا يقبل غير الإسلام دينا، إلى غير ذلك من النصوص الصريحة التي أعرض عنها؛ لينخدع بكلامه الجهال.
وهذا الذي فعله كفر صريح، وردة عن الإسلام، وتكذيب لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، كما يعلم ذلك من قرأ المقال من أهل العلم والإيمان.
والواجب على ولي الأمر إحالته للمحكمة لاستتابته والحكم(8/196)
عليه بما يقتضيه الشرع المطهر.
والله سبحانه وتعالى قد بين عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ووجوب اتباعه على جميع الثقلين، وذلك لا يجهله من له أدنى مسكة من علم من المسلمين، قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1) وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (2) وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (3) وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (4) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (5) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (6) وقال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (7) وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (8)
وروى البخاري ومسلم، عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة الأنعام الآية 19
(3) سورة آل عمران الآية 31
(4) سورة آل عمران الآية 85
(5) سورة سبأ الآية 28
(6) سورة الأنبياء الآية 107
(7) سورة آل عمران الآية 20
(8) سورة الفرقان الآية 1(8/197)
«أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة (1) » ، وهذا بيان صريح لعموم وشمول رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع البشر، وأنها نسخت جميع الشرائع المتقدمة، وأن من لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يطعه فهو كافر عاص مستحق لعقابه، قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} (2) وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (4) وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (5) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
والله سبحانه قد قرن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعته، وبين أن من اعتقد غير الإسلام فهو خاسر لا يقبل منه صرف ولا عدل، فقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (6) وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (7) وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (8)
__________
(1) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) .
(2) سورة هود الآية 17
(3) سورة النور الآية 63
(4) سورة النساء الآية 14
(5) سورة البقرة الآية 108
(6) سورة آل عمران الآية 85
(7) سورة النساء الآية 80
(8) سورة النور الآية 54(8/198)
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (1) وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار (2) » .
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعله وقوله بطلان ديانة من لم يدخل في دين الإسلام، فقد حارب اليهود والنصارى، كما حارب غيرهم من الكفار، وأخذ ممن أعطاه منهم الجزية حتى لا يمنعوا وصول الدعوة إلى بقيتهم، وحتى يدخل من شاء منهم في الإسلام دون خوف من قومه أن يصدوه أو يمنعوه أو يقتلوه.
وقد روى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بينما نحن في المسجد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: انطلقوا إلى يهود. فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فناداهم فقال: يا معشر يهود، أسلموا تسلموا. فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك أريد، أسلموا تسلموا. فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك أريد. ثم قالها الثالثة (3) » . . . . الحديث.
والمقصود: أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى أهل الديانة من اليهود في بيت مدراسهم فدعاهم إلى الإسلام، وقال لهم: «أسلموا تسلموا (4) » ، وكررها
__________
(1) سورة البينة الآية 6
(2) صحيح مسلم الإيمان (153) ، مسند أحمد بن حنبل (2/350) .
(3) صحيح البخاري الإكراه (6944) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1765) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3003) ، مسند أحمد بن حنبل (2/451) .
(4) صحيح البخاري الإكراه (6944) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1765) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3003) ، مسند أحمد بن حنبل (2/451) .(8/199)
عليهم، وكذلك بعث بكتابه إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، ويخبره أنه إن امتنع فإن عليه إثم الذين امتنعوا من الإسلام بسبب امتناعه منه، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، أن هرقل دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه، فإذا فيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و (2) » ثم لما تولوا ورفضوا الدخول في الإسلام قاتلهم صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه رضي الله عنهم وفرض عليهم الجزية.
ولتأكيد ضلالهم وأنهم على دين باطل بعد نسخه بدين محمد صلى الله عليه وسلم، أمر الله المسلم أن يسأل الله في كل يوم وفي كل صلاة وفي كل ركعة أن يهديه الصراط المستقيم الصحيح المتقبل، وهو: الإسلام، وأن يجنبه طريق المغضوب عليهم، وهم: اليهود وأشباههم الذين يعلمون أنهم على باطل ويصرون عليه، ويجنبه طريق الضالين الذين يتعبدون بغير علم ويزعمون أنهم على طريق هدى وهم على طريق ضلالة، وهم: النصارى، ومن شابههم من الأمم الأخرى التي تتعبد على ضلال وجهل، وكل ذلك ليعلم المسلم علم اليقين أن كل ديانة غير الإسلام فهي باطلة، وأن كل من يتعبد لله على غير الإسلام
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير (2941) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1773) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2717) ، سنن أبو داود الأدب (5136) ، مسند أحمد بن حنبل (1/263) .
(2) سورة آل عمران الآية 64 (1) {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(8/200)
فهو ضال، ومن لم يعتقد ذلك فليس من المسلمين. والأدلة في هذا الباب كثيرة من الكتاب والسنة.
فالواجب على صاحب المقال - عبد الفتاح - أن يبادر بالتوبة النصوح، وأن يكتب مقالا يعلن فيه توبته، ومن تاب إلى الله توبة صادقة تاب الله عليه؛ لقول الله سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (2) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (3) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (4) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يهدم ما كان قبله، والتوبة تهدم ما كان قبلها (5) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (6) » . والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأن يمن علينا وعلى الكاتب عبد الفتاح وعلى جميع المسلمين بالتوبة النصوح، وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن وطاعة الهوى والشيطان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة الفرقان الآية 68
(3) سورة الفرقان الآية 69
(4) سورة الفرقان الآية 70
(5) صحيح مسلم الإيمان (121) .
(6) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .(8/201)
نصيحة الأمة
في جواب عشرة أسئلة مهمة(8/201)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اتبع هداه، أما بعد:
فهذه أسئلة مهمة وأجوبتها رأيت تقديمها لإخواني المسلمين للاستفادة منها، وأسأل الله أن ينفع بها عباده، وأن يتقبل منا جهدنا، وأن يضاعف لنا الأجر، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته ويصلح أحوال المسلمين، وأن يولي عليهم خيارهم، وأن يصلح قادتهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
س1: سماحة الشيخ: هناك من يرى أن اقتراف بعض الحكام للمعاصي والكبائر موجب للخروج عليهم ومحاولة التغيير، وإن ترتب عليه ضرر للمسلمين في البلد، والأحداث التي يعاني منها عالمنا الإسلامي كثيرة، فما رأي سماحتكم؟ .
ج1: بسم الله الرحمن الرحيم:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1)
فهذه الآية نص في وجوب طاعة أولي الأمر، وهم: الأمراء والعلماء، وقد جاءت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين أن هذه الطاعة
__________
(1) سورة النساء الآية 59(8/202)
لازمة، وهي فريضة في المعروف.
والنصوص من السنة تبين المعنى، وتقيد إطلاق الآية بأن المراد: طاعتهم في المعروف، ويجب على المسلمين طاعة ولاة الأمور في المعروف، لا في المعاصي، فإذا أمروا بالمعصية فلا يطاعون في المعصية، لكن لا يجوز الخروج عليهم بأسبابها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة (1) » ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية (2) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة (3) » .
وسأله الصحابة رضي الله عنهم - لما ذكر أنه يكون أمراء تعرفون منهم وتنكرون - قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم (4) » ، «قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وقال: إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان (5) » .
فهذا يدل على أنه لا يجوز لهم منازعة ولاة الأمور، ولا الخروج عليهم، إلا أن يروا كفرا بواحا عندهم من الله فيه برهان؛ وما ذاك إلا لأن الخروج على ولاة الأمور يسبب فسادا كبيرا وشرا عظيما، فيختل به الأمن، وتضيع الحقوق، ولا يتيسر ردع الظالم، ولا نصر المظلوم، وتختل السبل ولا تأمن، فيترتب على الخروج على ولاة الأمور فساد عظيم وشر كثير، إلا إذا رأى المسلمون كفرا بواحا عندهم من الله فيه برهان، فلا بأس أن يخرجوا على هذا السلطان لإزالته إذا كان عندهم
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1855) ، مسند أحمد بن حنبل (6/24) ، سنن الدارمي الرقاق (2797) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1848) ، سنن النسائي تحريم الدم (4114) ، سنن ابن ماجه الفتن (3948) ، مسند أحمد بن حنبل (2/296) .
(3) صحيح البخاري الأحكام (7144) ، صحيح مسلم الإمارة (1839) ، سنن الترمذي الجهاد (1707) ، سنن أبو داود الجهاد (2626) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2864) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) .
(4) صحيح البخاري الفتن (7052) ، صحيح مسلم الإمارة (1843) ، سنن الترمذي الفتن (2190) ، مسند أحمد بن حنبل (1/387) .
(5) صحيح البخاري الفتن (7056) ، صحيح مسلم الحدود (1709) ، سنن النسائي البيعة (4162) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2866) ، مسند أحمد بن حنبل (5/325) ، موطأ مالك الجهاد (977) ، سنن الدارمي السير (2453) .(8/203)
قدرة، أما إذا لم يكن عندهم قدرة فلا يخرجوا، أو كان الخروج يسبب شرا أكثر فليس لهم الخروج؛ رعاية للمصالح العامة.
والقاعدة الشرعية المجمع عليها: (أنه لا يجوز إزالة الشر بما هو أشر منه، بل يجب درء الشر بما يزيله أو يخففه) . أما درء الشر بشر أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين، فإذا كانت هذه الطائفة التي تريد إزالة هذا السلطان الذي فعل كفرا بواحا عندها قدرة تزيله بها، وتضع إماما صالحا طيبا من دون أن يترتب على هذا فساد كبير على المسلمين، وشر أعظم من شر هذا السلطان فلا بأس، أما إذا كان الخروج يترتب عليه فساد كبير، واختلال الأمن، وظلم الناس، واغتيال من لا يستحق الاغتيال ... إلى غير هذا من الفساد العظيم، فهذا لا يجوز، بل يجب الصبر، والسمع والطاعة في المعروف، ومناصحة ولاة الأمور، والدعوة لهم بالخير، والاجتهاد في تخفيف الشر وتقليله وتكثير الخير.
هذا هو الطريق السوي الذي يجب أن يسلك؛ لأن في ذلك مصالح للمسلمين عامة، ولأن في ذلك تقليل الشر وتكثير الخير، ولأن في ذلك حفظ الأمن وسلامة المسلمين من شر أكثر.
نسأل الله للجميع التوفيق والهداية..
س2: سماحة الوالد: نعلم أن هذا الكلام أصل من أصول أهل السنة والجماعة، ولكن هناك - للأسف - من أبناء أهل السنة والجماعة من يرى هذا فكرا انهزاميا، وفيه شيء من التخاذل، وقد قيل هذا الكلام؛ لذلك يدعون الشباب إلى تبني العنف في التغيير.
ج2: هذا غلط من قائله، وقلة فهم؛ لأنهم ما فهموا السنة ولا(8/204)
عرفوها كما ينبغي، وإنما تحملهم الحماسة والغيرة لإزالة المنكر على أن يقعوا فيما يخالف الشرع كما وقعت الخوارج والمعتزلة، حملهم حب نصر الحق أو الغيرة للحق، حملهم ذلك على أن وقعوا في الباطل حتى كفروا المسلمين بالمعاصي كما فعلت الخوارج، أو خلدوهم في النار بالمعاصي كما تفعل المعتزلة.
فالخوارج كفروا بالمعاصي، وخلدوا العصاة في النار، والمعتزلة وافقوهم في العاقبة، وأنهم في النار مخلدون فيها، ولكن قالوا: إنهم في الدنيا بمنزلة بين المنزلتين، وكله ضلال.
والذي عليه أهل السنة - وهو الحق - أن العاصي لا يكفر بمعصيته ما لم يستحلها، فإذا زنا لا يكفر، وإذا سرق لا يكفر، وإذا شرب الخمر لا يكفر، ولكن يكون عاصيا ضعيف الإيمان فاسقا تقام عليه الحدود، ولا يكفر بذلك إلا إذا استحل المعصية وقال: إنها حلال، وما قاله الخوارج في هذا باطل، وتكفيرهم للناس باطل؛ ولهذا قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إنهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه، يقاتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان (1) » . هذه حال الخوارج بسبب غلوهم وجهلهم وضلالهم، فلا يليق بالشباب ولا غير الشباب أن يقلدوا الخوارج والمعتزلة، بل يجب أن يسيروا على مذهب أهل السنة والجماعة على مقتضى الأدلة الشرعية، فيقفوا مع النصوص كما جاءت، وليس لهم الخروج على السلطان من أجل معصية أو معاص وقعت منه، بل عليهم المناصحة بالمكاتبة والمشافهة، بالطرق الطيبة الحكيمة، وبالجدال بالتي هي أحسن، حتى ينجحوا، وحتى يقل الشر أو يزول ويكثر الخير.
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2578) .(8/205)
هكذا جاءت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (1)
فالواجب على الغيورين لله وعلى دعاة الهدى أن يلتزموا حدود الشرع، وأن يناصحوا من ولاهم الله الأمور، بالكلام الطيب، والحكمة، والأسلوب الحسن، حتى يكثر الخير ويقل الشر، وحتى يكثر الدعاة إلى الله، وحتى ينشطوا في دعوتهم بالتي هي أحسن، لا بالعنف والشدة، ويناصحوا من ولاهم الله الأمر بشتى الطرق الطيبة السليمة، مع الدعاء لهم بظهر الغيب: أن الله يهديهم، ويوفقهم، ويعينهم على الخير، وأن الله يعينهم على ترك المعاصي التي يفعلونها وعلى إقامة الحق.
هكذا يدعو المؤمن الله ويضرع إليه: أن يهدي الله ولاة الأمور، وأن يعينهم على ترك الباطل، وعلى إقامة الحق بالأسلوب الحسن وبالتي هي أحسن، وهكذا مع إخوانه الغيورين ينصحهم ويعظهم ويذكرهم حتى ينشطوا في الدعوة بالتي هي أحسن، لا بالعنف والشدة، وبهذا يكثر الخير، ويقل الشر، ويهدي الله ولاة الأمور للخير والاستقامة عليه، وتكون العاقبة حميدة للجميع..
س3: لو افترضنا أن هناك خروجا شرعيا لدى جماعة من الجماعات، هل هذا يبرر قتل أعوان هذا الحاكم وكل من يعمل في حكومته مثل الشرطة والأمن وغيرهم؟ .
ج3: سبق أن أخبرتك: أنه لا يجوز الخروج على السلطان إلا بشرطين:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159(8/206)
أحدهما: وجود كفر بواح عندهم من الله فيه برهان.
والشرط الثاني: القدرة على إزالة الحاكم إزالة لا يترتب عليها شر أكبر منه، وبدون ذلك لا يجوز..
س4: يظن البعض من الشباب أن مجافاة الكفار - ممن هم مستوطنون في البلاد الإسلامية أو من الوافدين إليها - من الشرع، ولذلك البعض يستحل قتلهم وسلبهم إذا رأوا منهم ما ينكرون. .
ج4: لا يجوز قتل الكافر المستوطن أو الوافد المستأمن الذي أدخلته الدولة آمنا، ولا قتل العصاة ولا التعدي عليهم، بل يحالون فيما يحدث منهم من المنكرات للحكم الشرعي، وفيما تراه المحاكم الشرعية الكفاية..
س5: وإذا لم توجد محاكم شرعية؟ .
ج5: إذا لم توجد محاكم شرعية، فالنصيحة فقط، النصيحة لولاة الأمور، وتوجيههم للخير، والتعاون معهم حتى يحكموا شرع الله، أما أن الآمر والناهي يمد يده فيقتل أو يضرب فلا يجوز، لكن يتعاون مع ولاة الأمور بالتي هي أحسن حتى يحكموا شرع الله في عباد الله، وإلا فواجبه النصح، وواجبه التوجيه إلى الخير، وواجبه إنكار المنكر بالتي هي أحسن، هذا هو واجبه، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) لأن إنكاره باليد بالقتل أو الضرب يترتب عليه شر أكثر وفساد أعظم بلا شك ولا ريب لكل من سبر هذه الأمور وعرفها..
س6: هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالذات التغيير باليد حق للجميع، أم أنه حق مشروط لولي الأمر ومن يعينه ولي الأمر؟ .
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(8/207)
ج6: التغيير للجميع حسب استطاعته؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » .
لكن التغيير باليد لا بد أن يكون عن قدرة لا يترتب عليه فساد أكبر وشر أكثر، فليغير باليد في بيته: على أولاده، وعلى زوجته، وعلى خدمه، وهكذا الموظف في الهيئة المختصة المعطى له صلاحيات، يغير بيده حسب التعليمات التي لديه، وإلا فلا يغير شيئا بيده ليس له فيه صلاحية؛ لأنه إذا غير بيده فيما لا يدخل تحت صلاحيته يترتب عليه ما هو أكثر شرا، ويترتب بلاء كثير وشر عظيم بينه وبين الناس، وبينه وبين الدولة.
