وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (1)
فكتاب الله فيه الهدى والنور وهو صراط الله المستقيم للرجال والنساء والملوك وغيرهم والرؤساء والمرؤسين والأغنياء والفقراء، فيجب على الجميع أن يحكموا كتاب الله وأن يتمسكوا به ويتدبروه ويتعقلوه، قال عز وجل في كتابه العزيز: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (2) وهذا يدل على أن من الواجب تدبره والحذر من الإعراض عنه.
كما يجب علينا جميعا التمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي: أحاديثه التي قالها أو عمل بها أو أقرها، هذه سنته صلى الله عليه وسلم إما قول وإما فعل وإما تقرير لما شاهده أو سمعه من غيره.
فعلى الرجال والنساء جميعا اتباع السنة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) وطاعة الرسول هي العمل بالسنة التي صحت عنه صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (4) وقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (5) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (6) ومعنى الرد إلى الله هو الرد إلى القرآن الكريم، أما الرد إلى الرسول فمعناه الرد
__________
(1) سورة فصلت الآية 44
(2) سورة محمد الآية 24
(3) سورة آل عمران الآية 132
(4) سورة النساء الآية 80
(5) سورة الحشر الآية 7
(6) سورة النساء الآية 59(5/214)
إليه في حياته صلى الله عليه وسلم، وإلى سنته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. وقال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1)
فعلينا جميعا رجالا ونساء وحكاما ومحكومين، ورؤساء ومرءوسين وأمناء وسفراء وعربا وعجما علينا جميعا أن نعظم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وأن نستقيم عليها ونحكمها ونعمل بها؛ لأنها الأصل الثاني من أصول الشريعة، ولأنها المفسرة لكتاب الله والموضحة لما قد يخفى منه، قال تعالى يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النحل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2) فأخبر سبحانه وتعالى أنه أنزل الذكر وهو القرآن الكريم على نبيه صلى الله عليه وسلم ليبين للناس أحكام دينهم، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فعلينا أن نعظم كتاب ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، وأن نعمل بهما جميعا في كل شيء، ونحذر مخالفتهما كما قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (3)
ومن الأمور المهمة أن نعلم جميعا أن أوامر الله سبحانه وتعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم تعم الرجال والنساء في جميع الأحكام، إلا ما خصه الدليل. وقد دل كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أحكام تخص الرجال دون النساء وعلى أحكام تخص النساء دون الرجال لحكم بالغة من ربنا عز وجل، فعلينا أن نأخذ بها ونسلم لها، مطمئنين مؤمنين راضين بحكم الله عز وجل فإنه أحكم الحاكمين وهو العالم بأحوال عباده لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه سبحانه وتعالى، وهو الأعلم
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) سورة النحل الآية 44
(3) سورة النور الآية 54(5/215)
سبحانه وتعالى بما يصلح عباده، فمن ذلك أن الرجل مسئول عن القوامة على المرأة، فهو المسئول عنها وعليه النفقة على الزوجة وعلى أولاده، وأن يتولى شئونهما، كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (1) الآية.
فالواجب على الرجل أن يقوم على المرأة وينفق عليها مع حسن العشرة وطيب الكلام والفعال كما قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) وقال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (3) الآية. وهذا مما يخص الرجل- أن له القوامة على المرأة بالإنفاق عليها وأداء حقها وإحسان عشرتها، والسعي في مصالحها المتعلقة بالزوجية وهي ربة البيت والقائمة على الأولاد وبما يلزم في البيت، وهو القائم عليها وعلى أولادها بكل ما يلزم من نفقة وحسن معاشرة.
ومن المسائل التي تخص الرجال أن الرجل يجب عليه أن يصلي في المسجد ويجيب النداء، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر (4) » أما النساء فلا يجب عليهن أن يصلين في المساجد، بل يصلين في بيوتهن، وذلك أفضل لهن؛ لأنهن عورة، والخطر في خروجهن معروف، فالمشروع لهن الصلاة في بيوتهن، وليس عليهن أن يحضرن مع الرجال في المساجد، ولا بأس من حضورهن المساجد مع الستر والحجاب، وليس لأزواجهن منعهن من ذلك إذا التزمن بالآداب الشرعية، لكن صلاتهن في بيوتهن أفضل كما تقدم عملا بالسنة الصحيحة في ذلك.
ومن المسائل أيضا التي يختص بها الرجال دون النساء الجهاد بالنفس
__________
(1) سورة النساء الآية 34
(2) سورة النساء الآية 19
(3) سورة البقرة الآية 228
(4) سنن أبو داود الصلاة (551) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (793) .(5/216)
فالرجل عليه أن يجاهد بنفسه وأن يحمل السلاح، والمرأة ليس عليها ذلك «قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله: نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: عليكن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة (1) » فليس على المرأة جهاد بالنفس والسلاح؛ لأنها تضعف عن ذلك، ولأنها فتنة وعورة، فالجهاد على الرجال لا على المرأة بالنفس، أما بالمال فعلى الجميع، على المرأة والرجل الجهاد بالمال في أصح قولي العلماء لعموم الأدلة، قال سبحانه وتعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (5) » والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وهي تعم الرجال والنساء، فيما عدا الجهاد بالنفس لحديث عائشة السابق.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1520) ، سنن النسائي مناسك الحج (2628) ، سنن ابن ماجه المناسك (2901) .
(2) سورة التوبة الآية 41
(3) سورة الصف الآية 10
(4) سورة الصف الآية 11
(5) سنن النسائي الجهاد (3096) ، سنن أبو داود الجهاد (2504) ، مسند أحمد بن حنبل (3/251) ، سنن الدارمي الجهاد (2431) .(5/217)
ومن المسائل المختصة بالرجال أن الرجل له أن ينكح أربعا من النساء، والمرأة ليس لها أن تنكح إلا رجلا واحدا، فلا تجمع بين رجلين لحكم ظاهرة بالغة.
ومن ذلك أن الرجل قد تعظم شهوته ولا تعفه المرأة الواحدة، ولأنه محتاج إلى كثرة الأولاد والنسل ولأنه قد يكون له شئون كثيرة يحتاج إلى عدة نساء يساعدنه فيها، ولأن النساء قد يحتجن إلى الرجل لعدم وجود أولياء لهن، أو لقلة الرجال بسبب الحروب والفتن فأباح الله للرجل أن يجمع بين أربع نساء فأقل، وليس للمرأة أن تجمع بين رجلين لأن في جمع المرأة بين الرجال اختلاط المياه واختلاط الأنساب وفساد الأحوال.
ومن المسائل التي اختلف(5/217)
فيها حكم الذكر عن الأنثى مسائل المواريث في حق الزوج والزوجة والأولاد والأخوة من الأبوين والأب فإن الزوجة تعطى نصف ما يعطاه الزوج والولد الذكر يعطى ضعف ما تعاطاه الأنثى، وهكذا الأخ من الأبوين أو الأب يعطى ضعف ما تعطاه الأخت لحكم ظاهرة يعرفها أهل العلم وكل من تأملها من ذوي البصيرة في أحوال الرجال والنساء.
والآيات الدالة على ذلك معلومة.
ومن المسائل التي تخص النساء أنه يجب عليهن ترك الصيام والصلاة في حالة الحيض والنفاس، فالصلاة لا تجب عليهن في الحيض والنفاس. لا أداء ولا قضاء.
وأما الصوم فيجب عليهن تركه حال الحيض والنفاس ثم قضاؤه بعد ذلك. والحكمة في ذلك والله أعلم أن الصلاة تتكرر في كل يوم وليلة خمس مرات، فمن رحمة الله جل وعلا أن أسقط عنها قضاء الصلاة في حال الحيض والنفاس لأن قضاءها يكلفها كثيرا فإذا كان حيضها سبعة أيام مثلا يكون عليها خمس وثلاثون صلاة، وإذا كان ثمانية أيام يكون عليها أربعون صلاة، ففي قضائها مشقة فمن رحمة الله سبحانه، أن أسقط عنها القضاء والأداء. وهكذا في النفاس قد تجلس أربعين يوما لا تصلي، فلو قضت الصلوات لكان عليها مائتا صلاة، فمن رحمة الله أن الله أسقط عنها ذلك فليس عليها الصلاة لا قضاء ولا أداء في حال النفاس، رحمة من الله عز وجل، وعليها أن تقضي الصوم الذي فاتها في رمضان، بسبب النفاس.
ومن ذلك أيضا أن المرأة تعدل شهادتها نصف الرجل فشهادة المرأتين بشهادة رجل؛ لأن الرجال في الغالب أحفظ وأضبط لما يقع، والمرأة دون ذلك في الجملة، وقد يكون بعض النساء أفضل من بعض الرجال بكثير، لكن في الجملة جنس الرجال أضبط وأحفظ وأفضل، وجنس النساء دون ذلك في الضبط والحفظ والفضل، فجعل الله شهادة المرأتين تعدل شهادة رجل واحد، كما قال تعالى:(5/218)
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} (1) الآية من سورة البقرة.
فتتعاونان وتتساعدان في حفظ الشهادة فإذا قصرت هذه- أو نسيت ساعدتها الأخرى في التذكر حتى يحفظن الشهادة.
ومن المسائل المستثناه أيضا أن المرأة على نصف الرجل في الدية في الثلث فأكثر، أما في القصاص فتقتل المرأة بالرجل والرجل بالمرأة قصاصا؛ لأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل الرجل بالمرأة، وفي ذلك حكمة عظيمة منها صيانة الدماء، وحفظ أفراد المجتمع المسلم أن يتعدى بعضهم على بعض، ومن ذلك العقيقة عن المولود الذكر شاتان وعن الأنثى شاة واحدة كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولله في ما جاءت به الأدلة من التفرقة بين الذكر والأنثى في المسائل المذكورة وغيرها الحكمة البالغة.
والأصل في الأحكام العموم والتساوي كما تقدم. فالواجب على الرجال هو الواجب على النساء، والواجب على النساء هو الواجب على الرجال إلا في ما خصه الدليل كالمسائل المذكورة آنفا.
ووصيتي للرجال والنساء جميعا تقوى الله سبحانه وتعالى والتفقه في الدين في المدارس وغيرها من أماكن العلم، وسؤال أهل العلم عما أشكل على الرجل والمرأة من أحكام الدين، لقول الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (3) » ومن أهم ذلك العناية بتلاوة القرآن الكريم وتدبر معانيه، والعناية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتفقه فيها والاستفادة من كتب أهل السنة وكتب تفسير
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة النحل الآية 43
(3) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(5/219)
القرآن الكريم، وشروح الأحاديث النبوية التي ألفها أهل العلم المعروفون بالدراية والديانة وحسن العقيدة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1) » خرجه الإمام البخاري في صحيحه. وقال عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه (2) » رواه الإمام مسلم في الصحيح.
ومن المعلوم أن تعلم الرجال والنساء لما شرعه الله سبحانه وتعالى لهم وخلقوا من أجله من أهم الفرائض، وأوجب الواجبات، ولقد يسر الله للجميع طرق التعلم بواسطة إذاعة القرآن الكريم وبرنامج نور على الدرب، ونداء الإسلام من الرابطة، وغير ذلك من الندوات والحلقات العلمية التي تقام في المساجد، ودور العلم ووسائل الإعلام. فالواجب الاستفادة منها والعناية بها، أينما كان المؤمن والمؤمنة.
ومما يجب التنبيه عليه الحذر من سماع ما يفسد القلوب والأخلاق من الأغاني الماجنة والأشرطة المنحرفة وآلات اللهو والطرب. فإن هذه تفسد القلوب والأخلاق فالواجب الحذر منها والتواصي بتركها. عملا بقول الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (6) » خرجه الإمام مسلم في الصحيح.
ومما يجب على المسلمين جميعا الاهتمام به والتواصي به الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن ذلك من أعظم الأسباب في صلاح القلوب والمجتمعات. وظهور الفضائل
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3
(6) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .(5/220)
واختفاء الرذائل، والأدلة على ذلك كثيرة، منها ما تقدم في سورة " العصر "، وحديث: «الدين النصيحة (1) » ومنها قول الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) الآية، وقوله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) وقوله: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (4) » وقوله عليه الصلاة والسلام: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (5) » . أخرجهما الإمام مسلم في الصحيح. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ولا شك أن الواجب على المدرسين والمدرسات أكثر من الواجب على غيرهم بالنسبة إلى الطلبة والطالبات، فعلى المدرسين أن يعنوا بالطلبة ويوجهوهم إلى الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة والعمل بما علموا من العلم، وعلى المدرسات أن يتقين الله في البنات، وأن يعلمنهن الأخلاق الدينية الفاضلة والعقيدة الصالحة في الدراسة وفي المذاكرة والوعظ، حتى يوجد جيل صالح من الطلبة والطالبات والمعلمين والمعلمات في المستفبل.
فواجب المدرس والمدرسة عظيم والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى واجب عظيم على الجميع. فعلى كل من لديه علم من الرجال أن يعلم أولاده من الذكور والإناث وأهل بيته وغيرهم حسب الطاقة. وعلى كل من لديها علم من النساء أن تعلم بناتها وأبناءها وتعلم أخواتها وتعلم من حولها من النساء وتنتهز الفرصة عند الاجتماع في عرس أو وليمة أو غير ذلك للدعوة إلى الله والأمر بالمعروف
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة التوبة الآية 71
(4) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(5) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .(5/221)
والنهي عن المنكر والتذكير لمن عندها من النساء وتعليمهن وإرشادهن إذا رأت امرأة متبرجة عند الرجال أو في الطريق تنهاها عن ذلك وتحذرها منه، وتحذر عن التكاسل عن الصلاة بنتها وأختها وجارتها وغيرهن، وتأمرهن بالمعروف وتنهاهن عن المنكر، وهذا هو واجب الجميع؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (1) أولياء: يعني أنهم متحابون في الله فليسوا أعداء. فالمؤمن ولي أخيه وولي أخته في الله، والمؤمنة كذلك ولية أختها في الله وولية أخيها في الله، يتآمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر، ويتناصحون في الله، فالزوج يأمر زوجته بالمعروف وينهاها عن المنكر، والزوجة تأمر زوجها بالمعروف وتنهاه عن المنكر. فإذا رأته مقصرا في الصلاة أو رأته يشرب المسكر أو يدخن أو يحلق لحيته- تنصحه وتقول: اتق الله، هذا لا يجوز لك، وكيف ترضى بهذا الأمر السيء لنفسك؟ وكيف تعصي ربك؟ تقول ذلك بالكلام الطيب وبالأسلوب الحسن، كما أنه يأمرها وينهاها كذلك، هي تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، ولا تستحي ولا تخجل ولا تداهن، وهكذا مع أبيها وأخيها وأمها وولدها وجارها وجارتها وصاحباتها وصديقاتها، وهذا هو الواجب على المسلمين والمسلمات مهما كانت مؤهلاتهم وأعمالهم. كل واحد منهم على حسب علمه وقدرته.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وجميع المسلمين لما يرضيه، وأن يسلك بنا جميعا صراطه المستقيم، وأن يرزقنا جميعا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يوفقنا جميعا للقيام بالواجب من طاعة الله ورسوله والنصح لله ولعباده، ثم أوصي الجميع بالدعاء في ظهر الغيب وفي الصلاة وفي آخر الليل لولاة الأمور بالتوفيق والهداية والصلاح والإصلاح. فولاة الأمور في حاجة إلى الدعاء أن يصلحهم الله، ويصلح بهم ويهديهم ويهدي بهم، فهم في
__________
(1) سورة التوبة الآية 71(5/222)
أشد الحاجة إلى الدعاء. وولاة أمر هذه البلاد وولاة أمور المسلمين جميعا في كل مكان تدعون لهم جميعا بالصلاح والتوفيق والهداية، وتدعون لأولادكم ولأزواجكم ولغيرهم، تدعون لهم بالتوفيق والهداية والصلاح، وبالتوبة النصوح، يقول سبحانه وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} (1) أي: قل يا محمد هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني. وأتباع النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال والنساء يدعون إلى الله على بصيرة ويحذرون الناس من معصية الله، ويرشدونهم إلى الخير. وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وليس هذا خاص بالرجال دون النساء ولا بالنساء دون الرجال، بل هو واجب على الجميع على حسب العلم والقدرة، كما قال عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3)
وعلى العلماء والمدرسين واجب عظيم، وهكذا الرؤساء والأعيان عليهم واجب عظيم أكثر من غيرهم على حسب علمهم وقدرتهم، وعلى كل واحد من المسلمين أن يعرف واجبه ويهتم به، ويراقب الله في كل شيء ويتقيه في ذلك، فنحن في غربة من الإسلام وفي آخر الزمان. فالواجب التكاتف والتعاون على الخير والصدق في ذلك.
ونسأل الله التوفيق لنا، ولجميع المسلمين الهداية والثبات على الإسلام وحسن الختام، وأن يوفقنا جميعا لما يرضيه، وأن يهدينا جميعا صراطه المستقيم إنه سميع قريب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة التغابن الآية 16(5/223)
مشروعية الحجاب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فقد اطلعت على ما كتبه المدعو: أحمد بهاء الدين في بعض الصحف وما يدعيه من تحليل لما حرمه الله، وخاصة ما نشره في زاوية (يوميات) في جريدة الأهرام في الأعداد 36992 -36993- 36994 و 36996 من تحامله على الحجاب والنقاب، والدعوة إلى السفور، واعتبار الحجاب بدعة من البدع، واعتباره أنه من الزي، والزي مسألة تتعلق بالحرية الشخصية، وأن النساء كن يلبسن النقاب كتقليد متوارث، وأن الإسلام لم يأمر به ولم يشر إليه، وأن النساء كن يجالسن النبي صلى الله عليه وسلم سافرات، ويعملن في التجارة والرعي والحرب سافرات، وأن العهد ظل كذلك طيلة عهد الخلفاء الراشدين، والدولة الأموية والعباسية، وأنه عندما اعتنق الأتراك الإسلام دخلوا بعاداتهم غير الإسلامية الموروثة عن قبائلهم مثل البرقع واليشمك، وفرضوها على العرب المسلمين فرضا. إلى آخر ما كتبه لإباحة السفور وإنكار الحجاب وغير ذلك من الأباطيل والافتراءات وتحريف الأدلة وصرفها عن مدلولها الحقيقي.
ومن المعلوم أن الدعوة إلى سفور المرأة عن وجهها دعوة باطلة ومنكرة شرعا وعقلا ومناهضة للدين الإسلامي ومعادية له.
والمسلم مدعو إلى كل ما من شأنه أن يزيد في حسناته ويقلل من سيئاته سرا وجهرا في كل أقواله وأفعاله وأن يبتعد عن وسائل الفتنة ومزاولة أسبابها(5/224)
وغاياتها.
والعلماء مدعوون إلى نشر الخير وتعليمه بكل مسمياته، سواء في ذلك العبادات والمعاملات والآداب الشرعية فردية كانت أو جماعية. ودعاة السفور المروجون له يدعون إلى ذلك إما عن جهل وغفلة وعدم معرفة لعواقبه الوخيمة، وإما عن خبث نية وسوء طوية لا يعبأون بالأخلاق الفاضلة ولا يقيمون لها وزنا، وقد يكون عن عداوة وبغضاء كما يفعل العملاء والأجراء من الخونة والأعداء فهم يعملون لهذه المفسدة العظيمة والجائحة الخطيرة، ليلا ونهارا، سرا وجهارا، جماعة وأفرادا، إنهم يدعون إلى تحرير المرأة من الفضيلة والشرف والحياء والعفة إلى الدناءة والخسة والرذيلة وعدم الحياء.
والواجب الابتعاد عن مواقف الشر ومصائد الشيطان عملا وقولا باللسان والجنان.
وعلى المسلم الذي يوجه الناس أن يدعوهم إلى طريق الهدى والرشاد ويقربهم من مواقف العصمة ويبعدهم عن الفتنة ومواقف التهم ليكون بذلك عالما ربانيا. فقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لكميل بن زياد في وصيته له: (يا كميل: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع لا خير فيهم أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح مرسلة لا يهتدون بنور العلم ولا يلجأون إلى ركن وثيق) .
والدعوة إلى السفور ورفض الحجاب دعوة لا تعود على المسلمين ذكورهم وإناثهم بخير في دينهم ولا دنياهم، بل تعود عليهم بالشر والفجور وكل ما يكرهه الله ويأباه. فالحكمة والخير للمسلمين جميعا في الحجاب لا السفور في حال من الأحوال. وبما أن أصل الحجاب عبادة لأمر الإسلام ونهيه عن ضده في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما سنبينه فيما بعد إن شاء الله(5/225)
فهو أيضا وقاية لأنه يساعد على غض البصر الذي أمر الله سبحانه وتعالى بغضه ويساعد على قطع أطماع الفسقة الذين في قلوبهم مرض، ويبعد المرأة عن مخالطة الرجال ومداخلتهم كما أنه يساعد على ستر العورات التي تثير في النفوس كوامن الشهوات.
والتبرج ليس تحررا من الحجاب فقط بل هو والعياذ بالله تحرر من الإلتزام بشرع الله وخروج على تعاليمه ودعوة للرذيلة، والحكمة الأساسية في حجاب المرأة هي درأ الفتنة، فإن مباشرة أسباب الفتنة ودواعيها وكل وسيلة توقع فيها من المحرمات الشرعية ومعلوم أن تغطية المرأة لوجهها ومفاتنها أمر واجب دل على وجوبه الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح.
فمن أدلة الحجاب وتحريم السفور من الكتاب قوله سبحانه وتعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1)
فجاء في هذه الآية الكريمة ما يدل على وجوب الحجاب وتحريم السفور في موضعين منها: الأول: قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (2) وهذا يدل على النهي عن جميع الإبداء لشيء من الزينة إلا ما استثنى وهو
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة النور الآية 31(5/226)
ملابسها الظاهرة وما خرج بدون قصد ويدل على ذلك التأكيد منه سبحانه وتعالى بتكريره النهي عن إبداء الزينة في نفس الآية.
والثاني: قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (1) فهو صريح في إدناء الخمار من الرأس إلى الصدر؛ لأن الوجه من الرأس الذي يجب تخميره عقلا وشرعا وعرفا ولا يوجد أي دليل يدل على إخراج الوجه من مسمى الرأس في لغة العرب، كما لم يأت نص على إخراجه أو استثنائه بمنطوق القرآن والسنة ولا بمفهومهما واستثناء بعضهم له وزعمهم بأنه غير مقصود في عموم التخمير مردود بالمفهوم الشرعي واللغوي ومدفوع بأقوال بقية علماء السلف والخلف، كما هو مردود بقاعدتين أوضحهما علماء الأصول ومصطلح الحديث إحداهما: أن حجة الإثبات مقدمة على حجة النفي. والثانية: أنه إذا تعارض مبيح وحاظر قدم الحاظر على المبيح.
ولما كان الله سبحانه وتعالى يعلم ما في المرأة من وسائل الفتنة المتعددة للرجل أمرها بستر هذه الوسائل حتى لا تكون سببا للفتنة فيطمع بها الذي في قلبه مرض.
والزينة المنهي عن إبدائها: اسم جامع لكل ما يحبه الرجل من المرأة ويدعوه للنظر إليها سواء في ذلك الزينة الأصلية أو المكتسبة التي هي كل شيء تحدثه في بدنها تجملا وتزينا.
وأما الزينة الأصلية: فإنها هي الثابتة كالوجه والشعر وما كان من مواضع الزينة كاليدين والرجلين والنحر وما إلى ذلك. وإذا كان الوجه أصل الزينة وهو بلا نزاع القاعدة الأساسية للفتنة بالمرأة، بل هو المورد والمصدر لشهوة الرجال فإن تحريم إبدائه آكد من تحريم كل زينة تحدثها المرأة في بدنها. قال القرطبي في تفسيره: الزينة على قسمين خلقية ومكتسبة:
__________
(1) سورة النور الآية 31(5/227)
فالخلقية: وجهها فإنه أصل الزينة وجمال الخلقة ومعنى الحيوانية لما فيه من المنافع وطرق العلوم.
وأما الزينة المكتسبة: فهي ما تحاول المرأة في تحسين خلقتها به كالثياب والحلي والكحل والخضاب. أهـ.
وقال البيضاوي في تفسيره: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} (1) كالحلي والثياب والأصباغ فضلا عن مواضعها لمن لا يحل أن تبدى له. أهـ.
فإذا كان الوجه هو أصل الزينة بلا نزاع في النقل والعقل، فإن الله جلت قدرته حرم على المرأة إبداء شيء من زينتها وهذا عموم لا مخصص له من الكتاب والسنة ولا يجوز تخصيصه بقول فلان أو فلان، فأي قول من أقوال الناس يخصص هذا العموم فهو مرفوض لأن عموم القرآن الكريم والسنة المطهرة لا يجوز تخصيصه بأقوال البشر، ولا يجوز تخصيصه عن طريق الاحتمالات الظنية، أو الاجتهادات الفردية، فلا يخصص عموم القرآن إلا بالقرآن الكريم أو بما ثبت من السنة المطهرة أو بإجماع سلف الأمة، ولذلك نقول: كيف يسوغ تحريم الفرع وهو الزينة المكتسبة وإباحة الأصل وهو الوجه الذي هو الزينة الأساسية.
والمراد بقوله جل وعلا: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (2) كما قال بذلك ابن مسعود رضي الله عنه، وجمع من علماء السلف من المفسرين وغيرهم- " ما لا يمكن اخفاؤه " كالرداء والثوب وما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب وما قد يظهر من غير قصد كما تقدمت الإشارة لذلك، فالمرأة منهية من أن تبدي شيئا من زينتها ومأمورة بأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة.
وحينما نهى سبحانه وتعالى المرأة عن إبداء شيء من زينتها إلا ما ظهر
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة النور الآية 31(5/228)
منها- علمها سبحانه وتعالى كيف تحيط مواضع الزينة بلف الخمار الذي تضعه على رأسها فقال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} (1) يعني من الرأس وأعالي الوجه {عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (2) يعني الصدور حتى تكون بذلك قد حفظت الرأس وما حوى والصدر من تحته وما بين ذلك من الرقبة وما حولها لتضمن المرأة بذلك ستر الزينة الأصلية والفرعية.
وفي قوله تعالى أيضا في آخر هذه الآية: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} (3) الدلالة على تحريمه سبحانه على المرأة ما يدعو إلى الفتنة حتى بالحركة والصوت. وهذا غاية في توجيه المرأة المسلمة، وحث من الله لها على حفظ كرامتها ودفع الشر عنها.
ويشهد أيضا لتحريم خروج الزينة الأصلية أو المكتسبة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بزوجته صفية، وفعل أمهات المؤمنين، وفعل النساء المؤمنات في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية وآية الأحزاب من الستر الكامل بالخمر والجلابيب، وكانت النساء قبل ذلك يسفرن عن وجوههن وأيديهن حتى نزلت آيات الحجاب. وبذلك يعلم أن ما ورد في بعض الأحاديث من سفور بعض النساء كان قبل نزول آيات الحجاب فلا يجوز أن يستدل به على إباحة ما حرم الله لأن الحجة في الناسخ لا في المنسوخ كما هو معلوم عند أهل العلم والإيمان.
ومن آيات الحجاب الآية السابقة من سورة النور، ومنها قوله تعالى في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (4) قال العلماء: الجلابيب جمع جلباب وهو كل ثوب تشتمل به المرأة فوق
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة الأحزاب الآية 59(5/229)
الدرع والخمار لستر مواضع الزينة من ثابث ومكتسب. وقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} (1) يدل على تخصيص الوجه؛ لأن الوجه عنوان المعرفة، فهو نص على وجوب ستر الوجه، وقوله تعالى: {فَلَا يُؤْذَيْنَ} (2) هذا نص على أن في معرفة محاسن المرأة إيذاء لها ولغيرها بالفتنة والشر، فلذلك حرم الله تعالى عليها أن تخرج من بدنها ما تعرف به محاسنها أيا كانت، ولو لم يكن من الأدلة الشرعية على منع كشف الوجه إلا هذا النص منه سبحانه وتعالى لكان كافيا في وجوب الحجاب وستر مفاتن المرأة، ومن جملتها وجهها، وهو أعظمها؛ لأن الوجه هو الذي تعرف به وهو الذي يجلب الفتنة.
قالت أم سلمة: (لما نزلت هذه الآية: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (3) خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها) . قال ابن عباس: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة. وقال محمد بن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن قول الله عز وجل: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (4) فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى. وأقوال المفسرين في الموضوع كثيرة لا يتسع المقام لذكرها.
ومن آيات الحجاب أيضا قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (5) فهذه الآية نص واضح في وجوب تحجب النساء عن الرجال وتسترهن منهم، وقد أوضح الله سبحانه في هذه الآية الحكمة في ذلك، وهي أن التحجب أطهر لقلوب الرجال والنساء وأبعد عن الفاحشة وأسبابها.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 59
(2) سورة الأحزاب الآية 59
(3) سورة الأحزاب الآية 59
(4) سورة الأحزاب الآية 59
(5) سورة الأحزاب الآية 53(5/230)
وهذه الآية عامة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من المؤمنات. قال القرطبي رحمه الله ويدخل في هذه الآية جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة بدنها وصوتها فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها أو داء يكون ببدنها إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب الحجاب، وقول القرطبي رحمه الله: إن صوت المرأة عورة؛ يعني إذا كان ذلك مع الخضوع، أما صوتها العادي فليس بعورة، لقول الله سبحانه: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (1) فنهاهن سبحانه عن الخضوع في القول لئلا يطمع فيهن أصحاب القلوب المريضة بالشهوة، وأذن لهن سبحانه في القول المعروف، وكان النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكلمنه ويسألنه عليه الصلاة والسلام ولم ينكر ذلك عليهن، وهكذا كان النساء في عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكلمن الصحابة ويستفتينهم فلم ينكروا ذلك عليهن، وهذا أمر معروف ولا شبهة فيه.
وأما الأدلة من السنة فمنها:
ما ثبت في الصحيحين «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بخروج النساء إلى مصلى العيد قلن: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها إلا جلباب فقال: لتلبسها أختها من جلبابها (2) » متفق عليه، فدل على أن المعتاد عند نساء الصحابة ألا تخرج المرأة إلا بجلباب، وفي الأمر بلبس الجلباب دليل على أنه لا بد من التستر والحجاب، وكذا ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس (3) » .
وقد أجمع علماء السلف على وجوب ستر المرأة المسلمة لوجهها وأنه
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 32
(2) صحيح البخاري الحج (1652) ، صحيح مسلم صلاة العيدين (890) ، سنن الترمذي الجمعة (539) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1307) ، مسند أحمد بن حنبل (5/84) ، سنن الدارمي الصلاة (1609) .
(3) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (578) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (645) ، سنن الترمذي الصلاة (153) ، سنن النسائي كتاب السهو (1362) ، سنن ابن ماجه الصلاة (669) ، مسند أحمد بن حنبل (6/37) ، موطأ مالك وقوت الصلاة (4) ، سنن الدارمي الصلاة (1216) .(5/231)
عورة يجب عليها ستره إلا من ذي محرم. قال ابن قدامة في المغنى: والمرأة إحرامها في وجهها، فإن احتاجت سدلت على وجهها، وجملته أن المرأة يحرم عليها تغطية وجهها في إحرامها كما يحرم على الرجل تغطية رأسه، إلا ما روي عن أسماء أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة، وقد روى البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين (1) » . فأما إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها فإنها تسدل الثوب فوق رأسها على وجهها، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفنا (2) » .
وإنما منعت المرأة المحرمة من البرقع والنقاب ونحوهما مما يصنع لستر الوجه خاصة ولم تمنع من الحجاب مطلقا، قال أحمد: إنما لها أن تسدل على وجهها فوق وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل. أهـ.
وقال ابن رشد في " البداية ": وأجمعوا على أن إحرام المرأة في وجهها وأن لها أن تغطي، رأسها وتستر شعرها وأن لها أن تسدل ثوبها على وجهها من فوق رأسها سدلا خفيفا تستتر به عن نظر الرجال إليها.
إلى غير ذلك من كلام العلماء. فيؤخذ من هذا ونحوه أن علماء الإسلام قد أجمعوا على كشف المرأة وجهها في الإحرام، وأجمعوا على أنه يجب عليها ستره بحضور الرجال، فحيث كان كشف الوجه في الإحرام واجبا فستره في غيره أوجب.
وكانت أسماء رضي الله عنها تستر وجهها مطلقا، وانتقاب المرأة في الإحرام، لا يجوز لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الحديث المتقدم وهو من أعظم الأدلة على أن المرأة كانت تستر وجهها في الأحوال العادية ومعنى «لا تنتقب المرأة
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1838) ، سنن الترمذي الحج (833) ، سنن النسائي مناسك الحج (2681) ، مسند أحمد بن حنبل (2/119) .
(2) سنن أبو داود المناسك (1833) ، سنن ابن ماجه المناسك (2935) ، مسند أحمد بن حنبل (6/30) .(5/232)
ولا تلبس القفازين (1) » أي لا تلبس ما فصل وقطع وخيط لأجل الوجه كالنقاب ولأجل اليدين كالقفازين، لا أن المراد أنها لا تغطي وجهها وكفيها كما توهمه البعض فإنه يجب سترهما لكن بغير النقاب والقفازين. هذا ما فسره به الفقهاء والعلماء ومنهم العلامة الصنعاني رحمه الله تعالى. وبهذا يعلم وجوب تحجب المرأة وسترها لوجهها وأنه يحرم عليها إخراج شيء من بدنها وما عليها من أنواع الزينة مطلقا إلا ما ظهر من ذلك كله في حالة الاضطرار أو عن غير قصد كما سلف بيان ذلك، وهذا التحريم جاء لدرء الفتنة. ومن قال بسواه أو دعا إليه فقد غلط وخالف الأدلة الشرعية ولا يجوز لأحد اتباع الهوى أو العادات المخالفة لشرع الله سبحانه وتعالى؛ لأن الإسلام هو دين الحق والهدى والعدالة في كل شيء، وفيه الدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والنهي عما يخالفها من مساوئ الأخلاق وسيء الأعمال. والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين لما يرضيه وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1838) ، سنن الترمذي الحج (833) ، سنن النسائي مناسك الحج (2681) ، مسند أحمد بن حنبل (2/119) .(5/233)
الاختلاط في الدراسة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقد اطلعت على ما كتبه بعض الكتاب في جريدة الجزيرة بعددها رقم 3754 وتاريخ 15\ 4 \ 1403 هـ الذي اقترح فيه اختلاط الذكور والإناث في الدراسة بالمرحلة الابتدائية. ولما يترتب على اقتراحه من عواقب وخيمة رأيت التنبيه على ذلك فأقول:
إن الاختلاط وسيلة لشر كثير وفساد كبير لا يجوز فعله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع (1) » . وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بالتفريق بينهم في المضاجع لأن قرب أحدهما من الآخر في سن العاشرة وما بعدها وسيلة لوقوع الفاحشة بسبب اختلاط البنين والبنات، ولا شك أن اجتماعهم في المرحلة الابتدائية كل يوم وسيلة لذلك كما أنه وسيلة للاختلاط فيما بعد ذلك من المراحل.
وبكل حال فاختلاط البنين والبنات في المراحل الابتدائية منكر لا يجوز فعله لما يترتب عليه من أنواع الشرور. وقد جاءت الشريعة الكاملة بوجوب سد الذرائع المفضية إلى الشرك والمعاصي وقد دل على ذلك دلائل كثيرة من الآيات والأحاديث، ولولا ما في ذلك من الإطالة لذكرت كثيرا منها. وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه " إعلام الموقعين " منها تسعة وتسعين دليلا. ونصيحتي للكاتب وغيره ألا يقترحوا ما يفتح على المسلمين أبواب شر قد أغلقت. نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق.
ويكفي العاقل ما جرى في الدول التي أباحت الاختلاط من الفساد الكبير بسبب الاختلاط. وأما ما يتعلق بالحاجة إلى معرفة الخاطب مخطوبته فقد شرع
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (495) ، مسند أحمد بن حنبل (2/187) .(5/234)
النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ما يشفي بقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب أحدكم امرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل (1) » فيشرع له أن ينظر إليها بدون خلوة قبل عقد النكاح إذا تيسر ذلك، فإن لم يتيسر بعث من يثق به من النساء للنظر إليها ثم إخباره بخلقها وخلقها. وقد درج المسلمون على هذا في القرون الماضية وما ضرهم ذلك بل حصل لهم من النظر إلى المخطوبة أو وصف الخاطبة لها ما يكفي، والنادر خلاف ذلك لا حكم له. والله المسئول أن يوفق المسلمين لما فيه صلاحهم وسعادتهم في العاجل والآجل وأن يحفظ عليهم دينهم وأن يغلق عنهم أبواب الشر ويكفيهم مكائد الأعداء إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سنن أبو داود النكاح (2082) ، مسند أحمد بن حنبل (3/334) .(5/235)
الاختلاط بين الرجال والنساء
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه ويطلع عليه من إخواني المسلمين وفقني الله وإياهم لفعل الطاعات وجنبني وإياهم البدع والمنكرات. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فمن واجب النصح والتذكير أن أنبه على أمر لا ينبغي السكوت عليه بل يجب الحذر منه والابتعاد عنه وهو الاختلاط الحاصل من بعض الجهلة في بعض الأماكن والقرى مع غير المحارم لا يرون بذلك بأسا بحجة أن هذا عادة آبائهم وأجدادهم وأن نياتهم طيبة فتجد المرأة مثلا تجلس مع أخي زوجها أو زوج أختها أو مع أبناء عمها ونحوهم من الأقارب بدون تحجب وبدون مبالاة.
ومن المعلوم أن احتجاب المرأة المسلمة عن الرجال الأجانب وتغطية وجهها أمر واجب دل على وجوبه الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح، قال الله سبحانه وتعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (1) وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (2) الآية، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) والجلباب هو الرداء فوق
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة الأحزاب الآية 53
(3) سورة الأحزاب الآية 59(5/236)
الخمار بمنزلة العباءة. قالت أم سلمة رضي الله عنها: (لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها) .
وفي هذه الآيات الكريمات دليل واضح على أن رأس المرأة وشعرها وعنقها ونحرها ووجهها مما يجب عليها ستره عن كل من ليس بمحرم لها وأن كشفه لغير المحارم حرام. ومن أدلة السنة «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج النساء إلى مصلى العيد قلن: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لتلبسها أختها من جلبابها (1) » رواه البخاري ومسلم. فهذا الحديث يدل على أن المعتاد عند نساء الصحابة ألا تخرج المرأة إلا بجلباب. فلم يأذن لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج بغير جلباب.
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر فيشهد معه نساء متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس (2) » وقالت: «لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء ما رأينا لمنعهن من المساجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها (3) » فدل هذا الحديث على أن الحجاب والتستر كان من عادة نساء الصحابة الذين هم خير القرون وأكرمها على الله عز وجل، وأعلاها أخلاقا وآدابا وأكملها إيمانا وأصلحها عملا، فهم القدوة الصالحة لغيرهم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها فإذا جاوزونا كشفناه (4) » رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ففي قولها (فإذا حاذونا) تعني (الركبان) سدلت إحدانا جلبابها على وجهها دليل على وجوب ستر الوجه؛ لأن المشروع في الإحرام كشفه فلولا وجود مانع قوي من كشفه حينئذ لوجب بقاؤه مكشوفا.
وإذا تأملنا السفور وكشف المرأة وجهها للرجال الأجانب وجدناه
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1652) ، صحيح مسلم صلاة العيدين (890) ، سنن الترمذي الجمعة (539) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1307) ، مسند أحمد بن حنبل (5/84) ، سنن الدارمي الصلاة (1609) .
(2) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (578) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (645) ، سنن الترمذي الصلاة (153) ، سنن النسائي كتاب السهو (1362) ، سنن ابن ماجه الصلاة (669) ، مسند أحمد بن حنبل (6/37) ، موطأ مالك وقوت الصلاة (4) ، سنن الدارمي الصلاة (1216) .
(3) صحيح البخاري الأذان (869) ، صحيح مسلم الصلاة (445) ، سنن أبو داود الصلاة (569) ، مسند أحمد بن حنبل (6/91) ، موطأ مالك النداء للصلاة (467) .
(4) سنن أبو داود المناسك (1833) ، مسند أحمد بن حنبل (6/30) .(5/237)
يشتمل على مفاسد كثيرة منها الفتنة التي تحصل بمظهر وجهها وهي من أكبر دواعي الشر والفساد ومنها زوال الحياء عن المرأة وافتتان الرجال بها. فبهذا يتبين أنه يحرم على المرأة أن تكشف وجهها بحضور الرجال الأجانب ويحرم عليها كشف صدرها أو نحرها أو ذراعيها أو ساقيها ونحو ذلك من جسمها بحضور الرجال الأجانب، وكذا يحرم عليها الخلوة بغير محارمها من الرجال، وكذا الاختلاط بغير المحارم من غير تستر، فإن المرأة إذا رأت نفسها مساوية للرجل في كشف الوجه والتجول سافرة لم يحصل منها حياء ولا خجل من مزاحمة الرجال، وفي ذلك فتنة كبيرة وفساد عظيم.
وقد «خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم من المسجد وقد اختلط النساء مع الرجال في الطريق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق عليكن بحافات الطريق (1) » فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى أن ثوبها ليتعلق به من لصوقها. ذكره ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (2) فيحرم على المرأة أن تكشف وجهها لغير محارمها بل يجب عليها ستره كما يحرم عليها الخلوة بهم أو الاختلاط بهم أو وضع يدها للسلام في يد غير محرمها وقد بين سبحانه وتعالى من يجوز له النظر إلى زينتها بقوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3)
أما أخ الزوج أو زوج الأخت أو أبناء العم وأبناء الخال والخالة ونحوهم
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (5272) .
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة النور الآية 31(5/238)
فليسوا من المحارم وليس لهم النظر إلى وجه المرأة ولا يجوز لها أن ترفع جلبابها عندهم لما في ذلك من افتتانهم بها فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال الحمو الموت (1) » متفق عليه. والمراد بالحمو أخ الزوج وعمه ونحوهما؛ وذلك لأنهم يدخلون البيت بدون ريبة ولكنهم ليسوا بمحارم بمجرد قرابتهم لزوجها وعلى ذلك لا يجوز لها أن تكشف لهم عن زينتها ولو كانوا صالحين موثوقا بهم؛ لأن الله حصر جواز إبداء الزينة في أناس بينهم في الآية السابقة وليس أخ الزوج ولا عمه ولا ابن عمه ونحوهم منهم، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم (2) » والمراد بذي المحرم من يحرم عليه نكاحها على التأبيد لنسب أو مصاهرة أو رضاع كالأب والابن والأخ والعم ومن يجرى مجراهم ".
وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذك لئلا يرخي لهم الشيطان عنان الغواية ويمشي بينهم بالفساد ويوسوس لهم ويزين لهم المعصية. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما (3) » . رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ومن جرت العادة في بلادهم بخلاف ذلك بحجة أن ذلك عادة أهلهم أو أهل بلدهم فعليهم أن يجاهدوا أنفسهم في إزالة هذه العادة وأن يتعاونوا في القضاء عليها والتخلص من شرها محافظة على الأعراض وتعاونا على البر والتقوى وتنفيذا لأمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى مما سلف منها وأن يجتهدوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويستمروا عليه ولا تأخذهم في نصرة الحق وإبطال الباطل لومة لائم ولا يردهم عن ذلك سخرية أو استهزاء من بعض الناس فإن الواجب على المسلم اتباع
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5232) ، صحيح مسلم السلام (2172) ، سنن الترمذي الرضاع (1171) ، مسند أحمد بن حنبل (4/149) ، سنن الدارمي الاستئذان (2642) .
(2) صحيح البخاري النكاح (5233) ، صحيح مسلم الحج (1341) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) .
(3) سنن الترمذي الفتن (2165) ، مسند أحمد بن حنبل (1/18) .(5/239)
شرع الله برضا وطواعية ورغبة فيما عند الله وخوف من عقابه، ولو خالفه في ذلك أقرب الناس وأحب الناس إليه. ولا يجوز اتباع الأهواء والعادات التي لم يشرعها الله سبحانه وتعالى؛ لأن الإسلام هو دين الحق والهدى والعدالة في كل شيء، وفيه الدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والنهي عما يخالفها.
والله المسئول أن يوفقنا وسائر المسلمين لما يرضيه وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/240)
التحذير من القمار وهو الميسر(5/240)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه. أما بعد: فقد اشتهر قيام بعض المؤسسات والمحلات التجارية بنشر إعلانات في الصحف وغيرها عن تقديم جوائز لمن يشتري من بضائعهم المعروضة، مما يغري بعض الناس على الشراء من هذا المحل دون غيره أو يشتري سلعا ليس له فيها حاجة طمعا في الحصول على إحدى هذه الجوائز التي قد يحصل عليها وقد لا يحصل.
ولما كان هذا النوع من القمار المحرم شرعا والمؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل، ولما فيه من الإغراء والتسبب في ترويج سلعته وإكساد سلع الآخرين المماثلة ممن لم يقامر مثل مقامرته- رأيت تنبيه القراء على أن هذا العمل محرم والجائزة التي تحصل من طريقة محرمة لكونها من الميسر المحرم شرعا وهو القمار. فالواجب على أصحاب التجارة الحذر من هذه المقامرة وليسعهم ما يسع الناس. وقد قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (1) {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (2)
وهذه المقامرة ليست من التجارة التي تباح بالتراضي بل هي من الميسر الذي حرمه الله لما فيه من الغرر والخداع وأكل المال بالباطل ولما فيه من إيقاع الشحناء والعداوة بين الناس كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (4)
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) سورة النساء الآية 30
(3) سورة المائدة الآية 90
(4) سورة المائدة الآية 91(5/241)
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين لما فيه رضاه وصلاح أمر عباده وأن يعيذنا جميعا من كل عمل يخالف شرعه، إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(5/242)
لقاء طلاب متوسطة الفارابي بالرياض مع سماحته بمكتبه
وإجابته على أسئلتهم (1) .
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. أما بعد: فنوصيكم بالجد في طلب العلم وحفظ الوقت عما يضر ويشغل عن طلب العلم النافع والاجتهاد في العمل بالعلم وأن تكونوا من المسارعين إلى الصلوات في الجماعة مع التخلق بالأخلاق الفاضلة والحرص على بر الوالدين والإحسان إلى أهل البيت من الإخوة والأخوات.
ومن أهم المهمات في حق طالب العلم أن يكون حسن الأخلاق طيب السيرة مهتما بدينه حريصا على المحافظة على الصلوات في الجماعة، يحفظ لسانه وجوارحه عن كل ما يخالف شرع الله سبحانه ويحرص على بذل المعروف والخير والكف عن الشر والأذى، هكذا يكون طالب العلم الصادق وهكذا يكون الشاب النجيب يتحرى الأخلاق الفاضلة والسيرة الحميدة ويتباعد عن الأخلاق الذميمة والسيرة السيئة أينما كان في البيت وفي الطريق ومع زملائه وفي كل حال.
ونوصي الأساتذة بالجد في توجيه الطلبة إلى الخير والحرص على تحضير الدروس والعناية بها وتفهيم الطلبة لها، وأن يكون الأستاذ قدوة صالحة لتلاميذه في كل خير. نسأل الله للجميع التوفيق وصلاح النية والعمل إنه خير مسئول.
__________
(1) تم اللقاء مع سماحته بمكتبه في الرئاسة بتاريخ 28\10\1410 هـ.(5/243)
أما الأسئلة فهذا جوابها:
س1: كيف يتخلص الإنسان من قسوة القلب وما هي أسبابه؟
جـ 1: أسباب قسوة القلب الذنوب والمعاصي وكثرة الغفلة وصحبة الغافلين والفساق، كل هذه الخلال من أسباب قسوة القلوب ومن لين القلوب وصفائها وطمأنينتها طاعة الله جل وعلا وصحبة الأخيار، وحفظ الوقت بالذكر وقراءة القرآن والاستغفار، ومن حفظ وقته بذكر الله وقراءة القرآن وصحبة الأخيار والبعد عن صحبة الغافلين والأشرار يطيب قلبه ويلين قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (1) .
س 2: عندما أكون في مجلس يكون فيه غيبة ولا أستطيع القيام منه، فماذا أفعل؟ .
جـ 2: تنصحهم وتقول: هذا لا يجوز
والغيبة محرمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من رد عن عرض أخيه بالغيب رد الله عن وجهه النار يوم القيامة (2) » والمؤمن لا يحضر مجالس الشر فإن كنت تستطيع إخبار جلسائك بأن هذا لا يجوز وأن الواجب تركه فافعل ذلك وأخلص لله في العمل، وإن كنت لا تستطيع فقم ولا تحضر الغيبة ولو استنكروا قيامك. وإذا سألوك فقل قمت لأجل هذا لقول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (3) .
__________
(1) سورة الرعد الآية 28
(2) سنن الترمذي البر والصلة (1931) ، مسند أحمد بن حنبل (6/449) .
(3) سورة الأنعام الآية 68(5/244)
س 3: ما حكم الأغاني بجميع أنواعها وما العقاب الذي ينتظر المستمعين والمغنين؟ .
جـ 3: الأغاني كلها محرمة ولا يجوز الاستماع لها لأنها من لهو الحديث المذكور في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (1) {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (2)
ولهو الحديث هو الغناء وما يصحبه من آلات الطرب عند أكثر أهل العلم، ولأن ذلك من أسباب مرض القلوب وقسوتها وغفلتها عن الله عز وجل والدار الآخرة ولأنها من أسباب الضلال والإضلال ومن أسباب الاستهزاء بدين الله ومن أسباب الاستكبار عن سماع القرآن والإعراض عنه كما ترشد إلى ذلك كله الآيتان المذكورتان آنفا. فهي لها نتائج خبيثة وعواقب سيئة فينبغي للمؤمن أن لا يستمعها بالكلية لا من الإذاعة ولا من غير الإذاعة ولا من الأشرطة، ولهذا يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع) .
س 4: ما معنى قوله تعالى {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} (3) وهل الورود في الآية بمعنى الدخول أو المرور على الصراط؟ .
جـ 4: الورود المرور كما بينت ذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ينجي الله المتقين ويذر الظالمين فيها جثيا. ولهذا قال سبحانه: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (4)
__________
(1) سورة لقمان الآية 6
(2) سورة لقمان الآية 7
(3) سورة مريم الآية 71
(4) سورة مريم الآية 72(5/245)
فالكفار يساقون إليها والعصاة منهم من ينجو ومنهم من يخدش ويسلم ومنهم من يسقط في النار ولكن لا يخلد فيها بل لعذابهم أمد ينتهون إليه، وإنما يخلد فيها الكفار خلودا أبديا يقول الله عز وجل في سورة البقرة في حق الكفار: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (1) وقال في سورة المائدة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة نسأل الله العافية والسلامة من حال أهل النار.
س 5: الرجاء من فضيلتكم توضيح الولاء والبراء لمن يكون وهل يجوز موالاة الكفار؟ .
جـ 5: الولاء والبراء معناه محبة المؤمنين وموالاتهم وبغض الكافرين ومعاداتهم والبراءة منهم ومن دينهم هذا هو الولاء والبراء كما قال الله سبحانه في سورة الممتحنة: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (4) الآية. وليس معنى بغضهم وعداوتهم أن تظلمهم أو تتعدى عليهم إذا لم يكونوا محاربين، وإنما معناه أن تبغضهم في قلبك وتعاديهم بقبلك ولا يكونوا أصحابا لك، لكن لا تؤذيهم ولا تضرهم ولا تظلمهم فإذا سلموا ترد عليهم السلام وتنصحهم
__________
(1) سورة البقرة الآية 167
(2) سورة المائدة الآية 36
(3) سورة المائدة الآية 37
(4) سورة الممتحنة الآية 4(5/246)
وتوجههم إلى الخير كما قال الله عز وجل: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (1) الآية. وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى وهكذا غيرهم من الكفار الذين لهم أمان أو عهد أو ذمة، لكن من ظلم منهم يجازى على ظلمه، وإلا فالمشروع للمؤمن الجدال بالتي هي أحسن مع المسلمين والكفار مع بغضهم في الله للآية الكريمة السابقة ولقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) فلا يتعدى عليهم ولا يظلمهم مع بغضهم ومعاداتهم في الله ويشرع له أن يدعوهم إلى الله ويعلمهم ويرشدهم إلى الحق لعل الله يهديهم بأسبابه إلى طريق الصواب، ولا مانع من الصدقة عليهم والإحسان إليهم لقول الله عز وجل: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (3) ولما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن تصل أمها، وهي كافرة، في حال الهدنة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة على الحديبية
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 46
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة الممتحنة الآية 8(5/247)
حادث التفجير بمكة المكرمة إجرام عظيم (1) .
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد استنكر العالم الإسلامي ما حدث في مكة المكرمة من تفجير مساء الاثنين 7 \ 12 \ 1409 هـ واعتبروه جريمة عظيمة ومنكرا شنيعا، لما فيه من ترويع لحجاح بيت الله الحرام، وزعزعة للأمن وانتهاك لحرمة البلد الحرام، وظلم لعباد الله، وقد حرم الله سبحانه البلد الحرام إلى يوم القيامة، كما حرم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم إلى يوم القيامة، وجعل انتهاك هذه الحرمات من أعظم الجرائم، وأكبر الذنوب، وتوعد من هم بشيء من ذلك في البلد الحرام بأن يذيقه العذاب الأليم، كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) فإذا كان من أراد الإلحاد في الحرم متوعدا بالعذاب الأليم وإن لم يفعل- فكيف بحال من فعل، فإن جريمته تكون أعظم، ويكون أحق بالعذاب الأليم.
وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من الظلم في أحاديث كثيرة، ومن ذلك ما بينه للأمة في حجة الوداع حين قال عليه الصلاة والسلام: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت. فقال الصحابة: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إلى الأرض ويقول: اللهم اشهد اللهم اشهد (3) » .
__________
(1) نشرت هذه الكلمة الاستنكارية لسماحته في جريدة الرياض وغيرها من الصحف المحلية في 12\12\1409 هـ.
(2) سورة الحج الآية 25
(3) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .(5/248)
وهذا الإجرام الشنيع بإيجاد متفجرات قرب بيت الله الحرام من أعظم الجرائم والكبائر، ولا يقدم عليه من يؤمن بالله واليوم الآخر، وإنما يفعله حاقد على الإسلام وأهله، وعلى حجاج بيت الله الحرام. فما أعظم خسارته، وما أكبر جريمته فنسأل الله أن يرد كيده في نحره، وأن يفضحه بين خلقه، وأن يوفق حكومة خادم الحرمين لمعرفة وإقامة حد الله عليه إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لرابطة العالم الإسلامي
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد
بالمملكة العربية السعودية.(5/249)
هذه المجلة (1)
لفضيلة نائب رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: فهذا هو العدد الأول من مجلة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، نقدمه إلى القراء الكرام راجين أن يجدوا فيه ما يفيدهم وينفعهم في أمور دينهم ودنياهم وما يزيدهم بصيرة وفقها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. كما نرجو أن تكون هذه المجلة نبراسا لحل مشاكلهم وإنارة السبيل لهم.
ولقد تأخر صدور مجلة الجامعة الإسلامية، وكان هناك بعض الآراء يقول بأنه لا ينبغي ذلك بل ينبغي أن تصدر مجلة الجامعة مع افتتاح الجامعة نفسها حتى تكون تلك المجلة لسانا ناطقا للجامعة يشرح أهدافها ومراميها ويوضح سير أمورها إلى غايتها.
إلا أن الرأي الأغلب قد استقر على أن يترك الحديث لأعمال الجامعة في مرحلة تأسيسها لا لأقوالها وأن تكون ثمرتها ملموسة لا موصوفة. وقد أوعزنا إلى المسئولين عن المجلة بأن تكون ميدانا تجري فيه أقلام المنتمين إلى الجامعة الإسلامية وغيرهم من رجال الفكر والعلم في جميع الأقطار لتكون بمثابة نقطة الالتقاء تتجمع حولها تلك الأقلام لا سيما وهي المجلة التي تصدر عن المدينة المنورة عاصمة المسلمين الأولى ومنطلق الغزاة والفاتحين والدعاة المصلحين.
وإن هذه المجلة تستهدف أن تكون ذات مستوى يتمكن من فهمه أغلبية القراء
__________
(1) نشرت بمجلة الجامعة الإسلامية. العدد الأول. السنة الأولى. ربيع الأول عام 1388 هـ.(5/250)
في البلدان الإسلامية وغيرها فهما يمكنهم من متابعة ما ينشر فيها وهضمه ولن تكون مقصورة على الصفوة من العلماء والفقهاء والباحثين قصرا يمنع سواهم من ذوي الثقافات المتوسطة أو المستويات العلمية المحدودة أن يفهموها وينتفعوا بما ينشر فيها. والشيء الذي ستتجنبه المجلة هو لغو القول، وسفاسف الأمور وكل ما في نشره ضرر للمسلمين أو خطر على وحدتهم وتضامنهم. وستكون- بإذن الله- مجلة إسلامية ثقافية لا مجلة سياسية حزبية، تلك هي خطتها وذلك هو هدفها.
إن الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة مؤسسة حديثة التكوين بالنسبة إلى عمر الجامعات والمؤسسات العلمية الكبرى فهي لم تستكمل من عمرها السابعة، ولكنها- بحمد الله- قد قطعت شوطا بل أشواطا طيبة إلى الهدف المقصود من إنشائها، فتخرج منها مئات من الطلاب الذين ينتسبون إلى عشرات من أوطان المسلمين في مختلف أنحاء العالم، وأخذوا أماكنهم في تلك الأوطان وغيرها يعلمون الناس الخير ويرشدونهم إلى الصواب.
ولن أفيض هنا بالتحدث عن هذه الجامعة فذلك له مكان آخر من المجلة. وإنما القصد هنا الإشارة إلى هدف هذه المجلة. وأسأل الله مخلصا أن يأخذ بأيدينا إلى مواقع الحق والصواب، وأن يرزقنا جميعا صادق القول وصالح العمل وأن ينصر دينه ويعلي كلمته إنه سميع قريب. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.(5/251)
أجوبة أسئلة صحيفة الدعوة حول الجامعة الإسلامية
س 1: أرجو إعطاءنا شيئا عن طلاب الجامعة الإسلامية؟ .
جـ 1: يغلب على الشباب الملتحق بالجامعة الإسلامية التحمس للدعوة الإسلامية والشعور بأن بلادهم في حاجة شديدة إلى دعاة أمناء قد فقهوا الإسلام ودرسوه من منابعه الصافية (الكتاب العزيز والسنة المطهرة) ، كما يغلب عليهم النشاط في مواصلة التعليم حتى ينهوا مراحله ليتسلحوا بسلاح أكمل لمجابهة الدعوات الهدامة والمبادئ الملحدة وإرساليات التبشير وليفقهوا أبناء بلادهم في الإسلام من منبعه الصافي وأدلته الظاهرة.
س 2: أرجوا الإفادة عن جهود الجامعة في محاربة التيارات اليهودية والنصرانية وغيرها؟ .
جـ 2: الجامعة الإسلامية تعنى بالقارة الإفريقية والطلبة الوافدين منها عناية كبيرة، كما تعنى بغيرهم من الطلبة الوافدين، من سائر الأقطار، وتعد جميع الطلبة لمجابهة ما انتشر في بلادهم من العقائد الباطلة والمذاهب الهدامة إعدادا خاصا، وتقوم بتربيتهم تربية إسلامية نقية من البدع والخرافات وتسلحهم بالسلاح المناسب لمحاربة ما ذكرتم في السؤال من الحركة اليهودية والنصرانية والقاديانية وغيرها من الحركات المخالفة للإسلام في إفريقيا وغيرها، وتزودهم بالكتب والرسائل والردود التي تفيدهم في هذا السبيل حسب الإمكان.(5/252)
س 3: يكثر أعداء الحركات الإسلامية فما الوسيلة للتصدي لهم؟ .
جـ 3: لا شك أن الحركات الإسلامية في كل مكان لها أعداء وخصوم قد تكاتفوا ضدها. وهناك تنظيم علني وسري يمدهم بأنواع الدعم والتعضيد ورسم الخطط. والذي أرى في هذا المقام هو أنه يجب على الدول الإسلامية وأثرياء المسلمين إمداد تلك الحركات الإسلامية في كل مكان بالدعاة المخلصين المعروفين بالعلم والنشاط الإسلامي والصدق والصبر وحسن العقيدة بالأموال التي تعينهم على القيام بمهمة الدعوة ونشرها والرد على خصوم الإسلام، وبالكتب والرسائل والنشرات المفيدة في هذا المقام على أن تكون بشتى اللغات على حسب الجهات التي فيها الحركات الإسلامية وأن يكون هناك مراقبون لهذه الحركات يزورونها فيما بين وقت وآخر لمعرفة نشاطها وصدقها وحاجتها ولتوجيهها إلى ما ينبغي أن تسير عليه وتسهيل العقبات التي قد تقف في طريقها ومعرفة الأشخاص أو المؤسسات التي تناصر الأعداء وتمدهم في السر أو في العلن لتحذر وتعامل بما يليق لها. ولا شك أن ما ذكرنا يحتاج إلى جهود صادقة ونفوس مؤمنة تريد الله والدار الآخرة فنسأل الله أن يهيئ للحركات الإسلامية وللمسلمين في كل مكان ما يعينهم على الحق ويبصرهم به ويثبتهم عليه إنه خير مسئول.(5/253)
س 4: ما هي أسباب انحراف كثير من الشباب عن الدين ونفورهم منه؟ .
جـ 4: لما ذكرتم من انحراف الكثير من الشباب ونفورهم من كل ما ينسب إلى الدين أسباب كثيرة: أهمها: قلة العلم وجهلهم لحقيقة الإسلام ومحاسنه. وعدم عنايتهم بالقرآن الكريم، وقلة المربين الذين لديهم العلم والقدرة على شرح حقيقة الإسلام للشباب وبيان محاسنه وإيضاح(5/253)
أهدافه وما يترتب عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالتفصيل، وهناك أسباب أخرى كالبيئة والإذاعة والتلفزيون والأسفار إلى الخارج والاختلاط بالوافدين من ذوي العقائد الباطلة والأخلاق المنحرفة والجهل المركب إلى غير ذلك من العوامل التي تنفرهم من الإسلام وترغبهم في الإلحاد والإباحية، فاجتمع في هذا المقام للكثير من الشباب خلو قلوبهم من العلوم النافعة والعقيدة الصحيحة، ووفود طوفان من الشكوك والشبهات والدعايات المضللة والشهوات المغرية فنتج عن ذلك ما ذكرتم في السؤال من الانحراف والنفور من كل ما ينسب إلى الإسلام من الكثير من الشباب وما أحسن ما قيل في هذا المعنى:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكنا.
وأبلغ من ذلك وأصدق وأحسن قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} (1) {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (2) والعلاج فيما أعتقد يتنوع بحسب تنوع الداء، فأهم ذلك العناية بالقرآن الكريم والسيرة النبوية وبالمدرس الصالح والمدير الصالح والمفتش الصالح والمنهج الصالح، وإصلاح أجهزة الإعلام في الدول الإسلامية وأن تطهر مما فيها من الدعوة إلى الإباحية والأخلاق غير الإسلامية وأنواع الإلحاد والفساد إذا كان القائمون عليها صادقين في دعوى الإسلام والرغبة في توجيه الشعوب والشباب إليه، ومن ذلك العناية بإصلاح البيئة وتطهيرها مما وقع فيها من الأوبئة.
ومن العلاج أيضا منع السفر إلى الخارج إلا لضرورة والعناية بالتوعية الإسلامية النقية الهادفة بواسطة جميع الأجهزة الإعلامية والمدرسين والدعاة والخطباء وأسأل الله أن يمن بذلك وأن يصلح قادة المسلمين ويوفقهم للفقه في دينهم والتمسك به ومحاربة ما خالفه بصدق وإخلاص وجهود متواصلة إنه سميع قريب.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 43
(2) سورة الفرقان الآية 44(5/254)
حوار عكاظ مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
س 1: نود من سماحتكم أن تبينوا لنا حكم الدعوة إلى الله عز وجل وأوجه الفضل فيها؟ .
جـ 1: أما حكمها. فقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الدعوة إلى الله عز وجل وأنها من الفرائض. والأدلة في ذلك كثيرة منها قوله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) ومنها قوله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) ومنها قوله عز وجل: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) ومنها قوله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (4) فيبين سبحانه أن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هم الدعاة إلى الله. وهم أهل البصائر والواجب كما هو معلوم هو اتباعه والسير على منهاجه عليه الصلاة والسلام كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (5)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة القصص الآية 87
(4) سورة يوسف الآية 108
(5) سورة الأحزاب الآية 21(5/255)
وصرح العلماء أن الدعوة إلى الله عز وجل فرض كفاية بالنسبة إلى الأقطار التي يقوم فيها الدعاة. فإن كل قطر وكل أقليم يحتاج إلى الدعوة وإلى النشاط فيها، فهي فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط عن الباقين ذلك الواجب وصارت الدعوة في حق الباقين سنة مؤكدة وعملا صالحا جليلا.
وإذا لم يقم أهل الإقليم أو أهل القطر المعين بالدعوة على التمام صار الإثم عاما وصار الواجب على الجميع وعلى كل إنسان أن يقوم بالدعوة حسب طاقته وإمكانه، أما بالنظر إلى عموم البلاد فالواجب أن يوجد طائفة منتصبة تقوم بالدعوة إلى الله جل وعلا في أرجاء المعمورة تبلغ رسالات الله وتبين أمر الله عز وجل بالطرق الممكنة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث الدعاة وأرسل الكتب إلى الناس وإلى الملوك والرؤساء ودعاهم إلى الله عز وجل.
س 2: واقع الدعوة الآن كيف تقيمونه؟ وما هي المحاور التي يجب التركيز عليها في ظل المستجدات الحالية والتحديات المعاصرة؟ .
جـ 2: في وقتنا الحاضر يسر الله عز وجل أمر الدعوة أكثر، بطرق لم تحصل لمن قبلنا فأمور الدعوة اليوم متيسرة أكثر وذلك بواسطة طرق كثيرة، وإقامة الحجة على الناس اليوم ممكنه بطرق متنوعة مثلا عن طريق الإذاعة وعن طريق التلفزة وعن طريق الصحافة وهناك طرق شتى، فالواجب على أهل العلم والإيمان وعلى خلفاء الرسول أن يقوموا بهذا الواجب وأن يتكاتفوا فيه وأن يبلغوا رسالات الله إلى عباد الله ولا يخشون في الله لومة لائم، ولا يحابون في ذلك كبيرا ولا صغيرا ولا غنيا ولا فقيرا بل يبلغون أمر الله إلى عباد الله كما أنزل الله وكما شرع الله، وقد يكون ذلك فرض عين إذا كنت في مكان ليس فيه من يؤدي ذلك سواك، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه يكون فرض عين(5/256)
ويكون فرض كفاية، فإذا كنت في مكان ليس فيه من يقوى على هذا الأمر ويبلغ أمر الله سواك فالواجب عليك أنت أن تقوم بذلك فأما إذا وجد من يقوم بالدعوة والتبليغ والأمر والنهي غيرك فإنه يكون حينئذ في حقك سنة وإذا بادرت إليه وحرصت عليه كنت بذلك منافسا في الخيرات وسابقا إلى الطاعات، ومما احتج به على أنها فرض كفاية قوله جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} (1) قال الحافظ ابن كثير عن هذه الآية جماع ما معناه: ولتكن منكم أمة منتصبة لهذا الأمر العظيم تدعو إلى الله وتنشر دينه وتبلغ أمره سبحانه وتعالى، ومعلوم أيضا أن الرسول عليه الصلاة والسلام دعا إلى الله وقام بأمر الله في مكة حسب طاقته وقام الصحابة كذلك رضي الله عنهم وأرضاهم بذلك حسب طاقتهم ثم لما هاجروا قاموا بالدعوة أكثر وأبلغ، ولما انتشروا في البلاد بعد وفاته عليه الصلاة والسلام قاموا بذلك أيضا رضي الله عنهم وأرضاهم. كل على قدر طاقته وعلى قدر علمه. فعند قلة الدعاة وعند كثرة المنكرات وعند غلبة الجهل كحالنا اليوم تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته وإذا كان في محل محدود كقرية ومدينة ونحو ذلك ووجد فيها من تولى هذا الأمر وقام به وبلغ أمر الله كفى وصار التبليغ في حق غيره سنة لأنه قد أقيمت الحجة على يد غيره ونفذ أمر الله على من سواه.
ولكن بالنسبة إلى بقية أرض الله وإلى بقية الناس يجب على العلماء حسب طاقاتهم وعلى ولاة الأمر حسب طاقتهم أن يبلغوا أمر الله بكل ما يستطيعون، وهذا فرض عين عليهم على حسب الطاقة والقدرة. وبهذا يعلم أن كونها فرض عين وكونها فرض كفاية أمر نسبي يختلف فقد تكون الدعوة فرض عين بالنسبة إلى أقوام وإلى أشخاص، وسنة بالنسبة إلى أشخاص وإلى أقوام؛ لأنه
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104(5/257)
وجد في محلهم وفي مكانهم من قام بالأمر وكفى عنهم. أما بالنسبة إلى ولاة الأمور ومن لهم القدرة الواسعة فعليهم من الواجب أكثر، وعليهم أن يبلغوا الدعوة إلى ما استطاعوا من الأقطار حسب الإمكان بالطرق الممكنة، وباللغات الحية التي ينطق بها الناس يجب أن يبلغوا أمر الله بتلك اللغات حتى يصل دين الله إلى كل أحد باللغة التي يعرفها، باللغة العربية وبغيرها، فإن الأمر الآن ممكن وميسور بالطرق التي تقدم بيانها، طرق الإذاعة والتلفزة والصحافة وغير ذلك من الطرق التي تيسرت اليوم، ولم تتيسر في السابق كما أنه يجب على الخطباء في الاحتفالات وفي الجمع وفي غير ذلك أن يبلغوا ما استطاعوا من أمر الله عز وجل، وأن ينشروا دين الله حسب طاقاتهم. وحسب علمهم، ونظرا إلى انتشار الدعوة إلى المبادئ الهدامة وإلى الإلحاد وإنكار رب العباد وإنكار الرسالات وإنكار الآخرة، وانتشار الدعوة النصرانية في الكثير من البلدان، وغير ذلك من الدعوات المضللة، نظرا إلى هذا فإن الدعوة إلى الله عز وجل اليوم أصبحت فرضا عاما. وواجبا على جميع العلماء وعلى جميع الحكام الذين يدينون بالإسلام. فرض عليهم أن يبلغوا دين الله حسب الطاقة والإمكان بالكتابة والخطابة، وبالإذاعة وبكل وسيلة استطاعوا وأن لا يتقاعسوا عن ذلك أو يتكلوا على زيد أو عمرو فإن الحاجة بل الضرورة ماسة اليوم إلى التعاون والاشتراك والتكاتف في هذا الأمر العظيم أكثر مما كان قبل ذلك؛ لأن أعداء الله قد تكاتفوا وتعاونوا بكل وسيلة، للصد عن سبيل الله والتشكيك في دينه، ودعوة الناس إلى ما يخرجهم من دين الله عز وجل، فوجب على أهل الإسلام أن يقابلوا هذا النشاط الملحد بنشاط إسلامي وبدعوة إسلامية على شتى المستويات، وبجميع الوسائل وبجميع الطرق الممكنة، وهذا من باب أداء ما أوجب الله على عباده من الدعوة إلى سبيله.(5/258)
س 3: وكيف تستطيع المجتمعات الإسلامية أن تحارب الغزو الثقافي الغربي والشرقي الذي تواجهه في وقتنا الحاضر؟ .
جـ 3: مما لا شك فيه أن أخطر ما تواجهه المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر هو ما يسمى بالغزو الثقافي بأسلحته المتنوعة من كتب وإذاعات وصحف ومجلات وغير ذلك من الأسلحة الأخرى ذلك أن الاستعمار في العصر الحديث قد غير من أساليبه القديمة لما أدركه من فشلها وعدم فعاليتها ومحاربة الشعوب واستماتتها في الدفاع عن دينها وأوطانها ومقدراتها وتراثها، حيث إن الأخذ بالقوة وعن طريق العنف والإرهاب مما تأباه الطباع وتنفر منه النفوس لا سيما في الأوقات الحاضرة بعد أن انتشر الوعي بين الناس واتصل الناس بعضهم ببعض وأصبحت هناك هيئات كثيرة تدافع عن حقوق الشعوب وترفض الاستعمار عن طريق القوة وتطالب بحق تقرير المصير لكل شعب وأن لأهل كل قطر حقهم الطبيعي في سيادتهم على أرضهم واستثمار مواردهم وتسيير دفة الحكم في أوطانهم حسب ميولهم ورغباتهم في الحياة وحسب ما تدين به تلك الشعوب من معتقدات ومذاهب وأساليب مختلفة للحكم مما اضطر معه إلى الخروج عن هذه الأقطار بعد قتال عنيف وصدامات مسلحة وحروب كثيرة دامية. ولكن الاستعمار قبل أن يخرج من هذه الأقطار فكر في عدة وسائل واتخذ كثيرا من المخططات بعد دراسة واعية وتفكير طويل وتصور كامل لأبعاد هذه المخططات ومدى فعاليتها وتأثيرها والطرق التي ينبغي أن تتخذ للوصول إلى الغاية التي يريد وأهدافه تتلخص في إيجاد مناهج دراسية على صلة ضعيفة بالدين. مبالغة في الدهاء والمكر والتلبيس ركز فيها على خدمة أهدافه ونشر ثقافته وترسيخ الاعجاب بما حققه في(5/259)
مجال الصناعات المختلفة والمكاسب المادية في نفوس أغلب الناس حتى إذا ما تشربت بها قلوبهم وأعجبوا بمظاهر بريقها ولمعانها وعظيم ما حققته وأنجزته من المكاسب الدنيوية والاختراعات العجيبة. لا سيما في صفوف الطلاب والمتعلمين الذين لا يزالون في سن المراهقة والشباب.
اختارت جماعة منهم ممن انطلى عليهم سحر هذه الحضارة لإكمال تعليمهم في الخارج في الجامعات الأوروبية والأمريكية وغيرها حيث يواجهون هناك بسلسلة من الشبهات والشهوات على أيدي المستشرقين والملحدين بشكل منظم وخطط مدروسة، وأساليب ملتوية في غاية المكر والدهاء، وحيث يواجهون الحياة الغربية بما فيها من تفسخ وتبذل وخلاعة وتفكك ومجون وإباحية. وهذه الأسلحة وما يصاحبها من إغراء وتشجيع، وعدم وازع من دين أو سلطة، قل من ينجو من شباكها ويسلم من شرورها وهؤلاء بعد إكمال دراستهم وعودتهم إلى بلادهم ممن يطمئن إليهم المستعمر بعد رحيله ويضع الأمانة الخسيسة في أيديهم لينفذوها بكل دقة. بل بوسائل وأساليب أشد عنفا وقسوة من تلك التي سلكها المستعمر، كما وقع ذلك فعلا في كثير من البلاد التي ابتليت بالاستعمار أو كانت على صلة وثيقة به. أما الطريق إلى السلامة من هذا الخطر والبعد عن مساوئه وأضراره فيتلخص في إنشاء الجامعات والكليات والمعاهد المختلفة بكافة اختصاصاتها للحد من الابتعاث إلى الخارج، وتدريس العلوم بكافة أنواعها مع العناية بالمواد الدينية والثقافية الإسلامية في جميع الجامعات والكليات والمعاهد حرصا على سلامة عقيدة الطلبة، وصيانة أخلاقهم وخوفا على مستقبلهم، وحتى يساهموا في بناء مجتمعهم على نور من تعاليم الشريعة الإسلامية وحسب حاجات ومتطلبات هذه الأمة المسلمة، والواجب التضييق من نطاق الابتعاث إلى الخارج وحصره في علوم معينة لا تتوافر في الداخل.(5/260)
س 4: كيف ترون سماحتكم الدواء الناجع للعالم الإسلامي للخروج به من الدوامة التي يوجد فيها في الوقت الحاضر؟
جـ 4: إن الخروج بالعالم الإسلامي من الدوامة التي هو فيها من مختلف المذاهب والتيارات العقائدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، إنما يتحقق بالتزامهم بالإسلام، وتحكيمهم شريعة الله في كل شيء، وبذلك تلتئم الصفوف وتتوحد القلوب.
وهذا هو الدواء الناجع للعالم الإسلامي، بل للعالم كله، مما هو فيه من اضطراب واختلاف وقلق وفساد وإفساد كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) وقال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (2) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (3) وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (4) الآية. وقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (5) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ولكن ما دام أن القادة إلا من شاء الله منهم يطلبون الهدى والتوجيه من غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويحكمون غير شريعته، ويتحاكمون إلى ما وضعه أعداؤهم لهم، فإنهم لن يجدوا طريقا للخروج مما
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة الحج الآية 40
(3) سورة الحج الآية 41
(4) سورة النور الآية 55
(5) سورة آل عمران الآية 103(5/261)
هم فيه من التخلف والتناحر فيما بينهم، واحتقار أعدائهم لهم، وعدم إعطائهم حقوقهم {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1)
فنسأل الله أن يجمعهم على الهدى، وأن يصلح قلوبهم وأعمالهم، وأن يمن عليهم بتحكيم شريعته والثبات عليها، وترك ما خالفها، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
س 5: كيف ترون سماحتكم المدخل لكي يتجنب الشباب الوقوع تحت وطأة مغريات هذا العصر ويتجه الوجهة الصحيحة؟
جـ 5: إن الطريق الأمثل ليسلك الشباب الطريق الصحيح في التفقه في دينه والدعوة إليه هو أن يستقيم على المنهج القويم بالتفقه في الدين ودراسته، وأن يعنى بالقرآن الكريم والسنة المطهرة وأنصحه بصحبة الأخيار والزملاء الطيبين من العلماء المعروفين بالاستقامة حتى يستفيد منهم ومن أخلاقهم.
كما أنصحه بالمبادرة بالزواج، وأن يحرص على الزوجة الصالحة لقوله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (2) » .
س 6: هل تعتقدون سماحتكم أن تقبل المجتمع للدعوة الآن أفضل من السابق بمعنى أنه لا يوجد اليوم ما يسمى؛ حائط الاصطدام بين الدعوة والمجتمع؟ .
جـ 6: الناس اليوم في أشد الحاجة للدعوة. وعندهم قبول لها بسبب كثرة الدعاة إلى الباطل وبسبب انهيار المذهب الشيوعي وبسبب هذه
__________
(1) سورة آل عمران الآية 117
(2) صحيح البخاري النكاح (5066) ، صحيح مسلم النكاح (1400) ، سنن الترمذي النكاح (1081) ، سنن النسائي الصيام (2240) ، سنن أبو داود النكاح (2046) ، سنن ابن ماجه النكاح (1845) ، مسند أحمد بن حنبل (1/378) ، سنن الدارمي النكاح (2166) .(5/262)
الصحوة العظيمة بين المسلمين. فالناس الآن في إقبال على الدخول في الإسلام والتفقه في الإسلام حسب ما بلغنا في سائر الأقطار.
ونصيحتي للعلماء والقائمين بالدعوة أن ينتهزوا هذه الفرصة وأن يبذلوا ما في وسعهم في الدعوة إلى الله وتعليم الناس ما خلقوا له من عبادة الله وطاعته مشافهة وكتابة وغير ذلك بما يستطيعه العالم من خطب الجمعة والخطب الأخرى في الاجتماعات المناسبة، وعن طريق التأليف، وعن طريق وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، فالعالم أو الداعي إلى الله جل وعلا ينبغي له أن ينتهز الفرصة في تبليغ الدعوة بكل وسيلة شرعية، وهي كثيرة والحمد لله فلا ينبغي التقاعس عن البلاغ والدعوة والتعليم، والناس الآن متقبلون لما يقال لهم من خير وشر فينبغي لأهل العلم بالله ورسوله أن ينتهزوا الفرصة ويوجهوا الناس للخير والهدى على أساس متين من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يحرص كل واحد من الدعاة على أن يكون قد عرف ما يدعو إليه عن طريق الكتاب والسنة، وقد فقه في ذلك حتى لا يدعو على جهل، بل يجب أن تكون دعوته على بصيرة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (1) فمن أهم الشروط أن يكون العالم أو الداعي إلى الله على بصيرة فيما يدعوا إليه، وفيما يحذر منه، والواجب الحذر من التساهل في ذلك؛ لأن الإنسان قد يتساهل في هذا ويدعو إلى باطل أو ينهي عن حق، فالواجب التثبت في الأمور وأن تكون الدعوة على علم وهدى وبصيرة في جميع الأحوال.
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(5/263)
س 7: البعض يرى أن الدعوة لا بد أن تكون في المساجد فقط. . . فما رأيكم؟ وما هي المجالات والأبواب التي يمكن للداعية أن يطرقها؟ .
جـ 7: الدعوة لا تختص بالمساجد فقط، فهناك مجالات وطرق أخرى. والمساجد لا شك أنها فرصة للدعوة كخطب الجمعة والخطب الأخرى والمواعظ في أوقات الصلوات، وفي حلقات العلم فهي أساس انتشار العلم والدين، ولكن المسجد لا يختص وحده بالدعوة، فالداعي إلى الله يدعو إليه في غير المساجد في الاجتماعات المناسبة أو الاجتماعات العارضة. فينتهزها المؤمن ويدعو إلى الله، وعن طريق وسائل الإعلام المختلفة، وعن طريق التأليف كل ذلك من بين طرق الدعوة.
والحكيم الذي ينتهز الفرصة في كل وقت وكل مكان، فإذا جمعه الله في جماعة في أي مكان وأي زمان وتمكن من الدعوة بذل ما يستطيع للدعوة إلى الله بالحكمة والكلام الطيب والأسلوب الحسن.
س 8: من واقع خبرتكم الطويلة في هذا المجال. . ما هو الأسلوب الأمثل للدعوة؟
جـ 8: الأسلوب- مثل ما بينه الله عز وجل- واضح في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، يقول سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1)
ويقول تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2) ويقول عز وجل في قصة موسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (3) فالداعي إلى الله
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) سورة طه الآية 44(5/264)
يتحرى الأسلوب الحسن والحكمة في ذلك وهي العلم بما قاله الله وورد في الحديث النبوي الشريف، ثم الموعظة الحسنة والكلمات الطيبة التي تحرك القلوب وتذكرها بالآخرة والموت، وبالجنة والنار حتى تقبل القلوب الدعوة وتقبل عليها وتصغي إلى ما يقوله الداعي.
وكذلك إذا كان هناك شبهة يتقدم بها المدعو عالجها بالتي هي أحسن وأزالها لا بالشدة والعنف ولكن بالتي هي أحسن. فيذكر الشبهة ويزيحها بالأدلة، ولا يمل ولا يضعف ولا يغضب غضبا ينفر الداعي بل يتحرى الأسلوب المناسب والبيان المناسب والأدلة المناسبة، ويتحمل ما قد يثير غضبه لعله يؤدي موعظته بطمأنينة ورفق لعل الله يسهل قبولها من المدعو.
س 9: كيف تفسرون إحجام بعض الدعاة عن التعاون مع وسائل الإعلام. . وكيف يمكن تجاوز تلك الفجوة وإيجاد قناة مفتوحة بين الدعاة ووسائل الإعلام؟
جـ 9: لا شك أن بعض أهل العلم قد يتساهل في هذا الأمر إما لمشاغل دنيوية تشغله، وإما لضعف في العلم، وإما أمراض تمنعه أو أشياء أخرى يراها وقد أخطأ فيها؛ كأن يرى أنه ليس أهلا لذلك أو يرى أن غيره قد قام بالواجب وكفاه إلى غير هذا من الأعذار ونصيحتي لطالب العلم أن لا يتقاعس عن الدعوة ويقول هذا لغيري، بل يدعو إلى الله على حسب طاقته وعلى حسب علمه ولا يدخل نفسه في ما لا يتسطيع، بل يدعو إلى الله حسب ما لديه من علم، ويجتهد في أن يقول بالأدلة وألا يقول على الله بغير علم ولا يحقر نفسه ما دام عنده علم وفقه في الدين.
فالواجب عليه أن يشارك في الخير من جميع الطرق في وسائل الإعلام وفي غيرها، ولا يقول هذا لغيري؛ فإن كل الناس إن تواكلوا بمعنى كل واحد يقول هذه لغيري تعطلت الدعوة وقل الداعون إلى(5/265)
الله وبقي الجهلة على جهلهم وبقيت الشرور على حالها، وهذا غلط عظيم، بل يجب على أهل العلم أن يشاركوا في الدعوة إلى الله أينما كانوا في المجتمعات الأرضية، والجوية، وفي القطارات والسيارات، وفي المراكب البحرية، فكلما حصلت فرصة انتهزها طالب العلم في الدعوة والتوجيه، فكلما شارك في الدعوة فهو على خير عظيم قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1)
فالله سبحانه يقول: ليس هناك قول أحسن من هذا، والاستفهام هنا للنفي؛ أي لا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى الله، وهذه فائدة عظيمة ومنقبة كبيرة للدعاة إلى الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (2) » وقال عليه الصلاة والسلام: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا (3) » .
وقال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه لما بعثه إلى خيبر: «ووالله لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (4) » فلا ينبغي للعالم أن يزهد في هذا الخير أو يتقاعس عنه احتجاجا بأن فلانا قد قام بهذا، بل يجب على أهل العلم أن يشاركوا وأن يبذلوا وسعهم في الدعوة إلى الله أينما كانوا، والعالم كله بحاجة إلى الدعوة مسلمه وكافره، فالمسلم يزداد علما والكافر لعل الله يهديه فيدخل في الإسلام.
س 10: بعض الدعاة يحتجب عن المشاركة في وسائل الإعلام بسبب رفضه لسياسة الصحيفة أو المجلة التي تعتمد على الإثارة في تسويق أعدادها. . . فمما رأي سماحتكم؟ .
جـ 10: الواجب على أصحاب الصحف أن يتقوا الله وأن يحذروا ما يضر الناس سواء كانت الصحف يومية أو أسبوعية أو شهرية، وهكذا المؤلفون
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(3) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(4) صحيح البخاري المغازي (4210) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .(5/266)
يجب أن يتقوا الله في مؤلفاتهم، فلا يكتبوا ولا ينشروا بين الناس إلا ما ينفعهم ويدعوهم إلى الخير ويحذرهم عن الشر، أما نشر صور النساء على الغلاف أو في داخل المجلات أو الصحف فهذا منكر عظيم وشر كبير يدعو إلى الفساد والباطل، وهكذا نشر الدعوات العلمانية المضللة أو التي تدعوا إلى بعض المعاصي كالزنا أو السفور أو التبرج أو تدعو إلى الخمر أو تدعو إلى ما حرم الله، فكل هذا منكر عظيم، ويجب على أصحاب الصحف أن يحذروا ذلك ومتى كتبوا هذه الأشياء كان عليهم مثل آثام من تأثر بها، فعلى صاحن الصحيفة الذي نشر هذا المقال السيئ سواء كان رئيس التحرير أو من أمره بذلك عليهم مثل آثام من ضل بهذه الأشياء وتأثر بها، كما أن من نشر الخير ودعا إليه يكون له مثل أجور من تأثر بذلك.
ومن هذا المنطلق يجب على وسائل الإعلام التي يتولاها المسلمون أن ينزهوها عن ما حرم الله، وأن يحذروا البث الذي يضر المجتمع حيث يجب أن تكون هذه الوسائل مركزة على ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم وأن يحذروا أن تكون عوامل هدم وأسباب إفساد لما يبث فيها، وكل واحد من المسئولين الإعلاميين مسئول عن هذا الشيء على حسب قدرته. ويجب على الدعاة أن يطرقوا هذا المجال فيما يكتبون وفيما ينشرون ويحذروا من ما حرم الله عز وجل، وهذا واجبهم في خطبهم وفي اجتماعاتهم مع الناس، فكل المجالس مجالس دعوة أينما كان فهو في دعوة سواء في بيته أو في زياراته لإخوانه، أو في مجتمعه مع أي أحد، فالواجب عليه أن يستغل هذه الوسائل- وسائل الإعلام- وينشر فيها الخير ولا يحتجب عنها.(5/267)
س 11: ختاما- كيف ترون سماحتكم الداعية الناجح، وما هي المواصفات التي يجب أن تتوفر فيه ويكون من شأنها زيادة فعالية الدعوة والتأثير على المدعوين؟
جـ 11: الداعية الناجح هو الذي يعتني بالدليل ويصبر على الأذى ويبذل وسعه(5/267)
في الدعوة إلى الله مهما تنوعت الإغراءات ومهما تلوع من التعب، ولا يضعف من أذى أصابه أو من أجل كلمات يسمعها، بل يجب أن يصبر ويبذل وسعه في الدعوة من جميع الوسائل ولكن مع العناية بالدليل والأسلوب الحسن حتى تكون الدعوة على أساس متين يرضاه الله ورسوله والمؤمنون، وليحذر من التساهل حتى لا يقول على الله بغير علم، فيجب أن تكون لديه العناية الكاملة بالأدلة الشرعية وأن يتحمل في سبيل ذلك المشقة في كونه يدعو إلى الله عن طريق وسائل الإعلام أو عن طريق التعليم، فهذا هو الداعية الناجح والمستحق للثناء الجميل ومنازل عالية عند الله إذا كان ذلك عن إخلاص منه لله.(5/268)
ينبغي للشباب ألا يتركوا مجالات الإعلام للجهلة
والمنحرفين عن الحق (1)
__________
(1) لقاء مع سماحة الشيخ أجرته مجلة المجتمع الكويتية بتاريخ 17\7\1410 هـ.(5/268)
س 1: فضيلة الشيخ: ما هو تقييمكم لمستوى الإفتاء في العالم الإسلامي؟ هل هو بخير أم لكم وجهة نظر فيه؟
جـ 1: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا شك أن المسلمين في كل مكان في أشد الحاجة إلى الإفتاء بما يدل عليه كتاب الله الكريم وسنة نبيه الأمين عليه أفضل الصلوات والتسليم، وهم في أشد الحاجة للفتاوى الشرعية المستنبطة من كتاب الله وسنة نبيه. .