ولكن عليه أن يغير باللسان، كأن يقول: (اتق الله يا فلان، هذا لا يجوز) ، (هذا حرام عليك) ، (هذا واجب عليك) ، يبين له بالأدلة الشرعية باللسان، أما باليد فيكون في محل الاستطاعة، في بيته، أو فيمن تحت يده، أو فيمن أذن له فيه من جهة السلطان أن يأمر بالمعروف، كالهيئات التي يأمرها السلطان ويعطيها الصلاحيات، يغيرون بقدر الصلاحيات التي أعطوها على الوجه الشرعي الذي شرعه الله لا يزيدون عليه، وهكذا أمير البلد يغير بيده حسب التعليمات التي لديه..
س7: هناك من يرى - حفظك الله - أن له الحق في الخروج على الأنظمة العامة التي يضعها ولي الأمر كالمرور والجمارك والجوازات. إلخ، باعتبار أنها ليست على أساس شرعي، فما قولكم - حفظكم الله -
ج7: هذا باطل ومنكر، وقد تقدم: أنه لا يجوز الخروج ولا التغيير باليد، بل يجب السمع والطاعة في هذه الأمور التي ليس فيها منكر، بل نظمها ولي الأمر لمصالح المسلمين، فيجب الخضوع لذلك، والسمع
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .(8/208)
والطاعة في ذلك؛ لأن هذا من المعروف الذي ينفع المسلمين، وأما الشيء الذي هو منكر، كالضريبة التي يرى ولي الأمر أنها جائزة فهذه يراجع فيها ولي الأمر؛ للنصيحة والدعوة إلى الله، وبالتوجيه إلى الخير، لا بيده يضرب هذا أو يسفك دم هذا أو يعاقب هذا بدون حجة ولا برهان، بل لا بد أن يكون عنده سلطان من ولي الأمر يتصرف به حسب الأوامر التي لديه وإلا فحسبه النصيحة والتوجيه، إلا فيمن هو تحت يده من أولاد وزوجات ونحو ذلك ممن له السلطة عليهم..
س8: هل من مقتضى البيعة - حفظك الله - الدعاء لولي الأمر؟ .
ج8: من مقتضى البيعة النصح لولي الأمر، ومن النصح: الدعاء له بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل وصلاح البطانة؛ لأن من أسباب صلاح الوالي ومن أسباب توفيق الله له: أن يكون له وزير صدق يعينه على الخير، ويذكره إذا نسي، ويعينه إذا ذكر، هذه من أسباب توفيق الله له.
فالواجب على الرعية وعلى أعيان الرعية التعاون مع ولي الأمر في الإصلاح وإماتة الشر والقضاء عليه، وإقامة الخير بالكلام الطيب والأسلوب الحسن والتوجيهات السديدة التي يرجى من ورائها الخير دون الشر، وكل عمل يترتب عليه شر أكثر من المصلحة لا يجوز؛ لأن المقصود من الولايات كلها: تحقيق المصالح الشرعية، ودرء المفاسد، فأي عمل يعمله الإنسان يريد به الخير ويترتب عليه ما هو أشر مما أراد إزالته وما هو منكر لا يجوز له.
وقد أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا المعنى إيضاحا كاملا في كتاب " الحسبة " فليراجع؛ لعظم الفائدة.(8/209)
س9: ومن يمتنع عن الدعاء لولي الأمر - حفظك الله -. .(8/209)
ج9: هذا من جهله، وعدم بصيرته؛ لأن الدعاء لولي الأمر من أعظم القربات، ومن أفضل الطاعات، ومن النصيحة لله ولعباده، «والنبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: إن دوسا عصت وهم كفار قال: اللهم اهد دوسا وائت بهم (1) » . فهداهم الله وأتوه مسلمين.
فالمؤمن يدعو للناس بالخير، والسلطان أولى من يدعى له؛ لأن صلاحه صلاح للأمة، فالدعاء له من أهم الدعاء، ومن أهم النصح: أن يوفق للحق وأن يعان عليه، وأن يصلح الله له البطانة، وأن يكفيه الله شر نفسه وشر جلساء السوء، فالدعاء له بالتوفيق والهداية وبصلاح القلب والعمل وصلاح البطانة من أهم المهمات، ومن أفضل القربات، وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: (لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان) ، ويروى ذلك عن الفضيل بن عياض رحمه الله.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2937) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2524) ، مسند أحمد بن حنبل (2/243) .(8/210)
س10: هل من منهج السلف نقد الولاة من فوق المنابر؟ وما منهج السلف في نصح الولاة؟ .
ج10: ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة، وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف: النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير.
أما إنكار المنكر بدون ذكر الفاعل: فينكر الزنا، وينكر الخمر، وينكر الربا من دون ذكر من فعله، فذلك واجب؛ لعموم الأدلة.
ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير أن يذكر من فعلها(8/210)
لا حاكما ولا غير حاكم.
ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه قال بعض الناس لأسامة بن زيد رضي الله عنه: ألا تكلم عثمان؟ فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه، إلا أسمعكم؟ إني أكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من افتتحه.
ولما فتح الخوارج الجهال باب الشر في زمان عثمان رضي الله عنه وأنكروا على عثمان علنا عظمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقتل عثمان وعلي رضي الله عنهما بأسباب ذلك، وقتل جمع كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني، وذكر العيوب علنا، حتى أبغض الكثيرون من الناس ولي أمرهم وقتلوه، وقد روى عياض بن غنم الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه (1) » .
نسأل الله العافية والسلامة لنا ولإخواننا المسلمين من كل شر، إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وآله وصحبه.
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (3 \ 403-404) ، وابن أبي عاصم في كتاب السنة (2 \ 521) .(8/211)
الحوار الذي أجراه رئيس تحرير جريدة " المسلمون " مع سماحته
حول الصلح مع اليهود
جواز الهدنة مع الأعداء مطلقة ومؤقتة إذا رأى ولي الأمر المصلحة في ذلك.(8/211)
س1: سماحة الوالد: المنطقة تعيش اليوم مرحلة السلام واتفاقياته، الأمر الذي آذى كثيرا من المسلمين مما حدا ببعضهم معارضته والسعي لمواجهة الحكومات التي تدعمه عن طريق الاغتيالات أو ضرب الأهداف المدنية للأعداء، ومنطقهم يقوم على الآتي:.
أ- أن الإسلام يرفض مبدأ المهادنة. .
ب- أن الإسلام يدعو لمواجهة الأعداء بغض النظر عن حال الأمة والمسلمين من ضعف أو قوة. .
نرجو بيان الحق، وكيف نتعامل مع هذا الواقع بما يكفل سلامة الدين وأهله؟
ج1: تجوز الهدنة مع الأعداء مطلقة ومؤقتة، إذا رأى ولي الأمر المصلحة في ذلك؛ لقول الله سبحانه: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلهما جميعا، كما صالح أهل مكة على ترك الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض، وصالح كثيرا من قبائل العرب صلحا مطلقا، فلما فتح الله عليه مكة نبذ إليهم عهودهم، وأجل من
__________
(1) سورة الأنفال الآية 61(8/212)
لا عهد له أربعة أشهر، كما في قول الله سبحانه: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (2) الآية.
وبعث صلى الله عليه وسلم المنادين بذلك عام تسع من الهجرة بعد الفتح مع الصديق لما حج رضي الله عنه، ولأن الحاجة والمصلحة الإسلامية قد تدعو إلى الهدنة المطلقة ثم قطعها عند زوال الحاجة، كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بسط العلامة ابن القيم - رحمه الله - القول في ذلك في كتابه (أحكام أهل الذمة) ، واختار ذلك شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة التوبة الآية 1
(2) سورة التوبة الآية 2(8/213)
السمع والطاعة لولاة الأمر في المعروف
س2: يرى البعض: أن حال الفساد وصل في الأمة لدرجة لا يمكن تغييره إلا بالقوة وتهييج الناس على الحكام، وإبراز معايبهم؛ لينفروا عنهم، وللأسف فإن هؤلاء لا يتورعون عن دعوة الناس لهذا المنهج والحث عليه، ماذا يقول سماحتكم؟ .
ج2: هذا مذهب لا تقره الشريعة؛ لما فيه من مخالفة للنصوص الآمرة بالسمع والطاعة لولاة الأمور في المعروف، ولما فيه من الفساد العظيم والفوضى والإخلال بالأمن.
والواجب عند ظهور المنكرات إنكارها بالأسلوب الشرعي، وبيان الأدلة الشرعية من غير عنف، ولا إنكار باليد إلا لمن تخوله الدولة ذلك؛ حرصا على استتباب الأمن وعدم الفوضى، وقد دلت الأحاديث(8/213)
الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى من أميره شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره، في المنشط والمكره، ما لم يؤمر بمعصية الله (2) » .
وقد بايع الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وعلى ألا ينزعوا يدا من طاعة، إلا أن يروا كفرا بواحا عندهم من الله فيه برهان. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
والمشروع في مثل هذه الحال: مناصحة ولاة الأمور، والتعاون معهم على البر والتقوى، والدعاء لهم بالتوفيق والإعانة على الخير، حتى يقل الشر ويكثر الخير.
نسأل الله أن يصلح جميع ولاة أمر المسلمين، وأن يمنحهم البطانة الصالحة، وأن يكثر أعوانهم في الخير، وأن يوفقهم لتحكيم شريعة الله في عباده، إنه جواد كريم.
__________
(1) صحيح البخاري الفتن (7054) ، صحيح مسلم الإمارة (1849) ، مسند أحمد بن حنبل (1/297) ، سنن الدارمي السير (2519) .
(2) صحيح البخاري الأحكام (7199) ، سنن النسائي البيعة (4151) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2866) ، مسند أحمد بن حنبل (5/319) ، موطأ مالك الجهاد (977) .(8/214)
زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه سنة إذا تيسر ذلك
س3: في ظل التفاهم بين العرب واليهود، هل يجوز زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه، خصوصا في حال الموافقة من الدول العربية؟ .
ج3: زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه سنة إذا تيسر ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (1) » متفق على صحته. والله الموفق.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .(8/214)
نصيحة مهمة
س4: يختلف الفلسطينيون في مواقفهم من عملية السلام: فحماس تعارض وتدعو للمقاومة، والسلطة الفلسطينية موافقة،(8/214)
وأغلب الشارع كما يبدو مع السلطة، فمن تلزم الناس طاعته؟ وما هو موقفنا نحن في الخارج؟ نرجو بيان الحق؛ لأن هناك أخطارا بأن ينشب القتال بين الفلسطينيين أنفسهم.
وفي ختام الحديث مع سماحتكم وبما جعل الله لكم من محبة وقبول في قلوب الناس، أرجو أن يوجه سماحتكم كلمة لأبناء هذه الأمة يكون فيها ما يكفل سعادتهم في الدنيا والآخرة، ويكفل رفعة الدين وأهله. وفقنا الله وإياكم لكل خير، آمين. .
ج4: ننصح الفلسطينيين جميعا بأن يتفقوا على الصلح، ويتعاونوا على البر والتقوى؛ حقنا للدماء، وجمعا للكلمة على الحق، وإرغاما للأعداء الذين يدعون إلى الفرقة والاختلاف.
وعلى الرئيس وجميع المسئولين أن يحكموا شريعة الله، وأن يلزموا بها الشعب الفلسطيني؛ لما في ذلك من السعادة والمصلحة العظيمة للجميع، ولأن ذلك هو الواجب الذي أوجبه الله على المسلمين عند القدرة، كما في قوله سبحانه في سورة المائدة: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (1) إلى أن قال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) وقال سبحانه في سورة النساء: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) وقوله سبحانه في سورة المائدة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (4)
__________
(1) سورة المائدة الآية 49
(2) سورة المائدة الآية 50
(3) سورة النساء الآية 65
(4) سورة المائدة الآية 44(8/215)
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2)
ومن هذه الآيات وغيرها يعلم أن الواجب على جميع الدول الإسلامية هو تحكيم شريعة الله فيما بينهم، والحذر مما يخالفها، وفي ذلك سعادتهم ونصرهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة.
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمنحهم التوفيق، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يعينهم على تحكيم شريعته في كل شئونهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وبهذه المناسبة فإني أنصح جميع المسلمين في كل مكان بأن يتفقهوا في الدين، وأن يعرفوا معنى العبادة التي خلقوا لها، كما في قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3) وقد أمرهم الله بها سبحانه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4) وقد فسرها سبحانه في مواضع كثيرة من كتابه العظيم وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وحقيقتها: توحيده سبحانه، وتخصيصه بالعبادة من الخوف والرجاء والتوكل والصلاة والصوم والذبح والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة، مع طاعة أوامره وترك نواهيه.
وبذلك يعلم أنها هي الإسلام، والإيمان، والتقوى، والبر، والهدى، وطاعة الله ورسوله، سمى الله ذلك كله عبادة؛ لأنها تؤدى بالخضوع
__________
(1) سورة المائدة الآية 45
(2) سورة المائدة الآية 47
(3) سورة الذاريات الآية 56
(4) سورة البقرة الآية 21(8/216)
والذل لله سبحانه.
فالواجب على المكلفين جميعا أن يعبدوه وحده، وأن يتقوا غضبه وعقابه بالإخلاص له في العمل، وتخصيصه بالعبادة وحده، وطاعة أوامره وترك نواهيه، والحكم بشريعته، والتناصح بينهم، والتواصي بالحق والصبر عليه، كما قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) وقال سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4)
فأوضح سبحانه في هذه السورة العظيمة أن جميع بني الإنسان في خسران إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، فهؤلاء هم الرابحون والسعداء والمنصورون في الدنيا والآخرة.
ومعنى قوله سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} (5) يعني: آمنوا بالله ربا وإلها ومعبودا بحق، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وبجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وبكل ما أخبر الله به ورسوله من أمر الجنة والنار والحساب والجزاء وغير ذلك، ثم عملوا الصالحات، فأدوا فرائض الله، وتركوا محارم الله عن إخلاص لله وصدق، ثم {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} (6) فيما بينهم، وتناصحوا، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وصبروا على ذلك؛ يرجون ثواب الله ويخشون عقابه، فهؤلاء هم المنصورون، وهم الرابحون، وهم السعداء في الدنيا والآخرة.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) سورة العصر الآية 3
(6) سورة العصر الآية 3(8/217)
فنسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا وسائر إخواننا منهم، وأن يوفق جميع المسلمين في كل مكان للاستقامة على هذه الأخلاق، والصبر عليها، والتواصي بها، إنه سميع قريب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.(8/218)
أجوبة على أسئلة تتعلق بالحوار السابق
حول الصلح مع اليهود (1)
__________
(1) هذه الأجوبة نشرت في جريدة '' المسلمون '' في العدد (520) بتاريخ 19 \ 8 \ 1415 هـ.(8/218)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فهذه أجوبة على أسئلة تتعلق بما أفتينا به من جواز الصلح مع اليهود وغيرهم من الكفرة صلحا مؤقتا أو مطلقا على حسب ما يراه ولي الأمر - أعني: ولي أمر المسلمين الذي تجري المصالحة على يديه - من المصلحة في ذلك؛ للأدلة التي أوضحناها في الفتوى المذكورة في صحيفة المسلمون في العدد الصادر يوم الجمعة 21 رجب 1415 هـ.
وهذا نص الأسئلة:(8/219)
الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يلزم منه مودتهم ولا موالاتهم
س1: فهم بعض الناس من إجابتكم على سؤال الصلح مع اليهود - وهو السؤال الأول في المقابلة - أن الصلح أو الهدنة مع اليهود المغتصبين للأرض، والمعتدين جائز على إطلاقه، وأنه يجوز مودة اليهود ومحبتهم، ويجب عدم إثارة ما يؤكد البغضاء والبراءة منهم في المناهج التعليمية في البلاد الإسلامية، وفي أجهزة إعلامها، زاعمين أن السلام معهم يقتضي هذا، وأنهم ليسوا بعد معاهدات السلام أعداء يجب اعتقاد عداوتهم، ولأن العالم الآن يعيش حالة الوفاق الدولي والتعايش السلمي، فلا يجوز إثارة العداوة الدينية بين الشعوب. فنرجو من سماحتكم التوضيح. .(8/219)
ج1: الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يلزم منه مودتهم ولا موالاتهم، بل ذلك يقتضي الأمن بين الطرفين، وكف بعضهم عن إيذاء البعض الآخر، وغير ذلك، كالبيع والشراء، وتبادل السفراء.. وغير ذلك من المعاملات التي لا تقتضي مودة الكفرة ولا موالاتهم.
وقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة، ولم يوجب ذلك محبتهم ولا موالاتهم، بل بقيت العداوة والبغضاء بينهم، حتى يسر الله فتح مكة عام الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا، وهكذا صالح النبي صلى الله عليه وسلم يهود المدينة لما قدم المدينة مهاجرا صلحا مطلقا، ولم يوجب ذلك مودتهم ولا محبتهم، لكنه عليه الصلاة والسلام كان يعاملهم في الشراء منهم والتحدث إليهم، ودعوتهم إلى الله، وترغيبهم في الإسلام. ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام اشتراه لأهله.
ولما حصل من بني النضير من اليهود الخيانة أجلاهم من المدينة عليه الصلاة والسلام، ولما نقضت قريظة العهد ومالئوا كفار مكة يوم الأحزاب على حرب النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم فقتل مقاتلتهم، وسبى ذريتهم ونساءهم، بعدما حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه فيهم فحكم بذلك، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حكمه قد وافق حكم الله من فوق سبع سماوات.
وهكذا المسلمون من الصحابة ومن بعدهم، وقعت الهدنة بينهم - في أوقات كثيرة - وبين الكفرة من النصارى وغيرهم فلم يوجب ذلك مودة، ولا موالاة، وقد قال الله سبحانه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 82(8/220)
وقال سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (2) وقال عز وجل: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (3) الآية. والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ومما يدل على أن الصلح مع الكفار من اليهود وغيرهم إذا دعت إليه المصلحة أو الضرورة لا يلزم منه مودة، ولا محبة، ولا موالاة: أنه صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر صالح اليهود فيها على أن يقوموا على النخيل والزروع التي للمسلمين بالنصف لهم والنصف الثاني للمسلمين، ولم يزالوا في خيبر على هذا العقد، ولم يحدد مدة معينة، بل قال صلى الله عليه وسلم: «نقركم على ذلك ما شئنا (4) » ، وفي لفظ: «نقركم ما أقركم الله (5) » ، فلم يزالوا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه، وروي عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه أنه لما خرص عليهم الثمرة في بعض السنين قالوا: إنك قد جرت في الخرص، فقال رضي الله عنه: والله إنه لا يحملني بغضي لكم ومحبتي للمسلمين أن أجور عليكم، فإن شئتم أخذتم بالخرص الذي خرصته عليكم، وإن شئتم أخذناه بذلك.
وهذا كله يبين أن الصلح والمهادنة لا يلزم منها محبة، ولا موالاة،
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 4
(2) سورة المائدة الآية 51
(3) سورة المجادلة الآية 22
(4) صحيح البخاري فرض الخمس (3152) ، صحيح مسلم المساقاة (1551) ، مسند أحمد بن حنبل (1551) .
(5) صحيح البخاري فرض الخمس (3152) ، صحيح مسلم المساقاة (1551) ، مسند أحمد بن حنبل (1551) .(8/221)
ولا مودة لأعداء الله، كما يظن ذلك بعض من قل علمه بأحكام الشريعة المطهرة.
وبذلك يتضح للسائل وغيره أن الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يقتضي تغيير المناهج التعليمية، ولا غيرها من المعاملات المتعلقة بالمحبة والموالاة. والله ولي التوفيق.(8/222)
الصلح مع اليهود لا يقتضي التمليك أبديا
س2: هل تعني الهدنة المطلقة مع العدو إقراره على ما اقتطعه من أرض المسلمين في فلسطين، وأنها قد أصبحت حقا أبديا لليهود بموجب معاهدات تصدق عليها الأمم المتحدة التي تمثل جميع أمم الأرض، وتخول الأمم المتحدة عقوبة أي دولة تطالب مرة أخرى باسترداد هذه الأرض أو قتال اليهود فيها؟ .
ج2: الصلح بين ولي أمر المسلمين في فلسطين وبين اليهود لا يقتضي تمليك اليهود لما تحت أيديهم تمليكا أبديا، وإنما يقتضي ذلك تمليكهم تمليكا مؤقتا حتى تنتهي الهدنة المؤقتة أو يقوى المسلمون على إبعادهم عن ديار المسلمين بالقوة في الهدنة المطلقة.
وهكذا يجب قتالهم عند القدرة حتى يدخلوا في دين الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
وهكذا النصارى والمجوس؛ لقول الله سبحانه في سورة التوبة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1) وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة التوبة الآية 29(8/222)
أنه أخذ الجزية من المجوس.
وبذلك صار لهم حكم أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط إذا لم يسلموا. أما حل الطعام والنساء للمسلمين فمختص بأهل الكتاب، كما نص عليه كتاب الله سبحانه في سورة المائدة. وقد صرح الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى في سورة الأنفال: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (1) الآية، بمعنى ما ذكرنا في شأن الصلح.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 61(8/223)
ما تقتضيه المصلحة يعمل به من الصلح وعدمه
س3: هل يجوز بناء على الهدنة مع العدو اليهودي تمكينه بما يسمى بمعاهدات التطبيع، من الاستفادة من الدول الإسلامية اقتصاديا وغير ذلك من المجالات، بما يعود عليه بالمنافع العظيمة، ويزيد من قوته وتفوقه، وتمكينه في البلاد الإسلامية المغتصبة، وأن على المسلمين أن يفتحوا أسواقهم لبيع بضائعه، وأنه يجب عليهم تأسيس مؤسسات اقتصادية، كالبنوك والشركات يشترك اليهود فيها مع المسلمين، وأنه يجب أن يشتركوا كذلك في مصادر المياه؛ كالنيل والفرات، وإن لم يكن جاريا في أرض فلسطين؟ .
ج3: لا يلزم من الصلح بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين اليهود ما ذكره السائل بالنسبة إلى بقية الدول، بل كل دولة تنظر في مصلحتها، فإذا رأت أن من المصلحة للمسلمين في بلادها الصلح مع اليهود في تبادل السفراء والبيع والشراء، وغير ذلك من المعاملات التي يجيزها شرع الله المطهر، فلا بأس في ذلك.
وإن رأت أن المصلحة لها ولشعبها مقاطعة اليهود فعلت ما(8/223)
تقتضيه المصلحة الشرعية، وهكذا بقية الدول الكافرة حكمها حكم اليهود في ذلك.
والواجب على كل من تولى أمر المسلمين، سواء كان ملكا أو أميرا أو رئيس جمهورية أن ينظر في مصالح شعبه فيسمح بما ينفعهم ويكون في مصلحتهم من الأمور التي لا يمنع منها شرع الله المطهر، ويمنع ما سوى ذلك مع أي دولة من دول الكفر؛ عملا بقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (1) وقوله سبحانه: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (2) الآية.
وتأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم في مصالحته لأهل مكة ولليهود في المدينة وفي خيبر، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والعبد راع في مال سيده ومسئول عن رعيته (3) » ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ألا فكلكم راع ومسئول عن رعيته (4) » ، وقد قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5)
وهذا كله عند العجز عن قتال المشركين، والعجز عن إلزامهم بالجزية إذا كانوا من أهل الكتاب أو المجوس، أما مع القدرة على جهادهم وإلزامهم بالدخول في الإسلام أو القتل أو دفع الجزية - إن
__________
(1) سورة النساء الآية 58
(2) سورة الأنفال الآية 61
(3) صحيح البخاري الجمعة (893) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .
(4) صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2409) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .
(5) سورة الأنفال الآية 27(8/224)
كانوا من أهلها - فلا تجوز المصالحة معهم، وترك القتال وترك الجزية، وإنما تجوز المصالحة عند الحاجة أو الضرورة مع العجز عن قتالهم أو إلزامهم بالجزية إن كانوا من أهلها؛ لما تقدم من قوله سبحانه وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1) وقوله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (2) إلى غير ذلك من الآيات المعلومة في ذلك.
وعمل النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة يوم الحديبية ويوم الفتح، ومع اليهود حين قدم المدينة يدل على ما ذكرنا.
والله المسئول أن يوفق المسلمين لكل خير، وأن يصلح أحوالهم، ويمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم، وأن يعينهم على جهاد أعداء الله على الوجه الذي يرضيه، إنه ولي ذلك والقدر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
__________
(1) سورة التوبة الآية 29
(2) سورة الأنفال الآية 39(8/225)
إيضاح وتعقيب على مقال فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي
حول الصلح مع اليهود (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا إيضاح وتعقيب على مقال فضيلة الشيخ: يوسف القرضاوي المنشور في مجلة (المجتمع) العدد 1133 الصادرة يوم 9 شعبان 1415 هـ. الموافق 10 \ 1 \1995 م. حول الصلح مع اليهود، وما صدر مني في ذلك من المقال المنشور في صحيفة (المسلمون) الصادرة في يوم 21 رجب 1415 هـ جوابا لأسئلة موجهة إلي من بعض أبناء فلسطين.
وقد أوضحت أنه لا مانع من الصلح معهم إذا اقتضت المصلحة ذلك؛ ليأمن الفلسطينيون في بلادهم، ويتمكنوا من إقامة دينهم.
وقد رأى فضيلة الشيخ يوسف أن ما قلته في ذلك مخالف للصواب؛ لأن اليهود غاصبون فلا يجوز الصلح معهم ... إلى آخر ما ذكره فضيلته.
وإنني أشكر فضيلته على اهتمامه بهذا الموضوع ورغبته في إيضاح الحق الذي يعتنقه، ولا شك أن الأمر في هذا الموضوع وأشباهه هو كما قال فضيلته: يرجع فيه للدليل، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الحق في جميع مسائل الخلاف؛ لقول الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) وقال
__________
(1) نشر في مجلة المجتمع في العدد (1140) بتاريخ 6 \ 10 \ 1415 هـ.
(2) سورة النساء الآية 59(8/226)
سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) وهذه قاعدة مجمع عليها بين أهل السنة والجماعة.
ولكن ما ذكرناه في الصلح مع اليهود قد أوضحنا أدلته، وأجبنا عن أسئلة وردت إلينا في ذلك من بعض الطلبة بكلية الشريعة في جامعة الكويت، وقد نشرت هذه الأجوبة في صحيفة (المسلمون) الصادرة في يوم الجمعة 19\8\1415 هـ الموافق 20\1\1995 م، وفيها إيضاح لبعض ما أشكل على بعض الإخوان في ذلك.
ونقول للشيخ يوسف وفقه الله وغيره من أهل العلم: إن قريشا قد أخذت أموال المهاجرين ودورهم، كما قال الله سبحانه في سورة الحشر: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (2) ومع ذلك صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشا يوم الحديبية سنة ست من الهجرة، ولم يمنع هذا الصلح ما فعلته قريش من ظلم المهاجرين في دورهم وأموالهم؛ مراعاة للمصلحة العامة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم لجميع المسلمين من المهاجرين وغيرهم، ولمن يرغب الدخول في الإسلام.
ونقول أيضا جوابا لفضيلة الشيخ يوسف عن المثال الذي مثل به في مقاله وهو: لو أن إنسانا غصب دار إنسان وأخرجه إلى العراء ثم صالحه على بعضها ... أجاب الشيخ يوسف: أن هذا الصلح لا يصح. وهذا غريب جدا، بل هو خطأ محض، ولا شك أن المظلوم إذا رضي ببعض حقه، واصطلح مع الظالم في ذلك فلا حرج؛ لعجزه عن أخذ
__________
(1) سورة الشورى الآية 10
(2) سورة الحشر الآية 8(8/227)
حقه كله، وما لا يدرك كله لا يترك كله، وقد قال الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وقال سبحانه: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (2) ولا شك أن رضا المظلوم بحجرة من داره أو حجرتين أو أكثر يسكن فيها هو وأهله، خير من بقائه في العراء.
أما قوله عز وجل: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} (3) فهذه الآية فيما إذا كان المظلوم أقوى من الظالم وأقدر على أخذ حقه، فإنه لا يجوز له الضعف، والدعوة إلى السلم، وهو أعلى من الظالم وأقدر على أخذ حقه، أما إذا كان ليس هو الأعلى في القوة الحسية فلا بأس أن يدعو إلى السلم، كما صرح بذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره هذه الآية، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى السلم يوم الحديبية؛ لما رأى أن ذلك هو الأصلح للمسلمين والأنفع لهم، وأنه أولى من القتال، وهو عليه الصلاة والسلام القدوة الحسنة في كل ما يأتي ويذر؛ لقول الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (4) الآية.
ولما نقضوا العهد وقدر على مقاتلتهم يوم الفتح غزاهم في عقر دارهم، وفتح الله عليه البلاد، ومكنه من رقاب أهلها حتى عفا عنهم، وتم له الفتح والنصر ولله الحمد والمنة.
فأرجو من فضيلة الشيخ يوسف وغيره من إخواني أهل العلم إعادة النظر في هذا الأمر بناء على الأدلة الشرعية، لا على العاطفة
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) سورة النساء الآية 128
(3) سورة محمد الآية 35
(4) سورة الأحزاب الآية 21(8/228)
والاستحسان، مع الاطلاع على ما كتبته أخيرا من الأجوبة الصادرة في صحيفة (المسلمون) في 19\8\1415 هـ، الموافق 20\1\1995 م، وقد أوضحت فيها: أن الواجب جهاد المشركين من اليهود وغيرهم مع القدرة حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية، إن كانوا من أهلها، كما دلت على ذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وعند العجز عن ذلك لا حرج في الصلح على وجه ينفع المسلمين ولا يضرهم؛ تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حربه وصلحه، وتمسكا بالأدلة الشرعية العامة والخاصة، ووقوفا عندها، فهذا هو طريق النجاة وطريق السعادة والسلامة في الدنيا والآخرة.
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين - قادة وشعوبا - لكل ما فيه رضاه، وأن يمنحهم الفقه في دينه، والاستقامة عليه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح قادة المسلمين ويوفقهم للحكم بشريعته والتحاكم إليها، والحذر مما يخالفها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه، وأتباعه بإحسان.(8/229)
سماحة الشيخ في حديث خاص لمجلة الحرس الوطني حول الأصولية ليست ذما
أولويات الدعوة
س1: سماحة الشيخ: الدعوة إلى الإسلام رسالة عظيمة، ترى ما الموضوعات التي ينبغي أن يتطرق إليها الداعية في وقتنا الحاضر؟
ج1: الدعوة إلى الله وإلى الإسلام لا شك أنها دعوة الرسل عليهم السلام، فقد أرسل الله جميع الرسل؛ للدعوة إليه، وأنزل الكتب السماوية التي أعظمها وأفضلها وخاتمها القرآن الكريم، وكلها للدعوة إلى الله والتبشير بالإسلام، والتحذير من ضده، والدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، والترهيب من سيئ الأخلاق وسيئ الأعمال.
وأهم شيء في وقتنا هذا وفي غيره: الدعوة إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له وحده، وبيان أسمائه وصفاته، والدعوة إلى إثباتها كما جاءت، مع الإيمان بها، وإثباتها لله سبحانه على الوجه الذي يليق بالله جل وعلا، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل؛ عملا بقوله سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) وقوله عز وجل: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (5) وقوله سبحانه: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (6)
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2
(3) سورة الإخلاص الآية 3
(4) سورة الإخلاص الآية 4
(5) سورة النحل الآية 74
(6) سورة الشورى الآية 11(8/230)
والواجب على الدعاة إلى الله أن يعنوا بالتوحيد - أعني: توحيد الربوبية - وقد أقر به المشركون، وهو: الإيمان بأن الله رب الجميع، وخالق الجميع، ورازق الجميع، الحي القيوم، النافع الضار، هذا معروف عند المسلمين وغيرهم، وقد عرفه أبو جهل وأشباهه من كفار قريش، واحتج الله عليهم بما أقروا به من توحيد الربوبية على ما أنكروا من توحيد الألوهية.
فالواجب على الدعاة إلى الله - أينما كانوا - أن يبينوا للناس حقيقة التوحيد التي بعث الله بها الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن يحذروهم من الشرك بالله وعبادة أصحاب القبور والاستغاثة بالأموات، والنذر للأموات والذبح لهم والطواف بقبورهم إلى غير ذلك مما يفعله المشركون اليوم.
وهكذا دعوة الأصنام والأشجار والأحجار والجن والملائكة والأنبياء كل ذلك من الشرك بالله، لا يجوز لأي إنسان أن يدعو ميتا أو شجرا أو حجرا أو صنما أو نجما أو غائبا من ملك أو جني أو غير ذلك، بل هذا هو نفس الشرك الأكبر الذي قال الله فيه سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) وقال فيه سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (2)
أما دعاء الحي الحاضر والاستغاثة به فيما يقدر فلا بأس بذلك؛ لقول الله عز وجل في قصة موسى مع القبطي: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (3) الآية.
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة المائدة الآية 72
(3) سورة القصص الآية 15(8/231)
ويجب على الداعية أن يبين للناس أن الواجب اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، مع الإيمان به والشهادة بأنه رسول الله حقا إلى جميع الثقلين الجن والإنس، والإيمان بجميع المرسلين، والإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله، والإيمان بالآخرة والجنة والنار والقدر خيره وشره.