وإن من الواجب على أهل العلم في كل مكان في العالم الإسلامي، وفي كل مكان يقطنه مسلمون الاهتمام بهذا الواجب، والحرص على توضيح أحكام الله وسنة رسوله التي جاء بها للعباد في مسائل التوحيد والإخلاص لله، وبيان ما وقع فيه أكثر الناس من الشرك، وما وقع فيه كثير منهم من الإلحاد، والبدع المضلة، حتى يكون المسلمون على بصيرة، وحتى يعلم غيرهم حقيقة ما بعث الله به نبيه من الهدى ودين الحق.
والعلماء ورثة الأنبياء، فالواجب عليهم عظيم في بيان شرع الله لعباده، وبيان الأحكام والأدلة الشرعية من الكتاب والسنة لا بالآراء المجردة. كما أن على(5/269)
العلماء أن يبينوا محاسن الإسلام، وما دعا إليه من مكارم الأخلاق؛ حتى يدخل في الإسلام من عرفه، ويشتاق إليه من سمع ما فيه من الخير والأعمال الصالحات، وهذا كله سيعود بالخير على البلاد والعباد.
وإن من أحسن ما حبانا الله به في هذه البلاد برنامجا مفيدا تتولاه جماعة من العلماء المسلمين الذين يجيبون عن كثير من الأسئلة التي يسألها المسلمون من الداخل والخارج، ولهذا أنصح بسماعه والاستفادة منه، وأنصح لجميع العلماء بأن يعنوا بمراجعة الكتب الإسلامية المعروفة حتى يستفيدوا منها، وكتب السنة مثل: " الصحيحين وبقية الكتب الستة، ومسند الإمام أحمد، وموطأ الإمام مالك وغيرها من كتب الحديث المعتمدة وكتب التفسير المعتمدة كتفسير ابن جرير وابن كثير والبغوي ونحوهم من أهل السنة "، كما أوصي بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وغيرها من كتب علماء السنة، كما أوصي إخواني قبل ذلك كله بقراءة كتاب الله وتدبره فهو أصدق كتاب وأشرف كتاب، كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) وأوصيهم أيضا بسنة النبي؛ لما فيها من الهدى والعلم، وقد صح عن الرسول قوله: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » . راجيا من الله أن يوفق العلماء في كل مكان لما فيه إظهار الحق وتبيان أحكام الدين.
س 2: ما رأيكم في المقولة التي تقول: إن أمور العصر تعقدت وأصبحت متشابكة؛ لذلك لا بد أن تخرج الفتوى من فريق متكامل يضم كافة المختصين بجوانب المشكلة أو الحالة ومن بينهم الفقيه؟
جـ 2: إن الفتوى ينبغي أن تتركز على الأدلة الشرعية، وإذا صدرت الفتوى عن جماعة كانت أكمل وأفضل للوصول إلى الحق، لكن هذا لا يمنع
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سنن الترمذي العلم (2645) ، مسند أحمد بن حنبل (1/306) ، سنن الدارمي المقدمة (225) .(5/270)
العالم أن يفتي بما يعلمه من الشرع المطهر.
س 3: يقوم الإنتاج الإعلامي الحالي بتوجيه هذا الجيل كيفما يريد المنتجون. . فما يقدمه التلفزيون والإذاعة من تمثيليات ومسرحيات وبرامج مختلفة إنما يعمل على تكريس قيم وأفكار، ومبادئ يريدها صانعو هذه المصنفات الفنية، فإن تركنا إنتاج هذه المصنفات لغيرنا أفسدوا أبناءنا، وبناتنا، وإن وجهنا أبناءنا وبناتنا لفهم ودراسة هذه الفنون من أجل صياغتها صياغة إسلامية، خافوا على أنفسهم من الوقوع في الخطأ. . فبم تنصحون؟
جـ 3: إن على المسئولين في الدول الإسلامية أن يتقوا الله في المسلمين، وأن يولوا هذه الأمور لعلماء الخير والهدى والحق، كما أن على علمائنا أن لا يمتنعوا من إيضاح الحقائق بالوسائل الإعلامية، وألا يدعوا هذه الوسائل للجهلة والمتهمين وأهل الإلحاد، بل يتولاها أهل الصلاح والإيمان والبصيرة، وأن يوجهوها على الطريقة الإسلامية؛ حتى لا يكون فيها ما يضر المسلمين شيبا أو شبانا، رجالا أو نساء، كما وأن على العلماء أن يقدموا للناس إجابات وافية حول ما يبثه التلفاز ريثما يتولاها الصالحون، وإن على الدول الإسلامية أن تولي الصالحين؛ حتى يبثوا الخير، ويزرعوا الفضائل، نسأل الله للجميع التوفيق.
س 4: هل معنى ذلك أنك تنصح أبناءنا المسلمين بدراسة هذه المجالات حتى يحتلوا الأماكن التي يغزوها هؤلاء المفسدون؟
جـ 4: نعم، ينبغي للعلماء ألا يتركوا هذه الأمور للجهلة، وأن يتولوا بث الخير والفضيلة في كافة المجالات، ولكن هناك مسألة التمثيل، فأنا لا أنصح بممارسة التمثيل، وإنما على العلماء أن يبينوا للناس أحكام الله ورسوله(5/271)
أما أن يتقمص المرء شخصية فلان واسم فلان فيقول: أنا عمر أو أنا عثمان أو نحو ذلك فهذا كذب لا يجوز فعله.
س5: كان كعب بن زهير رضي الله عنه يقف أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: (بانت سعاد فقلبي اليوم متبول. .) وهو لم ير سعاد، ولم يحدث له أي شيء مما يذكره في القصيدة عن سعاد مما اعتبر ذلك كذبا، والتمثيل ضرب من هذه الضروب فما رأيك؟
جـ 5: هذا ليس تقمصا للشخصية، إنما التقمص كقول أحدهم: أنا أبو بكر أنا عمر أنا عائشة فقد كذب، والله أعلم.(5/272)
س 6: هل تعتبر قيام جماعات إسلامية في البلدان الإسلامية لاحتضان الشباب وتربيتهم على الإسلام من إيجابيات هذا العصر؟
جـ 6: وجود هذه الجماعات الإسلامية فيه خير للمسلمين، ولكن عليها أن تجتهد في إيضاح الحق مع دليله، وأن لا تتنافر مع بعضها، وأن تجتهد بالتعاون فيما بينها، وأن تحب إحداهما الأخرى، وتنصح لها وتنشر محاسنها، وتحرص على ترك ما يشوش بينها وبين غيرها، ولا مانع أن تكون هناك جماعات إذا كانت تدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(5/272)
س 7: بم تنصح الشباب داخل هذه الجماعات؟
جـ 7: أن يترسموا طريق الحق ويطلبوه، وأن يسألوا أهل العلم فيما أشكل عليهم، وأن يتعاونوا مع الجماعات فيما ينفع المسلمين بالأدلة الشرعية، لا بالعنف ولا بالسخرية، ولكن بالكلمة الطيبة والأسلوب الحسن، وأن يكون السلف الصالح قدوتهم، والحق دليلهم، وأن يهتموا بالعقيدة الصحيحة التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم.(5/272)
س 8: هل الأولوية في الدعوة الإسلامية للعمل الخيري كبناء المساجد، وإغاثة المنكوبين أم لدعوة الحكومات لتطبيق الشريعة الإسلامية ومحاربة كافة أشكال الفساد؟
جـ 8: الواجب على العلماء البداءة بما بدأ فيه الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما يتعلق بالمجامع الكافرة والبلدان غير الإسلامية، وذلك بالدعوة إلى توحيد الله، وترك عبادة ما سواه، والإيمان به وبأسمائه وصفاته، وإثباتها له على الوجه اللائق به عز وجل، مع الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم ومحبته واتباعه، كما أن عليهم دعوة المسلمين في كل مكان إلى التمسك بشريعة الله، والاستقامة عليها، ونصح ولاة الأمور، ومساعدة المحتاجين ومواساتهم.
كما أن على العلماء أن يستمروا في الدعوة إلى الله، والحرص على الأعمال الخيرية، وزيارة ولاة الأمور وتشجيعهم على الأعمال الحسنة، وحثهم على تحكيم الشريعة وإلزام الشعوب بها، عملا بقول الله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) وقوله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
س 9: يتحمس بعض الشباب أكثر مما ينبغي وينحو إلى التطرف فما هي نصيحتكم له؟
جـ 9: يجب على الشباب وغيرهم الحذر من العنف والتطرف والغلو؛ لقول
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) سورة المائدة الآية 50(5/273)
الله سبحانه وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (1) وقوله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2) الآية، وقوله عز وجل لموسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (3) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون قالها ثلاثا (4) » ، رواه مسلم في صحيحه، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (5) » رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن بإسناد حسن.
فلهذا أوصي جميع الدعاة بأن لا يقعوا في الإسراف والغلو، وإنما عليهم التوسط. . وهو السير على نهج الله وعلى حكم كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
س 10: اليوم نعيش ظاهرة سياسية كبيرة هزت العالم وهي انتفاضة الشعب الفلسطيني ضد اليهود فهل لكم كلمة توجهونها إلى الشباب المسلم في فلسطين المحتلة؟
جـ 10: أنصحهم بتقوى الله، والتعاون على الخير، والاستقامة في العمل، فالله ينصر من ينصره، فقد قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (6) وقال سبحانه في مكان آخر من كتابه الكريم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (7)
__________
(1) سورة النساء الآية 171
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) سورة طه الآية 44
(4) صحيح مسلم العلم (2670) ، سنن أبو داود السنة (4608) ، مسند أحمد بن حنبل (1/386) .
(5) سنن ابن ماجه المناسك (3029) ، مسند أحمد بن حنبل (1/215) .
(6) سورة محمد الآية 7
(7) سورة النور الآية 55(5/274)
إنني أنصح كل إخواني بالتعاون معهم، وأنصح الأغنياء وولاة الأمور بأن يمدوا يد العون لإخوانهم في فلسطين المجاهدة؛ لاسترداد بلادهم والنصر على الأعداء إن شاء الله.
أيدهم الله بالحق وجزاهم عن المسلمين كل خير، وما عليهم إلا أن يصبروا ويصابروا فإن وعد الله حق، وإن الله ناصر من ينصره، وفقهم الله ونصرهم على عدوهم، ووفق المسلمين لمساعدتهم والوقوف بصفهم حتى ينصرهم الله على عدوهم، وهو سبحانه خير الناصرين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(5/275)
حكم سؤال السحرة والمشعوذين (1)
س: الأخ ص. ع. ب من الرياض يقول في سؤاله: يوجد في بعض جهات اليمن أناس يسمون (السادة) وهؤلاء يأتون بأشياء منافية للدين مثل الشعوذة وغيرها، ويدعون أنهم يقدرون على شفاء الناس من الأمراض المستعصية، ويرهنون على ذلك بطعن أنفسهم بالخناجر أو قطع ألسنتهم، ثم إعادتها دون ضرر يلحق بهم، وهؤلاء منهم من يصلي، ومنهم من لا يصلي. وكذلك يحلون لأنفسهم الزواج من غير فصيلتهم، ولا يحلون لأحد الزواج من فصيلتهم وعند دعائهم للمرضى يقولون: (يا الله يا فلان) أحد أجدادهم.
وفي القديم كان الناس يكبرونهم ويعتبرونهم أناسا غير عاديين، وأنهم مقربون إلى الله، بل يسمونهم رجال الله، والآن انقسم الناس فيهم: فمنهم من يعارضهم، وهم فئة الشباب وبعض المتعلمين، ومنهم من لا يزال متمسكا بهم، وهم كبار السن وغير المتعلمين. نرجو من فضيلتكم بيان الحقيقة في هذا الموضوع؟
جـ: هؤلاء وأشباههم من جملة المتصوفة الذين لهم أعمال منكرة وتصرفات باطلة، وهم أيضا من جملة العرافين الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما (2) » وذلك بدعواهم علم الغيب وخدمتهم للجن، وعبادتهم إياهم، وتلبيسهم على الناس بما يفعلون من أنواع السحر الذي قال الله فيه في قصة موسى
__________
(1) هذه الأسئلة والأجوبة من برنامج نور على الدرب.
(2) صحيح مسلم السلام (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (4/68) .(5/276)
وفرعون {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (1) فلا يجوز إتيانهم ولا سؤالهم لهذا الحديث الشريف، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (2) » ، وفي لفظ آخر: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (3) » .
وأما دعاؤهم غير الله واستغاثتهم بغير الله، أو زعمهم أن أباءهم وأسلافهم يتصرفون في الكون، أو يشفون المرضى، أو يجيبون الدعاء مع موتهم أو غيبتهم، فهذا كله من الكفر بالله - عز وجل - ومن الشرك الأكبر، فالواجب الإنكار عليهم، وعدم إتيانهم، وعدم سؤالهم، وعدم تصديقهم؛ لأنهم قد جمعوا في هذه الأعمال بين عمل الكهنة والعرافين وبين عمل المشركين عباد غير الله، والمستغيثين بغير الله، والمستعينين بغير الله من الجن والأموات وغيرهم ممن ينتسبون إليهم، ويزعمون أنهم آباؤهم وأسلافهم، أو من أناس آخرون يزعمون أن لهم ولاية أو لهم كرامة، بل كل هذا من أعمال الشعوذة، ومن أعمال الكهانة والعرافة المنكرة في الشرع المطهر.
وأما ما يقع منهم من التصرفات المنكرة من طعنهم أنفسهم بالخناجر أو قطعهم ألسنتهم، فكل هذا تمويه على الناس، وكله من أنواع السحر المحرم الذي جاءت النصوص من الكتاب والسنة بتحريمه والتحذير منه كما تقدم، فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بذلك، وهذا من جنس ما قاله الله - سبحانه وتعالى - عن سحرة فرعون: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (4)
فهؤلاء قد جمعوا بين السحر وبين الشعوذة والكهانة والعرافة وبين الشرك الأكبر، والاستعانة بغير الله والاستغاثة بغير الله وبين دعوى علم الغيب والتصرف في علم الكون،
__________
(1) سورة الأعراف الآية 116
(2) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/476) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .
(3) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/476) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .
(4) سورة طه الآية 66(5/277)
وهذه أنواع كثيرة من الشرك الأكبر والكفر البواح، ومن أعمال الشعوذة التي حرمها الله - عز وجل - ومن دعوى علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله كما قال سبحانه: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (1)
فالواجب على جميع المسلمين العارفين بحالهم الإنكار عليهم، وبيان سوء تصرفاتهم، وأنها منكرة، ورفع أمرهم إلى ولاة الأمور إذا كانوا في بلاد إسلامية حتى يعاقبوهم بما يستحقون شرعا؛ حسما لشرهم، وحماية للمسلمين من أباطيلهم وتلبيسهم.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة النمل الآية 65(5/278)
ذبح الأبقار لغرض الاستسقاء
س: يقوم بعض الناس في منطقتنا قبل أن تنتشر الدعوة من جديد بعد حكم آل سعود بأخذ الأبقار، ويدورون بها حول الجبال وحول الأودية، وبعد ذلك يذبحون واحدة منها وهم بذلك يريدون الاستسقاء، فهل هذا جائز أم لا؟ .
جـ: هذا العمل لا أصل له في الشرع المطهر، وهو بدعة منكرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك، وإنما السنة عند الجدب ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من الاستغاثة في خطبة الجمعة أو غيرها؛ كخطبة العيد أو الخروج للصحراء، أو أداء صلاة الاستسقاء أو سؤال الله والضراعة إليه بطلب الغوث، كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ويجب على المسلمين التوبة إلى الله سبحانه من جميع الذنوب؛ لأن الذنوب سبب كل شر في الدنيا والآخرة، والتوبة إلى الله سبحانه والاستقامة على الحق سبب كل خير في الدنيا والآخرة.
ويشرع للمسلمين أن يواسوا الفقراء ويتصدقوا عليهم؛ لأن الصدقة يدفع الله بها البلاء، ولأنها رحمة وإحسان، والله يرحم من عباده الرحماء، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء (1) » ، وقال الله عز وجل: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (2)
__________
(1) سنن الترمذي البر والصلة (1924) ، سنن أبو داود الأدب (4941) .
(2) سورة الأعراف الآية 56(5/279)
وقال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سورة النور الآية 31(5/280)
حكم المجاملة
س: في بعض الظروف تقتضي المجاملة بأن لا نقول الحقيقة، فهل يعتبر هذا نوعا من الكذب؟ (1)
جـ: هذا فيه تفصيل، فإن كانت المجاملة يترتب عليها جحد حق أو إثبات باطل لم تجز هذه المجاملة. أما إن كانت المجاملة لا يترتب عليها شيء من الباطل، إنما هي كلمات طيبة فيها إجمال، ولا تتضمن شهادة بغير حق لأحد ولا إسقاط حق لأحد، فلا أعلم حرجا في ذلك.
__________
(1) من أسئلة نور على الدرب. .(5/280)
تعليم الأصم والأبكم
س: إذا كان لدي أخ أصم وأبكم فهو لا يسمع ولا يتكلم كما هو معلوم، وطبعا لا يعرف شيئا عن الصلاة ولا الصوم ولا الزكاة، ولا يعرف شيئا عن أحكام الإسلام، ولا يعرف شيئا من القرآن. كيف يكون التوجيه والحالة هذه؟
جـ: هذا لا بد أن يفعل معه ما يعلم به عقله بالإشارة إذا كان بصيرا. وينبغي أن يعلم الصلاة بالفعل؛ فيصلي عنده وليه أو غيره، ويشار له أن يفعل هذا الفعل، مع بيان الأوقات بالطريقة التي يفهمها، أو بتعليمه الصلاة كل وقت بالفعل بعد أن يعلم أنه عاقل، ويكتب له إن كان يعرف الكتابة حقيقة العقيدة الإسلامية، وأركان الإسلام مع بيان معنى الشهادتين. وهكذا بقية أحكام الشرع توضح له كتابة.
ومن ذلك أحكام الصلاة من الوضوء والغسل ومن الجنابة، وبيان الأوقات، وأركان الصلاة وواجباتها وما يشرع فيها، وبيان السنن الراتبة، وسنة الضحى والوتر إلى غير ذلك مما يحتاجه المكلف لعله يستفيد من الكتابة.
ومتى علم عقله بأي وسيلة، ثبت أنه من المكلفين إذا بلغ الحلم بإحدى علاماته المعلومة، ولزمته أحكام المكلفين حسب علمه وقدرته. أما إن ظهر من حاله أنه لا يعقل فلا حرج عليه، لأنه غير مكلف، كما جاء في الحديث الصحيح: «رفع القلم عن ثلاثة: الصغير حتى يبلغ، والمعتوه حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ (1) » .
__________
(1) سنن الترمذي الحدود (1423) ، سنن أبو داود الحدود (4399) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2042) ، مسند أحمد بن حنبل (1/116) .(5/281)
الإحساس بالمعاصي
س: شاب يقول: إنني في السابعة عشرة أؤدي ولله الحمد ما افترضه الله على عباده من أركان الإسلام وواجباته، وأجاهد نفسي على أن أجعلها في أتم صورة إلا أن في نفسي شعورا أحس من خلاله أنني ارتكب معصية موبقة، وأيضا توقعني في عذاب الله وسخطه، وقد ارتكبتها من حيث لا أشعر، وأحس أنني مثل عبد النبي صلى الله عليه وسلم الذي أصابه سهم من الكفار يوم خيبر فقال المسلمون: هنيئا له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلا، والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها من المغانم يوم خيبر لم تصبها القسمة، لتشتعل عليه نارا (1) » . خلاصة الأمر أني في معصية ولا أعرفها. أرجو إجابتي نحو هذا الشعور، هل هو دليل خير وتقوى أم دليل على غير ذلك؟ أرجو التعليق على هذا.
جـ: هذا من الدلائل على شدة خوفك من الله سبحانه، وتعظيم حرماته، فأنت على خير إن شاء الله، وعليك أن تبتعد عن هذا الخوف الذي لا وجه له؛ لأنه من الشيطان ليتعبك ويغلقك ويضيق عليك حياتك، فاعرف أنه من عدو الله لما رأى منك المحبة للخير والغيرة لله والمبادرة للخيرات، أراد أن يتعبك فاعصه وابتعد عما أراده منك، واطمئن إلى ربك، واعلم أن التوبة كافية وإن كان الذنب أعظم من كل عظيم، فتوبة الله فوق ذلك، وليس هناك ذنب أعظم من الشرك، والمشرك متى تاب تاب الله عليه وغفر له سبحانه، فأنت عليك بالتوبة مما قد علمت أنك فعلته من المعصية، وبعد التوبة ينتهي كل شيء كما قال الله سبحانه:
__________
(1) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6707) ، صحيح مسلم الإيمان (115) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3827) ، سنن أبو داود الجهاد (2711) ، موطأ مالك الجهاد (997) .(5/282)
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (1) الآية، وقال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) فعلق سبحانه في هاتين الآيتين المغفرة والفلاح بالتوبة، فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (3)
أجمع العلماء - رحمهم الله - على أن هذه الآية نزلت في التائبين، فالواجب عليك التوبة إلى الله سبحانه من جميع ما تعلم من المعاصي وما لا تعلم، وذلك بالندم على ما مضى منها، والإقلاع منها والعزم الصادق ألا تعود إليها رغبة فيما عند الله، وتعظيما له، وطلبا لمرضاته، وحذرا من عقابه، وأبشر بالخير والعاقبة الحميدة التي وعد الله بها التائبين، واذكر قول الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (4)
وهناك آية أعظم في المعنى وهي أن العبد متى تاب وأتبع التوبة بالإيمان والعمل الصالح أبدل الله سيئاته حسنات كما قال تعالى في سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (5) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (6) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (7) فأخبر سبحانه وتعالى بأنه يبدل سيئاتهم حسنات بسبب توبتهم الصادقة، وإيمانهم وعملهم الصالح، فأنت في ذكرك ذنبك الذي أشرت إليه وتوبتك منه ومتابعة ما جرى منك بالأعمال
__________
(1) سورة الأنفال الآية 38
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة الزمر الآية 53
(4) سورة طه الآية 82
(5) سورة الفرقان الآية 68
(6) سورة الفرقان الآية 69
(7) سورة الفرقان الآية 70(5/283)
الصالحة والإيمان والتصديق والرغبة فيما عند الله - سبحانه وتعالى - يبدلك بدل السيئة حسنة. وهكذا جميع السيئات التي يتوب منها العبد ويتبعها بالإيمان والعمل الصالح، يبدلها الله له حسنات فضلا منه وإحسانا، ولله الحمد والشكر على ذلك.(5/284)
طاسة السم
س: يوجد عند بعض الناس في وادي قدير إناء مصنوع من النحاس، ويسمونه (طاسة السم) ، وعندما يمرض إنسان فإنه يذهب إلى من توجد عنده هذه الطاسة، ويملؤها بالماء ويشرب ذلك الماء معتقدا أنه يوجد به الشفاء، ولا سيما إذا كان المرض في المعدة. وقد لاحظت وجود صورة محفروة على الإناء وهي للعقرب والحصان والقط والغزال والحمير-" أجلكم الله "- والحية والثعلب والفيل والأسد، وللرجال وبعض صور أخرى لا أعرفها وهي جميعها منقوشة نقشا على هذا الإناء. كما توجد أسماء وكتابات مثل " الشهيد " وهكذا. ويستمر في سرد الوصف لتلك الطاسة، ويرجو توجيه الناس حول هذا الأمر؟؟
جـ: هذه الطاسة التي أشار إليها السائل طاسة منكرة، وفيها منكرات عظيمة، وهي الصور التي ذكرها السائل، ولا نعلم أن أي طاسة من حديد أو نحاس أو ذهب أو فضة أو غير ذلك يحصل بها شفاء أمراض المعدة أو غيرها، وإنما هي دعوى يدعيها صاحب الطاسة كذبا وزورا، أو يكون له اتصال بفسقة الجن وكفارهم ليستعين بهم في هذه الشعوذة بواسطة هذه الطاسة، ويزعم بها أنه يعالج بها حتى يأخذ أموال الناس(5/284)
بالباطل، ويغرهم بأنه يعالجهم بهذه الطاسة، فالواجب أن تصادر هذه الطاسة بواسطة ولاة الأمر في البلد، وتتلف مع تأديب صاحبها حتى لا يعود إلى مثل هذا العمل، وهذا هو الواجب على المسئولين في البلد: الأمير والقاضي والهيئة، ويجب على من علم هذه الشعوذة أن يرفع الأمر إلى المحكمة والهيئة والإمارة حتى يقوموا بما يجب في هذا الموضوع، ولا يجوز السكوت عن صاحب هذه الطاسة؛ لأن عمله منكر لا وجه له من الشرع، وعليك أيها السائل أن تقوم بهذا الأمر أنت وإخوانك العارفون بهذا الأمر حتى تخلصوا بلدكم من هذا المنكر، وحتى يقضى على هذه المفسدة وهذا الشر بأسبابكم إن شاء الله.(5/285)
حكم الإقامة على القبر
س: يوجد في بلدتنا رجل صالح متوفى قد بني له مقام على قبره، وله عادة عندنا في كل عام، نذهب مع الناس إليه رجالا ونساء ويقيمون عنده ثلاثة أيام بالمدح والتهاليل والأذكار، ويستمر بالأوصاف المعروفة، فنرجو التوجيه والإرشاد.
جـ: هذا العمل لا يجوز، وهو من البدع التي أحدثها الناس، فلا يجوز أن يقام على قبر أحد بناء سواء سمي مقاما أو قبة أو مسجدا أو غير ذلك، وكانت القبور في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة في البقيع وغيره مكشوفة ليس عليها بناء، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبر أو يجصص وقال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » متفق على صحته. وقال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه (2) » رواه الإمام مسلم في صحيحه.
فالبناء على القبور وتجصيصها ووضع
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (529) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .(5/285)
الزينات عليها أو الستور كله منكر ووسيلة إلى الشرك، فلا يجوز وضع القباب أو الستور أو المساجد عليها، وهكذا زيارتها على الوجه الذي ذكره السائل من الجلوس عندها، والتهاليل وأكل الطعام، والتمسح بالقبر، والدعاء عند القبر، والصلاة عنده كل هذا منكر، وكله بدعة لا يجوز إنما المشروع زيارة القبور للذكرى، والدعاء للموتى والترحم عليهم ثم ينصرف.
والمشروع للزائر للقبور أن يقول: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين) وما أشبه ذلك من الدعوات فقط. هذا هو المشروع الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم.
وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبور المدينة فقال: «السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر (1) » ، وأما الإقامة عند القبر للأكل والشرب أو للتهاليل أو للصلاة أو قراءة القرآن فكل هذا منكر لا أصل له في الشرع المطهر. وأما دعاء الميت والاستغاثة به وطلب المدد منه فكل ذلك من الشرك الأكبر، وهو من عمل عباد الأوثان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من اللات والعزى ومناة وغيرها من أصنام الجاهلية وأوثانها.
فيجب الحذر من ذلك وتحذير العامة منه وتبصيرهم في دينهم حتى يسلموا من هذا الشرك الوخيم، وهذا هو واجب العلماء الذين من الله عليهم بالفقه في الدين ومعرفة ما بعث الله به المرسلين، كما قال الله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) وقال
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (1053) .
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة النحل الآية 36(5/286)
عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) وقال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
«ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال له: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (3) » ، وفي رواية للبخاري رحمه الله: «فادعهم إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن أجابوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب (4) » متفق على صحته. فأمره أن يبدأهم بالدعوة إلى التوحيد والسلامة من الشرك مع الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم والشهادة له بالرسالة.
فعلم بذلك أن الدعوة إلى إصلاح العقيدة وسلامتها مقدمة على بقية الأحكام؛ لأن العقيدة هي الأساس الذي تبنى عليه الأحكام، كما قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (5) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (6) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على أهل العلم في كل مكان وزمان مضاعفة الجهود في ذلك
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) صحيح البخاري المغازي (4347) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(4) صحيح البخاري الزكاة (1395) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(5) سورة الأنعام الآية 88
(6) سورة الزمر الآية 65(5/287)
حتى يبصروا العامة بحقيقة الإسلام، ويبينوا لهم العقيدة الصحيحة التي بعث الله بها الرسل عليهم الصلاة والسلام وعلى رأسهم إمامهم وخاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم. وفق الله علماء المسلمين وعامتهم لكل ما فيه رضاه إنه خير مسئول.(5/288)
الدعاء عند الخوف والخجل
س: سائل عمره ثمانية عشر سنة يشعر بالخوف والخجل ولا يستطيع مجالسة الناس، ويرجو التوجيه. وهل هناك أدعية تؤثر على هذه الحالة التي تنتابه ويعاني منها كثيرا كما يقول؟
جـ: هذا من الشيطان، فينبغي أن يتعوذ بالله من الشيطان، وأن يستشعر أنه رجل مع الرجال، وأنه لا وجه لهذا الخوف وهذا الخجل، فهو رجل يجلس مع الرجال ويمشي مع الرجال، ويتكلم ويصلي معهم، فلا وجه لهذا الوجل وهذا الخوف. ولكن مما يستعان به في ذلك أن يتعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثلاث مرات صباحا ومساء، وأن يقول: (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) ثلاث مرات صباحا ومساء، فإن هذا من أسباب عافيته من كل شر، كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن العلاج قراءته آية الكرسي بعد كل صلاة وقراءة الآيتين من آخر سورة البقرة كل ليلة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} (1) إلى آخر السورة وقراءته {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) والمعوذتين بعد كل صلاة مكتوبة؛ مرة بعد الظهر والعصر والعشاء، وثلاث مرات بعد المغرب والفجر، كل ذلك من أسباب السلامة وإزالة المخاوف.
__________
(1) سورة البقرة الآية 285
(2) سورة الإخلاص الآية 1(5/289)
حكم حلق العارضين والذقن
س: ما حكم حلق العارضين وترك الذقن؟
جـ: اللحية عند أئمة اللغة هي ما نبت على الخدين والذقن. فلا يجوز للمسلم أن يأخذ شعر الخدين بل يجب توفير ذلك مع الذقن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين (1) » متفق عليه، وقوله عليه الصلاة والسلام: «قصوا الشوارب ووفروا اللحى خالفوا المشركين (2) » رواه البخاري في الصحيح. وقال ابن عمر رضي الله عنه إن الرسول عليه الصلاة والسلام «أمرنا بإحفاء الشوارب وإرخاء اللحى (3) » متفق على صحته، وروى مسلم في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس (4) » .
فيجب على المؤمنين توفير اللحية وقص الشارب كما أمر بذلك نبينا وإمامنا محمد عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك خير عظيم وإحياء للسنة مع التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم وامتثال أمره، وفي ذلك ترك مشابهة المشركين والبعد عن مشابهة النساء، والواجب على المؤمن أن لا يغتر بكثرة الحالقين، وألا يتأسى بهم لكونهم قد خالفوا الشرع المطهر وخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله هاديا ومبشرا ونذيرا الذي قال فيه جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (5) وقال فيه سبحانه:
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .
(3) صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، موطأ مالك الجامع (1764) .
(4) صحيح مسلم الطهارة (260) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .
(5) سورة الحشر الآية 7(5/290)
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) وقال فيه عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (3) في آيات كثيرات يحث فيها سبحانه على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحذر فيها من معصية الله سبحانه ومعصية رسوله. والله الموفق.
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) سورة النساء الآية 13
(3) سورة النساء الآية 14(5/291)
مضايقة دعاة الباطل لأهل العلم والخير
س: إن مما تفضلتم به وأعتقد أن كثيرا من الإخوة يشاركونني في هذا الفهم أن الذي يجب أن يمنع صاحب الباطل لا الدعاة إلى الحق فلا يمنعون أن يستفيد الناس منهم في مجال الدعوة.
جـ: لا شك أن الواجب هو منع الدعاة إلى الباطل، وهم الذين يضايقون أهل العلم والخير، وربما جر ذلك إلى منعهم من المساجد بأسباب دعاة الباطل فيمنع غيرهم بأسبابهم، فإذا منع أهل الباطل استقام الطريق واتسع المجال لدعاة الحق.
فالواجب على ولاة الأمور أن يأخذوا على يد أهل الباطل، وأن يمنعوهم من نشر باطلهم بكل وسيلة من الوسائل الشرعية، سواء كان صاحب الباطل شيوعيا أو وثنيا أو نصرانيا أو مبتدعا أو جاهلا بأحكام الشرع المطهر، فعلى ولاة الأمور من أهل الإسلام أن يمنعوا من ذكرنا من أصحاب الباطل من أن ينشروا باطلهم، وعليهم أن يعينوا دعاة الحق الذين يدعون الناس إلى كتاب ربهم وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ويبصرونهم بما أوجبه الله عليهم، وما حرم عليهم عن علم وبصيرة، ويوضحون لهم حق الله وحق عباده وحق ولاة الأمور، وحق كل مسلم على أخيه، هؤلاء هم الذين يعانون، ومن حاد عن الطريق ودعا إلى غير الشرع فهو الذي يمنع أينما كان أ. هـ.(5/292)
التحرج من التصوير في وسائل الإعلام
س: دعوتم إلى الاستفادة من وسائل الإعلام في مجال الدعوة والتوجيه، ومنها تلك التي فيها التصوير، لكن بعض الدعاة إلى الله لا يزالون يتحرجون من تلكم الصورة. ماذا تقولون في ذلك؟
جـ: لا شك أن استغلال وسائل الإعلام في الدعوة إلى الحق ونشر أحكام(5/292)
الشريعة وبيان الشرك ووسائله والتحذير من ذلك ومن سائر ما نهى الله عنه من أعظم المهمات، بل من أوجب الواجبات، وهي من نعم الله العظيمة في حق من استغلها في الخير، وفي حق من استفاد منها ما ينقصه في دينه ويبصره بحق الله عليه.
ولا شك أن البروز في التلفاز مما قد يتحرج منه بعض أهل العلم من أجل ما ورد من الأحاديث الصحيحة في التشديد في التصوير ولعن المصورين.
ولكن بعض أهل العلم رأى أنه لا حرج في ذلك إذا كان البروز فيه للدعوة إلى الحق، ونشر أحكام الإسلام، والرد على دعاة الباطل عملا بالقاعدة الشرعية وهي: ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت كبراهما إذا لم يتيسر السلامة منهما جميعا، وتحصيل أعلى المصلحتين ولو بتفويت الدنيا منهما إذا لم يتيسر تحصيلهما جميعا.
وهكذا يقال في المفاسد الكثيرة والمصالح الكثيرة. . يجب على ولاة الأمور وعلى العلماء إذا لم تتيسر السلامة من المفاسد كلها أن يجتهدوا في السلامة من أخطرها وأكبرها إثما. وهكذا المصالح يجب عليهم أن يحققوا ما أمكن منها الكبرى، فالكبرى إذا لم يتيسر تحصيلها كلها ولذلك أمثلة كثيرة وأدلة متنوعة من الكتاب والسنة منها قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) ومنها الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: «لولا أن قومك حديثوا عهد بكفر لهدمت الكعبة وأقمتها على قواعد إبراهيم (2) » الحديث متفق عليه.
وبهذا يعلم أن الكلام في الظهور في التلفاز للدعوة إلى الله سبحانه ونشر
__________
(1) سورة الأنعام الآية 108
(2) صحيح البخاري كتاب الحج (1583) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1333) ، سنن النسائي مناسك الحج (2900) ، موطأ مالك الحج (813) .(5/293)
الحق يختلف بحسب ما أعطى الله للناس من العلم والإدراك والبصيرة والنظر في العواقب. فمن شرح الله صدره واتسع علمه ورأى أن يظهر في التلفاز لنشر الحق وتبليغ رسالات الله فلا حرج عليه في ذلك، وله أجره وثوابه عند الله سبحانه، ومن اشتبه عليه الأمر ولم ينشرح صدره لذلك فنرجوا أن يكون معذورا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب (2) » . . . الحديث، ولا شك أن ظهور أهل الحق في التلفاز من أعظم الأسباب في نشر دين الله، والرد على أهل الباطل؛ لأنه يشاهده غالب الناس من الرجال والنساء والمسلمين والكفار، ويطمئن أهل الحق إذا رأوا صورة من يعرفونه بالحق، وينتفعون بما يصدر منه، وفي ذلك أيضا محاربة لأهل الباطل وتضييق المجال عليهم، وقد قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (3) وقال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (4) وقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (5) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (6) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئا (7) » . أخرجهما مسلم في صحيحه،
وقال صلى الله عليه وسلم لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما بعثه إلى اليهود في خيبر: «ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (8) » متفق على صحته.
__________
(1) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/228) ، سنن الدارمي البيوع (2533) .
(3) سورة العنكبوت الآية 69
(4) سورة النحل الآية 125
(5) سورة فصلت الآية 33
(6) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(7) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(8) صحيح البخاري المناقب (3701) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .(5/294)
وهذه الآيات والأحاديث الصحيحة كلها تعم الدعوة إلى الله سبحانه من طريق وسائل الإعلام المعاصرة، ومن جميع الطرق الأخرى كالخطابة والتأليف والرسائل والمكالمات الهاتفية، وغير ذلك من أنواع التبليغ لمن أصلح الله نيته ورزقه العلم النافع والعمل به. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (1) » متفق على صحته. وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم (2) » أخرجه مسلم في الصحيح.
وأسأل الله - عز وجل - أن يوفق علماء المسلمين وولاة أمرهم لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد إنه ولي ذلك والقادر عليه.
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) .(5/295)
توضيح عن العقيدة الصحيحة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ع- ز. وفقه الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بعده:
وصلت رسالتك التي تستوضح فيها عن العقيدة الصحيحة. وأفيدك بأن العقيدة الصحيحة قد اشتمل عليها كتاب الله الكريم وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم. فأوصيك بالإكثار من قراءة القرآن الكريم، وحفظ ما تيسر منه مع حفظ ما تيسر من الأحاديث الصحيحة كالأربعين النووية وتكملتها لابن رجب، وكعمدة الحديث للحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي، والإكثار من قراءة الصحيحين، أو ما تيسر من ذلك مع الإخوة الطيبين.
ونوصيك بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية كالعقيدة الواسطية والحموية والتدمرية، فقد أوضح فيها رحمه الله عقيدة أهل السنة والرد على خصومهم. كما نوصيك بحفظ كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وكشف الشبهات له أيضا وهما كتابان عظيما الفائدة.
ونوصيك أيضا بالضراعة إلى الله وكثرة سؤاله أن يهديك صراطه المستقيم، وأن يمنحك الفقه في الدين، وأن يعيذك من نزغات الشيطان ودعاة الباطل.
وأوصيك أيضا بالإكثار من سؤال الله - عز وجل - أن يشرح صدرك للخير، وأن يعينك على الاستكثار من قراءة كتابه الكريم، وحفظ ما تيسر منه مع حفظ ما تيسر من السنة فهو القائل سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) ونوصيك
__________
(1) سورة غافر الآية 60(5/296)
بالاستقامة على طاعة الله، والحذر من معاصي الله، ونذكرك بما روي عن الشافعي - رحمه الله - قال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصي
أصلح الله لنا ولك النية والعمل إنه خير مسئول.
ونوصيك بالالتحاق بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة فهي جامعة سلفية تعلم طلابها عقيدة أهل السنة والجماعة. يسر الله أمرك ووفقنا وإياك للعلم النافع والعمل به إنه سميع مجيب الدعاء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/297)
أسئلة وأجوبة تتعلق بالعقيدة
س 1: إننا نسكن في صحراء والناس كلهم بدو وهناك النساء يلبسن ثيابا تغطي العورة ولكنها قصيرة، وبعض الأحيان ضيقة فبم تنصحون هؤلاء؟ .
جـ 1: لا شك أن الواجب على النساء التستر والبعد عن التبرج وإظهار المحاسن لقول الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (1) قال علماء التفسير: معنى التبرج: إظهار المحاسن والمفاتن. فالواجب على المرأة أن تكون متسترة متحجبة إذا كانت بحضور رجل أو أكثر من غير محارمها، وبعيدة عن الفتنة كما قال عز وجل في سورة الأحزاب أيضا: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (2) الآية. فأطهر لقلوب الرجال وقلوب النساء التستر والتحجب من جهة النساء، وعدم التبرج حتى لا تفتن ولا تفتن.
وقال عز وجل: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} (3) إلخ الآية من سورة النور. وقال تعالى في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (4)
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) سورة الأحزاب الآية 53
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة الأحزاب الآية 59(5/298)
والجلباب: لباس تضعه المرأة فوق رأسها وعلى جميع بدنها فوق ثيابها العادية لمزيد الستر والبعد عن الفتنة. هكذا ينبغي للمرأة سواء كانت بدوية أو حضرية، الواجب عليها أن تتمسك بحكم الإسلام، وأن تجتهد في ستر عورتها، وأن تكون ثيابها وسطا؛ لا ضيقة تبين حجم العورة، ولا واسعة تبين العورة، ولكن وسط بين ذلك مع ستر الرأس والوجه واليدين عند وجود رجل أجنبي، وإن كان ابن عمها أو ابن خالها أو زوج أختها أو أخا زوجها، وهكذا في صلاتها تستر جميع بدنها ما عدا الوجه، فالسنة كشفه في الصلاة إذا لم يكن حولها رجل ليس من محارمها.
أما الكفان فإن كشفتهما فلا بأس، وإن غطتهما فهو أفضل. وأما القدمان فيجب سترهما في الصلاة عند جمهور أهل العلم ولا يجوز كشفهما، ويكون سترهما بإرخاء القميص أو لبس الجوربين ونحوهما حين أداء الصلاة.(5/299)
س 2: إن كثيرا من الرجال والنساء يستمعون الغناء، فما حكم ذلك، نرجوا النصيحة؟ .
جـ 2: نصيحتي لجميع الرجال والنساء عدم استماع الأغاني، فالأغاني خطرها عظيم. وقد ابتلي الناس بها في الإذاعات وفي التلفاز وفي أشياء كثيرة كالأشرطة، وهذا من البلاء. فالواجب على أهل الإسلام من الرجال والنساء أن يحذروا شرها، وأن يعتاضوا عنها بسماع ما ينفعهم من كلام الله - عز وجل - ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كلام أهل العلم الموثوقين في أحاديثهم الدينية، وندواتهم ومقالاتهم كل ذلك ينفعهم في الدنيا والآخرة.
أما الأغاني فشرها عظيم، وربما سبب للمؤمن انحرافا في(5/299)
أخلاقه لقول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (1) {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (2)
وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى تفسير لهو الحديث بالغناء، وإذا كان معه آلات اللهو كالمزمار والعود ونحوهما صار الإثم أكبر؛ لعظم ما يحصل بذلك من الفساد في القلوب والأخلاق، وقد يجر ذلك إلى الضلال والإضلال، والاستهزاء بالدين، والاستكبار عن سماع القرآن والعياذ بالله من ذلك، كما نبهت الآيات المذكورات على ذلك.
وقد يفضي بأهله إلى النفاق؛ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع. س 3: في الحديث: «استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه (3) » . . . إلخ الحديث، والرجاء توضيح معنى الحديث مع توضيح معنى: أعوج ما في الضلع أعلاه.
جـ 3: هذا حديث صحيح رواه الشيخان في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فاستوصوا بالنساء خيرا (4) » انتهى.
هذا أمر للأزواج والآباء والإخوة وغيرهم أن يستوصوا بالنساء خيرا، وأن يحسنوا إليهن وألا يظلموهن، وأن يعطوهن حقوقهن ويوجهوهن إلى الخير،
__________
(1) سورة لقمان الآية 6
(2) سورة لقمان الآية 7
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3331) ، صحيح مسلم الرضاع (1468) ، سنن الدارمي النكاح (2222) .
(4) صحيح البخاري النكاح (5186) ، صحيح مسلم الرضاع (1468) ، سنن الترمذي الطلاق (1188) ، سنن الدارمي النكاح (2222) .(5/300)
وهذا هو الواجب على الجميع؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «استوصوا بالنساء خيرا (1) » ، وينبغي ألا يمنع من ذلك كونها قد تسيء في بعض الأحيان إلى زوجها وأقاربها بلسانها أو فعلها؛ لأنهن خلقن من ضلع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه. ومعلوم أن أعلاه مما يلي منبت الضلع، فإن الضلع يكون فيه اعوجاج، هذا معروف.
فالمعنى أنه لا بد أن يكون في خلقها شيء من العوج والنقص، ولهذا ورد في الحديث الآخر في الصحيحين: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن (2) » والمقصود أن هذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ثابت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ومعنى نقص العقل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أن شهادة المرأتين تعدل شهادة رجل واحد، وأما نقص الدين فهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أنها تمكث الأيام والليالي لا تصلي؛ يعني من أجل الحيض، وهكذا النفاس، وهذا نقص كتبه الله عليها ليس عليها فيه إثم.
فينبغي لها أن تعترف بذلك على الوجه الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم ولو كانت ذات علم وتقى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وإنما ذلك منه وحي يوحيه الله إليه فيبلغه الأمة كما قال عز وجل: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (3) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (4) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (5) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (6) .
س4: الحشرات التي توجد في البيت مثل النمل والصراصير وما أشبه ذلك، هل يجوز قتلها بالماء أو بالحرق أو ماذا أفعل؟
جـ4: هذه الحشرات إذا حصل منها الأذى جاز قتلها، لكن بغير التحريق، بل بأنواع المبيدات الأخرى؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خمس من الدواب كلهن فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والفأرة والعقرب
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3331) ، صحيح مسلم الرضاع (1468) ، سنن الدارمي النكاح (2222) .
(2) صحيح البخاري الحيض (304) ، صحيح مسلم الإيمان (80) .
(3) سورة النجم الآية 1
(4) سورة النجم الآية 2
(5) سورة النجم الآية 3
(6) سورة النجم الآية 4(5/301)
والكلب العقور (1) » ، وفي لفظ «والحية (2) » .
فهذه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أذاها وأنها فواسق يعني مؤذية وأذن في قتلها، وهكذا ما أشبهها من الحشرات يقتلن في الحل والحرم إذا وجد منها الأذى كالنمل والصراصير والبعوض ونحوها مما يؤذي.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1829) ، صحيح مسلم الحج (1198) ، سنن الترمذي الحج (837) ، سنن النسائي مناسك الحج (2887) ، مسند أحمد بن حنبل (6/87) ، سنن الدارمي المناسك (1817) .
(2) صحيح مسلم الحج (1198) ، سنن النسائي مناسك الحج (2882) ، سنن ابن ماجه المناسك (3087) ، مسند أحمد بن حنبل (6/259) .(5/302)
حكم المصارحة بعدم قبول الدعاء
س عندما لا يتحقق لي أي شيء أغضب وأقول أقوالا في حق نفسي وفي حق الله، مثلا أقول: لماذا يا رب لا تستجيب لي الدعاء، وأقوال أخرى. أرجو توجيهي حول هذا، وإذا شعر الإنسان أن دعاءه لم يستجب فماذا عليه؟
عليك أيها السائل، وعلى كل مسلم ومسلمة، إذا تأخرت الإجابة أن ترجع إلى نفسك، وأن تحاسبها، فإن الله حكيم عليم، قد يؤخر الإجابة لحكمة بالغة ليكثر دعاء العبد لخالقه، وانكساره إليه، وذله لعظمته، وإلحاحه في طلب حاجته، وكثرة تضرعه إليه، وخشوعه بين يديه، ليحصل له بهذا من الخير العظيم، والفوائد الكثيرة، وصلاح القلب، والإقبال على ربه، ما هو أعظم من حاجته، وأنفع له منها.
وقد يؤجلها سبحانه وتعالى لأسباب أخرى، منها ما أنت متلبس به من المعاصي كأكل الحرام وعقوق الوالدين، وغير ذلك من أنواع المعاصي. فيجب على الداعي أن يحاسب نفسه، وأن يبادر إلى التوبة رجاء أن يتقبل الله توبته، ويجيب دعوته.
وقد يؤجلها لحكم أخرى هو أعلم بها سبحانه، كما في الحديث الصحيح: «ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما أن تعجل له دعوته في الدنيا، وإما أن تدخر له في(5/303)
الآخرة، وإما أن يصرف عنه من الشر مثل ذلك. قالوا يا رسول الله إذا نكثر؟ قال: الله أكثر (1) » .
فإذا تأجلت الحاجة فلا تلم ربك، ولا تقل: لماذا ... لماذا يارب، بل عليك أن ترجع إلى نفسك، وتحاسبها فإن ربك حكيم عليم.
فارجع إلى نفسك وانظر فلعل عندك شيئا من الذنوب والمعاصي، كانت هي السبب في تأخير الإجابة، ولعل هناك أمرا آخر، تأخرت الإجابة من أجله، يكون خيرا لك.
فلا يجوز أن تتهم ربك بما لا يليق به سبحانه، ولكن عليك أن تتهم نفسك، وتنظر في أعمالك وسيرتك، حتى تصلح من شأنك، وحتى تستقيم على أمر ربك فتنتهي عن نواهيه، وتقف عند حدوده.
وينبغي أن يعلم أنه سبحانه قد يؤخر الإجابة لمدة طويلة، كما أخر إجابة يعقوب في رد ابنه يوسف إليه، وهو نبي كريم عليه الصلاة والسلام، وكما أخر شفاء نبيه أيوب عليه الصلاة والسلام.
وقد يعطي الله السائل خيرا مما سأل، وقد يصرف عنه من الشر أفضل مما سأل، كما جاء في الحديث السابق الذي ذكرنا آنفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته في الدنيا، وإما أن تدخر له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه في الشر مثل ذلك. قالوا: يارسول الله، إذا نكثر؟! قال: الله أكثر (2) » .
فبين في هذا الحديث عليه الصلاة والسلام أن الله سبحانه قد يؤخر الإجابة إلى الآخرة، وقد يعجلها في الدنيا لحكمة بالغة؛ لأن ذلك أصلح لعبده، وأنفع له، وقد يصرف عنه شرا عظيما، خيرا له من إجابة دعوته.
فعليك بحسن الظن بالله، وأن تستمر في الدعاء وتلح في ذلك، فإن في
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/18) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/18) .(5/304)
الدعاء خيرا كثيرا لك، وعليك أن تتهم نفسك، وأن تنظر في حالك، وأن تستقيم على طاعة ربك، وأن تعلم أن ربك حكيم عليم، قد يؤجل الإجابة لحكمة، وقد يعجلها لحكمة، وقد يعطيك بدلا من دعوتك خيرا منها، لما ذكرنا آنفا ولما في الحديث الصحيح الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول: دعوت ودعوت فلم أره يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء (1) » .
فلا ينبغي لك أن تستحسر، ولا ينبغي لك أن تدع الدعاء، بل الزم الدعاء واستكثر من الدعاء، وألح على ربك، وحاسب نفسك، واحذر أسباب المنع من المعاصي والسيئات. ويشرع لك أن تتحرى أوقات الإجابة: كآخر الليل، وبين الأذان والإقامة، وفي آخر الصلاة قبل السلام، وفي السجود وعند جلوس الخطيب على المنبر يوم الجمعة إلى أن تقضى الصلاة، وبعد صلاة العصر يوم الجمعة إلى غروب الشمس في حق من جلس متطهرا ينتظر صلاة المغرب، كل هذه من أوقات الإجابة، وعليك بإحضار قلبك عند الدعاء وإحسان الظن بالله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله - عز وجل -: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني (2) » خرجه مسلم في صحيحه.. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2735) ، سنن الترمذي الدعوات (3387) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3853) ، مسند أحمد بن حنبل (2/487) ، موطأ مالك النداء للصلاة (495) .
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2675) .(5/305)
أسئلة وأجوبتها " في العقيدة "
س1: سائل من العراق يقول: عندنا عندما يمرض شخص يذهب إلى السادة، ويكتبون له أوراقا يعلقونها في رءوسهم، فهل يجوز هذا أم لا؟ كذلك الحلف: هناك من يحلف بغير الله، أو يحلف بهؤلاء السادة فما الحكم في ذلك؟ .
جـ1: تعليق التمائم على الأولاد؛ خوفا من العين أو من الجن أو من المرض، أمر لا يجوز، وهكذا تعليق التمائم على المرضى، وإن كانوا كبارا لا يجوز؛ لأن هذا فيه نوع من التعلق على غير الله سبحانه وتعالى، وهو لا يجوز لا مع السادة ولا مع غيرهم من الناس؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له (1) » .
وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تعلق تميمة فقد أشرك (2) » والتميمة هي ما يعلق على الأولاد أو المرضى أو غيرهم عن العين، أو عن الجن أو المرض، من خرز أو ودع أو عظام ذئب أو طلاسم، أو غير ذلك، ويدخل في ذلك الأوراق المكتوب فيها كتابات حتى ولو كانت من القرآن على الصحيح؛ لأن الأحاديث عامة ليس فيها استثناء.
فالرسول صلى الله عليه وسلم عمم وأطلق، ولم يستثن شيئا، فدل ذلك على أن التمائمم كلها ممنوعة، ولأن تعليق ما يكتب من القرآن أو الدعوات الطيبة وسيلة لتعليق غيرها من التمائم الأخرى، وقد جاءت الشريعة الكاملة بسد الذرائع المفضية إلى الشرك أو المعاصي.
والمشروع في هذا أن يسأل المسلم ربه العافية، ويتعاطى الأدوية المباحة، ولا بأس أن يرقى من القرآن الكريم والأدعية الطيبة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (3) » ، ولأنه صلى الله عليه وسلم: رقى بعض الصحابة، ورقاه جبرائيل عليه السلام.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .
(3) صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبو داود الطب (3886) .(5/306)
أما التعليق فلا يجوز لما تقدم من الأحاديث، وهو من الشرك الأصغر، وقد يكون شركا أكبر إذا اعتقد المعلق أن التمائم تدفع عنه، وأنها تكفيه الشرور دون الله عز وجل، أما إن اعتقد أنها من الأسباب، فهذا من الشرك الأصغر.
والواجب قطعها وإزالتها، وكذلك الحلف بغير الله لا يجوز، وهو من الشرك الأصغر أيضا، وقد يكون من الشرك الأكبر إذا اعتقد الحالف بغير الله أن هذا المحلوف به مثل الله، أو يصح أن يدعى من دون الله، أو أنه يتصرف في الكون من دون الله، فإنه يكون شركا أكبر، نعوذ بالله من ذلك.
والحاصل أن الحلف بغير الله لا يجوز، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (1) » ، وقال: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد (2) » .
وقال عليه الصلاة والسلام: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (3) » وفى رواية: «من حلف بشيء دون الله فقد أشرك (4) » ، وقال عليه السلام: «من حلف بالأمانة فليس منا (5) » ، وكلها أحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أصحابه بالسفر يحلفون بآبائهم، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله أو ليصمت (6) » .
وقال الإمام أبو عمر ابن عبد البر - رحمه الله - المتوفى سنة 463هـ: إن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز الحلف بغير الله، وهذا يدل على أن الحلف بالأمانة، أو بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بالكعبة أو بحياة فلان، أو بشرف فلان، كله لا يجوز، وإنما يكون الحلف بالله وحده. والله الموفق.
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2679) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(2) سنن النسائي الأيمان والنذور (3769) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3248) .
(3) سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (1/47) .
(5) سنن أبو داود الأيمان والنذور (3253) ، مسند أحمد بن حنبل (5/352) .
(6) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6646) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .(5/307)
س2: زوجتي أصيبت بمرض معين، وأصبحت تخاف من كل شيء، ولا تسطيع البقاء وحدها، وآخر يقول أنه يشكو نفس الحالة، وأنه لا يذهب إلى المسجد للصلاة مع الجماعة، ويسأل عن العلاج حتى لا يلجأ إلى الذهاب إلى الكهان والمشعوذين؟ .
جـ2: إن الله - جل وعلا - ما أنزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله(5/307)
من جهله، وإن الله قد جعل فيما نزل على نبيه صلى الله عليه وسلم من الخير والهدى والعلاج لجميع ما يشكو منه الناس من أمراض حسية ومعنوية - ما نفع الله به العباد، وحصل به من الخير ما لا يحصيه إلا الله عز وجل. والإنسان قد تعرض له أمور لها أسباب، فيحصل له من الخوف والذعر ما لا يعرف له سببا بينا.
والله جعل فيما شرعه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كل من الخير والأمن والشفاء ما لا يحصيه إلا الله سبحانه وتعالى.
فنصيحتي لهذين السائلين وغيرهما أن يستعملا ما شرعه الله تعالى من الأمور الشرعية التي يحصل بها الأمن والطمأنينة، وراحة النفوس والسلامة من مكائد الشيطان، ومن ذلك قراءة آية الكرسي خلف كل صلاة بعد الأذكار الشرعية، وآية الكرسي هي قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (1) إلى آخر الآية.
وهي أعظم آية في القرآن، وأفضل آية في كتاب الله عز وجل، لما اشتملت عليه من التوحيد والإخلاص لله سبحانه وتعالى، وبيان عظمته جل وعلا، وأنه الحي القيوم المالك لكل شيء ولا يعجزه شيء جل وعلا.
فإذا قرأ المرء هذه الآية خلف كل صلاة كانت له حرزا من كل شر، وهكذا قراءتها عند النوم، فقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن من قرأها عند النوم لا يزال عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، فليقرأها عند النوم وليطمئن قلبه، وسوف لا يرى ما يسوؤه إن شاء الله، إذا صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما قال، واطمأن قلبه لذلك، وأن ما قاله صلى الله عليه وسلم هو الحق والصدق، الذي لا ريب فيه.
ومما شرع الله أيضا أن يقرأ المسلم سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) والمعوذتين خلف كل صلاة، فهذا أيضا
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة الإخلاص الآية 1(5/308)
من أسباب العافية والأمن والشفاء من كل سوء، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) تعدل ثلث القرآن، وقراءة هذه السور الثلاث؛ أعني: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (3) و {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (4) بعد الظهر وبعد العصر وبعد العشاء مرة واحدة، أما بعد المغرب والفجر فيقرأهن ثلاث مرات، وهكذا إذا أوى إلى فراشه فليقرأهن ثلاث مرات لصحة الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
ومما يحصل للمسلم به أيضا الأمن والعافية والطمأنينة والسلامة من الشر كله أن يستعيذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثلاث مرات صباحا ومساء: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق (5) » فقد جاءت الأحاديث دالة على أنها من أسباب العافية، والحفظ من كل سوء.
وهكذا: «باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم (6) » ثلاث مرات صباحا ومساء، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من قالها ثلاثا صباحا لم يضره شيء حتى يمسي، ومن قالها ثلاثا مساء لم يضره شيء حتى يصبح، فهذه الأذكار والتعوذات من القرآن والسنة كلها من أسباب الحفظ والسلامة والأمن من كل سوء.
فينبغي لكل مؤمن ومؤمنة الإتيان بها، والمحافظة عليها، وهما على طمأنينة وثقة بربهما سبحانه وتعالى، القائم على كل شيء، ومصرف كل شيء، وبيده العطاء والمنع، والنفع والضرر، وهو المالك لكل شيء سبحانه وتعالى.
والرسول عليه الصلاة والسلام هو أصدق الناس، فهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى كما قال الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (7) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (8) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (9) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (10)
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 1
(3) سورة الفلق الآية 1
(4) سورة الناس الآية 1
(5) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) ، سنن الترمذي الدعوات (3437) ، سنن ابن ماجه الطب (3547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/409) ، سنن الدارمي الاستئذان (2680) .
(6) سنن الترمذي الدعوات (3388) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3869) .
(7) سورة النجم الآية 1
(8) سورة النجم الآية 2
(9) سورة النجم الآية 3
(10) سورة النجم الآية 4(5/309)
عليه من ربه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
س3: هذا الذكر سلاح تصفونه لكل مؤمن، فهل يشترط شروط أخرى لمن يحمل السلاح؟ .
جـ3: نعم من أعظم الشروط الثقة بالله، والتصديق برسوله صلى الله عليه وسلم، والإيمان بأن الله جل وعلا هو الحق، ولا يقول إلا الحق مع الإخلاص له سبحانه والمتابعة لرسوله عليه الصلاة والسلام، والإيمان الكامل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الصادق فيما يقول، وأن يأتي بذلك عن إيمان وثقة بالله، ورغبة فيما عنده. وأنه سبحانه مدبر الأمور، ومصرف الأشياء، وأنه القادر على كل شيء، لا عن شك ولا عن سوء ظن، بل عن حسن ظن بالله، وثقة به، وأنه متى تخلف المطلوب فلعلة من العلل ...
فالعبد عليه أن يأتي بالأسباب، والله مسبب الأسباب، وهو الحكيم العليم، وقد يحصل الدواء، ولكن لا يزول الداء، لأسباب أخرى يجهلها العبد، ولله فيها حكم وأسرار لا يعلمها سواه سبحانه وتعالى، وهذا يشمل الدواء الحسي والمعنوي: الحسي الذي يقوم به الأطباء من أدوية وعمليات ونحو ذلك، والمعنوي الذي يحصل بالدعاء والقراءة، ونحو ذلك من الأسباب الشرعية.
ومع هذا كله فقد يتخلف المطلوب لأسباب كثيرة، منها الغفلة عن دعاء الله سبحانه، ومنها ارتكاب المعاصي، ولا سيما أكل الحرام وغير ذلك من الأسباب المانعة من حصول المطلوب، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل(5/310)
له دعوته في الدنيا، وإما أن تدخر له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من الشر مثل ذلك. قالوا: يا رسول الله، إذا نكثر؟ قال الله أكثر (1) » .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/18) .(5/311)
س4: ما هي الآيات التي تدفع السحر؟ .
جـ4: من أسباب دفع السحر والسلامة منه المحافظة على الأذكار والأدعية، والتعوذات اللاتي سبق ذكرها في جواب السؤال الذي قبل هذا. ومن أسباب رفع السحر إذا وقع أن يقرأ الفاتحة وآية الكرسي، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (1) و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) والمعوذتين، ويكرر هذه السور الثلاث ثلاثا مع النفث على نفسه، أو في ماء يشرب منه، ويغتسل بباقيه.
ومما ينفع في ذلك أيضا، قراءة آيات السحر من سورة الأعراف ويونس وطه، وذلك كله من أسباب الشفاء. وآيات الأعراف هي قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} (3) {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} (5)
وأما الآيات التي في سورة يونس فهي قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} (6) {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} (7) {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} (8) {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (9)
وأما الآيات التي في سورة طه فهي قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} (10) {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (11) {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} (12) {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} (13) {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (14)
__________
(1) سورة الكافرون الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 1
(3) سورة الأعراف الآية 117
(4) سورة الأعراف الآية 118
(5) سورة الأعراف الآية 119
(6) سورة يونس الآية 79
(7) سورة يونس الآية 80
(8) سورة يونس الآية 81
(9) سورة يونس الآية 82
(10) سورة طه الآية 65
(11) سورة طه الآية 66
(12) سورة طه الآية 67
(13) سورة طه الآية 68
(14) سورة طه الآية 69(5/311)
وهذا العلاج أيضا ينفع من حبس الرجل عن امرأته، كما ينفع بإذن الله في رفع السحر والسلامة من شره، فلله الحمد والشكر على ذلك.(5/312)
س5: كيف يعامل المسلم زميلته في العمل بصرف النظر عن ديانتها، وقد يجتاج إلى التحدث إليها في شئون العمل أثناء العمل؟ وبالنسبة للمرأة المسلمة المتبرجة هل يجوز إفشاء السلام عليها أو الرد على تحيتها من قبل الرجل المسلم، وكيف تحدد العلاقة بين الرجل والمرأة أثناء الوداع؟
وطبيعة العمل تفرض على الرجل المسلم مخالطة النساء العاملات، ومراجعة بعضهن بخصوص العمل، وأحيانا يلمح منهن ما لا يجوز له أن يراه في المرأة دون قصد، وخصوصا إذا كان لباسهن غير محتشم، فهل يلحقه إثم بذلك؟ وإذا أراد هذا المسلم مخاطبة المرأة فهل ينظر إليها أم ينظر إلى الأرض، وإذا كانت طبيعة العمل تفرض على الرئيس المسلم التحدث إلى الموظفة العاملة انفرادا، فهل يقفل باب المكتب عليهما حتى لا يسمع أحد الحديث ... أم ماذا يعمل. وطبيعة مأمورات الشراء التباحث مع التجار عل انفراد مما يضطرها إلى قفل غرفة الاجتماع على ممثل التاجر ومأمورة الشراء، وأحيانا تكون مأمورة الشراء وحدها مجتمعة مع رجلين أو ثلاثة في غرفة مقفلة فما الحكم في تلك الأمور؟ .
جـ5: هذه المسائل التي ذكرها السائل كلها مهمة وخطيرة، والواجب قبل(5/312)
كل شيء ألا يعمل المؤمن وسط النساء، فإذا كان العمل بين النساء فالواجب التخلص من ذلك، وأن يلتمس عملا آخر ليس فيه اختلاط؛ لأن هذا المكان مكان فتنة وفيه خطر عظيم؛ لأن الشيطان حريص على إيقاع الفتنة بين الرجل والمرأة.
فالواجب على المؤمن أينما كان أن لا يرضى بأن يكون عاملا بين العاملات من النساء، وهكذا الطالب في الجامعات والمدارس المختلطة يجب عليه أن يحذر ذلك، وأن يلتمس مدرسة وجامعة غير مختلطة؛ لأن وجود الشباب بجوار الفتيات وسيلة لشر عظيم، وفساد كبير، والواجب على المؤمن عند الابتلاء بهذه الأمور أن يتقي الله حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا، وأن يغض بصره، ويحذر من النظر إليها أو إلى محاسنها ومفاتنها بل يلقي بصره إلى الأرض، ولا ينظر إليها، ومتى صادف شيئا من ذلك غض بصره.
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن نظر الفجأة، فقال للسائل: «اصرف بصرك (1) » وفي اللفظ الآخر: «فإن لك الأولى وليست لك الأخرى (2) » ، والله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} (3) الآية، وقال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (4) الآية، فعلى المؤمن أن يغض بصره ويحفظ فرجه، فإن صادف شيئا من غير قصد صرف بصره، ويعفو الله عن الأولى التي صادفها ولم يقصدها لذلك.
وإذا بلي بالمرأة والتحدث إليها في شيء يتعلق بالعمل، فإنه يتحدث إليها من غير أن يقابل وجهها، ولا ينظر إلى محاسنها، بل يعرض عنها، ويلقي بصره إلى الأرض حتى يقضي حاجته وينصرف.
وهذا من الأمور
__________
(1) صحيح مسلم الآداب (2159) ، سنن الترمذي الأدب (2776) ، سنن أبو داود النكاح (2148) ، مسند أحمد بن حنبل (4/361) ، سنن الدارمي الاستئذان (2643) .
(2) سنن الترمذي الأدب (2777) ، سنن أبو داود النكاح (2149) .
(3) سورة النور الآية 30
(4) سورة النور الآية 31(5/313)
الواجبة التي تجب على المؤمن العناية بها. وكذلك المرأة في حال الشراء أو البيع أو غيرهما، ليس لها أن تخلو بالرجل ولا بالرئيس ولا مع المدير، وليس له أن يخلو بها ولا غيرها أيضا، لما في ذلك من الخطر العظيم، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم (1) » متفق على صحته، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما (2) » خرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
والمقصود أن الخلوة بالمرأة فيها خطر عظيم، ولو كانت في حاجات تتعلق بها، أو بوظيفتها. فالواجب الحذر من ذلك، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (4) الآية، وقال سبحانه وبحمده: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (5) س6: كثيرا ما نسمع أن عدم نزول المطر من السماء سببه معاصي العباد، فإذا كان كذلك فهل الذين في الهند وغيرهم، الذين تأتيهم السيول باستمرار، يعبدون الله أكثر مما نحن نعبده، أو أن المسألة دوران فلك ... نرجو توضيح ذلك، حيث بذلك يتحدث الناس؟ .
جـ6: على كل مسلم أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق وتكفل بأرزاقهم، سواء كانوا كفارا أو مسلمين، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (6) وقال جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (7) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (8) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (9)
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1862) ، صحيح مسلم الحج (1341) ، سنن ابن ماجه المناسك (2900) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) .
(2) سنن الترمذي الفتن (2165) ، مسند أحمد بن حنبل (1/18) .
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 3
(5) سورة الطلاق الآية 4
(6) سورة هود الآية 6
(7) سورة الذاريات الآية 56
(8) سورة الذاريات الآية 57
(9) سورة الذاريات الآية 58(5/314)
وقال سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} (1) فهو سبحانه خلق الخلق من جن وإنس وكفار ومسلمين، وتكفل بأرزاقهم، فهو ينزل الأمطار، ويجري الأنهار في البلاد وغيرها، ويرزق هؤلاء وهؤلاء.
لكنه سبحانه يؤدب عباده المسلمين إذا فعلوا ما يخالف شرعه وعصوا أمره، فيعاقبهم إذا شاء لينتهوا وليحذروا أسباب غضبه، فيمنع سبحانه القطر، كما منع ذلك جل وعلا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أصلح الناس، وعهده أصلح العهود، وصحابته أصلح العباد بعد الأنبياء، ومع هذا ابتلوا بالقحط والجدب، حتى طلب المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغيث لهم، فقالوا: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا، فاستغاث لهم في خطبة الجمعة، ورفع يديه، وقال: «اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا (2) » .
فأنزل الله المطر، وهو على المنبر صلى الله عليه وسلم أنشأ الله سبحانه سحابة، ثم اتسعت فأمطرت، فخرج الناس تهمهم نفوسهم من شدة المطر، فلم يزل المطر حتى جاءت الجمعة الأخرى، فجاءوا إليه وقالوا: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله أن يمسكه عنا، فضحك عليه الصلاة والسلام، من ضعف بني آدم، فرفع يديه وقال: «اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر (3) » . قال أنس رضي الله عنه، الراوي لهذا الحديث: فتمزق السحاب في الحال، وصارت المدينة في مثل الجوبة.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 60
(2) صحيح البخاري الجمعة (1014) ، صحيح مسلم صلاة الاستسقاء (897) ، سنن النسائي الاستسقاء (1518) ، مسند أحمد بن حنبل (3/194) .
(3) صحيح البخاري الجمعة (1014) ، صحيح مسلم صلاة الاستسقاء (897) ، سنن النسائي الاستسقاء (1518) ، مسند أحمد بن حنبل (3/194) .(5/315)
فالمقصود أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أصيبوا بالجدب واستغاثوا، وهم خير الناس، تعليما من الله سبحانه وتعالى لهم، وتوجيها لهم ولغيرهم إلى الضراعة إليه، وسؤاله عز وجل من فضله، والتوبة إليه من تقصيرهم وذنوبهم؛ لأن تنبيههم بالجدب ونحوه من المصائب توجيه لهم إلى أسباب النجاة، وليضرعوا إليه، وليعلموا أنه هو الرزاق الفعال لما يريد.
فإذا لم يتوبوا، فقد يعاقبهم الله سبحانه بالجدب والقحط وتسلط الأعداء أو غير ذلك من المصائب؛ حتى ينتهوا ويرجعوا إلى الله، ويتوبوا إليه، ما قال عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) وقال في قصة أحد لما أصابهم ما أصابهم من الهزيمة والقتل والجراح لبعضهم: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} (2)
وفي يوم بدر كان النصر للمسلمين والهزيمة للكفار، وأسر منهم سبعون وقتل سبعون، وفي يوم أحد جرى على المسلمين مصائب بأسباب نفوسهم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر الرماة أن يلزموا الثغر الذي خلف المسلمين، وكانوا خمسين، أمر عليهم عبد الله بن جبير، وقا ل لهم: لا تبرحوا مكانكم ولو رأيتمونا تتخطفنا الطير، سواء نصرنا أم لم ننتصر، لا تبرحوا مكانكم.
فلما نصر الله المسلمين، وانهزم الكفار ظن الرماة أنها الفيصلة، وأن الأمر انتهى وما بقي إلا جمع الغنائم، فانصرفوا من مكانهم، فأمرهم أميرهم أن يبقوا، وذكرهم بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم فامتنعوا عليه، وقالوا: إن الأمر انتهى والكفار
__________
(1) سورة الشورى الآية 30
(2) سورة آل عمران الآية 165(5/316)
انهزموا. فلما فعلوا ذلك جاءت خيل الكفار من خلف المسلمين، ودخلوا من الثغر الذي أهملوه، وصارت المصيبة على المسلمين بأسبابهم.
والمقصود أن المسلمين قد يبتلون بأمور فيها تأديب وتمحيص لهم، وتكفير لذنوبهم، وفيها مصالح كثيرة لهم، منها: أن ينتبهوا، وليعلموا أن النصر بيد الله، وأن كونهم عبدوا الله وحده، وكونهم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكفي، بل لا بد من العمل بطاعة الله، والقيام بأمره سبحانه، والصبر على جهاد أعدائه، ولهذا نبههم بقوله سبحانه: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) فإذا كان الرسول وأصحابه تصيبهم عقوبات الذنوب، وبيتلون كما يبتلى غيرهم، فكيف بغيرهم؟
أما أولئك الكفرة فقد فرغ منهم عدو الله الشيطان، وقد أطاعوه وتابعوه في دول كثيرة من العالم، فإذا أجرى الله عليهم النعم، وأدر عليهم الرزق، وجاءتهم الأمطار، فهو استدراح لهم، والعاقبة وخيمة كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (2) وقوله سبحانه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (3) الآية.
وقد يعجل الله لهم العقوبات في الدنيا، كما نزلت بهم في الحروب العظمى بسبب الكفر والذنوب، وكما يعاقبون بأنواع العقوبات الأخرى، كالأوبئة والأمراض العامة وغيرها لعلهم يرجعون.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 165
(2) سورة الأنعام الآية 44
(3) سورة إبراهيم الآية 42(5/317)
فالله سبحانه قد يملي ولا يهمل لحكمة بالغة، كما قال جل وعلا: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (1) وقد قال سبحانه وتعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} (2) {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (3) فقد يملي الله سبحانه للكفرة، ويتابع عليهم النعم من الأمطار وجري الأنهار وحصول الثمار وغير ذلك من النعم، ثم يأخذهم إذا شاء أخذ عزيز مقتدر، كما أنه سبحانه قد يملي للمسلمين مع معاصيهم الكثيرة، ثم يعاقبهم بما يشاء - كما تقدم - تأديبا لهم، وتنبيها.
فالواجب على المسلمين أن يأخذوا حذرهم، وأن لا يغتروا بإملاء الله وإنظاره لهم ولغيرهم، مع الإقامة على المعاصي، وأن لا يبادروا بالتوبة النصوح قبل حلول العقوبة ... نسأل الله السلامة والعافية من أسباب غضبه وأليم عقابه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 144
(2) سورة القلم الآية 44
(3) سورة القلم الآية 45(5/318)
حكم من يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس ببشر(5/318)
إذا مات الشخص وهو يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس ببشر، وأنه يعلم الغيب، وأن التوسل بالأولياء والأموات والأحياء قربة إلى الله عز وجل، فهل يدخل النار ويعتبر مشركا؟ علما أنه لا يعلم غير هذا الاعتقاد، وأنه عاش في منطقة علماؤها وأهلها كلهم يقرون بذلك، فما حكمه، وما حكم التصدق عنه والإحسان إليه بعد موته؟
جـ: من مات على هذا الاعتقاد بأن يعتقد أن محمدا ليس ببشر، أي ليس من بني آدم، أو يعتقد أنه يعلم الغيب فهذا اعتقاد كفري يعتبر صاحبه كافر كفرا أكبر، وهكذا إذا كان يدعوه ويستغيث به، أو ينذر له أو لغيره من الأنبياء والصالحين أو الجن أو الملائكة أو الأصنام؛ لأن هذا من جنس عمل المشركين الأولين كأبي جهل وأشباهه، وهو شرك أكبر، ويسمي بعض الناس هذا النوع من الشرك توسلا، وهو غير الشرك الأكبر.
وهناك نوع ثان من التوسل ليس من الشرك بل هو من البدع ووسائل الشرك، وهو التوسل بجاه الأنبياء والصالحين أو بحق الأنبياء والصالحين أو بذواتهم، فالواجب الحذر من النوعين جميعا.
ومن مات على النوع الأول لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يدعى له ولا يتصدق عنه؛ لقول الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (1)
__________
(1) سورة التوبة الآية 113(5/319)
وأما التوسل بأسماء الله وصفاته وتوحيده والإيمان به فهو توسل مشروع ومن أسباب الإجابة، لقول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) الآية، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «سمع من يدعو ويقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، فقال لقد سأل الله باسمه الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب (2) » .
وهكذا التوسل بالأعمال الصالحة من بر الوالدين وأداء الأمانة والعفة عما حرم الله ونحو ذلك، كما ورد ذلك في حديث أصحاب الغار المخرج في الصحيحين، وهم ثلاثة، آواهم المبيت والمطر إلى غار فلما دخلوا فيه انحدرت عليهم صخرة من أعلى جبل فسدت الغار عليهم فلم يستطيعوا الخروج، فقالوا فيما بينهم: إنه لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تسألوا الله بصالح أعمالكم، فتوجهوا إلى الله سبحانه فسألوه ببعض أعمالهم الطيبة، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، وإني ذات ليلة نأى بي طلب الشجر فلما رحت عليهما بغبوقهما وجدتهما نائمين فلم أوقظهما، وكرهت أن أسقي قبلهما أهلا ومالا، فلم أزل على ذلك حتى طلع الفجر فاستيقظا وشربا غبوقهما، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئا لا يستطيعون الخروج منه.
أما الثاني فتوسل بعفته عن الزنا حيث كانت له ابنة عم يحبها كثيرا، وأرادها في نفسها فأبت عليه، ثم ألمت بها حاجة شديدة فجاءت إليه تطلب منه المساعدة فأبى عليها إلا أن تمكنه من نفسها، فوافقت على هذا من أجل حاجتها فأعطاها مائة دينار وعشرين دينار، فلما جلس بين رجليها قالت له: يا عبد الله، اتق الله
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) سنن الترمذي الدعوات (3475) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3857) .(5/320)
ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فخاف من الله حينئذ، وقام عنها وترك لها الذهب خوفا من الله عز وجل. فقال: اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئا لا يستطيعون الخروج منه.
ثم قال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيت كل واحد أجرته إلا واحدا ترك أجرته فنميتها له حتى بلغت إبلا وبقرا وغنما ورقيقا. فجاء يطلب أجرته فقلت له: كل هذا من أجرتك، يعني الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله، اتق الله ولا تستهزئ بي، فقلت له: إني لا أستهزئ بك، إنه كله مالك فساقه كله. اللهم إن كنت تعلم إني فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا جيعا يمشون.
وهذا يدل على أن التوسل بالأعمال الصالحة الطيبة أمر مشروع، وأن الله جل وعلا يفرج به الكربات كما جرى لهؤلاء الثلاثة. أما التوسل بجاه فلان وبحق فلان أو بذات فلان فهذا غير مشروع، بل هو من البدع كما تقدم، والله ولي التوفيق.(5/321)
ما يشرع في التوسل بالنبي وما لا يشرع (1)
س: ما حكم التوسل بسيد الأنبياء، وهل هناك أدلة على تحريمه؟ .
ع. ح
جـ: التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه تفصيل، فإن كان ذلك باتباعه ومحبته وطاعة أوامره، وترك نواهيه والإخلاص لله في العبادة، فهذا هو الإسلام وهو دين الله الذي بعث به أنبياءه، وهو الواجب على كل مكلف. وهو الوسيلة للسعادة في الدنيا والآخرة، أما التوسل بدعائه والاستغاثة به، وطلبه النصر على الأعداء والشفاء للمرضى - فهذا هو الشرك الأكبر، وهو دين أبي جهل وأشباهه من عبدة الأوثان، وهكذا فعل ذلك مع غيره من الأنبياء والأولياء أو الجن أو الملائكة أو الأشجار أو الأحجار أو الأصنام.
وهناك نوع ثالث يسمى التوسل وهو التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم أو بحقه أو بذاته مثل أن يقول الإنسان: أسألك يا الله بنبيك أو جاه نبيك، أو حق نبيك، أو جاه الأنبياء، أو حق الأنبياء، أو جاه الأولياء والصالحين، وأمثال ذلك، فهذا بدعة ومن وسائل الشرك ولا يجوز فعله معه صلى الله عليه وسلم، ولا مع غيره؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يشرع ذلك، والعبادات توقيفية لا يجوز منها إلا ما دل عليه الشرع المطهر، وأما توسل الأعمى به في حياته صلى الله عليه وسلم فهو توسل به صلى الله عليه وسلم ليدعو له ويشفع له إلى الله في إعادة بصره إليه، وليس توسلا بالذات أو الجاه أو الحق كما يعلم ذلك من سياق الحديث، وكما أوضح ذلك علماء السنة في شرح الحديث.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1220 في 16 \ 5 \ 1410هـ.(5/322)
وقد بسط الكلام في ذلك شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله - في كتبه الكثيرة المفيدة، ومنها كتابه المسمى: القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة، وهو كتاب مفيد جدير بالاطلاع عليه والاستفادة منه.
وهذا الحكم جائز مع غيره صلى الله عليه وسلم من الأحياء، كأن تقول لأخيك أو أبيك أو من تظن فيه الخير: ادع الله لي أن يشفيني من مرضي أو يرد علي بصري أو يرزقني الذرية الصالحة أو نحو ذلك بإجماع أهل العلم. والله ولي التوفيق.(5/323)
حكم الذبح عند الأضرحة ودعاء أهلها
س: ما حكم التقرب بذبح الذبائح في أضرحة الأولياء الصالحين وقول: (بحق وليك الصالح فلان اشفنا أو ابعد عنا الكرب الفلاني) ؟ .
جـ: من المعلوم بالأدلة من الكتاب والسنة أن التقرب بالذبح لغير الله من الأولياء أو الجن أو الأصنام أو غير ذلك من المخلوقات - شرك بالله ومن أعمال الجاهلية والمشركين، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) والنسك هو " الذبح "، بين سبحانه في هذه الآية أن الذبح لغير الله شرك بالله كالصلاة لغير الله ... قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (3) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (4) أمر الله سبحانه نبيه في هذه السورة الكريمة أن يصلي لربه وينحر له خلافا لأهل الشرك الذين يسجدون لغير الله ويذبحون لغيره. وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (5) وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (6) والآيات في هذا المعنى كثيرة. والذبح من العبادة فيجب إخلاصه لله وحده. وفي صحيح مسلم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله (7) » .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة الكوثر الآية 1
(4) سورة الكوثر الآية 2
(5) سورة الإسراء الآية 23
(6) سورة البينة الآية 5
(7) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(5/324)
وأما قول القائل: أسأل الله بحق أوليائه أو بجاه أوليائه أو بحق النبي أو بجاه النبي - فهذا ليس من الشرك ولكنه بدعة عند جمهور أهل العلم ومن وسائل الشرك؛ لأن الدعاء عباده وكيفيته من الأمور التوقيفية، ولم يثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم ما يدل على شرعية أو إباحة التوسل بحق أو جاه أحد من الخلق، فلا يجوز لمسلم أن يحدث توسلا لم يشرعه الله سبحانه؛ لقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » متفق على صحته، وفي رواية لمسلم وعلقها البخاري في صحيحه جازما بها «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » ومعنى قوله: فهو رد، أي مردود على صاحبه لا يقبل، فالواجب، على أهل الإسلام التقيد بما شرعه الله والحذر مما أحدثه الناس من البدع. أما التوسل المشروع فهو التوسل بأسماء الله وصفاته وبتوحيده، وبالأعمال الصالحات، ومنها الإيمان بالله ورسوله ومحبة الله ورسوله ونحو ذلك من أعمال البر والخير، والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (4) ومنها «أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد سأل الله باسمه الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب (5) » أخرجه أهل السنن الأربع، وصححه ابن حبان. ومنها حديث أصحاب الغار الذين توسلوا إلى الله سبحانه وتعالى بأعمالهم الصالحة، فإن الأول منهم توسل إلى الله سبحانه ببره بوالديه، والثاني توسل إلى الله بعفته عن الزنا بعد قدرته عليه، والثالث توسل إلى الله سبحانه بكونه نمى أجرة
__________
(1) سورة الشورى الآية 21
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(4) سورة الأعراف الآية 180
(5) سنن الترمذي الدعوات (3475) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3857) .(5/325)
الأجير ثم سلمها له، ففرج الله كربتهم وقبل دعاءهم وأزال عنهم الصخرة التي سدت عليهم باب الغار، والحديث متفق على صحته. والله ولي التوفيق.(5/326)
حكم الذبح لله وللخضر بالحلم
س: هذا سؤال وردنا من سوريا من بلدة الرقة من المرسل ح. س يقول في رسالته: كثيرا ما تحلم بعض النساء أنه جاءها رجل وقال لها: اذبحوا لله وللخضر ذبائح وإلا فيقبل عليكم مرض. ويقولون أيضا: إن الذي لا يذبح تنقص عائلته بالموت. أفيدونا أفادكم الله.
جـ: هذا الحلم وما أشبهه من الشيطان، يدعو به الناس إلى الشرك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يكره فلينفث عن يساره ثلاث مرات، وليستعذ بالله من الشيطان ومن شر ما رآه ثلاث مرات، ثم ينقلب على جنبه الآخر فإنها لا تضره ولا يخبر بها أحدا (1) » متفق على صحته، فإذا رأى الرجل أو المرأة هذا الحلم أو رأى أنه يضرب أو يهدد بقتل أو نحو ذلك، فإن ذلك من الشيطان فعليه حين يستيقظ أن ينفث عن يساره ثلاث مرات بريق خفيف ويقول: (أعوذ بالله من الشيطان ومن شر ما رأيت) ثلاث مرات، ثم ينقلب على جنبه الآخر فإنها لا تضره ولا يخبر بها أحدا.
ومعلوم أن الذبح لله عبادة في أي وقت كالضحايا والهدايا، أما الذبح للخضر وغيره من الأنبياء والأولياء فمنكر وشرك بالله عز وجل؛ لأن الذبح لله عبادة له عز وجل، وصرفه لغيره شرك به سبحانه؛ لقول الله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (3) وقوله سبحانه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (4) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (5) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5747) ، صحيح مسلم الرؤيا (2261) ، سنن الترمذي الرؤيا (2277) ، سنن أبو داود الأدب (5021) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3909) ، مسند أحمد بن حنبل (5/296) ، موطأ مالك الجامع (1784) ، سنن الدارمي الرؤيا (2141) .
(2) سورة الأنعام الآية 162
(3) سورة الأنعام الآية 163
(4) سورة الكوثر الآية 1
(5) سورة الكوثر الآية 2(5/327)
«لعن الله من ذبح لغير الله (1) » خرجه مسلم في صحيحه من حديث علي رضي الله عنه، فلا يجوز الذبح للخضر ولا للبدوي ولا للحسين ولا لغيرهم من الناس ولا للأصنام ولا للجن، بل الذبح لله وحده، والتقرب بالذبائح يكون لله وحده سبحانه وتعالى؛ كالضحايا والهدايا كما تقدم. أما الخضر عليه السلام وغيره من الناس فلا يجوز الذبح لهم، ولا صرف شيء من العبادة لهم، فالتفرب إليهم بالذبائح ليشفعوا لك أو ليشفوا ولدك كل هذا من الشرك الأكبر والعياذ بالله، وهكذا الذبح للأصنام والجن والكواكب كله شرك أكبر، فيجب الحذر من ذلك كله والتواصي بتركه، والتناصح بذلك حتى يكون الذبح لله وحده كما تجب الصلاة له وحده وسائر العبادات لقوله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) وقوله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (3) وقوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (4)
والآيات في هذا المعنى كثيرة. وهكذا الدعاء والاستغاثة فلا يستغاث بالخضر ولا بغيره من الخلق، بل يجب أن تكون الاستغاثة بالله وحده فلا يستغاث بالأنبياء ولا بالملائكة ولا بالأصنام ولا بالكواكب ولا بالأموات، وإنما يستغاث بالله وحده ولا يطلب المدد إلا منه سبحانه؛ لأنه سبحانه هو الذي يملك كل شيء وهو القادر على كل شيء سبحانه وتعالى. أما الحي القادر الحاضر فلا بأس أن يستعان به فيما يقدر عليه، تقول: يا أخي ساعدني على كذا وهو يسمعك أو بالمكاتبة أو من طريق الهاتف، تقول: أعني علي كذا أو أقرضني
__________
(1) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة الإسراء الآية 23
(4) سورة الفاتحة الآية 5(5/328)
كذا فهذا لا بأس به؛ لأنه من الأمور العادية ومن الأسباب الحسية فلا حرج فيها؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وقوله سبحانه وتعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (3) » رواه مسلم في صحيحه.