ويجب على الداعية أن يبين هذه الأصول المهمة؛ من توحيد الله، والإيمان به، والإيمان برسله عليهم الصلاة والسلام، وعلى رأسهم خاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام، والإيمان باليوم الآخر، وبالجنة والنار إلى غير هذا مما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالملائكة جميعا، وبالكتب المنزلة على الأنبياء، وبالرسل جميعا عليهم الصلاة والسلام، وبالقدر خيره وشره، ثم يدعو الناس بعد ذلك إلى الصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج البيت وبر الوالدين وصلة الرحم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنهي عما حرم الله من سائر المعاصي مثل: الزنا، والسرقة، وظلم الناس في النفس والمال والعرض، وتحريم الغيبة والنميمة، وأكل الربا، والكسب الحرام، كل هذا من واجب الداعية إلى الله سبحانه وتعالى.(8/232)
نصيحتي إلى هؤلاء
س2: يعم العالم الإسلامي صحوة مباركة، استبشر بها كل المسلمين، غير أن هذه الصحوة لا تعني بالفقه الشرعي ولا أصول العقيدة الإسلامية، ما نصيحة سماحتكم لهذه الصحوة؟ .
ج2: نصيحتي لجميع المسلمين: الشباب المسلم، وللشيب أيضا، وللرجال والنساء، نصيحتي للجميع: أن يعنوا بكتاب الله - القرآن الكريم - تلاوة وتدبرا وتعقلا وعملا وأن يسألوا عما أشكل عليهم،(8/232)
وأن يراجعوا كتب التفسير المعتمدة؛ كابن جرير، وابن كثير، والبغوي وغيرها من الكتب المعتمدة في التفسير، حتى يعرفوا معاني كلام الله، وحتى يستقيموا على ما دل عليه كتاب الله من توحيد الله، والإخلاص له، والقيام بأوامره، وترك نواهيه، مع العناية أيضا بالكتب المؤلفة في عقيدة السلف الصالح مثل: (كتاب التوحيد) و (ثلاثة الأصول) و (كشف الشبهات) للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومثل (العقيدة الواسطية) للشيخ ابن تيمية، و (لمعة الاعتقاد) للإمام الموفق ابن قدامة، و (شرح الطحاوية) لابن أبي العز، وأمثالها من الكتب المعروفة بالسير على منهج أهل السنة، وكتب الحديث المختصرة؛ مثل: (الأربعين النووية) وتتمتها لابن رجب، و (عمدة الحديث) للشيخ عبد الغني المقدسي، و (بلوغ المرام) لابن حجر.
ويكون عنده في المصطلح (نخبة الفكر) وشرحها للحافظ ابن حجر، وفي أصول الفقه (روضة الناظر) للموفق ابن قدامة.
والمقصود: أن يعنوا بالأصول في العقيدة، وفي أصول الفقه، وفي المصطلح؛ لأن هذا ينفعهم ويبنون عليه علومهم، وهكذا في الفقه مثل: (عمدة الفقه) للموفق، و (زاد المستقنع) للحجاوي، و (دليل الطالب) .
وهذه الكتب في الفقه تنفع وتفيد طالب العلم؛ حتى يستعين بها على معرفة المسائل ومراجعتها ومعرفة أدلتها، كل هذا مهم في حق طالب العلم.(8/233)
ضرب الدعوة الإسلامية (التطرف والأصولية)
س3: شاع في بعض وسائل الإعلام المختلفة اتهام شباب الصحوة بالتطرف وبالأصولية، ما رأي سماحتكم في هذا؟ .(8/233)
ج3: هذا على كل حال غلط جاء من الغرب والشرق، من النصارى، والشيوعيين، واليهود، وغيرهم ممن ينفر من الدعوة إلى الله عز وجل وأنصارها، أرادوا أن يظلموا الدعوة بمثل التطرف، أو الأصولية أو كذا أو كذا مما يلقبونهم به.
ولا شك أن الدعوة إلى الله هي دين الرسل، وهي مذهبهم وطريقهم، وواجب على أهل العلم أن يدعوا إلى الله، وأن ينشطوا في ذلك، وعلى الشباب أن يتقوا الله، وأن يلتزموا بالحق، فلا يغلوا ولا يجفوا.
وقد يقع من بعض الشباب جهل فيغلون في بعض الأشياء أو نقص في العلم فيجفون، لكن على جميع الشباب وعلى غيرهم من العلماء أن يتقوا الله، وأن يتحروا الحق بالدليل، قال الله عز وجل، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يحذروا من البدعة والغلو والإفراط، كما أن عليهم أن يحذروا من الجهل أو التقصير، وليس أحد منهم معصوما، وقد يقع من بعض الناس شيء من التقصير بالزيادة أو النقص، لكن ليس ذلك عيبا للجميع، إنما هو عيب لمن وقع منه.
ولكن أعداء الله من النصارى وغيرهم، ومن سار في ركابهم جعلوا هذه وسيلة لضرب الدعوة والقضاء عليها باتهام أهلها بأنهم متطرفون أو بأنهم أصوليون.
وما معنى أصوليين؟
وإذا كانوا أصوليين بمعنى: أنهم يتمسكون بالأصول، وبما قال الله وقال الرسول فهذا مدح وليس ذما، التمسك بالأصول من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مدح وليس بذم، وإنما الذم للتطرف أو الجفاء: إما التطرف بالغلو، وإما التطرف بالجفاء والتقصير، وهذا هو الذم.(8/234)
أما الإنسان الملتزم بالأصول المعتبرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا ليس بعيب، بل مدح وكمال، وهذا هو الواجب على طلبة العلم والداعين إلى الله: أن يلتزموا بالأصول من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما عرف في أصول الفقه، وأصول العقيدة، وأصول المصطلح فيما يستدل به وما يحتج به من الأدلة، لا بد أن يكون عندهم أصول يعتمد عليها.
فضرب الدعاة بأنهم أصوليون هذا كلام مجمل ليس له حقيقة إلا الذم والعيب والتنفير، فالأصولية ليست ذما، ولكنها مدح في الحقيقة.
إذا كان طالب العلم يتمسك بالأصول ويعتني بها ويسهر عليها من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما قرره أهل العلم فهذا ليس بعيب، أما التطرف بالبدعة والزيادة والغلو فهو العيب، أو التطرف بالجهل أو التقصير فهذا عيب أيضا.
فالواجب على الدعاة أن يلتزموا بالأصول الشرعية ويتمسكوا بالتوسط الذي جعلهم الله فيه، فالله جعلهم أمة وسطا، فالواجب على الدعاة: أن يكونوا وسطا بين الغالي والجافي، بين الإفراط والتفريط، وعليهم: أن يستقيموا على الحق، وأن يثبتوا عليه بأدلته الشرعية، فلا إفراط وغلو، ولا جفاء وتفريط، ولكنه الوسط الذي أمر الله به.(8/235)
واجب النصيحة
س4: يتردد كثيرا أن فلانا متطرف وذلك معتدل وذاك متزمت، وغير ذلك من الألقاب. سماحة الشيخ، هل تجوز مثل تلك الألقاب؟ وكيف نعالج مشكلة التطرف في واقعنا المعاصر؟ .
ج4: قد يقول هذه الكلمات أشخاص لا يعرفون معانيها أو(8/235)
يعرفونها ويرمون بها من هو بريء منها.
وقد تقدم أن التطرف: هو عدم الاعتدال بغلو أو جفاء، والغالب على هؤلاء أنهم يطلقون التطرف على المفرط الزائد الغالي بزعمهم، والمتزمت: الذي ليس عنده انشراح لقول الحق وقبول الحق والسير مع أهل الحق.
وهذه ألقاب ينفرون بها من الدعوة إلى الله عز وجل، والواجب: النصيحة، إذا رئي من إنسان تقصير بجفاء نصح، أو إفراط وغلو نصح، وليس هذا وصفا لكل الناس، وإنما قد يقع من بعضهم، وليس هذا وصفا للدعاة عموما، ولكن قد يقع من بعضهم شيء من النقص والجفاء أو شيء من الغلو والزيادة فينصح ويوجه إلى الخير ويعلم حتى يستقيم.(8/236)
كيف نعالج التطرف؟
س5: إذن شيخنا كيف نعالج مشكلة التطرف؟ .
ج5: بالتعليم والتوجيه من العلماء، إذا عرفوا عن إنسان أنه يزيد ويبتدع بينوا له، مثل الذي يكفر العصاة، وهذا دين الخوارج، الخوارج هم الذين يكفرون بالمعاصي، ولكن يعلم أن عليه التوسط، العاصي له حكمه، والمشرك له حكمه، والمبتدع له حكمه، فيعلم ويوجه إلى الخير حتى يهتدي، وحتى يعرف أحكام الشرع وينزل كل شيء منزلته، فلا يجعل العاصي في منزلة الكافر ولا يجعل الكافر في منزلة العاصي، فالعصاة الذين ذنوبهم دون الشرك كالزاني والسارق وصاحب الغيبة والنميمة وآكل الربا، هؤلاء لهم حكم، وهم تحت المشيئة إذا ماتوا على ذلك، والمشرك الذي يعبد أصحاب القبور(8/236)
ويستغيث بالأموات من دون الله له حكم، وهو: الكفر بالله عز وجل، والذي يسب الدين أو يستهزئ بالدين له حكم وهو: الكفر بالله. فالناس طبقات وأقسام ليسوا على حد سواء، لا بد أن ينزلوا منازلهم، ولا بد أن يعطوا أحكامهم بالبصيرة والبينة لا بالهوى والجهل، بل بالأدلة الشرعية، وهذا على العلماء.
فعلى العلماء أن يوجهوا الناس، وأن يرشدوا الشباب الذين قد يخشى منهم التطرف أو الجفاء والتقصير، فيعلمون ويوجهون؛ لأن علمهم قليل، فيجب أن يوجهوا إلى الحق.(8/237)
الانتماء للجماعات الإسلامية
س6: يتساءل كثير من شباب الإسلام عن حكم الانتماء للجماعات الإسلامية، والالتزام بمنهج جماعة معينة دون سواها؟ .
ج6: الواجب على كل إنسان أن يلتزم بالحق، قال الله عز وجل، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وألا يلتزم بمنهج أي جماعة لا إخوان مسلمين ولا أنصار سنة ولا غيرهم، ولكن يلتزم بالحق، وإذا انتسب إلى أنصار السنة وساعدهم في الحق، أو إلى الإخوان المسلمين ووافقهم على الحق من دون غلو ولا تفريط فلا بأس، أما أن يلزم قولهم ولا يحيد عنه فهذا لا يجوز، وعليه أن يدور مع الحق حيث دار، إن كان الحق مع الإخوان المسلمين أخذ به، وإن كان مع أنصار السنة أخذ به، وإن كان مع غيرهم أخذ به، يدور مع الحق، يعين الجماعات الأخرى في الحق، ولكن لا يلتزم بمذهب معين لا يحيد عنه ولو كان باطلا، ولو كان غلطا، فهذا منكر، وهذا لا يجوز، ولكن مع الجماعة في كل حق، وليس معهم فيما أخطئوا فيه.(8/237)
العنف يضر بالدعوة(8/237)
س7: هل من واجب الدعاة إلى الله في مجتمع مسلم لا يطبق أحكام الشريعة الإسلامية الدعوة إلى تغيير أنظمة الحكم بالقوة؟ .
ج7: الواجب الدعوة إلى الله، والنصيحة والتوجيه إلى الخير من دون تغيير بالقوة؛ لأن هذا يفتح باب شر على المسلمين ويضايق الدعوة ويخنقها، وربما أفضى إلى حصار أهلها، ولكن يدعو إلى الله بالحكمة، وبالقول الحسن، بالموعظة الحسنة، وبالتي هي أحسن، وينصح ولاة الأمور، وينصح غيرهم من المسئولين، وينصح العامة ويوجههم إلى الخير؛ عملا بقول الله سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) وقوله سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (2) وهم: اليهود والنصارى، نهى الله عن جدالهم إلا بالتي هي أحسن، إلا من ظلم فهذا له شأن آخر: يرفع بأمره إلى ولاة الأمور، ويعمل ما يستطيع من جهد لرد ظلمه بالطرق الشرعية المعتبرة.
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة العنكبوت الآية 46(8/238)
الدعوة إلى الله فرض كفاية
س8: هل الدعوة واجبة على كل مسلم أم على جماعة من المتخصصين في أمور الدين وأحكام الشريعة؟ .
ج8: الدعوة فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي في أي بلد أو في أي قرية أو في أي قبيلة سقطت عن الباقين، وصارت في حقهم(8/238)
سنة بشرط أن يكون عندهم علم وعندهم بصيرة وأهلية للدعوة بقال الله عز وجل، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا تعاونوا صار ذلك أكمل وأطيب، كما قال الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (1) وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (2) الآية.
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة المائدة الآية 2(8/239)
الاعتداء على زوار البلاد الإسلامية
س9: ما حكم الاعتداء على الأجانب السياح والزوار في البلاد الإسلامية؟ .
ج9: هذا لا يجوز، الاعتداء لا يجوز على أي أحد، سواء كانوا سياحا أو عمالا؛ لأنهم مستأمنون، دخلوا بالأمان، فلا يجوز الاعتداء عليهم، ولكن تناصح الدولة حتى تمنعهم مما لا ينبغي إظهاره، أما الاعتداء عليهم فلا يجوز، أما أفراد الناس فليس لهم أن يقتلوهم أو يضربوهم أو يؤذوهم، بل عليهم أن يرفعوا الأمر إلى ولاة الأمور؛ لأن التعدي عليهم تعد على أناس قد دخلوا بالأمان فلا يجوز التعدي عليهم، ولكن يرفع أمرهم إلى من يستطيع منع دخولهم أو منعهم من ذلك المنكر الظاهر.
أما نصيحتهم ودعوتهم إلى الإسلام أو إلى ترك المنكر إن كانوا مسلمين فهذا مطلوب، وتعمه الأدلة الشرعية، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.(8/239)
ملاحظات على بعض كتب الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق(8/239)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الابن المكرم صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق.
وفقه الله لما فيه رضاه وزاده من العلم والإيمان، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ 8\3\1415 هـ بيد الأخ الكريم ع. خ. س، وصلكم الله بحبل الهدى والتوفيق، وجميع ما شرحتم فيه كان معلوما.
ولقد سرني كثيرا ما ذكرتم فيه من التزامكم بما درج عليه سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان، إلا ما قد يقع خلاف ذلك من خطأ أو نسيان، كما سرني أيضا رغبتكم وحرصكم على إيضاح ما نسب إليكم من الأخطاء لترجعوا عنها إن صح صدورها منكم.
وسرني أيضا عفوكم وصفحكم عمن أساء إليكم وطلبكم الأجر من الله عز وجل في ذلك ... إلى آخر ما أوضحتم في رسالتكم.
وكان وصولها إلي بعد انتهاء مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثانية والأربعين المنتهية في الثلاثين من شهر صفر سنة 1415 هـ، ومتى رأينا الحاجة إلى عرضها عليهم في المجلس عرضناها عليهم في الدورة القادمة إن شاء الله.
وإليكم بيان ما لاحظته عليكم من خلال كتبكم الآتية أسماؤها: الأول: أصول العمل الجماعي.
الثاني: الخطوط الرئيسية لبعث الأمة الإسلامية.(8/240)
الثالث: وجوب تطبيق الحدود الشرعية.
الرابع: مشروعية الجهاد الجماعي.
الخامس: الوصايا العشر.
السادس: فصول من السياسة الشرعية.
السابع: ما لاحظناه بالشريط المعنون بـ (المدرسة السلفية) .
أولا: قلتم في كتابكم: (أصول العمل الجماعي) ما نصه: إن بعض المنتسبين إلى دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله زعموا أن كل من أسس جماعة للدعوة والجهاد فهو خارجي معتزلي.
- كما زعموا أن النظام ليس من دين الله، وأن التحزب ليس من الإسلام.
- كما زعمت أن بعض هؤلاء التلاميذ المنتسبين للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أعطوا للحكام المعاصرين حقوقا لم تعط للصديق ولا للفاروق، ولا عرفها المسلمون في كل تاريخهم، ولا دونها - حسب علمكم - عالم موثوق في شيء من كتب العلم، وهو أنه لا يجوز أمر بمعروف ولا نهي عن منكر إلا بإذن الإمام، ولا يجوز رد عدوان على ديار الإسلام إلا بإذن السلطان، وهؤلاء أعطوا الحاكم صفات الرب سبحانه وتعالى، فالحق ما شرعه، والباطل ما حرمه، وما سكت عنه فيجب السكوت عنه، وعندهم أن ما أهمله الحاكم من أمر الدين ومصالح المسلمين فيجب على أهل الإسلام إهماله والتغاضي عنه حتى لا يغضب أمير المؤمنين.
(ينظر أصول العمل الجماعي ص 10، ص 11) . انتهى ما ذكرتم. ولا نعلم أن أحدا من أتباع الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب(8/241)
رحمه الله قال هذه المقالة التي ذكرتم، فأرجو بيان الكتاب الذي نقلتم منه ذلك، أو الشخص الذي بلغكم ذلك، وإلا فالواجب بيانكم خطأكم فيما نقلتم، وأن ذلك شيء لا أصل له، وأنه قد اتضح لكم عدم صحة هذه المقالات عن أحد من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، مع التثبت مستقبلا في كل ما تنقلون، وأن يكون الهدف بيان الحق والباطل مع عدم الحاجة إلى بيان ذلك الشخص المنقول عنه إلا عند الضرورة التي تقتضي بيانه.
ثانيا: قلتم في الشريط المسمى: (المدرسة السلفية) ما نصه: إن طائفة العلماء في السعودية في عماية تامة وجهل تام عن المشكلات الجديدة ... وأن سلفيتهم سلفية تقليدية لا تساوي شيئا. انتهى.
وهذا قول باطل؛ فإن العلماء في السعودية يعرفون مشاكل العصر، وقد كتبوا فيها كثيرا، وأنا منهم بحمد الله، وقد كتبت في ذلك ما لا يحصى، وهم بحمد الله من أعلم الناس بمذهب أهل السنة والجماعة، ويسيرون على ما سار عليه السلف الصالح في باب توحيد الله، وفي باب الأسماء والصفات، وفي باب التحذير من البدع، وفي جميع الأبواب. فاقرأ إن كنت جاهلا بهم مجموعة ابن قاسم (الدرر السنية) ، وفتاوى شيخنا محمد بن إبراهيم رحمه الله، واقرأ ما كتبنا في ذلك في فتاوانا وكتبنا المنشورة بين الناس.
ولا شك أن ما قلته عن علماء السعودية غير صحيح، وخطأ منكر، فالواجب عليك الرجوع عن ذلك، وإعلان ذلك في الصحف المحلية في الكويت والسعودية، نسأل الله لنا ولك الهداية والرجوع إلى الحق والثبات عليه، إنه خير مسئول.(8/242)
ثالثا: ذكرتم في كتابكم: (خطوط رئيسية لبعث الأمة الإسلامية) ص 72، 73 ما نصه: إن دولنا العربية والإسلامية بوجه عام لا ظل للشريعة فيها إلا في بعض ما يسمى بـ: الأحوال الشخصية، وأما المعاملات المالية والقوانين السياسية والقوانين الدولية، فإن دولنا جميعها بلا استثناء خاضعة لتشريع الغرب أو الشرق، وكذلك قوانين الجرائم الخلقية والحدود مستوردة مفتراة ... إلخ ما ذكرتم ص 78.
وهذا الإطلاق غير صحيح، فإن السعودية بحمد الله تحكم الشريعة في شعبها، وتقيم الحدود الشرعية، وقد أنشأت المحاكم الشرعية في سائر أنحاء المملكة، وليست معصومة لا هي ولا غيرها من الدول.
وقد بلغني أن حكومة بروناي قد أمر سلطانها بتحكيم الشريعة في كل شيء، وبكل حال، فالواجب الرجوع عن هذه العبارة، وإعلان ذلك في الصحف المحلية في المملكة العربية السعودية والكويت، ولو عبرت بالأكثر لكان الموضوع مناسبا؛ لكونه هو الواقع في الأغلب، نسأل الله لنا ولك الهداية والتوفيق.
رابعا: قلتم في كتابكم: (وجوب تطبيق الحدود الشرعية) ص 26 ما نصه:
3 - إزالة أسباب الجريمة قبل إيقاع العقاب: وبعيدا عن التعصب والجهل نقول: لا يجوز بتاتا أن نوقع العقوبة الشرعية قبل إزالة أسباب الجريمة، والإعذار إلى الجانح والجاني، فقد يكون في ظل الاحتكار والظلم، وضياع التكافل الاجتماعي، ووجود الأثرة، وحب النفس.
أقول: قد يكون في ظل مجتمع هكذا عذر لمن يلجأ إلى السرقة، ومن انحرفت نحو الزنا والبغاء؛ لتعول ولدا، أو أما عجوزا، أو(8/243)
أبا مريضا، وأظن أنه من السذاجة والجهل أيضا أن نعاقب الزاني ونحن نسمح بكل ألوان الفسق والفجور، والدعوة إلى الخناء، ولذلك فليس من العقل والحكمة أبدا أن تطبق الحدود الشرعية الخاصة بالجرائم دون إزالة حقيقية لأسباب هذه الجرائم.. إلى آخر ما ذكرتم ص 27.
فأقول: إن هذا الكلام بعيد عن الصواب، مخالف للحق، ولا أعلم به قائلا من أهل العلم إلا ما روي عن عمر رضي الله عنه من التوقف عن إقامة حد السرقة في عام الرمادة، وهذا إن صح عنه فهو محل اجتهاد ونظر.
والنصوص من الكتاب والسنة صريحة في وجوب إقامة الحد الشرعي على من ثبت عليه ما يوجبه.
فالواجب عليكم الرجوع عن هذا الكلام، وإعلان ذلك في الصحف المحلية في الكويت والسعودية، وفي مؤلف خاص يتضمن رجوعكم عن كل ما أخطأتم فيه.
ولا يخفى أن الحق قديم، كما قال عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم، فالرجوع إليه خير من التمادي في الباطل.
وفقنا الله وإياكم لما في رضاه، وأعاذنا جميعا من أسباب سخطه.
خامسا: دعوتكم في كتابكم: (مشروعية الجهاد) ص 28، 37، 39، وكتابكم: (الوصايا العشر) ص 71، ص 44 إلى تفرق المسلمين إلى جماعات وأحزاب، وقولكم: إن هذا ظاهرة صحية.
ولا يخفى أن هذا مصادم للآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، مثل قوله سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (2) الآية.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة الأنعام الآية 159(8/244)
في آيات كثيرة في هدا المعنى.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم (1) » . في أحاديث كثيرة في هذا المعنى.
فالواجب عليكم الرجوع عن ذلك، وإعلانه في الصحف المحلية، وفي الكتاب الذي أوصيناكم به آنفا في بيان ما رجعتم عنه من الأخطاء.
سادسا: ذكرتم في كتابكم: (فصول من السياسة الشرعية) ص 31، 32: أن من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة التظاهرات (المظاهرة) .
ولا أعلم نصا في هذا المعنى، فأرجو الإفادة عمن ذكر ذلك؟ وبأي كتاب وجدتم ذلك؟
فإن لم يكن لكم في ذلك مستند، فالواجب الرجوع عن ذلك؛ لأني لا أعلم في شيء من النصوص ما يدل على ذلك، ولما قد علم من المفاسد الكثيرة في استعمال المظاهرات، فإن صح فيها نص فلا بد من إيضاح ما جاء به النص إيضاحا كاملا حتى لا يتعلق به المفسدون بمظاهراتهم الباطلة.
والله المسئول أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يجعلنا من الهداة المهتدين، إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1715) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) ، موطأ مالك الجامع (1863) .(8/245)
حول شرعية المظاهرة(8/245)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الابن المكرم صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق.
وفقه الله لما فيه رضاه ونصر به دينه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ 14 \ 4 \ 1415 هـ وسرني كثيرا ما تضمنه من الموافقة على ما أوصيتكم به، فأسأل الله أن يزيدكم من التوفيق، ويجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، إنه جواد كريم.
وما ذكرتم حول المظاهرة فقد فهمته وعلمت ضعف سند الرواية بذلك كما ذكرتم؛ لأن مدارها على إسحاق بن أبي فروة وهو لا يحتج به، ولو صحت الرواية فإن هذا في أول الإسلام قبل الهجرة وقبل كمال الشريعة.
ولا يخفى أن العمدة في الأمر والنهي وسائر أمور الدين على ما استقرت به الشريعة بعد الهجرة، أما ما يتعلق بالجمعة والأعياد ونحو ذلك من الاجتماعات التي قد يدعو إليها النبي صلى الله عليه وسلم كصلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء، فكل ذلك من باب إظهار شعائر الإسلام وليس له تعلق بالمظاهرات كما لا يخفى.
وأسأل الله أن يمنحني وإياكم وسائر إخواننا المزيد من العلم النافع والعمل به، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يعيذنا وإياكم وسائر المسلمين من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، إنه خير مسئول. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/246)
نصيحة موجهة إلى المسئولين وغيرهم من الشعب الأفغاني(8/246)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من المسئولين وغيرهم من أفراد الشعب الأفغاني.
وفقهم الله لما فيه رضاه وجمعهم على التقوى
آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فإنني أوصي الجميع بتقوى الله سبحانه في السر والعلانية، وفي جميع الأحوال، والتعاون على البر والتقوى مع الدولة ومع غيرها من أفراد المجتمع، وشكر الله سبحانه على ما من به من النصر على الأعداء، وقيام الدولة الإسلامية في البلاد، وبالتواصي بالحق والصبر عليه؛ عملا بقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) وقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم (5) » ، وقال جرير بن عبد الله البجلي الصحابي الجليل رضي الله عنه: «بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم (6) » .
فالواجب على المسلمين في كل مكان التناصح، والتواصي بالحق، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(6) صحيح البخاري الزكاة (1401) ، صحيح مسلم الإيمان (56) ، سنن الترمذي البر والصلة (1925) ، سنن النسائي البيعة (4175) ، مسند أحمد بن حنبل (4/364) ، سنن الدارمي البيوع (2540) .(8/247)
والموعظة الحسنة، والرفق، والأسلوب الحسن، مع إخلاص النية لله والرغبة فيما لديه، والحذر من الرياء والسمعة والفحش في القول والعمل؛ لقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (2) الآية، وقوله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) وقوله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (4)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه (5) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (6) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (7) » .
والآيات والأحاديث في الترغيب في الدعوة إلى الله والتناصح والتعاون على الخير كثيرة جدا.
والله المسئول أن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين لما فيه رضاه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، ويمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم، ويصلح قادتهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة فصلت الآية 33
(4) سورة التوبة الآية 71
(5) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .
(6) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2592) ، سنن أبو داود الأدب (4809) ، سنن ابن ماجه الأدب (3687) ، مسند أحمد بن حنبل (4/366) .
(7) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .(8/248)
نصيحة عامة لإخواننا الأفغان جمعهم الله على الهدى(8/248)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فلقد عظمت المصيبة بما وقع بين إخواننا المجاهدين الأفغان من الفرقة والاختلاف والقتال، وخروج جماعة منهم على رئيس دولتهم، ولقد تأثر بذلك كل من بلغه خبرهم من المسلمين؛ لأن الواجب على الرعية السمع والطاعة لولي الأمر في المعروف والحذر من الخروج عليه بالقتال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه (1) » . خرجه مسلم في صحيحه، ولما ثبت في الأحاديث الصحيحة الكثيرة من وجوب السمع والطاعة لولي الأمر، وإن عصى وظلم ما لم يقع منه الكفر البواح؛ وما ذاك إلا لأنه يترتب على الخروج فساد عظيم وعواقب وخيمة تربو على ما حصل منه من الخلل.
فالواجب على إخواننا المجاهدين الأفغان أن يتقوا الله، وأن يحلوا مشاكلهم بالتفاهم والتناصح لا بالقتال وسفك الدماء، ولا يجوز لجميع فصائل المجاهدين أن يخرجوا على دولتهم المسلمة بالسلاح؛ لأن ذلك معصية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وسبب للفوضى والفساد وسفك الدماء بغير حق، ولا يجوز لرئيس الوزراء ولا غيره شق العصا، ولا يجوز طاعته في ذلك، بل الواجب على جميع الشعب الأفغاني الالتفاف حول رئيسه، والسمع والطاعة له في المعروف، والجهاد معه ضد من خرج عليه.
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1852) ، سنن النسائي تحريم الدم (4020) ، سنن أبو داود السنة (4762) ، مسند أحمد بن حنبل (4/341) .(8/249)
كما أن الواجب على دولة رئيس مجلس الوزراء (حكمتيار) وعلى (دستم) وعلى غيرهما تقوى الله، وترك القتال وشق العصا، وحل المشاكل بالطرق السلمية، لا بالقتال وسفك الدماء، وعملا بقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) وقوله عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه (3) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى من أميره شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة (4) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة ومات فميتته ميتة جاهلية (5) » . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فوصيتي لجميع المجاهدين: تقوى الله عز وجل، وحل المشاكل بالتفاهم والوسائل السليمة، مع وجوب المبادرة بترك القتال، والتحاكم إلى الشرع المطهر فيما أشكل على الجميع بواسطة أهل العلم والبصيرة، والله المسئول أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يجمع قلوبهم على التقوى، وأن يحسن العاقبة للجميع، وأن يعيذهم جميعا من طاعة الشيطان وطاعة الهوى، إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) صحيح مسلم الإمارة (1852) ، سنن النسائي تحريم الدم (4020) ، سنن أبو داود السنة (4762) ، مسند أحمد بن حنبل (4/341) .
(4) صحيح البخاري الفتن (7054) ، صحيح مسلم الإمارة (1849) ، مسند أحمد بن حنبل (1/297) ، سنن الدارمي السير (2519) .
(5) صحيح مسلم الإمارة (1848) ، سنن النسائي تحريم الدم (4114) ، سنن ابن ماجه الفتن (3948) ، مسند أحمد بن حنبل (2/296) .(8/250)
نصيحة إلى زعماء وعقلاء اليمن والمتقاتلين من الشطرين
وجه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء النصيحة التالية:
نصيحة هامة ونداء عاجل.
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى زعماء بلاد اليمن وقادتها، وإلى جميع عقلائهم والمقاتلين من شطري اليمن.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأذكركم الله سبحانه وتعالى في شعب اليمن كافة، وأذكركم الله في الضعفاء الذين لا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم أو يدافعوا عنها من النساء والصبيان والشيوخ والمرضى والجرحى، أذكركم الله في الحرث والنسل أن تكونوا سبب هلاكه ودماره، وسبب سفك مزيد من الدماء بلا هوادة، وتدمير البيوت وإلقاء قذائف الدمار التي لا تبقي ولا تذر، فأين حلومكم؟ وأين حكمتكم؟ وأين الرحمة بالأطفال الرضع والشيوخ الركع والنساء والعجزة؟ لا تشمتوا بأنفسكم أعداء الإسلام، ولا تدمروا بلادكم ومقدراتها بأيديكم، ولا تملئوا البيوت والقلوب بالأحقاد، احقنوا الدماء وأبقوا على بقية الأواصر والأرحام وأخوة الإسلام، ولا تطيعوا أمر المسرفين، عودوا إلى كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وارجعوا فيما(8/251)
شجر بينكم إلى كتاب ربكم تفلحوا، فقد قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) وقال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2)
أيها الزعماء: إنني أذكركم الله سبحانه وتعالى في عباده، فلا تقودوهم إلى عداوات قاتلة، وقطيعة رحم فاجعة، وجراح عميقة، أعيذكم بالله أن تتمادوا في هذه الحرب الطاحنة فيصدق عليكم قول الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (3) أو يكون أحد فيكم ممن قال الله فيهم: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (4)
اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، وكفوا عن الأعمال العشوائية التي أنتم أول من فجع ويفجع بها، فهي فساد عظيم، وقد نهى الله عن تطلب الفساد فقال: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (5) وقال جل من قائل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} (6) فاذكروا نعمة الله عليكم، وانتفعوا بقوله
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) سورة محمد الآية 22
(4) سورة البقرة الآية 205
(5) سورة القصص الآية 77
(6) سورة يونس الآية 81(8/252)
تبارك وتعالى: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (1)
أيها القادة: تذكروا ما أوقع الخلاف والتخريب والقتال في بعض البلاد الإسلامية التي تعرفونها قريبا منكم، كم حصل فيها من دمار شامل وعداوات مستحكمة وخراب عام ولا يزالون في اضطراب، نسأل الله أن يهديهم.
فعليكم أن تدفعوا أخطار هذه الحرب رحمة بأمتكم، وحفاظا على مصالحها، ولن يتم ذلك إلا بالرجوع إلى الحق والهدى، وهو في كتاب الله، أين الرحمة والعقل؟ ألا تنزلون مشاكلكم على شريعة الله! ألا تعودون إلى البحث والتفاهم والإبقاء على البقية من الأمة ومصالحها! إنني أعيذكم بالله من التمادي في ركوب هذه الطريق الوعرة، إنها الحرب التي نارها لا تبقي ولا تذر، فلا تستمروا في تهييجها؛ فإن وقودها الرجال والنساء والأطفال والحرث وسائر مقدرات الأمة، كما رأيتم ذلك بأنفسكم.
إن هذه الكلمة نصيحة مشفق عليكم يحزنه استمرار القتال بينكم، ويقلقه هدم المنازل على من فيها، فإن هذا أمر منكر مستنكر لو كان من أعدائكم في الدين، فكيف إذا كان ذلك بين من قبلتهم واحدة وكتابهم واحد ونبيهم صلى الله عليه وسلم واحد؟! ألا تأخذون بالرفق فإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وإن الله يحب أهل الرحمة ويرحمهم، كما قال النبي الكريم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء (2) » .