لكن إذا أتيت إلى الميت وقلت له: يا سيدي البدوي اشف مريضي أو رد غائبي أو المدد المدد، أو يا سيدي الحسين أو يا سيدي يا رسول الله، أو يا سيدي ابن عربي أو ابن علوان أو العيدروس أو يا شيخ عبد القادر أو غيره من الأموات والغائبين، فكل هذا شرك أكبر لا يجوز، فيجب على كل مسلم أن يحذره، وأن ينكر ذلك على من فعله، ويجب على العلماء أن ينصحوا الناس ويعلموهم لقول الله سبحانه: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (4) ولقوله عز وجل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (5) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (6)
فسمى دعاءهم لغير الله شركا، وهكذا قوله سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (7) فوصف الداعين لغير الله بأنهم كفار، وأنهم لا يفلحون، فيجب التنبه لهذا الأمر العظيم الذي وقع فيه الكثير من الناس في بلدان كثيرة
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة القصص الآية 15
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الأدب (4946) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .
(4) سورة الجن الآية 18
(5) سورة فاطر الآية 13
(6) سورة فاطر الآية 14
(7) سورة المؤمنون الآية 117(5/329)
ويجب على أهل العلم أن ينصحوا لله ولعباده، وأن يعلموا هؤلاء الجهال حتى يتوبوا إلى الله سبحانه من دعوة أصحاب القبور، والاستغاثة بهم، ويعلموهم أن يدعوا الله وحده سبحانه وتعالى أن يستغيثوا به في حاجاتهم. أما الحي الحاضر القادر فلا بأس بالاستعانة به فيما يقدر عليه كما تقدم، فقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يطلبون من الرسول صلى الله عليه وسلم الشفاعة والعون وهو حي فيشفع لهم ويعينهم على ما ينفعهم، لكن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يسألونه شيئا لعلمهم بأن ذلك لا يجوز.
وهكذا يوم القيامة حين يبعثه الله يسأله الناس أن يشفع لهم فيجيبهم إلى ذلك بعد إذن الله له سبحانه؛ لأنه حي حاضر بين أيديهم. أما بعد ما توفاه الله وقبل يوم القيامة فإنه لا يدعى ولا يستغاث به بإجماع أهل العلم من أهل السنة والجماعة للأدلة السابقة. وهكذا غيره كالخضر أو نوح أو عيسى لا يدعون مع الله، ولا يستغاث بهم، ولا ينذر لهم، ولا يذبح لهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار (1) » رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. والمعنى أن من دعا ميتا أو صالحا أو شجرا أو ملكا أو غيرهم فقد جعله ندا لله واتخذه إلها معه، وذلك من الشرك الأكبر الذي يوجب لمن مات عليه الخلود في النار كما قال الله سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (2) وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة وكلها تدل على ما دل عليه حديث ابن مسعود المذكور فيجب على أهل العلم وعلى كل من عنده
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4497) .
(2) سورة المائدة الآية 72
(3) سورة النساء الآية 48(5/330)
بصيرة أن يعلموا الناس العقيدة الصحيحة، ويحذروهم من هذا الشرك في كل مكان، وفي كل زمان؛ لقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) وقوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) وقول النبي عليه السلام: «الدين النصيحة. قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (3) » خرجه الإمام مسلم - رحمه الله - في صحيحه، ولقول النبي عليه السلام: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (4) » ، «ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى خيبر ليدعو اليهود إلى الإسلام قال له عليه الصلاة والسلام: ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (5) » متفق على صحته. أقسم عليه السلام - وهو الصادق وإن لم يحلف - أن هداية واحد على يد الداعية إلى الله خير له من حمر النعم، يعني خير من جميع النوق الحمر، والمعنى خير من الدنيا وما عليها، فدل ذلك على وجوب التناصح والدعوة إلى الله، وبيان حق الله على عباده، وتحذيرهم من الشرك حتى يكون الناس على بينة وعلى بصيرة، كما يدل على أن المقصود من الجهاد هو هداية الكفار وإخراجهم من الظلمات إلى النور لا قتالهم ولا سبي نساءهم وأموالهم، وإنما يلجأ المسلمون إلى القتال عند امتناع الكفار من الدخول في الإسلام، ومن بذل الجزية إذا كانوا من أهلها.
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان إنه سميع مجيب. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة فصلت الآية 33
(3) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(4) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(5) صحيح البخاري المناقب (3701) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .(5/331)
حكم زيارة النساء للقبور
س: هل تشرع زيارة القبور للنساء؟
جـ: ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه لعن زائرات القبور من حديث ابن عباس، ومن حديث أبي هريرة، ومن حديث حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنهم جميعا، وأخذ العلماء من ذلك أن الزيارة للنساء محرمة؛ لأن اللعن لا يكون إلا على محرم، بل يدل على أنه من الكبائر؛ لأن العلماء ذكروا أن المعصية التي يكون فيها اللعن أو فيها وعيد تعتبر من الكبائر.
فالصواب أن الزيارة من النساء للقبور محرمة لا مكروهة فقط. والسبب في ذلك - والله أعلم - أنهن في الغالب قليلات الصبر، فقد يحصل منهن من النياحة ونحوها ما ينافي الصبر الواجب وهن فتنة، فزيارتهن للقبور واتباعهن للجنائز قد يفتتن بهن الرجال، وقد يفتتن بالرجال، والشريعة الإسلامية الكاملة جاءت بسد الذرائع المفضية إلى الفساد والفتن، وذلك من رحمة الله بعباده، وقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (1) » متفق على صحته. فوجب بذلك سد الذرائع المفضية إلى الفتنة المذكورة ... ومن ذلك ما جاءت به الشريعة المطهرة من تحريم تبرج النساء، وخضوعهن بالقول للرجال وخلوة المرأة بالرجل غير المحرم، وسفرها بلا محرم وكل ذلك من باب سد الذرائع المفضية إلى الفتنة بهن، وقول بعض الفقهاء: إنه استثني من ذلك قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما - قول بلا دليل، والصواب أن المنع يعم الجميع، يعم جميع القبور حتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وحتى قبر صاحبيه رضي الله عنهما. وهذا هو المعتمد من حيث الدليل.
وأما الرجال فيستحب لهم زيارة القبور وزيارة قبر النبي
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5096) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2741) ، سنن الترمذي الأدب (2780) ، سنن ابن ماجه الفتن (3998) ، مسند أحمد بن حنبل (5/210) .(5/332)
عليه الصلاة والسلام وقبر صاحبيه، لكن بدون شد الرحل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (1) » رواه مسلم في صحيحه. وأما شد الرحال لزيارة القبور فلا يجوز، وإنما يشرع لزيارة المساجد الثلاثة خاصة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى (2) » متفق على صحته، وإذا زار المسلم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم دخل في ذلك على سبيل التبعية زيارة قبره صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه، وقبور الشهداء وأهل البقيع، وزيارة مسجد قباء من دون شد الرحل، فلا يسافر لأجل الزيارة ولكن إذا كان في المدينة شرع له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه، وزيارة البقيع والشهداء ومسجد قباء، أما شد الرحال من بعيد لأجل الزيارة فقط فهذا لا يجوز على الصحيح من قولي العلماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (3) » ، أما إذا شد الرحل إلى المسجد النبوي فإن الزيارة للقبر الشريف والقبور الأخرى تكون تبعا لذلك، فإذا وصل المسجد صلى فيه ما تيسر ثم زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وزار قبر صاحبيه وصلى وسلم عليه. عليه الصلاة والسلام ودعا له ثم سلم على الصديق رضي الله عنه ودعا له، ثم على الفاروق ودعا له، هكذا السنة، وهكذا القبور الأخرى لو زار مثلا دمشق أو القاهرة أو الرياض أو أي بلد يستحب له زيارة القبور لما فيها من العظة والذكرى والإحسان إلى الموتى بالدعاء لهم والترحم عليهم إذا كانوا مسلمين، فالنبي عليه السلام قال: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (4) » ، وكان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين (5) » هذه هي السنة من دون شد الرحل، ولكن لا يزورهم لدعائهم من دون الله؛ لأن
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .
(3) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .
(4) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .
(5) سنن النسائي الجنائز (2037) .(5/333)
هذا شرك بالله - عز وجل - وعبادة لغيره، وقد حرم الله ذلك على عباده في قوله سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) وقال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (2) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (3) فبين سبحانه أن دعاء العباد للموتى ونحوهم شرك به سبحانه وعبادة لغيره، وهكذا قوله سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (4) فسمى الدعاء لغير الله كفرا، فوجب على المسلم أن يحذر هذا، ووجب على العلماء أن يبينوا للناس هذه الأمور حتى يحذروا الشرك بالله، فكثير من العامة إذا مر بقبور من يعظمهم استغاث بهم وقال: المدد المدد يا فلان أغثني انصرني اشف مريضي، وهذا هو الشرك الأكبر والعياذ بالله، وهذه الأمور تطلب من الله - عز وجل - لا من الموتى ولا من غيرهم من المخلوقين.
أما الحي فيطلب منه ما يقدر عليه؛ إذا كان حاضرا يسمع كلامك أو من طريق الكتابة أو من طريق الهاتف وما أشبه ذلك من الأمور الحسية، تطلب منه ما يقدر عليه؛ تبرق له أو تكتب له أو تكلمه في الهاتف، تقول ساعدني على عمارة بيتي أو على إصلاح مزرعتي؛ لأن بينك وبينه شيئا من المعرفة أو التعاون، وهذا لا بأس به، كما قال الله - عز وجل - في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (5) الآية.
__________
(1) سورة الجن الآية 18
(2) سورة فاطر الآية 13
(3) سورة فاطر الآية 14
(4) سورة المؤمنون الآية 117
(5) سورة القصص الآية 15(5/334)
أما أن تطلب من الميت أو الغائب أو الجماد كالأصنام شفاء مريض أو النصر على الأعداء أو نحو ذلك فهذا من الشرك الأكبر، وهكذا طلبك من الحي الحاضر ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، يعتبر شركا به سبحانه وتعالى؛ لأن دعاء الغائب بدون الآلات الحسية معناه اعتقاد أنه يعلم الغيب أو أنه يسمع دعاءك وإن بعد، وهذا اعتقاد باطل يوجب كفر من اعتقده، يقول الله جل وعلا: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (1) أو تعتفد أنه له سرا يتصرف به في الكون فيعطي من يشاء ويمنع من يشاء كما يعتقده بعض الجهلة في بعض من يسمونهم بالأولياء، وهذا شرك في الربوبية أعظم من شرك عباد الأوثان، فالزيارة الشرعية للموتى زيارة إحسان وترحم عليهم، وذكر للآخرة والاستعداد لها، فتذكر أنك ميت مثل ما ماتوا فتستعد للآخرة وتدعو لإخوانك المسلمين الميتين، وتترحم عليهم وتستغفر لهم، وهذه هي الحكمة في شرعية الزيارة للقبور، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة النمل الآية 65(5/335)
هل الذنوب تسبب محق البركة
س: الأخت التي رمزت لاسمها بـ أ - ع من الرياض تقول في سؤالها: قرأت أن من نتائج الذنوب العقوبة من الله ومحق البركة فأبكي خوفا من ذلك، أرشدوني جزاكم الله خيرا؟
جـ: لا شك أن اقتراف الذنوب من أسباب غضب الله - عز وجل - ومن أسباب محق البركة، وحبس الغيث، وتسليط الأعداء كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (1) وقال سبحانه: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه (3) » .
فالواجب على كل مسلم ومسلمة الحذر من الذنوب والتوبة مما سلف منهما مع حسن الظن بالله ورجائه سبحانه المغفرة، والخوف من غضبه وعقابه كما قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عن عباده الصالحين: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (4) وقال
__________
(1) سورة الأعراف الآية 130
(2) سورة العنكبوت الآية 40
(3) سنن ابن ماجه المقدمة (90) ، مسند أحمد بن حنبل (5/280) .
(4) سورة الأنبياء الآية 90(5/336)
سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (1) وقال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2)
ويشرع للمؤمن والمؤمنة مع ذلك الأخذ بالأسباب التي أباح الله عز وجل، وبذلك يجمع بين الخوف والرجاء والعمل بالأسباب متوكلا على الله سبحانه معتمدا عليه في حصول المطلوب والسلامة من المرهوب، والله سبحانه هو الجواد الكريم القائل عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (4) والقائل سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (5) وهو القائل سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (6)
فالواجب عليك أيتها الأخت في الله التوبة إلى الله سبحانه مما سلف من الذنوب، والاستقامة على طاعته مع حسن الظن به عز وجل، والحذر من أسباب غضبه، وأبشري بالخير الكثير والعاقبة الحميدة. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 57
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 3
(5) سورة الطلاق الآية 4
(6) سورة النور الآية 31(5/337)
الكبائر تؤثر في إسلام العبد
س: ما حكم ارتكاب بعض المعاصي لا سيما الكبائر؟ وهل يؤثر ذلك في تمسك العبد بالإسلام؟
جـ: نعم يؤثر ذلك، فإن ارتكاب الكبائر كالزنا وشرب الخمر وقتل النفس بغير حق وأكل الربا والغيبة والنميمة وغير ذلك من المعاصي يؤثر في توحيد الله والإيمان به ويضعفه، ولكن لا يكفر المسلم بشيء من ذلك ما لم يستحله خلافا للخوارج، فإنهم يكفرون المسلم بفعل المعصية كالزنا والسرقة وعقوق الوالدين وغير ذلك من كبائر الذنوب ولو لم يستحلها، وهذا غلط عظيم من الخوارج، فأهل السنة والجماعة لا يكفرونه بذلك ولا يخلدونه في النار، ولكنهم يقولون: هو ناقص الإيمان والتوحيد، لكن لا يكفر كفرا أكبر بل يكون في إيمانه نقص وضعف؛ ولهذا شرع الله في حق الزاني الحد بالجلد إذا كان بكرا يجلد مائة جلدة ويغرب عاما. وهكذا شارب المسكر يجلد ولا يقتل. وهكذا السارق تقطع يده ولا يقتل. فلو كان الزنا وشرب المسكر والسرقة توجب الكفر الأكبر لقتلوا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من بدل دينه فاقتلوه رواه الإمام البخاري - رحمه الله - في صحيحه.
فدل ذلك على أن هذه المعاصي ليست ردة، ولكنها تضعف الإيمان وتنقصه، فلهذا شرع الله تأديبهم بهذه الحدود؛ ليتوبوا ويرجعوا إلى ربهم، ويرتدعوا عما حرم عليهم ربهم سبحانه. وقالت المعتزلة أن العاصي في منزلة بين منزلتين ولكنه(5/338)
يخلد في النار إذا مات عليها، فخالفوا أهل السنة ووافقوا الخوارج في ذلك، وكلتا الطائفئين قد ضلت عن السبيل.
والصواب هو القول الأول، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو أنه يكون عاصيا ضعيف الإيمان، وعلى خطر عظيم من غضب الله وعقابه، ولكنه ليس بكافر الكفر الأكبر الذي هو الردة عن الإسلام، ولا يخلد في النار أيضا خلود الكفار إذا مات على شيء منها، بل يكون تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه على قدر المعاصي التي مات عليها، ثم يخرجه من النار ولا يخلد فيها أبد الآباد إلا الكفار، ثم بعد مضي ما حكم الله عليه من العذاب يخرجه الله من النار إلى الجنة، وهذا قول أهل الحق، وهذا هو الذي تواترت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافا للخوارج والمعتزلة، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) فعلق سبحانه ما دون الشرك على مشيئته عز وجل.
أما من مات على الشرك الأكبر فإنه يخلد في النار والجنة عليه حرام؛ لقول الله سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (2) وقال سبحانه: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
أما العاصي إذا دخل النار فيبقى فيها إلى ما يشاء الله، ولا يخلد خلود الكفار، ولكن قد تطول مدته، ويكون هذا خلودا خاصا مؤقتا ليس مثل خلود الكفار، كما قال سبحانه في آية الفرقان لما ذكر المشرك والقاتل والزاني
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة المائدة الآية 72
(3) سورة التوبة الآية 17(5/339)
قال سبحانه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (1) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (2) فهو خلود مؤقت له نهاية. أما المشرك فخلوده دائم أبد الآباد، ولهذا قال عز وجل في حق المشركين في سورة البقرة: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (3) وقال سبحانه في سورة المائدة في حق الكفرة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (4)
__________
(1) سورة الفرقان الآية 68
(2) سورة الفرقان الآية 69
(3) سورة البقرة الآية 167
(4) سورة المائدة الآية 37(5/340)
وجوب التصديق مع الشهادتين
س: النطق بالشهادة لا شك أنه لا بد معه من التصديق، فما هو؟
جـ: أولا لا بد من النطق بالشهادتين، فلو أمكنه النطق ولكنه امتنع من النطق لم يدخل في الإسلام حتى ينطق بالشهادتين، وهذا محل إجماع من أهل العلم، ثم مع النطق لا بد من اعتقاد معنى الشهادتين والصدق في ذلك، وذلك بأن يعتقد بأنه لا معبود حق إلا الله، ولو قالها كاذبا كالمنافقين يقولونها وهم يعتقدون أن مع الله آلهة أخرى لم تنفعهم هذه الكلمة ولم يدخلوا في الإسلام باطنا، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (1) وقال عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (2) فلا بد من التصديق بالقلب واليقين بأنه لا معبود حق إلا الله، فإن استكبر عن الانقياد لشرع الله كفر ولم ينفعه النطق بالشهادتين. قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (3)
__________
(1) سورة النساء الآية 145
(2) سورة البقرة الآية 8
(3) سورة الحج الآية 62(5/340)
وقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (1) وهكذا لو استكبر عن الشهادة بأن محمدا رسول الله، أو قالها كاذبا فإنه يكون كافرا حتى يؤمن بأن محمدا رسول الله، وينقاد لشرعه، وهذا أمر مجمع عليه بين أهل العلم. والله المستعان.
__________
(1) سورة غافر الآية 60(5/341)
لا يجوز بدء الكفار بالسلام
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ش ع. ج سلمه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فأشير إلى استفتائك المفيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 1841 وتاريخ 1 \ 5 \ 1408 الذي تسأل فيه عن عدد من الأسئلة، وأفيدك أن الكفار لا يجوز بدؤهم بالسلام، أما المسلمون فالسنة أن يسلم عليهم ولو كانوا مرتكبين لبعض المعاصي، مع بذل النصح لهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فإذا أصروا على معاصيهم الظاهرة ولم يقبلوا النصح استحقوا الهجر بترك بداءتهم بالسلام وعدم الرد عليهم، إلا إذا اقتضت المصلحة الشرعية بداءتهم بالسلام أو الرد عليهم. وسبق أن صدر من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتاوى فيما سألت عنه فنرفق لك نسخا منها وفيها الكفاية إن شاء الله.
وفق الله الجميع لما فيه رضاه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/342)
طريقة النصيحة لمن يجاهر بالمعاصي
س: رسالة وصلت من الكويت باعثها يشكو من أخ له ويقول: إنه يقترف بعض المعاصي، وقد نصحه كثيرا إلا أن الأمر آل به إلى المجاهرة، ويرجو التوجيه في هذا الموضوع؟
جـ: الواجب على المسلمين فيما بينهم التناصح والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) وقال سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) وقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: «الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (5) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه. هاتان الآيتان مع الحديث الشريف كلها تدل على وجوب التناصح والتعاون على الخير والتواصي بالحق. فإذا رأى المسلم من أخيه تكاسلا عما أوجب الله عليه، أو ارتكابا لما حرم الله عليه وجب نصحه وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر حتى يصلح المجتمع، ويظهر الخير ويختفي الشر كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (6)
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(6) سورة التوبة الآية 71(5/343)
وقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (1) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه. فأنت أيها السائل ما دمت نصحته ووجهته إلى الخير ولكنه ما زاده ذلك إلا إظهارا للمعصية، فينبغي لك هجره وعدم اتخاذه صاحبا. وينبغي لك أن تشجع غيرك من الذين قد يؤثرون عليه وقد يحترمهم أكثر على نصيحته ودعوته إلى الله لعل الله ينفع بذلك، وإن رأيت أن الهجر يزيده شرا وأن اتصالك به أنفع له في دينه وأقل لشره فلا تهجره؛ لأن الهجر يقصد منه العلاج فهو دواء، فإذا كان لا ينفع بل يزيد الداء داءا فأنت تعمل ما هو الأصلح من الاتصال به وتكرار النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير اتخاذه صاحبا ولا خليلا لعل الله ينفع بذلك، وهذا هو أحسن ما قيل في هذا من كلام أهل العلم رحمهم الله.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .(5/344)
حكم إقامة مراسم العزاء
س: تقام مراسم العزاء، يتجمع الناس عند بيت المتوفى خارج المنزل، توضع بعض المصابيح الكهربائية (تشبه تلك التي في الأفراح) ويصطف أهل المتوفى، ويمر الذين يريدون تعزيتهم يمرون عليهم واحدا بعد الآخر، ويضع كل منهم يده على صدر كل فرد من أهل المتوفى ويقول له: (عظم الله أجرك) فهل هذا الاجتماع وهذا الفعل مطابق للسنة؟ وإذا لم يوافق السنة فما هي السنة في ذلك؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا.
جـ هذا العمل ليس مطابقا للسنة، ولا نعلم له أصلا في الشرع المطهر، وإنما السنة التعزية لأهل المصاب من غير كيفية معينة ولا اجتماع معين كهذا الاجتماع، وإنما يشرع لكل مسلم أن يعزي أخاه بعد خروج الروح في البيت أو في الطريق أو في المسجد أو في المقبرة، سواء كانت التعزية قبل الصلاة أو بعدها، وإذا قابله شرع له مصافحته والدعاء له بالدعاء المناسب مثل (أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وجبر مصيبتك) . وإذا كان الميت مسلما دعا له بالمغفرة والرحمة، وهكذا النساء فيما بينهن يعزي بعضهن بعضا، ويعزي الرجل المرأة والمرأة الرجل، لكن من دون خلوة ولا مصافحة إذا كانت المرأة ليست محرما له.. وفق الله المسلمين جميعا للفقه في دينه والثبات عليه، إنه خير مسئول.(5/345)
حكم قراءة الفاتحة على قبور الأولياء
س: ما حكم من يزور القبور ثم يقرأ الفاتحة وخاصة على قبور الأولياء كما يسمونهم في بعض البلاد العربية المجاورة. بالرغم أن بعضهم يقول: لا أريد الشرك ولكن إذا لم أقم بزيارة هذا الولي فإنه يأتي إلي في المنام ويقول لي: لماذا لم تزرني؟ فما حكم ذلك جزاكم الله خيرا؟
جـ: يسن للرجال من المسلمين زيارة القبور كما شرعه الله سبحانه لقول(5/345)
النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (1) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه، وروى مسلم في صحيحه أيضا عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: «كان النبي يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية (2) » .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه كان إذا زار القبور يقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد (3) » ولم يكن حال الزيارة عليه الصلاة والسلام يقرأ سورة الفاتحة ولا غيرها من القرآن، فقراءتها وقت الزيارة بدعة، وهكذا قراءة غيرها من القرآن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (4) » متفق على صحته، وفي رواية مسلم - رحمه الله - يقول صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (5) » ، وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (6) » ، وأخرجه النسائي وزاد «كل ضلالة في النار (7) » .
فالواجب على المسلمين التقيد بالشرع المطهر والحذر من البدع في زيارة القبور وغيرها. والزيارة مشروعة لقبور المسلمين جميعا سواء سموا أولياء أم لم يسموا أولياء، وكل مؤمن وكل مؤمنة من أولياء الله كما قال الله عز وجل: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (8) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (9) وقال سبحانه في سورة الأنفال: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (10)
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (975) ، سنن النسائي الجنائز (2040) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1547) ، مسند أحمد بن حنبل (5/353) .
(3) صحيح مسلم الجنائز (974) ، سنن النسائي الجنائز (2039) .
(4) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(5) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(6) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(7) سنن النسائي صلاة العيدين (1578) .
(8) سورة يونس الآية 62
(9) سورة يونس الآية 63
(10) سورة الأنفال الآية 34(5/346)
ولا يجوز للزائر ولا لغيره دعاء الأموات أو الاستغاثة بهم، أو النذر لهم، أو الذبح لهم عند قبورهم أو في أي مكان يتقرب بذلك إليهم؛ ليشفعوا له أو يشفوا مريضه أو ينصروه على عدوه أو لغير ذلك من الحاجات؛ لأن هذه الأمور من العبادة، والعبادة كلها لله وحده، كما قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (1) وقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) وقال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (3) وقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (4) والمعنى: أمر ووصى، وقال عز وجل: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (5) وقال عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (6) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (7) والآيات في هذا المعنى كثيرة، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (8) » متفق على صحته من حديث معاذ رضي الله عنه، وهذا يشمل جميع العبادات من صلاة وصوم وركوع وسجود وحج ودعاء وذبح ونذر وغير ذلك من أنواع العبادة، كما أن الآيات السابقات تشمل ذلك كله، وفي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لعن الله من ذبح لغير الله وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تطروني كما أطرت
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة الجن الآية 18
(4) سورة الإسراء الآية 23
(5) سورة غافر الآية 14
(6) سورة الأنعام الآية 162
(7) سورة الأنعام الآية 163
(8) صحيح البخاري الجهاد والسير (2856) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد بن حنبل (5/238) .(5/347)
النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله (1) » والأحاديث في الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن الإشراك به وعن وسائل ذلك كثيرة معلومة. أما النساء فليس لهن زيارة القبور؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن زائرات القبور» والحكمة في ذلك - والله أعلم - أن زيارتهن قد تحصل بها الفتنة لهن ولغيرهن من الرجال. وقد كانت الزيارة للقبور في أول الإسلام ممنوعة حسما لمادة الشرك. فلما فشى الإسلام وانتشر التوحيد أذن صلى الله عليه وسلم الزيارة للجميع، ثم خص النساء بالمنع حسما لمادة الفتنة بهن.
أما قبور الكفار فلا مانع من زيارتها للذكرى والاعتبار، ولكن لا يدعى لهم ولا يستغفر لهم، لما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استأذن ربه أن يستغفر لأمه فلم يأذن له، واستأذنه أن يزور قبرها فأذن له، وذلك أنها ماتت في الجاهلية على دين قومها.
وأسأل الله أن يوفق المسلمين رجالا ونساء للفقه في الدين، والاستقامة عليه قولا وعملا وعقيدة، وأن يعيذهم جميعا من كل ما يخالف شرعه المطهر، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/24) .(5/348)
حكم قيام الطالبات للمدرسة
س: ما حكم قيام الطالبات للمدرسة احتراما لها؟
جـ: إن قيام البنات للمدرسة والبنين للمدرس أمر لا ينبغي، وأقل ما فيه الكراهة الشديدة؛ لقول أنس رضي الله عنه: «لم يكن أحد أحب إليهم يعني الصحابة رضي الله عنهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يقومون له إذا دخل عليهم؛ لما يعلمون من كراهته لذلك» ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار (1) » .
وحكم النساء حكم الرجال في هذا الأمر. وفق الله الجميع لما يرضيه وجنبنا جميعا مساخطه ومناهيه، ومنح الجميع العلم النافع والعمل به إنه جواد كريم.
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2755) ، سنن أبو داود الأدب (5229) .(5/349)
أجوبة مفيدة تتعلق بالرؤيا والصوم عن الميت.
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ن. هـ. ع وفقه الله آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بعده: -
وصلني كتابكم الكريم وصلك الله بهداه وما تضمنه من الأسئلة الخمسة كان معلوما. وإليك جوابها (1) : الأول: رأت أمك رؤيا متكررة بأنها تجمع غنما وكلما جمعت قسما انفلت منها قسم آخر وتعبت من ذلك.
الجواب: مثل هذه الرؤيا تعتبر رؤيا مكروهة، والمشروع في ذلك لمن رآى مثل هذه الرؤيا أن ينفث عن يساره ثلاثا إذا استيقظ، ويتعوذ بالله من الشيطان ومن شر ما رأى ثلاث مرات، ثم ينقلب على جنبه الآخر فإنها لا تضره ولا يخبر بها أحدا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يكره فلينفث عن يساره ثلاث مرات وليستعذ بالله من الشيطان، ومن شر ما رأى ثلاث مرات ثم ينقلب على جنبه الآخر فإنها لا تضره، ولا يخبر بها أحدا (2) » متفق على صحته.
وأما التيس الذي أخذته أمك من الغنم التي اختلطت بغنمها ولم تخبر به صاحبه ثم ذبحوه وأكلوه - فإن عليها التوبة من ذلك، وعليها قيمته لصاحبه ذلك الوقت، فإن لم تعرف صاحبه تصدقت به عنه على بعض الفقراء. نسأل الله أن يعفو عنا وعنها وعن كل مسلم.
الثاني: ترى أمك أمها مرات كثيرة وهي مريضة في حياتها وبعد موتها ... إلخ.
الجواب عن هذا السؤال كالذي قبله؛ لأنها رؤيا مكروهة وهي من الشيطان،
__________
(1) جواب السؤالين الرابع والخامس لم يذكرا هنا لعدم تعلقهما بالعقيدة.
(2) صحيح البخاري بدء الخلق (3292) ، صحيح مسلم الرؤيا (2261) ، سنن الترمذي الرؤيا (2277) ، سنن أبو داود الأدب (5021) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3909) ، مسند أحمد بن حنبل (5/300) ، موطأ مالك الجامع (1784) ، سنن الدارمي الرؤيا (2142) .(5/350)
والمشروع في ذلك لمن رأى رؤيا مكروهة هو ما ذكرنا في جواب السؤال الأول.
الثالث: كانت جدتك أم أمك مريضة مرضا شبه مستمر، وكانت تفطر في رمضان وتقضي، وكانت أمك تساعدها في القضاء بالصوم عنها.. إلخ؟
والجواب: لا يجزئ صوم الإنسان عن غيره إذا كان المصوم عنه حيا. وقد ماتت جدتك رحمها الله، فيشرع للوالدة أن تصوم عنها الأيام التي صامت عنها في حياتها؛ لأن صومها عنها في حياتها غير مجزئ، فإن لم يتيسر لها الصوم فالمشروع لها أن تتصدق عنها عن كل يوم بنصف صاع من التمر أو غيره من قوت البلد، ومقداره (كيلو ونصف) تقريبا مع الدعاء لها بالمغفرة والرحمة.(5/351)
لا حرج من الرحلة للتفقه في القرآن واستماعه من حسن الصوت به (1)
س: يوجد في مدينتنا قارئ جيد يخشع في صلاته، ويأتي إليه الناس من مدن بعيدة كالرياض والمنطقة الشرقية والباحة وغيرها، فما الحكم في مجيء هؤلاء، وهل صحيح أنهم وقعوا في النهي الوارد في الحديث: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى (2) » ؟ نرجو الإفادة والتوجيه. جزاكم الله خيرا.
أ. ب. ف - القصيم.
جـ لا نعلم حرجا في ذلك، بل ذلك داخل في الرحلة لطلب العلم والتفقه في القرآن الكريم واستماعه من حسن الصوت به، وليس السفر لذلك من شد الرحال المنهي عنه. وقد ارتحل موسى عليه الصلاة والسلام رحلة عظيمة إلى الخضر عليه السلام في مجمع البحرين لطلب العلم، ولم يزل أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم يرتحلون من إقليم إلى إقليم، ومن بلاد إلى بلاد لطلب العلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (3) » خرجه الإمام مسلم - رحمه الله - في صحيحه.
__________
(1) الدعوة. العدد 1227 تاريخ 6\7\1410 هـ.
(2) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(5/352)
حكم أخذ الكتب من المكتبات المدرسية
س: الأخت التي رمزت لاسمها بـ: فـ - س - ز من عنيزة في المملكة العربية السعودية تقول في سؤالها: في سنوات دراستي الماضية كان لدينا في مدرستنا مكتبة تضم عددا من الكتب والمجلات، وكانت لا تلقى أي اهتمام من الطالبات، وقد كنت أحب القراءة واقتناء الكتب، وأعجبني بعض الكتب الدينية التي كانت فيها وكذلك الكتب الطبية والقصصية، وهي حوالي أربعة كتب، وقد أخذتها من مكتبة المدرسة حتى أقرأها وأعيدها، وفي زحمة الدراسة نسيت أن أعيدها إلى المكتبة، وبعد أن تخرجت من المدرسة بحوالي ثلاث سنوات قالت لي إحدى الأخوات: إن أخذ هذه الكتب وعدم إرجاعها حرام ومحاسبون عليه يوم القيامة، مع العلم أنني عندما أخذتها لم أكن أعلم بحكم أخذها، وكذلك لم يكن للمكتبة أي اهتمام من المدرسات أو الطالبات، وأنا قد استفدت منها وخاصة الدينية، ولا أود أن أعيدها؛ لأن فيها أحكاما أفادتني. فما الحكم في ذلك جزاكم الله خيرا؟
جـ: الواجب عليك ردها إلى المكتبة؛ لأنها في حكم الوقف على المكتبة، ولا يجوز لأحد أن يأخذ من المكتبات العامة ولا من المكتبات المدرسية شيئا إلا بإذن المسئول عنها على وجه العارية لمدة محدودة، وعليك مع ذلك التوبة إلى الله مما فعلت، ونسأل الله أن يتوب عليك ويغفر لك إنه خير مسئول.(5/353)
طاعة الوالد بالمعروف
س: يسأل الأخ ر. أ. م من جمهورية مصر العربية بعد السلام على سماحتكم عما يصدر من والده من أعمال تخالف الشريعة وآدابها، وماذا يجب عليه نحو والده في هذه الحالة؟
جـ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته:
بعده: نسأل الله لوالدك الهداية، وأن يمن عليه بالتوبة، ونوصيك بالرفق به، ونصيحته بالأسلوب الحسن، وعدم اليأس من هدايته؛ لقول الله سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (1) {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} (2) الآية، فأوصى سبحانه بشكر الوالدين مع شكره، وأمر الولد أن يصاحبهما في الدنيا معروفا، وإن جاهداه على الكفر بالله، وبذلك تعلم أن المشروع لك أن تصحب والدك بالمعروف، وأن تحسن إليه وإن أساء إليك، وأن تجتهد في دعوته إلى الحق لعل الله يهديه بأسبابك. ولا يجوز لك أن تطيعه في معصية، ونوصيك أيضا بأن تستعين على هدايته بالله عز وجل، ثم بأهل الخير من أقاربك كأعمامك وغيرهم ممن يقدرهم ويحترمهم أبوك لعله يقبل نصيحتهم. نسأل الله لنا ولك وله الهداية والتوفيق للتوبة النصوح إنه سميع قريب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة لقمان الآية 14
(2) سورة لقمان الآية 15(5/354)
أسئلة متفرقة وأجوبتها
س 1: كثير من المسلمين يتساهلون في الحكم بغير شريعة الله، والبعض يعتقد أن ذلك التساهل لا يؤثر في تمسكه بالإسلام، والبعض الآخر يستحل الحكم بغير ما أنزل الله ولا يبالي بما يترتب على ذلك، فما هو الحق في ذلك؟
جـ 1: هذا فيه تفصيل وهو أن يقال: من حكم بغير ما أنزل وهو يعلم أنه يجب عليه الحكم بما أنزل الله، وأنه خالف الشرع ولكن استباح هذا الأمر، ورأى أنه لا حرج عليه في ذلك، وأنه يجوز له أن يحكم بغير شريعة الله فهو كافر كفرا أكبر عند جميع العلماء؛ كالحكم بالقوانين الوضعية التي وضعها الرجال من النصارى أو اليهود أو غيرهم ممن زعم أنه يجوز الحكم بها، أو زعم أنها أفضل من حكم الله، أو زعم أنها تساوي حكم الله، وأن الإنسان مخير إن شاء حكم بالقرآن والسنة، وإن شاء حكم بالقوانين الوضعية ... من اعتقد هذا كفر بإجماع العلماء كما تقدم. أما من حكم بغير ما أنزل الله لهوى أو لحظ عاجل وهو يعلم أنه عاص لله ولرسوله، وأنه فعل منكرا عظيما، وأن الواجب عليه الحكم بشرع الله فإنه لا يكفر بذلك الكفر الأكبر، لكنه قد أتى منكرا عظيما ومعصية كبيرة وكفرا أصغر، كما قال ذلك ابن عباس ومجاهد وغيرهما من أهل العلم، وقد ارتكب بذلك كفرا دون كفر، وظلما دون ظلم، وفسقا دون فسق، وليس هو الكفر الأكبر، وهذا قول(5/355)
أهل السنة والجماعة، وقد قال الله سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (1) وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (3) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) وقال عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (5) وقال عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (6) فحكم الله هو أحسن الأحكام وهو الواجب الاتباع وبه صلاح الأمة وسعادتها في العاجل والآجل وصلاح العالم كله، ولكن أكثر الخلق في غفلة عن هذا. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
(1) سورة المائدة الآية 49
(2) سورة المائدة الآية 44
(3) سورة المائدة الآية 45
(4) سورة المائدة الآية 47
(5) سورة النساء الآية 65
(6) سورة المائدة الآية 50(5/356)
س2: هل يكفي النطق بالركن الأول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أم لا بد من أشياء أخرى حتى يكتمل إسلام المرء؟
جـ 2: إذا شهد الكافر أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله عن صدق بذلك ويقين، وعلم بما دلت عليه، وعمل بذلك دخل في الإسلام، ثم يطالب بالصلاة وباقي الأحكام، ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال له: «ادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في(5/356)
اليوم والليلة، فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم (1) » ، فلم يأمرهم بالصلاة والزكاة إلا بعد التوحيد والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا فعل الكافر ذلك صار له حكم المسلمين، ثم يطالب بالصلاة وبقية أمور الدين، فإذا امتنع عن ذلك صارت له أحكام أخرى، فإن ترك الصلاة استتابه ولي الأمر، فإن تاب وإلا قتل وهكذا بقية الأحكام يعامل فيها بما يستحق.
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1395) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .(5/357)
س3: سمعنا عن قوم يأجوج ومأجوج في القرآن الكريم فما موقفهم الحالي في عالمنا المعاصر وما دورهم فيه؟
جـ3: هم من بني آدم، ويخرجون في آخر الزمان، وهم في جهة الشرق، وكان الترك منهم فتركوا دون السد وبقي يأجوج ومأجوج وراء السد، والأتراك كانوا خارج السد، ويأجوج ومأجوح من الشعوب الشرقية (الشرق الأقصى) ، وهم يخرجون في آخر الزمان من الصين الشعبية وما حولها بعد خروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم تركوا هناك حين بنى ذو القرنين السد وصاروا من ورائه من الداخل وصار الأتراك والتتر من الخارج، والله جل وعلا إذا شاء خروجهم على الناس خرجوا من محلهم وانتشروا في الأرض، وعثوا فيها فسادا، ثم يرسل الله عليهم نغفا في رقابهم فيموتون موتة نفس واحدة في الحال، كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتحصن منهم نبي الله عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم والمسلمون؛ لأن خروجهم في وقت عيسى بعد خروج الدجال.(5/357)
س4: أنا مسلمة والحمد لله، وأعمل كل ما يرضي الله وملتزمة بالحجاب الشرعي، ولكن والدتي سامحها الله لا تريد مني أن التزم بالحجاب، وتأمرني أن أشاهد السينما والفيديو ... إلخ، وتقول لي: إذا لم تتمتعي وتنشرحي تكونين عجوزا ويبيض شعرك؟
جـ4: الواجب عليك أن ترفقي بالوالدة، وأن تحسني إليها، وأن تخاطبيها بالتي هي أحسن؛ لأن الوالدة حقها عظيم، ولكن ليس لك طاعتها في غير المعروف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف (1) » ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (2) » ، وهكذا الأب والزوج وغيرهما لا يطاعون في معاصي الله للحديث المذكور، ولكن ينبغي للزوجة والولد ونحوهما أن يستعملوا الرفق والأسلوب الحسن في حل المشاكل، وذلك ببيان الأدلة الشرعية ووجوب طاعة الله ورسوله، والحذر من معصية الله ورسوله مع الثبات على الحق وعدم طاعة من أمر بمخالفته من زوج أو أب أو أم أو غيرهم، ولا مانع من مشاهدة ما لا منكر فيه من التلفاز والفيديو، وسماع الندوات العلمية والدروس المفيدة، والحذر من مشاهدة ما يعرض فيهما من المنكر، كما لا يجوز مشاهدة السينما لما فيها من أنواع الباطل.
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7145) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .
(2) صحيح البخاري أخبار الآحاد (7257) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/94) .(5/358)
س5: نسمع أن هناك أناسا سموا أبناءهم عبد الرسول وعبد النبي وعبد الحسن فما التوجيه؟
جـ5: التعبيد لا يجوز إلا لله سبحانه، قال أبو محمد بن حزم الإمام المشهور: اتفقوا (العلماء) على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد عمرو وعبد الكعبة وما أشبه ذلك، حاشى عبد المطلب. (انتهى) . ولا يجوز التسمية بالتعبيد لغير الله كعبد النبي وعبد الكعبة وعبد علي وعبد الحسن(5/358)
وعبد الحسين ونحو ذلك، أما عبد المحسن فلا بأس به؛ لأن المحسن من أسماء الله سبحانه وتعالى.
وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام؛ كما روى عن ابن عمر مرفوعا: «أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن (1) » رواه مسلم وأبو داود والترمذي، وفي رواية الطبراني عن ابن مسعود قال «أحب الأسماء إلى الله ما تعبد له وأصدق الأسماء همام وحارث» .
__________
(1) صحيح مسلم الآداب (2132) ، سنن الترمذي الأدب (2833) ، سنن أبو داود الأدب (4949) ، سنن ابن ماجه الأدب (3728) ، مسند أحمد بن حنبل (2/24) ، سنن الدارمي الاستئذان (2695) .(5/359)
س6: عندما استمعت لهذا البرنامج - أعني نور على الدرب - استفدت الكثير وخاصة عندما عرفت أن الأولياء والموتى لا يفيدون الإنسان، وعندما أخبرت أهلي بذلك اتهموني بأني كافرة، وأن الأولياء سيضرونني، وأنهم يرونني في المنام بأن هؤلاء الصالحين يلومونني. فبماذا تنصحون مثل هؤلاء الذين تشبعت عقولهم بالخرافات والبدع التي تكاد تنتشر في البلاد العربية؟
جـ6: ننصح الجميع بأن يتقوا الله - عز وجل - ويعلموا أن السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة في عبادة الله وحده، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والسير على منهاجه فهو سيد الأولياء وأفضل الأولياء. فالرسل والأنبياء هم أفضل الناس، وهم أفضل الأولياء والصالحين، ثم يليهم بعد ذلك في الفضل أصحاب الأنبياء رضي الله عنهم ومن بعدهم، وأفضل هذه الأمة أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم من بعدهم سائر المؤمنين على اختلاف درجاتهم ومراتهم في التقوى.
فالأولياء هم أهل الصلاح والاستقامة على طاعة الله ورسوله، وعلى رأس الأنبياء نبينا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، ثم أصحابه رضي الله عنهم، ثم الأمثل فالأمثل في التقوى والإيمان كما تقدم. وحبهم في الله والتأسي بهم في الخير وعمل الصالحات(5/359)
أمر مطلوب ولكن لا يجوز التعلق بهم وعبادتهم من دون الله، ولا دعاؤهم مع الله، ولا أن يستعان بهم أو يطلب منهم المدد؛ كأن يقول: يا رسول الله أغثني، أو يا علي أغثني، أو يالحسن أغثني أو انصرني أو يا سيدي الحسين، أو يا شيخ عبد القادر أو غيرهم، كل ذلك لا يجوز؛ لأن العبادة حق الله وحده، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) وقال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (2) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (3) الآية. وقال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (4) وقال عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (5) فسماهم كفرة بدعائهم غير الله، وقال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (6) وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (7) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (8)
فبين سبحانه أن مدعويهم من دون الله من الرسل أو الأولياء أو غيرهم لا يسمعون؛ لأنهم ما بين ميت أو مشغول بطاعة ربه كالملائكة أو غائب لا يسمع دعاءهم، أو جماد لا يسمع ولا يعي، ثم أخبر سبحانه أنهم لو سمعوا لم يستجيبوا لدعائهم، وأنهم يوم القيامة يكفرون
__________
(1) سورة البقرة الآية 21
(2) سورة غافر الآية 60
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة النمل الآية 62
(5) سورة المؤمنون الآية 117
(6) سورة الجن الآية 18
(7) سورة فاطر الآية 13
(8) سورة فاطر الآية 14(5/360)
بشركهم فعلم بذلك أن الله عز وجل هو الذي يسمع الدعاء، ويجيب الداعي إذا شاء، وهو النافع الضار المالك لكل شيء والقادر على كل شيء.
فالواجب الحذر من عبادة غيره والتعلق بغيره من الأموات والغائبين والجماد وغيرهم من المخلوقات التي لا تسمع الداعي ولا تستطيع نفعه أو ضره، أما الحي الحاضر القادر فلا بأس أن يستعان به فيما يقدر عليه كما قال عز وجل في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (1) الآية، وكما يستعين المسلم في الجهاد وقتال الأعداء بإخوانه المجاهدين ... والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة القصص الآية 15(5/361)
س7: هل يجوز أن أختم القرآن الكريم لوالدي علما أنهما أميان لا يقرءان ولا يكتبان؟ وهل يجوز أن أختم القرآن لشخص يعرف القراءة والكتابة، ولكن أريد إهداءه هذه الختمة؟ وهل يجوز لي أن أختم القرآن لأكثر من شخص؟
جـ7: لم يرد في الكتاب العزيز ولا في السنة المطهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته الكرام ما يدل على شرعية إهداء تلاوة القرآن الكريم للوالدين ولا لغيرهما، وإنما شرع الله قراءة القرآن للانتفاع به والاستقادة منه، وتدبر معانيه والعمل بذلك قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (2) وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (3) وقال نبينا عليه الصلاة والسلام:
__________
(1) سورة ص الآية 29
(2) سورة الإسراء الآية 9
(3) سورة فصلت الآية 44(5/361)
«اقرءوا القرآن فإنه يأتي شفيعا لأصحابه يوم القيامة (1) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إنه يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن أصحابهما (2) » المقصود أنه أنزل للعمل به وتدبره والتعبد بتلاوته والإكثار من قراءته، لا لإهدائه للأموات أو غيرهم، ولا أعلم في إهدائه للوالدين أو غيرهم أصل يعتمد عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » .
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك وقالوا: لا مانع من إهداء ثواب القرآن وغيره من الأعمال الصالحات، وقاسوا ذلك على الصدقة والدعاء للأموات وغيرهم، ولكن الصواب هو القول الأول للحديث المذكور وما جاء في معناه، ولو كان إهداء التلاوة مشروعا لفعله السلف الصالح. والعبادة لا يجوز فيها القياس؛ لأنها توقيفية لا تثبت إلا بالنص من كلام الله عز وجل أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ للحديث السابق وما جاء في معناه. أما الصدقة عن الأموات وغيرهم والدعاء لهم، والحج عن الغير ممن قد حج عن نفسه، وهكذا العمرة عن الغير ممن قد اعتمر عن نفسه، وهكذا قضاء الصوم عمن مات وعليه صيام فكل هذه العبادات قد صحت بها الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (804) ، مسند أحمد بن حنبل (5/255) .
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (805) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2883) ، مسند أحمد بن حنبل (4/183) .
(3) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(5/362)
س8: أرجو شرح قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} (1) {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (2) {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (3) هل يفهم من هذا أن من دخل الجنة يخرج منها إذا شاء الله؟ وهل نسخت هاتان الآيتان بشيء من القرآن إذ أنهما وردتا في سورة مكية؟
جـ8: الآيتان ليستا منسوختين بل محكمتان، وقوله عز وجل: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (4) اختلف أهل العلم في معنى ذلك مع إجماعهم على أن نعيم
__________
(1) سورة هود الآية 106
(2) سورة هود الآية 107
(3) سورة هود الآية 108
(4) سورة هود الآية 107(5/362)
الجنة دائم أبدا لا ينقضي ولا يزول ولا يخرجون منها ولهذا قال تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (1) لإزالة بعض ما قد يتوهم بعض الناس أن هناك خروجا، فهم خالدون فيها أبدا، ولهذا قال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (2) {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} (3) يعني آمنين من الموت، وآمنين من الخروج، وآمنين من الأمراض، ولهذا قال عز وجل بعد ذلك: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (4) {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (5) فهم فيها دائمون ولا يخرجون ولا يموتون، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} (6) {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (7) {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} (8) {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (9) {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} (10) {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (11) {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (12) فأخبر سبحانه أن أهل الجنة في مقام أمين لا يعتريه خراب ولا زوال، وأنهم آمنون أيضا لا خطر عليهم من موت ولا مرض ولا خروج، ولا يموتون أبدا.
فقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (13) قال بعض أهل العلم: معناه: مدة مقامهم في القبور ليسوا في الجنة، وإن كان المؤمن في روضة من رياض الجنة لكنها ليست هي الجنة ولكنه شيء منها، فإنه يفتح للمؤمن وهو في قبره باب إلى الجنة يأتيه من ريحها وطيبها ونعيمها، وينقل بعد ذلك إلى الجنة فوق السماوات في أعلى شيء.
وقال بعضهم: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (14) يعني مدة إقامتهم في موقف القيامة للحساب والجزاء وذلك بعد خروجهم من القبور، فإنهم بعد ذلك ينقلون إلى الجنة، وقال بعضهم: مجموع الأمرين مدة بقائهم في القبور، ومدة بقائهم في الموقف، ومرورهم على الصراط ... في كل هذه الأماكن ليسوا في الجنة لكنهم ينقلون منها إلى الجنة.
ومن هذا يعلم أن المقام مقام واضح ليس فيه شبهة ولا
__________
(1) سورة هود الآية 108
(2) سورة الحجر الآية 45
(3) سورة الحجر الآية 46
(4) سورة الحجر الآية 47
(5) سورة الحجر الآية 48
(6) سورة الدخان الآية 51
(7) سورة الدخان الآية 52
(8) سورة الدخان الآية 53
(9) سورة الدخان الآية 54
(10) سورة الدخان الآية 55
(11) سورة الدخان الآية 56
(12) سورة الدخان الآية 57
(13) سورة هود الآية 107
(14) سورة هود الآية 107(5/363)
شك فأهل الجنة في الجنة أبد الآباد، ولا موت ولا مرض ولا خروج ولا كدر ولا حزن ولا حيض ولا نفاس بل في نعيم دائم وخير دائم، وهكذا أهل النار يخلدون فيها أبد الآباد، ولا يخرجون منها كما قال عز وجل في حقهم: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (1) والآيات في هذا المعنى كثيرة. أما قوله عز وجل في حقهم: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (2) فقيل: إن المراد بذلك مقامهم في القبور، وقيل: مقامهم في الموقف، وهم بعد ذلك يساقون إلى النار ويخلدون فيها أبد الآباد، كما قال تعالى في حقهم في سورة البقرة: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (3) وقال سبحانه في سورة المائدة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (4) والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة فاطر الآية 36
(2) سورة هود الآية 107
(3) سورة البقرة الآية 167
(4) سورة المائدة الآية 37(5/364)
س9: متى يكون الأعجمي أفضل من العربي؟
جـ9: الحكم في ذلك كما نبه الله سبحانه عليه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) فإذا كان العجمي أتقى لله فهو أفضل، وهكذا إذا كان العربي أتقى لله فهو أفضل، فالفضل والكرم والمنزلة بالتقوى، فمن كان أتقى لله فهو أفضل سواء كان عجميا أو عربيا.
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13(5/364)
س10: ما حكم أخذ الأجرة على تحفيظ القرآن الكريم حيث إن لدينا إماما في قريتنا يأخذ أجرا على تحفيظ القرآن للصبيان؟
جـ10: لا حرج في أخذ الأجرة على تعليم القرآن وتعليم العلم؛ لأن الناس في حاجة إلى التعليم، ولأن المعلم قد يشق عليه ذلك ويعطله التعليم عن الكسب، فإذا أخذ أجرة على تعليم القرآن وتحفيظه وتعليم العلم(5/364)
فالصحيح أنه لا حرج في ذلك، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جماعة من الصحابة نزلوا ببعض العرب فلدغ سيدهم - يعني رئيسهم - وأنهم عالجوه بكل شيء، ولم ينفعه ذلك وطلبوا منهم أن يرقوه، فتقدم أحد الصحابة فرقاه بفاتحة الكتاب فشفاه الله وعافاه، وكانوا قد اشترطوا عليهم قطيعا من الغنم فأوفوا لهم بشرطهم، فتوقفوا عن قسمه بينهم حتى سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: «أحسنتم واضربوا لي معكم بسهم (1) » ، رواه البخاري في صحيحه، ولم ينكر عليهم ذلك، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله (2) » رواه البخاري في الصحيح أيضا، فهذا يدل على أنه لا بأس بأخذ الأجرة على التعليم كما جاز أخذها على الرقية.
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الطب (5749) ، صحيح مسلم السلام (2201) ، سنن الترمذي الطب (2063) ، سنن أبو داود البيوع (3418) ، سنن ابن ماجه التجارات (2156) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .
(2) صحيح البخاري الطب (5737) .(5/365)
س11: ما هي العبارات التي تطلق في حق الأموات، فنحن نسمع عن فلان (المغفور له) أو (المرحوم) فهل هذه العبارات صحيحة؟ وما التوجيه في ذلك؟
جـ1: المشروع في هذا أن يقال: (غفر الله له) أو (رحمه الله) ونحو ذلك إذا كان مسلما، ولا يجوز أن يقال: (المغفور له) أو (المرحوم) ؛ لأنه لا تجوز الشهادة لمعين بجنة أو نار أو نحو ذلك، إلا لمن شهد الله له بذلك في كتابه الكريم أو شهد له رسوله عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الذي ذكره أهل العلم من أهل السنة، فمن شهد الله له في كتابه العزيز بالنار كأبي لهب وزوجته، وهكذا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة كأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي وبقية العشرة رضي الله عنهم، وغيرهم ممن شهد له الرسول عليه الصلاة والسلام بالجنة؛ كعبد الله بن سلام وعكاشة بن محصن رضي الله عنهما، أو بالنار كعمه أبي طالب وعمرو بن لحي الخزاعي وغيرهما ممن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالنار(5/365)
- نعوذ بالله من ذلك - نشهد له بذلك.
أما من لم يشهد له الله سبحانه ولا رسوله بجنة ولا نار فإنا لا نشهد له بذلك على التعيين، وهكذا لا نشهد لأحد معين بمغفرة أو رحمة إلا بنص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أهل السنة يرجون للمحسن، ويخافون على المسيء، ويشهدون لأهل الإيمان عموما بالجنة، وللكفار عموما بالنار، كما أوضح ذلك سبحانه في كتابه المبين، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} (1) الآية، من سورة التوبة، وقال تعالى فيها أيضا: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ} (2) الآية، وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الشهادة بالجنة أو النار لمن شهد له عدلان أو أكثر بالخير أو الشر؛ لأحاديث صحيحة وردت في ذلك.
__________
(1) سورة التوبة الآية 72
(2) سورة التوبة الآية 68(5/366)
س12: ما معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (1) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (2) هل المقصود في الآية أن مرتكب الكبائر الثلاث يخلد في النار، أم المقصود إحداها فقط؟
جـ12: هذه الآية العظيمة فيها التحذير من الشرك والقتل والزنا، وأن أصحاب هذه الجرائم متوعدون بقوله سبحانه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (3) قيل: إنه واد في جهنم، وقيل: أراد به إثما عظيما فسره بقوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (4) وهذا جزاء من اقترف هذه
__________
(1) سورة الفرقان الآية 68
(2) سورة الفرقان الآية 69
(3) سورة الفرقان الآية 68
(4) سورة الفرقان الآية 69(5/366)
الجرائم الثلاث أو إحداها أن يضاعف له العذاب، ويخلد في العذاب مهانا، وهذه الجرائم الثلاث مختلفة في المراتب.
فجريمة الشرك هي أعظم الجرائم وأعظم الذنوب، وصاحبها مخلد في النار أبد الآباد، ولا يخرج من النار أبدا كما قال تعالى في سورة التوبة: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (1) وقال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) وقال عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) وقال تعالى في حقهم: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (4) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فالمشرك إذا مات ولم يتب فإنه يخلد في النار والجنة عليه حرام والمغفرة عليه حرام بإجماع المسلمين، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (5) وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (6) جعل المغفرة حراما على المشرك، أما ما دون الشرك فهو تحت المشيئة. ومن أنواع الشرك بالله التي يخلد صاحبها في النار إذا مات عليها إذا كانت قد بلغته الرسالة - دعاء الأموات من الأنبياء والأولياء وغيرهم، ودعاء الملائكة والجن والأصنام والأحجار
__________
(1) سورة التوبة الآية 17
(2) سورة الأنعام الآية 88
(3) سورة الزمر الآية 65
(4) سورة المائدة الآية 37
(5) سورة المائدة الآية 72
(6) سورة النساء الآية 48(5/367)
والكواكب وغير ذلك من المخلوقات؛ كقول بعضهم: يا سيدي أنا في جوارك، أنا في حسبك، انصرني، اشف مريضي، المدد المدد ... ونحو ذلك، وهكذا الذبح لهم والنذر لهم، وغير ذلك من العبادات التي يجب صرفها لله وحده، ولا يجوز صرفها إلى غيره من جميع الخلق؛ لقوله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) وقوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (2) وقوله عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (3) وقوله تعالى في سورة الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (4) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
أما الجريمة الثانية وهي القتل، والثالثة وهي الزنا، - وهاتان الجريمتان دون الشرك إذا كان من تعاطاهما لم يستحلهما، ويعلم أنهما محرمتان، ولكن حمله الشيطان على الإقدام على القتل بغير حق بسبب البغضاء والعداوة أو أسباب أخرى، وحمله الهوى والشيطان على الزنا، وهو يعتقد أن القتل محرم بغير حق، وأن الزنا محرم - فهاتان الجريمتان توجبان النار والخلود فيها خلودا مؤقتا إلا أن يعفو الله عن صاحبها لأعمال صالحة، أو توبة قبل الموت، أو بشفاعة الشفعاء أو بدعاء المسلمين، إلى غير ذلك من الأسباب التي جعلها الله سببا لغفران الذنوب، وقد يعذب صاحبها حسب مشيئة الله وحكمته، وهذا واقع لكثير من الناس، يعذبون على معاصيهم، ثم يخرجهم الله من النار برحمته سبحانه، إما بشفاعة الشفعاء أو بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، أو بشفاعة الملائكة أو الأفراط أو المؤمنين، فيخرجهم الله من النار بشفاعة هؤلاء بعد أن يمضوا فيها ما كتب الله عليهم من العذاب، ويبقى في النار أقوام من أهل التوحيد لم تشملهم شفاعة
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة الجن الآية 18
(4) سورة الفاتحة الآية 5(5/368)
الشفعاء فيخرجهم الله سبحانه وتعالى برحمته بدون شفاعة أحد؛ لأنهم ماتوا على التوحيد والإيمان، لكنهم لهم أعمال خبيثة ومعاص دخلوا بها النار، فإذا طهروا منها ومضت المدة التي كتب الله عليهم البقاء فيها أخرجهم سبحانه من النار رحمة منه عز وجل، ويلقون في نهر الحياة من أنهار الجنة فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، فإذا تم خلقهم أدخلهم الله الجنة كما صحت بذلك الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا يعلم أن العاصي كالقاتل، والزاني لا يخلد في النار خلود الكفار بل خلودا خاصا له نهاية؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (1) وهذا خلود مؤقت ليس كخلود المشركين، ومثل ذلك ما ورد في وعيد القاتل لنفسه. نسأل الله السلامة من ذلك.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 69(5/369)
س13: في قريتنا إمام يصلي بنا وهو يتعاطى أمرا كثيرا مما حيرنا في ذلك أنه عندما يتزوج أحد بالقرية لم يجعله يتم الزواج كاملا، حيث إن العروسين يحصل بينهما غضب شديد، ويقال: اذهبوا إلى هذا الشيخ لكي يعمل لهم ورقة، وهم عند ذلك يرضون على بعض، وعندما يحضر الشيخ يأتي بكتب من الإنس والجن، ويقرأ فيها، ويمسح على رأس العروسين بزيت، ويحضر معه حبرا أحمر، ويقول: هذا الحبر ينقعه في الماء ويشربه، وبعد ذلك يقول: ائتوني بدجاجة، فيذبحها ويأخذ دمها ويضعه على رأس العروسين، وبعد ذلك ينصرف الغضب. فما حكم ذلك؟
جـ12: هذا العمل منكر وخطأ وغلط وتلبيس على الناس لا وجه له ولا أساس له من الصحة، بل الواجب على من أحس بشيء من غضب أن يتعوذ بالله من الشيطان حتى يهدأ غضبه، ويشرع له الوضوء كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشيطان خلق من النار والنار تطفأ بالماء، والغضب(5/369)
من الشيطان فالمؤمن يفعل الأشياء الشرعية من التعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويتوضأ. كذلك من أسباب إطفاء الغضب أن يجلس إن كان قائما أو يضطجع إن كان قاعدا، أو يخرج من المحل حتى يهدأ الغضب.
أما ما يعمله هذا الشيخ من تلطيخ رءوسهم بالزيت أو بالدم أو بدم الدجاجة إلخ، فهذا لا أصل له، وكله غلط وتلبيس وخداع، وإن كان قصده بذبح الدجاجة التقرب للجن فذلك شرك أكبر، ففي الحديث الصحيح: «لعن الله من ذبح لغير الله (1) » ، والله يقول سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} (2) (يعني ذبحي) {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (4) ويقول تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (5) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (6) والنحر هو الذبح.
فالواجب أن يعرضوا عن هذا الرجل، ويبتعدوا عنه وينصحوه، فإن لم ينتصح ويتب إلى الله سبحانه وتعالى رفع أمره إلى المحكمة الشرعية، أو إلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو إلى الجهة المختصة إن لم يكن في البلد محكمة شرعية أو هيئة أمر بالمعروف ليحضروه ويخبروه بخطئه، ويمنعوه من العلاج المخالف للشرع المطهر.
أما الإمامة فلا ينبغي أن يبقى فيها، بل يجب عزله؛ لأنه متهم بالشرك، مع ما يتعاطاه من الأعمال التي لا أساس لها في الشرع المطهر. أما العروسان فيعالجان بالطرق الشرعية كما تقدم ... والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(2) سورة الأنعام الآية 162
(3) سورة الأنعام الآية 162
(4) سورة الأنعام الآية 163
(5) سورة الكوثر الآية 1
(6) سورة الكوثر الآية 2(5/370)
س14: إذا حلف الرجل ليتم أمرا وهو في حالة قد لا يملك شعوره، هل يلزمه التكفير وما هو؟
جـ 14: إذا حلف الإنسان على شيء يفعله فلم يفعله لزمته كفارة اليمين، مثل أن يقول: (والله لأكلمن فلانا) أو (والله لأزورنه) أو (والله لأصلين كذا(5/370)
وكذا) وما أشبه ذلك، فلم يفعل ما حلف عليه، فإنه يلزمه كفارة اليمين إذا كان عاقلا يعلم ما يقول، أما إذا كان قد اشتد به الغضب وليس في وعيه فاليمين لا تنعقد؛ لأن الوعي لما يقول لا بد منه، فإذا اشتد به الغضب حتى جعله لا يعقل ما يقول ولا يضبط ما يقول، فمثل هذا لا كفارة عليه كالمجنون والمعتوه والنائم.(5/371)
س15: من كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين، فهل يجوز إطعام واحد منهم الآن والآخر بعد أسبوع؛ لأنه قد لا يوجد عشرة مساكين دفعة واحدة؟ وهل إذا أطعمت واحدا عشر مرات أكون أطعمت عشرة مساكين؟
جـ 15: يجب التماس العشرة، فإذا أطعمت واحدا وكررت ذلك لا يكفي، فلا بد من عشرة كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم في سورة المائدة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (1) الآية. فلا بد من التماس العشرة ولو تعددت الأيام، لكن تجب المبادرة حسب الإمكان، ولو كان إطعامهم متفرقا في أيام فلا بأس، ولكن عليك أن تجتهد وتلتمس عشرة وتبادر باخراج الكفارة، أو تكسوهم كسوة تجزؤهم في الصلاة، تغديهم أو تعشيهم، فإن هذا يكفي للآية السابقة.
__________
(1) سورة المائدة الآية 89(5/371)
س16: طالب يسأل ويقول: ما هو الحق في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} (1) ؟
__________
(1) سورة القلم الآية 42(5/371)
جـ 16: الرسول صلى الله عليه وسلم فسرها بأن المراد يوم يجيء الرب يوم القيامة، ويكشف لعباده المؤمنين عن ساقه، وهي العلامة التي بينه وبينهم سبحانه وتعالى، فإذا كشف عن ساقه عرفوه وتبعوه، وإن كانت الحرب يقال لها: كشفت عن ساق إذا استشرت، وهذا معروف لغويا، قاله أئمة اللغة. ولكن في الآية الكريمة يجب أن يفسر بما جاء في الحديث الشريف، وهو كشف الرب عن ساقه سبحانه وتعالى.
وهذه من الصفات التي تليق بالله لا يشابهه فيها أحد جل وعلا، وهكذا سائر الصفات كالوجه واليدين والقدم والعين وغير ذلك من الصفات الثابتة بالنصوص، ومن ذلك الغضب والمحبة والكراهة وسائر ما وصف به نفسه سبحانه في الكتاب العزيز، وفي ما أخبر به عنه النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (3) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (4) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (5) وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان من أئمة العلم والهدى، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة الإخلاص الآية 1
(3) سورة الإخلاص الآية 2
(4) سورة الإخلاص الآية 3
(5) سورة الإخلاص الآية 4(5/372)
س17: أخ يسأل ويقول: ما حكم التأويل في الصفات؟
ج 17: التأويل منكر، لا يجوز تأويل الصفات بل يجب إمرارها كما جاءت على ظاهرها اللائق بالله سبحانه وتعالى بغير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، فالله جل وعلا أخبرنا عن صفاته وعن أسمائه وقال:(5/372)
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) فعلينا أن نمرها كما جاءت. وهكذا قال أهل السنة والجماعة، أمروها كما جاءت بلا كيف أي أقروها كما جاءت بغير تحريف لها ولا تأويل ولا تكييف، بل تقر على ظاهرها على الوجه الذي يليق بالله من دون تكييف ولا تمثيل. فيقال في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) وأمثالها من الآيات إنه استواء يليق بجلال الله وعظمته لا يشبه استواء المخلوق، ومعناه عند أهل الحق: العلو والارتفاع. وهكذا يقال في العين والسمع والبصر واليد والقدم، وغير ذلك من الصفات الواردة في النصوص، وكلها صفات تليق بالله لا يشابهه فيها الخلق جل وعلا.
وعلى هذا سار أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من أئمة السنة كالأوزاعي والثوري ومالك وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق وغيرهم من أئمة المسلمين رحمهم الله جميعا. ومن ذلك قوله تعالى في قصة نوح: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} (3) {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (4) الآية، وقوله سبحانه وتعالى في قصة موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (5) فسرهما أهل السنة بأن المراد بقوله سبحانه وتعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (6) أنه سبحانه سيرها برعايته سبحانه حتى استوت على الجودي، وهكذا قوله سبحانه في قصة موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (7) أي: على رعايته سبحانه وتوفيقه للقائمين على تربيته
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة طه الآية 5
(3) سورة القمر الآية 13
(4) سورة القمر الآية 14
(5) سورة طه الآية 39
(6) سورة القمر الآية 14
(7) سورة طه الآية 39(5/373)
عليه الصلاة والسلام، وهكذا قوله سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (1) أي إنك تحت كلاءتنا وعنايتنا وحفظنا، وليس هذا كله من التأويل بل ذلك من التفسير المعروف في لغة العرب وأساليبها ... ومن ذلك الحديث القدسي وهو قول الله سبحانه: «من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة (2) » يمر كما جاء عن الله سبحانه وتعالى من غير تكييف ولا تحريف ولا تمثيل بل على الوجه الذي أراده الله سبحانه وتعالى، وهكذا نزوله سبحانه في آخر الليل، وهكذا السمع والبصر والغضب والرضا والضحك والفرح وغير ذلك من الصفات الثابتة كلها تمر كما جاءت على الوجه الذي يليق بالله من غير تكييف ولا تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل عملا بقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3) وما جاء في معناها من الآيات.
أما التأويل للصفات وصرفها عن ظاهرها فهو مذهب أهل البدع من الجهمية والمعتزلة ومن سار في ركابهم، وهو مذهب باطل أنكره أهل السنة وتبرءوا منه وحذروا من أهله. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الطور الآية 48
(2) صحيح البخاري التوحيد (7405) ، صحيح مسلم التوبة (2675) ، سنن الترمذي الدعوات (3603) ، سنن ابن ماجه الأدب (3822) ، مسند أحمد بن حنبل (2/535) .
(3) سورة الشورى الآية 11(5/374)
س18: عن قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (1) ، فما هو معنى الآية؟ وما هو المراد بالشرك في الآية الكريمة؟
جـ18: قد أوضح العلماء معناها كابن عباس وغيره، وإن معناها أن المشركين
__________
(1) سورة يوسف الآية 106(5/374)
إذا سئلوا عمن خلق السماوات والأرض ومن خلقهم يقولون الله، وهم مع هذا يعبدون الأصنام والأوثان كاللات والعزى ونحوهما ويستغيثون بها وينذرون ويذبحون لها. فإيمانهم هذا هو توحيد الربوبية، ويبطل ويفسد بشركهم بالله تعالى ولا ينفعهم. فأبو جهل وأشباهه يؤمنون بأن الله خالقهم ورازقهم وخالق السماوات والأرض ولكن لم ينفعهم هذا؛ لأنهم أشركوا بالله بعبادة الأصنام والأوثان. هذا هو معنى الآية عن أهل العلم.(5/375)
س19: ما حكم تصوير المحاضرات بجهاز الفيديو للاستفادة منها في أماكن أخرى لتعم الفائدة؟
جـ 19: هذا محل نظر، وتسجيلها بالأشرطة أمر مطلوب ولا يحتاج معها إلى الصورة، ولكن الصورة قد يحتاج إليها بعض الأحيان حتى يعرف ويتحقق أن المتكلم فلان، فالصورة توضح المتكلم، وقد يكون ذلك لأسباب أخرى، فأنا عندي في هذا توقف، من أجل ما ورد من الأحاديث في حكم التصوير لذوات الأرواح وشدة الوعيد في ذلك. وإن كان جماعة من إخواني أهل العلم رأوا أنه لا بأس بذلك للمصلحة العامة. ولكن أنا عندي بعض التوقف في مثل هذا لعظم الخطر في التصوير ولما جاء فيه من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما في بيان أن «أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون (1) » ، وأحاديث لعن المصورين إلى غير ذلك من الأحاديث. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5950) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2109) ، سنن النسائي الزينة (5364) ، مسند أحمد بن حنبل (1/375) .(5/375)
س20: أخ يسأل ويقول: إن كثيرا من طلبة العلم اليوم يعرفون كثيرا من فضائل الأعمال وأجرها ومنها قيام الليل ولا يطيقون هذا، حيث إنهم يعلمون ولا يعملون.
جـ20: الأعمال التي جاءت النصوص ببيان فضلها قسمان: قسم واجب،(5/375)
فعلى المرء المسلم سواء كان عالما أو غير عالم أن يعتني به، وأن يتقي الله في ذلك، وأن يحافظ عليه كالصلوات الخمس وأداء الزكاة وغيرهما من الفرائض. وقسم مستحب كالتهجد بالليل وصلاة الضحى ونحو ذلك. فالمشروع للمؤمن أن يجتهد في ذلك ويحرص عليه، ولا سيما أهل العلم؛ لأنهم قدوة، ولو شغل عن ذلك أو تركه بعض الأحيان لم يضره ذلك؛ لأنه نافلة، لكن من صفات أهل العلم والأخيار العناية بهذا الأمر والمحافظة عليه كالتهجد بالليل وصلاة الضحى والرواتب إلى غير هذا من وجوه الخير.(5/376)
حكم بيع واقتناء الحيوانات المحنطة
س: سائل من عنيزة والأخ الذي رمز لاسمه بـ: م. ن. ص من تبوك في المملكة العربية السعودية يقولان في سؤالهما: نأمل من سماحتكم إفتاءنا عن حكم اقتناء الحيوانات والطيور المحنطة؟ وما حكم بيع ما ذكر؟ وهل هناك فرق بين ما يحرم اقتناؤه حيا وما يجوز اقتناؤه حيا في حالة التحنيط؟ وما الذي ينبغي على المحتسب حيال تلك الظاهرة؟(5/376)
جـ: اقتناء الطيور والحيوانات المحنطة سواء ما يحرم اقتناؤه حيا أو ما جاز اقتناؤه حيا - فيه إضاعة للمال وإسراف وتبذير في نفقات التحنيط، وقد نهى الله عن الإسراف والتبذير، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، ولأن ذلك وسيلة إلى تصوير الطيور وغيرها من ذوات الأرواح، وتعليقها ونصبها في البيوت والمكاتب وغيرها، وذلك محرم فلا يجوز بيعها ولا اقتناؤها.
وعلى المحتسب أن يبين للناس أنها محرمة، وأن يمنع ظاهرة تداولها في الأسواق، وقد وقع الشرك في قوم نوح بسبب تصوير ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكانوا رجالا صالحين في قوم نوح، ماتوا في زمن متقارب فزين الشيطان لقومهم أن يصوروا صورهم وينصبوها في مجالسهم ففعلوا، فوقع الشرك في قوم نوح بسبب ذلك، كما ذكر ذلك البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذكر ذلك غيره من المفسرين والمحدثين والمؤرخين. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(5/377)
هل الوصية واجبة وما نصها الشرعي(5/377)
س: الأخت التي رمزت لاسمها بـ: نوره. م. من الرياض تقول في سؤالها: هل كتابة الوصية واجبة، وهل يلزم لها شهود؟ وحيث أنني لا أعرف النص الشرعي أرجو إرشادي إليه جزاكم الله خيرا؟
جـ: تكتب الوصية حسب الصيغة التالية: أنا فلان بن فلان أو فلانة بنت فلان أوصي بأنني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأوصي من تركت من أهلي وذريتي وسائر أقاربي بتقوى الله وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله والتواصي بالحق والصبر عليه، وأوصيهم بمثل ما أوصى به إبراهيم عليه السلام بنيه ويعقوب: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) ثم يذكر ما يرغب أن يوصي به من ثلث ماله أو أقل من ذلك أو مال معين لا يزيد على الثلث، ويبين مصارفه الشرعية، ويذكر الوكيل على ذلك.
والوصية ليست واجبة بل مستحبة إذا أحب أن يوصي بشيء؛ لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده (2) » ، لكن إذا كانت
__________
(1) سورة البقرة الآية 132
(2) صحيح البخاري الوصايا (2738) ، صحيح مسلم الوصية (1627) ، سنن الترمذي الجنائز (974) ، سنن النسائي الوصايا (3616) ، سنن أبو داود الوصايا (2862) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2699) ، مسند أحمد بن حنبل (2/50) ، موطأ مالك الأقضية (1492) .(5/378)
عليه ديون أو حقوق ليس عليها وثائق تثبتها لأهلها وجب عليه أن يوصي بها حتى لا تضيع حقوق الناس، وينبغي أن يشهد على وصيته شاهدين عدلين، وأن يحررها لدى من يوثق بتحريره من أهل العلم حتى يعتمد عليها، ولا ينبغي أن يكتفي بخطه فقط؛ لأنه قد يشتبه خطه على الناس، وقد لا يتيسر من يعرفه من الثقات. والله ولي التوفيق.(5/379)
حكم الإسبال إذا كان عادة وليس خيلاء(5/379)
س: الأخ الذي رمز لاسمه (أبو محمد) من الزلفي من المملكة العربية السعودية يقول في سؤاله: في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حديث ما معناه: أن الذي يسبل ثيابه في النار، فنحن ثيابنا تحت الكعبين وليس قصدنا التكبر ولا الافتخار وإنما هي عادة اعتدنا عليها، فهل فعلنا هذا حرام؟ وهل الذي يسبل ثيابه وهو مؤمن بالله يكون في النار؟ أرجو الإفادة جزاكم الله خيرا؟
جـ: لفد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار (1) » رواه الإمام البخاري في صحيحه، وقال عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان في ما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب (2) » أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل على تحريم الإسبال مطلقا، ولو زعم صاحبه أنه لم يرد التكبر والخيلاء؛ لأن ذلك وسيلة للتكبر، ولما في ذلك من الإسراف وتعريض الملابس للنجاسات والأوساخ، أما إن قصد بذلك التكبر فالأمر أشد والإثم أكبر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة (3) » والحد في ذلك هو الكعبان، فلا يجوز للمسلم الذكر أن تنزل ملابسه عن الكعبين للأحاديث المذكورة، أما الأنثى فيشرع لها أن تكون ملابسها ضافية تغطي قدميها.
وأما ما ثبت «عن الصديق رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن إزاري يسترخي
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5787) ، سنن النسائي الزينة (5331) ، مسند أحمد بن حنبل (2/461) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (106) ، سنن الترمذي البيوع (1211) ، سنن النسائي البيوع (4458) ، سنن أبو داود اللباس (4087) ، سنن ابن ماجه التجارات (2208) ، مسند أحمد بن حنبل (5/158) ، سنن الدارمي البيوع (2605) .
(3) صحيح البخاري المناقب (3665) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2085) ، سنن الترمذي اللباس (1731) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، سنن ابن ماجه اللباس (3569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/67) ، موطأ مالك الجامع (1696) .(5/380)
إلا أن أتعاهده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لست ممن يفعله خيلاء (1) » فالمراد بذلك أن من استرخى إزاره بغير قصد وتعاهده وحرص على رفعه لم يدخل في الوعيد؛ لكونه لم يتعمد ذلك، ولم يقصد الخيلاء، ولم يترك ذلك بل تعاهد رفعه وكفه.
وهذا بخلاف من تعمد إرخاءه فإنه متهم بقصد الخيلاء وعمله وسيلة إلى ذلك والله سبحانه هو الذي يعلم ما في القلوب، والنبي صلى الله عليه وسلم أطلق الأحاديث في التحذير من الإسبال، وشدد في ذلك ولم يقل فيها إلا من أرخاها بغير خيلاء، فالواجب على المسلم أن يحذر ما حرم الله عليه، وأن يبتعد عن أسباب غضب الله، وأن يقف عند حدود الله يرجو ثوابه ويخشى عقابه عملا بقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) وقوله عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (4) وفق الله المسلمين لكل ما فيه رضاه وصلاح أمرهم في دينهم ودنياهم إنه خير مسئول.
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5784) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) .
(2) سورة الحشر الآية 7
(3) سورة النساء الآية 13
(4) سورة النساء الآية 14(5/381)
سؤالان في العطور(5/381)
س1: ما حكم استعمال بعض العطور التي تحوي على شيء من الكحول؟
جـ1: الأصل حل العطور والأطياب التي بين الناس إلا ما علم أن به ما يمنع استعماله؛ لكونه مسكرا أو يسكر كثيره، أو به نجاسة ونحو ذلك، وإلا فالأصل حل العطور التي بين الناس كالعود والعنبر والمسك ... إلخ.
فإذا علم الإنسان أن هناك عطرا فيه ما يمنع استعماله من مسكر أو نجاسة ترك ذلك، ومن ذلك الكلونيا، فإنه ثبت عندنا بشهادة الأطباء أنها لا تخلو من المسكر، ففيها شيء كبير من الإسبيرتو وهو مسكر، فالواجب تركها إلا إذا وجد منها أنواع سليمة، وفيما أحل الله من الأطياب ما يغني عنها والحمد لله، وهكذا كل شراب أو طعام فيه مسكر يجب تركه، والقاعدة أن ما أسكر كثيره فقليله حرام كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام (1) » والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن الترمذي الأشربة (1865) ، سنن أبو داود الأشربة (3681) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3393) ، مسند أحمد بن حنبل (3/343) .(5/382)
س2: المسك ودهن العود أو الورد ونحو ذلك من أنواع الطيب إذا استخدمته المرأة وكانت رائحتها واضحة فما حكم استعمالها، خاصة إذا خرجت المرأة من منزلها؟ وهل يعتبر تكريم الزائرات بتبخيرهن وتعطيرهن في حكم ذلك؟
جـ 2: خروج المرأة بالطيب إلى الأسواق أمر ممنوع وليس لها أن تخرج بذلك، ولا أن تعين الزائرات والضيوف بذلك، بل عليها أن تنصح وأن تقول: نود أن نطيبكم ولكن خروج المرأة بالطيب إلى الأسواق أمر ممنوع، وبذلك تجمع بين النصيحة وترك ما حرم الله فعله.(5/382)
من برنامج نور على الدرب(5/382)
س: من سوداني مقيم في الأنبار يقول: في بلدنا طوائف متفرقة كل طائفة تتبع شيخا يرشدها ويعلمها أشياء، ويعتقدون أنهم يشفعون لهم عند الله يوم القيامة، ومن لم يتبع هؤلاء المشايخ يعتبر ضائعا في الدنيا والآخرة، فهل علينا اتباع هؤلاء أم نخالفهم؟ أفيدونا بارك الله فيكم.
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد: فيذكر السائل أن لديهم مشايخ يتبعونهم، وأن من ليس له شيخ فهو ضائع في الدنيا والآخرة إذا لم يطع هذا الشيخ. والجواب عن هذا: أن هذا غلط ومنكر لا يجوز اتخاذه ولا اعتقاده، وهذا واقع فيه كثير من الصوفية، يرون أن مشايخهم هم القادة، وأن الواجب اتباعهم مطلقا، وهذا غلط عظيم وجهل كبير، وليس في الدنيا أحد يجب اتباعه والأخذ بقوله سوى رسول الله عليه الصلاة والسلام فهو المتبع عليه الصلاة والسلام.
أما العلماء فكل واحد يخطئ ويصيب، فلا يجوز اتباع قول أحد من الناس كائنا من كان إلا إذا وافق شريعة الله، وإن كان عالما كبيرا، فقوله: لا يجب اتباعه إلا إذا كان موافقا لشرع الله الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، لا الصوفية ولا غير الصوفية، واعتقاد الصوفية في هؤلاء المشايخ أمر باطل وغلط، فالواجب عليهم التوبة إلى الله من ذلك، وأن يتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الهدى قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (1) المعنى: قل يا أيها
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31(5/383)
الرسول للناس إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ... والمراد هو محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى قل يا محمد لهؤلاء الناس المدعين لمحبة الله: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) وقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2)
فالطاعة الواجبة هي طاعة الله ورسوله، ولا يجوز طاعة أحد من الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا إذا وافق قوله شريعة الله، فكل واحد يخطئ ويصيب ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله عصمه وحفظه فيما ييلغه للناس من شرع الله عز وجل، قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (3) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (4) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (5) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (6) فعلينا جميعا أن نتبع ما جاء به عليه الصلاة والسلام، وأن نعتصم بدين الله ونحافظ عليه، وأن لا نغتر بقول الرجال، وأن لا نأخذ بأخطائهم، بل يجب أن تعرض أقوال الناس وآراؤهم على كتاب الله وسنة رسوله، فما وافق الكتاب والسنة أو أحدهما قبل وإلا فلا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (7) وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (8) وقال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (9) فتقليد المشايخ واتباع آرائهم بغير علم وبصيرة
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) سورة النور الآية 56
(3) سورة النجم الآية 1
(4) سورة النجم الآية 2
(5) سورة النجم الآية 3
(6) سورة النجم الآية 4
(7) سورة النساء الآية 59
(8) سورة الشورى الآية 10
(9) سورة الأنعام الآية 153(5/384)
ذلك أمر لا يجوز عند جميع العلماء بل منكر بإجماع أهل السنة والجماعة، لكن ما وافق الحق من أقوال العلماء أخذ به؛ لأنه وافق الحق، لا لأنه قول فلان وما خالف الحق من أقوال العلماء أو مشايخ الصوفية أو غيرهم وجب رده، وعدم الأخذ به؛ لكونه خالف الحق لا لكونه قول فلان أو فلان.(5/385)
لا يجوز للإنسان أن يأخذ بثأره من قاتله بغير الطرق الشرعية(5/385)
س: هذه رسالة من السودان يقول: لماذا حرم الإسلام أن يأخذ الإنسان بثأره من قاتله أو قاتل قريبه. أفيدونا أفادكم الله؟
جـ: الإسلام شرع الله فيه القصاص من القاتل، والمعنى أن من قتل غيره بغير حق فلورثته القصاص من القاتل بشروطه المعتبرة شرعا، من طريق ولاة الأمور، وللورثة أن يعفو عن القصاص إلى الدية إذا كانوا مكلفين مرشدين، ولهم أن يعفو عن القصاص والدية جميعا؛ لقول الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قتل في قتيل فأهله بين خيرتين إما أن يقتلوا، وإما أن يأخذوا الدية (2) » ، ولقول الله عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (3)
أما أن يتعدى هذا على هذا أو هذا على هذا بغير الطرق الشرعية فذلك لا يجوز؛ لأنه يفضي إلى الفساد والفتن، وسفك الدماء بغير حق، وإنما يطلب القصاص بالطرق الشرعية بشروطه المعتبرة شرعا.
__________
(1) سورة البقرة الآية 179
(2) سنن الترمذي الديات (1406) ، سنن أبو داود الديات (4504) .
(3) سورة الشورى الآية 40(5/386)
لا يجوز الكف عن تدريس القرآن خشية الثناء أو المدح
س: سؤال من مصري يعمل في المنطقة الشرقية يقول في رسالته: أنا أقوم(5/386)
بتعليم قراءة القرآن الكريم لوجه الله تعالى بعد صلاة العشاء من كل يوم، وذلك لأجناس مسلمة غير عربية من باكستانيين وهنود وصومالية وغير ذلك في موقع السكن، حيث إننا نسكن في مجمع سكني يوجد به مسجدا أقامه أهل الخير بارك الله فيهم، وقد قمت منذ وصولي بتدريس القرآن لهؤلاء الناس وبدءوا معي بداية طيبة. والآن أصبحوا يقرءون، وكثير منهم استغنى عني ولا زلت أواصل عليها، ولكن المشكلة إنهم يشكرونني ويبالغون في الثناء علي وفي مدحي، وأنا أخشى من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه في الثلاثة الذين يدخلون النار، ومنهم قارئ القرآن حيث يقول الله له: «قرأت ليقال عنك قارئ وقد قيل (1) » . وأنا في الحقيقة استنكر فعلهم هذا وأردهم عنه لكن ما ذنبي في أنهم يقولونه، هل علي ذنب أن أوقف القراءة أم ماذا أفعل؟
ج: أنت على كل حال مشكور على هذا العمل الطيب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (2) » فأنت مشكور على عملك، وأنت على أجر عظيم ولا حرج عليك ما دمت مخلصا لله في عملك هذا، ولا يضرك ثناؤهم عليك، وعليك أن تنصحهم وتوصيهم بعدم المبالغة في الثناء، أو يكفي الدعاء لك بدلا من الثناء. زادك الله من النشاط والتوفيق.
أما الوعيد الوارد في الحديث فهو لمن قرأ ليقال: هو قارئ، وتعلم ليقال: عالم، أما من علم الناس يريد ثواب الله، ويطلب الأجر منه سبحانه وتعالى فإنه لا يضره ثناء الناس ما دام مخلصا لله سبحانه في عمله والله الموفق.
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1905) ، سنن الترمذي الزهد (2382) ، سنن النسائي الجهاد (3137) ، مسند أحمد بن حنبل (2/322) .