وقال عليه السلام: «من لا يرحم لا يرحم (3) » ، والله سبحانه قد
__________
(1) سورة الأعراف الآية 74
(2) سنن الترمذي البر والصلة (1924) ، سنن أبو داود الأدب (4941) .
(3) صحيح البخاري الأدب (5997) ، صحيح مسلم الفضائل (2318) ، سنن الترمذي البر والصلة (1911) ، سنن أبو داود الأدب (5218) ، مسند أحمد بن حنبل (2/269) .(8/253)
حث على الصلح ومدحه، فقال سبحانه: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (1) وقال جل وعلا: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (2) وقال جل من قائل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3)
هذه نصيحة مشفق يؤلمه ما يقع بين المسلمين من محنة وفتن، ويسوءه ما حل بينهم من عداوات وحروب.
وأسأل الله أن ينفعكم بها، وأن يوفقكم لتلافي أخطار هذه الحروب وإيقافها، إنه سبحانه قريب مجيب.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
ورئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
__________
(1) سورة النساء الآية 128
(2) سورة النساء الآية 114
(3) سورة الأنفال الآية 1(8/254)
ترحيب باجتماع علماء اليمن(8/254)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد اطلعت على ما قرره علماء اليمن وفقهم الله في اجتماعهم المنعقد في 3 صفر إلى 5 منه عام 1415 هـ من مطالبة الدولة - وفقها الله - بجميع الإصلاحات الموضحة في قراراهم المنشور في صحيفة (الشرق الأوسط) في عددها (5708) في 15\7\1994 م.
وإني أشكر العلماء على قرارهم المذكور، وأؤيد ما ذكروه من وجوه الإصلاح ولا سيما ما تضمنته الفقرة الرابعة من طلباتهم التسعة؛ لأنها من أهم الطلبات، ومن أهم وجوه الإصلاح، ومن أسباب سعادة المجتمع اليمني ونجاته في الدنيا والآخرة.
وإني أرجو من جميع المسئولين في جمهورية اليمن - وعلى رأسهم فخامة الرئيس - تحقيق هذه الطلبات بكل نشاط وقوة وإخلاص وصدق.
وأسأل الله أن يجزي العلماء عن تقريرهم هذا خيرا، وأن يضاعف مثوبتهم، ويزيدهم من العلم والهدى، وأن يوفق جميع المسئولين في اليمن لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة(8/255)
دعوة إلى المبادرة بإسعاف المسلمين في البوسنة والهرسك(8/255)
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، أما بعد:
فإن رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة تهيب بالمجتمع الدولي وبالحكومات الإسلامية إلى المبادرة بإسعاف المسلمين في جمهورية البوسنة والهرسك بالقوة العسكرية التي تعينهم على الدفاع عن أنفسهم وتردع الصرب الظالمين عن عدوانهم.
ولا شك أن كل من له أدنى معرفة بالواقع ورغبة في العدالة يعلم ظلم الصرب وعدوانهم على المسلمين في البوسنة والهرسك، وأنهم جديرون بإيقافهم عند حدهم، وإنزال أشد العقوبات بهم حتى يرتدعوا عن ظلمهم ويلتزموا بالمواثيق الدولية، وحتى يسلم المسلمون في البوسنة والهرسك من ظلمهم وعدوانهم المتكرر بلا حياء ولا خجل ولا مراعاة للعهود الدولية.
فالله الله أيها الحكام المسلمون، انصروا إخوانكم، وقفوا في صفهم، وادفعوا العدوان عنهم، وطالبوا المجتمع الدولي باستعمال نفوذه في إيقاف الصرب عن عدوانهم، وإنزال أشد العقوبات بهم حتى يقفوا عند حدهم، ويلتزموا بالمواثيق الدولية التي التزم بها المسلمون في البوسنة والهرسك.
والله المسئول أن ينصر الحق وأهله، وأن يخذل الباطل وحزبه، وأن ينزل بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين بأعداء الله الصرب الظالمين، إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة(8/256)
وجوب نصر المسلمين المظلومين في البوسنة وغيرها
على جميع المسلمين وغيرهم حسب الاستطاعة(8/256)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فإن من عرف أحوال المسلمين في البوسنة والهرسك، وما جرى عليهم من الظلم من الكروات والصرب وأنصارهم يتألم كثيرا ويحزن لخذلان إخوانهم لهم، وعدم نصرهم النصر الكافي الذي يمكنهم من الدفاع عن أنفسهم واستعادة ما أخذه عدوهم من أرضهم، وقد أوجب الله سبحانه نصر المظلومين وردع الظالمين من المسلمين وغيرهم، كما قال الله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (1) الآية.
فإذا كانت الطائفة المؤمنة الباغية يجب أن تقاتل حتى تفيء إلى الحق فالظالمة الكافرة من باب أولى، وقال تعالى: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (2) والمعنى: يجب أن لا يتولاهم أحد ولا ينصرهم، وقال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) وقال سبحانه: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (4)
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2) سورة الشورى الآية 8
(3) سورة الشورى الآية 42
(4) سورة الأنفال الآية 72(8/257)
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة الأمر بنصر المظلوم، فقال عليه الصلاة والسلام: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قيل: يا رسول الله، نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟! قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه (1) » ، فنصر المظلوم وردع الظالم من أي جنس كان واجب شرعا وعقلا وفطرة. فالواجب على جميع الدول الإسلامية وعلى مجلس الأمن وعلى مجلس هيئة الأمم أن ينصروا المظلومين في البوسنة وغيرها بالمال والسلاح والرجال، وأن يردعوا الظالمين بجميع الوسائل الرادعة حتى يقف الظالم عند حده، وحتى يعطى المظلوم جميع حقوقه، وبذلك تبرأ الذمة ويستحق الثواب الجزيل من الله عز وجل من فعل ذلك ابتغاء وجهه، وبذلك أيضا يأمن العباد، وتستوفى الحقوق، ويقف الظالمون عند حدودهم، وقد قال الله عز وجل في كتابه العظيم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) وقال سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة (6) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا (7) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته (8) » .
__________
(1) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3
(6) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/323) .
(7) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2577) ، مسند أحمد بن حنبل (5/160) .
(8) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) ، مسند أحمد بن حنبل (2/91) .(8/258)
والآيات والأحاديث في وجوب نصر المظلوم وردع الظالم والتعاون على الخير والتواصي بالحق والصبر عليه كثيرة معلومة.
والله المسئول أن ينصر المظلومين في كل مكان، وأن يذل الظالمين ويخذلهم، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يولي عليهم خيارهم، ويصلح قادتهم، وأن ينصرهم بالحق وينصر الحق بهم، وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/259)
نداء إلى الأمة الإسلامية لمساعدة شعب البوسنة والهرسك(8/259)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يبلغه من المسلمين في كل مكان.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فليس بخاف عليكم ما يعانيه شعب البوسنة والهرسك من ظلم واضطهاد، وتقتيل وتشريد وحرب لا هوادة فيها، تدمر الأخضر واليابس من قبل طغمة كافرة معتدية ظالمة حاقدة على الإسلام والمسلمين، هم أولئك الصرب الذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة.
فالواجب على جميع المسلمين - حكومات وشعوبا - أن يبادروا إلى مساعدتهم بجميع أنواع المساعدة؛ من النقود والغذاء والدواء وغير ذلك من أنواع المساعدات، كل على حسب قدرته؛ لقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وقوله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) وقوله سبحانه: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (3) وقوله عز وجل: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) وقوله عز وجل: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (5) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة التغابن الآية 16
(3) سورة البقرة الآية 195
(4) سورة التوبة الآية 41
(5) سورة البقرة الآية 274(8/260)
أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه (1) » . متفق على صحته، ويعني لا يسلمه: لا يخذله، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا (2) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله مثل الصائم القائم (3) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يكذبه ولا يحقره ولا يخذله (4) » .
والآيات والأحاديث في فضل الجهاد والإنفاق في سبيل الله ومساعدة المظلومين وردع الظالمين كثيرة جدا.
فأوصيكم أيها المسلمون جميعا بالمساعدة العاجلة لإخوانكم بواسطة اللجان الموثقة والهيئات المأمونة، ومن الهيئات الموثوقة الهيئة العليا لجمع التبرعات لمسلمي البوسنة والهرسك التي يرأسها صاحب السمو الملكي الأمير المكرم: سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض.
فأوصي الجميع بدعمها بصفة مستمرة حتى ينصر الله المسلمين وأعوانهم في البوسنة والهرسك، ويخذل الظالمين، وتضع الحرب أوزارها، وهم مستحقون للمساعدة من الزكاة أو غيرها.
مع العلم بأن التبرعات تودع في بنك الرياض ومصرف الراجحي والبنك الأهلي.
والله المسئول أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وينصر إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك على أعداء الله من الصرب وغيرهم، وأن يكبت أعداء الإسلام أينما كانوا، كما أسأله سبحانه أن يوفق المجاهدين في سبيله في كل مكان، وينصرهم على عدوهم، إنه جل وعلا سميع الدعاء قريب الإجابة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) ، مسند أحمد بن حنبل (2/91) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2843) ، صحيح مسلم الإمارة (1895) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1628) ، سنن النسائي الجهاد (3180) ، سنن أبو داود الجهاد (2509) .
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2787) .
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، مسند أحمد بن حنبل (2/277) .(8/261)
ساعدوا مسلمي البوسنة والهرسك بالمال والسلاح (1)
دعا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء المسلمين - حكومات وشعوبا - لمساندة المسلمين في البوسنة والهرسك ودعمهم بالسلاح والمال والدعاء؛ لحاجتهم لذلك.
جاء ذلك في كلمة وجهها سماحته لعموم المسلمين، وقال فيها: نظرا لما ابتلي به المسلمون في البوسنة والهرسك من تسلط الصرب على المسلمين هناك بأنواع القتل والأذى والظلم والعدوان، ونظرا إلى صمود المسلمين هناك ضد عدوهم، وصلابتهم في دينهم، وحاجتهم إلى الدعم والمساعدة من إخوانهم المسلمين - حكومات وشعوبا - فإني أوصي المسلمين جميعا بالوقوف في صفهم والعناية بدعمهم، ومساعدتهم بالسلاح والمال والدعاء؛ لأنهم في أشد الحاجة إلى ذلك، وقد قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (2) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3) وقال عز وجل: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} (4) وقال سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في
__________
(1) نشرت في جريدة الشرق الأوسط في العدد (6095) بتاريخ 10 \ 3 \ 1416 هـ.
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة محمد الآية 7
(4) سورة الصافات الآية 37
(5) سورة التوبة الآية 41(8/262)
توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (1) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا -وشبك بين أصابعه- (2) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته (3) » . متفق على صحته.
والآيات والأحاديث في فضل الجهاد والتعاون على البر والتقوى وإعانة المسلم لأخيه بكل ما يستطيع ولا سيما ضد الأعداء كثيرة جدا.
ومن التعاون على البر والتقوى الدعاء لهم في أدبار الصلوات بالقنوت؛ تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم؛ فإنه كان عليه الصلاة والسلام إذا نزلت بالمسلمين شدة أو عدو قنت في الصلاة ودعا على المشركين، وذلك بعد الرفع من الركوع في الركعة الأخيرة من صلاة الفجر وغيرها، وكان أغلب قنوته صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر والمغرب، وربما قنت في الصلوات الخمس جميعا.
فالله الله أيها المسلمون في نصر إخوانكم في البوسنة والهرسك بكل ما تستطيعون من السلاح والمال والدعاء؛ لعل الله يتقبل منكم وينصر بكم إخوانكم؛ فإن الأعداء قد تكالبوا عليهم وخذلوهم وساعدوا أعداءهم، والله سبحانه وتعالى أوجب على المسلمين أينما كانوا أن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يعتصموا بحبل الله جميعا ضد عدوهم، وأن يسألوه النصر على الأعداء وحسن العاقبة، وهو القائل سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (4) وهو القائل عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (5) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (6)
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(2) صحيح البخاري المظالم والغصب (2446) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) .
(3) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) .
(4) سورة غافر الآية 60
(5) سورة الحج الآية 40
(6) سورة الحج الآية 41(8/263)
وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينصر إخواننا المسلمين في البوسنة وغيرها على أعدائهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يثبتهم على الهدى، وأن يخذل أعداءهم ويجعل الدائرة عليهم، إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(8/264)
الإجابة على سؤال حول أطفال النساء المغتصبات(8/264)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز
إلى حضرة الأخ المكرم: أ. ك. أ. ج وفقه الله
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابك المتضمن: سؤالك عن أطفال النساء المغتصبات في البوسنة والهرسك، وحاجتك لبعض الكتب المفيدة.
ويسرني أن أبعث إليك برفقه نسخة من كتابي (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة) و (العقيدة الواسطية) ، وكتاب (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) ، و (الأصول الثلاثة) و (العقيدة الطحاوية) و (التحقيق والإيضاح) ؛ لعل الله أن ينفعك بها.
وأما بشأن الأطفال، فالواجب على المسلمين العناية بهم، وتربيتهم تربية إسلامية، وعدم تركهم للنصارى وغيرهم، كما قال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (2) » ؛ ولأنهم في حكم اليتامى، وقد شرع الله الإحسان إلى اليتيم بصفة خاصة.
وأسأل الله لك ولجميع المسلمين التوفيق والإعانة على كل خير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .(8/265)
مناشدة المسلمين لمساعدة الشيشان (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من إخواننا المسلمين، سلك الله بنا وبهم سبيل عباده الصالحين، وجعلنا وإياهم من أنصار دينه القويم. آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (4) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (5) وقال عز وجل: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6) وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (7) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (8) » .
__________
(1) نشرت في جريدة اليوم في العدد (7974) ليوم السبت الموافق 15 \ 11 \ 1415 هـ
(2) سورة الصف الآية 10
(3) سورة الصف الآية 11
(4) سورة الصف الآية 12
(5) سورة الصف الآية 13
(6) سورة التوبة الآية 41
(7) سورة التوبة الآية 111
(8) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .(8/266)
وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا -وشبك بين أصابعه- (1) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا (2) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (3) » .
والآيات والأحاديث في فضل الجهاد والإنفاق فيه والتشجيع على ذلك كثيرة معلومة.
ولذا فإن من واجب المسلمين المسارعة إلى نجدة إخوانهم الذين يتعرضون للظلم والعدوان، ومن هؤلاء إخوانكم في الشيشان يقاومون اعتداء روسيا على بلادهم، ويحتاجون إلى مد يد المساعدة لهم؛ حتى يتمكنوا من مقاومة أعدائهم الذين يملكون العدة والعتاد.
فمساعدة المجاهدين بالنفس والمال من أفضل القربات، ومن أعظم الأعمال الصالحات، وهم من أحق الناس بالمساعدة من الزكاة وغيرها، وهم في أشد الضرورة إلى دعم إخوانهم المسلمين ومساعدتهم في قتال عدوهم عدو الإسلام والمسلمين، وتطهير بلادهم من رجس الكفرة من الشيوعيين وغيرهم.
والواجب على إخوانهم المسلمين من الحكام والأثرياء أن يدعموهم، ويعينوهم، ويشدوا أزرهم، وإني أهيب بجميع إخواني المسلمين من رؤساء الحكومات الإسلامية وغيرهم من الأثرياء في كل مكان بأن يقدموا لإخوانهم المسلمين الشيشان مما آتاهم الله من فضله، ومن الزكاة التي فرضها الله في أموالهم حقا لمن حددهم الله جل وعلا في سورة التوبة وهم ثمانية، قد دخل إخواننا المجاهدون في الشيشان في ضمنهم.
والله تبارك وتعالى قد فرض حقا في مال الغني لأخيه المسلم في آيات كثيرة من كتابه الكريم، كقوله سبحانه:
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2446) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2843) ، صحيح مسلم الإمارة (1895) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1628) ، سنن النسائي الجهاد (3180) ، سنن أبو داود الجهاد (2509) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2759) ، مسند أحمد بن حنبل (4/116) ، سنن الدارمي الجهاد (2419) .
(3) سنن النسائي الجهاد (3096) ، سنن أبو داود الجهاد (2504) ، مسند أحمد بن حنبل (3/251) ، سنن الدارمي الجهاد (2431) .(8/267)
{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (1) {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (2) وقوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (3) وقوله سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (4) وقوله سبحانه: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (5)
وهو سبحانه يثيب المسلم على ما يقدم لإخوانه ثوابا عاجلا، وثوابا أخرويا يجد جزاءه عنده في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، كما أنه يدفع عنه في الدنيا بعض المصائب التي لولا الله سبحانه ثم الصدقات والإحسان لحلت به أو بماله فدفع الله شرها بصدقته الطيبة وعمله الصالح، يقول الله عز وجل: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (6) ويقول عز وجل: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (7) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما نقص مال من صدقة (8) » ، ويقول صلوات الله وسلامه عليه: «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار (9) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «اتقوا النار ولو بشق تمرة (10) » .