(2) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .(5/387)
الذبح عند انتصاف البناء أو اكتماله(5/387)
س: سؤال من أحد الإخوة السودانيين يقول فيه: (1) توجد في بلدنا عادة وهي أن المرء إذا شرع في بناء منزل له يذبح ذبيحة إذا وصل البناء إلى النصف، أو تؤجل هذه الذبيحة حتى اكتمال البنيان وإرادة السكن في المنزل، فيدعى لهذه الذبيحة الأقارب والجيران، فما رأي فضيلتكم لهذا العمل؟ وهل هناك عمل مشروع يستحب عمله قبل السكن في المنزل الجديد؟ أفيدونا جزاكم الله خير الجزاء.
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد:
فهذا التصرف فيه تفصيل، فإن كان المقصود من الذبيحة اتقاء الجن أو مقصدا آخر يقصد به صاحب البيت أن هذا الذبح يحصل به كذا وكذا كسلامته وسلامة ساكنيه - فهذا لا يجوز، فهو من البدع. وإن كان للجن فهو شرك أكبر؛ لأنه عبادة لغير الله.
أما إن كان من باب الشكر على ما أنعم به عليه من الوصول إلى السقف أو عند إكمال البيت فيجمع أقاربه وجيرانه ويدعوهم لهذه الوليمة فهذه لا بأس بها، وهذا يفعله كثير من الناس من باب الشكر لنعم الله؛ حيث من عليهم بتعمير البيت والسكن فيه بدلا من الاستئجار، ومثل ذلك ما يفعله بعض الناس عند القدوم من السفر يدعو أقاربه وجيرانه شكرا لله على السلامة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر نحر جزورا ودعا الناس لذلك عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) نور على الدرب شريط رقم 837.(5/388)
حكم الصلاة في مسجد فيه قبر
س: الأخ م. أ. ن من ميت طريف - دقهلية - بمصر يقول في سؤاله: هل تصح الصلاة في المساجد التي يوجد فيها قبور؟ .
جـ: المساجد التي فيها قبور لا يصلى فيها، ويجب أن تنبش القبور وينقل(5/388)
رفاتها إلى المقابر العامة، كل قبر في حفرة خاصة كسائر القبور، ولا يجوز أن يبقى فيها قبور لا قبر ولي ولا غيره؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى وحذر من ذلك، ولعن اليهود والنصارى على عملهم ذلك. فقد ثبت عنه أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » ، قالت عائشة رضي الله عنها: (يحذر ما صنعوا) . متفق عليه «وقال عليه الصلاة والسلام لما أخبرته أم سلمة وأم حبيبة بكنيسة في الحبشة فيها تصاوير فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله (2) » متفق على صحته، وقال عليه الصلاة والسلام: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (3) » خرجه مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي. فنهى عن اتخاذ القبور مساجد عليه الصلاة والسلام، ولعن من فعل ذلك وأخبر أنهم شرار الخلق. فالواجب الحذر من ذلك.
ومعلوم أن من صلى عند قبر فقد اتخذه مسجدا، ومن بنى عليه مسجدا فقد اتخذه مسجدا، فالواجب أن تبعد القبور عن المساجد، ولا يجعل فيها قبور، امتثالا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وحذرا من اللعنة التي صدرت من ربنا عز وجل لمن بنى المساجد على القبور؛ لأنه إذا صلى في مسجد فيه قبور قد يزين له الشيطان دعوة الميت أو الاستغاثة به أو الصلاة له أو السجود له فيقع الشرك الأكبر، ولأن هذا من عمل اليهود والنصارى، فوجب أن نخالفهم، وأن نبتعد عن طريقهم وعن عملهم السيئ.
لكن لو كانت القبور هي القديمة ثم بني عليها المسجد فالواجب هدمه وإزالته؛ لأنه هو المحدث، كما نص على ذلك أهل العلم حسما لأسباب الشرك وسدا لذرائعه. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (529) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (427) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (528) ، سنن النسائي المساجد (704) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(5/389)
السفر إلى بلاد الكفر(5/389)
س: سائل يسأل ويقول: أحسن الله إليكم، من الملاحظ أنه في المدة الأخيرة يكثر سفر الكثير من الشباب إلى بلاد الكفر إما للدراسة أو لغيرها، وبعضهم يكون حديث عهد بالإسلام، فهل ترون أنهم بحاجة إلى إدارة وهيئة خاصة تقوم بمتابعتهم وتوجيههم إلى الوجهة الصحيحة ورعاية شئونهم، فتكون هذه الإدارة إما مرتبطة بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد أو بالرابطة الإسلامية؟
جـ: لا شك أن سفر الطلبة فيه خطر عظيم سواء كانوا من أبناء المسلمين من الأساس أو من المسلمين الجدد، لا شك أن هذا أمر خطير يجب العناية به، والحذر من عاقبته الوخيمة، وقد كتبنا وحذرنا غير مرة من السفر إلى الخارج، وبينا أخطار ذلك، وإذا كان لا بد من السفر فليكونوا من الكبار الذين قد حصلوا على العلم الكثير وتبصروا في دينهم، وأن يكون معهم من يلاحظهم ويراقبهم ويلاحظ سلوكهم حتى لا يذهبوا مذاهب تضرهم، وهذا يجب أن يعتنى به ويجب أن يتابع حتى يتم الأمر فيه؛ لأن الخطر كبير.
وإذا ذهب طالب العلم من الثانوي أو المتوسط أو من كان في حكم ذلك أو في أثناء الدراسة العليا فإن الخطر كبير في مثل هذا، فيجب أن يكون هناك تخصص في الداخل يغني عن السفر إلى الخارج، وإذا كان لا بد من السفر إلى الخارج فليكن من أناس يختارون، يعرف فيهم الفضل والعلم ورجاحة العقل(5/390)
والاستقامة في الدين، ويكون هناك من يشرف عليهم ويتابع خطاهم ويعتني بهم حتى يرجعوا، بشرط أن يكون ذلك للتخصص الذي لا بد منه، ولا يوجد في الداخل ما يغني عنه.
ونسأل الله أن يوفق ولاة الأمور لكل خير، وأن يعين أهل العلم على أداء واجبهم.(5/391)
المرأة والطبيب(5/391)
س: ما رأي فضيلة الشيخ في قضية كثيرا ما يسأل عنها وهي محرجة للمسلمين؛ القضية هي قضية المرأة والطبيب. وبم تنصحون الأخوات المسلمات حول هذا، وكذلك أولياء الأمور؟
جـ: لا ريب أن قضية المرأة والطبيب قضية مهمة، وفي الحقيقة إنها متعبة كثيرا، ولكن إذا رزق الله المرأة التقوى والبصيرة فإنها تحتاط لنفسها وتعتني بهذا الأمر. فليس لها أن تخلو بالطبيب، وليس للطبيب أن يخلو بها. وقد صدرت الأوامر والتعليمات في منع ذلك من ولاة الأمور. فعلى المرأة أن تعتني بهذا الأمر، وأن تتحرى التماس الطبيبات الكافيات، فإذا وجدن فالحمد لله ولا حاجة إلى الطبيب.
فإذا دعت الحاجة إلى الطبيب لعدم وجود الطبيبات فلا مانع عند الحاجة إلى الكشف والعلاج، وهذه من الأمور التي تباح عند الحاجة، لكن لا يكون الكشف مع الخلوة بل يكون مع وجود محرمها أو زوجها إن كان الكشف في أمر ظاهر كالرأس واليد والرجل أو نحو ذلك. وإن كان الكشف في عورات فيكون معها زوجها إن كان لها زوج أو امرأة، وهذا أحسن وأحوط، أو ممرضة أو ممرضتان تحضران، ولكن إذا وجد غير الممرضة امرأة تكون معها يكون ذلك أولى وأحوط وأبعد عن الريبة، وأما الخلوة فلا تجوز.(5/392)
قراءة القرآن سرا(5/392)
س: أنا الحمد لله أقرأ القرآن جيدا بدرجة أقرب للحفظ رأسا، ولكن مشكلتي إذا جهرت في القراءة بدون مصحف كثيرا ما أغلط فهل قراءة السر فيها حرج أو عدم ثواب؟
جـ: السر أفضل، للحديث الذي رواه الجماعة بإسناد حسن عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة (1) » . وهذا يدل على أن السر أفضل كما أن الصدقة في السر أفضل، إلا إذا دعت الحاجة والمصلحة إلى الجهر، كالإمام الذي يصلي بالناس والخطيب الذي يخطب بالناس والذي يستمع له فإنه يجهر ليستمع الناس ويستفيدوا.
فإذا كان السر أنفع لك وأعون لك على حفظ القرآن بل وعلى القراءة الحسنة فالسر لك أفضل، إلا إذا احتاج إليك إخوانك لكي تسمعهم فاسمعهم من المصحف حتى لا يكون عليك غلط، أو يكون معك مصحف إذا غلطت تنظر إليه، أو يوجد فيهم من يحفظ فيفتح عليك فلا بأس.
والمقصود إذا كان هناك مصلحة في الجهر فهو أفضل، فإن لم يكن هناك داع للجهر فالسر لك أفضل حتى تستطيع أن تقرأ قراءة جيدة.
__________
(1) سنن الترمذي فضائل القرآن (2919) ، سنن النسائي الزكاة (2561) ، سنن أبو داود الصلاة (1333) ، مسند أحمد بن حنبل (4/151) .(5/393)
هواية رسم الأشياء(5/393)
س: عندي أخت هوايتها الرسم، وبعد إكمالها دراستها في الثانوية والتحاقها في الجامعة نمت هذه الهواية واستمرت معها، وكانت ترسم الأشياء على حقيقتها المطابقة لها إلى حد كبير، وعندما نصحتها بترك هذا الشيء، وذكرتها بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا تقول: إنها هواية ولا أستطيع التخلي عنها، ومع ذلك فهي شابة خلوقة متمسكة بأوامر دينها. فأرجو أن تشرحوا في هذا شرحا وافيا لعل الله يدلها إلى الطريق الصحيح.
جـ: الواجب على كل مسلم ومسلمة أن يتحرى أوامر الله، وأن يطيع أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وألا يحتج على هذا بالهواية، فطاعة الله ورسوله مقدمة على الهواية. فمن كانت هوايته المسكرات هل يشرب المسكرات؟ !! أو كانت هوايته ترك الصلاة والنوم عنها هل يترك الصلاة؟ !! كل هذا غلط. فالواجب تحكيم الشريعة في كل شيء في الهوايات وغير الهوايات والآراء. فإذا كانت هوايتها التصوير فتصور الشجر والجبل والسيارة وما لا روح فيه. أما ذوات الأرواح فلا، وعليها أن تدع هوايتها من أجل طاعة الله ورسوله. وفق الله الجميع لما يرضيه. 50(5/394)
وجوب رضا الأولاد بقسمة أبيهم العادلة(5/394)
صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أعرض لفضيلتكم مشكلتي التي أسأل الله أن يوفقكم على إيجاد حلها، وهي أننا ثلاثة أخوات وأخوين ولسنا من أم واحدة حيث أنني من أم ثانية، ووالدنا جزاه الله خيرا أراد أن يهدينا في حياته لكل منا أرض. وإنني أكبر أخواتي وإخواني المذكورين فأتاني أولا وأخبرني أن لديه أرض بالعمرة، وأنه سوف يهديني نصفها، ونصفها يقيم عليه مسجدا، فتقبلت منه هي بالشكر والدعاء. وعاد إلي ثانية وقال لي: إن جهة الاختصاص الحكومية لم توافق على تجزئة الأرض، وإنه سيهديها لأخواتي حيث أنهما شقيقتين وسيتفقان في بيعها سوية أو بنائها سوية، أو تتنازل إحداهما للأخرى بنصفها مقابل مبلغ تدفعه لأختها، حيث إنهما موظفتان ولديهما الإمكانية بأن تدفع إحداها لأخراها ولو بالتقسيط من رواتبهما. وأرضية بالرياض أهداها لأخوتي وثالثة لأمهما التي ليست على ذمته. وعرض علي أن أختار بين أرضين في الخبر وثلاث في الخفجي أو بين أرضين في الطائف إحداها في الهدا أو في بحره، وترك لي فرصة أفكر في إحداهما وعاد لي فأجبته أنني اخترت التي في بحره، ولكنني لم أراها، وبطلبي أفرغ لي هي وسلمني صكها. والآن وبعد ذلك أرى أنني مغبونة. فهل لي الحق أن أطالبه بتبديلها لي بأخرى. أرجو الإجابة بذيل كلامي هذا. أثابكم الله.
س. ص.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد:
لا أرى لك حقا في طلب الزيادة؛ لأن الموضوع موضوع تعديل بينك وبين إخوتك من والدكم جزاه الله خيرا ... وقد اخترت ما قسم الله لك، وليس الموضوع موضوع بيع وشراء، ولكن موضوع تحر للعدل بينكم، وقد صدر منك الرضا بالأرض المذكورة فلا وجه للرجوع عن ذلك.. نسأل الله أن يبارك لك وأن يصلح حال الجميع. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/395)
الحساب عن لبس الثوب (1)
. س: هل صحيح أن الإنسان يحاسب يوم القيامة عن الثوب الذي يلبسه؟
جـ: نعم يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه. كما جاء في الحديث الشريف.
__________
(1) من فتاوى سماحة الشيخ ضمن الزاوية الثابتة بالمجلة العربية: (فاسألوا أهل الذكر)(5/396)
حكم أكل ذبائح النصارى (1)
س: هل يجوز أكل ذبائح النصارى في زمننا الحاضر. علما بتعدد طرق الذبح لديهم كاستخدام الماكينات والمواد المخدرة في عملية الذبح؟
جـ: يجوز أكل ذبائحهم ما لم يعلم أنها ذبحت بغير الوجه الشرعي؛ لأن الأصل حلها كذبيحة المسلم لقول الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (2)
__________
(1) نشرت بالمجلة العربية في باب (فاسألوا أهل الذكر) .
(2) سورة المائدة الآية 5(5/396)
تعدد القراءات في القرآن(5/396)
س: يقولون أن تعدد القراءات في القرآن معناه اختلاف في القرآن حيث يؤدي إلى معان ثانية، مثل آية الإسراء {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} (1) عند يلقاه منشورا.
جـ: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن نزل من عند الله على سبعة أحرف أي لغات من لغات العرب ولهجاتها تيسيرا لتلاوته عليهم، ورحمة من الله بهم، ونقل ذلك نقلا متواترا، وصدق ذلك واقع القرآن، وما وجد فيه من القراءات فهي كلها تنزيل من حكيم حميد.
ليس تعددها من تحريف أو تبديل ولا لبس في معانيها، ولا تناقض في مقاصدها ولا اضطراب، بل بعضها يصدق بعضا ويبين مغزاه، وقد تتنوع معاني بعض القراءات فيفيد كل منها حكما يحقق مقصدا من مقاصد الشرع، ومصلحة من مصالح العباد مع اتساق معانيها وائتلاف مراسيها وانتظامها في وحدة تشريع محكمة كاملة لا تعارض بينها ولا تضارب فيها.
فمن ذلك ما ورد من القراءات في الآية التي ذكرها السائل وهي قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} (2) فقد قرئ ونخرج بضم النون وكسر الراء، وقرئ يلقاه بفتح الياء والقاف مخففة، والمعنى: ونحن نخرج للإنسان يوم القيامة كتابا هو
__________
(1) سورة الإسراء الآية 13
(2) سورة الإسراء الآية 13(5/397)
صحيفة عمله، يصل إليه حال كونه مفتوحا فيأخذه بيمينه إن كان سعيدا أو بشماله إن كان شقيا، وقرئ يلقاه منشورا بضم الياء وتشديد القاف. والمعنى: ونحن نخرج للإنسان يوم القيامة كتابا - هو صحيفة عمله - يعطى الإنسان ذلك الكتاب حال كونه مفتوحا فمعنى كل من القراءتين يتفق في النهاية مع الآخر، فإن من يلقى إليه الكتاب فقد وصل إليه، ومن وصل إليه الكتاب فقد ألقي إليه.
ومن ذلك قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (1) قرئ يكذبون بفتح الياء وسكون الكاف وكسر الذال، بمعنى: يخبرون بالأخبار الكاذبة عن الله والمؤمنين، وقرئ يكذبون بضم الياء وفتح الكاف وتشديد الذال المكسورة، بمعنى: يكذبون الرسل فيما جاءوا به من عند الله من الوحي. فمعنى كل من القراءتين لا يعارض الآخر ولا يناقضه بل كل منهما ذكر وصفا من أوصاف المنافقين، وصفتهم الأولى بالكذب في الخبر عن الله ورسله وعن الناس، ووصفتهم الثانية بتكذيبهم رسل الله فيما أوحي إليهم من التشريع وكل حق، فإن المنافقين جمعوا بين الكذب والتكذيب.
ومن ذلك يتبين أن تعدد القراءات كان بوحي من الله لحكمة، لا عن تحريف وتبديل، وأنه لا يترتب عليه أمور شائنة ولا تناقض أو اضطراب بل معانيها ومقاصدها متففة. والله الموفق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 10(5/398)
هجر أصحاب الكبائر(5/398)
الأخ / م. م من الجزائر بعث إلينا سؤالا يقول فيه: س: ما القول في معاملة أصحاب الكبائر كاللواط والزنا وغيرها من الذنوب التي جاءت النصوص بالوعيد الشديد لمن يقترفها. هل يجوز الكلام مع أصحاب هذه الجرائم؟ وهل يجوز إلقاء السلام عليهم ... وهل تجوز مصاحبتهم بقصد تذكيرهم بوعيد الله وأليم عقابه إذا كان فيهم بوادر التوبة ... ؟
جـ: من يتهم بهذه المعاصي تجب نصيحته وتحذيره منها ومن عواقبها السيئة، وأنها من أسباب مرض القلوب وقسوتها وموتها، أما من أظهرها وجاهر بها فالواجب أن يقام عليه حدها، وأن يرفع أمره إلى ولاة الأمور، ولا تجوز صحبتهم ولا مجالستهم، بل يجب هجرهم لعل الله يهديهم ويمن عليهم بالتوبة إلا أن يكون الهجر يزيدهم شرا، فالواجب الإنكار عليهم دائما بالأسلوب الحسن والنصائح المستمرة حتى يهديهم الله. ولا يجوز اتخاذهم أصحابا، بل يجب أن يستمر في الإنكار عليهم وتحذيرهم من أعمالهم القبيحة، ويجب على ولاة الأمور في البلاد الإسلامية أن يأخذوا على أيديهم، وأن يقيموا عليهم الحدود الشرعية، ويجب على من يعرف أحوالهم أن يساعد الدولة في ذلك؛ لقول الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وقوله عز وجل:
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(5/399)
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) الآية.
وقوله سبحانه وتعالى: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (5) » رواه الإمام مسلم في صحيحه، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة. قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (6) » أخرجه مسلم أيضا. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يوفقهم للتواصي بالحق والصبر عليه، وأن يجمع كلمتهم على الهدى، ويصلح ولاة أمرهم إنه خير مسئول.
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .
(6) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .(5/400)
هجر المغتاب(5/400)
القارئ: م. أ. من حائل أرسل إلينا يقول: - س: لي صديق كثيرا ما يتحدث في أعراض الناس، وقد نصحته ولكن دون جدوى، ويبدو أنها أصبحت عادة عنده، وأحيانا يكون كلامه في الناس عن حسن نية. فهل يجوز هجره؟
جـ: الكلام في أعراض المسلمين بما يكرهون منكر عظيم، ومن الغيبة المحرمة بل من كبائر الذنوب؛ لقول الله سبحانه: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (1)
ولما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أتدرون ما الغيبة؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: يا رسول الله إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته (2) » ، «وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما عرج به مر على قوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم (3) » أخرجه أحمد وأبو داود بإسناد جيد عن أنس رضي الله عنه، وقال العلامة ابن مفلح: إسناده صحيح، قال: وخرج أبو داود بإسناد حسن
__________
(1) سورة الحجرات الآية 12
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2589) ، سنن الترمذي البر والصلة (1934) ، سنن أبو داود الأدب (4874) ، مسند أحمد بن حنبل (2/458) ، سنن الدارمي الرقاق (2714) .
(3) سنن أبو داود الأدب (4878) .(5/401)
عن أبي هريرة مرفوعا: «أن من الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق (1) » .
والواجب عليك وعلى غيرك من المسلمين عدم مجالسة من يغتاب المسلمين مع نصيحته والإنكار عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (2) » . رواه مسلم في صحيحه. فإن لم يمتثل فاترك مجالسته؛ لأن ذلك من تمام الإنكار عليه.
أصلح الله حال المسلمين ووفقهم لما فيه سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة.
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (4877) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .(5/402)
هل يجوز قول المرأة في الدعاء: " أنا عبدك "(5/402)
س: في بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أصاب عبدا هم ولا حزن ثم قال: اللهم إني عبدك وابن عبدك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك (1) » . إلخ، هل المرأة تقول: عبدك أو أمتك، وفي بعض الأدعية المشابهة لهذا؟
جـ: الأمر في هذا واسع إن شاء الله، والأحسن أن تقول: اللهم إني أمتك وابنة عبدك وابنة أمتك ... إلخ، وهذا يكون أنسب وألصق بها، ولو دعت باللفظ الذي جاء في الحديث لم يضر إن شاء الله؛ لأنها وإن كانت أمة فهي عبد أيضا من عباد الله.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/391) .(5/403)
هل يجوز قول (إن شاء الله) على عمل قد تم.
س: سمعت بعض الناس يقول: إذا فعلت عملا كالصلاة أو الصوم أو أي عمل في الدين أو الدنيا وسئلت: هل صليت أو صمت لا تقل: إن شاء الله بل قل: نعم؛ لأنك عملت فعلا. فما رأيكم؟
جـ: هذا فيه تفصيل، أما في العبادات فلا مانع أن يقول: إن شاء الله صليت، إن شاء الله صمت؛ لأنه لا يدري هل كملها وقبلت منه أم لا. وكان المؤمنون يستثنون في إيمانهم وفي صومهم؛ لأنهم لا يدرون هل كملوا أم لا، فيقول الواحد منهم: صمت إن شاء الله، ويقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
أما الشيء الذي لا يحتاج إلى ذكر المشيئة مثل أن يقول: بعت(5/403)
إن شاء الله- فهذا لا يحتاج إلى ذلك، أو يقول: تغديت أو تعشيت إن شاء الله، فهذا لا يحتاج أن يقول كلمة: إن شاء الله؛ لأن هذه الأمور لا تحتاج إلى المشيئة في الخبر عنها، لأنها أمور عادية قد فعلها وانتهى منها، بخلاف أمور العبادات التي لا يدري هل وفاها أم بخسها حقها، فإذا قال: إن شاء الله فهو للتبرك باسمه سبحانه والحذر من دعوى شيء لم يكن قد أكمله ولا أداه حقه.(5/404)
أسماء بعض الكتب المفيدة
س: أرجو أن تدلوني على الكتب المفيدة النافعة في الدنيا والدين؟
جـ: الكتب النافعة كثيرة، أعظمها وأهمها كتاب الله سبحانه وتعالى فيه الهدى والنور، وفيه الدعوة إلى كل خير، وبيان مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وبيان ما أوجب الله وما أعد لأهل طاعته من الخير، بيان ما حرم الله وما أعد لأهل معصيته في العقوبة. فأعظم كتاب وأشرف كتاب وأنفع كتاب هو كتاب الله العظيم القرآن، ثم كتاب السنة الصحيحة، كالبخاري ومسلم وغيرهما من كتب السنة المعروفة كأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وسنن الدارمي ومسند أحمد بن حنبل وموطأ مالك رحمة الله على الجميع، وهذه من أنفع الكتب.
لكن بالنسبة إلى الطلبة الذين لم يتمكنوا من العلم وهكذا الطالبات اللاتي لم يتمكن من العلم- فهؤلاء ننصحهم جميعا بحفظ كتاب الله الكريم، مع حفظ المؤلفات المختصرة في العقيدة والحديث الشريف؛ مثل: كتاب (التوحيد) للإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، و (ثلاثة الأصول) له أيضا، و (كشف الشبهات) له أيضا، و (العقيدة الواسطية) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، و (بلوغ المرام) للحافظ ابن حجر، (وعمدة الحديث) للحافظ عبد الغني المقدسي، و (الأربعين النووية) وتكملتها للحافظ ابن رجب، و (آداب المشي إلى الصلاة) للشيخ محمد(5/404)
بن عبد الوهاب رحمه الله، ومطالعة الكتب الآتية: (فتح المجيد) و (رياض الصالحين) و (الوابل الصيب) و (زاد المعاد) و (جامع العلوم والحكم) للحافظ ابن رجب ... وأشباهها من الكتب المفيدة المختصرة.(5/405)
حكم مس ترجمة معاني القرآن
س: يوجد لدي ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية، فهل يجوز أن يمسها الكافر؟
جـ: لا حرج أن يمس الكافر ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية أو غيرها من اللغات؛ لأن الترجمة تفسير لمعاني القرآن، فإذا مسها الكافر أو من ليس على طهارة فلا حرج في ذلك؛ لأن الترجمة ليس لها حكم القرآن وإنما لها حكم التفسير، وكتب التفسير لا حرج أن يمسها الكافر ومن ليس على طهارة، وهكذا كتب الحديث والفقه واللغة العربية. والله ولي التوفيق.(5/405)
السلام على الكافر
س: في هذه الأيام ونتيجة للاحتكاك مع الغرب والشرق وغالبهم من الكفار على اختلاف مللهم نراهم يرددون تحية الإسلام علينا حينما نقابلهم في أي مكان فماذا يجب علينا تجاههم؟ علي. ح. الرياض.
ج: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام, وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم (2) » متفق عليه ... وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى , وحكم بقية الكفار حكم اليهود والنصارى في هذا الأمر؛ لعدم الدليل على الفرق فيما نعلم.
فلا يبدأ الكافر بالسلام مطلقا , ومتى بدأ هو بالسلام وجب الرد عليه بقولنا: وعليكم , امتثالا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا مانع من أن يقال له بعد ذلك: كيف حالك وكيف أولادك , كما أجاز ذلك بعض أهل العلم, ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله , ولا سيما إذا اقتضت المصلحة الإسلامية ذلك كترغيبه في الإسلام وإيناسه بذلك ليقبل الدعوة ويصغي لها؛ لقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) , وقوله سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (4) الآية.
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2167) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2700) .
(2) صحيح البخاري الاستئذان (6258) ، صحيح مسلم السلام (2163) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3301) ، سنن أبو داود الأدب (5207) ، سنن ابن ماجه الأدب (3697) ، مسند أحمد بن حنبل (3/218) .
(3) سورة النحل الآية 125
(4) سورة العنكبوت الآية 46(5/406)
لا يشرع غرس الشجر على القبر(5/406)
س: بعد دفن الميت يقرأ بعض الناس من المصحف سورة (يس) عند القبر، ويضعون غرسا على القبر مثل الصبار، ويزرع سطح القبر بالشعير أو القمح بحجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع ذلك على قبرين من أصحابه، ما حكم ذلك؟ ح. ع الدمام.
جـ: لا تشرع قراءة سورة (يس) ولا غيرها من القرآن على القبر بعد الدفن ولا عند الدفن، ولا تشرع القراءة في القبور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولا خلفاؤه الراشدون، كما لا يشرع الأذان ولا الإقامة في القبر، بل كل ذلك بدعة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
وهكذا لا يشرع غرس الشجر على القبور، لا الصبار ولا غيره، ولا زرعها بشعير أو حنطة أو غير ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك في القبور ولا خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم. أما ما فعله مع القبرين اللذين أطلعه الله على عذابهما من غرس الجريدة فهذا خاص به صلى الله عليه وسلم وبالقبرين؛ لأنه لم يفعل ذلك مع غيرهما، وليس للمسلمين أن يحدثوا شيئا من القربات لم يشرعه الله للحديث المذكور، ولقول الله سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (2) الآية وبالله التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) سورة الشورى الآية 21(5/407)
ذكر الله في القلب مشروع في كل زمان ومكان(5/407)
س: مطلوب من الإنسان ذكر الله في كل وقت وعلى كل حال إلا في أماكن نهي عن ذكر الله فيها كالحمام مثلا، فهل يقطع الإنسان ذكر الله في الحمام بتاتا حتى ولو في قلبه؟ ع. ن الرياض.
جـ: الذكر بالقلب مشروع في كل زمان ومكان في الحمام وغيره، وإنما المكروه في الحمام ونحوه ذكر الله باللسان؛ تعظيما لله سبحانه إلا التسمية عند الوضوء، فإنه يأتي بها إذا لم يتيسر الوضوء خارج الحمام؛ لأنها واجبة عند بعض أهل العلم، وسنة مؤكدة عند الجمهور.(5/408)
آية منسوخة
س: يقول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (1) هل هذه الآية خاصة باليهود والنصارى أم أنها عامة؟ ع. ع. الحوطة.
ج: للعلماء في الآية الكريمة قولان: أحدهما: أنها وأمثالها منسوخات بآية السيف وهي قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} (2) الآية، وما جاء في معناها مثل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (3)
__________
(1) سورة البقرة الآية 256
(2) سورة التوبة الآية 5
(3) سورة الأنفال الآية 39(5/408)
والقول الثاني: أنها في أهل الكتاب ومن في حكمهم كالمجوس إذا سلموا الجزية فإنهم لا يكرهون على الدخول في الإسلام؛ لقول الله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم «أخذ الجزية من مجوس هجر (2) » . وبذلك يعلم أنه ليس فيها حجة لمن زعم عدم وجوب الجهاد في سبيل الله.
ويدل على هذا المعنى أيضا حديث بريدة بن الحصيب المخرج في صحيح مسلم، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا وفي آخره قال: فإن هم أبوا- أي الكفار- الدخول في الإسلام فاسألهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم (3) » . وهذا محمول على أهل الكتاب ومن في حكمهم كالمجوس عند جمهور أهل العلم جمعا بين هذا الحديث وبين آية التوبة المتقدم ذكرها وما في معناها.
__________
(1) سورة التوبة الآية 29
(2) صحيح البخاري الجزية (3157) ، سنن الترمذي السير (1586) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3043) ، مسند أحمد بن حنبل (1/191) ، سنن الدارمي السير (2501) .
(3) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731) ، سنن الترمذي السير (1617) ، سنن أبو داود الجهاد (2612) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2858) ، مسند أحمد بن حنبل (5/358) .(5/409)
حكم من ارتكب جريمة بنية التوبة (1)
__________
(1) الدعوة العدد 970 بتاريخ 25\ 3\ 1405 هـ.(5/409)
قارئ رمز لاسمه بالحروف (ث. ك. ت.) بعث إلينا يقول: لقد أغواني الشيطان وفعلت جريمة الزنا وأنا أعلم أنها جريمة بشعة وأريد أن أتوب إلى الله عز وجل فهل يتوب الله علي. علما أنني كنت أقول: سوف أفعلها ثم أتوب. فهل لي توبة؟
جـ: التوبة بابها مفتوح إلى أن تطلع الشمس من مغربها، فمن تاب إلى الله توبة نصوحا من الشرك فما دونه تاب الله عليه.
والتوبة النصوح هي المشتملة على الإقلاع عن الذنوب والندم على ما فات منها، والعزم الصادق على ألا يعود فيها؛ خوفا من الله سبحانه وتعظيما له ورجاء لعفوه ومغفرته، كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (1) وقال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وقال عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (3) وقد أجمع العلماء على أن هذه الآية نزلت في التائبين.
ويزاد على الشروط الثلاثة المذكورة في صحة التوبة شرط رابع فيما إذا كانت الحقوق لآدميين: وهو أن يؤدي إليهم حقوقهم من مال أو غيره أو يستحلهم منها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان عنده لأخيه مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله اليوم قبل ألا يكون
__________
(1) سورة التحريم الآية 8
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة الزمر الآية 53(5/410)
دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ من حسناته بقدر مظلمته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه (1) » . أخرجه البخاري في صحيحه.
والواجب على المسلم أن يحذر الشرك ووسائله وجميع المعاصي؛ لأنه قد يبتلى بشيء من ذلك ثم لا يوفق للتوبة فتعين عليه أن يحذر كل ما حرم الله عليه، وأن يسأل ربه العافية من ذلك، وألا يتساهل مع الشيطان فيقدم على المعاصي بنية التوبة منها، ولا شك أن ذلك خداع من الشيطان وتزيين منه للوقوع في المعاصي بدعوى أنه سيتوب منها، وقد يعاقب العبد فيحال بينه وبين ذلك فيندم غاية الندامة، وتعظم حسرته حين لا ينفعه الندم.
وقد قال سبحانه: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (2) وقال سبحانه: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (3) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (4) {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (5) والآيات في هذا المعنى كثيرة. وقاك الله شر نفسك وأعاذك من نزغات الشيطان.
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2449) ، مسند أحمد بن حنبل (2/506) .
(2) سورة البقرة الآية 40
(3) سورة آل عمران الآية 28
(4) سورة فاطر الآية 5
(5) سورة فاطر الآية 6(5/411)
الطاعة في المعروف (1)
__________
(1) نشر في الدعوة بعددها 1097 في 3\ 11\1407 هـ.(5/411)
القارئ م. أ. س من الرياض بعث إلينا السؤال التالي:
س: إنني أشتغل منذ عدة سنوات بتحفيظ القرآن الكريم في مكان بعيد عن المدينة التي يسكن فيها والداي، ولذا فهما يطلبان مني أن أترك التدريس وأعمل مع أحد إخواني الذين يسكنون عندهما، وأنا متردد في هذا الأمر؛ لأني أخشى أن أترك التدريس فيضيع الطلاب وينسوا ما حفظوه من القرآن الكريم. فما تنصحونني جزاكم الله خيرا؟
جـ: ننصحك بالاستمرار في تحفيظ القرآن الكريم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1) » أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، ولما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين، ولا تلزمك طاعة والديك في ترك ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف (2) » ويشرع لك الاعتذار إليهما بالكلام الطيب والأسلوب الحسن. وبالله التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .
(2) صحيح البخاري الأحكام (7145) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .(5/412)
سبب تقديم المال على الأولاد في القرآن (1)
__________
(1) نشرت في المجلة العربية في باب (فاسألوا أهل الذكر) .(5/412)
س: دائما يرد ذكر المال مقدم على الأولاد في القرآن الكريم رغم أن الأولاد أغلى لدى الأب من ماله. فما هي الحكمة من ذلك؟
جـ: الفتنة بالمال أكثر؛ لأنه يعين على تحصيل الشهوات المحرمة بخلاف الأولاد، فإن الإنسان قد يفتن بهم ويعصي الله من أجلهم، ولكن الفتنة بالمال أكثر وأشد، ولهذا بدأ سبحانه بالأموال قبل الأولاد كما في قوله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} (1) الآية، وقوله سبحانه: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (2) الآية، وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (3)
__________
(1) سورة سبأ الآية 37
(2) سورة التغابن الآية 15
(3) سورة المنافقون الآية 9(5/413)
هذا الكلام من الكفر البواح (1)
__________
(1) الدعوة العدد 1083 يوم الاثنين 16\7\1407 هـ.(5/413)
القارئ خ. ع أرسل إلينا السؤال التالي: س: لقد ورد في صحيفة محلية خبر جاء فيه: (منصور ... البالغ من العمر 13 ربيعا مزدهرا برحيق الصبا ... كان على موعد مع الحزن والأسى ولعبة القدر العمياء) ثم ... (ولكن القدر المترصد لمنصور لم يحكم لعبته الأزلية ... إلخ) ، وفي نفس الصحيفة ورد خبر عن فتاة سحقتها سيارة وعندما علمت أمها (فحضرت على التو لتشهد الحادث الأليم الذي أطاح بأسرتها وأحال حياتها إلى جحيم لا ينتهي) فما حكم الشرع في مثل هذا الكلام؟ جزاكم الله خيرا.
ج: المشروع للمسلم عند وقوع المصائب المؤلمة الصبر والاحتساب، وأن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل، وأن يتحمل الصبر، ويحذر الجزع والأقوال المنكرة؛ لقول الله سبحانه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (1) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (2) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (3) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان (4) » خرجه الإمام مسلم
__________
(1) سورة البقرة الآية 155
(2) سورة البقرة الآية 156
(3) سورة البقرة الآية 157
(4) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه المقدمة (79) ، مسند أحمد بن حنبل (2/370) .(5/414)
في صحيحه، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من عبد يصاب بمصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها (1) » ، ولا يجوز الجزع وإظهار السخط أو الكلام المنكر مثلما ذكر في السؤال (لعبة القدر العمياء) وهكذا قوله: (ولكن القدر المترصد لمنصور لم يحكم لعبته الأزلية) .
هذا الكلام وأشباهه من المنكرات العظيمة بل من الكفر البواح؛ لكونه اعتراضا على الله سبحانه، وسبا لما سبق به علمه واستهزاء بذلك، فعلى من قال ذلك أن يتوب إلى الله سبحانه توبة صادقة، وقد صح عن رسول الله أنه قال: «ليس منا من ضرب الخدود أو شق الجيوب أو دعا بدعوى الجاهلية (2) » متفق على صحته من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة (3) » متفق على صحته من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. والصالقة: هي التي ترفع صوتها عند المصيبة. والحالقة: هي التي تحلق شعرها عند المصيبة. والشاقة: هي التي تشق ثوبها عند المصيبة، وبالله التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (918) ، سنن أبو داود الجنائز (3119) ، مسند أحمد بن حنبل (6/309) ، موطأ مالك الجنائز (558) .
(2) صحيح البخاري الجنائز (1297) ، صحيح مسلم الإيمان (103) ، سنن الترمذي الجنائز (999) ، سنن النسائي الجنائز (1860) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1584) ، مسند أحمد بن حنبل (1/465) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (104) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/397) .(5/415)
الفرق بين كلمة نصراني ومسيحي (1) .
__________
(1) نشرت في المجلة العربية ضمن الإجابات في باب: (فاسألوا أهل الذكر) .(5/415)
س: شاع منذ زمن استخدام كلمة مسيحي، فهل الصحيح -يا سماحة الشيخ- أن يقال: مسيحي أو نصراني؟ أفيدونا أثابكم الله.
جـ: معنى مسيحي نسبة إلى المسيح ابن مريم عليه السلام، وهم يزعمون أنهم ينتسبون إليه وهو بريء منهم، وقد كذبوا فإنه لم يقل لهم إنه ابن الله ولكن قال عبد الله ورسوله. فالأولى أن يقال لهم: نصارى كما سماهم الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} (1) الآية.
__________
(1) سورة البقرة الآية 113(5/416)
رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام(5/416)
قارئ من الدمام بعث إلي رسالة تتضمن سؤالا يقول فيه: س: (رأيت ذات ليلة وكأني نازل في بيت جديد ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يميني، فتذكرت أنه صلى الله عليه وسلم غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وتذكرت مكر الله سبحانه وكيف أتقيه، وسألت الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك السؤال ... لكنني استيقظت.
سؤالي: هل الذي رأيته هو الرسول صلى الله عليه وسلم حقا؟ وكيف يتقي الإنسان مكر الله؟ أرجو توضيح ذلك جزاكم الله خيرا.
ج: إذا كنت رأيته صلى الله عليه وسلم على صورته المعروفة الواردة في الأحاديث الصحيحة فقد رأيته؛ لقول صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي (1) » . متفق على صحته، ونسأل الله أن يجعلنا وإياك من أتباعه على بصيرة.
أما اتقاء مكر الله فيكون بطاعة أوامره وترك نواهيه، والوقوف عند حدوده، وملازمة التوبة مما يقع من الذنوب مع الاستكثار من الأعمال الصالحات والذكر والاستغفار وقراءة القرآن الكريم، وسؤاله سبحانه كثيرا أن يثبتك على الحق، وأن لا يزيغ قلبك عن الهدى، وقد قال الله سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (2) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (4)
__________
(1) صحيح البخاري العلم (110) ، صحيح مسلم الرؤيا (2266) ، سنن الترمذي الرؤيا (2280) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3901) ، مسند أحمد بن حنبل (2/232) .
(2) سورة غافر الآية 60
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 3(5/417)
وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (1) وقال عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (2) وقال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة الطلاق الآية 5
(2) سورة الحجر الآية 45
(3) سورة النور الآية 31(5/418)
العلاج عند طبيب شعبي يستخدم الجن(5/418)
س: هناك فئة من الناس يعالجون بالطب الشعبي على حسب كلامهم، وحينما أتيت إلى أحدهم قال لي: اكتب اسمك واسم والدتك ثم راجعنا غدا وحينما يراجعهم الشخص يقولون له: إنك مصاب بكذا وكذا وعلاجك كذا وكذا ... ويقول أحدهم: إنه يستعمل كلام الله في العلاج، فما رأيكم في مثل هؤلاء؟ وما حكم الذهاب إليهم؟ س. ع. غ. - حائل.
جـ: من كان يعمل هذا الأمر في علاجه فهو دليل على أنه يستخدم الجن، ويدعي علم المغيبات، فلا يجوز العلاج عنده، كما لا يجوز المجيء إليه ولا سؤاله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجنس من الناس: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة (1) » . أخرجه مسلم في صحيحه.
وثبت عنه في عدة أحاديث النهي عن إتيان الكهان والعرافين والسحرة، والنهي عن سؤالهم وتصديقهم، وقال صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (2) » وكل من يدعي علم الغيب باستعمال ضرب الحصى أو الودع أو التخطيط في الأرض أو سؤال المريض عن اسمه واسم أمه أو اسم أقاربه فكل ذلك دليل على أنه من العرافين والكهان الذين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤالهم وتصديقهم.
فالواجب الحذر منهم ومن سؤالهم ومن العلاج عندهم وإن زعموا أنهم
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (4/68) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/476) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .(5/419)
يعالجون بالقرآن؛ لأن من عادة أهل الباطل التدليس والخداع، فلا يجوز تصديقهم فيما يقولون، والواجب على من عرف أحدا منهم أن يرفع أمره إلى ولاة الأمر من القضاة والأمراء ومراكز الهيئات في كل بلد حتى يحكم عليهم بحكم الله، وحتى يسلم المسلمون من شرهم وفسادهم وأكلهم أموال الناس بالباطل. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.(5/420)
الغيبة من أسباب الشحناء والعداوة(5/420)
س: بعض الناس -هداهم الله- لا يرون الغيبة أمرا منكرا أو حراما، والبعض يقول: إذا كان في الإنسان ما تقول فغيبته ليست حراما متجاهلين أحاديث المصطفى، أرجو من سماحة الشيخ توضيح ذلك جزاه الله خيرا. ض. ش- حائل.
جـ: الغيبة محرمة بإجماع المسلمين، وهي من الكبائر سواء كان العيب موجودا في الشخص أم غير موجود؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما «سئل عن الغيبة قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: يا رسول الله إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته (1) » ، وثبت عنه أنه «رأى ليلة أسري به قوما لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فسأل عنهم فقيل له: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم (2) » .
وقد قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (3) فالواجب على كل مسلم ومسلمة الحذر من الغيبة والتواصي بتركها؛ طاعة لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وحرصا من المسلم على ستر إخوانه وعدم إظهار عوراتهم، ولأن الغيبة من أسباب الشحناء والعداوة وتفريق المجتمع وفق الله المسلمين لكل خير.
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2589) ، سنن الترمذي البر والصلة (1934) ، سنن أبو داود الأدب (4874) ، مسند أحمد بن حنبل (2/458) ، سنن الدارمي الرقاق (2714) .
(2) سنن أبو داود الأدب (4878) .
(3) سورة الحجرات الآية 12(5/421)
العلاج الشرعي لمن ابتلي بالمعاصي(5/421)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أنا شاب في 21 سنة من العمر قد ابتليت باللواط " شذوذ جنسي " منذ كان عمري 8 سنوات حيث كان أبي مشغولا عن تربيتي. وإني الآن أعيش الحسرة والندم على فعلي هذا إلى درجة أنني أفكر في الانتحار والعياذ بالله، والذي يزيد على هذا ألما وعذابا أن أهلي يريدون مني أن أتزوج. فأرجو من سماحتكم أن ترشدني إلى الطريق الصحيح والعلاج الناجح لمشكلتي حتى أتخلص من حياة العذاب التي أحياها وجزاكم الله عني كل خير. س. م. هـ.
جـ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. بعده: أسأل الله أن يمن عليك بالعافية مما ذكرت، ولا شك أن ما ذكرته جريمة عظيمة، ولكن دواؤها ميسر بحمد الله؛ وهو البدار بالتوبة النصوح، وذلك بالندم على ما مضى والإقلاع من هذه الجريمة، والعزم الصادق على عدم العودة إليها مع صحبة الأخيار، والبعد عن الأشرار والمبادرة بالزواج، وأبشر بالخير والفلاح والعاقبة الحميدة إذا صدقت في التوبة؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) وقوله عز وجل في سورة التحريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (2)
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة التحريم الآية 8(5/422)
الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «التوبة تهدم ما كان قبلها» ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (1) » .
وفقك الله وأصلح قلبك وعملك ومنحك التوبة النصوح وصحبة الأخيار. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (2)
__________
(1) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .
(2) رد على خطاب من شاب.(5/423)
حكم التفكير في الحرام دون عمل(5/423)
س: ما حكم التفكير بفعل الأشياء المحرمة ... كأن يفكر شخص أن يسرق مثلا أو يفكر أن يزني وهو يعلم من ذات حاله أنه لن يفعل ذلك لو تيسرت له السبل؟
ج: ما يقع في نفس الإنسان من الأفكار السيئة كأن يفكر في الزنا أو السرقة أو شرب المسكر أو نحو ذلك، ولا يفعل شيئا من ذلك فإنه يعفى عنه ولا يلحقه بذلك ذنب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم (1) » متفق على صحته، وقوله: صلى الله عليه وسلم: «من هم بسيئة فلم يفعلها لم تكتب عليه، وفي لفظ: كتبت حسنة؛ لأنه تركها من جرائي» متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
والمعنى أنه من ترك السيئة التي هم بها من أجل الله كتبها الله له حسنة، وإن تركها لأسباب أخرى لم تكتب عليه سيئة، ولم تكتب له حسنة، وهذا فضل من الله سبحانه ورحمة لعباده، فله الحمد والشكر لا إله غيره ولا رب سواه.
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5269) ، صحيح مسلم الإيمان (127) ، سنن الترمذي الطلاق (1183) ، سنن النسائي الطلاق (3435) ، سنن أبو داود الطلاق (2209) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2040) ، مسند أحمد بن حنبل (2/393) .(5/424)
هل هناك حرف غير شريفة مع الدليل(5/424)
س: يعتقد بعض الناس أن هناك حرفا غير شريفة ويوبخون من يعمل فيها، كالطباخة والحلاقة وصناعة الأحذية والعمل في النظافة وغيرها. فهل هناك دليل شرعي يثبت صحة هذا الاعتقاد؟ وهل مثل هذه الحرف ترفضها العادات والطبائع العربية؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا.
جـ: لا نعلم حرجا في هذه الحرف وأشباهها من الحرف المباحة إذا اتقى صاحبها ربه ونصح ولم يغش معامليه؛ لعموم الأدلة الشرعية في ذلك، مثل قوله صلى الله عليه وسلم لما «سئل أي الكسب أطيب قال: عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور (1) » رواه البزار وصححه الحاكم، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وكان نبي الله داود يأكل من عمل يده (2) » رواه البخاري في صحيحه، ولأن الناس في حاجة إلى هذه الحرف وأشباهها فتعطيلها والتنزه عنها يضر المسلمين ويحوجهم إلى أن يقوم بها أعداؤهم.
وعلى من يعمل في النظافة أن يجتهد في سلامة بدنه وثيابه من النجاسة، والعناية بتطير ما أصابه منها. والله ولي التوفيق.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/141) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2072) .(5/425)
حكم إمامة المخالف لأهل السنة كالأشعري ونحوه(5/425)
س: هل تجوز الصلاة خلف صاحب عقيدة مخالفة لأهل السنة والجماعة كالأشعري مثلا؟
جـ: الأقرب - والله أعلم - أن كل من نحكم بإسلامه يصح أن نصلي خلفه ومن لا فلا، وهذا قول جماعة من أهل العلم وهو الأصوب. وأما من قال: إنها لا تصح خلف العاصي، فقوله هذا مرجوح، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الصلاة خلف الأمراء، والأمراء منهم الكثير من العصاة، وابن عمر وأنس وجماعة صلوا خلف الحجاج وهو من أظلم الناس.
والحاصل أن الصلاة تصح خلف مبتدع بدعة لا تخرجه عن الإسلام، أو فاسق فسقا ظاهرا لا يخرجه من الإسلام. لكن ينبغي أن يولي صاحب السنة، وهكذا الجماعة إذا كانوا مجتمعين في محل يقدمون أفضلهم.(5/426)
كتابة البسملة على البطاقات مشروعة(5/426)
س: القارئ ع. ح. ب من الدلم بعث إلينا سؤالا يقول فيه: هل يجوز كتابة البسملة على بطاقات الزواج؟ نظرا لأنها ترمى بعد ذلك في الشوارع أو في سلال المهملات.
ج: يشرع كتابة البسملة في البطاقات وغيرها من الرسائل؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر (1) » ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يبدأ رسائله بالتسمية، ولا يجوز لمن يتسلم البطاقة التي فيها ذكر الله أو آية من القرآن أن يلقيها في المزابل أو القمامات أو يجعلها في محل يرغب عنه، وهكذا الجرائد وأشباهها، لا يجوز امتهانها ولا إلقاؤها في القمامات، ولا جعلها سفرة للطعام، ولا ملفا للحاجات؛ لما يكون فيها من ذكر الله عز وجل، والإثم على من فعل ذلك أما الكاتب فليس عليه إثم.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/359) .(5/427)
التوبة كافية(5/427)
س: عمري الآن 29 سنة وقد بدأت أصلي منذ سن الرابعة والعشرين، وما زلت ولله الحمد وأشكره على أن هداني. ولقد بادرت بقضاء ما علي من صلوات منذ أن كان عمري خمسة عشر عاما حسب طاقتي، ولكن اختلف رأي الناس فمنهم من يقول: لا يلزمك القضاء والتوبة كافية، ومنهم من يقول: يلزمك القضاء. أرجو بيان الصواب؟
ط. ب- الجزائر.
ج: الصواب أنه لا يلزمك القضاء والتوبة النصوح كافية في ذلك؛ وهي المشتملة على الندم على ما وقع منك والاستقامة على الصلاة والعزم الصادق ألا تعود إلى تركها؛ لقول الله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (1) الآية، وقوله سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (3) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يهدم ما كان قبله والتوبة تهدم ما كان قبلها (4) » ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (5) » والآيات
__________
(1) سورة الأنفال الآية 38
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة التحريم الآية 8
(4) صحيح مسلم الإيمان (121) .
(5) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .(5/428)
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ونسأل الله عز وجل أن يمنحك الفقه في الدين والثبات على الحق، ونوصيك بصحبة الأخيار، والحذر من صحبة الأشرار. تقبل الله توبتك وأحسن لنا ولك الختام.(5/429)
الأصم الأبكم هل هو مكلف؟(5/429)
س: الولد الأصم الأبكم، هل يعتبر مكلفا شرعا بالعبادات كالصلاة أم هو معذور؟
جـ: الولد الأبكم الأصم إذا كان قد بلغ الحلم يعتبر مكلفا بأنواع التكليف من الصلاة وغيرها، ويعلم ما يلزمه بالكتابة والإشارة؛ لعموم الأدلة الشرعية الدالة على وجوب التكاليف على من يبلغ الحلم وهو عاقل.
والبلوغ يحصل بإكمال خمسة عشر عاما أو بإنزال عن شهوة في الاحتلام أو غيره وبإنبات الشعر الخشن حول الفرج، وتزيد المرأة أمرا رابعا وهو الحيض، وعلى وليه أن يؤدي عنه ما يلزمه من زكاة وغيرها من الحقوق المالية، وعليه أن يعلمه ما يخفى عليه بالطرق الممكنة حتى يفهم ما أوجب الله عليه وما حرم عليه. والله سبحانه يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (2) » .
فالمكلف الذي لا يسمع أو لا ينطق أو قد أصيب بالصمم والبكم جميعا عليه أن يتقي الله ما استطاع بفعل الواجبات وترك المحرمات، وعليه أن يتفقه في الدين حسب قدرته بالمشاهدة والكتابة والإشارة حتى يفهم المطلوب. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .(5/420)
ليس لأحد الاعتراض على الأحكام التي شرعها الله لعباده(5/420)
س: رجل يقول: إن بعض الأحكام الشرعية تحتاج إلى إعادة نظر، وأنها بحاجة إلى تعديل؛ لكونها لا تناسب تطور هذا العصر. مثال ذلك: في الميراث للذكر مثل حظ الأنثين. فما حكم الشرع في مثل من يقول هذا الكلام؟ س. ف. القاهرة.
جـ: الأحكام التي شرعها الله لعباده وبينها في كتابه الكريم أو على لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، كأحكام المواريث والصلوات الخمس والزكاة والصيام ونحو ذلك مما أوضحه الله لعباده وأجمعت عليه الأمة ليس لأحد الاعتراض عليه ولا تغييره؛ لأنه تشريع محكم للأمة في زمان النبي وبعده إلى قيام الساعة، ومن ذك تفضيل الذكر على الأنثى من الأولاد وأولاد البنين والأخوة للأبوين وللأب؛ لأن الله سبحانه قد أوضحه في كتابه الكريم، وأجمع عليه علماء المسلمين.
فالواجب العمل بذلك عن اعتقاد وإيمان، ومن زعم أن الأصلح خلافه فهو كافر. وهكذا من أجاز مخالفته يعتبر كافرا؛ لأنه معترض على الله سبحانه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى إجماع الأمة.
وعلى ولي الأمر أن يستتيبه إن كان مسلما، فإن تاب وإلا وجب قتله كافرا مرتدا عن الإسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه (1) » .
نسأل الله لنا ولجميع المسلمين العافية من مضلات الفتن ومن مخالفة الشرع المطهر.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3017) ، سنن الترمذي الحدود (1458) ، سنن النسائي تحريم الدم (4060) ، سنن أبو داود الحدود (4351) ، سنن ابن ماجه الحدود (2535) ، مسند أحمد بن حنبل (1/282) .(5/431)
من أصر على المعصية لا يجالس (1)
__________
(1) الدعوة، العدد 1196 تاريخ 19\11\1409 هـ.(5/431)
س: إنني شاب - ولله الحمد - محافظ على الصلوات الخمس، وأحب تأديتها في المسجد، ولكن مشكلتي أنه يوجد لدي صديق، هو محافظ على الصلاة، لكنه يستمع الأغاني، وثوبه أسفل من الكعبين، وتوجد صور مكبرة ومعلقة في بيته، وعندما قلت له: إن كل هذا حرام، قال: إن الله يغفر إلا الإشراك به سبحانه وتعالى. فماذا علي أن أعمل معه؟ رغم أنه يعلم أنها حرام، وقرأ الكتب التي تثبت ذلك. وما حكم من رأى منكرا ولم ينصح صاحبه؟ أرجو الإفادة جزاكم الله خيرا.
ح\ القنفذة.
جـ: مثل هذا الرجل لا تنبغي مجالسته لإصراره على المعاصي وإعلانه لها، وليس له حجة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) فإنه ليس للعبد أن يقدم على المعاصي احتجاجا بهذه الآية، فقد يكون ممن لا يشاء الله المغفرة له، وقد يعاقب بحرمانه المغفرة وبالطبع على قلبه؛ لإصراره وعدوانه وتهاونه وعصيانه أمر ربه الذي أمره بترك المعاصي وأداء الواجب.
وعلى المسلم نصيحة أخيه إذا رأى منه منكرا ولو كان يعلم منه
__________
(1) سورة النساء الآية 48(5/432)
أنه يعلم أنه منكر، عملا بقول الله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وقوله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة. قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (3) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (4) » . رواه مسلم في صحيحه. وبالله التوفيق.
تم - بحمد الله -
الجزء الخامس من مجموع فتاوى
ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن باز
،
ويليه إن شاء الله
الجزء السادس
في التوحيد وما يلحق به
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(4) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .(5/433)
صفحة فارغة(6/1)
صفحة فارغة(6/2)
صفحة فارغة(6/3)
صفحة فارغة(6/4)
وجوب عبادة الله وتقواه (1)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوة في الله وأخوات في الله للتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى، والتناصح في الله، وبيان ما خلقنا سبحانه وتعالى لأجله، وما أرسل الرسل من أجله؛ حتى نكون على بينة وبصيرة مما خلقنا له مما يجب علينا في هذه الحياة حتى نلقى ربنا عز وجل، وأسأله سبحانه أن يجعله لقاء مباركا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يمنحنا الفقه في الدين والثبات عليه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق ولاة أمرنا لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد وسعادة الدنيا والآخرة.
ثم أشكر أخي سعادة مدير مستشفى الملك فيصل بالطائف الدكتور طه الخطيب على دعوته لي لهذا اللقاء، وأسأل الله أن يبارك فيه والعاملين معه وأن يعين الجميع على ما فيه صلاح أمر الدين والدنيا، وعلى كل ما فيه نفع إخواننا المرضى من الرجال والنساء، وأن ينفع بجهود الجميع ويكللها بالنجاح.
ثم أقول: إن عنوان كلمتي: وجوب عبادة الله وتقواه وتفاصيل هذا الواجب من جهة الأوامر والنواهي. يقول الله عز وجل في كتابه العظيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3)
__________
(1) محاضرة ألقاها سماحة الشيخ في مسشفى الملك فيصل بالطائف في محرم عام 1410 هـ.
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة النساء الآية 1(6/5)
ويقول عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (2) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (3) ويقول سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (4) ويقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (5) والآيات في هذا المعنى كثيرة في كتاب الله عز وجل، وقد أرسل سبحانه الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم نوح إلى آخرهم وخاتمهم نبينا محمد عليهم الصلاة والسلام، أرسلهم جميعا ليدعوا الناس إلى توحيد الله وطاعته وتقواه، ولينذروهم الشرك به وعبادة غيره ومعصية أوامره، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (6) ويقول سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (7)
فالله سبحانه خلقنا جميعا رجالا ونساء جنا وإنسا حكاما ومحكومين عربا وعجما؛ لنعبد الله وحده ونتقيه سبحانه فيما نأتي ونذر، ونحاسب أنفسنا في ذلك حتى نستقيم على توحيد الله وطاعته، والمسارعة إلى ما أوجب علينا، وترك ما نهانا عنه سبحانه وتعالى، فالواجب على كل ذكر وأنثى من المكلفين أن يعبد الله ويتقيه سبحانه وتعالى أينما كان.
لأنه خلق لهذا الأمر وأمر به من جهة الله سبحانه في كتبه ثم من جهة الرسل عليهم الصلاة والسلام، فعلى جميع المكلفين من ذكور وإناث وعرب وعجم وجن وإنس أن يعبدوا الله ويتقوه ويلتزموا بالإسلام.
كما أن على المسلمين الذين من الله عليهم بالإسلام أن يستقيموا على دينهم وأن يثبتوا عليه وأن يتفقهوا فيه حتى يؤدوا ما أوجب الله عليهم على بصيرة وحتى يتركوا ما حرم الله عليهم على بصيرة، وعلى أهل العلم أينما كانوا أن يدعوا إلى الله وأن
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الذاريات الآية 57
(3) سورة الذاريات الآية 58
(4) سورة الحج الآية 1
(5) سورة الحجرات الآية 13
(6) سورة النحل الآية 36
(7) سورة الأنبياء الآية 25(6/6)
يفقهوا الناس في دين الله.
لأنهم خلفاء الرسل عليهم الصلاة والسلام، والرسل بعثوا ليعلموا الناس ويرشدوهم ويدعوهم إلى الحق وينذروهم من الشرك بالله ومن سائر المعاصي، وعلى علماء الإسلام أينما كانوا في جميع أقطار الأرض عليهم أن يعلموا الناس، وأن يبلغوا الناس دينهم، وأن يشرحوا لهم ما قد يخفى عليهم؛ طاعة لله ولرسوله، وأداء لواجب النصيحة، وتبليغا لرسالة الله التي بعث بها نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام.
وعلى المدعوين المبلغين أن يستجيبوا لأمر الله ورسوله وأن يتفقهوا في دينهم ويسألوا عما أشكل عليهم وأن يعبدوا الله وحده بالإخلاص له سبحانه وتعالى كما قال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (3) ويقول سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4) فالجميع خلقوا لهذا الأمر وأمروا به من جهة الله ومن جهة الرسول عليه الصلاة والسلام.
فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله بلغ الناس وقال: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا (5) » ودعا قومه قبل كل أحد ودعاهم إلى أن يعبدوا الله وأن يدعوا الشرك الذي كانوا عليه من عبادة الأصنام والأشجار والأحجار والأموات والكواكب وغير ذلك، وأن يخصوا الله بالعبادة بدعائهم واستغاثتهم ونذرهم وذبحهم وصلاتهم وصومهم وغير هذا من عباداتهم، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (6) وقال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (7) وقال عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (8) وقال جل وعلا: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (9) وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (10)
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الذاريات الآية 56
(5) مسند أحمد بن حنبل (3/492) .
(6) سورة الإسراء الآية 23
(7) سورة الجن الآية 18
(8) سورة المؤمنون الآية 117
(9) سورة غافر الآية 60
(10) سورة البقرة الآية 186(6/7)
فالواجب على جميع المكلفين من الرجال والنساء من الجن والإنس من الحكام والمحكومين من العرب والعجم أن يعبدوا الله وحده وأن يستقيموا على معنى شهادة أن لا إله إلا الله فإن معناها: لا معبود حق إلا الله، وهو معنى قوله جل وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (1) وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) هذا هو الواجب على جميع المكلفين في سائر الأرض من جن وإنس من الرجال والنساء أن يعبدوا الله وحده وهذا هو أصل دين الإسلام.
لأن أصل دين الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والإخلاص وترك الشرك والانقياد له بالطاعة وذلك بفعل الأوامر وترك النواهي هذا هو معنى الإسلام.
قال الله سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (3) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (4) ويقول جل وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (5) نزلت هذه الآية يوم عرفة والنبي واقف بعرفة عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع بين الله سبحانه فيها أنه أكمل الدين وأتم النعمة، وأنه رضي لعباده الإسلام، وهو توحيد الله، والإخلاص له، والذل بين يديه، والانقياد لأوامره، وترك مناهيه سبحانه وتعالى، وعلى رأس ذلك إخلاص العبادة لله وحده وترك الإشراك به، كما هو معنى لا إله إلا الله كما تقدم؛ إذ معناها لا معبود حق إلا الله، وهو معنى قوله سبحانه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (6) وهو معنى قوله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (7) وقوله سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (8) وقوله عز وجل: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (9) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (10) وهو معنى قوله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (11)
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة آل عمران الآية 19
(4) سورة آل عمران الآية 85
(5) سورة المائدة الآية 3
(6) سورة البقرة الآية 256
(7) سورة الإسراء الآية 23
(8) سورة النساء الآية 36
(9) سورة الزمر الآية 2
(10) سورة الزمر الآية 3
(11) سورة الحج الآية 62(6/8)
ولا بد من الالتزام بهذا الأصل، وهو توحيد الله والإخلاص له وترك الإشراك به مع استقامة العبد على فعل بقية الأوامر وترك النواهي.
ومن ذلك الالتزام ببقية أركان الإسلام من الصلاة والزكاة والصوم والحج فإن الإسلام بني على خمسة أركان أولها: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فيشهد العبد أنه لا معبود حق إلا الله، ويلتزم بذلك، فيعبد الله وحده دون كل ما سواه، ويدع الإشراك به، ويلتزم باتباع محمد عليه الصلاة والسلام والإيمان به، والشهادة بأنه رسول الله أرسله الله إلى الثقلين الجن والإنس، وأنه خاتم الأنبياء، وأنه تجب محبته فوق محبة النفس وفوق محبة كل أحد من الخلق، وتجب طاعته واتباع شريعته، والالتزام بذلك، كما قال الله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1) وقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (2) قل يا أيها الرسول للناس إن كنتم تحبون الله صادقين فاتبعوني يحببكم الله، فمن أحب الله صادقا، وأحب رسوله صادقا، فالواجب عليه اتباع محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من فعل الأوامر وترك النواهي وعلى رأسها توحيد الله والإخلاص له، وترك الإشراك به، ثم إقام الصلوات الخمس، والمحافظة عليها في أوقاتها، الرجل يؤديها في الجماعة، والمرأة تؤديها في بيتها كما أمر الله بذلك، بخشوع واستقامة وطمأنينة، في قيامها وركوعها وسجودها، وبين السجدتين، وحين الارتفاع من الركوع، يؤديها المؤمن والمؤمنة كما أمر الله.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة آل عمران الآية 31(6/9)
وفي الصحيحين: «أن رجلا دخل المسجد - مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه فصلى ولم يتم صلاته، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام عليه الصلاة والسلام، وقال له عليه الصلاة والسلام ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع فصلى كما صلى، فعلها ثلاث مرات كلما جاء سلم ورد عليه النبي السلام وقال له ارجع فصل فإنك لم تصل فقال الرجل في الثالثة: والذي بعثك بالحق نبيا ما أحسن غير هذا فعلمني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن (1) » . وفي اللفظ الآخر: «ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها (2) » فبين صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل المسيء صلاته كيفية الصلاة التي شرعها الله لعباده، وأمره أن يلتزم بذلك.
وفي هذا الحديث العظيم بيان أن الطمأنينة في الصلاة لا بد منها، وأن من لم يطمئن فلا صلاة له، ولا فرق في ذلك بين صلاة الفرض والنفل، لكن صلاة الفرض أهم وأعظم.
فالواجب على جميع المسلمين من الرجال والنساء أن يصلوا كما أمر الله ورسوله، والله سبحانه يقول: وأقيموا الصلاة يعني أدوها قائمة تامة، وأن يؤدوا الزكاة كما أمر الله في قوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (3) وعلى الجميع أن يتفقهوا في ذلك، ويسألوا أهل العلم عما أشكل عليهم، وعلى الجميع صوم رمضان كل سنة، وهو ركن من أركان الإسلام الخمسة، وعلى الجميع أيضا حج بيت الله الحرام مرة في العمر من الرجال والنساء إذا استطاعوا ذلك لقول الله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (4)
وعلى جميع المكلفين أيضا القيام بأوامر الله الأخرى من بر الوالدين وصلة الرحم
__________
(1) صحيح البخاري الاستئذان (6251) ، صحيح مسلم الصلاة (397) ، سنن الترمذي الصلاة (303) ، سنن النسائي الافتتاح (884) ، سنن أبو داود الصلاة (856) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) ، مسند أحمد بن حنبل (2/437) .
(2) صحيح البخاري الاستئذان (6251) ، صحيح مسلم الصلاة (397) ، سنن الترمذي الصلاة (303) ، سنن النسائي الافتتاح (884) ، سنن أبو داود الصلاة (856) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) ، مسند أحمد بن حنبل (2/437) .
(3) سورة البقرة الآية 43
(4) سورة آل عمران الآية 97(6/10)
وصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما حرم الله من سائر المعاصي من الزنا وشرب المسكرات وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم وأكل الربا والخيانة في الأمانة وشهادة الزور، وغير هذا مما نهى الله عنه ورسوله.
وعلى جميع المكلفين أن يلتزموا بأركان الإسلام التي أعظمها توحيد الله والإخلاص له وترك الإشراك به، وعليهم جميعا أن يلتزموا بأوامر الله وترك نواهيه سبحانه وتعالى. ومن ذلك التزام المؤمنات بالحجاب الشرعي عن الرجال وعدم الاختلاط بهم، بل يجب أن يكون الرجال من الأطباء والممرضين للرجال وأن تكون الطبيبات والممرضات من النساء للنساء، هكذا يجب الطبيبات للمرضى من النساء، والأطباء من الرجال للمرضى من الرجال، والكتاب من الرجال للرجال، والكاتبات من النساء للنساء، حتى لا يختلط هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء؛ لما في الاختلاط من الفتنة والخطر العظيم، يقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (1) » يعني عند الاختلاط وعدم الحذر، ويقول عليه الصلاة والسلام: «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء (2) » .
فالمرأة عند بروزها للرجال متزينة متكحلة قد تعاطت ما يسبب الفتنة فيكون في ذلك خطر عظيم عليها وعلى الرجل عند اختلاطه بالنساء، فالمريضة من النساء تعالجها المرأة، والمريض يعالجه الرجل، وهكذا يجب، وقد صدر في هذا تعليمات من ولي الأمر، فالواجب الالتزام بذلك إلا عند الضرورة القصوى إذا وجد مرض لا يفهمه إلا رجل جاز عند الضرورة أن يعالج المرأة، أو مرض لا يفهمه إلا المرأة ولم يوجد رجل يفهمه فإن المرأة تعالجه عند الضرورة مع العناية بالحشمة وعدم الخلوة، والمقصود أن هذا أمر يتعلق بالمستشفيات جميعا. .
ووصيتي لهذا المستشفى والقائمين عليه من الأطباء والطبيبات، ومن العاملين والعاملات، وعلى رأس الجميع المدير، وصيتي للجميع: الالتزام بأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتعاون على البر والتقوى، وأن يختص الرجال بالرجال والنساء بالنساء في الطب
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5096) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2741) ، سنن الترمذي الأدب (2780) ، سنن ابن ماجه الفتن (3998) ، مسند أحمد بن حنبل (5/210) .
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) ، سنن الترمذي الفتن (2191) ، سنن ابن ماجه الفتن (4000) ، مسند أحمد بن حنبل (3/61) .(6/11)
والتمريض والأعمال الكتابية وغير ذلك حتى يتميز هؤلاء عن هؤلاء، وحتى يبتعد الجميع عن أسباب الفتنة والخلوة المحرمة إلى غير ذلك، مما قد يقع من الفتن بأسباب الاختلاط، ثم فوق ذلك كله العناية بأمر الله الذي خلقنا له فقد عرفتم جميعا أننا خلقنا لأمر عظيم؛ وهو القيام بعبادة الله وتقواه، فلم نخلق للأكل والشرب والجماع والتلذذ بمباهج الحياة، ولكن خلقنا لنعبد الله وحده، ونتقيه سبحانه وتعالى، بفعل الأوامر وترك النواهي، عن إيمان به سبحانه وإخلاص له.
وخلق لنا سبحانه هذه الأشياء التي بين أيدينا نستمتع بها من الملابس والمساكن والمراكب والمآكل والمشارب وغير ذلك، لا لنشغل بها عن طاعة الله، ولكن لنستعين بها على طاعة الله وتقواه، كما قال جل وعلا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (1) خلق لنا ما في الأرض جميعا من مآكل ومشارب ومراكب ومساكن إلى غير ذلك من النعم وقال الله سبحانه وتعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (2) سخر لنا سبحانه وتعالى ما في السماوات والأرض من الأمطار والنجوم والشمس والقمر، وما في الأرض من النعم، وما ينزله علينا جل وعلا من السماء من رزق، كل ذلك من رحمته لنا وإحسانه إلينا جل وعلا.
فالواجب علينا أن نشكره سبحانه، والشكر يكون بطاعة الأوامر وترك النواهي، لا بمجرد الكلام؛ لأن الشكر يكون بالكلام وبالفعل وبالقلب، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} (3) وقال سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} (4) وقال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (5) فالشكر يكون بالقلب واللسان والعمل كما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجب
فالنعمة تشكر باليد وباللسان وبالقلب، يشكر الله بمحبته وتعظيمه والإخلاص له في جميع العبادات وفي جميع الطاعات له سبحانه وتعالى فلا نعبد معه
__________
(1) سورة البقرة الآية 29
(2) سورة الجاثية الآية 13
(3) سورة سبأ الآية 13
(4) سورة البقرة الآية 152
(5) سورة إبراهيم الآية 7(6/12)
سواه جل وعلا، ونشكره بالكلام: بحمده، والثناء عليه، والدعوة إلى سبيله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وسائر ما شرع الله من الكلام. ونشكره بالفعل: بأداء الواجبات من صلاة وزكاة وصوم وحج وغير ذلك، وترك ما نهى عنه من المحرمات القولية والفعلية. هكذا يكون الشكر منا لربنا سبحانه وتعالى.
فوصيتي لنفسي وللحاضرين جميعا من أطباء وطبيبات، وممرضين وممرضات، ومرضى، وإخواني الحضور، وجميع المسئولين، وصيتي للجميع: أن نتقي الله في السر والعلن؛ لأنه القائل سبحانه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (1) وهو القائل عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (2) وهو القائل عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (3) وهو القائل سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (4) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (5)
فعلينا أن نتقيه سبحانه، وتقواه سبحانه هي عبادته بفعل الأوامر وترك النواهي، عن خوف من الله، وعن رغبة فيما عنده، وعن خشية له سبحانه، وعن تعظيم لحرماته، وعن محبة صادقة له سبحانه، ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولجميع المرسلين والمؤمنين، فعلينا أن نحب الله بكل قلوبنا فوق محبة كل أحد، وأن نحب رسوله صلى الله عليه وسلم محبة صادقة فوق محبة أنفسنا وآبائنا وأمهاتنا وأولادنا وغيرهم وأن نحب الرسل عليهم الصلاة والسلام، ونحب إخواننا في الله والمؤمنين، فالمحبة من أفضل الواجبات، ومن أهم الواجبات المحبة لله، وفي الله عز وجل، ثم هذه المحبة لله ولرسوله توجب طاعة الأوامر وترك النواهي، كما قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (6) فالمحبة الصادقة لله ولرسوله وللمؤمنين تقتضي العمل بطاعة الله وإخلاص العبادة له وترك معصيته، كما تقتضي طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة البقرة الآية 197
(2) سورة الحشر الآية 18
(3) سورة آل عمران الآية 102
(4) سورة الأحزاب الآية 70
(5) سورة الأحزاب الآية 71
(6) سورة آل عمران الآية 31(6/13)
واتباع ما جاء به، والحذر مما نهى عنه، والوقوف عند الحدود التي حدها مع تقديم سننه وشرعه على أهوائنا، وتوجب أيضا محبة المؤمنين وإعانتهم على الخير، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ومحبة الخير لهم وأداء الأمانة. .
ومما يجب على المسئولين عن الناس في المستشفيات وغيرها أداء الأمانة، فالطبيب والعامل والمسئول عن الإدارة وغيرهم، كلهم مسئولون عن أداء الأمانة التي وكلت إليهم، في العلاج، وفي الدواء، وفي الرفق بالمريض، وفي غير هذا من شئون التطبيب، ويجب على الجميع أن يؤدوا الأمانة بكل صدق وعناية، وأن يحرصوا على العناية بالدواء النافع والوقت المناسب، وأن يكونوا على بينة في وضع الدواء على الداء، وأن يحذروا التساهل في ذلك، وأن يرفقوا بالمريض، وأن يسمع منك اللطف في الكلام وطيب الحديث؛ لأن هذا يعين على زوال المرض بإذن الله، وعلى الشفاء من المرض.
وهكذا الطبيبة تعنى بهذا الأمر فتكون رفيقة حكيمة كالرجل، كل منهم يكون رفيقا حكيما، طيب الكلام، يشعر منه المريض بالحنو، والعطف، والمحبة، والحرص على شفائه، ويعتني مع ذلك بالدواء المناسب، وبالوقت المناسب، وبالمقدار المناسب من الدواء؛ حتى لا يزيد فيضر المريض، وحتى لا ينقص فلا يحصل به المقصود.
كل من المسئولين عليه أن يعمل من الخير بقدر ما يستطيع، وكل عليه أن يؤدي النصيحة: فالطبيب يؤدي الواجب، والممرض يؤدي الواجب، والمدير يؤدي الواجب، وهكذا الطبيبة والممرضة كلتاهما تؤديان الواجب، وهكذا بقية العاملين، كل يتقي الله، ويؤدي الأمانة التي وكلت إليه، بإخلاص لله، وتعظيم له سبحانه، وحذر من غضبه جل وعلا، وعناية بالمريض، ونصحا له، ورفقا به؛ رجاء أن يشفيه الله على يدك أيها الطبيب وعلى يديك أيتها الطبيبة، وكل من المسئولين بالمستشفى عليه تقوى الله وأن يبذل الوسع والمستطاع فيما ينفع المريض، ويخفف عليه المرض، ويخفف عليه الآلام التي يجدها ويحس بها، ولا شك أن الكلام الطيب والأسلوب الحسن والعناية التامة؛ كل ذلك مما يخفف عن المريض آلامه ومما يشرح له صدره ومما يعين على زوال المرض بتوفيق الله وهدايته ورحمته، وإحسانه سبحانه وتعالى. وأسأل الله(6/14)
عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا: أن يوفقنا وإياكم جميعا لما يرضيه، وأن يمنحنا الفقه في دينه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يوفق القائمين على هذا المستشفى؛ وعلى رأسهم الأخ الكريم الدكتور طه الخطيب، وكذلك أسأله لجميع القائمين على مستشفيات المملكة في كل مكان، أسأل الله أن يوفقهم جميعا لما يرضيه، وأن يعينهم على أداء الواجب، وعلى أداء الأمانة، وأن يبارك في جهودهم، وينفع بها المسلمين جميعا، وأن ينفع جميع المعالجين في المستشفيات، وأن يصلح قلوب الجميع وأعمال الجميع، كما أسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يولي عليهم خيارهم، ويصلح قيادتهم، ويمنح الجميع الفقه في الدين، والتمسك بشريعة الله، والتحاكم إليها، والحذر مما يخالفها، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.
ولا يفوتني هنا أن أنبه أنه يشرع عند سماع الإنسان ما يسره من خطبة أن يقول: الله أكبر أو سبحان الله، أما التصفيق الذي يفعله بعض الناس فليس من شرع الله سبحانه وتعالى بل هو منكر، ومن أعمال الجاهلية التي كانوا يفعلونها، ولكن المشروع عند سماع الإنسان في الخطبة أو ما يقوله مديره أو غيره من كلمات طيبة أن يقول: الله أكبر أو سبحان الله، وكذلك عندما يسمع ما يستنكر يقول: سبحان الله أو: الله أكبر، هكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام، يسبح الله، ويعظمه، ويكبره؛ إن سمع خيرا أو سمع ما يسوء كبر الله وعظمه، وقال: سبحان الله، عليه الصلاة والسلام؛ إنكارا للمنكر وفرحا بالطيب، فنكبر الله عند سماع ما يسر، ونشكره، ونسبحه عند سماع ما يسر، وكذلك ننكر المنكر عند سماعه بقولنا: سبحان الله، أو الله أكبر، أو ما أشبه ذلك من الكلمات الطيبة التي كان يتعاطاها عليه الصلاة والسلام. ولما قال بعض الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام: «اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط (1) » لما رأوا بعض المشركين يتعلقون بالأشجار وينوطون عليها السلاح قال: «الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة (2) » .
ولما قال له رجل: نستشفع بالله عليك قال: «سبحان الله سبحان الله إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه (3) » ؛ والمقصود أن سننه صلى الله عليه وسلم التكبير والتسبيح وذكر الله عند سماعه أو رؤيته ما يسر، وهكذا عند سماعه أو رؤيته ما ينكر فنقتدي به في
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2180) ، مسند أحمد بن حنبل (5/218) .
(2) سنن الترمذي الفتن (2180) ، مسند أحمد بن حنبل (5/218) .
(3) سنن أبو داود السنة (4726) .(6/15)
ذلك عليه الصلاة والسلام، ومما ينبغي التنبيه عليه أنه يجب على المريض أن يؤدي الصلاة في وقتها على حسب استطاعته: إن قدر قائما فقائما، وإن لم يستطع صلى قاعدا، وإن لم يستطع صلى على جنبه، فإن لم يستطع فمستلقيا، ولا يجوز له تأخير الصلاة إلى وقت آخر كما يفعل بعض المرضى ويؤخرها لعله يشفى ليصليها على وجه أكمل، بل يجب على المريض أن يصلي في الوقت على حسب حاله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة لما كان مريضا: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب (1) » رواه البخاري في الصحيح، زاد النسائي: «فإن لم تستطع فمستلقيا» فبين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن الواجب على المريض أن يصلي على حسب استطاعته: قائما إذا استطاع، فإن عجز الرجل أو المرأة صلى قاعدا على أي صفة كان: متربعا أو محتبيا وغير ذلك، على أي حال كان من القعود على حسب حاله، والأفضل التربع إذا تيسر ذلك؛ لحديث عائشة رضي الله عنها الوارد في ذلك، فإن عجز عن القعود صلى على جنبه، والأفضل على جنبه الأيمن إذا تيسر، فإن لم يتيسر الأيمن فالأيسر، فإن عجز صلى مستلقيا على ظهره ورجلاه إلى القبلة، ثم لا بد من الوضوء مع القدرة، فإن لم يستطع فيتيمم بالتراب يكون عند سريره شيء من التراب في إناء أو في كيس يتيمم به عند عجزه عن الماء، والواجب على المسئولين في المستشفيات أن يضعوا تحت أسرة المرضى ما يتيممون به إذا عجزوا عن الماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره (2) » وفي اللفظ الآخر: «وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء (3) » .
والله يقول في كتابه العزيز: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (4) والصعيد هو وجه الأرض وترابها، فالواجب على المسئولين في كل مستشفى، وفي هذا المستشفى أن يعنوا بهذا الأمر، وعلى الأطباء والطبيبات أن يعنوا بهذا الأمر حتى
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1117) ، سنن أبو داود الصلاة (952) .
(2) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (522) ، مسند أحمد بن حنبل (5/383) .
(4) سورة المائدة الآية 6(6/16)
لا ينسى المريض بل يعلم ويوجه لأن يصلي على حاله: قاعدا أو قائما أو على جنبه على حسب طاقته، ويعلم المريض أن عليه التيمم عند عدم قدرته على الماء، وأن يصلي في الوقت، ولا بأس أن يجمع بين الظهر والعصر في وقت إحداهما جمع تقديم أو جمع تأخير، وهكذا لا بأس أن يجمع بين المغرب والعشاء في وقت إحداهما جمع تأخير أو جمع تقديم.
وفق الله الجميع لما يرضيه، وأصلح حالنا جميعا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.(6/17)
أسئلة وأجوبة تابعة للمحاضرة
س1: يوجد لدينا بالمستشفى، وكذلك في جميع المستشفيات بعض الأدوية التي تستعمل لعلاج الآلام بعد العمليات، وكذلك لعلاج الآلام المختلفة، وهذه الأدوية تحتوي على مواد مخدرة، وأخرى كحولية بنسب متفاوتة، فهل من حرج في استخدامها؟ إذا كان هنالك حرج شرعي في استخدامها فهل هنالك من خطورة إيجابية للنظر فيها وعرضها على الجهات المسئولة لوقف تداولها؟
ج: الأدوية التي يحصل بها راحة للمريض وتخفيف للآلام عنه لا حرج فيها ولا بأس بها قبل العملية وبعد العملية إلا إذا علم أنها من شيء يسكر كثيره فلا تستعمل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام (1) » أما إذا كانت لا تسكر ولا يسكر كثيرها ولكن يحصل بها بعض التخفيف والتخدير لتخفيف الآلام فلا حرج في ذلك.
__________
(1) سنن الترمذي الأشربة (1865) ، سنن أبو داود الأشربة (3681) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3393) ، مسند أحمد بن حنبل (3/343) .(6/18)
س2: أرجو من سماحتكم أن تبينوا لنا طريقة التيمم الصحيحة.
ج: التيمم الصحيح مثل ما قال الله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (1) المشروع ضربة واحدة للوجه والكفين، وصفة ذلك: أنه يضرب التراب بيديه ضربة واحدة ثم يمسح بهما وجهه وكفيه، كما في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار بن ياسر رضي الله عنه: «إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ومسح بهما وجهه وكفيه (2) » ويشترط أن يكون التراب طاهرا. ولا يشرع مسح الذراعين بل يكفي مسح الوجه والكفين للحديث المذكور.
ويقوم التيمم مقام الماء في رفع الحدث على الصحيح فإذا تيمم صلى بهذا التيمم النافلة والفريضة الحاضرة والمستقبلة ما دام على طهارة حتى يحدث أو يجد
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) صحيح البخاري التيمم (338) ، صحيح مسلم الحيض (368) ، سنن النسائي الطهارة (319) ، سنن أبو داود الطهارة (321) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (569) ، مسند أحمد بن حنبل (4/320) .(6/18)
الماء إن كان عادما له، أو حتى يستطيع استعماله إذا كان عاجزا عن استعماله، فالتيمم طهور يقوم مقام الماء، كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم طهورا.(6/19)
س3: أفطرت في إحدى السنوات الأيام التي تأتي فيها الدورة الشهرية ولم أتمكن من الصيام حتى الآن، وقد مضى علي سنوات كثيرة، وأود أن أقضي ما علي من دين الصيام، ولكن لا أعرف كم عدد الأيام التي علي فماذا أفعل؟
ج: عليك ثلاثة أمور:
الأمر الأول: التوبة إلى الله من هذا التأخير، والندم على ما مضى من التساهل، والعزم على ألا تعودي لمثل هذا؛ لأن الله يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) وهذا التأخير معصية، والتوبة إلى الله من ذلك واجبة.
الأمر الثاني: البدار بالصوم على حسب الظن، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) فالذي تظنين أنك تركتيه من أيام عليك أن تقضيه، فإذا ظننت أنها عشرة فصومي عشرة أيام، وإذا ظننت أنها أكثر أو أقل فصومي على مقتضى ظنك؛ لقول الله سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (3) وقوله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (4)
الأمر الثالث: إطعام مسكين عن كل يوم إذا كنت تقدرين على ذلك، يصرف كله ولو لمسكين واحد، فإن كنت فقيرة لا تستطيعين الإطعام فلا شيء عليك في ذلك سوى الصوم والتوبة.
والإطعام الواجب عن كل يوم نصف صاع من قوت البلد ومقداره كيلو ونصف.
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) سورة البقرة الآية 286
(4) سورة التغابن الآية 16(6/19)
س4: هنالك مجموعة أيضا من الأسئلة تدور حول الحجاب فبعض هذه الأسئلة تبين صفة الحجاب القائم عند بعض النساء في بعض هذه المستشفيات، نأمل من سماحتكم بيان صفة الحجاب الشرعي الذي يجب، وخاصة في مثل هذا الحجاب.(6/19)
ج: الحجاب الشرعي هو أن تحجب المرأة كل بدنها عن الرجال: الرأس والوجه والصدر والرجل واليد؛ لأنها كلها عورة بالنسبة للرجل غير المحرم؛ لقول الله جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (1) الآية، وقوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ} (2) المراد بذلك أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والنساء وغيرهن كذلك في الحكم، وبين سبحانه أن التحجب أطهر لقلوب الرجال والنساء، وأبعد عن الفتنة، وقال سبحانه: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} (3) الآية.
والوجه من أعظم الزينة والشعر كذلك واليد كذلك، ويمكن أن تحجب المرأة وجهها بالنقاب وهو الذي تبدو منه العينان أو إحداهما ويكون الوجه مستورا؛ لأنها تحتاج إلى بروز عينها لمعرفة الطريق، ويمكنها أن تحتجب بحجاب غير النقاب كالخمار لا يمنعها من النظر إلى طريقها لكن تخفي زينتها وتستر رأسها وجميع بدنها، وعلى المرأة أن تجتنب استعمال الطيب عند خروجها للسوق أو المسجد أو محل العمل إن كانت موظفة؛ لأن ذلك من أسباب الفتنة بها. .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) سورة الأحزاب الآية 53
(3) سورة النور الآية 31(6/20)
س5: ما رأي سماحتكم في أن عمل الطبيب يتطلب في بعض الأحيان رؤية عورة المريض أو مسها للفحص؟ وفي بعض الأحيان أثناء العمليات يعمل الطبيب الجراح في وسط مليء بالدم والبول فهل إعادة الوضوء واجبة في هذه الحالات أم أنه من باب الأفضلية؟
ج: لا حرج أن يمس الطبيب عورة الرجل للحاجة، وينظر إليها للعلاج، سواء العورة الدبر أو القبل، فله النظر والمس للحاجة والضرورة، ولا بأس أن يلمس الدم إذا دعت الحاجة للمسه في الجرح لإزالته أو لمعرفة حال الجرح، ويغسل يده بعد ذلك عما أصابه، ولا ينتقض الوضوء بلمس الدم أو البول، لكن إذا مس العورة انتقض وضوءه؛ قبلا كانت أو دبرا، أما مس الدم أو البول أو غيرهما من النجاسات فلا ينقض الوضوء ولكن يغسل ما أصابه لكن من مس الفرج من دون حائل يعني(6/20)
مس اللحم اللحم فإنه ينتقض وضوءه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أفضى بيده إلى فرجه ليس دونهما ستر فقد وجب عليه الوضوء (1) » وهكذا الطبيبة إذا مست فرج المرأة للحاجة فإنه ينتقض وضوءها بذلك إذا كانت على طهارة كالرجل.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/333) .(6/21)
س 6: ما هو الحكم في التداوي قبل وقوع الداء كالتطعيم؟
ج: لا بأس بالتداوي إذا خشي وقوع الداء لوجود وباء أو أسباب أخرى يخشى من وقوع الداء بسببها فلا بأس بتعاطي الدواء لدفع البلاء الذي يخشى منه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من تصبح بسبع تمرات من تمر المدينة لم يضره سحر ولا سم (1) » وهذا من باب دفع البلاء قبل وقوعه فهكذا إذا خشي من مرض وطعم ضد الوباء الواقع في البلد أو في أي مكان لا بأس بذلك من باب الدفاع، كما يعالج المرض النازل، يعالج بالدواء المرض الذي يخشى منه، لكن لا يجوز تعليق التمائم والحجب ضد المرض أو الجن أو العين لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وقد أوضح عليه الصلاة والسلام أن ذلك من الشرك الأصغر فالواجب الحذر من ذلك.
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5768) ، مسند أحمد بن حنبل (1/181) .(6/21)
س 7: كيف نوفق بين الحديثين الشريفين: «لا عدوى ولا طيرة (1) » و «فر من المجذوم فرارك من الأسد (2) » ؟
ج: لا منافاة عند أهل العلم بين هذا وهذا، وكلاهما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول (3) » وذلك نفي لما يعتقده أهل الجاهلية من أن الأمراض كالجرب تعدي بطبعها وأن من خالط المريض أصابه ما أصاب المريض، وهذا باطل بل ذلك بقدر الله ومشيئته وقد يخالط الصحيح المريض المجذوم ولا يصيبه شيء، كما هو واقع ومعروف، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الإبل الصحيحة يخالطها البعير الأجرب فتجرب كلها؟ قال له عليه الصلاة والسلام: «فمن أعدى الأول (4) » . وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «فر من المجذوم فرارك من الأسد (5) » وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «لا يورد ممرض على مصح (6) » فالجواب عن ذلك: أنه لا يجوز أن يعتقد العدوى ولكن
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5753) ، صحيح مسلم السلام (2225) ، سنن ابن ماجه الطب (3540) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/443) .
(3) صحيح البخاري الطب (5753) ، صحيح مسلم السلام (2225) ، سنن ابن ماجه الطب (3540) .
(4) صحيح البخاري الطب (5717) ، صحيح مسلم السلام (2220) ، سنن أبو داود الطب (3911) ، مسند أحمد بن حنبل (2/434) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (2/443) .
(6) صحيح البخاري الطب (5771) ، صحيح مسلم السلام (2221) .(6/21)
يشرع له أن يتعاطى الأسباب الواقية من وقوع الشر، وذلك بالبعد عمن أصيب بمرض يخشى انتقاله منه إلى الصحيح بإذن الله عز وجل كالجرب والجذام، ومن ذلك عدم إيراد الإبل الصحيحة على الإبل المريضة بالجرب ونحوه توقيا لأسباب الشر، وحذرا من وساوس الشيطان الذي قد يملي عليه أنما أصابه أو أصاب إبله هو بسبب العدوى.(6/22)
س8: ما حكم مصافحة النساء؟
ج: مصافحة النساء فيها تفصيل: فإن كانت النساء من محارم المصافح كأمه وابنته وأخته وخالته وعمته وزوجته فلا بأس بها.
وإن كانت لغير المحارم فلا تجوز لأن امرأة مدت للنبي صلى الله عليه وسلم يدها لتصافحه فقال: «إنني لا أصافح النساء (1) » وقالت عائشة رضي الله عنها: «والله ما مست يد رسول الله يد امرأة قط ما كان يبايعهن إلا بالكلام (2) » عليه الصلاة والسلام فلا يجوز للمرأة أن تصافح الرجال من غير محارمها ولا يجوز للرجل أن يصافح النساء من غير محارمه للحديثين المذكورين ولأن ذلك لا تؤمن معه الفتنة.
__________
(1) سنن النسائي البيعة (4181) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2874) ، مسند أحمد بن حنبل (6/357) ، موطأ مالك الجامع (1842) .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4891) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2941) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2875) ، مسند أحمد بن حنبل (6/270) .(6/22)
س9: أمرتني والدتي بعدم طبخ نوع معين من الأعشاب وأردفت قائلة: إذا طبخت هذه الأعشاب ممكن تسبب لي الوفاة لعدم قدرتي على رائحتها علما أن هذه الأعشاب مشروعة ومباحة. وبالفعل بعد أن تعشيت أنا ووالدتي من تلك الأعشاب توفيت والدتي بعدها بعدة ساعات فهل أنا آثمة في ذلك؟ وهل لي يد في وفاتها؟ وهل علي ذنب في ذلك؟ أفيدوني أفادكم الله.
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكرت في السؤال فقد أثمت؛ لأن ذلك من العقوق والإساءة إليها، وعليك ذنب في ذلك ما دمت تعلمين أن أمك تتأذى به، وأنها نصحتك ونهتك، فأنت مجرمة في هذا العمل، عاصية قاطعة للرحم، عاقة لوالدتك، وعليك الدية؛ لأن هذا العمل الذي فعلت يعتبر من القتل شبه العمد، وعليك أيضا الكفارة؛ وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن عجزت فصومي شهرين متتابعين ستين يوما مع التوبة إلى الله عز وجل.(6/22)
نسأل الله لنا ولك قبول التوبة والتوفيق لكل خير.(6/23)
س10: تقام في المستشفى عدة جماعات للصلاة والمساجد قريبة فهل يلزم من بقربها الذهاب للمسجد أم نكتفي بهذه الجماعات داخل المستشفى؟
ج: هذا فيه تفصيل، فالذي لا بد من وجوده في المستشفى كالحارس ونحوه أو المريض الذي لا يستطيع الوصول إلى المسجد فإنه لا يجب عليه الخروج إلى المسجد بل يصلي في محله مع الجماعة التي يستطيع الصلاة معها.
أما من يستطيع الوصول إلى المسجد فإنه يجب عليه ذلك عملا بالأدلة الشرعية، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر، قيل لابن عباس رضي الله عنهما ما هو العذر؟ قال: خوف أو مرض (1) » رواه ابن ماجه والدارقطني وصححه ابن حبان والحاكم وإسناده صحيح.
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (551) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (793) .(6/23)
س11: إذا ادخر المسلم مبلغا من المال فكيف يكون حساب زكاته في نهاية العام؟
ج: يزكي المسلم كل شيء ملكه من النقود أو عروض التجارة إذا تم حوله، فالذي ملكه في رمضان يزكيه في رمضان، والذي ملكه في شعبان من راتبه أو غيره من النقود أو عروض التجارة يزكيه في شعبان، والذي ملكه في شوال يزكيه في شوال، والذي ملكه في ذي الحجة يزكيه في ذي الحجة، وهكذا كل مال من الأموال المذكورة تتم سنته يزكيه على رأس الحول. وإذا أحب أن يعجل الزكاة قبل تمام الحول لمصلحة شرعية فلا بأس وله في ذلك أجر عظيم، أما اللزوم فلا يلزمه الإخراج إلا بعد تمام الحول.(6/23)
س12: ما وجهة من يقول بأن الدخان محرم في شرع الله تعالى؟
ج: وجهته أنه مضر ومخدر في بعض الأحيان ومسكر في بعض الأحيان، والأصل فيه عموم الضرر والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار (1) » فالمعنى: كل شيء يضر بالشخص في دينه أو دنياه محرم عليه تعاطيه من سم أو دخان أو غيرهما مما
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .(6/23)
يضره لقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار (2) » فمن أجل هذا حرم أهل التحقيق من أهل العلم التدخين لما فيه من المضار العظيمة التي يعرفها المدخن نفسه ويعرفها الأطباء ويعرفها كل من خالط المدخنين.
وقد يسبب موت الفجاءة وأمراضا أخرى، ويسبب السعال الكثير والمرض الدائم اللازم، كل هذا قد عرفناه، وأخبرنا به جم غفير لا نحصيه ممن قد تعاطى شرب الدخان أو الشيشة أو غير ذلك من أنواع التدخين، فكله مضر وكله يجب منعه، ويجب على الأطباء النصيحة لمن يتعاطاه، ويجب على الطبيب والمدرس أن يحذرا ذلك؛ لأنه يقتدى بهما.
__________
(1) سورة البقرة الآية 195
(2) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .(6/24)
واجب المسلمين تجاه دينهم ودنياهم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (3) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (4) أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأشكره سبحانه على ما من به من هذا اللقاء في سبيل الله وفي طاعته جل وعلا، والتواصي بالحق، وأسأله جل وعلا أن يجعله لقاء مباركا، وأن يعيننا جميعا على ما فيه رضاه، ويعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
ثم أشكر أخي صاحب هذا المسجد الأخ سليمان الراجحي على دعوته لي لهذا اللقاء، وأسأل الله أن يبارك فيه وفي أخيه صالح وفي ذريتهما، وأن يعينهم على كل خير، وأن يبارك في جهودهم، ويجعلنا وإياهم من الهداة المهتدين، ثم أشكر أخي الشيخ عائض بن عبد الله القرني على كلمته، وعلى قصيدته المباركة، وأسأل الله أن يجزيه عن ذلك خيرا.
أما ما ذكره عن الفتاوى واستنباطها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأقول: إن هذا هو الواجب على أهل العلم وهو الذي نفعله ونهدف إليه ونحرص
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة الأحزاب الآية 70
(4) سورة الأحزاب الآية 71(6/25)
على تطبيق فتاوانا عليه. ولكنني لست معصوما فقد يقع الخطأ مني ومن غيري من أهل العلم، ولكني لا آلو جهدا في تطبيق ما يصدر مني على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا آلو جهدا في استنباط ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما يصدر مني من قليل أو كثير، هذا هو جهدي. وأسأل الله أن يجعل ذلك موفقا ومصيبا للحق.
وأما ما يتعلق بسؤال أهل العلم والاستفتاء منهم فهذا أمر معلوم قد شرعه الله لعباده، فإن الله جل وعلا أمر بسؤال أهل العلم، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل العلم النافع والعمل الصالح - فقال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوم أفتوا بغير علم: «ألا سألوا إذ لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال (2) » .
فالواجب على طالب العلم وعلى كل مسلم أشكل عليه أمر من أمور دينه أن يسأل عنه ذوي الاختصاص من أهل العلم وأن يتبصر وأن لا يقدم على أي عمل بجهل يقوده إلى الضلال.
فعلى المسلمين أن يسألوا وعلى أهل العلم أن يبينوا، فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وهم خلفاء الرسل في بيان الحق والدعوة إليه والإفتاء به، وعلى جميع المسلمين أن يسألوا عما أشكل عليهم، وأن يستفتوا أهل العلم.
وأهل العلم هم علماء الكتاب والسنة، وهم الذين يرجعون في فتاواهم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم أهل العلم، وليس أهل العلم من يقلد الرجال ولا يبالي بالكتاب والسنة، إنما العلماء هم الذين يعظمون كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ويرجعون إليهما في كل شيء هؤلاء هم أهل العلم.
وعلى طالب العلم أن يتأسى بهم ويجتهد في سلوك طريقهم، وعلى عامة المسلمين أن يسألوهم عما أشكل عليهم في أمر دينهم ودنياهم؛ لأن الله جل وعلا بعث
__________
(1) سورة النحل الآية 43
(2) سنن أبو داود الطهارة (336) .(6/26)
الرسل لإصلاح أمر الدين والدنيا جميعا، ولا سيما خاتمهم وإمامهم وأفضلهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فإن الله بعثه للناس عامة للجن والإنس، وجعل رسالته عامة، وفيها صلاح أمر الدنيا والآخرة، فيها صلاح العباد والبلاد في كل شيء، فيها خلاصهم من كل شر، وفيها صلاحهم فيما يتعلق بدنياهم وأمر معاشهم، وفيها صلاحهم فيما يتعلق بطاعة ربهم وعبادته وأداء حقه وترك ما نهى عنه، وفيها صلاحهم في كل ما يقربهم من الله ويباعد من غضبه سبحانه وتعالى، وفيها صلاحهم بتوجيه العباد وإرشادهم إلى ما ينفعهم، ويهديهم إلى الطريق السوي، ويبعدهم عن طريق النار وطريق الهلاك والدمار.
وعنوان الكلمة: واجب المسلمين تجاه دينهم ودنياهم. فالمسلمون عليهم واجبات تتعلق بدينهم وبالاستقامة عليه، كما شرع الله، وكما أمرهم الله، فإن الله خلقهم ليعبدوه، وأرسل الرسل بذلك، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وهذه هي العبادة التي أمرهم الله بها في قوله سبحانه وتعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) وفي قوله سبحانه وبحمده: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (3) وفي قوله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (4) وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (5) وفي قوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (6)
والله بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم كما بعث الرسل قبله بالدعوة إلى هذه العبادة، والدعوة إلى هذا الدين، بعثه إلى الثقلين الجن والإنس رحمة للعالمين، كما قال سبحانه وبحمده: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (7) بعثه معلما ومرشدا
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة النساء الآية 36
(4) سورة البينة الآية 5
(5) سورة النحل الآية 36
(6) سورة الأنبياء الآية 25
(7) سورة الأنبياء الآية 107(6/27)
وهاديا إلى طريق النجاة، معلما لهم كل ما فيه صلاحهم ونجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وجعله خاتم الأنبياء ليس بعده نبي ولا رسول، ومن ادعى النبوة بعده فهو كاذب كافر بإجماع أهل العلم والإيمان.
فمن ادعى أنه نبي أو أوحي إليه بشيء كالقاديانية فهو كافر بالله ضال مضل مرتد عن دين الإسلام، إذا كان يدعي الإسلام فهو صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، كما قال جل وعلا: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1)
وقد تواترت عنه عليه الصلاة والسلام الأحاديث الصحيحة بأنه خاتم الأنبياء لا نبي بعده، فالواجب على جميع الثقلين اتباعه، والاستقامة على دينه والتفقه في ذلك والسير على ذلك حتى الموت وهذه العبادة التي خلقوا لها لا بد أن يتفقهوا فيها ولا بد أن يعرفوها بالأدلة من الكتاب والسنة فهم خلقوا ليعبدوا الله، وتفسير هذه العبادة يؤخذ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد فسرها الله في كتابه العظيم وفسرها نبيه عليه الصلاة والسلام فأصلها توحيد الله والإخلاص له كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2)
هذا أصل هذه العبادة، فأصلها توحيد الله وتخصيصه بالعبادة قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (3) وبهذا أنزلت الكتب جميعها من الله سبحانه وتعالى لبيان هذه العبادة، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (4) {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} (5)
فالكتب المنزلة من السماء وآخرها القرآن كلها تدعو إلى توحيد الله والإخلاص له، وطاعة أوامره وترك نواهيه.
والرسل كلهم جميعا كذلك يدعون إلى توحيد الله وطاعة أوامره وترك نواهيه
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 40
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة الأنبياء الآية 25
(4) سورة هود الآية 1
(5) سورة هود الآية 2(6/28)
واتباع شريعته والحذر مما نهى عنه سبحانه وتعالى.
فعلى جميع المكلفين من إنس وجن وعرب وعجم ورجال ونساء، عليهم جميعا أن يعبدوا الله وحده، وأن ينقادوا لما جاء به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قولا وعملا، فعلا وتركا، فأصل الدين وأساسه هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
وهذا هو أصل هذه العبادة وأساسها أن يعبد الله وحده دون كل ما سواه: بالدعاء والرجاء والخوف والنذر والذبح وسائر العبادات، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (1) وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) وقال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (3) وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (5) وقال سبحانه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (6) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (7)
فالعبادة حق الله، لا تصلح لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا لصنم، ولا لجن، ولا لوثن، ولا غير ذلك، بل هي حق الله، عليك أن تعبده وحده، بدعائك، ورجائك، وخوفك، وذبحك، ونذرك، وصلاتك، وصومك، وحجك، وصدقاتك، وغير ذلك؛ لأنه سبحانه هو المعبود بالحق وما سواه معبود بالباطل قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (8)
وكان العرب وغيرهم من الأمم إلا من رحم الله - وهم قليل - حين بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الشرك بالله، منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء، ومنهم من يعبد الأصنام المنحوتة على صورة فلان وفلان، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، ومنهم من يعبد القبور، ومنهم من يعبد النجوم، ويستغيث بها، وينذر لها، إلى غير ذلك، فبعث الله هذا النبي العظيم محمدا صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى توحيد الله، وينذرهم من هذا الشرك الوخيم، فقام بذلك
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة الأنعام الآية 162
(5) سورة الأنعام الآية 163
(6) سورة الكوثر الآية 1
(7) سورة الكوثر الآية 2
(8) سورة الحج الآية 62(6/29)
أكمل قيام عليه الصلاة والسلام، ودعا إلى الله، وأرشد إلى دينه جل وعلا، الذي رضيه للناس، وعلم الناس توحيد الله.
مكث صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو فيها إلى توحيد الله والإخلاص لله، وترك عبادة ما سواه جل وعلا. وبعد مضي عشر سنين فرض الله عليه الصلوات الخمس قبل أن يهاجر، أسري به إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء، وتجاوز السماوات السبع جميعا، ورفع إلى مستوى فوق ذلك، عليه الصلاة والسلام، وكلمه الله جل وعلا، وأوحى إليه الصلوات الخمس، فنزل بها عليه الصلاة والسلام، وعلمها الناس، وقام بها المسلمون في مكة، ثم هاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وفرض الله عليه بقية أمور الدين من زكاة وصيام وحج وغير ذلك.(6/30)
فالواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس، والعرب والعجم، والذكور والإناث، والحكام والمحكومين، والأغنياء والفقراء، الواجب عليهم جميعا في وقته صلى الله عليه وسلم وبعد وقته وفي وقتنا هذا إلى يوم القيامة الواجب على الجميع أن يعبدوا الله وحده وأن ينقادوا لشرعه وأن يتبعوا ما جاء به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قولا وعملا وعقيدة.
هذا واجب الجميع نحو دينهم، يجب عليهم أن يعبدوا الله ويطيعوا أوامره ويتركوا نواهيه، فالعبادة هي: طاعة الأوامر إخلاصا لله ومحبة له وتعظيما له، من صلاة وزكاة وحج وبر بالوالدين وصلة للرحم، وجهاد في سبيل الله بالنفس والمال، وصدق في الحديث، وغير هذا، مع ترك كل ما حرم الله من الشرك بالله؛ وهو أعظم الذنوب، فالشرك الذي هو: صرف العبادة أو بعضها لغير الله أعظم الذنوب، وهو الشرك الأكبر: كدعاء الملائكة أو الأنبياء أو الجن أو أصحاب القبور فيستغيث بهم أو ينذر لهم أو يذبح لهم، وهذا ينافي قول لا إله إلا الله، فإن قول لا إله إلا الله معناها لا معبود حق إلا الله، وهي كلمة التوحيد، وهي أصل الدين وأساس الملة، فدعاء الأموات والأصنام وغيرهم، والاستغاثة بهم، والنذر لهم ينقض هذه الكلمة وينافيها، وهو الشرك الأكبر، والذي يأتي الأموات، ويدعوهم، ويستغيث بهم، وينذر لهم(6/30)
ويسألهم النصر على الأعداء أو شفاء المرضى أو يدعو الملائكة أو الرسل أو يدعو الجن ويستغيث بهم أو ينذر لهم ويذبح لهم، كل هذا من الشرك بالله، وكل هذا يناقض قول: لا إله إلا الله، ويخالف قوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) ويناقض قوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) وبهذا يعلم كل مسلم أن ما يفعله بعض الجهال عند بعض القبور فيأتي إلى القبر ويقول: يا سيدي فلان اشف مريضي أو انصرني على عدوي. أو أنت تعلم ما نحن فيه انصرنا أو ما أشبه ذلك. هذا من الشرك الأكبر وهذا هو دين الجاهلية، نسأل الله السلامة والعافية.
ولا بد أيضا مع توحيد الله والإخلاص له، والحذر من الكفر به، لا بد من الشهادة بأن محمدا رسول الله. هاتان الشهادتان هما أصل الدين وأساس الملة، فعلى كل مكلف أن يؤمن بأن محمدا رسول الله هو عبده ورسوله إلى الثقلين الإنس والجن، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي العربي المكي ثم المدني، أرسله الله حقا إلى جميع الثقلين. يجب الإيمان به بالقلب واللسان والعمل، فيؤمن المكلف بأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي هو رسول الله حقا إلى جميع الناس، وهو خاتم الأنبياء إيمانا صادقا لا نفاق فيه. ويحققه بالعمل بطاعة الأوامر وترك النواهي، بطاعة أوامر الله: من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج، وغير ذلك. وترك محارم الله: من الشرك بالله، والزنا، والسرقة، وشرب المسكرات، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، إلى غير ذلك مما حرم الله.
تحقق هاتين الشهادتين يا عبد الله: بطاعة الأوامر وترك النواهي، هذا حق الله عليك أيها العبد، وحق الرسول عليك.
فعليك أن تعبد الله وحده بطاعة الأوامر وترك النواهي، والإيمان بأنه ربك وإلهك الحق، وأنه إله الجميع، وأنه سبحانه خالق الكون، ومصرف أحوال الجميع، وأنه ذو الأسماء الحسنى، والصفات العلا، كل هذا داخل في الإيمان بالله وحده فهو
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) سورة البينة الآية 5(6/31)
سبحانه رب الجميع وخالقهم ومصرف أحوال العباد، فهو سبحانه الخلاق الرزاق، مدبر الأمور، مصرف الأشياء، ليس للعباد خالق سواه، ولا مدبر سواه، فهو النافع الضار، المانع المعطي، الخالق لكل شيء، القادر على كل شيء، الرزاق للعباد، بيده تصريف الأمور كلها، سبحانه وتعالى.
وهذا ما يسمى توحيد الربوبية، وهو وحده لا يدخل في الإسلام بل لا بد مع ذلك من الإيمان بأنه هو المستحق للعبادة، فلا يستحقها سواه، وهذا معنى لا إله إلا الله. أي لا معبود حق إلا الله، وهذا هو توحيد العبادة، وهو تخصيصه سبحانه بالعبادة وإفراده بها: من دعاء وخوف ورجاء وتوكل وصلاة وصوم وغير ذلك، مع الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات، وهو الإيمان بأنه سبحانه هو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، له الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته لا شريك له ولا شبيه له ولا كفو له سبحانه وتعالى. وهذا هو توحيد الأسماء والصفات كما تقدم. قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (5)
فعلى جميع المكلفين من الثقلين الإيمان بأسماء الله وصفاته الواردة في القرآن الكريم: كالعزيز، والحكيم، والسميع، والبصير، والخلاق، والرزاق، والرحمن الرحيم، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، وعلى الجميع أيضا الإيمان بما ثبت في السنة سنة النبي صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته ثم إمرارها، كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل ولا زيادة ولا نقصان، بل نؤمن بها، ونقرها، ونمرها كما جاءت لا نحرف ولا نغير، ولا نزيد ولا ننقص، ولا نؤول شيئا من صفات الله بل هي حق كلها يجب إثباتها لله على الوجه اللائق بالله مع الإيمان القطعي بأنه سبحانه لا يشبه خلقه في شيء من صفاته جل وعلا.
كما أنه لا يشبههم في ذاته، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان وهو الذي
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2
(3) سورة الإخلاص الآية 3
(4) سورة الإخلاص الآية 4
(5) سورة الشورى الآية 11(6/32)
أجمعت عليه الرسل، ونزلت به الكتب، التي أعظمها وأكملها القرآن الكريم، وهو الحق الذي لا ريب فيه، فعليك يا عبد الله أن تؤمن به وأن تعض عليه بالنواجذ. ولا بد مع هذا كله من الإيمان بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم واتباعه، مع الإيمان بجميع المرسلين، ولا بد أن تؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله من الملائكة والكتب، وأمر الجنة والنار، والبعث والنشور، والحساب والجزاء، وعذاب القبر ونعيمه، والإيمان بالقدر خيره وشره.
لا بد من الإيمان بهذا كله من جميع المكلفين، من الرجال والنساء، والأحرار والعبيد، والعرب والعجم، والأغنياء والفقراء، والحكام والمحكومين، والجن والإنس، على الجميع الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله. هذا واجبهم نحو دينهم، وواجب عليهم جميعا أن يؤمنوا بكل ما أخبر الله به ورسوله مما كان في الدنيا من الرسل الماضين؛ من آدم ومن بعده من الرسل، وما جاءوا به من الهدى، وأن الله جل وعلا بعثهم لدعوة الناس إلى الخير والهدى والتوحيد، وأنهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة، عليهم الصلاة والسلام، ولا بد من الإيمان أيضا بكل ما مضى من أخبار الماضين مما جرى على قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ممن قص الله علينا أخبارهم.
فعليك يا عبد الله أن تؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله في كتابه العزيز وفيما جاءت به سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة، لا بد من هذا الإيمان، ومن ذلك: الإيمان بعذاب القبر ونعيمه كما تقدم؛ فإن القبر إما روضة من رياض الجنة للمؤمن أو حفرة من حفر النار للكافر.
أما العاصي فهو على خطر، وقد يناله في قبره ما شاء الله من العذاب إلا من رحم الله. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه مر على قبرين فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من البول (1) » الحديث. ومعنى: «لا يستتر من البول (2) » ؛ أي لا يتنزه، كما جاء ذلك في رواية أخرى: فعذبا في قبريهما بهاتين المعصيتين. وهذا عذاب معجل.
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (216) ، صحيح مسلم الطهارة (292) ، سنن الترمذي الطهارة (70) ، سنن النسائي الجنائز (2069) ، سنن أبو داود الطهارة (20) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (347) ، مسند أحمد بن حنبل (1/225) ، سنن الدارمي الطهارة (739) .
(2) صحيح البخاري الوضوء (218) ، صحيح مسلم الطهارة (292) ، سنن الترمذي الطهارة (70) ، سنن النسائي الجنائز (2068) .(6/33)
وهذا الحديث يبين لنا أن أمر المعاصي خطير، وأن الواجب على المؤمن أن يستقيم على دين الله، قولا وعملا وعقيدة، وأن يحافظ على ما أوجب الله عليه، وأن يحذر ما نهى الله عنه سبحانه وتعالى، وأن يؤمن بكل ما أخبر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما يتعلق بأحوال القبر وأحوال الناس في قبورهم، فالقبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار. والميت أول ما يوضع في قبره يسأله ملكان عن ربه وعن دينه وعن نبيه. فالمؤمن يثبته الله فيقول: ربي الله والإسلام ديني ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي؛ لأنه كان ثابتا في الدنيا على الحق قبل أن يموت، فكان بصيرا بدينه، ثابتا عليه، فلهذا يثبته الله في القبر.
وأما الكافر والمنافق إذا سئل فإنه يقول: هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه الإنسان لصعق. وهكذا يحاسبهم الله ويجازيهم بأعمالهم، فالناس يبعثون ويجازون بأعمالهم بعد قيام الساعة، وقد دل الكتاب والسنة على أن إسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور فيموت الناس الموجودون، ثم ينفخ فيه نفخة أخرى بعد ذلك، فيبعثهم الله، ويقومون من قبورهم، ومن كل مكان من البحار وغيرها، ويجمعهم الله، ويجازيهم بأعمالهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، هذا حق لا ريب فيه، فلا بد من الإيمان بهذا كله، والإعداد له العدة الصالحة؛ لتوحيد الله وطاعته واتباع شريعته، والحذر من معصيته سبحانه وتعالى، ثم بعد هذا المحشر والقيام بين يدي رب العالمين، ومجازاة الناس بأعمالهم؛ جنهم وإنسهم، ينصب الله الموازين، ويزن بها أعمال العباد، فهذا يرجح ميزانه وهو السعيد، وهذا يخف ميزانه وهو الهالك، وهذا يعطى كتابه بيمينه وهو السعيد، وهذا يعطى كتابه بشماله وهو الشقي، نسأل الله السلامة والعافية.
فهذا المقام العظيم وهذا الأمر الجلل لا بد من أن نستحضره وأن نعد له عدته، فيوم القيامة يوم عظيم، وهو يوم الأهوال والشدائد، ومقداره خمسون ألف سنة، كما قال في كتابه الكريم: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (1) {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} (2) {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا} (3) {وَنَرَاهُ قَرِيبًا} (4)
__________
(1) سورة المعارج الآية 4
(2) سورة المعارج الآية 5
(3) سورة المعارج الآية 6
(4) سورة المعارج الآية 7(6/34)
فلا بد من الإعداد لهذا اليوم والإيمان بأنه حق. فعليك يا عبد الله أن تعد له العدة الصالحة بتوحيد الله وطاعته واتباع شريعته وتعظيم أمره واجتناب نهيه، والتعاون على البر والتقوى مع إخوانك المسلمين، والتواصي بالحق والصبر عليه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الضال وتعليم الجاهل، إلى غير ذلك من وجوه الخير والنصح.
فعليك يا عبد الله وعليك يا أمة الله العناية بهذا الأمر والإعداد له، وعلى الجميع أن يتقوا الله ويطيعوا أمره، ويتواصوا بالحق والصبر عليه، وأن يعلموا الجاهل، ويرشدوا الضال، وينصحوا لله ولعباده، وأن يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، كما قال تعالى في كتابه العظيم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) ويقول سبحانه وبحمده: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) ويقول سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (5)
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) سورة المائدة الآية 2(6/35)
والمؤمنون يرون ربهم يوم القيامة رؤية حقيقية، يكلمهم سبحانه ويريهم وجهه الكريم، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة. أجمع أهل السنة والجماعة على أن الله سبحانه يراه المؤمنون يوم القيامة، يريهم وجهه الكريم جل وعلا، ويحجب عنه الكفار، كما قال سبحانه وتعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (1)
فالمؤمنون يرونه سبحانه، والكفار محجوبون عنه هذه الرؤية العظيمة، آمن بها أهل السنة والجماعة، وأجمعوا عليها، وهكذا في الجنة يراه المؤمنون، وذلك أعلى نعيمهم
__________
(1) سورة المطففين الآية 15(6/35)
كما قال عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (1) فالحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل مع ما يزيدهم الله به من الخير والنعيم المقيم الذي فوق ما يخطر ببالهم. وقال عز وجل: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (2) {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} (3) {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} (4) وقال سبحانه وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} (5) {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (6)
فالمؤمنون يرون الله سبحانه في القيامة وفي الجنة رؤية عظيمة حقيقية لكن من دون إحاطة؛ لأنه سبحانه أجل وأعظم من أن تحيط به الأبصار من خلقه كما قال تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (7) والمعنى أنها لا تحيط به؛ لأن الإدراك أخص والرؤية أعم، كما قال تعالى في قصة موسى وفرعون: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} (8) فأوضح سبحانه أن التراءي غير الإدراك. وقال جمع من السلف في تفسير الآية المذكورة - منهم عائشة رضي الله عنها -: إن المراد أنهم لا يرونه في الدنيا.
وعلى كلا القولين فليس فيها حجة لمن أنكر الرؤية من أهل البدع؛ لأن الآيات القرآنية الأخرى التي سبق بيانها مع الأحاديث الصحيحة المتواترة كلها قد دلت على إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة وفي الجنة. وأجمع على ذلك الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم من أهل السنة، وشذت الجهمية والمعتزلة والإباضية فأنكروها، وقولهم من أبطل الباطل ومن أضل الضلال. نسأل الله العافية والسلامة مما ابتلاهم به، ونسأل الله لنا وللموجودين منهم الهداية والرجوع إلى الحق.
__________
(1) سورة يونس الآية 26
(2) سورة المطففين الآية 22
(3) سورة المطففين الآية 23
(4) سورة المطففين الآية 24
(5) سورة القيامة الآية 22
(6) سورة القيامة الآية 23
(7) سورة الأنعام الآية 103
(8) سورة الشعراء الآية 61(6/36)
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: «يقول الله جل وعلا يوم القيامة لأهل الجنة هل تريدون شيئا أزيدكم؟ قالوا: يا ربنا ألم تبيض وجوهنا، ألم تثقل موازيننا، ألم تدخلنا الجنة، ألم تنجنا من النار؟! فيقول سبحانه: إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، فيكشف لهم الحجاب عن وجهه الكريم (1) » فيرونه سبحانه وتعالى رؤية حقيقية وذلك أعلا نعيمهم وأحب شيء إليهم، جعلنا الله وإياكم منهم.
وقد أجمع أهل الحق من أهل السنة والجماعة على هذه الرؤية كما تقدم. وقد حكى ذلك عنهم أبو الحسن الأشعري في كتابه: "مقالات الإسلاميين" وحكى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وذكر إجماع أهل السنة على ذلك، وذكر أن جمهور أهل السنة يكفرون من أنكر هذه الرؤية.
فجمهور أهل السنة والجماعة يرون أن من أنكر هذه الرؤية فهو كافر نسأل الله السلامة والعافية.
أما في الدنيا فإنه سبحانه لا يرى فيها. فالرؤية نعيم عظيم، والدنيا ليست دار نعيم، ولكنها دار ابتلاء وامتحان ودار عمل، فلهذا ادخر الله سبحانه رؤيته، ادخرها لعباده في الدار الآخرة حتى النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في الدنيا عند جمهور العلماء كما سئل عن ذلك فقال: «رأيت نورا (2) » فلم ير عليه الصلاة والسلام ربه يقظة.
وقال عليه الصلاة والسلام: «اعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت (3) » أخرجه مسلم في صحيحه فليس أحد يرى ربه في الدنيا أبدا لا الأنبياء ولا غيرهم وإنما يرى في الآخرة سبحانه وتعالى.
فعلى المسلم أن يؤمن بهذا، وبكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن أهل الإيمان يدخلون الجنة، ويرون ربهم سبحانه في القيامة، وفي الجنة كما يشاء سبحانه وأن الكفار يصيرون إلى النار مخلدين فيها نعوذ بالله من ذلك، وأنهم عن ربهم محجوبون لا يرونه سبحانه وتعالى لا في القيامة ولا في غيرها، بل هم عن الله محجوبون لكفرهم وضلالهم
وأما العاصي فهو على خطر لكن مآله إلى الجنة، وإن دخل النار بسبب معصيته فإنه لا يخلد فيها، بل يخرح منها فيصير إلى الجنة، كما تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه أهل السنة خلافا للخوارج ومن تابعهم.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (181) ، سنن الترمذي صفة الجنة (2552) ، سنن ابن ماجه المقدمة (187) ، مسند أحمد بن حنبل (4/332) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (178) .
(3) صحيح البخاري الفتن (7123) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (169) ، سنن الترمذي الفتن (2235) ، مسند أحمد بن حنبل (2/135) .(6/37)
وأما المسلم الموحد العاصي فهو على خطر من دخول النار بمعاصيه ومن تعذيبه في القبر بمعاصيه كما تقدم، ولكن مصيره إلى الجنة بعد ذلك وإن دخل النار وإن جرى عليه بعض العذاب.
فأهل السنة والجماعة مجمعون على أن العصاة لا يخلدون في النار خلافا للخوارج والمعتزلة ومن سار على نهجهم، فأهل السنة والجماعة مجمعون على أن العاصي الموحد المؤمن لا يخلد في النار بل هو تحت مشيئة الله، كما قال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) فإن شاء الله عفى عنه ودخل مع إخوانه في الجنة من أول وهلة، وإن لم يعف عنه صار إلى النار وعذب فيها على قدر معاصيه، ثم بعد التعذيب والتطهير يصير إلى الجنة، كما تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هكذا قال أهل السنة والجماعة وقد يعذب العاصي في قبره وقد يعذب في النار؛ لأنه مات على الزنا أو على شرب الخمر أو على عقوق الوالدين أو على الربا أو على غير ذلك من الكبائر إن لم يعف الله عنه، وقد أخبر الله سبحانه في الآية السابقة أن الشرك لا يغفر لمن مات عليه، كما أخبر الله سبحانه في آية أخرى أن من مات عليه فله النار - والعياذ بالله - مخلدا فيها لا يغفر له، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) وقال سبحانه: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (3)
وأما العاصي فهو تحت مشيئة الله، إن شاء ربنا غفر له وعفا عنه، فضلا منه وجودا وكرما، بسبب أعماله الصالحة، أو بشفاعة الشفعاء، أو بمجرد فضله وإحسانه بدون شفاعة أحد، أو بأسباب أخرى من أعمال صالحة تكون سببا لعفو الله، إلى غير ذلك من الأسباب، هذا إذا لم يتب. أما من تاب فإن الله جل وعلا يلحقه بإخوانه المؤمنين من أول وهلة فضلا منه وإحسانا. .
ومن تمام حق الله عليك يا عبد الله في هذه الدار
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة الأنعام الآية 88
(3) سورة التوبة الآية 17(6/38)
أن تعتني بصلاتك وتحافظ عليها في جماعة مع إخوانك المسلمين، وأن تبتعد عن مشابهة المنافقين المتكاسلين عنها، الذين ذمهم الله في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (1)
ومن حق الله عليك أن تؤدي الزكاة زكاة مالك بكل عناية، طيبة بها نفسك، وأن تصوم رمضان كما أمرك الله، وأن تحج البيت مرة واحدة في العمر؛ لأن الله سبحانه أوجب عليك ذلك مع الاستطاعة، وأن تؤدي ما أوجب الله عليك: من بر والديك، وصلة أرحامك، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، والجهاد في سبيل الله، إذا تيسر ذلك بالنفس وبالمال وباللسان.
وأنتم الآن عندكم جهاد، جهاد إخوانكم الأفغان للشرك بالله والشيوعية، هؤلاء الإخوان المجاهدون لهم حق عليكم أن تساعدوهم بالنفس والمال واللسان، فهم مجاهدون للشرك والإلحاد والشيوعية، فنوصيكم جميعا بمساعدتهم بالنفس والمال واللسان، ومن قال: إنه لا يساعد إلا فلانا منهم أو فلانا فقد غلط وأخطأ، بل الواجب أن يساعد الجميع حتى يفتح الله عليهم ويمكنهم من عدوهم، ومن جملتهم الشيخ جميل الرحمن وفقهم الله جميعا ونصرهم على عدوهم فكلهم مستحقون للمساعدة، كلهم يجب أن يساعد، وكلهم بحمد الله على جهاد شرعي وجهاد إسلامي، وما قد يقع من بعضهم من الخطأ والغلط يعالج بالتي هي أحسن، فكل بني آدم خطاء، فإذا وقع الخطأ والغلط من بعض القادة أو غيرهم ينبه إلى خطئه، وليس أحد منهم معصوما، بل يجب أن يبين له ما قد أخطأ فيه، ويوجه إلى الخير، ويجب أن يعان الجميع على البر والتقوى، وأن يجاهد مع الجميع بالنفس والمال واللسان؛ لأن جهادهم جهاد عظيم وجهاد شرعي لأكفر دولة وأخبثها. ومكاتب هيئة استقبال التبرعات موجودة في الرياض وغيرها، وهكذا محل الراجحي، ومحل السبيعي، كلها تستقبل المساعدة للمجاهدين بأمر خادم الحرمين الشريفين، وفقه الله.
__________
(1) سورة النساء الآية 142(6/39)
وهكذا إخواننا في فلسطين لهم حق على جميع الدول الإسلامية وأغنياء المسلمين أن يساعدوهم في جهادهم، وأن يقوموا معهم حتى يتخلصوا من عدو الله اليهود.
فاليهود شرهم عظيم وبلاؤهم كبير، وقد آذوا إخواننا المسلمين في فلسطين فالواجب على الدول الإسلامية، وعلى جميع المسلمين القادرين أن يساعدوهم في جهاد أعداء الله من اليهود حتى يحكم الله بينهم وبين المسلمين وهو خير الحاكمين، وذلك بنصر الله لهم على اليهود وإخراجهم من بلاد المسلمين، أو الصلح بينهم وبين دولة فلسطين صلحا ينفع المسلمين ويحصل به للفلسطينيين إقامة دولتهم وقرارهم في بلادهم، وسلامتهم من الأذى والظلم، فيجب على الدول الإسلامية، أن تقوم بهذا الأمر حسب الطاقة والإمكان.
وأما بقاؤهم في حرب مع اليهود، وفي أذى عظيم وضرر كبير على رجالهم ونسائهم وأطفالهم، فهذا لا يسوغ شرعا، بل يجب على الدول الإسلامية والأغنياء والمسئولين من المسلمين أن يبذلوا جهودهم ووسعهم في جهاد أعداء الله اليهود أو فيما يتيسر من الصلح - إن لم يتيسر الجهاد - صلحا عادلا يحصل به للفلسطينيين إقامة دولتهم على أرضهم وسلامتهم من الأذى من عدو الله اليهود، مثلما صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة. وأهل مكة ذلك الوقت أكثر من اليهود؛ لأن المشركين الوثنيين أكفر من أهل الكتاب، فقد أباح الله طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم ولم يبح طعام الكفار من المشركين ولا نساءهم، وصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، وكان في هذا الصلح خير عظيم للمسلمين، وإن كان فيه غضاضة عليهم بعض الشيء لكن رضيه النبي صلى الله عليه وسلم للمصلحة العامة.
فإذا لم يتيسر الاستيلاء على الكفرة والقضاء عليهم فالصلح جائز لمصلحة المسلمين وأمنهم وإعطائهم بعض حقوقهم.(6/40)
وهذا أمر مطلوب وقد علم في الأصول المعتبرة أن ما لا يدرك كله لا يترك كله، ولهذا صالحهم صلى الله عليه وسلم عشر سنين على وضع الحرب، وصبر على بعض الغضاضة في ذلك لمصلحة المسلمين وأمنهم حتى يتصلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وحتى يسمعوا القرآن.
ولهذا كان صلحا عظيما وفتحا مبينا نفع الله به، وصار الناس يتصلون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالصحابة، ودخل بسبب هذا الصلح جم غفير وأمم كثيرة في الإسلام، دخلوا في دين الله وتركوا الكفر بالله عز وجل، فعلى جميع المسلمين أيضا أن يتعاونوا على البر والتقوى، ويتواصوا بالحق والصبر عليه، ويتعلموا دينهم، ويتفقهوا فيه؛ حتى يكونوا على بصيرة بجهادهم وسلمهم وصلحهم وحربهم.(6/41)
هكذا يجب على المسلمين أن يتعلموا فالإنسان ما خلق عالما، بل خلق جاهلا، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) فالواجب على الجميع من الرجال والنساء التعلم والتفقه في الدين، من طريق المكاتبة، ومن طريق سماع المقالات العلمية في إذاعة القرآن الكريم وغيرها، ومن برنامج نور على الدرب، فهو برنامج مفيد عظيم، وهو يذاع كل ليلة مرتين؛ في نداء الإسلام وفي إذاعة القرآن الكريم، وهذا البرنامج له فائدته العظيمة، وكذلك سماع المواعظ والمحاضرات التي تذاع في إذاعة القرآن الكريم وغيرها. وكذا العناية بخطب الجمعة والاستفادة منها ومن المحاضرات والندوات التي يقوم بها العلماء وحضور حلقات العلم والاستفادة منها.
وهذا واجب على الجميع على الرجال والنساء أن يتعلموا ويتفقهوا في دينهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (2) » فخيار الناس أهل القرآن الذين يتعلمونه ويعلمونه الناس ويعملون به.
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (3) » وهذا يدل على أن الذي لا يتفقه في الدين ما أراد الله به خيرا نسأل الله العافية.
__________
(1) سورة النحل الآية 78
(2) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .
(3) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(6/41)
فالواجب التعلم والتفقه في الدين على الرجال والنساء، قال عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (1) » .
فأوصيكم جميعا أيها الأخوة من الرجال والنساء، وأوصي جميع من تبلغه هذه الكلمة أن يتقي الله، وأن يتعلم ويتفقه في الدين، وأن يعتني بكتاب الله القرآن الكريم، وأن يكثر من تلاوته ويحفظ ما تيسر منه، فإنه كتاب الله فيه الهدى والنور، كما قال سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (2) وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (3) ويقول سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) ويقول جل وعلا: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (5) ويقول سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (6) فالوصية للجميع العناية بالقرآن الكريم والإكثار من تلاوته وتدبر معانيه، والسؤال عما أشكل عليك إذا كنت طالب علم، وهكذا المرأة إذا كانت طالبة علم، فعلى كل منهما أن يعالج ويراجع كتب التفسير فيما أشكل عليه؛ كتفسير ابن كثير والبغوي وغيرهما من كتب التفسير المعروفة التي تذكر الأدلة.
فعلى طالب العلم من الرجال والنساء أن يتأمل ويتدبر ويتفقه ويتعلم، وهكذا العامة عليهم أن يسألوا، ويسمعوا خطب الجمعة والمحاضرات والندوات و "نور على الدرب" الذي يسره الله في كل ليلة ففيه سؤالات وأجوبة مهمة تفيد من يسمعها إذا قصد الفائدة.
أما التهاون والإعراض فهذا من عمل الكفار، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} (7) وقال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} (8) فالواجب التعلم والتفقه في الدين وسؤال أهل
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(2) سورة الإسراء الآية 9
(3) سورة فصلت الآية 44
(4) سورة الأنعام الآية 155
(5) سورة النحل الآية 89
(6) سورة ص الآية 29
(7) سورة الأحقاف الآية 3
(8) سورة الكهف الآية 57(6/42)
العلم عما أشكل. وهذا كتاب الله بين أيدينا فيه الهدى والنور. وهكذا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بين أيدينا تدل على الحق وترشد إليه، وتبين ما قد يخفى من كتاب الله عز وجل، كما قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1)
والعلماء موجودون بحمد الله، نسأل الله أن يبارك فيهم، ويعينهم على أداء الواجب، ويكثرهم، ويمنحهم التوفيق، ويوفقهم لكل خير، ويعينهم على ما ينفع الأمة في دينها ودنياها إنه جواد كريم.
وقد أخذ الله الميثاق بذلك على الناس أن يتعلموا ويتبصروا ويسألوا ولا يستحيوا من طلب العلم، فإن الله لا يستحي من الحق، فأم سليم امرأة أبي طلحة رضي الله عنها قالت - والناس يسمعون -: «يا رسول الله: إن الله لا يستحي من الحق؛ فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم إذا هي رأت الماء (2) » يعني المني.
فإذا احتلم الرجل أو المرأة في النوم في الليل أو النهار فعليهما الغسل إذا رأيا المني، فإذا لم يريا المني فلا غسل عليهما. وهكذا إذا قبل زوجته أو نظر إليها أو تفكر وأنزل المني عليه الغسل، وهكذا المرأة إذا قبلت زوجها أو نظرت إليه أو تفكرت ثم أنزلت المني فعليها الغسل. .
فالتعلم والتفقه في الدين من أهم الواجبات، ولا سيما في عصرنا هذا عصر الغربة قلة العلم والعلماء. فالواجب التعلم والتفقه في الدين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (3) » متفق على صحته.
ومما يبشر بالخير أن في كل مكان بحمد الله يقظة عظيمة وصحوة ظاهرة ورغبة في التعلم والتففه في الدين في هذه البلاد وفي أوروبا وفي أمريكا وفي آسيا وفي
__________
(1) سورة النحل الآية 44
(2) صحيح البخاري العلم (130) ، صحيح مسلم الحيض (313) ، سنن الترمذي الطهارة (122) ، سنن النسائي الطهارة (197) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (600) ، مسند أحمد بن حنبل (6/292) ، موطأ مالك الطهارة (118) .
(3) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(6/43)
إفريقيا. ففي كل بلد بحمد الله حركة إسلامية ونشاط إسلامي، نسأل الله أن يسدد رأيهم، وأن يعينهم على كل خير، ونسأل الله أن يصلح القائمين على كل نشاط إسلامي، كما نسأله تعالى أن يمنحهم القادة الصالحين، والعلماء الموفقين؛ حتى يقودوا هذه الحركات الطيبة إلى الهدى وإلى الأمام، على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى.
وعلى كل منا أن يعتني بهذا الأمر، ويساهم فيه بقدر طاقته في تعليم الناس وتوجيههم إلى الخير بالرفق والحكمة والأسلوب الحسن والإخلاص لله سبحانه وتعالى، وعلى كل منا أن ينصح لله ولعباده عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة لما قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » رواه مسلم في صحيحه.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .(6/44)
فكل واحد منا من الرجال والنساء عليه النصيحة لله ولعباده.
ومن النصيحة لله وللعباد: تعليم الجاهل وإرشاد الضال، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والكلام الطيب والأسلوب الحسن لا بالعنف والشدة، إلا من ظلم كما قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (1)
والظالم المعتدي له شأن آخر من جهة ولاة الأمور، لكن أنت أيها الناصح تدعو إلى الله بالتي هي أحسن، فتعلم وتوجه وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بالحكمة والكلام الطيب وبالأسلوب الحسن، عملا بالآية السابقة، وبقوله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وقوله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (3) الآية.
ومن النصيحة لله ولعباده الدعاء لولاة أمور المسلمين وحكامهم بالتوفيق والهداية
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 46
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة آل عمران الآية 159(6/44)
والصلاح في النية والعمل، وأن يمنحهم الله البطانة الصالحة التي تعينهم على الخير وتذكرهم به.
وهذا حق على كل مسلم في كل مكان في هذه البلاد، وفي غيرها الدعوة لولاة الأمر بالتوفيق والهداية وحسن الاستقامة وصلاح البطانة، وأن يعينهم الله على كل خير، وأن يسدد خطاهم، ويمنحهم التوفيق لما فيه صلاح العباد والبلاد.
فكل مسلم يدعو الله لولاة أمور المسلمين بأن يصلحهم الله، وأن يردهم للصواب، وأن يهديهم لما يرضيه سبحانه، هكذا يجب عليك يا عبد الله أن تدعو لولاة الأمور بأن يهديهم الله ويردهم للصواب، إذا كانوا على غير هدى تدعو الله لهم بالهداية والصلاح حتى يستقيموا على أمر الله وحتى يحكموا شريعة الله، ففي تحكيم شريعة الله صلاح للجميع في كل مكان، وفي تحكيم شريعة الله واتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم صلاح الدنيا والآخرة؛ لأن الله إذا عرف من عبده نية صالحة وعزيمة صادقة سدد رأيه وأعانه على كل عمل يرضيه في أي مكان؛ لأن في اتباع الشريعة وتعظيم أمر الله ورسوله صلاح أمر الدنيا والآخرة.
فكل مسلم في دولته عليه أن يسأل الله لها التوفيق والهداية، وينصح لها، ويعينها على الخير، ويسأل الله لها التوفيق والسداد، ولا يسأم ولا يضعف، وعليه أن يستعمل الحكمة والأسلوب الحسن والكلام الطيب، لعل الله يجعله مباركا في دعوته ونصيحته، فيكون سببا لهداية من أراد الله له الهداية من أمير أو حاكم أو غيرهما ممن له شأن في الأمة؛ لأن هداية المسئول وهداية من له شأن في الأمة ينفع الله بها العباد والبلاد، ويقتدي به الكثير من الأمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (1) » وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي رضي الله عنه لما بعثه إلى خيبر ليدعو اليهود: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (2) » .
وهذه نعمة عظيمة لا تتم إلا بالصدق والإخلاص والصبر، والحذر من الأسلوب الشديد العنيف الذي ينفر الناس من الحق، ويسبب الفتن والشرور، بل على الداعي إلى الله والناصح لدين الله أن يتحرى الأساليب المناسبة التي تعين على قبول الحق
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2942) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .(6/45)
وعلى الرضا به وتنفيذه، وعلى المسلم أيضا أن يجتهد فيما يصلح دنياه، كما يجتهد في صلاح دينه وصلاح أهل بيته، فأهل البيت لهم حق عليك كبير بأن تجتهد في إصلاحهم وتوجيههم إلى الخير؛ لقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (1)
فعليك أن تجتهد في إصلاح أهل بيتك. وهم زوجتك وأولادك الذكور والإناث، وإخوانك، فجميع أهل البيت تجتهد في تعليمهم وتوجيههم وإرشادهم، وتحذيرهم مما حرم الله؛ لأنك مسئول عنهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته (2) » ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (3) » .
فعلينا أن نجتهد في صلاحهم من جهة الإخلاص لله في جميع الأعمال والصدق في متابعة رسول الله لي الله عليه وسلم والإيمان به، ومن جهة الصلاة وغيرها مما أمر الله به سبحانه، ومن جهة البعد عن محارم الله.
فعلى كل واحد من الرجال والنساء النصح في أداء ما يجب عليه، فالمرأة عليها أن تجتهد والرجل كذلك. إذ صلاح البيوت من أهم الأمور، قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (4) وقال سبحانه عن نبيه إسماعيل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (5) وكان {يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (6)
فينبغي التأسي بالأنبياء والأخيار، والعناية بأهل البيت لا تغفل عنهم يا عبد الله من زوجة أو أم أو أب أو جد أو جدة أو إخوة أو أولاد، عليك أن تجتهد في صلاحهم، وأن تأمر بنيك وبناتك بالصلاة لسبع، وتضربهم عليها لعشر ضربا
__________
(1) سورة التحريم الآية 6
(2) صحيح البخاري الجمعة (893) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .
(3) صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2409) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .
(4) سورة طه الآية 132
(5) سورة مريم الآية 54
(6) سورة مريم الآية 55(6/46)
خفيفا يعينهم على طاعة الله ويعودهم أداء الصلاة في وقتها حتى يستقيموا على دين الله ويعرفوا الحق، كما صحت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكل واحد منا عليه ذلك الدور، وكل امرأة عليها ذلك فعلى المرأة والرجل التعاون على البر والتقوى في صلاح البيوت وتحذير الأولاد مما يضرهم، فيعلمون ما أوجب الله عليهم ذكورا وإناثا، وينهون عما حرم الله عليهم كالتخلف عن الصلوات وشرب المسكر وتعاطي المخدرات والتدخين وحلق اللحى أو تقصيرها وإسبال الثياب والنميمة والغيبة وسماع الأغاني والملاهي وغير ذلك من المعاصي، هذا مما يجب عليك نحو ولدك وأختك وغيرهما من أهل البيت.
فالتعاون واجب على البر والتقوى؛ لأن الله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) ويقول سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4)
هؤلاء هم الرابحون من الرجال والنساء في سابق الزمان وفي الزمان الحاضر، وفيما يأتي من الزمان وهم الذين آمنوا بالله ورسوله إيمانا صادقا ثم نفذوا الإيمان وحققوه بالأعمال الصالحة بفعل ما أوجب الله وترك ما حرم الله، ثم تواصوا بالحق فدعوا إلى الله وعلموا الناس وأرشدوهم وتواصوا بالصبر.
هؤلاء هم الناجون وهم الرابحون وهم السعداء في الدنيا والآخرة، وهكذا قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (5) يعني أنهم أحبة فيما بينهم لا يغتاب بعضهم بعضا ولا ينم بعضهم على بعض ولا يخونه في الأمانة ولا يؤذيه ولا يظلمه ولا يشهد عليه بالزور إلى غير ذلك من الأعمال والأقوال التي تنافي الولاية والمحبة. فهم إخوة أحباب متعاونون على كل خير، ثم قال سبحانه وبحمده: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (6) والمعنى أنهم لا يسكتون عن إنكار
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) سورة التوبة الآية 71
(6) سورة التوبة الآية 71(6/47)
المنكر ولا يداهنون بل كل منهم يأمر أخاه بالمعروف وينهاه عن المنكر بالكلام الطيب والأسلوب الحسن.
ثم قال سبحانه: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) هكذا المؤمنون الصادقون والمؤمنات الصادقات، هذا شأنهم، يستقيمون على دين الله، ويتباعدون عن محارم الله، ويقفون عند حدود الله، ويرشدون الناس إلى الخير، وينصحونهم بعبارات حسنة وأسلوب جيد، مع الإخلاص لله، والصبر والمصابرة.
وهكذا المؤمن يسعى في أمور دنياه لا يكون كلا على الناس، يكتسب الكسب الحلال، ويبيع ويشتري، ويفعل كل ما يصلح أمر دنياه، فيتخذ المزرعة كما كان الأنصار رضي الله عنهم، ويبيع ويشتري، كما كان المهاجرون رضي الله عنهم، لا يكون عالة على الآخرين، يسألهم ويشق عليهم، بل يجتهد في أن يغنيه الله عن الناس، يتعاطى الأسباب المشروعة والكسب الحلال، ويجتهد في طلب الرزق بالطرق المباحة والشرعية. من بيع وشراء، وزراعة، وحرفة أخرى مباحة؛ كالحدادة والنجارة والخرازة والخياطة، أو يشتغل عند الناس في مزارعهم وفي بنائهم وفي غير ذلك من الأعمال المباحة، فيستخدم هذا الجسم الذي أنعم الله عليه به في طاعة الله ورسوله، وفي كسب الحلال الذي يغنيه الله به عن الناس، ويشرع له أن يتعاطى الأدوية المباحة التي يعينه الله بها على بقاء صحته وسلامة جوارحه.
والخلاصة: أن المشروع للمسلم أن يفعل الأسباب المباحة التي تنفعه في دنياه وأخراه، وفي صحة بدنه، وفي كسب الحلال وترك الحرام، وفي الاستغناء عن الناس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير (2) » . ثم قال صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان (3) » رواه الإمام مسلم في صحيحه.
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه المقدمة (79) ، مسند أحمد بن حنبل (2/370) .
(3) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه المقدمة (79) .(6/48)
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده (1) » رواه البخاري في الصحيح «وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الكسب أطيب؟ قال عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور (2) » أخرجه البزار وصححه الحاكم.
فأنت يا عبد الله اجتهد في طلب الرزق واكتسب الحلال واستغن عن الحاجة إلى الناس وسؤالهم، وعليك بالكسب الحلال الطيب البعيد عن الغش والخيانة والكذب، واكتسب المباح بالصدق وأداء الأمانة، سواء كان ذلك في بيع وشراء أو تجارة أو حدادة أو خرازة أو كتابة أو بناء أو غير ذلك من الأعمال المباحة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما (3) » متفق على صحته.
أسأل الله بأسمائه الحسنى أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين لما يرضيه، وأن يرزق الجميع الاستقامة على الحق، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا في كل مكان، وأن يولي عليهم خيارهم، وأن يوفق ولاة أمر المسلمين لكل ما فيه رضاه ولكل ما فيه صلاح العباد والبلاد، وأن يعينهم على كل خير، وأن يصلح لهم البطانة، ويجعلهم هداة مهتدين، صالحين مصلحين، وأن يوفقهم لتحكيم شريعة الله في عباده، وإلزام الشعوب بها، وأن يعيذهم من نزغات الشيطان ومضلات الفتن، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يوفق المسلمين في كل مكان للفقه في الدين، والاستقامة عليه، والتعاون على البر والتقوى، وأن يعيننا وإياكم على كل ما فيه رضاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2072) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/141) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2079) ، صحيح مسلم البيوع (1532) ، سنن الترمذي البيوع (1246) ، سنن النسائي البيوع (4464) ، سنن أبو داود البيوع (3459) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) ، سنن الدارمي البيوع (2547) .(6/49)
أسئلة مهمة والإجابة عليها بعد المحاضرة
س1: نال بعض العلمانيين من الدعاة ومن بعض طلبة العلم، وتكلموا في مسائل الشريعة، وهم ليسوا من أهلها، وقد انتشر هذا الأمر بين عامة المسلمين فاختلط عليهم الأمر، ونريد من سماحتكم تبيين ما في هذه القضية، والله يرعاكم.
ج: يجب على المسلم أن يحتاط لدينه وأن لا يأخذ الفتوى ممن هب ودب لا مكتوبة ولا مذاعة ولا من أي طريق لا يتثبت منه، سواء كان القائل علمانيا أو غير علماني، لا بد من التثبت في الفتوى؛ لأنه ليس كل من أفتى يكون أهلا للفتوى فلا بد من التثبت. والمقصود أن المؤمن يحتاط لدينه فلا يعجل في الأمور، ولا يأخذ الفتوى من غير أهلها، بل يتثبت حتى يقف على الصواب، ويسأل أهل العلم المعروفين بالاستقامة وفضل العلم حتى يحتاط لدينه. قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) وأهل الذكر هم أهل العلم بالكتاب والسنة فلا يسأل من يتهم في دينه أو لا يعرف علمه أو يعرف بأنه منحرف عن جادة أهل السنة.
__________
(1) سورة النحل الآية 43(6/50)
س 2: هل يغير المنكر باليد، ولمن يكون التغيير باليد، مع ذكر الأدلة حفظكم الله؟
ج: الله جل جلاله وصف المؤمنين بإنكار المنكر والأمر بالمعروف قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) والآيات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدا، وما ذاك إلا
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة آل عمران الآية 104
(3) سورة آل عمران الآية 110(6/50)
لأهميته وشدة الحاجة إليه.
وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (1) » رواه مسلم في الصحيح. فالإنكار يكون باليد في حق من استطاع ذلك كولاة الأمور، والهيئة المختصة بذلك فيما جعل إليها، وأهل الحسبة فيما جعل إليهم، والأمير فيما جعل إليه، والقاضي فيما جعل إليه، والإنسان في بيته مع أولاده وأهل بيته فيما يستطيع.
أما من لا يستطيع ذلك أو إذا غيره بيده يترتب عليه الفتنة والنزاع والمضاربات فإنه لا يغير بيده بل ينكر بلسانه، ويكفيه ذلك لئلا يقع بإنكاره باليد ما هو أنكر من المنكر الذي أنكره، كما نص على ذلك أهل العلم. أما هو فحسبه أن ينكر بلسانه. فيقول يا أخي: اتق الله هذا لا يجوز، هذا يجب تركه، هذا يجب فعله، ونحو ذلك من الألفاظ الطيبة والأسلوب الحسن. ثم بعد اللسان القلب يعني يكره بقلبه المنكر، ويظهر كراهته، ولا يجلس مع أهله، فهذا من إنكاره بالقلب، والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .(6/51)
س 3: بعض الناس يحاولون النيل من شباب الصحوة بحجة أن فيهم تطرفا وتزمتا فما تعليق سماحتكم على ذلك؟
ج: الواجب تشجيع الشباب على الخير وشكرهم على نشاطهم في الخير مع توجيههم إلى الرفق والحكمة وعدم العجلة في الأمور؛ لأن الشباب وغير الشباب يكون عندهم زيادة غيرة فيقعون فيما لا ينبغي. فالواجب توجيه الشيخ والشاب إلى أن يتثبت في الأمور وأن يتحرى الحق في كل أعماله حتى تقع الأمور منه في موقعها. وقد رأى رجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعض المنكرات فحملته الغيرة لله على أن قال لصاحب المنكر: والله لا يغفر الله لك فقال الله عز وجل: «من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، إني قد غفرت له وأحبطت عملك (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه. وما ذلك إلا لأنه تجاوز الحد الشرعي بجزمه بأن الله لا يغفر لصاحب هذا المنكر وذلك
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2621) .(6/51)
يوجب على المؤمن التثبت والحذر من خطر اللسان وشدة الغيرة.
والمقصود أن الشاب والشيخ وغيرهما كلهم عليهم واجب إنكار المنكر لكن بالرفق والحكمة والتقيد بنصوص الشرع، فلا يزيدون على الحد الشرعي فيكونون غلاة كالخوارج والمعتزلة ومن سلك سبيلهم ولا ينقصون فيكونون جفاة متساهلين بأمر الله. ولكن يتحرون الوسط في كلامهم وإنكارهم وتحريهم للأسباب التي تجعل قولهم مقبولا ومؤثرا، ويبتعدون عن الوسائل التي قد تنفر من قبول قولهم ولا ينتفع بهم المجتمع؛ لقول الله عز وجل: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (1) الآية. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (2) » .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه (3) » . رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .
(3) صحيح مسلم الإمارة (1828) ، مسند أحمد بن حنبل (6/93) .(6/52)
س 4: إن هداية الناس ثمرة لانتشار العلم الشرعي بين الناس، ولكن من الملاحظ أن الباطل أكثر انتشارا عبر الصحافة وكافة وسائل الإعلام ومناهج التدريس. فما موقف الدعاة والعلماء من هذا؟
ج: هذه واقعة منتشرة في الزمان كله، وحكمة أرادها الله سبحانه، كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (1) ويقول سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (2)
لكن هذا يختلف ففي بلاد يكثر وفي بلاد يقل، وفي قبيلة يكثر وفي قبيلة يقل. وأما بالنسبة إلى الدنيا فأكثر الخلق على غير الهدى، ولكن هذا يتفاوت بالنسبة إلى بعض الدول وفي بعض البلاد وبعض القرى وبعض القبائل.
__________
(1) سورة يوسف الآية 103
(2) سورة الأنعام الآية 116(6/52)
فالواجب على أهل العلم أن ينشطوا وأن لا يكون أهل الباطل أنشط منهم. بل يجب أن يكونوا أنشط من أهل الباطل في إظهار الحق والدعوة إليه أينما كانوا: في الطريق وفي السيارة وفي الطائرة وفي المركبة الفضائية وفي بيته وفي أي مكان، عليهم أن ينكروا المنكر بالتي هي أحسن، ويعلموا بالتي هي أحسن، بالأسلوب الطيب والرفق واللين. يقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) ويقول سبحانه {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (3) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (4) » .
فلا يجوز لأهل العلم السكوت وترك الكلام للفاجر والمبتدع والجاهل فإن هذا غلط عظيم، ومن أسباب انتشار الشر والبدع واختفاء الخير وقلته وخفاء السنة. فالواجب على أهل العلم أن يتكلموا بالحق ويدعوا إليه وأن ينكروا الباطل ويحذروا منه، ويجب أن يكون ذلك عن علم وبصيرة، كما قال الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (5) وذلك بعد العناية بأسباب تحصيل العلم من الدراسة على أهل العلم وسؤالهم عما أشكل وحضور حلقات العلم، والإكثار من تلاوة القرآن الكريم وتدبره، ومراجعة الأحاديث الصحيحة حتى تستفيد وتنشر العلم كما أخذته عن أهله بالدليل مع الإخلاص والنية الصالحة والتواضع، ويجب أن تحرص على نشر العلم بكل نشاط وقوة، وألا يكون أهل الباطل أنشط في باطلهم، وأن تحرص على نفع المسلمين في دينهم ودنياهم.
وهذا واجب العلماء شيوخا وشبابا أينما كانوا بأن ينشروا الحق بالأدلة الشرعية، ويرغبوا الناس فيه، وينفروهم من الباطل، ويحذروهم منه؛ عملا بقوله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (6) وقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (7) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (8) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (9)
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .
(5) سورة يوسف الآية 108
(6) سورة المائدة الآية 2
(7) سورة العصر الآية 1
(8) سورة العصر الآية 2
(9) سورة العصر الآية 3(6/53)
هكذا يكون أهل العلم أينما كانوا، يدعون إلى الله ويرشدون إلى الخير، وينصحون لله ولعباده بالرفق فيما يأمرون به وفيما ينهون عنه وفيما يدعون إليه، حتى تنجح دعوتهم، ويفوز الجميع بالعاقبة الحميدة والسلامة من كيد الأعداء. والله المستعان.(6/54)
س5: أريد من سماحتكم تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1) .
ج: معنى الآية الكريمة عند العلماء أن الله سبحانه منورها، فجميع النور الذي في السماوات والأرض ويوم القيامة كل من نوره سبحانه.
والنور نوران: نور مخلوق وهو ما يوجد في الدنيا والآخرة وفي الجنة وبين الناس الآن من نور القمر والشمس والنجوم. وهكذا نور الكهرباء والنار كله مخلوق وهو من خلقه سبحانه وتعالى.
أما النور الثاني: فهو غير مخلوق بل هو من صفاته سبحانه وتعالى. والله سبحانه وبحمده بجميع صفاته هو الخالق وما سواه مخلوق، فنور وجهه عز وجل، ونور ذاته سبحانه وتعالى، كلاهما غير مخلوق، بل هما صفة من صفاته جل وعلا.
وهذا النور العظيم وصف له سبحانه وليس مخلوقا بل هو صفة من صفاته كسمعه وبصره ويده وقدمه وغير ذلك من صفاته العظيمة سبحانه وتعالى. وهذا هو الحق الذي درج عليه أهل السنة والجماعة.
__________
(1) سورة النور الآية 35(6/54)
س 6: ما تفسير قوله سبحانه وتعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} (1) من هو المستثنى هنا؟
ج: الله أعلم. وقال بعض أهل العلم: إنهم الملائكة وقال بعضهم: إنهم الشهداء. والله سبحانه وتعالى هو أعلم بمراده بذلك.
__________
(1) سورة الزمر الآية 68(6/54)
س7: أنا أحب الدعوة إلى الله، ومتحمس لها، ولكن ليس عندي أسلوب حسن، فهل يكفي في ذلك اختياري لشريط لأحد العلماء والدعاة وأهديه لأقاربي والمسلمين عامة؟(6/54)
ج: نعم. الشريط إذا كان من عالم معروف بحسن العقيدة وسعة العلم إذا أهديته إلى إخوانك فقد أحسنت، ولك مثل أجره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه.
أما أنت فلا مانع من أن تتكلم بما تعلم من الحق بالأسلوب الحسن. مثل حث الناس على الصلاة في الجماعة وأداء الزكاة وتحذيرهم الغيبة والنميمة وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم وما حرم الله من الفواحش؛ لأن هذه الأمور وأمثالها معلومة للمسلمين من العلماء وغيرهم.
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .(6/55)
س 8: نريد من سماحتكم تشجيع الدعاة وطلبة العلم على إقامة الدروس والمحاضرات في كافة أنحاء البلاد حيث لوحظ الجفاء في بعض المناطق وقلة الدعاة وتكاسل طلبة العلم وإحجامهم عن الدروس والمحاضرات، مما يسبب انتشار الجهل وعدم العلم بالسنة وانتشار الشركيات والبدع، حفظكم الله.
ج: لا شك أن الواجب على العلماء أينما كانوا أن ينشروا الحق، وينشروا السنة، ويعلموا الناس، وأن لا يتقاعسوا عن ذلك، بل يجب على أهل العلم أن ينشروا الحق بالدروس في المساجد التي حولهم، وإن كانوا غير أئمة فيها.
وفي خطب الجمعة من أئمة الجوامع يجب على كل واحد أن يعتني بخطبة الجمعة ويتحرى حاجة الناس، وهكذا المحاضرات والندوات يجب على القائمين بها أن يتحروا حاجة الناس، ويبينوا لهم ما قد يخفى عليهم من أمور دينهم، وما يلزم نحو إخوانهم من الجيران وغيرهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وتعليم الجاهل بالرفق والحكمة. ومتى سكت العلماء ولم ينصحوا ولم يرشدوا الناس تكلم الجهال فضلوا وأضلوا، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا (1) » رواه الإمام البخاري في صحيحه.
فنسأل الله السلامة من كل سوء، لنا، ولإخواننا المسلمين.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (100) ، صحيح مسلم العلم (2673) ، سنن الترمذي العلم (2652) ، سنن ابن ماجه المقدمة (52) ، مسند أحمد بن حنبل (2/162) ، سنن الدارمي المقدمة (239) .(6/55)
وبما ذكرنا يعلم أن الواجب على أهل العلم أينما كانوا في القرى والمدن وفي القبائل وفي هذه البلاد وفي كل مكان أن يعلموا الناس وأن يرشدوهم بما قال الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما أشكل عليهم في ذلك وجب عليهم أن يراجعوا الكتاب والسنة، ويراجعوا كلام أهل العلم.
فالعالم يتعلم إلى أن يموت، ويتعلم ليعلم ما أشكل عليه، ويراجع كلام أهل العلم بالأدلة حتى يفتي الناس ويعلمهم على بصيرة، وحتى يدعو إلى الله على بصيرة.
فالإنسان في حاجة إلى العلم إلى أن يموت ولو كان من الصحابة رضي الله عنهم، فكل إنسان محتاج إلى طلب العلم والتفقه في الدين؛ ليعلم ويتعلم، فيراجع القرآن الكريم، ويتدبره، ويراجع الأحاديث الصحيحة وشروحها، ويراجع كلام أهل العلم؛ حتى يستفيد، ويتضح له ما أشكل عليه، ويعلم للناس مما علمه الله، سواء كان في بيته أو في المدرسة أو في المعهد أو في الجامعة أو في المساجد التي حوله أو في السيارة أو في الطائرة أو في أي مكان أو في المقبرة إذا حضر عند الدفن ولم ينقض القبر بأن جلسوا ينتظرون، يذكرهم بالله كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل.
والمقصود أن العالم ينتهز الفرصة في كل مكان مناسب واجتماع مناسب، ولا يضيع الفرصة، بل ينتهزها ليذكر، ويعلم بالكلام الطيب والأسلوب الحسن، والتثبت والحذر من القول على الله بغير علم. والله ولي التوفيق.(6/56)
القضاء والقدر
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم (..........) ؛ سلمه الله وتولاه آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ (بدون) وصلكم الله بحبل الهدى والتوفيق. وما تضمنه من الإفادة عن عزمكم على تأليف كتاب مختصر يتضمن بيان مذهب السلف الصالح في مسألة القضاء والقدر التي قد غلط فيها كثير من الناس، ورغبتكم في أن نكتب إليكم في الموضوع رسالة مختصرة تشتمل على بيان الحق في هذا الأمر الجليل كان معلوما.
وإني بهذه المناسبة أسأل المولى عز وجل أن يسدد خطاكم ويمنحكم التوفيق لإصابة الحق فيما تكتبون، وإنها لهمة عالية وعزم مبارك، أرجو أن يحقق الله لكم بذلك ما تريدون من إيضاح الحق بدليله، وكشف اللبس وإزاحة الشبهة، إنه جواد كريم.
ويسرني أن أساهم في هذا العمل الجليل بما أشرتم إليه فأقول:
قد دل الكتاب العزيز والسنة الصحيحة وإجماع سلف الأمة على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره، وأنه من أصول الإيمان الستة التي لا يتم إسلام العبد ولا إيمانه إلا بها، كما دل على ذلك آيات من القرآن الكريم وأحاديث صحيحة مستفيضة بل متواترة عن الرسول الأمين، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، ومن ذلك قوله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (1) وقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (2) وقال تعالى {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (3) وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
__________
(1) سورة الحج الآية 70
(2) سورة الحديد الآية 22
(3) سورة القمر الآية 49(6/57)
سأله جبرائيل عن الإيمان قال عليه الصلاة والسلام: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث وتؤمن بالقدر كله، قال: صدقت (1) » الحديث، وهذا لفظ مسلم. وخرج مسلم في صحيحه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبرائيل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فأجابه بقوله: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره فقال له جبرائيل صدقت (2) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن الإيمان بالقدر يجمع أربعة أمور:
الأمر الأول: الإيمان بأن الله سبحانه علم الأشياء كلها قبل وجودها بعلمه الأزلي وعلم مقاديرها وأزمانها وآجال العباد وأرزاقهم وغير ذلك، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) وقال تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (4) وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (5) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
الثاني: من مراتب الإيمان بالقدر: كتابته سبحانه لجميع الأشياء من خير وشر، وطاعة ومعصية، وآجال وأرزاق، وغير ذلك، كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (6) في آيات كثيرة سبق بعضها آنفا. وفي الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار "، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4777) ، صحيح مسلم الإيمان (10) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4991) ، سنن ابن ماجه المقدمة (64) ، مسند أحمد بن حنبل (2/426) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/28) .
(3) سورة الأنفال الآية 75
(4) سورة الطلاق الآية 12
(5) سورة الأنعام الآية 59
(6) سورة الحج الآية 70(6/58)
لعمل أهل الشقاوة (1) » ثم قرأ رسول الله عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} (2) {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} (3) الآيتين، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة، ومنها حديث عبد الله بن مسعود المخرج في الصحيحين في ذكر خلق الجنين وأنه يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.
الأمر الثالث: من مراتب الإيمان بالقدر: أنه سبحانه وتعالى لا يوجد في ملكه ما لا يريد ولا يقع شيء في السماء والأرض إلا بمشيئته. كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (4) {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (5) وقال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} (6) {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} (7) وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (8) وقال تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (9) وقال عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (10) والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا، معلومة من كتاب الله، والإرادة في هذه الآية بمعنى المشيئة، وهي إرادة كونية قدرية، بخلاف الإرادة في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (11) {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} (12) {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (13) فالإرادة في هذه الآيات الثلاث إرادة شرعية أو دينية، بمعنى المحبة، والفرق بين الإرادتين: الأولى: لا يتخلف مرادها أبدا بل ما أراده الله كونا فلا بد من وقوعه كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (14)
أما الإرادة الشرعية فقد يوجد مرادها من بعض الناس وقد يتخلف. وإيضاح ذلك أن الله سبحانه أخبر أنه يريد البيان للناس والهداية والتوبة، ومع ذلك أكثر
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4949) ، صحيح مسلم القدر (2647) ، سنن الترمذي القدر (2136) ، سنن أبو داود السنة (4694) ، سنن ابن ماجه المقدمة (78) ، مسند أحمد بن حنبل (1/140) .
(2) سورة الليل الآية 5
(3) سورة الليل الآية 6
(4) سورة التكوير الآية 28
(5) سورة التكوير الآية 29
(6) سورة المدثر الآية 55
(7) سورة المدثر الآية 56
(8) سورة الأنعام الآية 112
(9) سورة الأنعام الآية 39
(10) سورة الأنعام الآية 125
(11) سورة النساء الآية 26
(12) سورة النساء الآية 27
(13) سورة النساء الآية 28
(14) سورة يس الآية 82(6/59)
الخلق لم يهتد ولم يوفق للتوبة ولم يتبصر في الحق؛ لأنه سبحانه وتعالى قد أوضح الحجة والدليل، وبين السبيل وشرع أسباب التوبة وبينها، ولكنه لم يشأ لبعض الناس أن يهتدي أو يتوب أو يتبصر، فذلك لم يقع منه ما أراده الله شرعا؛ لما قد سبق في علم الله وإرادته الكونية من أن هذا الشخص المعين لا يكون من المهتدين ولا ممن يوفق للتوبة.
وهذا بحث عظيم ينبغي تفهمه وتعقله والتبصر في أدلته ليسلم المؤمن من إشكالات كثيرة وشبهات مضلة حار فيها الكثير من الناس لعدم تحقيقهم للفرق بين الإرادتين، ومما يزيد المقام بيانا أن الإرادتين تجتمعان في حق المؤمن فهو إنما آمن بمشيئة الله وإرادته الكونية وهو في نفس الوقت قد وافق بإيمانه وعمله الإرادة الشرعية وفعل ما أراده الله منه شرعا وأحبه منه، وتنفرد الإرادة الكونية في حق الكافر والعاصي فهو إنما كفر وعصى بمشيئة الله وإرادته الكونية وقد تخلفت عنه الإرادة الشرعية لكونه لم يأت بمرادها وهو الإسلام والطاعة فتنبه وتأمل والله الموفق.
الأمر الرابع من مراتب الإيمان بالقدر: أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الموجد لجميع الأشياء من ذوات وصفات وأفعال، فالجميع خلق الله سبحانه، وكل ذلك واقع بمشيئته وقدرته، فالعباد وأرزاقهم وطاعاتهم ومعاصيهم كلها خلق الله وأفعالهم، تنسب إليهم فيستحقون الثواب على طيبها والعقاب على خبيثها، والعبد فاعل حقيقة، وله مشيئة، وله قدرة قد أعطاه الله إياها، والله سبحانه هو خالقه وخالق أفعاله وقدرته ومشيئته، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) وقال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (2) {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (3) فلا يخرج شيء من أفعال العباد ولا غيرهم عن قدرة الله ولا عن مشيئته، فعلم الله شامل، ومشيئته نافذة، وقدرته كاملة، لا يعجزه سبحانه شيء، ولا يفوته أحد كما قال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (4)
__________
(1) سورة البقرة الآية 20
(2) سورة التكوير الآية 28
(3) سورة التكوير الآية 29
(4) سورة الطلاق الآية 12(6/60)
والعرش وما دونه من سماوات وأرضين وملائكة وبحار وأنهار وحيوان، وغير ذلك من الموجودات كلها وجدت بمشيئة الله وقدرته، لا خالق غيره، ولا رب سواه، ولا شريك له في ذلك كله، كما أنه لا شريك له في عبادته ولا في أسمائه وصفاته، كما قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (1) وقال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (2) وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (4) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (5) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (6) وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (7) فالله سبحانه هو الخالق وما سواه مخلوق، وصفاته كذاته ليست مخلوقة، وكلامه من صفاته والقرآن الكريم من كلامه المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو كلام الله عز وجل منزل غير مخلوق بإجماع أهل السنة، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سلك سبيلهم إلى يوم القيامة.
وبما ذكرنا يتضح لطالب الحق أن مراتب القدر أربع من آمن بها وأحصاها فقد آمن بالقدر خيره وشره.
وقد ذكر العلماء هذه المراتب في كتب العقائد، وأوضحوها بأدلتها، وممن ذكر ذلك باختصار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه: (العقيدة الواسطية) وذكرها وأوسع فيها الكلام تلميذه المحقق العلامة الكبير أبو عبد الله ابن القيم في كتابه: (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل) وهو كتاب نفيس عظيم الفائدة نادر المثل أو معدومه ننصح بقراءته والاستفادة منه.
والله أسأل سبحانه أن يوفقنا جميعا للفقه في دينه والاستقامة عليه، وأن يهدينا وسائر المسلمين صراطه المستقيم. إنه جواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة الزمر الآية 62
(2) سورة البقرة الآية 163
(3) سورة الإخلاص الآية 1
(4) سورة الإخلاص الآية 2
(5) سورة الإخلاص الآية 3
(6) سورة الإخلاص الآية 4
(7) سورة الشورى الآية 11(6/61)
نصيحة لحكام المسلمين وعلمائهم
س: ما هي النصيحة الغالية لحكام وعلماء المسلمين وأنتم تمارسون الدعوة الإسلامية في أشرف أرض وفي أوسع نطاق؟(6/61)
ج: نصيحتي لحكام المسلمين أن يتمسكوا بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يحكموها في الشعوب التي يتولون مسئوليتها تنفيذا لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (1) {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) وقوله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) والآيات القرآنية في ذلك كثيرة.
وبذلك تتحقق سعادة الشعوب الإسلامية وتستقر الأوضاع المتقلبة في العالم الإسلامي ويجد الحاكم والمحكوم بغيته من السعادة والطمأنينة والأمن ويفوز الجميع بالسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة.
أما نصيحتي لعلماء المسلمين فهي أن يبينوا للناس الحق بأقوالهم وأعمالهم، وأن يدعوا الناس إلى الله بإخلاص وشجاعة وأن لا يخافوا في ذلك لومة لائم؛ لأن عليهم مسئولية عظيمة، ولأنهم يعلمون ما لا يعلمه غيرهم.
أسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويجمع قلوب المسلمين قادة وشعوبا على ما يرضيه، وأن يعيذهم جميعا من شرور وسيئات أعمالهم وأن يهديهم صراطه المستقيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
__________
(1) سورة المائدة الآية 49
(2) سورة المائدة الآية 50
(3) سورة النساء الآية 65(6/62)
نصيحة لقادة الدول العربية(6/62)
حضرات أصحاب الجلالة والفخامة من قادة الدول العربية، وفقهم الله لما فيه رضاه وصلاح أمر عباده آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أما بعد: فبمناسبة هذا الاجتماع العظيم الذي تعلق عليه الشعوب العربية والأمة الإسلامية الآمال الكبيرة لإزالة آثار العدوان اليهودي، والقضاء على عصابات الصهاينة، واسترجاع الأرض السليبة من أيديهم، رأيت أنه من الحق علي نصحا لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكم أيها القادة، وإسهاما في الإصلاح العام، ومعذرة إلى الله عز وجل أن أبعث إلى حضراتكم من الجامعة الإسلامية في بلد المصطفى صلى الله عليه وسلم الوصايا التالية: -.
أولا: تقوى الله عز وجل في جميع الأمور والتواصي بالاستقامة على دينه، وتحكيم شريعته، والتحاكم إليها، ومحاربة ما خالفها من المبادئ والأعمال؛ لأنكم قادة العرب والمسلمين وبصلاحكم واجتماع كلمتكم على الهدى يصلح الله شعوبكم وسائر المسلمين إن شاء الله، وتعلمون جميعا أنه لا عزة لكم ولا منعة ولا هيبة ولا انتصارا محققا ومضمونا على الأعداء إلا بالتمسك بالإسلام وتحكيمه، والتحاكم إليه، كما جرى على ذلك سلفكم الصالح، فأيدهم الله، ونصرهم كما وعدهم سبحانه في قوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) وفي الإسلام حل لجميع المشاكل وإصلاح لجميع الشئون، وتحقيق العدالة بين الجميع بأكمل معانيها إذا صلح القصد وبذلت الجهود ووسدت الأمور إلى أهلها.
ثانيا: التسامح وصفاء القلوب وتوحيد الصف واتفاق الكلمة على هدف
__________
(1) سورة محمد الآية 7(6/63)
واحد وهو اتباع الشريعة وترك ما خالفها والعمل على إزالة أثر العدوان اليهودي، والقضاء على ما يسمى بدولة إسرائيل نهائيا، وتكاتف جميع الجهود والقوى لهذا الغرض النبيل، مع الاستعانة بالله والاستنصار به في ذلك؛ عملا بقول الله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (2) وما جاء في هذا المعنى من الآيات والأحاديث.
ثالثا: تكوين جيش مشترك قوي موحد مجهز بأكمل الأسلحة الممكنة تحت قيادة موحدة أمينة مرضية من الجميع، تستند إلى مجلس شورى مكون من وزراء الدفاع وأركان الجيش في جميع الدول العربية، ومن أحب أن ينضم إليها من الدول الإسلامية ليسير المجلس في جميع شئونه على قواعد ثابتة وأسس مدروسة من الجميع؛ رجاء بأن يحقق الغرض المطلوب، ولا يخفي على حضراتكم ما في هذا المجلس من الخير العظيم والحيطة والسير على هدي الشريعة وتعاليمها الحكيمة، والعمل بقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (3) وقوله سبحانه في وصف المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (4)
رابعا: الحياد التام وعدم الانحياز إلى كتلة شرقية أو غربية وبذل الجهود على أن تكونوا كتلة مستقلة تستفيد من خبرات غيرها وسلاحه، من غير انحياز أو تدخل من الغير في شئونها الداخلية أو الخارجية، ولا يخفى أن هذا الحياد أقرب إلى السلامة في الدين والدنيا، وأكمل في العزة والكرامة والهيبة، وأسلم من تدخل الأعداء في شئونكم، والاطلاع على أسراركم، وقد صح «عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل أراد أن يغزو معه يوم بدر: هل أسلمت؟ قال: لا، قال: ارجع؛ فلن نستعين بمشرك (5) » مع أنه صلى الله عليه وسلم استأجر دليلا مشركا في طريق الهجرة واستعار من بعض المشركين دروعا يوم حنين، فدل ذلك على أن الاستعانة بسلاح الأعداء والاستفادة من خبرتهم لا مانع منهما وليستا بداخلتين في الاستعانة التي نفاها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق إذا لم يكن لهم
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60
(2) سورة النساء الآية 71
(3) سورة آل عمران الآية 159
(4) سورة الشورى الآية 38
(5) سنن الترمذي السير (1558) ، مسند أحمد بن حنبل (6/149) .(6/64)
دخل في شئوننا ولا مشاركة في الجيش.
هذا ما بدا لي عرضه على حضراتكم على سبيل الإشارة والإيجاز، والله المسئول أن يصلح قلوبكم وأعمالكم، ويسدد خطاكم، ويجمع كلمتكم على ما فيه سعادتكم وسعادة المسلمين جميعا، وانتصاركم على عدوكم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(6/65)
نصيحة عامة
(1) الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فهذه نصيحة أقدمها لإخواني في الله للتذكير بحقه والدعوة إلى طاعته عملا بقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) وقوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (3) وقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (4) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (5) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (6) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (7) » . رواه مسلم.
وأعظم ما أوصيكم به ونفسي تقوى الله سبحانه في جميع الأحوال، وهي وصية الله ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (8) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في خطب كثيرة: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة (9) » وحقيقة التقوى فعل ما أوجب الله من الطاعة واجتناب ما حرم الله من المعصية، وقد أمر الله بالتقوى ووعد أهلها بتفريج الكروب وتيسير الأمور وغفران السيئات وإعظام الأجر والرزق، من حيث لا يحتسبون، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (10) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (11) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (12) وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (13) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (14) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (15)
__________
(1) وجه سماحته هذه النصيحة في عام 1371 هـ حينما كان قاضيا في منطقة الخرج.
(2) سورة الذاريات الآية 55
(3) سورة المائدة الآية 2
(4) سورة العصر الآية 1
(5) سورة العصر الآية 2
(6) سورة العصر الآية 3
(7) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(8) سورة النساء الآية 131
(9) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(10) سورة الحج الآية 1
(11) سورة الأحزاب الآية 70
(12) سورة الأحزاب الآية 71
(13) سورة الطلاق الآية 2
(14) سورة الطلاق الآية 3
(15) سورة الطلاق الآية 5(6/66)
وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) والآيات في الأمر بالتقوى والحث عليها وبيان ما أعد لأهلها من الخير الكثير كثيرة معلومة.