وإخوانكم في الشيشان: أيها المسلمون، يقاسون آلام الجوع والجراح
__________
(1) سورة المعارج الآية 24
(2) سورة المعارج الآية 25
(3) سورة الحديد الآية 7
(4) سورة البقرة الآية 261
(5) سورة البقرة الآية 195
(6) سورة المزمل الآية 20
(7) سورة سبأ الآية 39
(8) سنن الترمذي كتاب الزهد (2325) .
(9) سنن الترمذي الإيمان (2616) .
(10) صحيح البخاري الزكاة (1417) ، صحيح مسلم الزكاة (1016) ، سنن النسائي الزكاة (2552) ، مسند أحمد بن حنبل (4/256) .(8/268)
والقتل والتشريد، فهم في أشد الضرورة إلى الكساء والطعام، وفي أشد الضرورة إلى الدواء، كما أنهم في أشد الضرورة إلى هذه الأشياء وإلى السلاح الذي يقاتلون به أعداء الله وأعداءهم، فجودوا عليهم أيها المسلمون مما أعطاكم الله، واعطفوا عليهم يبارك الله لكم ويخلف عليكم ويضاعف لكم الأجور، وهذه النفقة تؤجرون عليها وتخلف عليكم، كما تقدم في قوله سبحانه: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (1) وفي قوله سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: يقول الله عز وجل: «يا ابن آدم أنفق ننفق عليك (3) » .
ونسأل الله عز وجل أن يضاعف أجر من ساهم في مساعدة إخوانه المجاهدين ويتقبل منه، وأن يعين المجاهدين في الشيشان وسائر المجاهدين في سبيله في كل مكان على كل خير، ويثبت أقدامهم في جهادهم، ويمنحهم الفقه في الدين، والصدق والإخلاص، وأن ينصرهم على أعداء الإسلام أينما كانوا.
إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه إلى يوم الدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وجوب نصرة المسلمين وحكم الجهاد
__________
(1) سورة المزمل الآية 20
(2) سورة سبأ الآية 39
(3) صحيح البخاري النفقات (5352) ، صحيح مسلم الزكاة (993) .(8/269)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز
إلى حضرة الأخ المكرم: أ. ع. أوفقه الله آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابك وصلك الله بهداه، وما ذكرت فيه عن حال الأمة الإسلامية وحال المسلمين كان معلوما، نسأل الله أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويعيد للأمة عزتها وقوتها، وأشكرك على غيرتك واهتمامك بأمور المسلمين، وحرصك على سلامتهم ونجاتهم.
وبخصوص طلبك مني النصح والإرشاد تجاه ماذا يجب عليك أن تفعله للمساهمة في نصرة المسلمين، وسؤالك عن حكم الجهاد؟
فأفيدك: أن حكم الجهاد بالنسبة لعموم المسلمين فرض كفاية، ولا حرج عليك إذا أحببت أن تجاهد مع إخوانك المسلمين المظلومين إذا سمح لك والداك إن كانا موجودين؛ للأحاديث الواردة في ذلك.
وأوصيك بالجد في طلب العلم والتفقه في الدين على يد أهل العلم المعروفين بالعلم والفضل والعقيدة السلفية من أنصار السنة المحمدية وغيرهم، مع العناية بكتب أهل السنة، كالكتب الستة، و (موطأ مالك) و (مسند الإمام أحمد) ، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وغيرهم من علماء السنة، مع الاجتهاد في الدعوة إلى الله حسب علمك، والاجتهاد في النصيحة لإخوانك وأهل بيتك وغيرهم بالأسلوب الحسن، والبلاغ بالتي هي أحسن، على أن يكون ذلك بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية(8/270)
الصحيحة، وكلام أهل العلم المعروفين بالعلم والفضل والعقيدة الصحيحة.
نسأل الله أن يرزقك البصيرة في دينه، وأن يوفقك ويعينك على كل خير، إنه سميع قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/271)
حول قوانين القبائل والدعوة إلى إحيائها(8/271)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وبعد:
فقد اطلعت على مقال منشور في جريدة عكاظ في العدد (9842) الصادر في يوم الأربعاء الموافق 24 محرم 1414 هـ، حول: (قوانين القبائل والدعوة إلى إحيائها) ، فرأيت أن من الواجب الرد على هذا المقال، وبيان ما فيه من الخطر العظيم والفساد الكبير؛ وذلك لأن في إحياء العادات القبلية والأعراف الجاهلية ما يدعو إلى ترك التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك المخالفة لشرع الله المطهر.
ولوجوب النصيحة لله ولعباده أقول وبالله التوفيق:
يجب على جميع المسلمين أن يتحاكموا إلى كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسوله محمد عليه أفضل الصلاة والسلام في كل شيء، لا إلى العادات والأعراف القبلية، ولا إلى القوانين الوضعية، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (2) وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (3)
__________
(1) سورة الشورى الآية 10
(2) سورة النساء الآية 60
(3) سورة المائدة الآية 50(8/272)
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) فيجب على كل مسلم أن يخضع لحكم الله ورسوله، وأن لا يقدم حكم غير الله ورسوله - كائنا من كان - على حكم الله ورسوله، فكما أن العبادة لله وحده فكذلك الحكم له وحده، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (2)
فالتحاكم إلى غير كتاب الله سبحانه وتعالى وإلى غير سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أعظم المنكرات، وأقبح السيئات، بل قد يكفر المتحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله إذا اعتقد حل ذلك، أو اعتقد أن حكم غيرهما أحسن، قال سبحانه وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3)
فلا إيمان لمن لم يحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في أصول الدين وفروعه، وفي كل الحقوق، فمن تحاكم إلى غير الله ورسوله فقد تحاكم إلى الطاغوت.
وبهذا يعلم أنه لا يجوز إحياء قوانين القبائل وأعرافهم وأنظمتهم التي يتحاكمون إليها بدلا من الشرع المطهر الذي شرعه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، بل يجب دفنها وإماتتها والإعراض عنها، والاكتفاء
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الأنعام الآية 57
(3) سورة النساء الآية 65(8/273)
بالتحاكم إلى شرع الله سبحانه وتعالى، ففيه صلاح الجميع وسلامة دينهم ودنياهم، وعلى مشايخ القبائل ألا يحكموا بين الناس بالأعراف التي لا أساس لها من الدين، وما أنزل الله بها من سلطان، بل يجب أن يردوا ما تنازع فيه قبائلهم إلى المحاكم الشرعية، وذلك لا يمنع الصلح بين المتنازعين بما يزيل الشحناء ويجمع الكلمة ويرضي الطرفين بدون إلزام على وجه لا يخالف الشرع المطهر؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (1) وقوله عز وجل: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (2) وقوله جل وعلا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (3) ولما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما (4) » .
فالواجب الالتزام بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتحاكم إليهما، والحذر مما يخالفهما، والتوبة النصوح مما سلف مما يخالف شرع الله تعالى.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وأعاذنا جميعا من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، إنه سميع قريب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
__________
(1) سورة النساء الآية 128
(2) سورة النساء الآية 114
(3) سورة الأنفال الآية 1
(4) سنن الترمذي الأحكام (1352) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2353) .(8/274)
الإجابة على أسئلة قدمها بعض الأبناء الطلبة إلى سماحته
حكم إسبال الثياب بدون خيلاء ولبس الحرير للرجل(8/274)
س1: ما حكم إسبال الثياب بدون مكابرة أو خيلاء؟ وهل يجوز لبس الحرير للرجل في مواضع معينة؟
ج2: إسبال الثياب للرجل أمر لا يجوز، ولو لم يقصد الخيلاء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم زجر عن ذلك، فقال في الحديث الصحيح: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان فيما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب (1) » ، رواه مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة (2) » .
وهذان الحديثان يبينان أنه لا يجوز إسبال الثياب للرجل، وأن ذلك مع الخيلاء يكون أشد إثما وأعظم جريمة، وإنما الإسبال يكون للنساء؛ لأن أقدامهن عورة.
والواجب على الرجل أن يحذر الإسبال المطلق، وأن تكون ثيابه لا تتجاوز كعبه؛ لما تقدم، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار (3) » ، رواه البخاري في صحيحه، وهذا في حق الرجل، أما المرأة فلا بأس بالإسبال في حقها، كما تقدم.
وأما الحرير فلا يجوز لبسه للرجال، وإنما هو مباح للنساء؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها (4) » ، لكن إذا كان للتداوي كالحكة ونحوها فلا بأس في حق الرجل؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للزبير وطلحة في لبس الحرير؛ لأجل حكة كانت بهما (5) » .
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (106) ، سنن الترمذي البيوع (1211) ، سنن النسائي الزكاة (2563) ، سنن أبو داود اللباس (4087) ، سنن ابن ماجه التجارات (2208) ، مسند أحمد بن حنبل (5/162) ، سنن الدارمي البيوع (2605) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3665) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2085) ، سنن الترمذي اللباس (1731) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، سنن ابن ماجه اللباس (3569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/67) ، موطأ مالك الجامع (1696) .
(3) صحيح البخاري اللباس (5787) ، سنن النسائي الزينة (5331) ، مسند أحمد بن حنبل (2/461) .
(4) سنن الترمذي اللباس (1720) ، سنن النسائي الزينة (5148) .
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2919) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2076) ، سنن الترمذي اللباس (1722) ، سنن النسائي الزينة (5310) ، سنن أبو داود اللباس (4056) ، سنن ابن ماجه اللباس (3592) ، مسند أحمد بن حنبل (3/255) .(8/275)
وذلك من باب العلاج والدواء، ويجوز أيضا للرجل أن يلبس من الحرير قدر أصبعين أو ثلاثة أو أربعة؛ لثبوت السنة الصحيحة بذلك.(8/276)
الأسباب المعينة على القيام لصلاة الفجر
س2: ما هي الأسباب التي تساعد المسلم على القيام لصلاة الفجر؟ علما بأنه ينام مبكرا لكنه لا يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس.
ج2: الواجب على كل مسلم أن يتقي الله، وأن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها في المساجد في جماعة المسلمين، وأن يحرص على جميع الأسباب التي تعينه على ذلك، ومن الأسباب التي تعينه على صلاة الفجر في الجماعة: أن يبكر في النوم، ويركب الساعة في الوقت المناسب حتى يقوم للصلاة في وقتها، ويحضر الصلاة مع الجماعة، ويجتهد في سؤال الله التوفيق والإعانة، ويأتي بالأوراد الشرعية عند نومه، وبذلك يوفقه الله إن شاء الله للقيام في وقت الصلاة وأدائها مع الجماعة.(8/276)
من يقلل من شأن القسم الشرعي في التعليم
س3: فضيلة الشيخ هناك بعض المدرسين في الأقسام العلمية يقللون من شأن القسم الشرعي وأنه قسم للفاشلين والمهملين في دروسهم؛ لأنه أسهل الأقسام، فما رد فضيلتكم على هذا الكلام؟
ج3: هذا غلط ممن يقوله، والواجب التشجيع على القسم الشرعي، وتشجيع الطلبة على العناية به مع بقية الأقسام التي يحتاجها الطالب، والقسم الشرعي هو أهم العلوم؛ لأن الطالب يجب أن يتعلم دينه، وأن يعرف ما أوجب الله عليه حتى يؤدي العبادة التي خلقه الله لها وأوجبها عليه على بصيرة، والقسم الشرعي مما يعينه على ذلك إذا(8/276)
اجتهد فيه ووفقه الله للأستاذ الصالح.
والواجب على المدرسين والمسئولين التشجيع على العناية بهذا القسم والاستفادة منه حتى يتفقه الطالب في دينه، فينفع نفسه وينفع المسلمين؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » متفق على صحته.
فمن علامات السعادة أن يتفقه العبد في الدين، وأن يتعلم ويتبصر، والواجب التشجيع للطلبة على العناية بهذا القسم وعلى جميع الأقسام، وأن يكونوا مثالا في الجد والنشاط والصبر في جميع الأقسام.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(8/277)
التوجيه لمن يحرص على النوافل ويقصر في الواجبات
س4: فضيلة الشيخ: هناك بعض المسلمين يحرصون على السنن والنوافل ويقصرون في أداء الواجبات، فما هي توجيهات فضيلتكم بهذا الشأن؟
ج4: هذا غلط كبير، والواجب على المسلم أن يعتني بالواجبات، وأن يهتم بها أكثر، وأن يحرص على أداء ما فرض الله عليه، وأن يحذر ما حرم الله عليه، فإذا رزق مع ذلك العناية بالنوافل فهذا خير إلى خير، ولكن الفرائض تجب العناية بها أكثر؛ كالصلاة المفروضة، والزكاة، وصوم رمضان، وغيرها من الفرائض، وأن يحذر التكاسل والتساهل في شيء منها، وأما النوافل فأمرها أوسع، إن يسر الله له النافلة فالحمد لله، وإلا فلا حرج عليه.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته(8/277)
كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه (1) » أخرجه البخاري في صحيحه (2) .
هذا الحديث العظيم يدل على تحريم إيذاء المؤمنين ومعاداتهم؛ لأن المؤمنين هم أولياء الله، كما قال الله سبحانه: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (4) فكل مؤمن ولي من أولياء الله، تجب موالاته ومحبته في الله، وتحرم معاداته وظلمه بأي نوع من الظلم والأذى.
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6502) .
(2) صحيح البخاري (7 / 190)
(3) سورة يونس الآية 62
(4) سورة يونس الآية 63(8/278)
الإقامة في بلد لا يستطيع إظهار دينه فيه
س5: فضيلة الشيخ: ماذا يجب على المسلم الملتزم الذي يعيش في البلدان غير الإسلامية التي تفرض عليه حلق اللحية وعدم الصلاة والمجاهرة بالمعاصي؟ وهل تركه لأهله وماله يعتبر هجرة؟
ج5: الواجب على المسلم أن يحذر الإقامة في بلد يدعوه إلى ما حرم الله، أو يلزمه بذلك؛ من ترك الصلاة، أو حلق اللحى، أو إتيان الفواحش مثل الزنا والخمور، فيجب عليه ترك هذه البلاد والهجرة منها؛ لأنها بلاد سوء فلا يجوز الإقامة فيها أبدا، بل يجب أن يهاجر منها، وإن خالف وعصى والديه؛ لأن طاعة الله مقدمة، وطاعة الوالدين إنما تكون في المعروف؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إنما الطاعة في المعروف (1) » ، و: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (2) » ، فكل بلد لا يستطيع إظهار دينه فيه، أو يجبر على المعاصي فيه يجب أن يهاجر منه.
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7145) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .
(2) صحيح البخاري أخبار الآحاد (7257) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/94) .(8/278)
تعليم المدرس للطلاب خارج المدرسة (الدروس الخصوصية)(8/278)
س6: فضيلة الشيخ: يتساءل بعض الطلاب عن الاستعانة ببعض المدرسين؛ لتدريسهم خارج المدرسة فيما لم يفقهوه مقابل مبلغ من المال، علما بأن الطالب هو الذي يلح على المدرس في ذلك، وهل يختلف الحكم إذا كان الطالب يدرس عند المدرس في نفس المدرسة؟ وهل هذا يتنافى مع قوله عليه الصلاة والسلام: «طلب العلم فريضة على كل مسلم (1) » ؟
ج6: لا بأس أن يستعين الطالب بالمدرس خارج غرفة التدريس في أن يعلمه ويفقهه في المواد التي يدرسها، سواء كان المدرس هو الذي يدرسه أو مع مدرس آخر، إلا إذا كانت التعليمات لدى المدرسة تمنع من ذلك، فعلى الطالب أن يلتزم بالتعليمات التي توجه إليه، أما إذا لم يكن هناك تعليمات تمنع فلا مانع من أن يكون بعض الأساتذة يدرسونه ويعلمونه في خارج أوقات الدراسة في بيته، أو في المسجد، أو في غير ذلك، لا حرج في ذلك.
__________
(1) سنن ابن ماجه المقدمة (224) .(8/279)
نصيحة لأولياء أمور الطلبة
س7: فضيلة الشيخ: يقول البعض: إن من أسباب ضعف مستوى الطالب الديني والعلمي إهمال الآباء لأبنائهم واهتمامهم بمشاريعهم الخاصة وعدم متابعتهم، فهل من نصيحة من فضيلتكم لهؤلاء الأولياء؟
ج7: لا شك أن إهمال الآباء والأمهات لأولادهم وعدم تشجيعهم على طلب العلم من الأسباب المؤدية إلى ضعفهم.
والواجب على الآباء والأمهات والإخوة الكبار أن يكونوا عونا لأولادهم على التفقه في الدين، والتعلم، والعناية بطلب العلم، والمحافظة(8/279)
على أوقات الدراسة، هذا هو الواجب عليهم.
وأما إهمالهم والتساهل معهم فهو من أسباب فشلهم، ومن أسباب قلة علمهم، ومن أسباب تكاسلهم.