فالواجب علينا وعليكم أيها الإخوة في الله تقوى الله سبحانه وتعالى في السر والعلانية والشدة والرخاء، وذلك بفعل ما أوجب الله عليكم من الصلاة والزكاة وغير ذلك من الطاعات، وترك ما حرم الله عليكم من جميع الذنوب والمنكرات، فمن فعل ما أوجب الله عليه، واجتنب ما نهاه الله عنه؛ رغبة في ثواب الله وحذرا من عقابه، فهو من المتقين الموعودين بالنجاة والسعادة في الدنيا والآخرة. وأعظم ما يجب على العبد إخلاص العبادة لله وحده وترك الشرك كله، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (3) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (4) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} (5) وهذا معنى لا إله إلا الله؛ لأن معناها بإجماع أهل العلم لا معبود حق إلا الله، كما قال سبحانه في سورة الحج: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (6) فمن صلى لغير الله أو صام لغير الله أو سجد لغير الله أو دعا غير الله كالأموات والأشجار والأحجار ونحو ذلك، فقد أشرك بالله وأبطل قول لا إله إلا الله، كذلك من ذبح لغير الله كالذين يذبحون للأولياء والجن والزيران تقربا إليهم أو خوفا من شرهم، فكل هذا من الشرك الذي حرمه الله وتوعد أهله بالنار، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (7) {لَا شَرِيكَ لَهُ} (8) والنسك هو الذبح، قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (9) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (10) وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (11)
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة الزمر الآية 2
(4) سورة الزمر الآية 3
(5) سورة البينة الآية 5
(6) سورة الحج الآية 62
(7) سورة الأنعام الآية 162
(8) سورة الأنعام الآية 163
(9) سورة الكوثر الآية 2
(10) سورة النساء الآية 48
(11) سورة المائدة الآية 72(6/67)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار (1) » وقال النبي صلى الله عليه وسلم «من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار (2) » وقال النبي صلى الله عليه وسلم «لعن الله من ذبح لغير الله (3) » ومن الشرك الأصغر الرياء والحلف بغير الله كالحلف بالكعبة، والحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، والحلف بالأمانة وغير ذلك من المخلوقات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا يا رسول الله ما هو؟ قال: الرياء (4) » وقال النبي صلى الله عليه وسلم «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (5) » متفق عليه وقال عليه الصلاة والسلام «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (6) » رواه أبو داود والترمذي، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما بإسناد صحيح، وروى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف بشيء دون الله فقد أشرك (7) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من حلف بالأمانة فليس منا (8) » . والأحاديث في النهي عن الحلف بغير الله والترهيب في ذلك كثيرة فالواجب على جميع المسلمين الحذر والتحذير من ذلك وتخصيص الله سبحانه بالحلف مع تحري الصدق في ذلك؛ لأن الحلف تعظيم للمحلوف به، والله سبحانه هو المستحق لكل تعظيم وإجلال. ومن أنواع الشرك الأصغر: قول: (ما شاء الله وشئت يا فلان) ، (وهذا من الله ومنك) ، (لولا الله وأنت) ، (ولولا الله وفلان) ، وهذا كله من الشرك الأصغر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان (9) » وقال ابن عباس في قول الرجل لصاحبه: (ما شاء الله وشئت) ، (ولولا الله وفلان) : هذا كله بالله شرك «وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ ما شاء الله وحده (10) » فالواجب على كل مسلم أن يتفقه في دينه، وأن يحذر الشرك كله قليله وكثيره وصغيره وكبيره، وأن يتفقه في الدين، ويسأل عما أشكل عليه؛ لقول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (11)
__________
(1) صحيح البخاري العلم (129) ، صحيح مسلم الإيمان (32) ، مسند أحمد بن حنبل (3/157) .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4497) ، مسند أحمد بن حنبل (1/374) .
(3) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (5/428) .
(5) صحيح البخاري الشهادات (2679) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(6) سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) .
(7) مسند أحمد بن حنبل (1/47) .
(8) سنن أبو داود الأيمان والنذور (3253) ، مسند أحمد بن حنبل (5/352) .
(9) سنن أبو داود الأدب (4980) ، مسند أحمد بن حنبل (5/399) .
(10) مسند أحمد بن حنبل (1/214) .
(11) سورة النحل الآية 43(6/68)
وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » . ومن المنكرات الشركية أيضا: السحر والكهانة والتطير وتعليق التمائم، سواء كانت من القرآن أو غيره، والرقى التي فيها شرك، والتي لا يعرف معناها. وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قلنا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (3) » وروى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه (4) » وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (5) » صلى الله عليه وسلم، وروى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل صلاته أربعين ليلة (6) » وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (7) » وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (8) » رواه مسلم. والرقى التي لا يعرف معناها يجب تركها والنهي عنها مخافة أن يكون فيها شرك، وروى الإمام أحمد رحمه الله عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له (9) » وفي رواية له: «ومن تعلق تميمة فقد أشرك (10) » وقال ابن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطيرة شرك الطيرة شرك (11) » وفي المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك، قالوا فما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك (12) » والأحاديث في التحذير من الكهانة والسحر والطيرة والترهيب من سؤال الكهان والسحرة وتصديقهم كثيرة، فالواجب على المسلم الحذر من هذه المنكرات
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(3) صحيح البخاري الوصايا (2767) ، صحيح مسلم الإيمان (89) ، سنن النسائي الوصايا (3671) ، سنن أبو داود الوصايا (2874) .
(4) سنن النسائي تحريم الدم (4079) .
(5) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/476) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .
(6) صحيح مسلم السلام (2230) .
(7) سنن أبو داود الطب (3883) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) .
(8) صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبو داود الطب (3886) .
(9) مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(10) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .
(11) سنن الترمذي السير (1614) ، سنن أبو داود الطب (3910) ، سنن ابن ماجه الطب (3538) ، مسند أحمد بن حنبل (1/440) .
(12) مسند أحمد بن حنبل (2/220) .(6/69)
وإنكارها على من تعاطاها؛ حذرا من عقاب الله وطلبا لثوابه وامتثالا لأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن أعظم المنكرات التي يجب تركها والتحذير منها: ترك الصلاة والتهاون بها وعدم أدائها في الجماعة، وقد قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (1) وقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (2) وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (3) » وقال عليه السلام: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (4) » وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت (5) » . ومن أهم واجبات الصلاة وإظهار شعائر الإسلام: أداء الصلاة في المساجد في الجماعات كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يفعلون ذلك، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أنطلق برجال معهم حزم من الحطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم (6) » وقال عليه السلام: «من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر (7) » وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافط على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيه صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة خطاها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط بها عنه سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق أو مريض، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) رواه مسلم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 238
(2) سورة البقرة الآية 43
(3) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/370) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .
(4) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(5) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/26) .
(6) صحيح البخاري الخصومات (2420) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (651) ، سنن الترمذي الصلاة (217) ، سنن النسائي الإمامة (848) ، سنن أبو داود الصلاة (548) ، مسند أحمد بن حنبل (2/531) ، موطأ مالك النداء للصلاة (292) ، سنن الدارمي الصلاة (1212) .
(7) سنن أبو داود الصلاة (551) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (793) .(6/70)
وقد أخبر الله سبحانه في كتابه العظيم أن التكاسل عن الصلوات من صفات أهل النفاق قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (1) وقال تعالى في شأن المنافقين: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} (2) وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا (3) » . فالواجب علينا وعليكم أيها المسلمون المحافظة على الصلوات الخمس في المساجد، والتناصح في ذلك، والإنكار على من تخلف عنها وهجره وترك مجالسته؛ حتى يتوب اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتباعدا عن مشابهة المنافقين الذين توعدهم الله بالدرك الأسفل من النار.
نسأل الله لنا ولكم السلامة والعافية والتوفيق لما يرضيه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يمن علينا بخشيته ومراقبته، وأن ينصر دينه ويخذل أعداءه، وأن يوفق ولاة أمرنا وسائر أمراء المسلمين لما يرضيه، ويصلح بطانتهم، وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن آمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
__________
(1) سورة النساء الآية 142
(2) سورة التوبة الآية 54
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (651) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (797) ، مسند أحمد بن حنبل (2/531) ، سنن الدارمي الصلاة (1273) .(6/71)
نصيحة موجهة إلى الملك فيصل بن عبد العزيز
للدعوة إلى الله
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة جلالة الملك المعظم فيصل بن عبد العزيز وفقه الله لكل خير وبارك في حياته آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: -.
بعده: حفظكم الله لا يخفي على جلالتكم مركزكم العظيم الذي هو محط آمال المسلمين بعد الله عز وجل، وذلك بسبب ولايتكم لقبلة المسلمين ومهاجر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم. فمن هذه البقاع المباركة شع نور الرسالة، فأضاء الكون، ومزق أستار الظلام، ومن هذه البقاع المقدسة حمل الرعيل الأول مشعل الهداية إلى العالم، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله فدان لهم سكان الأرض وساد الإسلام.
أقول: إنه بحكم ولايتكم لهذه البقاع المقدسة وميراثكم لتراث الأسلاف الكرام فإنه يتحتم عليكم ولا شك حمل راية الدعوة إلى هذا الدين القويم وراية الجهاد في سبيل الله حيث أمكن، وقد فعلتم ذلك مشكورين، فالحمد لله على توفيقكم لذلك.
قال الله تعالى وهو أصدق القائلين تحذيرا للأمة من كتمان الحق وتشجيعا على الجهاد والدعوة: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (1) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (2) وقال جل وتقدس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (3) وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الحج الأكبر: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب (5) »
__________
(1) سورة آل عمران الآية 187
(2) سورة العنكبوت الآية 69
(3) سورة الأحزاب الآية 21
(4) سورة فصلت الآية 33
(5) صحيح البخاري الحج (1741) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، سنن ابن ماجه المقدمة (233) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .(6/72)
وقال عليه الصلاة والسلام: «بلغوا عني ولو آية (1) » . وقد هيأ الله في هذا العصر من أسباب الاتصال بجميع العالم ما هو معلوم، الأمر الذي يجعل الدعوة إلى الله متيسرة، وجلالتكم في هذا العصر هو المسئول الأول عن إبلاغ أمر الله إلى عباده، ولا شك أنها مسئولية خطيرة تحتاج منكم إلى جهود عظيمة وصبر ومصابرة.
وبمناسبة قرب زمن الاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين لقيام هيئة الأمم في شهر يونيو القادم، ودعوة ملوك ورؤساء الدول الأعضاء في المنظمة إلى إلقاء كلمات في الجلسة التذكارية لها، لذلك فإني أهيب بهمة جلالتكم أن تشمروا عن ساعد الجد، وتنتهزوا هذه الفرصة الثمينة بالدعوة إلى الإسلام، وتحكيم شريعته في هذا الاجتماع الذي سوف يضم أكثر رؤساء دول العالم الإسلامي وغيرهم، وأن تبينوا لهم محاسن الإسلام، وأنه دين الحق، وأنه الدين الكامل الصالح لكل عصر وأوان، والمشتمل على مصالح الدنيا والآخرة، وأنه دين السعادة والفلاح، وأنه السبيل الوحيد لإنقاذ البشرية الحائرة التائهة في خضم أمواج الظلم والطغيان ودياجر الجهل والضلال إلى شاطئ السلامة والأمان، وهو السبيل الوحيد لحل مشاكلها وإفهام الجميع بأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة للناس جميعا، وأن من أجابه دخل الجنة ومن أبى دخل النار. وفي ذلك إقامة الحجة عليهم وبراءة للذمة من تبعة السكوت عن البلاغ.
وإني لأرجو لجلالتكم بذلك الرفعة والعزة والسؤدد في الدنيا، والفوز ورفع الدرجات في الجنة.
ولمحبة الخير لكم وللمسلمين وغيرهم والمناصحة في الحق والتعاون على البر والتقوى والرغبة في انتشار الدعوة الإسلامية وإبلاغها لعموم الناس - رأيت أن أذكركم بهذا الأمر العظيم وجلالتكم من أعلم الناس بالواقع وما أصاب العالم اليوم من فساد وانحلال وحيرة وقلق وإلحاد وانحراف.
فأرجو أن يكون هذا الأمر موضع الاهتمام والتنفيذ وأسأل الله أن يصلحكم ويصلح بكم ويهديكم ويهدي بكم، وأن يعلي ذكركم في الدنيا والآخرة، وأن ينفع بكم
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461) ، سنن الترمذي العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (2/159) ، سنن الدارمي المقدمة (542) .(6/73)
العباد، وينقذهم بدعوتكم من الكفر والضلال إلى الهدى والاستقامة على الحق إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(6/74)
موقف الشريعة الإسلامية
من الغزو العراقي للكويت
(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه.
أما بعد: أيها الإخوان المسلمون في كل مكان؛ نظرا لما جرى من حوادث في اليوم الحادي عشر من هذا الشهر من شهر الله المحرم عام 1411 هـ من العدوان الأثيم والظلم العظيم من رئيس دولة العراق على دولة الكويت، وذلك باجتياحه بلاد الكويت بجيوشه مزودة بأنواع الأسلحة المدمرة، وما حصل بسبب ذلك من الفساد العظيم، وسفك الدماء ونهب الأموال، وهتك الأعراض وتشريد الآمنين.
بسبب هذا كله كثر السؤال عن هذا الحادث، وعما ينبغي نحوه، ورأيت أنه من الواجب إخبار المسلمين فيما يتعلق بهذا الحادث، وما يجب على المسلم نحوه فأقول:
لا شك أن هذا الحادث من رئيس دولة العراق حادث أليم وعدوان كبير على دولة مجاورة آمنة، يجب على جميع الدول الإسلامية وغيرها، وعلى جميع المسلمين إنكار ذلك وشجبه، وبيان أنه عدوان أثيم وظلم كبير.
يجب على رئيس دولة العراق أن يبادر بسحب جيشه من دولة الكويت، وأن يحذر مغبة ذلك في الدنيا والآخرة والظلم عاقبته وخيمة، والله عز وجل يقول في كتابه المبين: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (2) ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} (3) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة (4) »
__________
(1) نشرت في جريدة البلاد بتاريخ 29\1\1411 هـ وغيرها من الصحف المحلية.
(2) سورة الشورى الآية 8
(3) سورة الفرقان الآية 19
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/323) .(6/75)
ويقول الله عز وجل فيما رواه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا (1) » .
لا شك أن هذا العدوان من أقبح الظلم ولا شك أيضا أنه مخالف للتعاليم الإسلامية والمواثيق الدولية حري صاحبه بالعقوبة العادلة العاجلة. والمشاكل بين الجيران وبين القبائل وبين الدول لا تحل بالظلم والعدوان، ولكن تحل بالطرق السلمية والصلح أو بالحكم الشرعي، أما حلها بالظلم والعدوان والسلاح وقتل الأبرياء ونهب الأموال وغير هذا من أنواع الفساد، فهذا لا تقره شريعة إسلامية، ولا يقره ميثاق دولي، ولا عرف بين الناس، بل مخالف للأعراف ومخالف للمواثيق الدولية، كما أنه مخالف لشرع الله المطهر.
والواجب على الدول الإسلامية وغيرها، والعربية وغيرها، إنكاره، وقد وقع ذلك وأجمع العالم على إنكاره، ولا شك أنه جدير بالإنكار، فالواجب على دولة العراق أن تسحب جيوشها من دولة الكويت، وأن تبادر بذلك، وأن تلغي هذه المشكلة الخطيرة، وأن تحل المشكلة بينها وبين الكويت بالطرق السلمية التي أوضحها الإسلام، ودرج عليها المسلمون، ودرج عليها كل من له أدنى بصيرة وأدنى رغبة في الحق والعدل والإنصاف.
وهذه المسألة كغيرها من المسائل التي تقع بين الناس، سواء كان ذلك بين دول وقبائل أو غير ذلك، يجب أن تحل بالطرق الشرعية، ويحرم حلها بالظلم والعدوان، والصلح جائز بين المسلمين كما قال جل وعلا: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (2) وفي الحديث الشريف يقول عليه الصلاة والسلام: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما (3) » فإذا تيسر الصلح الذي لا يخالف شرع الله بل يتحرى فيه العدل والإنصاف والقسط فذلك جائز، فإن لم يتيسر وجب الرجوع إلى حكم الله، كما قال عز وجل في كتابه المبين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (4)
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2577) .
(2) سورة النساء الآية 128
(3) سنن الترمذي الأحكام (1352) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2353) .
(4) سورة النساء الآية 59(6/76)
فقد أجمع العلماء على أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه العظيم القرآن، وأن الرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه في حياته عليه الصلاة والسلام والرد إلى سنته الثابتة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، وهذا هو خير للمسلمين، وفيه العاقبة الحميدة، وهو الواجب على كل من آمن بالله واليوم الآخر، وقال الله عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) وهذا عام في جميع المسائل بين الدول والشعوب وغير ذلك، وقال سبحانه وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (2) يعني النبي صلى الله عليه وسلم ويقول سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (3) فالواجب على جميع الدول وجميع الجماعات وجميع القبائل وجميع المسلمين في كل مكان أن يرجعوا إلى حكم الله فيما يتنازعون فيه ويختلفون فيه، وأن يحذروا العدوان والظلم، وأن تحل المشاكل بينهم بالطرق السلمية والوسائط العاقلة الطيبة، فإن لم يتيسر ذلك وجب الحل بالحكم الشرعي لا بالعدوان والظلم. وهذه المسألة التي بين الكويت والعراق يجب أن تحل بمحكمة شرعية من العلماء المعروفين بالعلم والفضل والاستقامة ليحلوها على ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إذا لم يتيسر الصلح. وهكذا جميع المشاكل التي تعم وتعرض بالدول الإسلامية أو العربية في كل مكان تحل بهذه الطريقة. بالصلح إن تيسر لا بالعدوان والظلم. ولا شك أن كل ما يجري بين الناس من الفساد والشرور والظلم، كل ذلك بأسباب الذنوب والمعاصي، كما قال الله عز وجل في كتابه العظيم: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (4)
__________
(1) سورة الشورى الآية 10
(2) سورة النساء الآية 65
(3) سورة المائدة الآية 50
(4) سورة الشورى الآية 30(6/77)
وقال سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (1) وقال جل وعلا: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2)
فالواجب على جميع المسلمين التوبة إلى الله من جميع الذنوب وذلك بالندم على الماضي منها والإقلاع عنها والعزم الصادق على عدم العودة فيها، وهذه هي التوبة النصوح، وإذا كان الذنب يتعلق بحق المخلوق فلا بد من التحلل من المخلوق وسماحه إذا كان مرشدا أو رد مظلمته إليه وإعطائه حقه، ولا تتم التوبة إلا بذلك، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) ففي التوبة الفلاح والظفر بكل خير والسلامة من كل شر في الدنيا والآخرة وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (4) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (5) » .
فعلى جميع المسلمين في كل مكان أن يراقبوا الله، وأن يستقيموا على دينه، وأن يسارعوا إلى ما أوجب عليهم وإلى ترك ما حرم الله عليهم، وأن يتناصحوا فيما بينهم، ويتعاونوا على البر والتقوى، ويتواصوا بالحق والصبر عليه؛ عملا بقول الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (6) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (7) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (8) وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (9) » . وقوله صلى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه (10) »
__________
(1) سورة النساء الآية 79
(2) سورة الروم الآية 41
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة التحريم الآية 8
(5) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .
(6) سورة العصر الآية 1
(7) سورة العصر الآية 2
(8) سورة العصر الآية 3
(9) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(10) صحيح البخاري المظالم والغصب (2446) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) .(6/78)
فالتناصح في الله والتواصي بالحق من أهم المهمات وأعظم الواجبات في حق الأفراد والجماعات والشعوب.
ويجب على رئيس دولة العراق أن يتوب إلى الله وأن يبادر بالرجوع إليه والتوبة بما وقع منه من ظلم والمسارعة إلى إخراج جيشه من الكويت حتى تهدأ الفتنة، وحتى تعود الأمور إلى نصابها، ويحصل التقارب في حل المشكلة بالطريقة التي ذكرتها. وهذا قول جميع أهل العلم ليس في هذا نزاع، وهو أن جميع المشاكل بين الدول والجماعات والقبائل والأفراد يجب أن تحل بالطريق الشرعي إذا لم يحسن حلها بالطرق السلمية والصلح الشرعي الذي لا يخالف شرع الله.
وأما ما حصل من الحكومة السعودية لأسباب هذه الحوادث المرتبة على الظلم الصادر من رئيس دولة العراق لدولة الكويت من استعانتها بجملة من الجيوش التي حصلت من جنسيات متعددة من المسلمين وغيرهم لصد العدوان وللدفاع عن البلاد - فذلك أمر جائز بل تحتمه وتوجبه الضرورة وأن على المملكة أن تقوم بهذا الواجب؛ لأن الدفاع عن الإسلام والمسلمين وعن حرمة البلاد وأهلها أمر لازم بل متحتم فهي معذورة في ذلك ومشكورة على مبادرتها لهذا الاحتياط والحرص على حماية البلاد من الشر وأهله والدفاع عنها من عدوان متوقع قد يقوم به رئيس دولة العراق؛ لأنه لا يؤمن بسبب ما حدث منه مع دولة الكويت فخيانته متوقعة.
فلذلك دعت الضرورة إلى الأخذ بالاحتياط والاستعانة بالجيوش المتعددة الأجناس حماية للبلاد وأهلها وحفظا للأمن وحرصا على سلامة البلاد وأهلها من كل شر.
ونسأل الله أن يثيبها على ذلك ويوفقها لكل خير وأن ينفع بالأسباب ويحسن العاقبة وأن يكبت كل ذي شر ويشغله في نفسه وأن يجعل كيد أعداء الله في نحورهم ويكفي المسلمين شرهم إنه جل وعلا خير مسئول. وأسأل الله عز وجل أن يصلح أحوال المسلمين وأن يهديهم الصراط المستقيم وأن يكبت كل عدو للإسلام والمسلمين وأن يشغله في نفسه وأن يعيذ المسلمين(6/79)
من شره وأن يجعل فيما أجرته الحكومة السعودية الخير للمسلمين والعاقبة الحميدة وأن يبارك في جهودها ويسدد خطاها وأن يحسن العاقبة لها ولجميع المسلمين، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(6/80)
موقف المؤمن من الفتن
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وصلى الله على محمد عبده ورسوله وعلى أزواجه وذريته، كما صلى على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، ونسأله عز وجل أن يبارك على محمد، وعلى أزواجه وذريته كما بارك على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنه سبحانه حميد مجيد. أما بعد.
فإني أشكر الله عز وجل على ما من به في هذا اللقاء لإخوة في الله كرام وأبناء أعزاء، وأسأله جل وعلا أن يجعله لقاء مباركا، وأن ينفعنا جميعا بما علمنا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا في كل مكان، وأن يولي عليهم خيارهم ويعيذهم من شرارهم إنه جواد كريم.
ثم أشكر القائمين على جامعة الإمام محمد بن سعود رحمه الله على دعوتهم لهذا اللقاء، وأسأله سبحانه أن يضاعف مثوبتهم وأن يوفقنا جميعا لكل ما فيه صلاح ديننا ودنيانا ولكل ما فيه صلاح الأمة جميعا إنه جل وعلا جواد كريم.
ثم أيها الإخوة في الله أيها الأبناء: عنوان الكلمة: (موقف المؤمن من الفتن) الفتن - نعوذ بالله من شرها - بين النبي صلى الله عليه وسلم خطرها وشرح ما يجب حولها عليه من ربه الصلاة والتسليم.
ما الفتنة؟
الفتنة كلمة مشتركة تقع على معان كثيرة، تقع على الشرك وهو أعظم الفتن كما قال الله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (1) أي
__________
(1) سورة الأنفال الآية 39(6/81)
حتى لا يكون شرك وقال جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (1) وتقع الفتنة أيضا على التعذيب والتحريق كما قال جل وعلا: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} (2) وقال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} (3) والمراد هنا العذاب والتحريق فتنوهم يعني عذبوهم. وتطلق الفتنة أيضا على الاختبار والامتحان، كما قال جل وعلا: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (4) يعني اختبارا وامتحانا، وقال جل وعلا: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (5) يعني اختبارا وامتحانا حتى يتبين من يستعين بالأموال والأولاد في طاعة الله، ومن يقوم بحق الله، ويتجنب محارم الله، ويقف عند حدود الله ممن ينحرف عن ذلك، ويتبع هواه. وتقع أيضا على المصائب والعقوبات كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (6) يعني: بل تعم.
جاء عن الزبير بن العوام رضي الله عنه وجماعة من السلف في هذه الفتنة أنهم قالوا: (ما كنا نظن أنها فينا حتى وقعت) وكانت بسبب مقتل عثمان رضي الله عنه، فإن قوما جهلة وظلمة، وفيهم من هو متأول خفي عليه الحق واشتبهت عليه الأمور، فتابعهم حتى قتلوا عثمان رضي الله عنه بالشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة، ثم عمت هذه الفتنة وعظمت وأصابت قوما ليس لهم بها صلة، وليسوا في زمرة الظالمين، وجرى بسببها ما جرى بين علي رضي الله عنه ومعاوية رضي الله عنه، وما حصل يوم الجمل ويوم صفين كلها بأسباب الفتنة التي وقعت بسبب ما فعله جماعة من الظلمة بعثمان رضي الله عنه، فقام قوم وعلى رأسهم معاوية بالمطالبة بدم القتيل عثمان رضي الله عنه، وطلبوا من علي رضي الله عنه وقد بايعه المسلمون خليفة
__________
(1) سورة البقرة الآية 217
(2) سورة الذاريات الآية 14
(3) سورة البروج الآية 10
(4) سورة الأنبياء الآية 35
(5) سورة التغابن الآية 15
(6) سورة الأنفال الآية 25(6/82)
رابعا وخليفة راشدا، تسليمهم القتلة، وعلي رضي الله عنه أخبرهم أن المقام لا يتمكن معه من تسليم القتلة ووعدهم خيرا، وأن النظر في هذا الأمر سيتم بعد ذلك، وأنه لا يتمكن من قتلهم الآن، وجرى من الفتنة والحرب يوم الجمل ويوم صفين ما هو معلوم، حتى قال جمع من السلف رضي الله عنهم منهم الزبير رضي الله عنه: إن الآية نزلت في ذلك؛ لأنها تعم هذا المعنى، وهذه أول فتنة دخلت في الآية في هذه الأمة {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) فأصابت جما غفيرا من الصحابة وغير الصحابة، وقتل فيها عمار بن ياسر وطلحة بن عبيد الله وهو من العشرة المبشرين بالجنة والزبير وهو من العشرة أيضا وقتل فيها جمع غفير من الصحابة وغيرهم في الجمل وفي صفين بأسباب هذه الفتنة.
وتقع الفتنة أيضا بأسباب الشبهات والشهوات، فكم فتن كثير من الناس بشبهات لا أساس لها، كما جرى للجهمية والمعتزلة والشيعة والمرجئة وغيرهم من طوائف أهل البدع فتنوا بشبهات أضلتهم عن السبيل، وخرجوا عن طريق أهل السنة والجماعة بأسبابها وصارت فتنة لهم ولغيرهم إلا من رحم الله. .
وطريق النجاة من صنوف الفتن هو التمسك بكتاب الله وبسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، كما روي ذلك عن علي مرفوعا: «تكون فتن. قيل: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله؛ فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم (2) » . . . الحديث. والمقصود أن الفتن: فتن الشهوات والشبهات والقتال، وفتن البدع، كل أنواع الفتن - لا تخلص منها ولا النجاة منها إلا بالتفقه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومعرفة منهج سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم ومن سلك سبيلهم من أئمة الإسلام ودعاة الهدى.
وجميع ما يقول الناس وما يتشبث به الناس وما يتعلق به الناس في سلمهم وحربهم وفي جميع أمورهم - يجب أن يعرض على كتاب الله وعلى سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، قال جل وعلا في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (3)
__________
(1) سورة الأنفال الآية 25
(2) سنن الترمذي فضائل القرآن (2906) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3331) .
(3) سورة النساء الآية 59(6/83)
يعني أحسن عاقبة، هذا هو الطريق وهذا هو السبيل، فالرد إلى كتاب الله هو الرد إلى القرآن الكريم، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته عليه الصلاة والسلام وإلى سنته الصحيحة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
وهكذا يقول جل وعلا: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) وتحكيم الرسول هو تحكيم الكتاب والسنة قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) فما عدا حكم الله فهو من حكم الجاهلية قال جل وعلا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (3) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (4) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (5)
فالمخلص من الفتن والمنجي منها بتوفيق الله هو بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك بالرجوع إلى أهل السنة وعلماء السنة، الذين حصل لهم الفقه بكتاب الله والفقه بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودرسوها غاية الدراسة، وعرفوا أحكامها، وساروا عليها، فجميع الأمة من إنس ومن جن وعجم وعرب ومن رجال ونساء، يجب عليهم أن يحكموا بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يسيروا على نهج سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان، في السلم والحرب، في العبادات والمعاملات، فيما افترق فيه الناس في أسماء الله وصفاته في أمر البعث والنشور، في الجنة والنار، وفي كل شيء، ومن ذلك الحروب التي يثيرها بعض الناس يجب أن يحكم فيها شرع الله.
وهكذا الإعداد للحرب ومن يستعان به في الحرب ومن لا يستعان به كله يجب أن يعرض على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) سورة المائدة الآية 50
(3) سورة المائدة الآية 44
(4) سورة المائدة الآية 45
(5) سورة المائدة الآية 47(6/84)
ومن ذلك ما وقع في هذا العام في الحادي عشر من المحرم من فتنة حاكم العراق - عامله الله بما يستحق - في عدوانه على دولة الكويت واجتياحه لها وما حصل من تهديده لهذه البلاد ودول الخليج هذه من الفتن أيضا التي يجب أن يحكم فيها كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
ولا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا الرجل الفاجر قد أتى منكرا وإثما عظيما وعدوانا سافرا لا مبرر له. ولو كان من دعاة الإسلام ومحكمي الشريعة لم يجز له أن يغزو طائفة من الناس لا الكويت ولا غيرها إلا بعد الدعوة وبعد النظر في الشبه التي يدعيها عليهم ومدى تحكيمه لشرع الله في ذلك. أما أن يغزو بلادا أو يقتل وينهب ويسبي ولا يبالي كيف يفعل هذا؟ ما يفعل هذا من له أدنى عقل أو أدنى دين أو أدنى مروءة أو أدنى حياء، ثم بعد ذلك يلبس لباس الإسلام وينافق، ويدعي أنه يطلب الجهاد، وأنه يحمي الحرمين، هكذا يكون النفاق والكفر البواح والتلبيس.
ومعلوم عن حزب البعث والشيوعية وجميع النحل الملحدة المنابذة للإسلام كالعلمانية وغيرها كلها ضد الإسلام وأهلها أكفر من اليهود والنصارى؛ لأن اليهود والنصارى تباح ذبائحهم ويباح طعامهم ونساؤهم المحصنات، والملاحدة لا يحل طعامهم ولا نساؤهم، وهكذا عباد الأوثان من جنسهم لا تباح نساؤهم، ولا يباح طعامهم. فكل ملحد لا يؤمن بالإسلام هو شر من اليهود والنصارى. فالبعثيون والعلمانيون الذين ينبذون الإسلام وراء الظهر ويريدون غير الإسلام، وهكذا من يسمون بالشيوعيين ويسمون بالاشتراكيين كل النحل الملحدة التي لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر يكون كفرهم وشرهم أكفر من اليهود والنصارى، وهكذا عباد الأوثان وعباد القبور وعباد الأشجار والأحجار أكفر من اليهود والنصارى، ولهذا ميز الله أحكامهم، وإن اجتمعوا في الكفر والضلال ومصيرهم النار جميعا لكنهم متفاوتون في الكفر والضلال، وإن جمعهم الكفر والضلال فمصيرهم إلى النار إذا ماتوا على ذلك.
لكنهم أقسام متفاوتون: فإذا أراد البعثي أن يدعي الإسلام فلينبذ البعثية أو الاشتراكية والشيوعية ويتبرأ منها ويتوب إلى الله من كل ما يخالف الإسلام(6/85)
حتى يعلم صدقه ثم إذا كان هذا العدو الفاجر الخبيث صدام حاكم العراق: إذا أراد أن يسلم ويتوب فلينبذ ما هو عليه من البعثية، ويتبرأ منها، ويعلن الإسلام، ويرد البلاد إلى أهلها، ويرد المظالم إلى أهلها، ويتوب إلى الله من ذلك، ويعلن ذلك، ويسحب جيشه من الكويت، ويعلن توبته إلى الله، ويحكم الشريعة في بلاده حتى يعلم الناس صدقه.
والمقصود أن جهاده من أهم الجهاد وهو جهاد لعدو مبين حتى ينتقم منه وترد الحقوق إلى أهلها، وحتى تهدأ هذه الفتنة التي أثارها وبعثها وسبب قيامها، فجهاده من الدول الإسلامية متعين، وهذه الدولة الإسلامية المملكة العربية السعودية ومن ساعدها جهادهم له جهاد شرعي، والمجاهد فيها يرجى له إذا صلحت نيته الشهادة إن قتل والأجر العظيم إن سلم إذا كان مسلما. أما ما يتعلق بالاستعانة بغير المسلمين فهذا حكمه معروف عند أهل العلم، والأدلة فيه كثيرة، والصواب ما تضمنه قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية: أنه يجوز الاستعانة بغير المسلمين للضرورة إذا دعت إلى ذلك لرد العدو الغاشم والقضاء عليه وحماية البلاد من شر، إذا كانت القوة المسلمة لا تكفي لردعه جاز الاستعانة بمن يظن فيهم أنهم يعينون ويساعدون على كف شره وردع عدوانه، سواء كان المستعان به يهوديا أو نصرانيا أو وثنيا أو غير ذلك إذا رأت الدولة الإسلامية أن عنده نجدة ومساعدة لصد عدوان العدو المشترك. وقد وقع من النبي صلى الله عليه وسلم هذا، وهذا في مكة استعان بمطعم بن عدي لما رجع من الطائف وخاف من أهل مكة بعد موت عمه أبي طالب فاستجار بغيره فلم يستجيبوا فاستجار بالمطعم وهو من كبارهم في الكفر وحماه لما دعت الضرورة إلى ذلك، وكان يعرض نفسه عليه الصلاة والسلام على المشركين في منازلهم في منى يطلب منهم أن يجيروه حتى يبلغ رسالة ربه عليه الصلاة والسلام على تنوع كفرهم، واستعان بعبد الله بن أريقط في سفره وهجرته إلى المدينة - وهو كافر - لما عرف أنه صالح لهذا الشيء وأن لا خطر منه في الدلالة، وقال يوم بدر: «لا أستعين بمشرك (1) » ولم يقل لا تستعينوا بل قال: لا أستعين؛ لأنه ذلك الوقت غير محتاج لهم والحمد لله معه جماعة
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1817) ، سنن الترمذي السير (1558) ، سنن أبو داود الجهاد (2732) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2832) ، سنن الدارمي السير (2496) .(6/86)
مسلمون، وكان ذلك من أسباب هداية الذي رده حتى أسلم، وفي يوم الفتح استعان بدروع من صفوان بن أمية وكان على دين قومه فقال: أغصبا يا محمد فقال: «لا ولكن عارية مضمونة (1) » واستعان باليهود في خيبر لما شغل المسلمون عن الحرث بالجهاد، وتعاقد معهم على النصف في خيبر حتى يقوموا على نخيلها وزروعها بالنصف للمسلمين والنصف لهم، وهم يهود لما رأى المصلحة في ذلك. فاستعان بهم لذلك، وأقرهم في خيبر حتى تفرغ المسلمون لأموالهم في خيبر في عهد عمر فأجلاهم عمر رضي الله عنه. ثم القاعدة المعروفة يقول الله جل وعلا: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (2)
والمسلمون إذا اضطروا لعدو شره دون العدو الآخر، وأمكن الاستعانة به على عدو آخر أشر منه فلا بأس. ومعلوم أن الملاحدة والبعثيين وأشباههم أشر من اليهود والنصارى، والملاحدة كلهم أشر من أهل الكتاب، وشرهم أعظم فالاستعانة العارضة بطوائف من المشركين لصد عدوان العدو الأشر والأخبث لدفع عدوانه والقضاء عليه وحماية المسلمين من شره أمر جائز شرعا حسب الأدلة والقواعد الشرعية.
أما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتن والقعود عنها فمعروف عند أهل العلم، وتفصيل ذلك فيما يلي:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي خير من الساعي، من يستشرف لها تستشرفه فمن استطاع أن يعوذ بملجأ أو معاذ فليفعل (3) » هذه الفتنة هي الفتن التي لا يظهر وجهها ولا يعلم طريق الحق فيها بل هي ملتبسة، فهذه يجتنبها المؤمن ويبتعد عنها بأي ملجأ، ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن يكون خير مال المرء المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن (4) » أخرجه البخاري في الصحيح ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل: «أي الناس أفضل؟ قال: مؤمن مجاهد في سبيل الله، قيل: ثم؟ قال: مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ويدع الناس من شره (5) » فالمقصود أن هذا عند خفاء الأمور وعند خوف المؤمن على نفسه يجتنبها، أما إذا ظهر له الظالم من
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3562) ، مسند أحمد بن حنبل (6/465) .
(2) سورة الأنعام الآية 119
(3) صحيح البخاري المناقب (3602) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2886) ، مسند أحمد بن حنبل (2/282) .
(4) صحيح البخاري الإيمان (19) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5036) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4267) ، سنن ابن ماجه الفتن (3980) ، مسند أحمد بن حنبل (3/43) .
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2786) ، صحيح مسلم الإمارة (1888) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1660) ، سنن النسائي الجهاد (3105) ، سنن أبو داود الجهاد (2485) ، سنن ابن ماجه الفتن (3978) ، مسند أحمد بن حنبل (3/88) .(6/87)
المظلوم والمبطل من المحق فالواجب أن يكون مع المحق ومع المظلوم ضد الظالم وضد المبطل، كما قال صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما قيل يا رسول الله كيف أنصره ظالما؟ قال تحجزه عن الظلم فذلك نصره (1) » أي منعه من الظلم هو النصر.
ولما وقعت الفتنة في عهد الصحابة رضي الله عنهم اشتبهت على بعض الناس وتأخر عن المشاركة فيها بعض الصحابة؛ من أجل أحاديث الفتن، كسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وجماعة رضي الله عنهم، ولكن فقهاء الصحابة الذين كان لهم من العلم ما هو أكمل قاتلوا مع علي؛ لأنه أولى الطائفتين بالحق، وناصروه ضد الخوارج، وضد البغاة الذين هم من أهل الشام؛ لما عرفوا الحق، وأن عليا مظلوم، وأن الواجب أن ينصر، وأنه هو الإمام الذي يجب أن يتبع، وأن معاوية ومن معه بغوا عليه بشبهة قتل عثمان. والله جل وعلا يقول في كتابه العظيم: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} (2) ما قال فاعتزلوا؛ قال: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (3) فإذا عرف الظالم وجب أن يساعد المظلوم لقوله سبحانه: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (4) والباغون في عهد الصحابة معاوية وأصحابه والمعتدلة علي وأصحابه فبهذا نصرهم أعيان الصحابة نصروا عليا وصاروا معه كما هو معلوم. وقال في هذا المعنى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في قصة الخوارج: «تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق (5) » فقتلهم علي وأصحابه وهم أولى الطائفتين بالحق. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عمار: «تقتل عمارا الفئة الباغية (6) » فقتله معاوية وأصحابه في وقعة صفين.
__________
(1) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .
(2) سورة الحجرات الآية 9
(3) سورة الحجرات الآية 9
(4) سورة الحجرات الآية 9
(5) صحيح مسلم الزكاة (1065) ، مسند أحمد بن حنبل (3/32) .
(6) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2916) ، مسند أحمد بن حنبل (6/289) .(6/88)
فمعاوية وأصحابه بغاة لكن مجتهدون ظنوا أنهم مصيبون في المطالبة بدم عثمان، كما ظن طلحة والزبير يوم الجمل ومعهم عائشة رضي الله عنها لكن لم يصيبوا، فلهم أجر الاجتهاد وفاتهم أجر الصواب. وعلي له أجر الاجتهاد وأجر الصواب جميعا وهذه هي القاعدة الشرعية في حق المجتهدين من أهل العلم أن من اجتهد في طلب الحق ونظر في أدلته من قاض أو مصلح أو محارب فله أجران إن أصاب الحق وأجر واحد إن أخطأ الحق أجر الاجتهاد كما قال صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد وأخطأ فله أجر (1) » متفق على صحته فكل فتنة تقع على يد أي إنسان من المسلمين أو من المبتدعة أو من الكفار ينظر فيها فيكون المؤمن مع المحق ومع المظلوم ضد الظالم وضد المبطل، وبهذا ينصر الحق وتستقيم أمور المسلمين، وبذلك يرتدع الظالم عن ظلمه، ويعلم طالب الحق أن الواجب التعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان؛ عملا بقول الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) فقتال الباغي وقتال الكافر الذي قام ضد المسلمين وقتال من يتعدى على المسلمين لظلمه وكفره حق وبر ونصر للمظلوم وردع للظالم، فقتال المسلمين لصدام وأشباهه من البر ومن الهدى، ويجب أن يبذلوا كل ما يستطيعونه في قتاله، وأن يستعينوا بأي جهة يرون أنها تنفع وتعين في ردع الظالم وكبح جماحه والقضاء عليه وتخليص المسلمين من شره، ولا يجوز للمسلمين أيضا أن يتخلوا عن المظلومين ويدعوهم للظالم يلعب بهم بأي وجه من الوجوه بل يجب أن يردع الظالم وأن ينصر المظلوم في القليل والكثير.
فالواجب على جميع المسلمين أن يتفقهوا في الدين وأن يكونوا على بصيرة فيما يأتون وفيما يذرون وأن يحكموا كتاب الله العظيم وسنة نبيه الكريم في كل شيء وأن يدرسوهما دراسة الطالب للحق، المريد وجه الله والدار الآخرة، الذي يريد أن ينفذ
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7352) ، صحيح مسلم الأقضية (1716) ، سنن أبو داود الأقضية (3574) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2314) ، مسند أحمد بن حنبل (4/204) .
(2) سورة المائدة الآية 2(6/89)
حكم الله في عباد الله، وأن يحذروا الهوى فإن الهوى يهوي بأهله إلى النار، قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (1) وقال جل وعلا: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (2) وما يظن العاقل ذو البصيرة لو أن صداما ترك له المجال فعاث في الجزيرة فسادا، وساعده من مالأهم على المساعدة من الجنوب والشمال على باطله، ماذا يترتب على ذلك من الكوارث العظيمة والفساد الكبير والشر الكثير لو تمكن من تنفيذ خططه الخبيثة، ولكن من نصر الله جل وعلا ورحمته وفضله وإحسانه أن تنبه ولاة الأمور في المملكة العربية السعودية لخبثه وشره وما انطوى عليه من الباطل وما أسسه من الشر والفساد، فاستعانوا بالقوات المتعددة الجنسيات على حربه والدفاع عن الدين والبلاد حتى أبطل الله كيده وصده عن نيل ما أراد.
ونسأل الله أن يحسن العاقبة، وأن يكفينا شره وشر غيره، وأن ينصر جيوشنا الإسلامية ومن ساعدهم على حاكم العراق حتى ينزع من ظلمه، ويسحب جيشه من الكويت، ويوقف عند حده، كما نسأله سبحانه أن يوفق جيوشنا جميعا للفقه في الدين، وأن يكفينا شر ذنوبنا وشر تقصيرنا، وأن يكفينا شر جميع الكفرة من جميع الأجناس، وأن يردهم إلى بلادهم ونحن سالمون من شرهم، وأن يهدي منهم من سبقت له السعادة إلى الإسلام، وأن ينقذهم مما هم فيه من الكفر.
نسأل الله أن يهديهم جميعا، وأن يردهم إلى الحق والهدى، وأن يكفينا شرهم جميعا من بعثيين ونصارى وغيرهم، نسأل الله أن يهديهم للإسلام ويكفينا شرهم، ويبعد من بقي على الكفر منهم إلى بلاده بعد سلامة المسلمين، وبعد القضاء على عدو الله حاكم العراق وجيشه المساعد له، وأن يختار للعراق رجلا صالحا يحكم فيهم شرع الله، كما نسأله أن يولي على جميع المسلمين من يحكم فيهم شرع الله ويقودهم بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يكفي المسلمين شر ولاتهم الذين يخالفون شرع
__________
(1) سورة ص الآية 26
(2) سورة القصص الآية 50(6/90)
الله وأن يصلح ولاة المسلمين وقادتهم، ويهديهم صراطه المستقيم، وأن يولي على المسلمين جميعا في كل مكان خيارهم، وأن يصلح أحوالهم في كل مكان، وأن يكفيهم شر الأعداء أينما كانوا، وأن يبطل كيد الأعداء، ويكفينا شرهم، وأن يكفينا شر ذنوبنا جميعا، وأن يمن علينا بالتوبة النصوح، وأن يجعل ما نزل بالكويت وما حصل من المحنة العظيمة والفتنة الكبيرة هذه الأيام موعظة للجميع، وسببا لعلاج الجميع ويقظتهم، وأن يوفق حكومتنا لكل خير، وأن يعينها على طاعة الله ورسوله، وعلى إعداد الجيش الكافي الذي يغنيها عن جميع أعداء الله.
ونسأل الله أن يهدي جيراننا جميعا للتمسك بكتاب الله، وأن يجمعهم على الحق والهدى، وأن يعينهم على طاعة الله ورسوله، وأن يعيذهم ممن بينهم من الأعداء والمنافقين المحاربين لله ورسوله، الذين يدعون إلى ضد كتاب الله وإلى ضد سنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
نسأل الله أن يبطل كيد أعداء الله ويفرق شملهم ويوفق دعاة الحق لما فيه رضاه، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا في كل مكان، وأن يجمع كلمتنا جميعا معشر المسلمين على الحق والهدى أينما كنا، وأن يكفينا شر أعدائنا أينما كانوا، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(6/91)
محاضرة مهمة بسبب اجتياح حاكم العراق للكويت (1)
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فإن الله جل وعلا - وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة - يبتلي عباده بالسراء والضراء والشدة والرخاء؛ حتى يميز الخبيث من الطيب، وحتى يتضح أهل الإيمان والتقوى من أهل النفاق والزيغ والكفر والضلال، وحتى يتبين الصابرون المجاهدون من غيرهم، وحتى يظهر للناس من يريد الحق ويطلب إقامته ممن يريد خلاف ذلك. قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (2) ومعنى الفتنة هنا: الاختبار والامتحان ليتبين بعد الامتحان الصادقون من الكاذبين والأبرار من الفجار والأخيار من الأشرار، وطالب الحق من طالب غيره، ويرجع من أراد الله له السعادة إلى ما عرفه من الحق، ويستمر من سبقت له الشقاوة في باطله وضلاله، وقال جل وعلا: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (3) ومعنى بلوناهم: اختبرناهم بالحسنات بالنعم من العز والظهور في الأرض والمال والثروة وغير هذا مما يعتبر من النعم، والسيئات: يعني المصائب التي تصيب الناس من فقر وحاجة وخوف وحروب وغير ذلك. لعلهم يرجعون المعنى ليرجعوا إلى الحق والصواب ويستقيموا على الهدى، وقال جل وعلا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4) يعني اتقوها بالعمل الصالح والاستقامة على طاعة الله والجهاد في سبيله ولزوم الحق.
__________
(1) ألقيت في جامع الملك خالد بأم الحمام بالرياض الخميس 16 من رجب عام 1411 هـ الموافق 31\1\1991.
(2) سورة الأنبياء الآية 35
(3) سورة الأعراف الآية 168
(4) سورة الأنفال الآية 25(6/92)
والفتنة يدخل فيها الحروب ويدخل فيها الشبهات التي يزيغ بها كثير عن الحق ويدخل فيها الشهوات المحرمة إلى أنواع أخرى من الفتن.
فأهل الإيمان يتقونها بطاعة الله ورسوله والفقه في الدين والإعداد لها قبل وقوعها حتى إذا وقعت فإذا هم على بينة وبصيرة وعلى عدة ويقول جل وعلا: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) المعنى أنه شديد العقاب لمن خالف أمره وارتكب نهيه ولم ينقد لشرعه سبحانه، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (2) فالإنسان يفتن بالمال والولد ويمتحن، فإن اتقى الله في المال والولد فله السعادة، وإن مال مع المال إلى الشهوات المحرمة وإيثار العاجلة هلك، وهكذا إن مال مع الولد إلى ما حرم الله وإلى متابعة الهوى هلك مع من هلك.
وقال سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (3) ومعنى ولنبلونكم: لنختبرنكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (4) حتى نعلم علما ظاهرا، والله سبحانه يعلم كل شيء ولا يخفى عليه شيء، وقد سبق علمه بكل شيء كما قال تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (5)
وقال سبحانه: إن الله بكل شيء عليم فهو سبحانه وتعالى عليم بكل شيء، ولكنه يبلوهم حتى يعلم المجاهدين منهم والصابرين علما ظاهرا يشاهده الناس، ويعلمه هو سبحانه علما ظاهرا موجودا بعدما كان في الغيب، يعلمه ظاهرا موجودا في الوجود، وهذا معنى قوله سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} (6) حتى نعلمه علما ظاهرا موجودا في العالم.
وفي هذه الأيام جرى ما جرى من الفتنة في الحادي عشر من المحرم من السنة
__________
(1) سورة الأنفال الآية 25
(2) سورة التغابن الآية 15
(3) سورة محمد الآية 31
(4) سورة محمد الآية 31
(5) سورة الطلاق الآية 12
(6) سورة محمد الآية 31(6/93)
الهجرية 1411 هـ الثاني من أغسطس من الشهور الميلادية 1990 م جرى ما جرى من عدوان حاكم العراق على دولة الكويت المجاورة له، واجتاحها بجيوشه المدمرة الظالمة، واستحل الدماء والأموال، وانتهك الأعراض، وشرد أهل البلاد، وجرت فتنة عظيمة بسبب هذا الظلم والعدوان، واستنكر العالم هذا البلاء وهذا الحدث الظالم، وحشد الجيوش على الحدود السعودية، وبذل الناس الجهود الكبيرة: من رؤساء الدول ومن مجلس الأمن ومن غيرهم لحاكم العراق ليخرج من هذا الظلم ويسحب جيشه من هذه البلاد التي احتلها ظلما، فلم يستجب، وأصر على ظلمه وعدوانه؛ لحكمة بالغة: إن ربك حكيم عليم له سبحانه الحكمة البالغة في كل شيء، قد سبق في علمه جل وعلا أنه لا بد من حرب، وأن هذا البلاء الذي وقع لا يتخلص منه بمجرد الحلول السلمية، وهو القائل سبحانه في كتابه العظيم: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (1) ويقول سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) ونرجو أن يكون فيما وقع الخير وأن يكون في ذلك الخير لنا وللمسلمين جميعا والشر على أعداء الإسلام؛ لأنه سبحانه أعلم وأحكم، ونرجو أن يكون فيما حدث عظة لنا ولغيرنا في الرجوع إلى الله والاستقامة على دينه وحساب النفوس وجهادها لله والإعداد الكامل لأعدائنا أعداء الإسلام.
فالامتحان يفيد المؤمنين والعقلاء، ويوجب حساب النفس وجهادها، ويوجب على كل مسلم أن يحاسب نفسه ويجاهدها لله، وأن يستقيم على أمره، وأن يتباعد عن نهيه، ويوجب على الدول الإسلامية أن تحاسب أنفسها أيضا، وأن تستقيم على دين الله، ومتى استقام العباد على الحق وأصلحوا أنفسهم وجاهدوها لله وبذلوا المستطاع في نصر الحق يسر الله أمورهم ونصرهم على عدوهم، كما قال جل وعلا:
__________
(1) سورة النساء الآية 19
(2) سورة البقرة الآية 216(6/94)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) ويقول سبحانه وتعالى {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) ويقول سبحانه وبحمده: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4) ويقول سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (5) يعني بسبب إيمانهم الصادق وعملهم الصالح يستخلفون في الأرض، ويمكن الله لهم دينهم، ويبدلهم من بعد خوفهم أمنا.
فالواجب هو الاستقامة على أمر الله، وعلاج الفتن بما أمر الله به من التقوى، والاستقامة والجهاد الصادق والإخلاص لله والصبر والمصابرة. هكذا يجب. وقد بين الله لعباده أسباب النجاة ووسائل النصر، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (6) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (7) {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (8)
فأمرهم سبحانه عند لقاء الأعداء وعند وجود العدوان وعند مباشرة الجهاد بصفات عظيمة:
أولها: الثبات على الحق والاستقامة عليه، فقال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (9) فالثبات على الحق لا بد منه، والصبر عليه كما في الآية
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة الروم الآية 47
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة النور الآية 55
(6) سورة الأنفال الآية 45
(7) سورة الأنفال الآية 46
(8) سورة الأنفال الآية 47
(9) سورة الأنفال الآية 45(6/95)
الأخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) وأهل الأيمان لا تشغلهم الشدائد عن الحق بل يلزمون الحق في الشدة والرخاء.
والثاني: ذكر الله جل وعلا: ذكر الله بالقلب واللسان والعمل بالقلب؛ تعظيما له سبحانه ومحبة له وخوفا منه، وثقة به وإخلاصا له. واعتمادا عليه سبحانه وتعالى، وإيمانا بأنه الناصر والنصر من عنده، كما قال سبحانه: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (2) وإنما الأسباب تعين على ذلك، فما شرع الله من إعداد وسلاح وغير ذلك من الأسباب كلها تعين على ذلك، وهي بشرى من عند الله، كما قال الله عندما أمد رسوله صلى الله عليه وسلم بالملائكة: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) وفي آية آل عمران: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (4)
فالمؤمن عند الشدائد يذكر الله ويعظمه، ويعلم أنه الناصر، وأنه الضار النافع، وأن بيده كل شيء، فبيده سبحانه الضر والنفع، وبيده سبحانه العز والنصر، وبيده جل وعلا تصريف الأمور، لا يغيب عن علمه شيء، ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى. وعلق على ذلك الفلاح فقال عز من قائل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (5) فبذكر الله بالقلب واللسان والعمل: الفلاح والظفر والخير كله. فالمؤمنون في الشدة والرخاء يلزمون ذكر الله وتعظيمه، والإخلاص له، وإقامة حقه، وترك معصيته، فيذكرون الله بإقامة الصلوات، والمحافظة عليها، وحفظ الجوارح عما حرم اللهو وحفظ اللسان عما حرم الله، وذلك بأداء الحقوق والكف عما حرم الله، إلى غير ذلك مما يرضيه سبحانه ويباعد عن غضبه.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 200
(2) سورة الأنفال الآية 10
(3) سورة الأنفال الآية 10
(4) سورة آل عمران الآية 126
(5) سورة الأنفال الآية 45(6/96)
وذكر الله سبحانه يكون بالقلب واللسان والعمل كما تقدم، وفي ذلك الفلاح والفوز والسعادة والظفر، ثم قال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) هذه هي الصفة الثالثة، وطاعة الله ورسوله هي من ذكر الله جل وعلا، ولكن نص عليها لعظمها، وذلك بفعل الأوامر وترك النواهي، في الجهاد وغيره.
ثم ذكر جل وعلا الصفة الرابعة: وهي الالتفاف والاجتماع والتعاون وعدم الفشل، فقال سبحانه: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (2) فالواجب على المسلمين التعاون والاتفاق والصدق في جهاد الأعداء، وإخراج الظلمة مما وقعوا فيه، لا بد من الاتفاق والصبر، وذكر الله والتعاون ضد العدو.
والعدو قد يكون مسلما، وقد يكون كافرا، وقد يكون مسلما باغيا، وقد أمر الله بقتال الباغي حتى يفيء إلى أمر الله، كما قال جل وعلا: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (3) هذا إن كان مؤمنا فكيف إذا كان كافرا بعثيا ظالما.
ومعنى حتى تفيء إلى أمر الله: حتى ترجع إلى الحق، وترد ما ظلمت، وتستقيم مع العدالة. ثم قال سبحانه: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (4) وهذه صفة خامسة. فلا بد من الصبر في جهاد الأعداء وقتالهم، وبذل المستطاع في ذلك، وقال سبحانه في آية البقرة في صفة المؤمنين: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} (5) يعني حين القتال، ثم قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (6) وقال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (7)
__________
(1) سورة الأنفال الآية 46
(2) سورة الأنفال الآية 46
(3) سورة الحجرات الآية 9
(4) سورة الأنفال الآية 46
(5) سورة البقرة الآية 177
(6) سورة البقرة الآية 177
(7) سورة النحل الآية 127(6/97)
والصبر أنواع ثلاثة:
- صبر على طاعة الله بالجهاد وأداء الحقوق.
- وصبر عن معاصي الله، بالكف عما حرم الله قولا وعملا.
- ونوع ثالث هو الصبر على قضاء الله وقدره مما يصيب الناس من جراح أو قتل أو مرض أو غير ذلك. لا بد من الصبر وتعاطي أسباب النصر. وأسباب العافية.
ثم ذكر سبحانه صفة سادسة وسابعة فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} (1) أي لا تكونوا في جهادكم متكبرين ولا مرائين، بل يجب على المؤمنين في جهادهم لعدوهم الإخلاص لله، والصدق والتواضع لله، وسؤاله النصر جل وعلا. وقد ذكر الله أمرا ثامنا وحذر منه، وهو الصد عن سبيل الله، وهو من صفة أعداء الله، فهم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا. أما المؤمنون فيجاهدون في تواضع لله، مخلصين له سبحانه، لا متكبرين ولا مرائين، يدعون إلى سبيل الله من صد عنه، يدعون الناس إلى الحق والهدى وإلى طاعة الله ورسوله. هكذا المؤمنون الصادقون أينما كانوا. وهذه الفتنة - أعني عدوان حاكم العراق على الكويت - قد اشتبه فيها الأمر على بعض الناس، إذ ظن بعض الناس أن الأولى فيها الاعتزال وعدم القتال مع هؤلاء أو هؤلاء، وهذا قد جرى في أول فتنة وقعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الفتنة التي وقعت بين أهل الشام وأهل العراق، بسبب مقتل عثمان رضي الله عنه الذي قتل ظلما من فئة بغت عليه وتعدت، والتبست عليها الأمور، ودخل فيها من هو حاقد على الإسلام، والتبست الأمور على بعض الناس حتى اشتبهت الأمور، وبقتل عثمان رضي الله عنه ظلما وعدوانا حصل بسبب ذلك فتنة عظيمة، فبايع الناس عليا رضي الله عنه
__________
(1) سورة الأنفال الآية 47(6/98)
بالخلافة، وقام معاوية رضي الله عنه وجماعة يطالبون بدم عثمان، وبايعه كثير من الناس على ذلك، وعظمت الفتنة واشتدت البلية، وانقسم المسلمون قسمين بسبب هذه الفتنة: طائفة انحازوا إلى معاوية رضي الله عنه وأهل الشام، يطالبون عليا رضي الله عنه بتسليم القتلة.
وطائفة أخرى هم علي رضي الله عنه وأصحابه، طلبوا معاوية وأصحابه الهدوء والصبر، وبعد تمام الأمر واستقرار الخلافة ينظر في أمر القتلة.
واشتد الأمر وجرى ما جرى من حرب الجمل وصفين، وظن بعض الناس في ذلك الوقت أن الأولى عدم الدخول في هذه الفتنة، واعتزل بعض الصحابة ذلك، فلم يكونوا مع علي ولا مع معاوية.
والفتنة اليوم كذلك، حصل فيها اشتباه؛ لأن وقوع الفتن يسبب اشتباها كثيرا على الناس، وليس كل إنسان عنده العلم الكافي بما ينبغي أن يفعل، فقد يقع له شبه تحول بينه وبين فهم الصواب. وهذه الفتنة التي وقعت الآن ليست مما يعتزل فيها؛ لأن الحق فيها واضح، والقاعدة أن الفتنة التي ينبغي عدم الدخول فيها هي: المشتبهة التي لا يتضح فيها الحق من الباطل، والتي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به (1) » رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه. ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا فالقاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قسيكم وقطعوا أوتاركم واضربوا بسيوفكم الحجارة، فإن دخل على أحدكم فليكن كخير ابني آدم (2) » رواه ابن ماجه وأبو داود، فهذه الفتنة التي تشتبه ولا يتضح للمؤمن فيها الحق من الباطل، هي التي يشرع البعد عنها وعدم الدخول فيها.
__________
(1) صحيح البخاري الفتن (7081) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2886) ، مسند أحمد بن حنبل (2/282) .
(2) سنن أبو داود الفتن والملاحم (4259) ، سنن ابن ماجه الفتن (3961) .(6/99)
أما ما ظهر فيه الحق، وعرف المحق من المبطل والظالم من المظلوم، فالواجب أن ينصر المظلوم ويردع الظالم، ويردع الباغي عن بغيه، وينصر المبغي عليه، ويجاهد الكافر المعتدي، وينصر المظلوم المعتدى عليه، وفي هذا المعنى يقول الله سبحانه وتعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1)
ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) ثم شرحها للناس بقوله سبحانه: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (4) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (5)
فهذا وعده سبحانه لمن جاهد في سبيله ونصر الحق في هذه الآيات الكريمات، وفي قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (6) وصفها بهذا الوصف العظيم أنها تجارة، وأنها تنجي من عذاب أليم، ثم فسرها بقوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (7) ومعلوم أن الجهاد من الإيمان، ولكن خصه بالذكر لعظم شأنه ومسيس الحاجة إلى بيان فضله، فقال سبحانه وتعالى: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (8) بدأ بالأموال لعظم شأنها، وعموم نفعها في شراء السلاح وتجهيز المجاهدين وإطعامهم، ولذلك بدأ بالمال قبل النفس في أكثر الآيات؛ لأن نفعه أوسع، ثم قال سبحانه وبحمده: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (9) ثم فسر بعد ذلك الخير المذكور بقوله تعالى:
__________
(1) سورة التوبة الآية 41
(2) سورة الصف الآية 10
(3) سورة الصف الآية 11
(4) سورة الصف الآية 12
(5) سورة الصف الآية 13
(6) سورة الصف الآية 10
(7) سورة الصف الآية 11
(8) سورة الصف الآية 11
(9) سورة الصف الآية 11(6/100)
{يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (2) كل هذا من ثواب الجهاد، ثم قال جل وعلا: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (3) وقال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (4) وقال سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (5) يعني حتى ترجع للحق {فَإِنْ فَاءَتْ} (6) أي رجعت للحق {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (7)
هذا بالنسبة للمؤمنين، كما جرى يوم الجمل وصفين في القتال بين المؤمنين، فقد أمر الله المؤمنين أن يقاتلوا الطائفة الباغية حتى ترجع إلى الحق، وبعد الرجوع إلى الحق ينظر في المسائل المشكلة، وتحل بالصلح والعدل الذي شرعه الله في قوله تعالى: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا} (8) أي بالطرق الحكيمة المشروعة التي جعلها الله وسيلة لحل النزاع {وَأَقْسِطُوا} (9) يعني: اعدلوا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (10) هذا في المؤمنين، تقاتل الفئة الباغية، وهي مؤمنة حتى ترجع، فكيف إذا كانت الطائفة الباغية ظالمة كافرة، كما هو الحال في حاكم العراق، فهو بعثي ملحد، ليس من المؤمنين، وليس ممن يدعو للإيمان والحق بل يدعو إلى مبادئ الكفر والضلال، وبدأ يتمسح بالإسلام لما جرى ما جرى، فأراد أن يلبس على الناس ويدعو إلى الجهاد كذبا وزورا ونفاقا. ولو كان صادقا لترك الظلم، وترك البلاد لأهلها، وأعلن توبته إلى الله من مبادئه
__________
(1) سورة الصف الآية 12
(2) سورة الصف الآية 13
(3) سورة الصف الآية 13
(4) سورة التوبة الآية 111
(5) سورة الحجرات الآية 9
(6) سورة الحجرات الآية 9
(7) سورة الحجرات الآية 9
(8) سورة الحجرات الآية 9
(9) سورة الحجرات الآية 9
(10) سورة الحجرات الآية 9(6/101)
الإلحادية وطريقته التي يمقتها الإسلام، ومصدر التشريع فيه كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وحينئذ تحل المشكلات بالطرق السلمية بعد ذلك.
أما أن يدعو إلى الجهاد وهو مقيم على الظلم والعدوان والتهديد لجيرانه، فكيف يكون هذا الجهاد الظالم؟ وهذا الجهاد الكاذب، والنفاق الذي يريد به التلبيس. وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا يا رسول الله نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: أن تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه (1) » وذكر البراء رضي الله عنه نصر المظلوم في الحديث الصحيح المتفق عليه، وهو قوله رضي الله عنه: «أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بسبع وذكر منها: نصر المظلوم (2) » ، فنصر المظلوم واجب متعين على كل من استطاع ذلك فإذا كان الظلم عظيما، كان الواجب أشد. وإذا كان الظلم لفئات كثيرة وأمة عظيمة ويخشى من ورائه ظلم آخر وشر آخر صار الواجب أشد وأعظم في نصر المظلوم وفي جهاد الظالم، حتى لا تنتشر الفتنة التي قام بها وحتى لا يعظم الضرر به، باجتياحه بلادا أخرى، ولو فعل ذلك لكان الأمر أشد وأخطر، ولكانت الفتنة به أعظم وأسوأ عاقبة، ولربما جرت أمور أخرى لا يعلم خطرها إلا الله.
ولعظم الأمر وخطورته اضطرت المملكة العربية السعودية إلى الاستنصار بالجنسيات المتعددة من الدول الإسلامية وغيرها، لعظم الخطر، ووجوب الدفاع عن البلاد وأهلها، واتقاء شر هذا الظالم المجرم الملحد، وقد وفقها الله في ذلك والحمد لله على ما حصل، ونسأل الله أن يجعل العاقبة حميدة، وأن يخذل الظالم ويسلط عليه من يكف ضرره، وأن يدير عليه دائرة السوء، وأن يهزم جمعه ويشتت شمله، ويقينا شره وشر أمثاله، وأن ينفع بهذه الجهود، وان يدير دائرة السوء على المعاندين والظالمين، وأن يكتب النصر لأوليائه المؤمنين، وأن يرد هذه الجنود التي تجمعت لردع هذا الظالم إلى بلادها، ويقينا شرها، فهي جاءت لأمر واحد وهو الدفاع عن هذه
__________
(1) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .
(2) صحيح البخاري الأشربة (5635) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2066) ، سنن الترمذي الأدب (2809) ، مسند أحمد بن حنبل (4/284) .(6/102)
البلاد، وإخراج هذا الجيش الظالم من الكويت، لما في التساهل في هذا الأمر وعدم المبادرة من الخطر العظيم؛ لأن الظالم لديه جيش كثير مدرب، حارب به ثمان سنين لجارته إيران، وتجمع لديه جيش كثيف، ولديه نية سيئة وخبث عظيم، وقد يسر الله برحمته اجتماع جيوش عظيمة، لحربه ورده عن ظلمه، ولتنصر المظلوم، وتعيد الحق إلى أصحابه.
وأسأل الله جل وعلا أن ينفع بالأسباب، ويحسن العاقبة للمظلومين ويجعلها للجميع عظة وذكرى. والله جل وعلا يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) فالحكومة السعودية مضطرة، ودول الخليج كذلك إلى الاستعانة بالقوات الإسلامية والأجنبية لردع الظالم، والقضاء عليه، وإخراجه بالقوة من هذه البلاد التي احتلها لما أبى وعاند، ولم ينقد لدعاء الحق وخروجه سلما من البلاد التي احتلها، وانسحابه عن الحدود السعودية، لم تكن المفاوضة بعد ذلك في مطالبه من جيرانه، فلما أبى واستكبر وعاند وركب رأسه، ولم يراع حق الجوار، ولا حق الإسلام، ولا حق الإحسان، وجب أن يقاتل وأن يجاهد، ووجب على الدولة أن تفعل ما تستطيع من الأسباب التي تعينها على قتاله وجهاده.
ونسأل الله أن ينفع بهذه الأسباب، وأن ينصر الحق وحزبه، ويخذل الباطل وأهله، وأن يرد المظلومين إلى بلادهم موفقين ومهديين، وأن يخذل الظالم وأن يدير عليه دائرة السوء، وأن يهزم جمعه ويشتت شمله، وأن يقينا شر هذه الفتنة، وأن يجعلها موعظة للمؤمنين جميعا.
ونسأل الله أن يجعلها سببا للرجوع إلى الله والاستقامة على دينه، وإعداد العدة الكافية لجهاد أعدائه.
فالمسلمون يستفيدون من الفتن والمحن الفوائد المطلوبة، ومن ذلك أن يحاسب كل واحد منا نفسه، وأن يجاهدها لله حتى تستقيم على الحق، وحتى يدع ما حرم الله عليه، فإن الطاعات من الجيش المجاهد من أسباب النصر، والمعاصي من أسباب الخذلان.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119(6/103)
فعلى المجاهدين وعلى المظلومين أن يصبروا ويصابروا وأن يتقوا الله، وأن يستقيموا على دينه، وأن يحافظوا على حقه، وأن يتواصوا بالحق والصبر عليه، وبذلك يوفقون، ويجعل لهم النصر المؤزر، قال تعالى في كتابه العظيم: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (1)
فمتى صبر المسلمون واتقوا ربهم فإنه لا يضرهم كيد الأعداء، وإن جرت عليهم المحن، وإن قتل بعضهم، وإن جرح بعضهم، وإن أصابتهم شدة فلا بد أن تكون لهم العاقبة الحميدة بوعد الله الصادق، وفضله العظيم، كما قال سبحانه وتعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (2) وقال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (3) وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (4) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (5) وقال سبحانه وبحمده: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (6) فيجب علينا جميعا رجالا ونساء في هذه البلاد وغيرها، وعلى جميع المسلمين في كل مكان أن يستقيموا على دينه، وأن يحافظوا على أوامره وينتهوا عن نواهيه، وأن يصدقوا في جهاد الأعداء، ومنها جهاد هذا العدو الظالم حاكم العراق وجنده الظالم، وأن يكونوا يدا واحدة ضد هذا العدو الغاشم الكافر وحزبه الملحد. ومن أسباب النصر تطبيق شريعة الله وتحكيمها في كل شيء، فالواجب على الدول الإسلامية والمنتسبة للإسلام أن تحاسب أنفسها، وأن تجاهد في الله جهاد الصادقين، وأن تحكم شريعة الله في جميع شئونها، فهي سفينة النجاة، كما أن سفينة نوح جعلها الله سفينة النجاة لأهل الأرض كلهم من الغرق، كذلك شريعة الله التي جاء بها سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي الشريعة الإسلامية: هي سفينة النجاة لأهل الأرض كلهم أيضا، من استقام عليها وحافظ عليها كتبت له النجاة في الدنيا والآخرة. وإن أصابه بعض ما قدره الله عليه مما يكره من شدة أو حرب أو غير ذلك، فإن له النجاة والعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 120
(2) سورة هود الآية 49
(3) سورة طه الآية 132
(4) سورة الطلاق الآية 2
(5) سورة الطلاق الآية 3
(6) سورة الطلاق الآية 4(6/104)
فالمؤمنون من قوم نوح عليه السلام عندما أصابتهم الشدة أمرهم الله سبحانه بركوب السفينة، ونجاهم الله بسبب إيمانهم، واتباعهم لنوح عليه السلام. فهكذا المؤمنون في كل زمان، لا بد لهم من صبر على الشدائد، واستقامة على الحق حتى يأتيهم الفرج من الله سبحانه، كما قال تعالى في سورة فصلت: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (1) {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (2) {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (3) وقال سبحانه في سورة الأحقاف: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (4) {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (5)
فالواجب على جميع المسلمين في الجزيرة العربية وفي غيرها تقوى الله سبحانه وتعالى، رجالا ونساء، حكاما ومحكومين، وأن يستقيموا على دينه، وأن يحاسبوا أنفسهم من أين أصيبوا، فما أصابنا شيء مما نكره إلا بسبب معصية اقترفناها، كما قال عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (6)
وهذا الذي وقع بسبب تقصيرنا وسيئاتنا، فيجب علينا أن نرجع إلى الله، وأن نحاسب أنفسنا، وأن نجاهد لله، وأن نستقيم على حقه، وأن نحذر معصيته، وأن نتواصى بالحق وبالصبر عليه، حتى ينصرنا الله، ويكفينا شر أنفسنا، وشر أعدائنا، كما قال عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (7) وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (8) وقال سبحانه وبحمده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (9)
__________
(1) سورة فصلت الآية 30
(2) سورة فصلت الآية 31
(3) سورة فصلت الآية 32
(4) سورة الأحقاف الآية 13
(5) سورة الأحقاف الآية 14
(6) سورة الشورى الآية 30
(7) سورة آل عمران الآية 120
(8) سورة المائدة الآية 2
(9) سورة محمد الآية 7(6/105)
وقال عز من قائل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2) وقال سبحانه وتعالى: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5) فهؤلاء هم الرابحون في كل مكان، وفي كل عصر، بإيمانهم العظيم وعملهم الصالح، وتواصيهم بالحق، والصبر عليه.
وهذه الفتنة، هذا هو علاجها- كما هو علاج كل فتنة- بالصبر على الحق والجهاد والثبات عليه بشتى الوسائل الممكنة. بالسلاح الممكن، والنصيحة الممكنة، وبكل طريقة أباحها الله، وشرعها لحل المشكلات، وردع الظالم وإحقاق الحق.
وإذا خاف المظلوم من أن يغلب، واستعان بمن يأمنهم في هذا الأمر، وعرف منهم النصرة فلا مانع من الاستنصار ببعض الأعداء الذين هم في صفنا ضد عدونا، ولقد استعان النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل الخلق بالمطعم بن عدي لما مات أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وكان كافرا، وحماه من قومه، لما كان له من شهرة وقوة وشعبية، فلما توفي أبو طالب وخرح النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف يدعوهم إلى الله لم يستطع الرجوع إلى مكة خوفا من أهل مكة، إلا بجوار المطعم بن عدي، وهو من رءوس الكفار، واستنصر به في تبليغ دعوة الله، واستجار به فأجاره، ودخل في جواره، وهكذا عندما احتاج إلى دليل يدله على طريق المدينة استأجر شخصا من الوثنيين ليدله إلى المدينة لما أمنه على هذا الأمر.
ولما احتاج إلى اليهود بعد فتح خيبر ولاهم نخيلها وزروعها بالنصف، يزرعونها للمسلمين، والمسلمون مشغولون بالجهاد لمصلحة المسلمين، ومعلوم عداوة اليهود للمسلمين، فلما احتاج إليهم عليه الصلاة والسلام وأمنهم ولاهم على نخيل خيبر وزروعها.
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة الحج الآية 41
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3(6/106)
فالعدو إذا كان في مصلحتنا وضد عدونا فلا حرج علينا أن نستعين به ضد عدونا، وفي مصلحتنا، حتى يخلصنا الله من عدونا ثم يرجع عدونا إلى بلاده. ومن عرف هذه الحقيقة وعرف حال الظالم وغشمه وما يخشى منه من خطر عظيم وعرف الأدلة الشرعية اتضح له الأمر.
ولهذا درس هيئة كبار العلماء هذا الحادث، وتأملوه من جميع الوجوه وقرروا أنه لا حرج فيما فعلت الدولة من هذا الاستنصار للضرورة إليه، وشدة الحاجة إلى إعانتهم للمسلمين، وللخطر العظيم الذي يهدد البلاد لو استمر هذا الظالم في غشمه واجتياحه للبلاد، وربما ساعده قوم آخرون وتمالئوا معه على الباطل.
فالأمر في هذا جلل وعظيم، ولا يفطن إليه إلا من نور الله بصيرته، وعرف الحقائق على ما هي عليه، وعرف غشم الظالم، وما عنده من القوة التي نسأل الله أن يجعلها ضده، وأن يهلكه ويكبته، وأن يكفينا شره وشر كل الأعداء، وأن يولي على العراق رجلا صالحا يحكم فيه بشرع الله، وينفذ في شعبه أمر الله، كما نسأله سبحانه أن يقيهم شر هذا الحاكم الظالم العنيد الذي عذبهم وآذاهم وعذب المسلمين وأحدث هذه الفتنة، وجر المسلمين إلى خطر عظيم.
نسأل الله أن يعامله بعدله، وأن يقضي عليه، وأن يريح المسلمين من فتنته، وأن يجعل العاقبة الحميدة لعباده المسلمين، وأن يرد المظلومين إلى بلادهم، وأن يصلح حالهم، وأن يقيم فيهم أمر الله، وأن يقينا وإياهم الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وقد رأيت أن أبسط القول في هذه المسألة لإيضاح الحق، وبيان ما يجب أن يعتقد في هذا المقام، وبيان صحة موقف الدولة فيما فعلت؛ لأن أناسا كثيرين التبس عليهم الأمر في هذه الحالة، وشكوا في حكم الواقع وجوازه بسبب الضرورة والحاجة الشديدة؛ لأنهم لم يعرفوا الواقع كما ينبغي، ولعظم خطر هذا الظالم الملحد - أعني حاكم العراق - صدام حسين.
ولهذا اشتبه عليهم هذا الأمر، وظنوا واعتقدوا صحة ما فعله لجهلهم، ولالتباس(6/107)
الأمر عليهم، وظنهم أنه مسلم يدعو إلى الإسلام بسبب نفاقه وكذبه. وربما كان بعضهم مأجورا من حاكم العراق، فتكلم بالباطل والحقد؛ لأنه شريك له في الظلم، وبعضهم جهل الأمر وجهل الحقيقة وتكلم بما تكلم به أولئك الظالمون، جهلا منه بالحقيقة، والتبست عليه الأمور.
هذا هو الواقع، وهو أن هذا الظالم اعتدى وظلم، وأصر على عدوانه ولم يفئ إلى ترك الظلم. والله سبحانه قد أمرنا أن نقاتل الفئة الظالمة ولو كانت مؤمنة، حتى تفيء إلى أمر الله، فكيف إذا كانت الفئة الباغية كافرة ملحدة، فهي أولى بالقتال، وكفها عن الظلم ونصر الفئة المظلومة المبغي عليها بما يستطيعه المسلمون من أسباب النصر والردع للظالم. وقد حاول معه الناس ستة أشهر، وطلبوا منه أن يراجع نفسه ويخرج من الكويت، ويرجع عن ظلمه وبغيه، فأبى، فلم يبق إلا الحرب، ودعت الضرورة إلى الاستعانة بمن هو أقوى من المبغي عليه، على حرب هذا العدو الغاشم حتى تجتمع القوى في حربه وإخراجه.
نسأل الله أن يقضي عليه، ويرد كيده في نحره، وأن يدير عليه دائرة السوء، وأن يكفي المسلمين شره وشر غيره، وأن ينصرهم على أعدائهم وأن يصلح حالهم، وأن يمنحهم الاستقامة على دينه إنه سميع قريب.
ومن الواجب على الجميع الاتعاظ بهذه الفتن والاستفادة منها في إصلاح أحوالنا، والاستقامة على طاعة الله ورسوله، وأن نحاسب أنفسنا حتى نستقيم على الحق، وندع ما سواه، فالله سبحانه يجعل البلايا عظة وعبرة لمن يشاء، كما قال جل وعلا: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (1) وقال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) كما نسأل الله سبحانه أن يجعل في هذه الحرب خيرا لنا، وأن يجعل عاقبتها حميدة.
__________
(1) سورة النساء الآية 19
(2) سورة البقرة الآية 216(6/108)
ويجب أن لا ننسى ما حدث للنبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة يوم الأحزاب وهم خير أناس، فقد تجمعت عليهم الأحزاب الكافرة، وجاءتهم من فوقهم ومن أسفل منهم بقوة قوامها عشرة آلاف مقاتل، وحاصروا المدينة، وقال أهل النفاق: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (1) هكذا ذكر الله عنهم سبحانه في سورة الأحزاب في قوله عز وجل: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (2) حتى نصر الله نبيه، وأرسل الرياح التي أكفأت قدورهم، وقلعت خيامهم، وشردتهم كل مشرد، فرجعوا خائبين، والحمد لله بعد الشدة العظيمة التي وقعت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -.
وهكذا يوم أحد حين تجمع الكفار، وأغاروا على المدينة، وحاصروها، وجرى ما جرى من جرح وقتل من قتل من الصحابة حتى أنزل الله نصره وتأييده، وسلم الله المسلمين وأدار على أعدائه دائرة السوء، ورجعوا إلى مكة صاغرين، وأنجى الله نبيه بعدما قتل سبعون من الصحابة، وجرح النبي وجماعة كثيرة من أصحابه، واجتهد المشركون في قتله فوقاه الله شرهم.
ولما استنكر المسلمون هذا الحدث، قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} (3) يعني (يوم بدر) {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} (4) ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو والمسلمون أصابهم ما أصابهم يوم أحد بسبب أمر فعله الرماة الذين أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمسكوا ثغرا، وهو جبل الرماة، ولا يتركوه حتى لا يدخل منه جيش العدو، فلما رأى الرماة أن العدو قد انكشف وانهزم ظنوا أنها الفيصلة، فتركوا الثغر وصاروا يجمعون الغنيمة، وتركوا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم- فدخل العدو من ذلك الثغر، وحصل ما حصل من الهزيمة والمصيبة العظيمة على المسلمين، فأنزل الله قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} (5) يعني تقتلونهم
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 12
(2) سورة الأحزاب الآية 12
(3) سورة آل عمران الآية 165
(4) سورة آل عمران الآية 165
(5) سورة آل عمران الآية 152(6/109)
{حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} (1) أي من الهزيمة للعدو، يعني بذلك الرماة، فشلوا، وتنازعوا، وتركوا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم- فلم يصبروا، وعندما وقع منهم هذا سلط الله عليهم العدو، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يصيبهم مثل هذه الهزيمة والقتل والجراح بسبب ما وقع من بعضهم من الذنوب فكيف بحالنا؟
فالواجب على أهل الإسلام أينما كانوا أن يحاسبوا أنفسهم، وأن يجاهدوها في الله ويتفقدوا عيوبهم، ويتوبوا إلى الله منها، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (3) والمعنى: انظروا ما قدمتم للآخرة، فإن كنتم قدمتم أعمالا خيرة فاحمدوا الله عليها واسألوه الثبات، وإن كنتم قدمتم أعمالا سيئة فتوبوا إلى الله منها، وارجعوا إلى الحق والصواب. فالواجب على أهل الإيمان أينما كانوا أن يتقوا الله دائما، ويحاسبوا أنفسهم دائما، ولا سيما وقت الشدائد وعند المحن، كحالنا اليوم، يجب الرجوع إلى الله، والتوبة إليه وحساب النفس وجهادها لله، وما سلط علينا هذا العدو إلا بذنوبنا، فلا بد من جهاد النفس، ولا بد من الضراعة إلى الله، وسؤال الله سبحانه وتعالى أن ينصرنا على عدونا، وأن يذل عدونا، وأن يكفينا شره وشر أنفسنا وشر الشيطان. لا بد من الضراعة إلى الله، وسؤاله التأييد، كما قال تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} (4) فلا بد من العودة إلى الله، وسؤاله جل وعلا النصر. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر ليلة الواقعة قام يناجي ربه، ويدعوه ويبكي، ويسأل ربه
__________
(1) سورة آل عمران الآية 152
(2) سورة آل عمران الآية 165
(3) سورة الحشر الآية 18
(4) سورة الأنعام الآية 43(6/110)
النصر، حتى جاءه الصديق رضي الله عنه بعدما سقط رداؤه وقال: (حسبك يا رسول الله إن الله ناصرك إن الله مؤيدك) ، فإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل الناس وسيد ولد آدم يتضرع إلى الله فكيف بحالنا ونحن في أشد الضرورة إلى التوبة إلى الله، وإلى البكاء من خشيته، وإلى طلب النصر منه سبحانه وتعالى في ليلنا ونهارنا. فالغفلة شرها عظيم، والمعاصي خطرها كبير، فالواجب الإقلاع عنها والتوبة إلى الله سبحانه، فالذي عنده تساهل في الصلاة يجب أن يحافظ عليها ويبادر إليها ويصلي في الجماعة، والذي يتعامل بالربا يجب أن يترك ذلك، وأن يتوب إلى الله منه، والذي عنده عقوق لوالديه يتقي الله ويبر والديه، والقاطع لأرحامه يتقي الله ويصل أرحامه، والذي يشرب المسكر يتقي الله ويقلع عن ذلك، ويتوب إلى الله، والذي يغتاب الناس يحذر ذلك ويحفظ لسانه ويتقي الله.
وهكذا يحاسب كل إنسان نفسه في كل عيوبه ويتقي الله. وهكذا الموظف المقصر في وظيفته وفي أمانته يتقي الله، ويؤدي حق الله وحق عباده، وهكذا الرؤساء كل واحد منهم، سواء كان ملكا أو رئيس جمهورية أو وزيرا، كل واحد منهم عليه أن يحاسب نفسه لله، ويجاهدها لله، ويتوب إلى الله سبحانه من سيئ عمله. وهكذا كل موظف، وكل جندي، عليه أن يجاهد نفسه ويطيع الله ورسوله، ويطيع رئيسه في المعروف، ويتوب إلى الله من سيئات عمله وتقصيره.
وهذا كله من أسباب النصر والعاقبة الحميدة، فلا بد من الصدق مع الله وجهاد النفس والتوبة الصادقة من سائر الذنوب من الرؤساء والمرءوسين. ولا بد من الدعاء والضراعة إلى الله وطلبه النصر والتأييد والعون على العدو، وسؤال الله أن يخذل العدو ويرد كيده في نحرة، ولا بد مع ذلك من الأسباب الحسية، من قوة وجيش وسلاح كما قال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1)
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60(6/111)
وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (1) فيجب على أهل الإيمان أن يعدوا العدة المناسبة لجهاد الأعداء بكل ما يستطيعون، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (2) فعلى المسلمين أن يعدوا ما استطاعوا من القوة: من السلاح والرجال والتدريب، فإذا فعلوا ذلك كفاهم الله شر عدوهم وجاءهم النصر من الله، يقول الله سبحانه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (3) ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (4) ويقول سبحانه وبحمده: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (5) كما يجب على المسلم أن يلح في الدعاء، ويسأل ربه من خيري الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (6) وقال جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (7) وقال سبحانه: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (8) فعلينا أن نلح في الدعاء، ولا نستبطئ الإجابة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح، يقول - صلى الله عليه وسلم - «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت ودعوت فلم أره يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء (9) » . فلا ينبغي للمؤمن أن يدع الدعاء وإن تأخرت الإجابة، فالله حكيم عليم، في تأخير الإجابة يؤخرها سبحانه لحكم بالغة، حتى يتفطن الإنسان لأسباب التأخير، ويحاسب نفسه، ويجتهد في أسباب القبول. من التوبة النصوح والعناية بالمكسب الحلال، وإقبال القلب على الله وجمعه عليه سبحانه حين الدعاء، إلى غير ذلك من الفوائد العظيمة والنتائج المفيدة.
__________
(1) سورة النساء الآية 71
(2) سورة الأنفال الآية 60
(3) سورة البقرة الآية 249
(4) سورة محمد الآية 7
(5) سورة آل عمران الآية 120
(6) سورة غافر الآية 60
(7) سورة البقرة الآية 186
(8) سورة النساء الآية 32
(9) صحيح البخاري الدعوات (6340) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2735) ، سنن الترمذي الدعوات (3387) ، سنن أبو داود الصلاة (1484) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3853) ، مسند أحمد بن حنبل (2/487) ، موطأ مالك النداء للصلاة (495) .(6/112)
فلو أن كل إنسان يعطى الإجابة في الحال لفاتت هذه المصالح العظيمة.
ومما يوضح ما ذكرت أن نبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام طلب من ربه أن يجمع بينه وبين ولده يوسف، فتأخرت الإجابة مدة طويلة، ومكث يوسف في السجن بضع سنين، والداعي نبي كريم، هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم الصلاة والسلام، فعلم بذلك أن الله سبحانه له حكم عظيمة في تأخير الإجابة وتعجيلها. وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما أن تعجل له دعوته في الدنيا وإما أن تدخر له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها، فقال الصحابة رضي الله عنهم يا رسول الله إذا نكثر، قال: الله أكثر (1) » رواه الإمام أحمد في مسنده.
والمقصود أن المشروع للمسلم عندما تتأخر الإجابة أن يتأمل، ما هي الأسباب، لماذا تأخرت الإجابة؟ لماذا سلط علينا العدو؟ لماذا هذا البلاء؟
يتأمل ويحاسب نفسه ويجاهدها حتى تحصل له البصيرة بعيوب نفسه، وحتى يعالجها بالعلاج الشرعي. والدولة تعالج نقصها، والشخص يعالح نقصه ويداويه، كل داء له دواء، كما قال ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم- ودواء الذنوب التوبة إلى الله سبحانه، والاستقامة على طاعته، هذا هو دواء الذنوب.
فالواجب على كل إنسان أن يعالج ذنبه ومعصيته بالتوبة النصوح ويحاسب نفسه، ويعلم أن ربه سبحانه ليس بظلام للعبيد. فالله سبحانه لم يظلمك بل أنت الظالم لنفسك، تأمل وحاسب نفسك، وجاهدها، وهذا الحاكم الظالم، أعني حاكم العراق صدام حسين يرمي السعودية بالصواريخ، فماذا فعلت معه السعودية؟ لقد ساعدته مساعدة عظيمة على عدوه، ساعدته بالمساعدات التي ذكرها صدام في كتابه لخادم الحرمين الشريفين.
وذكر
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/18) .(6/113)
أشياء كثيرة من المساعدات وأخفى الكثير، والمطلوب منه الآن الخروج من الكويت وسحب جيشه منها، وبعد ذلك يحصل التفاوض في بقية المشاكل، فهل هذا هو جزاء الإحسان للكويت بأن يخرجهم من ديارهم وقد أحسنوا إليه كثيرا؟ وهل جزاء ما عملت السعودية أن يضربها بالصواريخ ويحشد جيوشه على حدودها؟ هذا هو جزاء المحسن عند صدام حسين، والله يقول سبحانه: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (1) لقد أحسنت إليه السعودية عند الملمات، وواسته عند الشدائد، والكويت كذلك، ودول الخليح كذلك، كلهم ساعدوه ومدوه بما يستطيعون، ثم كانت هذه هي العاقبة من اللئيم الغشوم، لقد طلبوا منه أن يخرج من الكويت، وأن يسحب جيوشه منها، ثم يكون بعد ذلك التفاوض والنظر في المشاكل التي بينه وبين الكويت، وحلها بالوسائل السلمية ولكنه من خبثه وظلمه يحث أنصاره وأذنابه على أن يؤذوا الناس في البلدان الأخرى، ثم من تدليسه ونفاقه وخبثه يضرب اليهود الآن حتى يفرق الجمع الموجود وحتى يرفع عنه الحصار الآن الذي وقع.
لماذا ترك اليهود قبل الكويت، ويضربها الآن، كان ينبغي له أن يضرب اليهود؛ لأنهم هم العدو، بدل أن يضرب جيرانه ومن أحسن إليه. لكن خبثه وظلمه وغشمه ونفاقه ومكره- حمله على أن يضرب اليهود الآن، حتى يفرق هؤلاء المجتمعين لحربه، وحتى يخرج من هذا الحصار المحيط به، ولكنها لم ترد عليه، حتى يظل هذا الحصار، وحتى يقضي الله فيه أمره سبحانه وتعالى، وحتى يخيب الله آماله، ويرد كيده في نحره، بحوله وقوته سبحانه.
نسأل الله أن يرد كيده في نحره، وأن يستجيب دعوات المسلمين ضده، فهو ظالم ملبس مخادع منافق، يجمع كل شر وكل حيلة، وكل بلاء للخداع والظلم والعدوان.
__________
(1) سورة الرحمن الآية 60(6/114)
ولكن نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، أن يقضي عليه، وأن يدير عليه دائرة السوء، وأن يخذل الله أنصاره وأعوانه، وأن يرد من هو حائر في أمره إلى البصيرة والهدى، وأن يقضي على أنصاره الظالمين المعتدين، وأن يهلكهم معه، ويسلط عليهم جندا من عنده إنه جواد كريم. كما نسأله سبحانه أن ينصر المسلمين عليه وحزبه، وأن ينصر من نصر المسلمين عليه وعلى أعوانه حتى يقضي الله على هذا الظالم، وحتى يخرجه من الكويت صاغرا ذليلا. كما نسأل الله سبحانه أن يولي على العراق رجلا صالحا يخلف الله ويراقبه ويحكم في العراقيين شريعة الله، ويبسط فيهم العدل والإحسان.
وعلينا أيها الإخوة، وعلى كل مسلم في كل مكان، أن نتقي الله سبحانه، وأن نستقيم على دينه، وأن نجاهد أنفسنا في ذلك، مع سؤاله سبحانه النصر المعجل لأوليائه وأهل طاعته المظلومين، وأن يكبت هذا المعتدي، وأن يسلط عليه جندا من عنده، وأن يقضي عليه، وأن يولي على العراق من يخلف الله فيهم، ويحسن إليهم ويحكم فيهم بشرع الله، إنه جل وعلا جواد كريم، ولا حول ولا قوة إلا بل لله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد عبد الله ورسوله وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.(6/115)
أسئلة وأجوبة بعد المحاضرة
س1 يقول بعض الناس الذين يشككون في فتوى هيئة كبار العلماء بشأن الاستعانة بغير المسلمين في الدفاع عن بلاد المسلمين وقتال حاكم العراق - بعدم وجود الأدلة القوية التي تدعمها. فما تعليق سماحتكم على ذلك؟
جـ: قد بينا ذلك فيما سبق وفي مقالات عديدة، وبينا أن الرب جل وعلا أوضح في كتابه العظيم: أنه سبحانه أباح لعباده المؤمنين إذا اضطروا إلى ما حرم عليهم أن يفعلوه، كما قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) ولما حرم الميتة والدم والخنزير والمنخنفة والموقوذة وغيرها قال في آخر الآية: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2)
والمقصود أن الدولة في هذه الحالة قد اضطرت إلى أن تستعين ببعض الدول الكافرة على هذا الظالم الغاشم؛ لأن خطره كبير، ولأن له أعوانا آخرين، لو انتصر لظهروا وعظم شرهم، فلهذا رأت الحكومة السعودية وبقية دول الخليج أنه لا بد من دول قوية تقابل هذا العدو الملحد الظالم، وتعين على صده وكف شره وإزالة ظلمه.
وهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية لما تأملوا هذا ونظروا فيه، وعرفوا الحال بينوا أن هذا أمر سائغ، وأن الواجب استعمال ما يدفع الضرر، ولا يجوز التأخر في ذلك، بل يجب فورا استعمال ما يدفع الضرر عن المسلمين، ولو بالاستعانة بطائفة من المشركين فيما يتعلق بصد العدوان وإزالة الظلم، وهم جاءوا لذلك وما جاءوا ليستحلوا البلاد، ولا ليأخذوها، بل جاءوا لصد العدوان وإزالة الظلم ثم يرجعون إلى بلادهم، وهم الآن يتحرون المواضع التي يستعين بها العدو، وما يتعمدون قتل الأبرياء، ولا قتل المدنيين، وإنما يريدون قتل الظالمين المعتدين وإفساد مخططهم والقضاء على سبل إمدادهم وقوتهم في الحرب.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119
(2) سورة المائدة الآية 3(6/116)
ولكن بعض المرجفين المغرضين يكذب على الناس، ويقول: إنهم حاصروا الحرمين، وأنهم فعلوا، وأنهم تركوا، كل هذا من ترويج الباطل والتشويش على الناس لحقد في قلوب بعض الناس، أو لجهل من بعضهم وعدم بصيرة، أو لأنه مستأجر من حاكم العراق ليشوش على الناس.
والناس أقسام: منهم من جهل الحقائق والتبست عليه الأمور، ومنهم من هو جاهل لا يعرف الأحكام الشرعية، ومنهم من هو مستأجر من الطغاة الظلمة ليشوش على الناس، ويلبس عليهم الحق، والله المستعان. .(6/117)
س 2: تقوم بعض الجهات المختصة، بتوجيه الناس لفعل بعض الأمور لتلافي أخطار الغازات السامة، والغازات الجوية الضارة، فهل على المسلم من حرج في اتباع تلك التعليمات؟
جـ: المسلم مأمور بأخذ الحذر واتباع التعليمات التي تقي الشر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (1) فالمؤمن إذا أخذ بالأسباب النافعة والواقية بإذن الله من الشر، لا بأس عليه، كأن يستعمل الكمامات التي تمنع من وصول الغازات السامة إليه، وغيرها من أسباب الوقاية عند الحاجة إلى ذلك، وكحمل السلاح إذا صال عليه صائل ليصد هذا الصائل، وكما يقتل الحية والعقرب في الصلاة وغيرها لدفع شرهما.
فالإنسان مأمور بالأسباب النافعة، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (2) وكما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (3) وكما في آية صلاة الخوف من الأمر بالتهيؤ بالسلاح. وهو قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} (4) الآية من سورة النساء.
__________
(1) سورة النساء الآية 71
(2) سورة الأنفال الآية 60
(3) سورة النساء الآية 71
(4) سورة النساء الآية 102(6/117)
س 3: معلوم أن هناك جيوشا غير إسلامية تقاتل حاكم العراق معنا، فهل قتالنا(6/117)
معهم تحت راية واحدة يعتبر جهادا؟ ومن قتل منا هل يعتبر شهيدا؟
جـ: المجاهد في هذا السبيل إن أصلح الله نيته وهو يجاهد لدفع الظلم ونفع المسلمين فهو مجاهد في سبيل الله، وهو شهيد إن قتل. وهذه الجيوش ليست تحت راية الكفرة، بل كل جيش تحت قيادة قائده. فالجيوش السعودية تحت قائدها خالد بن سلطان، وتحت القائد الأعلى خادم الحرمين الشريفين، والجيوش المصرية تحت قائدها المصري، والجيوش السورية تحت قائدها السوري، والجيوش الإنجليزية تحت قائدها الإنجليزي، وهكذا، ولكن بينهم اتفاق على التنظيم، لا بد منه، والله تعالى يقول: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (1) فلا بد من التنظيم والتعاون بين الجميع حتى لا يحدث الفشل، وحتى لا يطمع العدو.
والنبي - صلى الله عليه وسلم- جاءه رجل وسأله قائلا «إذا جاءني رجل يريد مالي؟ قال: لا تعطه مالك، قال: فإن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: فإن قتلني؟ قال: فأنت شهيد قال: فإن قتلته؟ قال: هو في النار (2) » أخرجه مسلم في صحيحه. فإذا كان هذا في إنسان يدافع عن ماله، فكيف فيمن يدافع عن دينه وعن إخوانه المسلمين وعن حرماته، والرسول - صلى الله عليه وسلم- يقول: «من قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد (3) » .
وأنت أيها المسلم المجاهد في هذه الحرب، إن أصلح الله نيتك، تقاتل عن دين الإسلام وعن نفوس المسلمين وأموالهم وبلادهم، وعن عامة المسلمين وحرماتهم، وتصد عنهم عدوا ملحدا، أكفر من اليهود والنصارى، وتجاهد لإزالة ظلمه ودفع شره، فالأمر عظيم، والجهاد من أهم الواجبات في هذا السبيل، والمقاتل مع صدام متوعد بالنار؛ لأنه أعانه على الظلم والعدوان، ويخشى أن يكون كافرا إذا وافقه على بعثيته وإلحاده، أو استحل قتل المسلمين، فالمقصود أنه شريك له في الظلم
__________
(1) سورة الأنفال الآية 46
(2) صحيح مسلم الإيمان (140) .
(3) سنن الترمذي الديات (1421) .(6/118)
والعدوان، وفي كفره تفصيل، وهو متوعد بالنار حتى لو كان من المسلمين لقتاله مع الظالمين لإخوانه المسلمين وإخوانه المظلومين.
أما المقاتل المسلم الذي هو ضد الظالم فهو على خير عظيم، إن قتل فهو شهيد، وإن أسر أو جرح فهو مأجور. وبكل حال فله أجر المجاهدين سلم أو قتل، إذا أصلح الله نيته.(6/119)
س4: يشكك كثير من الناس في أن القتال ضد صدام من الجهاد في سبيل الله، بل هو من أجل المصالح المادية من نفط وأرض، ولو أن المسلمين قاموا بقتل اليهود لما وقفت معهم دول التحالف. فاليهود قد ظلموا واعتدوا على أرض المسلمين كما فعل حاكم العراق أهلكه الله، ومع هذا لم يسترد الحق إلى أهله منذ أربعين سنة وحتى الآن. نرجو من سماحتكم توضيح هذا الأمر.
جـ: اليهود لهم حالة أخرى: اعتدوا على أرض فلسطين، والواجب على المسلمين جهادهم حتى يخرجوهم من بلاد المسلمين، وحتى ينتصر إخواننا الفلسطينيون عليهم، ويقيموا دولتهم الإسلامية على أرضهم، وهذا لا شك في وجوبه على الدول الإسلامية حسب الطاقة، ولكن لا يجوز إقحام هذا في هذا، فعدم قيام الدول الإسلامية بجهاد اليهود في الوقت الحاضر جهادا مباشرا لا يبيح لصدام قتال المسلمين في الجزيرة العربية ولا في الكويت ولا غيرها، ولا يبيح لأحد من المسلمين أن يعينه على ذلك، ولا يجوز للدول الإسلامية أن تمكنه من عدوانه وظلمه، بل يجب صده وكف عدوانه وإزالة ظلمه عن المسلمين بكل ما يستطاع من القوة عملا بقول الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (1) وقوله سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (2) الآية.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 39
(2) سورة الحجرات الآية 9(6/119)
فإذا كانت الفئة الباغية المؤمنة يجب قتالها حتى تفيء إلى أمر الله وترجع عن ظلمها، فقتال الفئة الكافرة الباغية مثل صدام وأتباعه البعثيين وغيرهم أولى بالقتال حتى يفيئوا إلى الحق، ويرجعوا عن الظلم، وبما ذكرنا يعلم أن اليهود لهم شأن آخر، وقتالهم واجب مستقل. وعدوان هذا الظالم على الكويت عدوان مستقل يجب أن يصد ويقاتل أولا، ويتخلص منه.
ولا يجوز أن يكون تقصير المسلمين في الجهاد مع الفلسطينيين ضد اليهود مسوغا لخذلانهم في جهاد عدو الله صدام الذي هو أكفر من اليهود والنصارى، وأضل منهم. وقد اعتدى على شعب آمن ثم عزم على الاعتداء على بقية دول الخليج، ونواياه الخبيثة معلومة، وشر معلوم، وقتاله متعين. فإذا صدقت العزائم، وهدى الله الجميع وأعانهم سبحانه على قتال صدام وجنده، وصدوهم عن عدوانهم واستنقذوا الكويت من أيديهم، ففي إمكانهم إن شاء الله أن يجاهدوا اليهود ويستنقذوا القدس من أيديهم، وذلك جهاد آخر وواجب آخر، كما أنه يجب على المسلمين أن يجاهدوا غير اليهود من الكفرة، إذا استطاعوا ذلك حتى يدخلوا في دين الله أفواجا، أو يؤدوا الجزية إن كانوا من أهلها، كما قال الله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (1) وقال سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2) فالمسلمون عليهم أن يقاتلوا الكفرة جميعا، حتى يكون الدين كله لله، إلا من أدى الجزية من أهل الجزية، فإذا عجزوا عن ذلك فإنهم لا يلامون إذا قاتلوا من تعدى عليهم دون غيرهم؛ لقول الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3)
__________
(1) سورة البقرة الآية 193
(2) سورة التوبة الآية 29
(3) سورة التغابن الآية 16(6/120)
فاليهود قد تعدوا على فلسطين فعلى المسلمين أن يقاتلوا مع الفلسطينيين ضدهم، وتعدي صدام على الكويت وحشد الجيوش على السعودية بعدوان جديد من ظالم عنيد ملحد، أكفر من اليهود والنصارى والعياذ بالله، فيجب صده وقتاله؛ لأن الشيوعيين والبعثيين أكفر من أهل الكتاب. كفى الله المسلمين شرهم جميعا.(6/121)
س هـ: هل يتعين على جميع المسلمين الوقوف مع المملكة ومقاتلة هذا الظالم الباغي؟
جـ: هذا اعتقادنا، فكما يجب عليهم أن يقاتلوا اليهود حسب الطاقة، فكذلك يجب عليهم أن يقاتلوا صدام حسب الطاقة من باب أولى، وأن يكونوا مع الحق ضد الظالم في كل زمان ومكان. هذا واجبهم جميعا حسب الطاقة والقدرة.
لأن في ذلك نصرا للمظلوم وردعا للظالم، والله جل وعلا أمر بذلك وأذن فيه في قوله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (1) كما سبق وفي قوله جل وعلا: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} (2) {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) والرسول - صلى الله عليه وسلم- أمر بذلك في قوله- صلى الله عليه وسلم-: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قيل: يا رسول الله نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تحجزه عن الظلم، فذلك نصرك إياه (4) » فإذا كان المسلم الظالم يجب أن يردع عن ظلمه، فالكافر الظالم أولى بذلك بكفره وظلمه مثل حاكم العراق وأشباهه من الملاحدة الظلمة.
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2) سورة الشورى الآية 41
(3) سورة الشورى الآية 42
(4) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .(6/121)
س6: هل يجوز لعن حاكم العراق؟ لأن بعض الناس يقولون: إنه ما دام ينطق بالشهادتين نتوقف في لعنه، وهل يجزم بأنه كافر؟ وما رأي سماحتكم في رأي من يقول بأنه كافر؟
جـ: هو كافر وإن قال: لا إله إلا الله، حتى ولو صلى وصام، ما دام لم يتبرأ من(6/121)
مبادئ البعثية الإلحادية، ويعلن أنه تاب إلى الله منها وما تدعو إليه، ذلك أن البعثية كفر وضلال، فما لم يعلن هذا فهو كافر. كما أن عبد الله بن أبي كافر وهو يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم- ويقول: لا إله إلا الله ويشهد أن محمدا رسول الله، وهو من أكفر الناس، وما نفعه ذلك لكفره ونفاقه، فالذين يقولون لا إله إلا الله من أصحاب المعتقدات الكفرية كالبعثيين والشيوعيين وغيرهم ويصلون لمقاصد دنيوية، فهذا ما يخلصهم من كفرهم. لأنه نفاق منهم، ومعلوم عقاب المنافقين الشديد كما جاء في كتاب الله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (1) وصدام بدعواه الإسلام ودعواه الجهاد أو قوله أنا مؤمن، كل هذا لا يغني عنه شيئا ولا يخرجه من النفاق، ولكي يعتبر من يدعي الإسلام مؤمنا حقيقيا فلا بد من التصريح بالتوبة مما كان يعتقده سابقا، ويؤكد هذا بالعمل، لقول الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (2) فالتوبة الكلامية، والإصلاح الفعلي، لا بد معه من بيان، وإلا فلا يكون المدعي صادقا، فإذا كان صادقا في التوبة فليتبرأ من البعثية وليخرج من الكويت ويرد المظالم على أهلها، ويعلن توبته من البعثية وأن مبادئها كفر وضلال، وأن على البعثيين أن يرجعوا إلى الله ويتوبوا إليه، ويعتنقوا الإسلام، ويتمسكوا بمبادئه قولا وعملا ظاهرا وباطنا، ويستقيموا على دين الله، ويؤمنوا بالله ورسوله، ويؤمنوا بالآخرة إن كانوا صادقين.
أما البهرج والنفاق فلا يصلح عند الله ولا عند المؤمنين. يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (3) ويقول جل وعلا: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (4) {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (5) {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (6) {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} (7) {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} (8)
__________
(1) سورة النساء الآية 145
(2) سورة البقرة الآية 160
(3) سورة النساء الآية 145
(4) سورة البقرة الآية 9
(5) سورة البقرة الآية 10
(6) سورة البقرة الآية 11
(7) سورة البقرة الآية 12
(8) سورة البقرة الآية 13(6/122)
هذه حال صدام وأشباهه ممن يعلن الإسلام نفاقا وخداعا، وهو يذيق المسلمين أنواع الأذى والظلم، ويقيم على عقيدته الإلحادية البعثية.(6/123)
س 7: هل يعتبر عمل المتطوعين في التعاون مع رجال الأمن من الرباط، أم لا؟
ج: عمل المتطوعين في كل بلد ضد الفساد مع رجال الأمن يعتبر من الجهاد في سبيل الله لمن أصلح الله نيته، وهو من الرباط في سبيل الله؛ لأن الرباط هو لزوم الثغور ضد الأعداء، وإذا كان العدو قد يكون في الباطن واحتاج المسلمون أن يتكاتفوا مع رجال الأمن ضد العدو الذي يخشى أن يكون في الباطن، يرجى لهم أن يكونوا مرابطين، ولهم أجر المرابط لحماية البلاد من مكائد الأعداء الداخليين، وهكذا التعاون مع رجال الهيئة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يعتبر من الجهاد في سبيل الله في حق من صلحت نيته؛ لقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1)
وقول النبي- صلى الله عليه وسلم - «ما بعث الله من نبي في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (2) » رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه-.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 69
(2) صحيح مسلم الإيمان (50) ، مسند أحمد بن حنبل (1/458) .(6/123)
س 8: يسأل بعض الأطباء والعاملين في النفط، هل إذا أخلصوا النية، وأنهم يقومون بعملهم من أجل الله تعالى، وحدث أن قتلوا بالصواريخ التي يطلقها حاكم العراق، هل يعتبروا من الشهداء؟
جـ8: إذا كانوا مسلمين فهم شهداء إذا ضربوا بالصواريخ أو غيرها مما يقتلهم، حكمهم حكم الشهداء، وهكذا كل مسلم يقتل مظلوما في أي مكان؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: «من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد (1) »
__________
(1) سنن الترمذي الديات (1421) .(6/123)
ولما ثبت في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم-: أنه أتاه رجل فقال «يا رسول الله يأتيني الرجل يريد مالي فقال - صلى الله عليه وسلم - لا تعطه مالك، فقال الرجل يا رسول الله فإن قاتلني؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- قاتله، فقال الرجل يا رسول الله فإن قتلني؟ قال فأنت شهيد لما قال الرجل فإن قتلته؟ قال- صلى الله عليه وسلم - هو في النار (1) » .
وهذا حديث عظيم يدل على أن من قتل من المسلمين مظلوما فهو شهيد. فلله الحمد والمنة على ذلك.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (140) .(6/124)
س 9: هل رفع اليدين في الدعاء مشروع، وخاصة في السفر بالطائرة أو السيارة أو القطار وغيرهما؟
جـ: رفع الأيدي في الدعاء من أسباب الإجابة في أي مكان، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «إن ربكم حيي ستير يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا (1) » . ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى وقال سبحانه ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له (4) » ؟ رواه مسلم في صحيحه.
فجعل من أسباب الإجابة رفع اليدين. ومن أسباب المنع، وعدم الإجابة أكل الحرام والتغذي بالحرام. فدل على أن رفع اليدين من أسباب الإجابة، سواء في الطائرة أو في القطار أو في السيارة أو في المراكب الفضائية، أو في غير ذلك، إذا دعا ورفع يديه. فهذا من أسباب الإجابة إلا في المواضع التي لم يرفع فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا نرفع فيها، مثل خطبة الجمعة، فلم يرفع فيها يديه، إلا إذا استسقى فهو يرفع يديه فيها. كذلك بين السجدتين وقبل السلام في آخر التشهد لم يكن يرفع يديه - صلى الله عليه وسلم - فلا نرفع أيدينا في هذه المواطن التي لم يرفع فيها - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن فعله حجة وتركه حجة
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3556) ، سنن أبو داود الصلاة (1488) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3865) ، مسند أحمد بن حنبل (5/438) .
(2) صحيح مسلم الزكاة (1015) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (2/328) ، سنن الدارمي الرقاق (2717) .
(3) سورة البقرة الآية 172 (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ}
(4) سورة المؤمنون الآية 51 (3) {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}(6/124)
وهكذا بعد السلام من الصلوات الخمس. كان يأتي بالأذكار الشرعية ولا يرفع يديه، فلا نرفع في ذلك أيدينا اقتداء به - صلى الله عليه وسلم - أما المواضع التي رفع - صلى الله عليه وسلم - فيها يديه فالسنة فيها رفع اليدين تأسيا به - صلى الله عليه وسلم - ولأن ذلك من أسباب الإجابة، وهكذا المواضع التي يدعو فيها المسلم ربه ولم يرد فيها عن النبي رفع ولا ترك فإنا نرفع فيها للأحاديث الدالة على أن الرفع من أسباب الإجابة كما تقدم.(6/125)
س 10: آخر ساعة من عصر الجمعة هل هي ساعة الإجابة، وهل يلزم المسلم أن يكون في المسجد في هذه الساعة، وكذلك النساء في المنازل؟
جـ10: أرجح الأقوال في ساعة الإجابة يوم الجمعة قولان: أحدهما: أنها بعد العصر إلى غروب الشمس في حق من جلس ينتظر صلاة المغرب، سواء كان في المسجد أو في بيته يدعو ربه، وسواء كان رجلا أو امرأة، فهو حري بالإجابة، لكن ليس للرجل أن يصلي في البيت صلاة المغرب ولا غيرها إلا بعذر شرعي، كما هو معلوم من الأدلة الشرعية.
الثاني: أنها من حين يجلس الإمام على المنبر للخطبة يوم الجمعة، إلى أن تقضى الصلاة، فالدعاء في هذين الوقتين حري بالإجابة. وهذان الوقتان هما أحرى ساعات الإجابة يوم الجمعة لما ورد فيهما من الأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك، وترجى هذه الساعة في بقية ساعات اليوم، وفضل الله واسع سبحانه وتعالى.
ومن أوقات الإجابة في جميع الصلوات فرضها ونفلها: حال السجود. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء (1) » خرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وروى مسلم رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أما الركوع فعظم فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم (2) » ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: فقمن أن يستجاب لكم أي حري.
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (482) ، سنن النسائي التطبيق (1137) ، سنن أبو داود الصلاة (875) ، مسند أحمد بن حنبل (2/421) .
(2) صحيح مسلم الصلاة (479) ، سنن النسائي التطبيق (1120) ، سنن أبو داود الصلاة (876) ، مسند أحمد بن حنبل (1/219) ، سنن الدارمي الصلاة (1325) .(6/125)
س11: ورد في حديث: «إن لله ملائكة سيارة تسير في الأرض تحف الجماعة الذين يذكرون الله»(6/125)
ويقال إن بعض الصوفية يستدلون بهذا الحديث على بعض أعمالهم، فكيف ترد عليهم.
جـ11 هذا الحديث صحيح وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لله ملائكة سياحين يلتمسون مجالس الذكر فإذا وجدوها تنادوا هلموا إلى حاجتكم (1) » ، فيحيطون بهم إلى عنان السماء، ويسمعون منهم أذكارهم وأعمالهم الطيبة، ثم إذا عرجوا سألهم الله عما وجدوا - وهو أعلم سبحانه وتعالى - فيخبرونه بما شاهدوا ولا حجة في هذا للصوفية، فالصوفية مبتدعة، عليهم أن يلتزموا بالشريعة ويستقيموا عليها ويذكروا الله بما شرع، وإذا ذكروا الله بما شرع فهذا طيب، ولهم أجر ذلك عند الله سبحانه إذا استقاموا على التوحيد، ومن ذكر الله تعليم القرآن الكريم والسنة المطهرة وأنواع العلم النافع الذي ينفع العباد في دينهم ودنياهم، مع الإخلاص لله في ذلك وطلب الثواب منه سبحانه.
وبذلك يعلم أن وجود الملائكة في مجالس الذكر لا حجة للصوفية فيه، ولا في اختراعهم البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان وعبادات ما شرعها الله لعباده، كعبادة بعضهم لأهل القبور بالاستغاثة بهم والنذر لهم والطواف بقبورهم وغير ذلك من أنواع العبادات، وكإحداثهم أذكارا وعبادات ما أنزل الله بها من سلطان، وغير ذلك مما اخترعوه من الطرق الباطلة. نسأل الله لنا ولهم الهداية، والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الدعوات (6408) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2689) ، سنن الترمذي الدعوات (3600) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .(6/126)
س 12: إذا أمرني والداي بأن أترك أصحابا طيبين وزملاء أخيارا، وألا أسافر معهم لأقضي عمرة، مع العلم بأني في طريقي إلى الالترام. فهل تجب علي طاعتهم في هذه الحالة؟
جـ: ليس عليك طاعتهم في معصية الله، ولا فيما يضرك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الطاعة في المعروف (1) » وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (2) » فالذي ينهاك عن صحبة الأخيار لا تطعه، لا الوالدان ولا غيرهما، ولا تطع أحدا في
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7145) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .
(2) صحيح البخاري أخبار الآحاد (7257) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/94) .(6/126)
مصاحبة الأشرار أيضا، لكن تخاطب والديك بالكلام الطيب، وبالتي هي أحسن، كأن تقول: يا والدي كذا، ويا أمي كذا، هؤلاء طيبون، وهؤلاء أستفيد منهم، وأنتفع بهم، ويلين قلبي معهم، وأتعلم العلم وأستفيد، فترد عليهم بالكلام الطيب والأسلوب الحسن لا بالعنف والشدة، وإذا منعوك فلا تخبرهم بأنك تتبع الأخيار وتتصل بهم، ولا تخبرهم بأنك ذهبت مع أولئك إذا كانوا لا يرضون بذلك. ولكن عليك أن لا تطيعهم إلا في الطاعة والمعروف.
وإذا أمروك بمصاحبة الأشرار، أو أمروك بالتدخين أو بشرب الخمر أو الزنا أو بغير ذلك من المعاصي فلا تطعهم ولا غيرهم في ذلك، للحديثين المذكورين آنفا، وبالله التوفيق.(6/127)
س 13: إن في المسجد عندنا جهازا للإنذار والعاملون عليه من الدفاع المدني يرابطون أربعا وعشرين ساعة، ويدخنون في غرفة تابعة للمسجد، ويريد السائل توجيه النصيحة إليهم أثابكم الله.
جـ13: لا يجوز التدخين في المسجد ولا في الغرف التابعة له؛ لأن التدخين محرم، وهو في المسجد أشد تحريما، وقد نهى النبي من أكل ثوما أو بصلا عن دخول المسجد، فكيف بالتدخين فيه. ومعلوم أن البصل والثوم طعامان مباحان لكن لهما رائحة كريهة، فلذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكلهما عن دخول المسجد حتى تذهب الرائحة.
فإذا كان الذي يأكل البصل والثوم لا يدخل المسجد، فكيف بالدخان الذي هو محرم وخبيث وضار بأهله وغيرهم ممن يشم رائحته. فيجب عليهم أن يحذروا ذلك وألا يدخنوا في الحجرة التابعة للمسجد، وأن يحذروا الدخان ويبتعدوا عنه في كل مكان وزمان لتحريمه وخبثه؛ ولأنه ضرر عليهم في دينهم ودنياهم وصحتهم واقتصادهم وشر محض. نسأل الله للجميع الهداية.(6/127)
س 14: أفادكم الله: نرجو إخبارنا عن غزوة الخندق، وهل هي مشابهة لما نحن فيه الآن؟
جـ14: غزوة الخندق محنة عظيمة امتحن الله بها المسلمين وأقام بها الحجة على الكافرين، ونصر بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعباده المؤمنين، فقد اجتمع فيها أحزاب الكفار وغزوا المدينة، ولذلك تسمى غزوة الأحزاب، والرسول - صلى الله عليه وسلم - حفر خندقا حول المدينة، وأشار عليه بهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه. وصار هذا الخندق بينه وبين الأعداء، ونفع الله به كثيرا، وبقي الكفار محاصرين المدينة نحو شهرين، وفي هذه الغزوة أنزل الله تعالى قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (1) {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (2) {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (3) {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (4) هكذا ظهر النفاق والعياذ بالله، فالمشركون تجمعوا لمحاربة رسول الله، ويقال لها غزوة الأحزاب لأن قريشا جمعت أحزابا كثيرة من غطفان وغير غطفان ومن الأحابيش وغيرهم، حتى قال أصحاب السير إنهم عشرة آلاف قصدوا المدينة للقضاء على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولكن الله خيب ظنهم، وردهم خائبين خاسئين، والحمد لله، وأنزل الله عليهم جنودا لم يروهم من الملائكة، وأرسل عليهم ريحا زلزلهم الله جل وعلا بها، وشتت شملهم، وردهم خائبين، سبحانه وتعالى. وقد بلغت الشدة مع المسلمين أمرا عظيما، وظهر النفاق، وقال المنافقون: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (5) يعني: ما وعدنا الله من النصر إلا غرورا.
هذا ظن الكافرين والمنافقين أعاذنا الله من شرهم، وليست غزوة الخندق مشابهة لحوادث الساعة من كل الوجوه، بل هي أعظم وأشد بالنسبة إلى غير أهل الكويت، أما
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 9
(2) سورة الأحزاب الآية 10
(3) سورة الأحزاب الآية 11
(4) سورة الأحزاب الآية 12
(5) سورة الأحزاب الآية 12(6/128)
مصيبة الكويت فهي أشد؛ لكونهم أخرجوا من بلادهم ونهبت أموالهم وسفكت دماء الكثير منهم، عامل الله من ظلمهم بما يستحق، وأدار عليه دائرة السوء إنه سميع قريب.(6/129)
س 15: إنني أحب الجهاد وقد امتزج حبه في قلبي. ولا أستطيع أن أصبر عنه، وقد استأذنت والدتي فلم توافق، ولذا تأثرت كثيرا ولا أستطيع أن أبتعد عن الجهاد.
سماحة الشيخ: إن أمنيتي في الحياة هي الجهاد في سبيل الله وأن أقتل في سبيله وأمي لا توافق. دلني جزاك الله خيرا على الطريق المناسب.
جـ: جهادك في أمك جهاد عظيم، الزم أمك وأحسن إليها، إلا إذا أمرك ولي الأمر بالجهاد فبادر؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وإذا استنفرتم فانفروا (1) » .
وما دام ولي الأمر لم يأمرك فأحسن إلى أمك، وارحمها، واعلم أن برها من الجهاد العظيم، قدمه النبي - صلى الله عليه وسلم - على الجهاد في سبيل الله، كما جاء بذلك الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه قيل له: «يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال إيمان بالله ورسوله قيل ثم أي؟ قال بر الوالدين قيل ثم أي؟ قال الجهاد في سبيل الله (2) » متفق على صحته فقدم برهما على الجهاد، وجاء رجل يستأذنه قال: يا رسول الله أحب أن أجاهد معك فقال له - صلى الله عليه وسلم - «أحي والداك؟ قال: نعم، قال ففيهما فجاهد (3) » . متفق على صحته.
وفي رواية أخرى قال - صلى الله عليه وسلم - «ارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك وإلا فبرهما (4) » فهذه الوالدة ارحمها وأحسن إليها حتى تسمح لك، وهذا كله في جهاد الطلب، وفيم إذا لم يأمرك ولي الأمر بالنفير، وأما إذا نزل البلاء بك فدافع عن نفسك وعن إخوانك في الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهكذا إذا أمرك ولي الأمر بالنفير فانفر ولو بغير رضاها؛ لقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (5) {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (6)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وإذا استنفرتم فانفروا (7) » متفق على صحته، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1834) ، صحيح مسلم الحج (1353) ، سنن الترمذي السير (1590) ، سنن أبو داود الجهاد (2480) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2773) ، مسند أحمد بن حنبل (1/316) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (26) ، صحيح مسلم الإيمان (83) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1658) ، سنن النسائي مناسك الحج (2624) ، سنن الدارمي الجهاد (2393) .
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (3004) ، سنن الترمذي الجهاد (1671) ، سنن النسائي الجهاد (3103) ، سنن أبو داود الجهاد (2529) ، مسند أحمد بن حنبل (2/193) .
(4) سنن أبو داود الجهاد (2530) ، مسند أحمد بن حنبل (3/76) .
(5) سورة التوبة الآية 38
(6) سورة التوبة الآية 39
(7) صحيح البخاري الحج (1834) ، صحيح مسلم الحج (1353) ، سنن الترمذي السير (1590) ، سنن أبو داود الجهاد (2480) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2773) ، مسند أحمد بن حنبل (1/316) .(6/129)
واجب المسلمين تجاه
عدوان العراق على دولة الكويت
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من المسلمين، سلك الله بي وبهم سبيل عباده المؤمنين، وأعاذني وإياهم من أخلاق المغضوب عليهم والضالين. آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3)
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (4) وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (5) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (6) {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (7) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (8) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (9)
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (10) {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (11) {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} (12)
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة لقمان الآية 33
(5) سورة البينة الآية 5
(6) سورة آل عمران الآية 102
(7) سورة آل عمران الآية 103
(8) سورة الأحزاب الآية 70
(9) سورة الأحزاب الآية 71
(10) سورة الحشر الآية 18
(11) سورة الحشر الآية 19
(12) سورة الحشر الآية 20(6/130)
وقال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) وقال سبحانه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2)
وقال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) وقال عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (4)
وقال سبحانه: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (5) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (6) والآيات في الأمر بالتقوى وطاعة الله ورسوله وبيان عاقب المتقين كثيرة جدا.
وقد أوضح الله سبحانه فيما ذكرنا من الآيات أنه عز وجل خلق الثقلين لعبادته وأمرهم بها، كما ذكر سبحانه أنه أمر جميع الناس بعبادته وتقواه، وهكذا أمر المؤمنين بوجه خاص بتقواه والقيام بحقه، كما أمرهم سبحانه بالاعتصام بحبله والتمسك بشرعه، وأمرهم أن يقوا أنفسهم وأهليهم عذاب الله عز وجل، وأمرهم عز وجل أن يتقوا فتنا لا تصيبن الذين ظلموا منهم خاصة، بل تعم الجميع، وأوضح سبحانه أن من أسباب محبة الله العباد، ومن علامات الصدق في محبة العبد ربه ومحبة الله له أن يتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به.
ويتمسك بشرعه في قوله وعمله وعقيدته، كما أوضح سبحانه أن من صفات المؤمنين وأخلاقهم العظيمة أنهم أولياء فيما بينهم، وأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فالواجب على جميع المسلمين في كل مكان أن يعبدوا الله وحده، وأن يتقوه بفعل
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31
(2) سورة الأنفال الآية 25
(3) سورة التوبة الآية 71
(4) سورة الحجر الآية 45
(5) سورة القلم الآية 34
(6) سورة التحريم الآية 6(6/131)
أوامره واجتناب نواهيه، وأن يتحابوا في الله، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر؛ لأن في ذلك سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة.
ولأن ذلك أيضا من أسباب نصرهم على أعدائهم وحمايتهم من مكائدهم وشرهم، كما قال الله عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3) والتقوى هي طاعة الله ورسوله، والاستقامة على دينه، وإخلاص العبادة لله وحده والتمسك بشريعة رسوله- صلى الله عليه وسلم - قولا وعملا وعقيدة، وهي الإيمان والعمل الصالح، وهي الإسلام الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} (4)
وقال عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (5) وقال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (6) وقال عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (7) الآية.
وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (8) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (9) وقال سبحانه موصيا لعباده المؤمنين بالصبر والتقوى والحذر من أعداء الله: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (10) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة الحج الآية 41
(3) سورة محمد الآية 7
(4) سورة لقمان الآية 8
(5) سورة النحل الآية 97
(6) سورة النور الآية 55
(7) سورة آل عمران الآية 19
(8) سورة المائدة الآية 3
(9) سورة آل عمران الآية 85
(10) سورة آل عمران الآية 120(6/132)
ولا يخفى ما وقع في هذه الأيام من عدوان دولة العراق على دولة الكويت واجتياحها بالجيوش والأسلحة المدمرة، وما ترتب على ذلك من سفك الدماء ونهب الأموال وهتك الأعراض وتشريد أهل البلاد وحشد الجيوش على الحدود السعودية الكويتية، ولا شك أن هذا من دولة العراق عدوان عظيم وجريمة شنيعة، يجب على الدول العربية والإسلامية إنكارها، وقد أنكرها العالم واستبشعها لمخالفتها للشرع المطهر والمواثيق المؤكدة بين الدول العربية والدول الإسلامية وغيرهم إلا من شذ عن ذلك ممن لا يلتفت إلى خلافه، ولا شك أن ما حصل بأسباب الذنوب والمعاصي وظهور المنكرات وقلة الوازع الإيماني والسلطاني.
فالواجب على جميع المسلمين أن ينكروا هذا المنكر، وأن يناصروا الدولة المظلومة، وأن يتوبوا إلى الله من ذنوبهم وسيئاتهم وأن يحاسبوا أنفسهم في ذلك، وأن يتعاونواعلى البر والتقوى أينما كانوا ويتناصحوا ويتواصوا بالحق والصبر عليه في جهاد أنفسهم وفى جهاد عدوهم ومن اعتدى عليهم، وأن يعتصموا بحبل الله جميعا وأن يكونوا صفا واحدا وجسدا واحدا وبناء واحدا ضد العدو وضد الظالم، سواء كان مسلما أو غير مسلم. كما قال عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1)
وقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (2) ثم قال عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5) وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (6) » وقال - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه (7) » والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
والواجب على رئيس دولة العراق أن يتقي الله ويتوب إليه، وأن يبادر بسحب
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة آل عمران الآية 103
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3
(6) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(7) صحيح البخاري المظالم والغصب (2446) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) .(6/133)
جيشه من دولة الكويت، ثم يحل المشكلة التي بينه وبين دولة الكويت بالحلول السلمية والصلح العادل والتفاهم المنصف. فإن لم يتيسر ذلك فالواجب تحكيم الشرع المطهر بتكوين محكمة شرعية مكونة من جماعة من العلماء المعروفين بالعلم والفضل والعدالة للحكم بينهم، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) وقال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) الآية.
وقال عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (3) وقال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (4) أقسم سبحانه في هذه الآية الكريمة أن الناس لا يؤمنون حتى يحكموا نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - فيما شجر بينهم.
ونسأل الله لجميع قادة المسلمين من العرب وغيرهم التوفيق والهداية لما فيه سعادة الجميع وصلاح قلوبهم وأعمالهم واستتباب الأمن بينهم، كما نسأله أن يعيذ الجميع من طاعة الهوى والشيطان إنه سميع قريب.
وأما ما اضطرت إليه الحكومة السعودية من الأخذ بالأسباب الواقية من الشر والاستعانة بقوات متعددة الأجناس من المسلمين وغيرهم للدفاع عن البلاد وحرمات المسلمين وصد ما قد يقع من العدوان من رئيس دولة العراق فهو إجراء مسدد وموفق وجائز شرعا، وقد صدر من مجلس هيئة كبار العلماء- وأنا واحد منهم- بيان بتأييد ما اتخذته الحكومة السعودية في ذلك، وأنها قد أصابت فيما فعلته، عملا بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (5) وقوله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (6) ولا شك أن الاستعانة بغير المسلمين في الدفاع عن المسلمين
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) سورة المائدة الآية 50
(4) سورة النساء الآية 65
(5) سورة النساء الآية 71
(6) سورة الأنفال الآية 60(6/134)
وعن بلادهم وحمايتها من كيد الأعداء أمر جائز شرعا بل واجب متحتم عند الضرورة إلى ذلك لما في ذلك من إعانة للمسلمين وحمايتهم من كيد اعدائهم وصد العدوان المتوقع عنهم، وقد استعان النبي - صلى الله عليه وسلم - بدروع استعارها من صفوان بن أمية يوم حنين وكان كافرا لم يسلم ذلك الوقت، وكانت خزاعة مسلمها وكافرها في جيش النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح ضد كفار أهل مكة.
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنكم تصالحون الروم صلحا آمنا وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم فتنصرون وتغنمون (1) » أخرجه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد صحيح.
ونصيحتي لأهل الكويت وغيرهم من المسلمين في كل مكان ولرئيس دولة العراق وجيشه أن يجددوا توبة نصوحا وأن يندموا على ما سلف من الذنوب، وأن يقلعوا منها، وأن يعزموا عزما صادقا على عدم العودة فيها؛ لأن الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة قد دلت على أن كل شر في الدنيا والآخرة وكل بلاء وفتنة فأسبابه المعاصي، وما كسبته أيدي العباد من المخالفة لشرع الله كما قال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (2) وقال عز وجل: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (3) وقال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (4)
ولما وقعت الهزيمة يوم أحد على المسلمين وأصابهم ما أصابهم من القتل والجراح بأسباب إخلال الرماة بموقفهم وتنازعهم وفشلهم وعصيانهم أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم بلزوم الموقف وإن رأوا المسلمين قد انتصروا، واستنكر المسلمون ذلك وعظم عليهم الأمر، أنزل الله قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} (5) يعني يوم بدر {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (6)
وقد أخبر سبحانه في كتابه العظيم أن التوبة سبب للفلاح وتكفير السيئات،
__________
(1) سنن أبو داود الجهاد (2767) ، سنن ابن ماجه الفتن (4089) ، مسند أحمد بن حنبل (4/91) .
(2) سورة الشورى الآية 30
(3) سورة النساء الآية 79
(4) سورة الروم الآية 41
(5) سورة آل عمران الآية 165
(6) سورة آل عمران الآية 165(6/135)
والفوز بالجنة والكرامة، فقال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) وقال سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (2) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (3) الآية.
ومن أعظم مظاهر التوبة وأوجبها الإخلاص لله وحده في جميع الأعمال، والحذر من الشرك كله دقيقه وجليله، وصغيره وكبيره، والعناية بالصلوات الخمس وإقامتها في أوقاتها من الرجال والنساء، والمحافظة عليها من الرجال في المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، والعناية بالزكاة والصيام وحج البيت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتناصح والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه.
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، ويصلح قلوبهم وأعمالهم، ويمنحهم الفقه في الدين، وأن يصلح قادتهم جميعا ويوفقهم لتحكيم شريعته، والتحاكم إليها، والرضا بها، وترك ما يخالفها، وأن يصلح لهم البطانة ويعينهم على كل خير ويهديهم جميعا صراطه المستقيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا وإمامنا وسيدنا إمام المتقين وقدوة المجاهدين وخير عباد الله أجمعين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة طه الآية 82
(3) سورة التحريم الآية 8(6/136)
وصية لجميع المسلمين
بمناسبة غزو العراق للكويت
س: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز هناك هلع وفزع أصاب بعض المسلمين في هذا البلد من جراء قرب توقع الحرب، حيث بادر الكثير بشراء السلع والمواد الغذائية بكميات كبيرة بغية تخزينها إضافة إلى قيام البعض الآخر بالاستعداد لمغادرة مدينة الرياض خوفا من نشوب الحرب، فهل هناك من كلمة توجهونها لهم بهذا الشأن؟
جـ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فإن وصيتي لجميع المسلمين في المملكة العربية السعودية، وفي دول الخليج، وفي كل مكان، أن يتقوا الله عز وجل وأن يستقيموا على دينه في جميع الأوقات، ولا سيما في مثل هذه الظروف التي لا تخفى على الجميع، وهي ما جرى من الأحداث في الخليج بأسباب عدوان حاكم العراق على دولة الكويت. والواجب على المسلمين دائما أن يتقوا الله سبحانه وتعالى، وأن يستقيموا على دينه، وأن يحذروا ما حرم الله عليهم من قول وعمل؛ لأن الطاعات هي سبب الخير في الدنيا والاخرة، وهي سبب الأمن والسعادة وإطفاء الفتن.
أما المعاصي فهي أسباب الشر في الدنيا والآخرة. وكل خير في الدنيا والآخرة فسببه طاعة الله واتباع شريعته، وكل شر في الدنيا والآخرة فسببه معصية الله والكفر به والانحراف عن دينه.
وهذه الأحداث التي وقعت في الخليج أسبابها ما قدمته أيدي العباد من مخالفة لأمر الله وانتهاك لمحارم الله، كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1)
__________
(1) سورة الشورى الآية 30(6/137)
وقال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1) وقال سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (2) الآية.
فالواجب على كل مسلم أن يحاسب نفسه، وأن يراقب ربه، وذلك بفعل الأوامر وترك النواهي، والمبادرة بالتوبة الصادقة من جميع الذنوب، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3)
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (4) والتوبة النصوح هي مشتملة على الندم على ما مضى من المعاصي، وعلى الإقلاع منها وتركها، والحذر منها، وعلى العزم الصادق على عدم العودة إليها طاعة لله وتعظيما له وإخلاصا له ورغبة فيما عنده وحذرا من عقابه سبحانه وتعالى.
وبهذا تدفع الشرور ويحصل الأمن، ويشتت الله الأعداء ويذلهم ويجعل دائرة السوء عليهم، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (5)
ومن نصر الله الاستقامة على طاعته والتوبة إليه من جميع المعاصي والإعداد لجهاد الأعداء والصبر والمصابرة في جهادهم، وبذلك يحصل النصر والتأييد لأولياء الله وأهل طاعته. ويحصل الإذلال والهزيمة على أعداء الله.
يقول الله سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (6) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (7) فوصيتي للجميع التوبة إلى الله والضراعة إليه، وطلب النصر والتأييد على أعداء الله، والمبادرة بكل ما يرضي الله ويقرب إليه ظاهرا وباطنا.
__________
(1) سورة الروم الآية 41
(2) سورة النساء الآية 79
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة التحريم الآية 8
(5) سورة محمد الآية 7
(6) سورة الحج الآية 40
(7) سورة الحج الآية 41(6/138)
والإيمان بأنه سبحانه هو الذي بيده النصر كما قال سبحانه: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ} (1) ليس النصر بالأسباب، وإنما هي أسباب، وليس النصر بالجيوش وإنما هي أسباب، قال جل وعلا في كتابه العظيم: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (2) {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) فالنصر من عنده عز وجل، ولكنه سبحانه أمر بالأسباب، وأمر بالإعداد للعدو وأخذ الحذر، وأمر بإعداد الجيوش والسلاح المناسب، كما قال سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (4) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (5) هكذا يجب على المسلمين أن يعدوا العدة وأن يجاهدوا عدوهم بكل ما يستطيعون من أنواع السلاح والمصابرة، وأبشر إخواني جميعا أن الله سينصر دينه، وسينصر حزبه، وسيهزم عدوه.
ولا شك أن حاكم العراق تعدى وظلم وبغى على جيرانه، وأحدث فتنة عظيمة سوف يجد عقابها وجزاءها إلا أن يتوب إلى الله توبة صادقة ويؤدي الحق لأهله. والواجب جهاده حتى يخرج من الكويت ويرجع إلى الحق والصواب، والمجاهدون لهذا الطاغية على خير عظيم، فمن أخلص لله في جهاده فهو إن عاش عاش حميدا مأجورا عظيم الأجر، وإن قتل قتل شهيدا لكونه جاهد في سبيل الله لإنقاذ وطن مسلم ولنصر مظلومين ولردع ظالم تعدى وبغى وظلم مع كفره وخبث عقيدته الإلحادية.
ووصيتي للمسلمين جميعا أن يحسنوا ظنهم بالله وأن يطمئنوا لنصره عز وجل، فهو سبحانه الناصر لأوليائه وأهل طاعته، وهو الذي يقول جل وعلا: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (6) فالعاقبة لأهل الإيمان المتقين لله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (7)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 126
(2) سورة الأنفال الآية 9
(3) سورة الأنفال الآية 10
(4) سورة الأنفال الآية 60
(5) سورة النساء الآية 71
(6) سورة هود الآية 49
(7) سورة الحج الآية 38(6/139)
وقد خان الأمانة هذا الطاغية- طاغية العراق - وكفر النعمة وأساء إلى جيرانه بعدما أحسنوا إليه وساعدوه في أوقاته الحرجة، ولكنه كفر النعمة وأساء الجوار وظلم وتعدى، وسوف يجد العاقبة الوخيمة.
يقول النبي- صلى الله عليه وسلم -: «ما من ذنب أجدر من أن يعجل الله به العقوبة من البغي وقطيعة الرحم (1) » وهذا قد بغى وظلم، والله جل وعلا يقول: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} (2) ويقول سبحانه: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (3) ولا مانع من أخذ الأسباب وقت الحرب، ولا مانع من كون المسلمين يتخذوا الأسباب التي تنفعهم في وقت الحرب، فهم مأمورون بأخذ الأسباب في جميع الأمور، كما أنهم مأمورون بأخذ السلاح والإعداد للعدو، فهم مأمورون أيضا بالأسباب الأخرى كحاجتهم وحاجات بيوتهم من الطعام والزاد وغير ذلك.
كل ذلك مأمورون به ولا حرج فيه، لكن مع حسن ظنهم بالله ومع الاستقامة على دينه ومع التوبة إليه سبحانه من جميع الذنوب، هذا هو الواجب على الجميع، والأسباب هم مأمورون بها وهي حق ولكنها من التوكل، والتوكل على الله واجب في جميع الأمور، وهو يشمل أمرين: -.
أحدهما: الثقة بالله والاعتماد عليه، والإيمان بأنه الناصر، وأنه مصرف الأمور، وأن بيده كل شيء سبحانه وتعالى.
والأمر الثاني: الأخذ بالأسباب من جميع الوجوه؛ لأن الله أمر بها، قال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (4) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (5) وقال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} (6) الآية، وقد لبس النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد درعين، وأخذ بالأسباب يوم الخندق، وهكذا يوم الفتح، كل هذا من باب
__________
(1) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2511) ، سنن أبو داود الأدب (4902) ، سنن ابن ماجه الزهد (4211) ، مسند أحمد بن حنبل (5/36) .
(2) سورة الفرقان الآية 19
(3) سورة الشورى الآية 8
(4) سورة الأنفال الآية 60
(5) سورة النساء الآية 71
(6) سورة النساء الآية 102(6/140)
الأسباب، فالإعداد للعدو، وهكذا بقية الأسباب من توقي شر الحروب وإعداد ما يحتاجه العوائل والبيوت، كل ذلك أمر مطلوب وليس فيه مخالفة لأمر الله، وليس فيه أيضا إخلال بالتوكل، بل التوكل يشمل الأمرين: الثقة بالله والاعتماد عليه، والإيمان بأنه الناصر جل وعلا مع الأخذ بالأسباب، هذا ما يجب على المسلمين.
ونسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يهزم حاكم العراق ويشتت شمله، وأن يدير عليه دائرة السوء، وينصر المسلمين عليه ويعينهم على كل خير، وأن ينصر المظلومين ويعيد إليهم بلادهم، وأن يهديهم وجميع المسلمين سواء السبيل.
ونسأل الله أن يجعل العاقبة حميدة للجميع، وأن يجعل هذه الحوادث عظة للمؤمنين وسببا لاستقامتهم على دينهم، وسببا لتوبة الجميع من كل ذنب إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(6/141)
الغزو العراقي جريمة عظيمة (1)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فبمناسبة ما جرى من الحوادث هذه الأيام بسبب احتلال الرئيس العراقي دولة الكويت واجتياحه لها بالقوات المسلحة المتنوعة، وما جرى بسبب ذلك من الفساد العظيم وسفك الدماء ونهب الأموال وانتهاك الأعراض، رأيت أن أبين لإخواني المسلمين في هذا الحديث ما يجب حول هذا الحادث فأقول: -
لا شك أن هذا الحادث حادث مؤلم، ويحزن كل مسلم، ولا شك أنه جريمة عظيمة وعدوان شديد من الزعيم العراقي على دولة مجاورة مسلمة، فالواجب عليه التوبة إلى الله سبحانه من ذلك، وسحب جميع جيوشه من دولة الكويت، وحل المشاكل بالطرق السلمية التي شرعها الله لعباده، كما قال جل وعلا: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (2) وقال في الفئة الباغية: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (3)
فالمشاكل التي تقع بين الدولتين أو الدول والقبيلتين أو الأفراد يجب أن تحل بالوسائل الشرعية لا بالقوة والعدوان والظلم، يقول الله سبحانه في كتابه العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (4) قال العلماء: الرد إلى الله تعالى: الرد إلى كتابه العظيم القرآن الكريم. والرد إلى
__________
(1) نشرت في مجلة الدعوة في 10\2\1411 هـ بعددها 1255.
(2) سورة النساء الآية 128
(3) سورة الحجرات الآية 9
(4) سورة النساء الآية 59(6/142)
الرسول - صلى الله عليه وسلم -: الرد إليه في حياته عليه الصلاة والسلام، وبعد وفاته: الرد إلى سنته.
وقال عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) فالواجب على المتنازعين، سواء كانا دولتين أو قبيلتين أو جماعتين أو فردين رد النزاع والمشاكل إلى حكم الله إلا أن يتيسر الصلح فالصلح خير.
والواجب على الرئيس العراقي حل الخلاف بالصلح والمفاوضة السلمية وتوسيط الأخيار، فإن لم يتيسر الصلح وجب الرد إلى الكتاب والسنة عن طريق محكمة شرعية يتولاها علماء الحق، تعرض عليهم المشكلة ويحكمون فيها بشرع الله كما أمر سبحانه، هذا هو الواجب على كل دولة منتسبة إلى الإسلام؛ لأن الله جل وعلا يقول: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) ويقول جل وعلا: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (3) فالذي ننصح به رئيس العراق أن يتقي الله وأن يسحب جيوشه من دولة الكويت وينهي هذه المشكلة، وأن يرضى بحكم الله في ذلك إذا لم يتيسر الصلح.
ولا شك أن الرجوع إلى الحق خير وفضيلة، ويشكر صاحبه عليه، وهو خير له من التمادي في الخطأ والباطل، وننصح الجميع بالاستقامة على دين الله، والحكم بشريعته والتواصي بطاعته وترك معصيته، وعدم تحكيم القوانين الوضعية وآراء الرجال، وهذا هو طريق العزة وطريق العدالة وطريق السعادة والكرامة. ولا شك أن كل بلاء يحصل للمسلمين وكل شر ومصيبة فأسبابها الذنوب والمعاصي، كما قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (4) وقال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (5) وقال سبحانه:
__________
(1) سورة الشورى الآية 10
(2) سورة النساء الآية 65
(3) سورة المائدة الآية 50
(4) سورة الشورى الآية 30
(5) سورة الروم الآية 41(6/143)
{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (1) فالواجب على الجميع التوبة إلى الله والرجوع إليه والاستقامة على دينه والندم على ما مضى من السيئات والمخالفات والعدوان.
هذا هو الواجب على جميع الدول الإسلامية والعربية وعلى جميع المسلمين، وعلى الجميع أن يتقوا الله وأن يعظموا شرعه، وأن يتوبوا إليه من تقصيرهم وذنوبهم، وأن يعلموا أن ما أصابهم فهو بسبب ذنوبهم وسيئاتهم، فالتوبة إلى الله فيها الخير العظيم والسعادة في الدنيا والآخرة، والله جل وعلا قد يملي للظالم ولا يأخذه بسرعة، بل يملي ولا يغفل سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (2) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم تلا قوله سبحانه: (4) » .
فنصيحتي لنفسي ولجميع المسلمين في كل مكان، أن يتقوا الله ويتوبوا إليه، ويستقيموا على دينه، وأن يخلصوا له العبادة، وأن يحذروا ما حرم عليهم سبحانه، ولا شك أن الرجوع إلى الحق والحرص على تحكيم الشرع والحذر مما يخالفه هو طريق أهل الإيمان وسبيلهم، وهو طريق العزة والكرامة، وهو طريق الإنصاف والحكمة، وهو الواجب على كل المسلمين دولا وشعوبا وأفرادا وجماعات، وأما ما وقع من الحكومة السعودية من طلب الاستعانة من دول شتى للدفاع وحماية أقطار المسلمين لأن عدوهم لا يؤمن هجومه عليهم، كما هجم على دولة الكويت - فهذا لا بأس به، وقد صدر من هيئة كبار العلماء- وأنا واحد منهم- بيان بذلك أذيع في الإذاعة ونشر في الصحف، وهذا لا شك في جوازه، إذ لا بأس أن يستعين المسلمون بغيرهم للدفاع عن بلاد المسلمين وحمايتهم وصد العدوان عنهم،
__________
(1) سورة النساء الآية 79
(2) سورة إبراهيم الآية 42
(3) صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن (4686) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2583) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3110) ، سنن ابن ماجه الفتن (4018) .
(4) سورة هود الآية 102 (3) {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}(6/144)
وليس هذا من نصر الكفار على المسلمين الذي ذكره العلماء في باب حكم المرتد، فذاك أن ينصر المسلم الكافر على إخوانه المسلمين، فهذا هو الذي لا يجوز، أما أن يستعين المسلم بكافر ليدفع شر كافر آخر أو مسلم معتد، أو يخشى عدوانه فهذا لا بأس به وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه استعان بدروع أخذها من صفوان بن أمية استعارها منه - وكان صفوان كافرا - في قتال له لثقيف يوم حنين، وكانت خزاعة مسلمها وكافرها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتاله لكفار قريش يوم الفتح، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنكم تصالحون الروم صلحا آمنا ثم تقاتلون أنتم وهم عدوا من ورائكم (1) » فهذا معناه الاستعانة بهم على قتال العدو الذي من ورائنا.
والمقصود أن الدفاع عن المسلمين وعن بلادهم يجوز أن يكون ذلك بقوة مسلمة، وبمساعدة من نصارى أو غيرهم عن طريق السلاح، وعن طريق الجيش الذي يعين المسلمين على صد العدوان عنهم، وعلى حماية بلادهم من شر أعدائهم ومكائدهم.
والله جل وعلا يقول في كتابه العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (2) فأمرنا بأخذ الحذر من أعدائنا وقال عز وجل: {مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (3) وهكذا من يعتدي علينا ولو كان مسلما أو ينتسب إلى الإسلام، فإذا خشي المسلمون عدوانه جاز لهم أيضا أن يستعينوا بمن يستطيعون الاستعانة به لصد عدوان الكافر ولصد عدوان المعتدي وظلمه عن بلاد المسلمين وعن حرماتهم، والواجب على المسلمين التكاتف والتعاون على البر والتقوى ضد أعدائهم، وإذا احتاجوا فيما بينهم لمن يساعدهم على عدوهم أو على من يريد الكيد لهم والعدوان عليهم ممن ينتسب للإسلام، فإن لهم أن يستعينوا بمن يعينهم على صد العدوان وحماية أوطان المسلمين وبلادهم كما تقدم.
__________
(1) سنن أبو داود الملاحم (4292) ، سنن ابن ماجه الفتن (4089) ، مسند أحمد بن حنبل (4/91) .
(2) سورة النساء الآية 71
(3) سورة الأنفال الآية 60(6/145)
وأكرر نصيحتي لجميع زعماء المسلمين ولجميع الدول العربية والإسلامية أن يتقوا الله ويحكموا شريعته في كل شيء، وأن يحذروا ما يخالف شرعه، وأن يبتعدوا عن الظلم مهما كان نوعه، هذا هو طريق النجاة وهذا هو طريق السعادة والسلامة.
رزق الله الجميع التوفيق والهداية، ووفق جميع المسلمين للاستقامة على دينه، والتوبة إليه من جميع الذنوب، وأصلح أحوالنا جميعا، ووفق قادة المسلمين جميعا وعامة المسلمين لكل ما فيه رضاه، ولكل ما فيه صلاح الدنيا والآخرة إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان.(6/146)
هذه الواقعة عبرة وعظة وذكرى لنا جميعا (1)
(في اختتام المؤتمر الإسلامي العالمي لمناقشة الأوضاع الحاضرة في الخليج والذي نظمته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وجه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي والرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الكلمة التالية) :
الحمد لله تعالى، إن الدين النصيحة، وعلى علماء المسلمين أينما كانوا أن يناصروا الله وأن يبينوا للحاكم ما يجب عليه، وما يحرم عليه حتى يكون على بينة وعلى بصيرة، وأن يكون ذلك بالأسلوب المناسب وبالأسلوب الطيب الذي يدعو للقبول والرضا وعدم النفرة.
كذلك يجب التناصح بين العلماء في بيان الدعوة إلى الله وتوجيه الناس إلى الخير في المساجد والمجتمعات، وتشجيع من يقوم بواجبه في الدعوة إلى الله عز وجل، وهكذا تشجيع الخطباء في تحري الخطب المناسبة التي تنفع الناس على مقتضى الكتاب والسنة، وألا يتكلم إلا عن علم وبصيرة بما يحل ويحرم. فالمسلمون أشد حاجة إلى الدعوة والنصيحة، وغيرهم في حاجة إلى الدعوة والبلاغ والبيان لعلهم يهتدون.
وهذه الواقعة التي وقعت من حاكم العراق على دولة الكويت وما جاء بعدها فيها عبرة وعظة وفيها ذكرى لنا جميعا، نسأل الله أن ينفعنا بذلك وأن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وأن يوفقنا إلى ما فيه صلاح قلوبنا وصلاح أعمالنا، وأن يهدينا جميعا لما يرضيه، ويقربنا إليه.
والواجب على كل مسلم ومسلمة الجهاد بالنفس والحساب لها، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (2) ويقول جل وعلا: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (3)
__________
(1) نشرت هذه الكلمة في مجلة الدعوة في 1\3\1411 هـ بعددها 1258.
(2) سورة الحشر الآية 18
(3) سورة العنكبوت الآية 69(6/147)
والواجب على الأمير والحاكم والقاضي وكل مسئول أن يتقي الله ويحاسب نفسه ويجاهدها في الله، وأن يستقيم على دين الله وأن يحذر محارم الله، وأن يقدم التوبة النصوح من كل ما سلف.
وهكذا كل مؤمن وكل مؤمنة، والواجب على الجميع جهاد النفس لعلها تستقيم وتبتعد عن طاعة الهوى والشيطان لعلها تلزم الحق. والواجب شكر الله عند السراء والصبر عند البلاء، مع التوبة من التقصير والذنوب.
هذا هو الواجب على جميع المسلمين، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له (1) » رواه مسلم فالمؤمن يشكر عند الرخاء والنعمة، ويصبر عند البلاء يجاهدها ويتوب إلى الله، ويستقيم على دين الله، ويبتعد عن محارم الله، يناصر إخوانه، يدعوهم إلى الخير، يحاسب أهل بيته، ويدعوهم إلى الخير، ويأمر بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
وهكذا مع إخوانه ومع زملائه وجيرانه، ينصحهم لله ويدعوهم إلى الحق بالأسلوب الحسن والطيب، ويحذرهم من مغبة المعاصي والشرور لعلهم يتوبون ويرجعون.
ونسأل الله أن يوفقنا جميعا والمسلمين لكل ما فيه رضاه وصلاح العباد، وأن يوفق شعب العراق، وأن يعينهم على إبدال هذا الرئيس الفاجر الخبيث بأصلح منه، ينفعهم في الدنيا والآخرة، وأن يعينهم على طاعة الله، نسأل الله أن يبدلهم بخير منه، من يرحم العباد ويحكم فيهم شرع الله ويعينهم على طاعة الله.
ونسأل الله أن يوفق شعب العراق بإمام صالح، وبحاكم صالح، ويعينهم على
__________
(1) صحيح مسلم الزهد والرقائق (2999) ، مسند أحمد بن حنبل (6/16) ، سنن الدارمي الرقاق (2777) .(6/148)
طاعة الله، ويرحم صغيرهم، ويواسي كبيرهم، ويعينهم على كل خير، ويحكم شرع الله عز وجل فيهم.
ونسأل الله أن يزيل الحاكم صدام حسين، وأن يدير عليه دائرة السوء، وأن ينزل في قلبه من الرعب والخوف ما يحمله على سحب جيوشه من الكويت ومن الحدود، إنه جل وعلا جواد كريم.
وأشكركم مرة أخرى على جهودكم وأعمالكم، ونسأل الله أن يتقبل من الجميع إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه.(6/149)
عمل صدام عدوان أثيم (1)
فلا شك أن عمل الزعيم العراقي من اجتياحه الدولة الكويتية وما ترتب على ذلك من سفك الدماء ونهب الأموال وانتهاك الأعراض، لا شك أن هذا عدوان أثيم وجريمة عظيمة ومنكر شنيع يجب عليه التوبة إلى الله من ذلك والبدار بإخراح جيشه من الدولة الكويتية؛ لأن هذا الإقدام والاجتياح أمر منكر بل مخالف للشرع ولجميع القوانين العرفية، ولما تم عليه التعاهد بينه وبين قادة العرب في جامعتهم العربية.
والواجب عليه حل المشاكل بالطرق السلمية والمفاوضات، وإذا لم تنجح المفاوضات والطرق السلمية وجب رد الأمر إلى محكمة شرعية - لا قانونية- ويجب أن ترد جميع المنازعات بين الدول والأفراد والقبائل إلى الحكم الشرعي، بأن تشكل محكمة شرعية من علماء أهل الحق والسنة حتى يحكموا بما تنازع عليه المسلمون من دولتين أو قبيلتين أو أفراد. وإن هذا العمل الذي قام به صدام ضد الكويت هو عمل إجرامي يجب التوبة منه وعدم التمادي، والرجوع إلى الحق فضيلة وحق، خير من التمادي في الرذيلة والخطأ. وقد صدر بيان من مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية يبين خطأ هذا العمل، وأنه عدوان وجريمة وخيانة. ووضح في بيان العلماء- والذي أنا أحد أعضائه- أنه لا مانع من الاستعانة ببعض الكفار للجيوش الإسلامية والعربية ولا بأس من الاستعانة لصد عدوان المعتدي والدفاع عن البلاد وعن حرمة الإسلام والمسلمين.
أما الإشاعات حول الحرمين الشريفين فإنهما بحمد الله بمنأى عن الزعيم العراقي
__________
(1) نشر في الجزيرة بتاريخ 26\1\1411 هـ الموافق 17\8\1990م (صفحة المحيط الدولي) .(6/150)
وغيره، وهما آمنان بحمد الله.
وكل ما في الأمر أن الدولة السعودية احتاجت إلى الاستعانة ببعض الجيوش من جنسيات متعددة، ومن جملتهم الولايات المتحدة، وإنما ذلك للدفاع المشترك مع القوات السعودية عن البلاد والإسلام وأهله، ولا حرج في ذلك؛ لأنه استعانة لدفع الظلم وحفظ البلاد وحمايتها من شر الأشرار وظلم الظالمين وعدوان المعتدين، فلا حرج كما قرره أهل العلم وبينوه. وأما ما أشاعته بعض الأقليات الإسلامية التي صدقت أقوال صدام وأكاذيبه حول تدخل الإمبريالية في شئون المسلمين ومقدساتهم وغيرها من الإشاعات الباطلة، فإن هذا خطأ كبير، والذي أشاعه هو حزب صدام وهو حزب قومي وليس حزبا إسلاميا، وحتى لو كانوا مسلمين إذا تعدوا وجب ردعهم ولو بالاستعانة ببعض الكفرة، وعلى طريقة سلمية كما هي يدفع بها الشر وتحمى بها البلاد، والرسول - صلى الله عليه وسلم - استعان بصفوان بن أمية يوم حنين لحرب أهل الطائف. وبذلك فإن الاستعانة بالكفار على من تعدى وظلم يجوز على الكفار أو على أي متعد وظالم، والذي لا يجوز هو أن ينصر كفار على مسلمين، أما هذا الوضع فهو يحمي المسلمين وأراضيهم من المجرمين والمعتدين والكافرين، وفرق بين الاثنين، بين إنسان ينصر الكفار على المسلمين ويعينهم على المسلمين وهذه هي الردة، لا تجوز، وهذا منكر. أما كما هو الحال بالمملكة من الاستعانة بالكفار لردع المعتدي وصده، سواء كان كافرا أو مسلما عن بلاد الإسلام والمقدسات فهذا أمر مطلوب ولازم؛ لأنه لحماية المسلمين ورد الأذى عنهم، سواء كان كافرا أو مسلما. والواجب على الزعيم العراقي أن يتوب إلى الله ويرجع عما هو عليه من الباطل، ويترك حزب الشيطان، وعليه أن يلتزم بالإسلام، وأن يسود الرعية ويحكم فيهم بالإسلام وندعو له بالهداية.
وأكد سماحته في إجابته على سؤال للجزيرة حول إمكانية إيجاد محكمة دولية شرعية لحل المنازعات بين الدول فقال:(6/151)
يجب على جميع الدول الإسلامية والعربية حل منازعاتهم بالطرق الشرعية بمحكمات شرعية في كل بلد محكمة أخرى تكون دولية تحكم بين الدول. وفي البلدان الإسلامية يجب أن يكون هناك محكمة شرعية لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) ويقول جل وعلا: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (2) ويقول سبحانه وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) فإذا تنازعت دولتان أو أكثر وجب أن يحكم بينهما علماء الإسلام بحكم الشريعة فيما تنازعوا به على ضوء الكتاب والسنة، لا بقوانين في البلدان أو بآراء الرجال بل بشرع الله.
ووجه سماحته النصح للجيش العراقي وعدم التمادي في الأعمال المنكرة، والواجب على الجنود العراقيين وعلى كل مسلم أن يحترم مال المسلم ودمه وعرضه وأهله، ولا يجوز التعدي على أي مسلم لا في الكويت ولا في غيره، لا في ماله ولا في عرضه، ولا في دمه. قال عليه الصلاة والسلام: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (4) » .
وهذا العدوان من العراق لا يبرر للجنود وأفراد الجيش أن يتعدوا على الكويتيين أو غيرهم، ويأخذوا أموالهم، أو يضربوا أجسادهم، أو يقتلوهم أو يقتلوا صبيانهم، أو يتعدوا على نسائهم، كل ذلك منكر وحرام لا يجوز، والواجب أن يتقوا الله وأن يحذروا ما حرم الله وأن لا يقدموا على أمر يغضب الله عليهم ويسبب دخولهم النار والبعد عن رحمته ورضوانه.
وأوصى سماحته الأشقاء الكويتيين في تصريحه لـ (الجزيرة) بالاستعانة بالصبر وتقوى الله فقال:
أوصي شعب الكويت المظلوم بتقوى الله، وأن يستقيموا على دينه، وأن يتوبوا
__________
(1) سورة الشورى الآية 10
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة النساء الآية 65
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، مسند أحمد بن حنبل (2/277) .(6/152)
إليه عن سالف ذنوبهم، وأن يسألوا الله النصر على العدو، وأن يعيدهم إلى بلادهم سالمين، وسوف يعوضهم الله خيرا مما أخذ منهم بالتوبة النصوح، يعطيهم الله ما فاتهم ويعوضهم خيرا منه سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (2)
ونسأل الله أن يمن علينا وعليهم بالتوبة، وكل منا على خطر، وكل مسلم في أي مكان في السعودية أو الكويت أو الشام أو اليمن، وفي كل مكان، عليه محاسبة النفس ومجاهدتها في الله، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
لذلك فإن على جميع إخواننا بالكويت وعلى جميع المسلمين بالمملكة العربية السعودية وكل مكان عليهم تقوى الله، وأن يجاهدوا أنفسهم في طاعة الله وأن يصبروا على ما أصابهم من مصائب، كما أن عليهم الاستقامة على الحق والتواصي به، والتناصح في الله، أصلح الله لهم ما كان فاسدا، ورد عليهم ما كان شاردا، وعوضهم خيرا مما أصابهم، وجعل لهم العاقبة الحميدة سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (3) وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (4) ومن يتق الله يوفقه الله ويعوضه خيرا مما أخذ منه، ويسأله الرحمة العامة والشاملة التي تعم أمر دينه ودنياه وآخرته.
وفي ختام تصريح سماحته قال:
كلمتي نصيحة عامة للمسلمين جميعا: أن يتقوا الله وأن يلتزموا بشرع الله، وأن يتدبروا القرآن العظيم ويعتنوا بالسنة المطهرة، وأن ينظموا أعمالهم على ضوء الكتاب والسنة، وأن تكون أعمالهم وأقوالهم وخلافاتهم كلها ترجع إلى الكتاب والسنة لا إلى القوانين الوضعية، بل يجب أن تكون كلها محكومة بكتاب الله وسنة رسوله، وأن
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة التحريم الآية 8
(3) سورة العنكبوت الآية 69
(4) سورة آل عمران الآية 120(6/153)
يلتزموا بهذا أفرادا وجماعات ودولا، وهذا هو الواجب على المسلمين أن يتحاكموا إلى شرع الله، وأن يستقيموا على دين الله، وأن يعملوا بما أمر دين الله، ويدعوا ما حرم الله؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} (1) ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (2) ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (3)
فمأمورون بتقوى الله جميعا والحفاظ على دينه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (4) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (6) {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (7) {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} (8)
وهذا هو الواجب على الناس جميعا أن يتقوا الله ويعبدوه وحده ويحكموا شريعته وينقادوا لأمره ويحذروا نهيه سبحانه، وأن يقفوا عند حدوده، وأن يتواصوا بهذا ويتناصحوا كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (9) ويقول سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (10) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (11) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (12) ويقول- صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحه الدين النصيحة الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (13) » ، ويقول جرير بن عبد الله البجلي: «بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - على إقامة الصلاة وعلى إيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (14) » .
__________
(1) سورة النساء الآية 1
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة الحج الآية 1
(4) سورة الأحزاب الآية 70
(5) سورة الأحزاب الآية 71
(6) سورة الحشر الآية 18
(7) سورة الحشر الآية 19
(8) سورة الحشر الآية 20
(9) سورة المائدة الآية 2
(10) سورة العصر الآية 1
(11) سورة العصر الآية 2
(12) سورة العصر الآية 3
(13) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(14) صحيح البخاري الزكاة (1401) ، صحيح مسلم الإيمان (56) ، سنن الترمذي البر والصلة (1925) ، سنن النسائي البيعة (4174) ، مسند أحمد بن حنبل (4/364) ، سنن الدارمي البيوع (2540) .(6/154)
وهذا هو الواجب على مستوى الشعوب ورؤساء الدول الإسلامية، أن يتناصحوا وأن يتواصوا بالحق، وأن يحكموا بشرع الله لا بالقوانين التي يضعونها بأنفسهم.
ودعا سماحته في ختام تصريحه الله عز وجل بالهداية للجميع والتوفيق للمسلمين، وأن يصلح قادتهم ويولي عليهم خيارهم وأن يعيذهم من شر الأشرار.
ونسأل الله أن يكفينا شر كل ذي شر، وأن يرد كيد كل عدو في نحره، وأن يكشف شره أينما كان. والله ولي التوفيق.(6/155)
تحرير دولة الكويت من أيدي المعتدين الظالمين نعمة من الله عظيمة ونصر عزيز
ضد الظلم والعدوان والإلحاد (1)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أما بعد: -
فإن ما من الله به على المسلمين المجاهدين في سبيله من تحرير الكويت من أيدي الغاصبين الظالمين والمعتدين الملحدين من أعظم نعم الله سبحانه على أهل الكويت وغيرهم من المسلمين وغيرهم من محبي الحق والعدل، فجدير بجميع المسلمين في المملكة العربية السعودية والكويت وسائر دول الخليج وغيرهم أن يشكروا الله على ذلك، وأن يستقيموا على دينه، وأن يحذروا أسباب غضبه لما من الله به سبحانه عليهم من هزيمة المعتدين، ونصر المظلومين، وإجابة دعاء المسلمين، وقد وعد الله سبحانه عباده بالنصر والعاقبة الحميدة إذا نصروا دينه واستقاموا عليه واستنصروا به سبحانه وأعدوا العدة لعدوهم وأخذوا حذرهم من مكائده، كما قال عز وجل في كتابه المبين: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (2) {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) وقال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (4) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (5) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (6) وقال سبحانه:
__________
(1) نشرت في صحيفة الرياض في 12\9\1411 هـ.
(2) سورة الأنفال الآية 9
(3) سورة الأنفال الآية 10
(4) سورة الحج الآية 40
(5) سورة الحج الآية 41
(6) سورة محمد الآية 7(6/156)
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وكلها تدل على وجوب الالتجاء إلى الله سبحانه في جميع الأمور والاستعانة به وحده والاستنصار به والاستقامة على دينه والحذر من أسباب غضبه سبحانه، كما تدل على أنه عز وجل هو الذي بيده النصر لا بيد غيره، كما قال سبحانه: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (2) وقال عز وجل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (3) وقال سبحانه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (4) ولكنه سبحانه مع ما وعد به عباده من النصر أمرهم بالإعداد لعدوهم، وأخذ الحذر منه فقال عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (5) وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (6) وعلق نصرهم سبحانه على أسباب عظيمة وهي نصر دينه بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاستقامة على الإيمان والعمل الصالح.
فالواجب على جميع المسلمين في الكويت وغيرها أن يأخذوا بهذه الأسباب وأن يستقيموا عليها، وأن يتواصوا بها أينما كانوا؛ لأن الأخذ بها والاستقامة عليها من أعظم الأسباب للنصر في الدنيا، والأمن ورغد العيش والسعادة في الدنيا والآخرة والفوز بالجنة، والكرامة وحسن العاقبة في جميع الأمور كما أوضح ذلك سبحانه في الآية الكريمة السابقة من سورة النور وهي قوله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} (7) الآية، وكما أوضح ذلك أيضا سبحانه في قوله عز وجل في سورة
__________
(1) سورة النور الآية 55
(2) سورة آل عمران الآية 126
(3) سورة آل عمران الآية 160
(4) سورة البقرة الآية 249
(5) سورة الأنفال الآية 60
(6) سورة النساء الآية 71
(7) سورة النور الآية 55(6/157)
الصف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (4) في هذه الآيات الكريمات، أوضح سبحانه أن الإيمان بالله ورسوله وهو يشمل أداء ما أوجب الله من الطاعات، وترك ما حرم الله من المعاصي مع الجهاد في سبيله، وهو شعبة من الإيمان- هما سبب المغفرة لجميع الذنوب، والفوز بالجنة والمساكن الطيبة فيها، كما أنهما هما السبب في حصول النظر والفتح القريب.
فجدير بأهل الإسلام أينما كانوا أن يأخذوا بهذه الأسباب ويتواصوا بها ويستقيموا عليها أينما كانوا؛ لأنها هي سبب عزهم ونصرهم وأمنهم في الدنيا، وهي سبب فوزهم ونجاتهم في الآخرة، وهي أيضا سبب الربح والفوز بأنواع الكرامة وأنواع السعادة في هذه الدنيا وفي الآخرة، كما قال الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (5) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (6) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (7) وأصل الإيمان وأساسه توحيد الله والإخلاص له وترك الإشراك به، كما قال عز وجل في كتابه العظيم: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (8) والمعنى أمر وأوصى، وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (9) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (10) وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (11)
ولما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى أهل اليمن أمره أن يدعوهم أولا إلى توحيد الله والإخلاص له والإيمان برسوله محمد- صلى الله عليه وسلم - ثم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. وما ذاك إلا لأن هذه الأصول الثلالة هي أصول الدين العظمى، من استقام عليها وأدى حقها استقام على بقية أمور الدين من الصيام والحج وسائر ما أمر الله به ورسوله، وعلى ترك كل ما نهى الله عنه ورسوله،
__________
(1) سورة الصف الآية 10
(2) سورة الصف الآية 11
(3) سورة الصف الآية 12
(4) سورة الصف الآية 13
(5) سورة العصر الآية 1
(6) سورة العصر الآية 2
(7) سورة العصر الآية 3
(8) سورة الإسراء الآية 23
(9) سورة الزمر الآية 2
(10) سورة الزمر الآية 3
(11) سورة البينة الآية 5(6/158)
ومن أعظم شعب الإيمان ومن تحقيق شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، تحكيم شرع الله بين عباده في كل شئونهم، كما قال الله عز وجل لنبيه " - صلى الله عليه وسلم - في سورة المائدة: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (1) الآية، ثم قال بعد ذلك سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (2) إلى أن قال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (3) وقال عز وجل في سورة المائدة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (4) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (5) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (6) وقال سبحانه في سورة النساء: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (7)
فأوضح سبحانه في هذه الآيات الكريمات أن الواجب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى جميع الأمة في كل زمان ومكان أن يحكموا شرع الله في جميع ما شجر بينهم وفي جميع شئونهم الدينية والدنيوية، وحذر سبحانه من اتباع الهوى وطاعة أعداء الله في عدم تحكيم شريعته، وأخبر سبحانه أن حكمه هو أحسن الأحكام، وأن جميع الأحكام المخالفة لحكمه كلها من أحكام الجاهلية، وأخبر سبحانه أن الحكم بغير ما أنزل كفر وظلم وفسق، وبين سبحانه أنه لا إيمان لمن لم يحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأمور وينشرح صدره لذلك ويسلم له تسليما، فالواجب على جميع حكام المسلمين أن يلتزموا بحكمه سبحانه، وأن يحكموا شرعه بين عباده وألا يكون في أنفسهم حرج من ذلك، وأن يحذروا اتباع الهوى المخالف لشرعه، وألا يطيعوا من دعاهم إلى تحكيم أي قانون أو نظام يخالف ما دل عليه كتاب الله أو سنة رسوله- صلى الله عليه وسلم - وبين سبحانه أنه لا إيمان لأهل الإسلام إلا بذلك، فكل من زعم أن تحكيم القوانين
__________
(1) سورة المائدة الآية 48
(2) سورة المائدة الآية 49
(3) سورة المائدة الآية 50
(4) سورة المائدة الآية 44
(5) سورة المائدة الآية 45
(6) سورة المائدة الآية 47
(7) سورة النساء الآية 65(6/159)
الوضعية المخالفة لشرع الله أمر جائز أو أنه أنسب للناس من تحكيم شرع الله، أو أنه لا فرق بين تحكيم شرع الله وتحكيم القوانن التي وضعها البشر المخالفة لشرع الله عز وجل، فهو مرتد عن الإسلام كافر بعد الإيمان إن كان مسلما قبل أن يقول هذا القول أو يعتقد هذا الاعتقاد، وكما صرح بذلك أهل العلم والإيمان من علماء التفسير وفقهاء المسلمين في باب حكم المرتد، ومن أشكل عليه شيء مما ذكرنا فليراجع ما ذكره العلماء في تفسير الآيات السابقات كالإمام ابن جرير، والإمام البغوي والحافظ ابن كثير، وغيرهم من علماء التفسير، وليراجع ما ذكره العلماء في باب حكم المرتد وهو المسلم يكفر بعد إسلامه حتى يتضح له الحق وتزول عنه الشبهة، أما من حكم بغير ما أنزل الله وهو يعلم ذلك لرشوة دفعت إليه من المحكوم له أو لعداوة بينه وبين المحكوم عليه، أو لأسباب أخرى فإنه قد أتى منكرا عظيما وكبيرة من الكبائر، كما أنه قد أتى نوعا من الكفر والظلم والفسق لكنه لا يخرجه عمل ذلك من ملة الإسلام، ولكنه يكون بذلك قد أتى معصية عظيمة وتعرض لعذاب الله وعقابه وهو على خطر عظيم من انتكاس القلب والردة عن الإسلام، نعوذ بالله من ذلك، وقد يطلق بعض العلماء أنه أتى بذلك كفرا أصغر وظلما أصغر وفسقا أصغر كما روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وعطاء وجماعة من السلف رحمهم الله. والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين ويمنحهم الفقه في دينه، ويوزعهم شكر نعمه، وأن يصلح قادتهم ويولي عليهم خيارهم، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويخذل أعداء الإسلام أينما كانوا، وأن يعيذنا والمسلمين جميعا من مضلات الفتن وأسباب النقم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(6/160)
حوار فيما يتعلق بالأمة الإسلامية
بعد حرب الخليج (1)
(في ظل الأحداث الجسام التي تمر بها أمتنا الإسلامية في الوقت الراهن، والتي تكاد تعصف بمقدراتها ومصالح شعوبها وتهدد دينها وعقيدتها في الصميم، وفي ظل التجارب المريرة التي خاضتها الأمة خلال القرن الحالي والتي أدت إلى تصدع البنيان وانهيار العديد من أركانه، ورغم ذلك فقد كان الأمل يحدونا مع تصاعد الصحوة الإسلامية في كافة أرجاء العالم الإسلامي، أن نفيق من سباتنا العميق، وأن ننفض عن كواهلنا غبار الزمن بكل ما يحمله من مخلفات تذكي عوامل الفرقة والشقاق، حتى جاء طاغية العراق ليقتل هذا الأمل في النفوس بعدوانه الغاشم على دولة الكويت ومحاولاته المستمرة لتوسيع وتذكية عوامل الشقة والخلاف بين أبناء الأمة ليعيدها بذلك سنوات عديدة للوراء. في ظل ذلك كله، وفي ظل التحديات العديدة التي تواجهها الأمة يكتسب الحديث مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإشاد أهمية بالغة لأنه يأتي معبرا عن رؤية واحد من أبرز علماء الأمة خلال القرن الحالي لواقعها، راصدا إياه ومحددا لأسباب وعوامل الضعف والانهيار الذي تعانيه، وواصفا العلاج الناجع للخلاص من تلك الأثقال والهموم التي تكبل مسيرة الأمة وتعيق انطلاقها وتقدمها، ولتسليط الضوء على كل هذه النقاط وغيرها مما يهم الأمة الإسلامية ويشغل أذهان المسلمين في الوقت الراهن، كان لعكاظ هذا الحوار الشامل مع سماحته:)
س 1: من خلال اهتمام سماحتكم بالعمل الإسلامي والدعوة إلى الله. ما هي
__________
(1) حوار أجراه مع سماحته فهد البكران نشر في جريدة عكاظ بعددها 909 الصادر في 3\9\1411 هـ.(6/161)
رؤيتكم ل واقع الأمة الإسلامية؟ وما هو السبيل لانتشالها مما هي فيه من تشتت وانقسام؟
ج: لا ريب أنه لا سبيل إلى صلاح الأمة ونجاتها وجمع كلمتها إلا باتحادها على كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، والتعاون في ذلك، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) وقال سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2)
وفي أحداث الخليج عظة وذكرى لكل مسلم، فالواجب على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يتواصوا بالحق والصبر عليه، وأن يعتصموا بكتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام في جميع الأمور، فهذا هو طريق النجاة وطريق السعادة وطريق العزة والكرامة والنصر على الأعداء. ففى هذا الطريق وهذا السبيل كل خير في الدنيا والآخرة.