فالواجب على الآباء والأمهات والإخوة الكبار أن يؤدبوا من يتخلف ويتساهل، وأن يعتنوا بهذا الأمر، وأن يشجعوا الأولاد على الجد والنشاط، والمواظبة على الدروس، والمحافظة على أوقات الدراسة، والمحافظة على الصلاة في الجماعة صلاة الفجر وغيرها. هذا هو الواجب على الجميع.
نسأل الله أن يوفق المسلمين لأداء ما يجب عليهم لأولادهم وغيرهم، إنه خير مسئول وأقرب مجيب.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.(8/280)
الدواء الشافي لمشكلة الخوف
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز
إلى حضرة الأخ المكرم ص. ر الجزائر وفقه الله آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابك وصلك الله بهداه.
والمتضمن سؤالك عن الدواء الشافي لمشكلة الخوف التي تعاني منها بسبب المجتمع الذي تربيت فيه، والذي يؤمن بالخرافات والسحر والجن والخوف من غير الله. . . إلى آخر ما جاء في كتابك، وترغب مني نصيحتك للخروج مما أنت فيه من الخوف.
وأفيدك: بأنه سرني كثيرا التحاقك بأهل السنة والجماعة، وحرصك على معرفة أحكام الله في الخوف وغيره، وأود إفادتك:
بأن الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في كتابه (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) قد أوضح أقسام الخوف في شرح باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1)
وبين أن أقسام الخوف ثلاثة:
القسم الأول: شرك أكبر.
والثاني: معصية وليس بشرك.
والثالث: جائز، بل مشروع للأخذ بالأسباب التي شرعها الله.
فالقسم الأول: أن تخاف الأصنام، أو أصحاب القبور، أو الأشجار،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 175(8/281)
أو الأحجار، أو الجن، أو غيرهم من الغائبين أن يفعلوا بك ما يضرك؛ لاعتقاد أنهم يستطيعون ذلك بغير أسباب حسية، بل بقدرتهم الخاصة، فهذا هو الشرك الأكبر.
الثاني: أن تخاف من الأعداء أو بعض الأقارب أو غيرهم أن يفعلوا ما يستطيعون من الضرر بك، وهم أحياء قادرون فيحملك ذلك على فعل بعض المعاصي، أو ترك بعض الواجبات من أجل ذلك.
وفي هذا القسم نزلت الآية الكريمة المذكورة، وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) ؛ لأن معناها: أن الله سبحانه وتعالى نهاهم عن الخوف من المشركين خوفا يحملهم على ترك الجهاد الواجب.
أما القسم الثالث: فهو يتعلق بالخوف الطبيعي لوجود أسبابه، كخوف الإنسان من اللصوص فيغلق بابه ويحفظ متاعه، ومن السباع والحيات والعقارب فيأخذ حذره منه بالأسباب الشرعية المباحة، وخوف الجوع فيأكل، وخوف الظمأ فيشرب وأشباه ذلك. هذا ويسرني في ختام كتابي هذا تزويدك بكتاب (فتح المجيد) ؛ لدراسته والاستفادة منه، نسأل الله لك الثبات على طريقه المستقيم، والفقه في الدين، إنه سميع قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 175(8/282)
توضيح معاني بعض الآيات الكريمة(8/282)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز
إلى حضرة الأخ المكرم د \ م. أ. ح سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى كتابكم الذي جاء فيه:
نرجو من فضيلتكم توضيح معاني هذه الآيات الكريمة التالية: بسم الله الرحمن الرحيم: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (1) والآية: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (2) والآية: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} (3) والآية: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4)
وحديث الجارية الذي رواه مسلم، حينما سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أين الله؟ قالت: في السماء. وقال لها: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أعتقها؛ فإنها مؤمنة (5) » .
نرجو توضيح معاني هذه الآيات الكريمة، وتوضيح معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم للجارية؟
__________
(1) سورة الأنعام الآية 3
(2) سورة البقرة الآية 255
(3) سورة الزخرف الآية 84
(4) سورة المجادلة الآية 7
(5) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537) ، سنن النسائي السهو (1218) ، سنن أبو داود الصلاة (930) .(8/283)
وأفيدك: بأن المعنى العام للآيات الكريمات والحديث النبوي الشريف، هو الدلالة على عظمة الله سبحانه وتعالى، وعلوه على خلقه، وألوهيته لجميع الخلائق كلها، وإحاطة علمه وشموله لكل شيء كبيرا كان أو صغيرا، سرا أو علنا، وبيان قدرته على كل شيء، ونفي العجز عنه سبحانه وتعالى.
وأما المعنى الخاص لها: فقوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (1) ففيها الدلالة على عظمة الكرسي وسعته، كما يدل ذلك على عظمة خالقه سبحانه وكمال قدرته، وقوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (2) أي: لا يثقله ولا يكرثه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه، متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه سبحانه محتاجة وفقيرة إليه، وهو الغني الحميد، الفعال لما يريد، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر لكل شيء، الحسيب على كل شيء، الرقيب العلي العظيم، لا إله غيره ولا رب سواه.
وقوله سبحانه: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (3) ففيها الدلالة على أن المدعو الله في السماوات وفي الأرض، ويعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السماوات ومن في الأرض، ويسمونه: الله، ويدعونه رغبا ورهبا إلا من كفر من الجن أو الإنس، وفيها الدلالة على سعة علم الله سبحانه، واطلاعه على عباده، وإحاطته بما يعملونه، سواء كان سرا أو جهرا، فالسر
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة البقرة الآية 255
(3) سورة الأنعام الآية 3(8/284)
والجهر عنده سواء سبحانه وتعالى، فهو يحصي على العباد جميع أعمالهم خيرها وشرها.
وقوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} (1) فمعناها: أنه سبحانه هو إله من في السماء وإله من في الأرض، يعبده أهلهما، وكلهم خاضعون له، أذلاء بين يديه إلا من غلبت عليه الشقاوة فكفر بالله ولم يؤمن به، وهو الحكيم في شرعه وقدره، العليم بجميع أعمال عباده سبحانه.
وقوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) فمعناها: أنه مطلع سبحانه على جميع عباده، أينما كانوا يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم، ورسله من الملائكة الكرام والكاتبين الحفظة أيضا مع ذلك يكتبون ما يتناجون به مع علم الله به وسمعه له.
والمراد بالمعية المذكورة في هذه الآية عند أهل السنة والجماعة: معية علمه سبحانه وتعالى، فهو معهم بعلمه، ولكن سمعه أيضا مع علمه محيط بهم، وبصره نافذ فيهم، فهو سبحانه وتعالى مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء مع أنه سبحانه فوق جميع الخلق قد استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، ولا يشابه خلقه في شيء من صفاته، كما قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3) ثم ينبئهم يوم القيامة بجميع
__________
(1) سورة الزخرف الآية 84
(2) سورة المجادلة الآية 7
(3) سورة الشورى الآية 11(8/285)
الأعمال التي عملوها في الدنيا؛ لأنه سبحانه بكل شيء عليم، وبكل شيء محيط، عالم الغيب لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.
أما حديث الجارية التي أراد سيدها إعتاقها كفارة لما حصل منه من ضربها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة (1) » ، فإن فيه الدلالة على علو الله على خلقه، وأن الاعتراف بذلك دليل على الإيمان، هذا هو المعنى الموجز لما سألت عنه.
والواجب على المسلم أن يسلك في هذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحيحة الدالة على أسماء الله وصفاته مسلك أهل السنة والجماعة، وهو: الإيمان بها، واعتقاد صحة ما دلت عليه، وإثباته له سبحانه على الوجه اللائق به من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، وهذا هو المسلك الصحيح الذي سلكه السلف الصالح واتفقوا عليه، كما يجب على المسلم الذي يريد السلامة لنفسه وتجنيبها الوقوع فيما يغضب الله العدول عن طريق أهل الضلال الذين يؤولون صفات الله، أو ينفونها عنه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وسبق أن صدر من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى في إثبات العلو لله سبحانه، فنرفق لك نسخة منها؛ لمزيد الفائدة، كما نرفق لك نسخة من (العقيدة الواسطية) لشيخ الإسلام ابن تيمية، وشرحها للشيخ محمد خليل الهراس، وفيها بحث موسع في الموضوع الذي سألت عنه.
ونسأل الله أن يرزق الجميع العلم النافع والعمل به، وأن يوفق الجميع لما يرضيه، إنه سميع مجيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537) ، سنن النسائي السهو (1218) ، سنن أبو داود الصلاة (930) .(8/286)
تفسير قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (1) الآية
__________
(1) سورة البقرة الآية 256(8/286)
س: مذكور في القرآن الكريم: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (1) فما معنى هذا؟
ج: قد ذكر أهل العلم رحمهم الله في تفسير هذه الآية ما معناه: أن هذه الآية خبر معناه النهي، أي: لا تكرهوا على الدين الإسلامي من لم يرد الدخول فيه؛ فإنه قد تبين الرشد، وهو دين محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعهم بإحسان، وهو توحيد الله بعبادته وطاعة أوامره وترك نواهيه {مِنَ الْغَيِّ} (2) وهو: دين أبي جهل وأشباهه من المشركين الذين يعبدون غير الله من الأصنام والأولياء والملائكة والأنبياء وغيرهم، وكان هذا قبل أن يشرع الله سبحانه الجهاد بالسيف لجميع المشركين إلا من بذل الجزية من أهل الكتاب والمجوس، وعلى هذا تكون هذه الآية خاصة لأهل الكتاب، والمجوس إذا بذلوا الجزية والتزموا الصغار فإنهم لا يكرهون على الإسلام؛ لهذه الآية الكريمة، ولقوله سبحانه في سورة التوبة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (3) فرفع سبحانه عن أهل الكتاب القتال إذا أعطوا الجزية والتزموا الصغار.
وثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «أخذ الجزية من مجوس هجر (4) » ، أما من سوى أهل الكتاب والمجوس من الكفرة
__________
(1) سورة البقرة الآية 256
(2) سورة البقرة الآية 256
(3) سورة التوبة الآية 29
(4) صحيح البخاري الجزية (3157) ، سنن الترمذي السير (1586) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3043) ، مسند أحمد بن حنبل (1/191) ، سنن الدارمي السير (2501) .(8/287)
والمشركين والملاحدة فإن الواجب مع القدرة دعوتهم إلى الإسلام فإن أجابوا فالحمد لله، وإن لم يجيبوا وجب جهادهم، حتى يدخلوا في الإسلام، ولا تقبل منهم الجزية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلبها من كفار العرب، ولم يقبلها منهم، ولأن أصحابه رضي الله عنهم لما جاهدوا الكفار بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لم يقبلوا الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس، ومن الأدلة على ذلك قوله سبحانه: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) فلم يخيرهم سبحانه بين الإسلام وبين البقاء على دينهم، ولم يطالبهم بجزية، بل أمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فدل ذلك على أنه لا يقبل من جميع المشركين ما عدا أهل الكتاب والمجوس إلا الإسلام، وهذا مع القدرة، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تدل على هذا المعنى منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله عز وجل (2) » متفق على صحته، فلم يخيرهم النبي صلى الله عليه وسلم بين الإسلام وبين البقاء على دينهم الباطل، ولم يطلب منهم الجزية.
فدل ذلك: أن الواجب إكراه الكفار على الإسلام، حتى يدخلوا فيه ما عدا أهل الكتاب والمجوس؛ لما في ذلك من سعادتهم ونجاتهم
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .(8/288)
في الدنيا والآخرة، وهذا من محاسن الإسلام؛ فإنه جاء بإنقاذ الكفرة من أسباب هلاكهم وذلهم وهوانهم وعذابهم في الدنيا والآخرة، إلى أسباب النجاة والعزة والكرامة والسعادة في الدنيا والآخرة، وهذا قول أكثر أهل العلم في تفسير الآية المسئول عنها، أما أهل الكتاب والمجوس فخصوا بقبول الجزية والكف عن قتالهم إذا بذلوها لأسباب اقتضت ذلك، وفي إلزامهم بالجزية إذلال وصغار لهم، وإعانة للمسلمين على جهادهم وغيرهم، وعلى تنفيذ أمور الشريعة ونشر الدعوة الإسلامية في سائر المعمورة، كما أن في إلزام أهل الكتاب والمجوس بالجزية حملا لهم على الدخول في الإسلام، وترك ما هم عليه من الباطل والذل والصغار؛ ليفوزوا بالسعادة والنجاة والعزة في الدنيا والآخرة، وأرجو أن يكون فيما ذكرنا كفاية وإيضاح لما أشكل عليكم.
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين للفقه في الدين والثبات عليه، إنه خير مسئول.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/289)
تفسير قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1) الآية
س: سائل يسأل عن تفسير قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2)
ج: هذه الآية نزلت في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى بعض المشركين عهدا معلوما، وبعضهم بينه وبينهم عهد مطلق، وبعضهم لا عهد له، فأنزل الله هذه الآية فيها البراءة من المشركين، وفيها نبذ العهود إليهم؛ ولهذا قال سبحانه:
__________
(1) سورة التوبة الآية 1
(2) سورة التوبة الآية 1(8/289)
{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (2) الآية.
فالله سبحانه أمر رسوله أن يتبرأ منهم، ومن كان له عهد فهو إلى مدته، ومن كان عهده مطلقا أو لا عهد له جعله الله له أربعة أشهر، وبعث الصديق رضي الله عنه وعليا رضي الله عنه ومن معهما في عام تسع من الهجرة ينادون في الموسم: من كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد أو له عهد مطلق فله أربعة أشهر، بعدها يكون حربا للرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن يدخلوا في الإسلام، هذا هو معنى الآية عند أهل العلم.
__________
(1) سورة التوبة الآية 1
(2) سورة التوبة الآية 2(8/290)
تفسير قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) الآية
س: سائل يسأل عن: تفسير الآية الرابعة من السورة الكريمة: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (2)
ج: الذين لهم عهد أمر الله رسوله أن يتم عهدهم لهم، ما لم يغيروا أو ينقضوا العهد أو يظاهروا أعداء المسلمين، فإن ظاهروهم وجب قتالهم، وإن نقضوا العهد فكذلك، ولذلك لما ساعدت قريش بني بكر على خزاعة انتقض عهد قريش وبني بكر، وحاربهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، ودخل مكة وفتحها عنوة عام ثمان من الهجرة؛ لنقضهم العهد؛ لأن خزاعة كانت في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت بنو بكر في حلف قريش وعهدهم، فهجدت بنو بكر خزاعة - يعني: تعدت عليهم - وأتوهم
__________
(1) سورة التوبة الآية 4
(2) سورة التوبة الآية 4(8/290)
بغتة - أي: فجاءة - وقاتلوهم وهم في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستنجدوا بالرسول صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن ينصرهم ووعدهم النصر، وكانت قريش قد ساعدتهم بالمال والسلاح؛ فلهذا غزاهم النبي صلى الله عليه وسلم وفتح الله عليه مكة؛ لنقضهم العهد، وكان قد عاهدهم عشر سنين، فلما نقضوا العهد بمساعدتهم بني بكر انتقض عهدهم، وغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم وفتح الله عليه.(8/291)
تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} (1) الآيات
س: من الآية رقم 76 إلى الآية رقم 78 من سورة التوبة، إن أمكن تفسير مركز للآيات.
وهل ينطبق ذلك على عبد قد عاهد الله على ترك معصية ما وأغلظ في القول بأن يسخط الله ويغضب عليه إن هو عاد إليها؟
ج: الآيات المشار إليها، وهي قوله تعالى في حق المنافقين: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (2) {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (3) {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (4)
هي دالة على أن من عاهد الله أن يفعل شيئا ثم أخلف عهده أنه بذلك قد تخلق بأخلاق المنافقين، وأنه على خطر عظيم من أن يعاقب بالنفاق في قلبه جزاء له على إخلافه الوعد وكذبه، وهو سبحانه بذلك يحذر عباده من أخلاق المنافقين، ويحثهم سبحانه على الصدق والوفاء بالعهود، ويوضح لهم سبحانه أنه يعلم سرهم
__________
(1) سورة التوبة الآية 76
(2) سورة التوبة الآية 76
(3) سورة التوبة الآية 77
(4) سورة التوبة الآية 78(8/291)
ونجواهم، ولا يخفى عليه شيء من شئونهم، وهذا لا يمنع التوبة، فمن تاب إلى الله سبحانه توبة نصوحا تاب الله عليه من جميع الذنوب، سواء كانت كفرا أو نفاقا أو دونهما، كما قال سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (1) وقال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وقال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (3)
وقد أجمع العلماء على أن هذه الآية في التائبين.
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (4) » ، وصح أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الإسلام يهدم ما كان قبله، والتوبة تهدم ما كان قبلها (5) » .
__________
(1) سورة طه الآية 82
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة الزمر الآية 53
(4) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .
(5) صحيح مسلم الإيمان (121) .(8/292)