نسأل الله أن يوفق المسلمين لما فيه رضاه وأن يجمع كلمتهم على الهدى.
س 2: البعض يلقي اللوم على المنظمات الإسلامية والعربية بعدم قيامها بما هو مطلوب منها، فكيف يمكن لها أن تقوم بدورها في خدمة الإسلام والمسلمين؟
لا ريب أن المنظمات الإسلامية مسئولة عن واجبها نحو الدعوة إلى الله سبحانه ونحو جمع كلمة المسلمين.
فالواجب على كل منظمة أن تبذل وسعها بالدعوة إلى الله وتوجيه الناس إلى الخير، وإرسال الدعاة إلى المناطق التي تستطيع إرسالهم إليها للدعوة إلى الله حسب طاقتها، فكل منظمة عليها واجبها بقدر طاقتها؛ لأن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3) ، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (4) فعليها أن تدعو إلى الله عن طريق الكتاب والسنة؟ كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (5) ويقول سبحانه:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة التغابن الآية 16
(4) سورة البقرة الآية 286
(5) سورة يوسف الآية 108(6/162)
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) فعلى كل طالب علم وكل عالم أن يدعو إلى الله حسب طاقته على الطريقة التي رسمها الله لعباده بقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2)
والحكمة معناها: العلم بما قال الله وقال رسوله، والموعظة الحسنة المقصود بها الترغيب والترهيب والتوجيه إلى الخير وذكر ما للمتقي من الخير والعاقبة الحميدة، وما للكافر والعاصي من العاقبة الوخيمة، أما الجدال فهو الجدال بالأدلة الشرعية بالأسلوب الحسن دون عنف ولا شدة، بل بالأدلة الشرعية والبيان الواضح اللين حتى تزول الشبهة إن كان عند المجادلة شبهة، وإذا قامت المنظمة بهذا الواجب فهي على خير عظيم، ومن هداه الله على يد منظمة أو على يد أي إنسان كان له مثل أجره؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (3) » . .
س3: ما هي الدروس المستفادة من حرب الخليج لصالح الأمة الإسلامية؟
ج: حرب الخليج فيها عظات وذكرى لمن تعقلها: فإنها قسمت العرب وغير العرب ما بين ناصر للحق وداع للحق، وما بين ناصر للظلم وداع لمناصرة الظلم، وقد أبان الله جل وعلا الطريق السوي لعباده، وأن الطريق السوي هو سلوك الصراط المستقيم الذي بعث الله به نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - حيث قال جل وعلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} (4) وهي الطرق المخالفة للشرع {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (5) أي تحيد بكم عن سبيله إلى سبيل أخرى، وهي سبيل الشيطان.
وقد ظهر من هذه الحوادث ما يبين للعاقل وجوب نصر المظلوم وردع الظالم والاستقامة على الحق، وهذا هو الواجب على كل مسلم وعلى كل عاقل، حتى ولو
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة النحل الآية 125
(3) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(4) سورة الأنعام الآية 153
(5) سورة الأنعام الآية 153(6/163)
كان غير مسلم، فعلى كل عاقل وعلى كل ذي إنصاف أن ينصر الحق وأن يرد الظلم وأن ينصر المظلوم، هذا هو الواجب على كل إنسان، سواء كان مسلما أو غير مسلم، ولكن الواجب على المسلم أكبر وأعظم.
لأن الله أوجب عليه ذلك بأن ينصر المظلوم وأن يردع الظالم حسب طاقته، وأن يكون في صف الحق لا في صف الباطل، هذا هو الواجب على بني الإسلام وعلى كل ذي عقل سليم، وفي هذا الصدد يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قيل: يا رسول الله نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه (1) » فالظالم منعه من الظلم وتوبيخه على الظلم، هذا نصره، والمظلوم يعان على رد الظالم وعلى تسليم حقه ورده إليه، وإذا كان الظالم كافرا كان ردعه أوجب كأمثال صدام وأشباهه. .
س4: لا شك أن حرب الخليج أحدثت تصدعا في صفوف المسلمين كيف ترون سماحتكم الحل المناسب للتوفيق بينهم؟
ج: التصدع له دواء، فكل داء له دواء، ودواء التصدع هو الرجوع إلى الله والتوبة إليه والالتزام بالحق من جميع الدول ومن جميع المسئولين، فعلى كل واحد أن يتوب إلى الله من خطئه ومن غلطه، ويرجع إلى الصواب ويطلب من أخيه المسامحة عما جرى منه على أخيه من الخطأ، والله جل وعلا يتوب على التائبين، يقول سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (3) والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (4) » .
فعلى الدول الإسلامية والعربية جميعا التعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه، والرجوع عن الباطل والتوبة إلى الله منه واستسماح أخيه الذي ظلمه وتعدى عليه يستسمحه فيقول: يا أخي سامحني،
__________
(1) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة التحريم الآية 8
(4) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .(6/164)
جرى مني كذا وأخطأت في كذا، وأنا أطلب المسامحة والعذر.
والتواصي بالحق مطلوب، والتسامح مطلوب، فالتواصي بالحق يتطلب أن يوصي كل واحد أخاه بالحق، والتسامح يعني أن يطلب كل واحد من أخيه أن يسمح عما جرى من التقصير بحقه، وإذا تسامحوا وتصالحوا وتبرأ الظالم من خطئه وزلته وتاب إلى الله من ذلك حصل المطلوب وزال المحظور.
س5: لا شك أن أعداء الأمة الإسلامية يتحينون الفرصة المناسبة للقضاء عليها فما هي السبل لمنع وقوع ذلك؟
ج: الواجب على الدول الإسلامية أن تستعد لأعداء الله وتحذر مكائدهم، وأن تستقيم على دين الله، وأن تلزم الحق وأن تعد العدة دائما، لا تغفل ولا تأمن مكر العدو، يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (1) ويقول جل وعلا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} (2)
فالواجب على كل دولة إسلامية عربية أو غير عربية أن تعد العدة وأن تستقيم على دين الله وعلى شريعته، وأعظم العدة الاستقامة على الحق والثبات عليه وطاعة الله ورسوله في كل شيء وتحكيم شريعته، هذه هي العدة، ثم العدة الحسية من الجيش الطيب والسلاح المناسب في الوقت الحاضر حسب طاقتهم، فالله أمرهم بما يستطيعون، حيث يقول تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (3) فكل دولة تجتهد في اقتناء السلاح المناسب في الوقت الحاضر، والحرص على صنعته إذا أمكن أو شرائه، والحرص على إيجاد الجندي الطيب المسلم في وقت الرخاء، حتى إذا جاءت الشدائد تكون عندها القوة الكافية، وهذا واجب الجميع،
__________
(1) سورة النساء الآية 71
(2) سورة الأنفال الآية 60
(3) سورة الأنفال الآية 60(6/165)
وأعظم شيء وأهمه إصلاح النفوس بتقوى الله، والاستقامة على دينه، وترك معصيته سبحانه وتعالى، والإخلاص لله بالعبادة، والنهي عن الشرك بالله، ومن ذلك التعلق بالأموات والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك، فهذا من الشرك بالله، فالتعلق بالأموات وسؤالهم النصر على الأعداء أو شفاء المرضى يعتبر من الشرك الأكبر.
فالواجب على كل دولة أن تعتني بهذا الأمر، وأن توجه رعيتها إلى توحيد الله والإخلاص له وترك الشرك به جل وعلا، وأن يستقيم الجميع على دين الله، وأن يحذروا معصيته سبحانه وتعالى، وأن يرجعوا إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في كل شيء، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) أوجب سبحانه على المؤمنين عند التنارع رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله أي إلى الكتاب العزيز وهو القرآن وإلى سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فما دل عليه الكتاب والسنة الصحيحة وجب الأخذ به.
وقال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) وأوجب عليهم طاعة ولي الأمر يعني في المعروف لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الطاعة في المعروف (3) » فيجب على الدول فيما - صلى الله عليه وسلم - إذا تنازعت أن ترد نزاعها إلى الله ورسوله وحكم الشرع، وعليها في نفسها أن تستقيم على دين الله وأن توجه جيشها وشعبها إلى الاستقامة على دين الله، وهذا هو طريق النصر وطريق السعادة وطريق العزة والكرامة وطريق الحماية من الأعداء أينما كانوا، وكيفما كانوا.
نسأل الله لجميع المسلمين التوفيق والهداية، ونسأل الله لولاة الأمور أن يصلحهم، وأن يعينهم على كل خير، وأن يمنحهم الفقه في الدين والثبات عليه.
س 6: هناك من يسعى لاستغلال الدين لتحقيق مآربه الخاصة خلال أحداث الخليج. فما هي كلمة سماحتكم في ذلك؟
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) صحيح البخاري الأحكام (7145) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .(6/166)
ج: الواجب على كل مسلم أن يتقي الله وأن يخلص لله، وأن لا يعمل عمل المنافق، فيستغل الدين لأهوائه، فالمنافق هكذا عمله، يرجع إلى الدين عند حاجته إليه نفاقا، فهذا منكر لا يجوز، والمنافقون شر من الكفار، ولذا قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (1) فالواجب الالتزام بالدين من أجل الدين ومن أجل طاعة الله ورسوله لا من أجل أعراض دنيوية، فالمنافق من شأنه الالتزام بالدين وإظهاره لمصلحته الدنيوية وحاجته، وإذا خلا رجع إلى الكفر بالله والضلال وإلى مناصرة الكفار، وإذا انتهت حاجته رفض الدين، فهذا ليس من الدين في شيء؛ لأنه منافق، والمنافق شر من الكافر والعياذ بالله، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (2)
ومن صفاتهم ما ذكر الله في كتابه العظيم في قوله سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (3) {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (4) فالمذبذب هو الحائر، مرة مع المسلمين ومرة مع الكفار، فهذا المذبذب يكون مع الكفار إذا نصروا ورأى عندهم الفائدة، وتارة مع المسلمين إذا نصروا وصار عندهم الفائدة.
إذا هو مذبذب، ليس عنده ثبات وليس عنده بصيرة، بل هو مع من نصر ومع من رأى فيه المصلحة، فإن رأى المصلحة مع الكفار صار معهم، وإن رأى المصلحة مع المسلمين صار مع المسلمين، ليس عنده هدف صالح وليس عنده عقيدة ثابتة، هذه حال المنافقين نسأل الله العافية. .
س 7: هل من كلمة توجيهية لأبناء الشعب الكويتي بعد تحرير بلادهم من يد طاغية العراقي؟
ج: وصيتي للشعب الكويتي ولكل مسلم تقوى الله سبحانه وتعالى، هذه وصيتي للكويتي وللسعودي ولكل مسلم في الخليج والمسلمين جميعا، فأوصي
__________
(1) سورة النساء الآية 145
(2) سورة النساء الآية 145
(3) سورة النساء الآية 142
(4) سورة النساء الآية 143(6/167)
الجميع بتقوى الله جل وعلا، وأن يستقيموا على دينه، وأن يشكروا الله على نعمة النصر ونعمة العافية ونعمة ردع الظالم.
والشكر لله يكون بالطاعة لله ولرسوله والاستقامة على دين الله والمحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها وفي أداء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن لم يحج مرة واحدة في العمر، وكذلك طاعة الله ورسوله في كل شيء من بر الوالدين وصلة الرحم والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير هذا من وجوه الخير، مع ترك المعاصي كلها، هذا كله من شكر الله، فوصيتي للجميع أن يشكروا الله بفعل ما أمر وترك ما نهى عنه والصبر عليه، كما قال سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3)
ويقول سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (4) وهذا واجب الجميع أن يتعاونوا على البر والتقوى والتناصح في الله وترك معصيته وألا يتعاونوا على الإثم والعدوان من الشرك وشرب الخمر والزنا والمقامرة وغير ذلك مما نهى الله عنه ورسوله، وعليهم بأن يتواصوا بالحق والصبر عليه، وأن يتناهوا عن الإثم والعدوان بأن ينهى كل واحد أخاه عن المنكر ويأمره بالخير، هذا كله من شكر الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (5) هذه أوصاف المؤمنين وهذه أخلاقهم، وعدهم الله عليها الرحمة بالنصر في الدنيا والسعادة والنجاة في الآخرة.
نسأل الله للجميع التوفيق والاستقامة والهداية.
س 8: ختاما ما هي كلمتكم لأسر الشهداء؟
ج: أسأل الله أن يجبر مصيبتهم، وأن يحسن عزاءهم، وأن يعوضهم خيرا مما فاتهم في الدنيا والآخرة، وأن يغفر للشهداء، وأن يتجاوز عن سيئاتهم ويدخلهم الجنة
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3
(4) سورة المائدة الآية 2
(5) سورة التوبة الآية 71(6/168)
وينجيهم من النار، والشهداء يرجى لهم الخير العظيم، فنوصي أسرهم بالدعاء لهم والرحمة وعلو المنزلة في الجنة، ونوصي أسرهم أيضا بالصبر والاحتساب؛ لأن الشهادة في سبيل الله نعمة عظيمة، فعلى الأسر أن يصبروا ويحتسبوا والله يعوضهم خيرا ويجبر مصيبتهم سبحانه وتعالى متى صبروا واحتسبوا. رزق الله الجميع التوفيق لما يرضيه.(6/169)
لقاء جريدة المسلمون مع سماحته
س1: الآن بعد أن هدأ غبار الحرب كيف السبيل- في رأي سماحتكم- إلى إزالة غبار الفتنة التي نشأت عن أزمة الخليج؟
ج: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فلا شك أن الفتنة التي فجر أسبابها حاكم العراق فتنة عظيمة وترتب عليها شرور كثيرة، والحمد لله الذي من بالقضاء عليها وتحرير دولة الكويت ودحر الظالم والقضاء عليه وعلى عدوانه، ولا شك أن ذلك من نعم الله العظيمة، فنشكر الله على ذلك، ونسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يوفقهم لما يرضيه، والواجب على المسلمين في مقابل هذه النعمة أن يشكروا الله عز وجل كثيرا وأن يستقيموا على دينه، وأن يحذروا أسباب غضبه، وأن يجتهدوا في رأب الصدع ولم الشمل على طاعة الله ورسوله واتباع كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، والتواصي بالحق والصبر عليه.
هذا هو الطريق لإزالة غبار هذه الفتنة والسلامة من شرها ومكائدها ومكائد من دعا إليها، والله يقول في كتابه العظيم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) ويقول: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (3) وهذا هو السبيل لإزالة غبار هذه الفتنة وآثارها السيئة.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) سورة النساء الآية 59(6/170)
إن السبيل الوحيد هو جمع الكلمة على طاعة الله ورسوله، والتواصي بالحق والصبر عليه من الرؤساء والأعيان والعلماء والعامة حتى يستقيم الجميع على طاعة الله ورسوله، وحتى تكون محبتهم في الله وبغضهم في الله، وموالاتهم في الله، ومعاداتهم في الله.
فنسأل الله أن يسلك بنا وبهم صراطه المستقيم، وأن يهدينا وإياهم لكل ما فيه رضا، وأن يعيذنا وكافة المسلمين في كل مكان من أسباب غضبه، وأسباب النزاع الذي يؤدي بالناس إلى ما لا تحمد عقباه.(6/171)
س 2: ما هو أبرز درس من الدروس المستفادة من هذه المحنة العظيمة التي أصابت الأمة؟
ج: إن أبرز درس: أن الفتن والحوادث تبين للناس العدو من الصديق، وتقسمهم إلى محق ومبطل، وحاسد وراغب في الخير، ومنصف وجائر، فالواجب على المؤمن عند وجود المحن أن يكون مع الحق لا مع هواه ولا مع الباطل، بل يجب أن يكون مع الحق يدور معه أينما دار، ومن كان مع الحق دعا إليه ونصره، ومن كان مع الظلم والشرك والبدعة خالفه ودعا إلى تركه وعدم التعاون معه، ففي هذه الفتنة معلوم أن حاكم العراق ظالم معتد على دولة آمنة مسلمة، بغى عليها واعتدى ظلما وعدوانا، وهو بعثي ملحد.
إن واجب المسلمين جميعا أن يكونوا مع الحق ضد الظالم والمعتدي، ومن المؤسف أن تكون جماعة من الفئة الكافرة تنصر المحق وتردع الظالم، بينما دول تنتسب إلى الإسلام تقف مع المبطل والظالم، إن هذا لمن العجائب والغرائب، فالواجب على من ينتسب للإسلام ومن يدعي الإسلام أن يكون مع الإسلام حقيقة، وأن يكون مع طالب الحق ومع ناصر الحق لا مع الظالم والمعتدي ولو كان قريبه أو أخاه، فالواجب نصر المحق وردع الظالم والقضاء على ظلمه بالطرق المناسبة التي يحصل بها المطلوب، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قيل يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه (1) » .
وهذا الحديث العظيم من جوامع الكلم، فالواجب على أهل الإسلام أن يطبقوه وأن يلتزموا به مع القريب والبعيد.
__________
(1) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .(6/171)
س 3: أدت الفتنة إلى اندفاع بعض القيادات والجماعات الإسلامية إلى تأييد الباغي، فماذا تقولون لهم الآن بعد أن انتهت الحرب؟
ج: نقول لهم: إن باب التوبة مفتوح، فالواجب على من حاد عن الصواب أن يرجع إلى الصواب، وأن يتوب إلى الله وأن يندم على ما فرط فيه من الخطأ، وأن يعود إلى الرشد والهدى والحق، والله يمحو بالتوبة ما قبلها من الخطأ والضلال، كما قال عز وجل {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (3) » .
والتوبة النصوح تشمل أمورا ثلاثة: الأمر الأول: الندم على الخطأ والزلل والظلم والعدوان. والثاني: الإقلاع عن الذنب وتركه والحذر منه رغبة فيما عند الله وتعظيما له سبحانه. والثالث: العزم الصادق على عدم العودة إليه إخلاصا لله ومحبة وتعظيما له. وهناك شرط رابع لا بد منه أيضا: فيما يتعلق بحق المخلوقين فلا بد أن يتخلص من الظلم المالي والدموي والعرضي، لا بد من توبة بأن ترد المظلمة أو تستبيح المظلومين.
وإذا استوفى الإنسان هذه الشروط رغبة فيما عند الله وتعظيما له سبحانه - تاب الله عليه ومحا عنه سيئاته، كما قال تعالى في حق الكفرة: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (4) وقال سبحانه في حق الجميع: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (5) أجمع أهل العلم أن المراد بهذه الآية التائبون. .
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة التحريم الآية 8
(3) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .
(4) سورة الأنفال الآية 38
(5) سورة الزمر الآية 53(6/172)
س 4: هناك من يقول إن بعض الدول والجماعات في العالم العربي والإسلامي تخلوا عنا ووقفوا ضدنا وناصروا طاغية العراق، لذلك ينبغي أن نعيد النظر في علاقتنا بهم ونوقف مساعداتنا لهم وننصرف إلى شئوننا الذاتية ونقتصر على أنفسنا، فما رأيكم في مثل هذا القول؟(6/172)
ج: الواجب على الدول الإسلامية وعلى رؤسائها التعاون على البر والتقوى، ومن أراد الخير وندم على ما فرط منه من الظلم - فالمشروع أن يتعاون معه على البر والتقوى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (1) وإذا أساء إليك بعض الناس فمن الأحسن لك أن تقابل إساءته بالإحسان والصفح والعفو إذا لم يستمر على الإساءة واستقام على الحق ولم يعتد، فإن الرجوع إلى الحق ليس عيبا ولا ينبغي أن تطغى الحزازات والعداوات على المصلحة العامة للمسلمين، فإن عاقبة ذلك وخيمة، ولكن ينبغي السير في إزالتها بالعفو والصفح والإصلاح، وعلى من أساء أن يظهر التوبة والاعتذار عما جرى منه وأن يبدل سيئاته حسنات، فالحسنة تمحو السيئة إذا صدق صاحبها، أما إذا استمر المعتدي على عدوانه ولم يرغب في الصلح والتعاون - فالواجب حينئذ عدم التعاون معه إذا كان التعاون معه يضر الدعوة الإسلامية أو يضر المجتمع الإسلامي أو يفضي إلى فساد الأخلاق.
__________
(1) سورة الشورى الآية 40(6/173)
س 5: انساقت بعض الجماهير، ومنهم بعض شباب الصحوة الإسلامية في بعض البلدان وراء بعض القيادات التي رفعت شعارات تناصر النظام العراقي العلماني مما يدل على أن هناك قصورا أو خللا في منهج الدعوة وقلة العلم الشرعي الذي تربى عليه هؤلاء الشباب، فكيف يمكن أن نعالج مثل هذا الخلل وما هو دور العلماء في ذلك؟
ج: لا شك أن هذا واقع، وأن نقص العلم يسبب وقوع المجتمع في أخطاء كثيرة، والواجب على العلماء في كل مكان بذل الدعوة وبذل النصيحة ونشر العلم بين الناس ولا سيما بين الشباب الذين يرغبون في العلم ويدعون إلى الله عز وجل، وعلى طالب العلم أن يقبل العلم ويسعى إلى أن يتبصر ولا يعجل، والواجب على الشباب وعلى غيرهم ممن ليس عندهم العلم الكافي ألا يعجلوا في الأمور وأن يتفقهوا في الدين ويستمعوا لتوجيه العلماء مما يقال ويكتب حتى يكونوا على بينة، وعليهم(6/173)
أن يتدبروا ما يطلعون عليه أو يقال لهم أو يسمعونه في إذاعة أو غيرها، ويعرضوه على الأدلة الشرعية، وأن يسألوا أهل العلم عما أشكل عليهم وممن يوثق فيهم، حتى يكونوا على بينة، ويتحروا أهل العلم الذين يعرفون بنشر الحق والعناية به وإقامة الأدلة عليه ويستفيدوا من علمهم.
أما الاندفاع مع الشعارات التي يروج لها فلان أو فلان أو يؤيدها فلان أو فلان فهذا لا ينبغي لعاقل، وإن كثرة الكلام والبلاغة ليست دليلا على الحق، بل الدليل على الحق هو ما قال الله سبحانه وما قال رسوله صلى الله عليه وسلم، مع العناية بدراسة القواعد الشرعية والأسس المرعية التي دل عليها قول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي المعيار الذي يستنبط منه ويؤخذ عن طريقه الحق عند عدم وجود النص من الكتاب أو السنة، أما قول فلان: ما أذاعته الإذاعة الفلانية فهذا لا ينبغي لعاقل أن يغتر به، بل ينبغي للعاقل أن يكون الكتاب والسنة والقواعد الشرعية هي التي يبني عليها ما يختاره وما يرده، وينبغي أيضا ألا يستقل بنفسه في بعض المسائل التي تخفى عليه، بل ينبغي أن يستفيد من إخوانه، وأن يسأل من يثق به من أهل العلم، وألا يعجل في الأمور حتى يطمئن إلى أن هذا هو الحق، لا لأنه قاله فلان أو الحاكم الفلاني أو الرئيس الفلاني أو الزعيم الفلاني.(6/174)
س 6: كان من أبرز الأسباب التي أدت إلى طغيان حاكم العراق ترك الشورى وعدم تطبيق الشريعة، فهل من كلمة توجهونها عبر جريدة " المسلمون " لقادة المسلمين وأعيانهم في هذا المجال؟
ج: الشورى من أهم المهمات في الدول الإسلامية والجماعات الإسلامية، لذلك ينبغي العناية بالشورى الإسلامية، وهي من صفات المؤمنين كما قال جل وعلا: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (1) وقال جل وعلا: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (2) فالتشاور في الأمور التي ليس فيها دليل واضح
__________
(1) سورة الشورى الآية 38
(2) سورة آل عمران الآية 159(6/174)
من أهم المهمات، أما إذا كان النص صريحا من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا تشاور.
إنما الشورى تكون فيما قد يخفى من المسائل التي تبدو للحاكم أو للجماعة أو للمركز الإسلامي ومن فيه أو لغير ذلك، هذا محل الشورى، والشورى تكون في معرفة الحق، أو في كيفية تنفيذه والدعوة إليه، أو في معرفة الباطل وفي أدلته وكيفية القضاء عليه ودفعه ومحاربته.
وهناك أمر ينبغي أن يلاحظ وهو أن الشورى محكومة من أهل العلم والبصيرة، وأعيان الناس العارفين بأحوال المجتمع، يتشاورون ويتعاونون، لا من هب ودب، ولا من الناس الملاحدة أو من الناس المعروفين بالعقائد الزائفة، بل من الناس المعروفين بالعقل الراجح والعلم والفضل والتبصر في أحوال الناس إن كانوا من أعيان المجتمع حتى يحصل التعاون معهم في معرفة الحق فيما قد يخفى دليله أو في الأمور التي تحتاج إلى نظر وعناية في كيفية تنفيذ الحق أو كيفية ردع الباطل والقضاء عليه.(6/175)
س 7: وماذا عن إهمال تطبيق الشريعة؟
ج: إن الواجب أن تحكم الدول المنتسبة للإسلام شريعة الله، وأن تدع القوانين الوضعية التي وضعها الرجال، فإن الله جل وعلا أوجب على المسلمين أن يحكموا شرع الله، فقال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1)
فالواجب على جميع المسلمين أن يحكموا شرع الله وأن يتركوا التحاكم إلى القوانين الوضعية التي وضعها الشرق أو الغرب، ففي شرع الله ما يكفي والحمد لله، ولهذا قال الله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) نعم إذا وجد نظام أو قانون يوافق الشرع في أية مسألة من مسائل القانون فلا بأس. ويمكن أن تضع الدول قوانين يعرفها الناس ويستفيدون منها
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) سورة المائدة الآية 50(6/175)
بشرط موافقتها للشرع.
وهذا ليس من تحكيم القوانين بل هذا عمل بالشرع، ومثلما وضع العلماء أبوابا يوضحون فيها الأحكام الشرعية، فإذا وضعت الدولة قانونا يعرفه الناس في مجال التجارة، أو في مجال البيوع، أو فيما يتعلق بالأوقاف، أو النكاح، إذا وضعت شيئا واضحا في أبواب معينة يسير عليها الناس على هدي كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم - فهذا لا يسمى قوانين، بل هي مثلما وضع الفقهاء في كتبهم أبوابا يوضحون فيها أحكام الله، فإذا وضعت الدولة شيئا يوضح حكم الله في مسألة من المسائل وبينت الشروط فليس هذا ببدع من القول ولا يضر إذا لم يكن مخالفا لشرع الله.(6/176)
س 8: هناك مطالبات - سماحة الشيخ - بإحداث بعض التغييرات في المجتمع بعد هذه الأزمة، إذ كشفت الأزمة عن بعض الأمور، فما رأيكم في هذا؟ وما هي المجالات التي ترونها بحاجة إلى تغيير، سواء في مجتمعنا أو في المجتمعات الإسلامية بشكل عام؟
ج: هذا المقام مقام عظيم، من ذلك أنه يجب على الذين ينتخبون الرؤساء والأعيان أن يتحروا في المنتخب أن يكون من أهل الدين والاستقامة والعقل الراجح والعقيدة الصالحة، ومحبة الخير للمسلمين، وألا ينتخبوا من هب ودب، كما ينبغي أن يكون المنتخب صالحا لقيادة المجتمع إلى طريق النجاة والسعادة، ثم أيضا هناك مسألة الولايات الأخرى الصغيرة، مثل ولاية إمارة في بلدة أو قرية أو رئاسة جمعية أو إدارة مدرسة إلى غير ذلك، فيجب أن ينتبه لذلك، وأن يختار لكل أمر من يناسبه، وألا يكون للمنتخب هوى فيختاره؛ لأنه قريبه أو لأنه صديقه أو لأنه أعطاه مالا أو رشوة.
إن هذا من أعظم الخيانة، فيجب على أفراد المجتمع أن تكون عنايتهم بالاختيار، بأن يكون المختار من أهل الكفاية وأهل الاستقامة وأهل الأمانة وأهل المعرفة، الذين إذا اختيروا ينفعون الأمة في دينهم ودنياهم.
وكذلك ينبغي العناية بإيجاد المدارس الإسلامية التي تخرج الشباب الصالح، فيجب على ولاة الأمور وعلى المسئولين أن تكون لهم عناية بإيجاد المدارس الصالحة(6/176)
والمديرين الطيبين الصالحين، وهكذا في جميع القيادات يجب على المسئولين أن يختاروا المرء الصالح الذي يعرف منه الخير، وممن يتسم بالالتزام بالإسلام، وبالالتزا م بالأمانة وترك الخيانة.(6/177)
س 9: هناك يا سماحة الشيخ بعض الأبواق التي تدعو الآن إلى مقاطعة أو تعطيل فريضة الحج لهذا العام بزعم وجود القوات الأجنبية، فما ردكم على هؤلاء؟
ج: هذه دعوى باطلة مغرضة، أو أن صاحبها مغرور مخدوع ليس عنده بصيرة، إن الحرمين والحمد لله ليس فيهما كفار ولا قادة للكفار ولا دول كافرة، الحرمان في صيانة والحمد لله، وفي أيد أمينة، وقوات الدول التي ساعدت في حرب حاكم العراق في محلها بعيدة عن مكة بمسافة طويلة.
إن الدول التي ساعدت وساهمت مشكورة على نصر الحق وعلى ردع الظالم ليس لها تعلق بالحرمين وليست في الحرمين، لقد جاءوا بطلب، ولمساعدة المنكوبين والمظلومين ضد الظالم والمعتدي، وما جاءوا لحرب المسلمين، وما جاءوا للاستيلاء على الحرمين، إنما جاءوا بدعوة من خادم الحرمين الشريفين من أجل نصر المظلوم وردع الظالم، والحمد لله الذي نفع بذلك، وصار في هذه الدول المشركة خير عظيم للمسلمين حتى ردع الله بهم الظالم وأنقذ بهم حق المظلوم، إن الذي يقول إن الحرمين الآن محصوران من دول كافرة إما مخدوع وإما مغالط أو مغرض. وليس لأحد أن يدعو إلى ترك فريضة الحج، بل يجب على المسلمين أن يتعاونوا في أداء فريضة الحج، ولكن يعذر من وجد مخاوف في الطريق أو كان الحرمان - لا سمح الله - فيهما خطر.
فإذا كان الطريق غير آمن أو الحرمان ليسا آمنين صار ذلك عذرا في أن يؤخر الحج إلى عام آخر، ولكن والحمد لله الحرمان آمنان والطريق آمن وليس هناك خطر.(6/177)
س10: في أثناء الأزمة حصل شيء من الاختلاف بين طلبة العلم والخطباء وإن كان محدودا والحمد لله، فماذا تقولون في ذلك؟
ج: لا شك أنه وقع بعض الاختلاف في بعض المسائل من بعض المحاضرين(6/177)
وبعض الخطباء وفي بعض الندوات عن حسن ظن أو عن جهل من بعض إخواننا، والواجب على الجميع الرجوع إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أن الواجب على الخطيب وعلى المحاضر في الندوات أن يتثبت في الأمور، وألا يتعجل حتى يطمئن أنه على الحق والهدى بالأدلة الشرعية، فلا ينبغي أن يعجل في فتوى أو إصدار أحكام على غير بصيرة.
وعلى كل طالب علم، وعلى كل من يشارك في الندوات، أو يلقي المحاضرات، أو يقوم بخطب الجمعة، أو غيرها أن يتثبت في الأمور وألا يحكم على أي شيء بأنه حرام أو واجب أو مستحب أو مباح أو مكروه إلا على بصيرة حتى لا يضل الناس بسببه.
وأما مسألة الاستعانة بالدول الأجنبية فإن بعض إخواننا ظن أن هذا لا يجوز، وأن ما أقدمت عليه الدولة السعودية من الاستعانة ببعض الدول الأجنبية غلط، فهذا غلط من قائله، فالدولة السعودية كانت محتاجة إلى هذا الشيء، بل مضطرة لما عند حاكم العراق من قوة كبيرة، ولأنه باغت دولة الكويت واجتاحها ظلما وعدوانا، فاضطرت الدولة السعودية إلى الاستعانة ببعض المسلمين وبعض الدول الأجنبية؛ لأن الواقع خطير والمدة ضيقة ليس فيها متسع للتساهل.
فهي في هذا الأمر قد أحسنت، وفعلت ما ينبغي لردع الظالم وحصره حتى لا يقدم على ضرر أكبر وحتى يسحب جيشه من الدولة المظلومة.
والمقصود أن الاستعانة بالمشرك أو بدولة كافرة عند الحاجة الشديدة أو الضرورة وفي الأوقات التي لا يتيسر فيها من يقوم بالواجب ويحصل به المطلوب من المسلمين - أمر لازم لردع الشر الذي هو أخطر وأعظم، فإن قاعدة الشرع المطهر هي دفع أكبر الضررين بأدناهما وتحصيل كبرى المصلحتين، أما أن يتساهل الحاكم أو الرئيس أو ولي الأمر أو غيرهم من المسئولين حتى يقع الخطر وتقع المصيبة فذلك لا يجوز بل يجب أن يتخذ لكل شيء عدته وأن تنتهز الفرص لردع الظلم والقضاء عليه وحماية المسلمين من الأخطار التي لو وقعت لكان شرها أخطر وأكبر.
وقد درس مجلس هيئة كبار العلماء هذه المسألة وهي الاستعانة بغير المسلمين عند الضرورة في قتال المشركين والملاحدة وأفتى بجواز ذلك عند الضرورة إليه، للأسباب(6/178)
التي ذكرنا آنفا. والله المستعان.(6/179)
س 11: السؤال الأخير يتعلق بوسائل الإعلام، فقد ظهر في الأزمة حاليا أن لوسائل الإعلام دورا خطيرا؛ إذ يتابع الناس عن طريقها الأحداث ويستقون الأخبار ويكونون الآراء، فهل من كلمة حول ذلك؟ وما دور العلماء وطلبة العلم في التعاون مع وسائل الإعلام؟
ج: لا شك أن وسائل الإعلام لها دور عظيم، ولا شك أنها سلاح ذو حدين، فالواجب على القائمين عليها أن يتقوا الله ويتحروا الحق فيما ينشرون، سواء كان ذلك عن طريق الوسيلة المرئية أو المسموعة أو المقروءة، والواجب أن ينشروا ويذيعوا عن أهل العلم والإيمان والبصيرة ما ينفع الناس ويبصرهم بالحق، أما المقالات الضارة والمقالات الملحدة فالواجب الحذر منها وعدم نشرها، وعليهم أن يؤدوا الأمانة في ذلك فلا ينشروا إلا ما يقود الناس إلى الحق ويبعدهم عن الباطل.
والواجب على المسئولين في وسائل الإعلام ألا يولوا في الإعلام إلا الثقات الذين عندهم علم وبصيرة وأمانة.
إن وسائل الإعلام تحتاج إلى رجال يخافون الله ويتقونه ويعظمونه ويتحرون نفع المسلمين والمجتمع كله فيما ينشرون حتى لا يضل الناس بسببهم، ومعلوم أن من نشر قولا يضر الناس يكون عليه مثل آثام من ضل به، كما أن من نشر ما ينفع الناس يكون له مثل أجور من انتفع بذلك، ونسأل الله تعالى أن يهديهم ويوفقهم ويصلح أحوالهم.(6/179)
س 21: ماذا بالنسبة لتعاون العلماء وطلبة العلم مع وسائل الإعلام؟
ج: هذا واجب، فيجب على العلماء وطلبة العلم أن يتعاونوا مع هذه الوسائل حتى يرشدوا الناس ويفقهوهم ويعلموهم؛ لأن هذه الوسائل يستفيد منها الملايين من الناس إذا استقامت ووجهت الوجهة الصالحة، لذلك ينبغي على العلماء والأخيار أن يتعاونوا مع وسائل الإعلام فيما ينفع الناس في دينهم ودنياهم.(6/179)
رسائل الشيخ ابن باز إلى هؤلاء
الشعب الكويتي:
نحمد الله لكم أن يسر لكم تحرير بلادكم، ونشكر الله على ذلك، ونسأله سبحانه أن يضاعف الأجر لإخوانكم المسلمين الذين ساهموا في هذا الأمر العظيم وأن يجزيهم خيرا، وأن يوفق المسلمين جميعا لكل ما فيه رضاه، وأن يكونوا أبدا متعاونين على البر والتقوى وعلى ردع الظلم.
إن عليكم أيها الإخوة في الكويت أن تشكروا الله على النعمة العظيمة بتحرير بلادكم من الظالم المعتدي، وعليكم أن تستقيموا على دين الله وأن تتوبوا إلى الله من جميع الذنوب، وأن تتناصحوا، وتتعاونوا على البر والتقوى حتى تستمر النعمة ويكفيكم الله شر الأعداء.(6/180)
أهالي الشهداء:
إلى أولياء وأهالي الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله وفي نصر المظلوم وردع الظالم وإقامة الحق، إنهم في هذا الأمر على خير عظيم ونرجو لهم الشهادة، والنجاة من النار، والسعادة، ونعزي ذويهم وأقاربهم وأصحابهم، ونسأل الله أن يرحمهم ويغفر لهم، وأن يجبر مصيبة ذويهم ويحسن عزاءهم ويعوضهم عنهم خيرا، وأن يرزقهم الصبر والاحتساب، وأن يغفر للميتين، ويصلح أحوال الأحياء إنه جواد كريم، وفي الحقيقة إنها نعمة من الله، فالقتل في سبيل الحق وإنقاذ المسلمين من الشر وردع الظالمين ونصر دين الله والقضاء على الفساد من نعم الله العظيمة، ومن الجهاد في سبيل الله، فينبغي أن يهنأ أولياؤهم بهذا الخير العظيم الذي رزقهم الله وهو الشهادة.(6/180)
الشعب العراقي:
أوصيكم أيها الشعب بتقوى الله والتوبة إليه مما سلف منكم من شر وخطأ وظلم(6/180)
وعدوان، وأن تجتهدوا في اختيار الحاكم الصالح الذي يحكم فيكم شرع الله ويقودكم إلى الجنة والكرامة، وأن تحذروا شر صدام وأمثاله، وأن تحرصوا على عدم بقائه في الحكم، وأن تجتهدوا في كل ما يقرب إلى الله ويبعد عن غضبه، ومن أسباب ذلك اختيار الحاكم الصالح الذي يحكم شرع الله، ويدعو إلى دين الله، ويحارب البدع والأهواء، ويبتعد عن الإلحاد والدعوة إليه، وينبغي لكم أن تختاروا الحاكم من أهل السنة لا من البعثيين ولا من غيرهم ممن يخالف شرع الله حتى يقودكم إلى طاعة الله ويباعدكم عن أسباب غضبه وانتقامه.(6/181)
شباب الصحوة:
أوجه رسالتي هذه إلى جميع الشباب الذين وفقهم الله إلى التمسك بالدين والدعوة إليه والتفقه فيه في جميع بلاد الله، وأوصيهم بتقوى الله والتثبت في الأمور وعدم العجلة، كما أوصيهم بالعناية بالقرآن الكريم تلاوة وتدبرا وحفظا ومراجعة ومدارسة، وأوصيهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظا لها وعناية بها ومذاكرة فيها، وأوصيهم بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والأسلوب الحسن والكلام الطيب، لا بالعنف والشدة وإنما باللين والتبصر، كما قال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) وأوصيهم بعدم العجلة في كل الأمور والتثبت والتشاور والتعاون على الخير حتى يفقهوا الدين كما ينبغي، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » فالعجلة قد تفضي إلى شر عظيم، فالواجب التثبت والعناية بالأدلة الشرعية، والحرص على حلقات العلم عند أهل العلم المعروفين بالاستقامة وحسن العقيدة.
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(6/181)
العلماء وطلبة العلم:
أوصي العلماء جميعا وطلبة العلم بتقوى الله، والعناية بتحقيق العلم بالأدلة(6/181)
الشرعية، لا بتقليد فلان أو فلان، كما أوصيهم جميعا بالعناية بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومراجعة كلام العلماء حتى يعرفوا الحق بالدليل لا بقول فلان وتقليد فلان، كما أوصي طلبة العلم أن يتفقهوا في الدين وأن يأخذوا العلم من أدلته الشرعية، ويتعاونوا على البر والتقوى ويتواصوا بالحق والصبر عليه، وينشروا العلم بين الناس في المساجد وفي غير المساجد، وفي الخطب والندوات وحلقات العلم في المدارس والجامعات وأينما كانوا.
وأسأل الله للجميع التوفيق.(6/182)
حكم الاستعانة بالكفار في قتال الكفار
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وإمام المتقين وقائد المجاهدين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكم الاستعانة بالكفار في قتال الكفار على قولين:
أحدهما: المنع من ذلك، واحتجوا على ذلك بما يلي:
أولا: ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها «أن رجلا من المشركين - كان معروفا بالجرأة والنجدة - أدرك النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى بدر في حرة الوبرة، فقال: جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: ارجع فلن أستعين بمشرك. قالت: ثم مضى حتى إذا كنا في الشجرة أدركه الرجل فقال له: كما قال له أول مرة فقال: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: ارجع فلن أستعين بمشرك، ثم لحقه في البيداء فقال مثل قوله، فقال له: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، قال: فانطلق (1) » ا. هـ.
واحتجوا أيضا بما رواه الحاكم في صحيحه من حديث يزيد بن هارون أنبأنا مستلم بن سعيد الواسطي عن خبيب بن عبد الرحمن بن خبيب عن أبيه عن جده «خبيب بن يساف قال: أتيت أنا ورجل من قومي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزوا فقلت: يا رسول الله إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم، فقال: أسلما، فقلنا: لا، قال: فإنا لا نستعين بالمشركين، قال: فأسلمنا وشهدنا معه (2) » . الحديث، قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وخبيب صحابي معروف. ا. هـ. ذكره الحافظ الزيلعي في نصب الراية 423 ثم قال: ورواه أحمد، وابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه في مسانيدهم، والطبراني في معجمه من طريق
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1817) ، مسند أحمد بن حنبل (6/149) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/454) .(6/183)
ابن أبي شيبة.
قال في التنقيح: ومستلم ثقة، وخبيب بن عبد الرحمن أحد الثقات الأثبات. والله أعلم.
ثم قال الزيلعي: حديث آخر: روى إسحاق بن راهويه في مسنده أخبرنا الفضل بن موسى عن محمد بن عمرو بن علقمة عن سعيد بن المنذر عن أبي حميد الساعدي قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى إذا خلف ثنية الوداع نظر وراءه فإذا كتيبة حسناء، فقال: من هؤلاء؟ قالوا: هذا عبد الله بن أبي ابن سلول ومواليه من اليهود وهم رهط عبد الله بن سلام، فقال: هل أسلموا؟ قالوا: لا إنهم على دينهم، قال: قولوا لهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين» انتهى.
ورواه الواقدي في كتاب المغازي، ولفظه فقال: «من هؤلاء؟ قالوا: يا رسول الله هؤلاء حلفاء ابن أبي من يهود فقال عليه السلام: لا ننتصر بأهل الشرك على أهل الشرك» انتهى.
قال الحازمي في كتاب الناسخ والمنسوخ: وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة فذهب جماعة إلى منع الاستعانة بالمشركين، ومنهم أحمد مطلقا، وتمسكوا بحديث عائشة المتقدم، وقالوا: إن ما يعارضه لا يوازيه في الصحة، فتعذر ادعاء النسخ.
وذهبت طائفة إلى أن للإمام أن يأذن للمشركين أن يغزوا معه ويستعين بهم بشرطين:
أحدهما: أن يكون بالمسلمين قلة بحيث تدعو الحاجة إلى ذلك.
والثاني: أن يكونوا ممن يوثق بهم في أمر المسلمين، ثم أسند إلى الشافعي أن قال: الذي روى مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم رد مشركا أو مشركين وأبى أن يستعين بمشرك كان في غزوة بدر. ثم إنه عليه السلام: استعان في غزوة خيبر بعد بدر بسنتين بيهود من بني قينقاع واستعان في غزوة حنين سنة ثمان بصفوان بن أمية وهو مشرك فالرد الذي في حديث مالك إن كان لأجل أنه مخير في ذلك بين أن يستعين به وبين أن يرده، كما له رد المسلم لمعنى يخافه فليس واحد من الحديثين مخالفا للآخر، وإن كان لأجل أنه مشرك فقد نسخه ما بعده من استعانته بالمشركين.
ولا بأس أن يستعان بالمشركين على(6/184)
قتال المشركين إذا خرجوا طوعا ويرضخ لهم ولا يسهم لهم، ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسهم لهم، قال الشافعي: ولعله عليه السلام إنما رد المشرك الذي رده في غزوة بدر رجاء إسلامه قال: وذلك واسع للإمام أن يرد المشرك ويأذن له انتهى، وكلام الشافعي كله نقله البيهقي عنه. ا. هـ.
وقال النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم 198 199 ج 12 ما نصه: قوله: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج قبل بدر فلما كان بحرة الوبرة، هكذا ضبطناه بفتح الباء وكذا نقله القاضي عن جميع رواة مسلم قال: وضبطه بعضهم بإسكانها وهو موضع على نحو من أربعة أميال من المدينة، قوله صلى الله عليه وسلم: «فارجع فلن أستعين بمشرك (1) » ، وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية قبل إسلامه فأخذ طائفة من العلماء بالحديث الأول على إطلاقه.
وقال الشافعي وآخرون: إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة به أستعين به وإلا فيكره، وحمل الحديثين على هذين الحالين، وإذا حضر الكافر بالإذن رضخ له ولا يسهم والله أعلم. ا. هـ.
وقال الوزير ابن هبيرة في كتابه الإفصاح عن معاني الصحاح جـ 2 ص 286 ما نصه: واختلفوا: هل يستعان بالمشركين على قتال أهل الحرب أو يعاونون على عدوهم: فقال مالك وأحمد: لا يستعان بهم ولا يعاونون على الإطلاق، واستثنى مالك: إلا أن يكونوا خدما للمسلمين فيجوز، وقال أبو حنيفة: يستعان بهم ويعاونون على الإطلاق، ومتى كان حكم الإسلام هو الغالب الجاري عليهم، فإن كان حكم الشرك هو الغالب كره.
وقال الشافعي: يجوز ذلك بشرطين: أحدهما: أن يكون بالمسلمين قلة وبالمشركين كثرة، والثاني: أن يعلم من المشركين حسن رأي في الإسلام وميل إليه، فإن أستعين بهم رضخ لهم ولم يسهم لهم، إلا أن أحمد قال في إحدى روايتيه: يسهم لهم، وقال الشافعي: إن استؤجروا أعطوا من مال لا مالك له بعينه، وقال في موضع آخر: ويرضخ لهم من الغنيمة، قال الوزير: وأرى ذلك مثل الجزية والخراج. ا. هـ.
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1817) ، سنن الترمذي السير (1558) ، سنن أبو داود الجهاد (2732) .(6/185)
القول الثاني: جواز الاستعانة بالمشركين في قتال المشركين عند الحاجة أو الضرورة، واحتجوا على ذلك بأدلة منها قوله جل وعلا في سورة الأنعام: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) الآية، واحتجوا أيضا بما نقله الحازمي عن الشافعي رحمه الله فيما ذكرنا آنفا في حجة أصحاب القول الأول، وسبق قول الحازمي رحمه الله نقلا عن طائفة من أهل العلم أنهم أجازوا ذلك بشرطين:
أحدهما: أن يكون في المسلمين قلة بحيث تدعو الحاجة إلى ذلك.
الثاني: أن يكونوا ممن يوثق بهم في أمر المسلمين، وتقدم نقل النووي عن الشافعي أنه أجاز الاستعانة بالمشركين بالشرطين المذكورين وإلا كره. ونقل ذلك أيضا عن الشافعي الوزير ابن هبيرة كما تقدم.
واحتج القائلون بالجواز أيضا بما رواه أحمد وأبو داود عن ذي مخمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ستصالحون الروم صلحا آمنا وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم فتنصرون وتغنمون (2) » الحديث. ولم يذمهم على ذلك، فدل على الجواز، وهو محمول على الحاجة أو الضرورة كما تقدم.
وقال المجد ابن تيمية في المحرر في الفقه ص171 ج2 ما نصه: ولا يستعين بالمشركين إلا لضرورة، وعنه إن قوي جيشه عليهم وعلى العدو ولو كانوا معه ولهم حسن رأي في الإسلام جاز وإلا فلا " انتهى.
وقال: الموفق في المقنع ج1 ص492 ما نصه: ولا يستعين بمشرك إلا عند الحاجة.
وقال في المغني ج8 ص 414 415 فصل: ولا يستعان بمشرك، وبهذا قال ابن المنذر والجوزجاني وجماعة من أهل العلم، وعن أحمد ما يدل على جواز الاستعانة به، وكلام الخرقي يدل عليه أيضا عند الحاجة، وهو مذهب الشافعي لحديث الزهري الذي ذكرناه، وخبر صفوان بن أمية، ويشترط أن يكون من يستعان به حسن الرأي في المسلمين فإن كان غير مأمون عليهم لم تجز الاستعانة به؛ لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين مثل المخذل والمرجف فالكافر أولى.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119
(2) سنن أبو داود الملاحم (4292) ، سنن ابن ماجه الفتن (4089) ، مسند أحمد بن حنبل (5/409) .(6/186)
ووجه الأول ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر حتى إذا كان بحرة الوبرة أدركه رجل من المشركين كان يذكر منه جرأة ونجدة فسر المسلمون به فقال يا رسول الله جئت لأتبعك وأصيب معك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤمن بالله ورسوله؟ قال لا قال فارجع فلن أستعين بمشرك قالت ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالبيداء أدركه ذلك الرجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤمن بالله ورسوله؟ قال نعم قال فانطلق (1) » . متفق عليه، ورواه الجوزجاني.
وروى الإمام أحمد بإسناده عن «عبد الرحمن بن خبيب قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزوة أنا ورجل من قومي ولم نسلم فقلنا: إنا لنستحي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم قال: فأسلمتما؟ قلنا: لا، قال فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين (2) » قال ابن المنذر: والذي ذكر أنه استعان بهم غير ثابت. ا. هـ.
وقال الحافظ في التلخيص بعدما ذكر الأحاديث الواردة في جواز الاستعانة بالمشركين والأحاديث المانعة من ذلك ما نصه: ويجمع بينه يعني حديث عائشة وبين الذي قبله يعني حديث صفوان بن أمية ومرسل الزهري بأوجه ذكرها المصنف منها وذكره البيهقي عن نص الشافعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم تفرس فيه الرغبة في الإسلام فرده رجاء أن يسلم فصدق ظنه. وفيه نظر من جهة التنكر في سياق النفي ومنها: أن الأمر فيه إلى رأي الإمام، وفيه النظر بعينه، ومنها: أن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رخص فيها وهذا أقربها وعليه نص الشافعي.
وقال في الفروع ج6 ص 49 - 50 ما نصه: ويكره أن يستعين بكافر إلا لضرورة، وذكر جماعة: لحاجة، وعنه يجوز مع رأي فينا، زاد جماعة وجزم به في المحرر: وقوته بهم (بالعدو) .
وقال الصنعاني رحمه الله في سبل السلام ج4 ص 49 / - 50 على شرحه لحديث عائشة رضي الله عنها: «ارجع فلن أستعين بمشرك (3) » ما نصه: والحديث من أدلة من قال: لا يجوز الاستعانة بالمشرك في القتال، وهو قول طائفة من أهل العلم، وذهب
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1817) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/454) .
(3) صحيح مسلم الجهاد والسير (1817) ، سنن الترمذي السير (1558) ، سنن أبو داود الجهاد (2732) ، مسند أحمد بن حنبل (6/149) .(6/187)
الهادوية وأبو حنيفة وأصحابه إلى جواز ذلك، قالوا: لأنه استعان بصفوان بن أمية يوم حنين، واستعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم، أخرجه أبو داود والترمذي عن الزهري مرسلا، ومراسيل الزهري ضعيفة، قال الذهبي: لأنه كان خطاء، ففي إرساله شبهة تدليس. وصحح البيهقي من حديث أبي حميد الساعدي أنه ردهم.
قال المصنف: ويجمع بين الروايات بأن الذي رده يوم بدر تفرس فيه الرغبة في الإسلام فرده رجاء أن يسلم فصدق ظنه، أو أن الاستعانة كانت ممنوعة فرخص فيها، وهذا أقرب. وقد استعان يوم حنين بجماعة من المشركين تألفهم بالغنائم. وقد اشترط الهادوية أن يكون معه مسلمون يستقل بهم في إمضاء الأحكام، وفي شرح مسلم: أن الشافعي قال: إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة أستعين به وإلا فيكره.
ويجوز الاستعانة بالمنافق إجماعا لاستعانته صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أبي وأصحابه.
وهذا آخر ما تيسر نقله من كلام أهل العلم، والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي
والرئيس العام لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد(6/188)
شرح معنى قوله تعالى: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول (1)
س: قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (2) {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3)
والسؤال هو: أن بعض المسلمين يأخذون بهذه الآية أنه لا حرج على المسلم أن يذهب ويشد الرحال إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم يسأله أن يستغفر له رسول الله وهو في قبره، فهل هذا العمل صحيح كما قال تعالى. وهل معنى جاءوك باللغة أنه: جاءوك في حياتك أم في موتك؟ وهل يرتد المسلم عن الإسلام إذا لم يحكم سنة رسول الله؟ وهل التشاجر على الدنيا أم على الدين؟
ج: هذه الآية الكريمة فيها حث الأمة على المجيء إليه إذا ظلموا أنفسهم بشيء من المعاصي، أو وقعوا فيما هو أكبر من ذلك من الشرك أن يجيئوا إليه تائبين نادمين حتى يستغفر لهم عليه الصلاة والسلام، والمراد بهذا المجيء: المجيء إليه في حياته صلى الله عليه وسلم وهو يدعو المنافقين وغيرهم إلى أن يأتوا إليه ليعلنوا توبتهم ورجوعهم إلى الله، ويطلبوا منه عليه الصلاة والسلام أن يسأل الله أن يقبل توبتهم وأن يصلح أحوالهم، ولهذا قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (4) فطاعة الرسول إنما تكون بإذن الله. يعني الإذن الكوني القدري، فمن أذن الله له وأراد هدايته اهتدى، ومن لم يأذن الله في هدايته لم يهتد، فالأمر بيده سبحانه، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (5)
أما الإذن الشرعي فقد أذن سبحانه لجميع الثقلين أن يهتدوا، وأراد منهم ذلك شرعا وأمرهم به، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (6) وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (7)
__________
(1) من برنامج نور على الدرب
(2) سورة النساء الآية 64
(3) سورة النساء الآية 65
(4) سورة النساء الآية 64
(5) سورة التكوير الآية 29
(6) سورة البقرة الآية 21
(7) سورة النساء الآية 26(6/189)
ثم قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} (1) أي تائبين نادمين لا مجرد قول، {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} (2) أي: دعا لهم بالمغفرة، {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (3) فهو حث لهم أي للعباد على أن يأتوا للرسول صلى الله عليه وسلم ليعلنوا عنده توبتهم وليسأل الله لهم؟ وليس المراد بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كما يظنه بعض الجهال، فالمجيء إليه بعد موته لهذا الغرض غير مشروع وإنما يؤتى للسلام عليه لمن كان في المدينة أو وصل إليها من خارجها لقصد الصلاة بالمسجد والقراءة فيه ونحو ذلك، فإذا أتى المسجد سلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، لكن لا يشد الرحل من أجل زيارة القبر فقط، بل من أجل المسجد وتكون الزيارة لقبره صلى الله عليه وسلم، وقبر الصديق، وعمر رضي الله عنهما تابعة لزيارة المسجد لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى (4) » متفق على صحته، فالقبور لا تشد إليها الرحال، ولكن متى وصل إلى المسجد النبوي فإنه يشرع له أن يسلم عليه صلى الله عليه وسلم، ويسلم على صاحبيه رضي الله عنهما، لكن لا يشد الرحال من أجل الزيارة فقط للحديث المتقدم.
وأما ما يتعلق بالاستغفار: فهذا يكون في حياته لا بعد وفاته، والدليل على هذا أن الصحابة لم يفعلوا ذلك، وهم أعلم الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأفقه الناس في دينه، ولأنه عليه السلام لا يملك ذلك بعد وفاته، عليه السلام، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (5) » .
وأما ما أخبر به عليه الصلاة والسلام أن من صلى عليه تعرض صلاته عليه فذلك شيء خاص يتعلق بالصلاة عليه، ومن صلى عليه صلى الله عليه بها عشرا، وقال عليه الصلاة والسلام: «أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي قيل يا رسول الله كيف وقد أرمت أي بليت قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء (6) » فهذا حكم خاص بالصلاة عليه. وفي الحديث الآخر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام (7) »
__________
(1) سورة النساء الآية 64
(2) سورة النساء الآية 64
(3) سورة النساء الآية 64
(4) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .
(5) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .
(6) سنن النسائي الجمعة (1374) ، سنن أبو داود الصلاة (1047) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1636) ، مسند أحمد بن حنبل (4/8) ، سنن الدارمي الصلاة (1572) .
(7) سنن النسائي السهو (1282) ، مسند أحمد بن حنبل (1/441) ، سنن الدارمي الرقاق (2774) .(6/190)
فهذا شيء خاص للرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه يبلغ ذلك.
وأما أن يأتي من ظلم نفسه ليتوب عند القبر ويستغفر عند القبر فهذا لا أصل له، بل هو منكر ولا يجوز وهو وسيلة للشرك، مثل أن يأتي فيسأله الشفاعة أو شفاء المريض أو النصر على الأعداء أو نحو ذلك، أو يسأله أن يدعو له فهذا لا يجوز؛ لأن هذا ليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ولا من خصائص غيره، فكل من مات لا يدعى ولا يطلب منه الشفاعة لا النبي ولا غيره وإنما الشفاعة تطلب منه في حياته، فيقال: يا رسول الله اشفع لي أن يغفر الله لي اشفع لي أن يشفي الله مريضي وأن يرد غائبي وأن يعطيني كذا وكذا، وهكذا يوم القيامة بعد البعث والنشور، فإن المؤمنين يأتون آدم ليشفع لهم إلى الله حتى يقضي بينهم فيعتذر ويحيلهم إلى نوح فيأتونه فيعتذر ثم يحيلهم نوح إلى إبراهيم فيعتذر فيحيلهم إبراهيم إلى موسى فيعتذر ثم يحيلهم موسى إلى عيسى فيعتذر عليهم جميعا الصلاة والسلام ثم يحيلهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتونه فيقول عليه الصلاة والسلام: أنا لها أنا لها فيتقدم ويسجد تحت العرش ويحمد ربه بمحامد عظيمة يفتحها الله عليه، ثم يقال له: ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع، فيشفع صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف حتى يقضى بينهم، وهكذا يشفع في أهل الجنة حتى يدخلوا الجنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم موجود، أما في البرزخ بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلا يسأل الشفاعة ولا يسأل شفاء المريض ولا رد الغائب ولا غير ذلك من الأمور، وهكذا بقية الأموات لا يسألون شيئا من هذه الأمور، بل يدعى لهم ويستغفر لهم إذا كانوا مسلمين، وإنما تطلب هذه الأمور من الله سبحانه، مثل أن يقول المسلم: اللهم شفع في نبيك عليه الصلاة والسلام، اللهم اشف مريضي، اللهم انصرني على عدوي، ونحو ذلك؛ لأنه سبحانه يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) ويقول عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (2) الآية.
أما قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (3) الآية، فهي عامة على ظاهرها، فلا يجوز للمسلمين أن يخرجوا عن
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة البقرة الآية 186
(3) سورة النساء الآية 65(6/191)
شريعة الله، بل يجب عليهم أن يحكموا شرع الله في كل شيء، فيما يتعلق بالعبادات وفيما يتعلق بالمعاملات، وفي جميع الشئون الدينية والدنيوية؛ لكونها تعم الجميع، ولأن الله سبحانه يقول: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) ويقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (3) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) فهذه الآيات عامة لجميع الشئون التي يتنازع فيها الناس ويختلفون فيها، ولهذا قال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} (5) يعني الناس من المسلمين وغيرهم {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} (6) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، وذلك بتحكيمه صلى الله عليه وسلم حال حياته وتحكيم سنته بعد وفاته، فالتحكيم لسنته هو التحكيم لما أنزل من القرآن والسنة: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (7) أي فيما تنازعوا فيه، هذا هو الواجب عليهم أن يحكموا القرآن الكريم، والرسول صلى الله عليه وسلم، في حياته وبعد وفاته باتباع سنته التي هي بيان القرآن الكريم وتفسير له ودلالة على معانيه.
أما قوله سبحانه {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (8) فمعناه أنه يجب أن تنشرح صدورهم لحكمه، وألا يبقى في صدروهم حرج مما قضى بحكمه عليه الصلاة والسلام؛ لأن حكمه هو الحق الذي لا ريب فيه وهو حكم الله عز وجل، فالواجب التسليم له وانشراح الصدر بذلك وعدم الحرج، بل عليهم أن يسلموا لذلك تسليما كاملا رضا بحكم الله واطمئنانا إليه، هذا هو الواجب على جميع المسلمين فيما شجر بينهم من دعاوى وخصومات، سواء كانت متعلقة بالعبادات أو بالأموال أو بالأنكحة أو الطلاق أو بغيرها من شئونهم. .
وهذا الإيمان المنفي هو أصل الإيمان بالله ورسوله بالنسبة إلى تحكيم الشريعة والرضا بها والإيمان بأنها الحكم بين الناس، فلا بد من هذا، فقد زعم أنه يجوز الحكم بغيرها أو قال إنه يجوز أن يتحاكم الناس إلى الآباء أو إلى الأجداد أو إلى القوانين الوضعية التي وضعها الرجال، سواء كانت شرقية أو غربية - فمن زعم أن
__________
(1) سورة المائدة الآية 50
(2) سورة المائدة الآية 44
(3) سورة المائدة الآية 45
(4) سورة المائدة الآية 47
(5) سورة النساء الآية 65
(6) سورة النساء الآية 65
(7) سورة النساء الآية 65
(8) سورة النساء الآية 65(6/192)
هذا يجوز فإن الإيمان منتف عنه ويكون بذلك كافرا كفرا أكبر، فمن رأى أن شرع الله لا يجب تحكيمه ولكن لو حكم كان أفضل، أو رأى أن القانون أفضل، أو رأى أن القانون يساوي حكم الله فهو مرتد عن الإسلام. وهي ثلاثة أنواع:.
النوع الأول: أن يقول: إن الشرع أفضل ولكن لا مانع من تحكيم غير الشرع.
النوع الثاني: أن يقول: إن الشرع والقانون سواء ولا فرق.
النوع الثالث: أن يقول إن القانون أفضل وأولى من الشرع. وهذا أقبح الثلاثة، وكلها كفر وردة عن الإسلام.
أما الذي يرى أن الواجب تحكيم شرع الله، وأنه لا يجوز تحكيم القوانين ولا غيرها مما يخالف شرع الله ولكنه قد يحكم بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه ضد المحكوم عليه، أو لرشوة، أو لأمور سياسية، أو ما أشبه ذلك من الأسباب وهو يعلم أنه ظالم ومخطئ ومخالف للشرع - فهذا يكون ناقص الإيمان، وقد انتفى في حقه كمال الإيمان الواجب، وهو بذلك يكون كافرا كفرا أصغر وظالما ظلما أصغر وفاسقا فسقا أصغر، كما صح معنى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وجماعة من السلف رحمهم الله، وهو قول أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة ومن سلك سبيلهم.
والله المستعان.(6/193)
معنى قوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (1)
س: قال الله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (2) هل معنى هذا أن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بكتاب الله ولا يجتهد رأيه فيما لم ينزل عليه كتاب؟ وهل اجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ج: الله جل وعلا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بين الناس بما أنزل الله عليه، قال سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (3) فكان يحكم بما أنزل الله، فإذا لم يكن هناك نص عنده اجتهد عليه الصلاة والسلام وحكم بما عنده من الأدلة الشرعية، كما قال في الحديث الصحيح: «إنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار فليحملها أو يذرها (4) » متفق على صحته من حديث أم سلمة رضي الله عنها، ومعنى هذا أنه قد يجتهد في الحكم حسب القواعد الشرعية؛ لأنه لم ينزل عليه فيه شيء، فمن عرف أن الحكم ليس بمطابق وأن الشهود زور فقد أخذ قطعة من النار، فليحذر ذلك وليتق الله في نفسه، ولو كان الرسول هو الحاكم عليه.
لأن الحاكم ليس له إلا الظاهر من ثقة الشهود وعدالتهم، أو يمين المدعى عليه، فإذا كان المدعي أحضر شهودا يعلم أنهم قد غلطوا ولو كانوا تقاة وأن الحق ليس له، أو يعلم أنهم شهود زور ولكن القاضي اعتبرهم عدولا؛ لأنهم عدلوا عنده وزكوا لديه، فإن هذا المال الذي يحكم به له أو القصاص كله باطل بالنسبة إليه لعلمه ببطلانه، وهو قد تعدى حدود الله وظلم، وإن حكم له القاضي؛ لأن القاضي ليس له إلا الظاهر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار (5) » والنبي صلى الله عليه وسلم يحكم بما أنزل الله فيما أوصاه الله إليه، وما لم يكن فيه نص اجتهد فيه عليه الصلاة والسلام حتى تتأسى به الأمة، وهو في ذلك كله يعتبر حاكما بما أنزل الله لكونه حكم
__________
(1) سورة النساء الآية 105
(2) سورة النساء الآية 105
(3) سورة المائدة الآية 49
(4) صحيح البخاري الأحكام (7169) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن الترمذي الأحكام (1339) ، سنن النسائي كتاب آداب القضاة (5422) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، مسند أحمد بن حنبل (6/203) ، موطأ مالك الأقضية (1424) .
(5) صحيح البخاري المظالم والغصب (2458) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن الترمذي الأحكام (1339) ، سنن النسائي كتاب آداب القضاة (5422) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، مسند أحمد بن حنبل (6/320) ، موطأ مالك الأقضية (1424) .(6/194)
بالقواعد الشرعية التي أمر الله أن يحكم بها، ولهذا قال للزبير بن العوام رضي الله عنه لما ادعى على شخص في أرض: «شاهداك أو يمينه، فقال الزبير: إذا يحلف يا رسول الله ولا يبالي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا ذلك (1) » متفق عليه.
«ولما بعث معاذا وفدا إلى اليمن قال له: إن عرض لك قضاء فبم تحكم؟ قال أحكم بكتاب الله قال: فإن لم تجد؟ قال: فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد قال: أجتهد رأي ولا آلو، فضربه صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله (2) » رواه الإمام أحمد وجماعة بإسناد حسن.
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2670) .
(2) سنن الترمذي الأحكام (1327) ، سنن أبو داود الأقضية (3592) ، مسند أحمد بن حنبل (5/230) ، سنن الدارمي المقدمة (168) .(6/195)
تفسير قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (1)
س: الأخ: إبراهيم ع. ز. من بانياس الساحل في سوريا يقول في سؤاله: قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (2) وهذا يعني أنه سبحانه ألزم نفسه بنفسه إطعام كل ما يدب على هذه الأرض من إنسان أو حيوان أو حشرات ... إلخ، فبماذا نفسر المجاعة التي تجتاح بلدان قارة أفريقيا؟
ج: الآية على ظاهرها، وما يقدر الله سبحانه من الكوارث والمجاعات لا تضر إلا من تم أجله وانقطع رزقه، أما من كان قد بقي له حياة أو رزق فإن الله يسوق له رزقه من طرق كثيرة قد يعلمها وقد لا يعلمها؛ لقوله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (4) وقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} (5) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها» .
وقد يعاقب الإنسان بالفقر وحرمان الرزق لأسباب فعلها من كسل وتعطيل للأسباب التي يقدر عليها، أو لفعله المعاصي التي نهاه الله عنها، كما قال الله سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (6) الآية. وقال عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (7) الآية، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه (8) » رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه بإسناد جيد.
وقد يبتلى العبد بالفقر والمرض وغيرهما من المصائب لاختبار شكره وصبره لقول الله سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (9) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (10)
__________
(1) سورة هود الآية 6
(2) سورة هود الآية 6
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 3
(5) سورة العنكبوت الآية 60
(6) سورة النساء الآية 79
(7) سورة الشورى الآية 30
(8) سنن ابن ماجه المقدمة (90) ، مسند أحمد بن حنبل (5/280) .
(9) سورة البقرة الآية 155
(10) سورة البقرة الآية 156(6/196)
وقوله عز وجل: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1) والمراد بالحسنات في هذه الآية النعم، وبالسيئات المصائب. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن (2) » أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وبالله التوفيق.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 168
(2) صحيح مسلم الزهد والرقائق (2999) ، مسند أحمد بن حنبل (6/16) ، سنن الدارمي الرقاق (2777) .(6/197)
أصحاب الكهف وأصحاب الصخرة (1)
__________
(1) ضمن أسئلة برنامج نور على الدرب بالإذاعة.(6/197)
س: هذا سؤال من المستمعة ف. ر. أمن بور سودان أن تقول: ما هو القول الصحيح في عدد أهل الكهف؟ وهل هم أصحاب الصخرة؟ أم أنهم غيرهم؟ فإن كان كذلك فمن هم إذن أصحاب الصخرة وما هي قصتهم؟
ج: أهل الكهف بينهم الله في كتابه العظيم، والأقرب ما قاله جماعة من أهل العلم: أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، هذا هو الأقرب والأظهر، وهم أناس مؤمنون، فتية آمنوا بربهم وزادهم الله هدى، فلما أيقظهم الله بعد أن ناموا المدة الطويلة، توفاهم الله بعد ذلك على دينهم الحق، هؤلاء هم أهل الكهف كما بينهم الله في كتابه الكريم، فتية آمنوا بربهم فزادهم الله هدى وناموا النومة الطويلة بإذن الله، ثم ماتوا بعد ذلك وبنى عليهم بعض أهل الغلبة هناك من الأمراء والرؤساء مسجدا، وقد أخطئوا وغلطوا في ذلك؛ لأن القبور لا يجوز أن تبنى عليها المساجد، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولعن من فعله فقال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » وحذر من البناء على القبور وتجصيصها واتخاذ المساجد عليها، كل هذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ولعن من فعله.
فلا يجوز للمسلمين أن يبنوا على القبور مساجد، ولا قبابا ولا غير ذلك، بل تكون القبور ضاحية مكشوفة غير مرفوعة ليس عليها بناء، لا قبة ولا مسجد ولا غير ذلك، هكذا كانت قبور المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الخلفاء الراشدين حتى غير الناس بعد ذلك وبنوا على القبور، وهذا من الجهل والغلط ومن وسائل الشرك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قالت عائشة رضي الله عنها يحذر ما صنعوا (2) » وقال عليه الصلاة والسلام «لما أخبرته أم حبيبة وأم سلمة أن في أرض الحبشة عدة كنائس فيها تصاوير قال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (529) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (529) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(6/198)
على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور ثم قال أولئك شرار الخلق عند الله (1) » متفق على صحته، فأخبر أنهم شرار الخلق بسبب بنائهم على القبور واتخاذهم الصور عليها، أسأل الله السلامة.
وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: «إن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (2) » أخرجه مسلم في صحيحه، فنهى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث العظيم عن اتخاذ القبور مساجد وحذر من هذا، وبين أنه عمل من كان قبلنا من المغضوب عليهم والضالين وهو عمل مذموم، وما ذاك إلا لأنه من وسائل الشرك والغلو في الأنبياء والصالحين، فلا يجوز للمسلمين أن يتخذوا قبابا ولا مساجد على قبور أمواتهم، بل هذا منكر ومن وسائل الشرك.
وهكذا لا يجوز تجصيص القبور والبناء عليها والقعود عليها. لما ثبت في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها أو إسراجها في أحاديث أخرى، وكل ذلك من باب سد الذرائع المفضية إلى الشرك والغلو، والله المستعان ولما في القعود عليها من الإهانة لأهلها.
أما أصحاب الصخرة فكما جاء في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي في طلب شيء يوما فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج قال
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (427) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (528) ، سنن النسائي المساجد (704) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(6/199)
النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أد إلي أجري فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لاتستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون (1) » . (2)
في هذا الحديث موعظة وذكرى ودلالة على أن الله سبحانه على كل شيء قدير، وأنه سبحانه يبتلي عباده في السراء والضراء والشدة والرخاء ليمتحن صبرهم وشكرهم ويبين آياته لعباده وقدرته العظيمة، وهذا حديث صحيح، رواه مسلم والبخاري في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه عبرة وإرشاد إلى الضراعة إلى الله وإلى سؤاله عند الكرب والشدة، وأنه سبحانه قريب مجيب يسمع دعاء الداعي، ويجيب دعوته إذا شاء سبحانه وتعالى، وفيه دلالة على أن الأعمال الصالحات من أسباب تيسير الأمور وإزالة الشدائد وتفريج الكروب، وفيه دليل على أنه ينبغي للمؤمن إذا وقع في الشدة أن يضرع إلى الله ويفزع إليه، ويسأله، ويتوسل بأعماله الصالحة كإيمانه بالله ورسوله وتوحيده وإخلاص العبادة له، وكبر الوالدين وأداء الأمانة والعفة عن الفواحش.
__________
(1) صحيح البخاري الإجارة (2272) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2743) ، مسند أحمد بن حنبل (2/116) .
(2) اللفظ للبخاري، كتاب الإجارة 12.(6/200)
هذه وأمثالها هي الأسباب والوسائل الشرعية، والله سبحانه من فضله وإحسانه يجيب دعوة المضطر، ويرحم عبده المؤمن ويجيب سؤاله، كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (1) وقال سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (2) وقال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (3)
وهؤلاء الثلاثة مضطرون نزل بهم أمر عظيم وكربة شديدة فسألوا الله بصالح الأعمال، فأجاب الله دعاءهم وفرج كربتهم. وفيه من الفوائد بيان فضل بر الوالدين، وهو من أفضل القربات، ومن أسباب تيسير الأمور، وهكذا العفة عن الزنا، والحذر منه من جملة الأعمال الصالحات ومن أسباب النجاة من كل سوء، وهكذا أداء الأمانة والنصح فيها من أعظم الأسباب في تيسير الكروب ومن أفضل الأعمال الصالحات، ولعظم فائدة هذا الحديث أخبر النبي أمته ليستفيدوا ويعتبروا ويتأسوا بمن قبلهم في الأعمال الصالحة. والله المستعان.
__________
(1) سورة البقرة الآية 186
(2) سورة غافر الآية 60
(3) سورة النمل الآية 62(6/201)
حول رغبة التقليل في مستويات حفظ القرآن الكريم
س: سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز بن عبد الله بن باز، حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.
نرفع لسماحتكم موضوعنا في رغبتنا في التقليل من مستويات حفظ القرآن الكريم بجامعة أم القرى، ليس كراهية لحفظ القرآن الكريم، إنما هذا يرجع إلى سببين:
أولا: لما روي عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي قال: «تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها (1) » متفق عليه، فكلما زاد المحفوظ فإن ظروف الحياة قد تؤدي إلى مراجعة البعض وذهاب الباقي نهبا للنسيان، والمؤمن حريص على وقاية نفسه من ذاك العذاب الذي قد توعد به رب العالمين من يحفظ آياته ثم ينساها.
ثانيا: قد تكالبت على الإنسان في هذه الحياة الهموم وزادت أعباء الحياة وأن حفظ القرآن بحاجة إلى صفاء في الذهن قد لا تيسرها هذه الأعباء والهموم.
لذا نرجو من سماحتكم أن تقفوا بجانب أبنائكم طلاب الجامعة لتحقيق رغبتهم في تقليل المستويات من حفظ القرآن، كأن يكتفى بجزأين من القرآن واستبدال الساعتين الأخيرتين بمادة أصول الفقه أو السيرة النبوية، وجزاكم الله عنا خيرا.
ونسأله تعالى أن يحفظكم ويمد في عمركم مقدمه ع. ع. ا. م.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته:
بعده:
نشكر لكم غيرتكم الطيبة على كتاب الله، ولكن لا نرى الموافقة على ما ذكرتم، ونرجو أن يكون فيما تراه الجامعة الكفاية والبركة إن شاء الله وحسن العاقبة،
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5033) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (791) ، مسند أحمد بن حنبل (4/397) .(6/202)
أما الوعيد الذي أشرتم إليه فليس المقصود منه نسيان الآيات من جهة الذاكرة، وإنما المقصود نسيان العمل وتركه، أما النسيان للمحفوظ من جهة التفلت وعدم الذكر فلا أحد يسلم من ذلك حتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال في بعض الأحاديث: «رحم الله فلانا لقد أذكرني آية كذا كنت أنسيتها (1) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون (2) » وقد نسي في الصلاة عدة مرات.
وفق الله الجميع لما يرضيه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5038) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (788) ، مسند أحمد بن حنبل (6/138) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (401) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (572) ، سنن النسائي السهو (1244) ، سنن أبو داود الصلاة (1020) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/379) .(6/203)
هل الدعوة والصدقة ترد القضاء والقدر
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الابن المكرم صاحب السمو الملكي الأمير المكرم عبد العزيز بن فهد بن عبد العزيز، وفقه الله لكل خير، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ في 24 \ 8 \ 1411 هـ، وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من الأسئلة كان معلوما. وهذا نصها وجوابها (1) :
س ا: هل الدعاء والصدقة ترد القضاء والقدر؟
ج 1: قدر الله عز وجل ماض في عباده، كما قال الله سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (2) وقال عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (3) وقال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (4)
وثبت عن النبي أنه قال لجبريل عليه السلام لما سأله عن الإيمان: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره (5) » وقال: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة (6) » قال: «وعرشه على الماء (7) » رواه الإمام مسلم في صحيحه، وقال عليه الصلاة والسلام: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس (8) » رواه مسلم أيضا.
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وقد ثبت عنه ما يدل على أن الحوادث معلقة بأسبابها، كما في قوله: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، وإن البر يزيد العمر ولا يرد القدر إلا الدعاء (9) » ومراده أن القدر المعلق بالدعاء يرده الدعاء
__________
(1) تاريخه 29 8 1411هـ
(2) سورة الحديد الآية 22
(3) سورة الحج الآية 70
(4) سورة القمر الآية 49
(5) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/27) .
(6) صحيح مسلم القدر (2653) ، سنن الترمذي القدر (2156) ، مسند أحمد بن حنبل (2/169) .
(7) صحيح البخاري التوحيد (7419) ، صحيح مسلم الزكاة (993) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3045) ، مسند أحمد بن حنبل (2/313) .
(8) صحيح مسلم القدر (2655) ، مسند أحمد بن حنبل (2/110) ، موطأ مالك الجامع (1663) .
(9) سنن ابن ماجه المقدمة (90) ، مسند أحمد بن حنبل (5/280) .(6/204)
وهكذا قوله: «من أحب أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أجله فليصل رحمه (1) » .
فالأقدار تردها الأقدار التي جعلها الله سبحانه مانعة لها، والأقدار المعلقة على وجود أشياء كالبر والصلة والصدقة توجد عند وجودها، وكل ذلك داخل في القدر العام المذكور في قوله سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (2) وقوله: «وتؤمن بالقدرخيره وشره (3) » ومن هذا قوله: «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار (4) » وروي عنه أنه قال: «إن صدقة السر تطفئ غضب الله وتدفع ميتة السوء» وجميع الآيات والأحاديث الواردة في هذا الباب تدعو إلى إيمان العبد بأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، كما تدعوه إلى أن يسارع في الخيرات وينافس في الطاعات، ويحرص على أسباب الخير ويبتعد عن أسباب الشر، ويسأل ربه التوفيق والإعانة على كل ما فيه رضا الله سبحانه والسلامة من كل سوء.
وفي الصحيحين عن «النبي أنه قال لأصحابه ذات يوم: ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال لهم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم تلا قوله سبحانه: (11) » والله الموفق.
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5985) .
(2) سورة القمر الآية 49
(3) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/27) .
(4) سنن الترمذي الإيمان (2616) .
(5) صحيح البخاري تفسير القرآن (4949) ، صحيح مسلم القدر (2647) ، سنن الترمذي القدر (2136) ، سنن أبو داود السنة (4694) ، سنن ابن ماجه المقدمة (78) ، مسند أحمد بن حنبل (1/157) .
(6) سورة الليل الآية 5 (5) {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}
(7) سورة الليل الآية 6 (6) {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}
(8) سورة الليل الآية 7 (7) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}
(9) سورة الليل الآية 8 (8) {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}
(10) سورة الليل الآية 9 (9) {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}
(11) سورة الليل الآية 10 (10) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}(6/205)
العناية بالتراث الإسلامي (1)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوة في الله وأبناء كرام في جامعة أم القرى في رحاب البيت العتيق، للتناصح والتواصي بالحق والتذكير بما ينفعنا جميعا إن شاء الله، وأسأل الله عز وجل أن يجعله لقاء مباركا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يمنحنا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته ويوفق ولاة أمرنا وسائر ولاة المسلمين لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد إنه خير مسئول.
ثم أشكر القائمين على شئون جامعة أم القرى وعلى رأسهم الأخ الكريم معالي مدير الجامعة الدكتور: راشد الراجح على دعوتهم لهذا اللقاء، وأسأل الله أن يبارك في جهودهم وأن يعينهم على كل خير وأن ينفع بهم العباد والبلاد، وأن يهيئ على أيديهم لهذه الجامعة وأبنائها كل خير وهدى وصلاح.
أيها الإخوة في الله. أيها الأبناء الكرام. أيها المستمعون: -.
إن عنوان الكلمة هو كما سمعتم: (العناية بالتراث الإسلامي) لا شك أن التراث الإسلامي أمره مهم والعناية به واجبة، وعلى رأس هذا التراث كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، فهما أعظم تراث وأفضل تراث وأنفع تراث، وهما أصل دين الإسلام وأساسه، خلفهما لنا رسولنا ونبينا وإمامنا محمد بن عبد الله عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، والله يقول في كتابه العظيم:
__________
(1) محاضرة ألقاها سماحة الشيخ بتاريخ 26\7\1411 هـ في جامعة أم القرى بمكة المكرمة.(6/206)
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} (1) وعلى رأس المصطفين رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام ثم صحابته الكرام ثم أتباعهم بإحسان جعلنا الله وإياكم من أتباعهم بإحسان.
فكتاب الله فيه الهدى والنور، وهو أعظم التراث وأفضل التراث وأصدقه، فيه الهدى والنور، فيه الدلالة على كل خير والتحذير من كل شر، فيه الدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والتحذير من سيئ الأخلاق وسيئ الأعمال، يقول الله عز وجل في وصف نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام في سورة القلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (2) وصف نبيه بأنه على {خُلُقٍ عَظِيمٍ} (3) وهذا الخلق العظيم وصفته السيدة عائشة رضي الله عنها بقولها: «كان خلقه القرآن (4) » لما سئلت عن ذلك، والأمر كما قال الله عنه، فإن خلقه هو القرآن ممتثلا لأوامره، وينتهي عن نواهيه، ويدعو إليه، ويعمل بالصفات التي أثنى على أهلها القرآن، ويبتعد عن الصفات التي ذم أهلها القرآن، هكذا كان عليه الصلاة والسلام، على هذا الخلق العظيم، من امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه والدعوة إلى سبيله، كان مثلا أعلى في الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة والصفات الحميدة، فهو خير الناس وأفضلهم وأكملهم علما وسيرة وخلقا وأصدقهم قيلا وأحسنهم عملا، عليه الصلاة والسلام، وهو يدعو إلى ما يدعو إليه القرآن العظيم في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (5)
ويقول سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (6) ويقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} (7) فهو تبيان لكل شيء، أوضح الله فيه كل شيء إجمالا وتفصيلا، وجعله هدى وشفاء، جعله الله سبحانه هدى وشفاء للناس، شفاء لما في الصدور من أمراض الشرك والكفر والحسد والكبر والنفاق، وشفاء للأبدان من أمراض كثيرة
__________
(1) سورة فاطر الآية 32
(2) سورة القلم الآية 4
(3) سورة القلم الآية 4
(4) سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1601) ، سنن أبو داود الصلاة (1342) ، مسند أحمد بن حنبل (6/91) .
(5) سورة الإسراء الآية 9
(6) سورة فصلت الآية 44
(7) سورة النحل الآية 89(6/207)
تستعصي على الأطباء ويشفيها القرآن، يقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (1) ويقول جل وعلا: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (2)
فالواجب على أهل الإسلام العناية بهذا الكتاب العظيم وحفظه والمذاكرة فيه وتدبر معانيه ونقل ألفاظه ومعانيه للناس كما أنزل؛ لأن فيه الهدى والنور، فيه الدلالة على كل خير، فيه الدعوة لكل ما ينفع العباد والبلاد وفيه الترهيب من كل سوء. ولهذا أوصى عليه الصلاة والسلام في خطبة حجة الوداع بهذا الكتاب العظيم فيما رواه مسلم في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه: أنه خطب الناس يوم عرفة وقال في خطبته: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله (3) » وفي رواية الحاكم وغيره «كتاب الله وسنتي» .
فالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله هو السبيل الوحيد للنجاة، وهو الصراط المستقيم، فالواجب على أهل الإسلام بل على جميع المكلفين أن يدخلوا في دين الله، وأن يلتزموا بدين الله، وأن يعتصموا بهذا الكتاب العظيم والسنة المطهرة، وذلك فرض على جميع المكلفين من الجن والإنس، من العرب والعجم، من الذكور والإناث، والأغنياء والفقراء والحكام والمحكومين، فرض عليهبم جميعا أن يدخلوا في دين الله، وهو الإسلام، كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (4) ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} (5) فرض عليهم أن يدخلوا في دين الله، وأن يعتصموا بكتابه وهو القرآن، وبسنة الرسول الصحيحة الثابتة عنه عليه الصلاة والسلام، وليس لهم أن يحيدوا عن ذلك.
فالواجب على اليهود والنصارى وعلى جميع المشركين وعلى جميع أصناف الكفرة - الواجب على الجميع أن يدخلوا في دين الله، وأن يلتزموا به، وهذا هو التراث الذي
__________
(1) سورة يونس الآية 57
(2) سورة الإسراء الآية 82
(3) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) .
(4) سورة البقرة الآية 21
(5) سورة النساء الآية 1(6/208)
فيه سعادتهم إذا عقلوا، وعلى أهل الإسلام الذين من الله عليهم بالإسلام أن يحمدوا الله على ذلك ويشكروه وأن يستقيموا على دينهم، وأن يحفظوا تراثهم العظيم، ويتواصوا به كثيرا ويتدبروه ويتعقلوه ويعملوا به، كما قال عز وجل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1)
وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (2) وقال عز وجل: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) فالواجب على جميع المكلفين أن يدخلوا في دين الله (الإسلام) وأن يلتزموا به، وأن يخضعوا لأوامر الله وينتهوا عن نواهيه، ويلتزموا بهذا الكتاب العظيم فيدينوا به، ويؤمنوا به، ويعملوا به مع سنة الرسول، فإنها الوحي الثاني.
وهذا التراث هو أعظم تراث، ولا نجاة للعالم ولا سعادة للعالم إلا بحفظ هذا التراث والتفقه فيه، والاستقامة عليه، والدعوة إليه علما وعملا وعقيدة، خلقا وسيرة.
فكتاب الله فيه الهدى والنور وفي سنة رسوله بيان ما قد يخفى، مع بيان أحكام جاءت بها السنة لم تذكر في كتاب الله، وأحكام فصلتها السنة لم تفصل في كتاب الله، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (4) وقال جل وعلا: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (5)
فالله أنزل الكتاب عليه تبيانا لكل شيء، وأمره سبحانه أن يبين للناس وأن يشرح لهم ما قد يخفى عليهم، وأن يوضح لهم ما قد يختلفون فيه، حتى يرجعوا إلى الصواب، وحتى يستقيموا على الهدى، وقد بلغ البلاغ المبين عليه الصلاة والسلام، وأدى الأمانة ونصح الأمة، حتى قال لهم يوم عرفة بعدما خطبهم وبين لهم ما يجب عليهم في حجهم، وبين لهم أمورا أخرى تهمهم وتهم المسلمين جميعا فيما يتعلق
__________
(1) سورة ص الآية 29
(2) سورة محمد الآية 24
(3) سورة الأنعام الآية 155
(4) سورة النحل الآية 44
(5) سورة النحل الآية 64(6/209)
بالربا، وأمور الجاهلية وبتحريم الدماء والأموال والأعراض، وما يتعلق بالنساء، والوصية بهن خيرا وبيان حقوقهن على أزواجهن وحق أزواجهن عليهن- قال بعد ذلك وبعد ما أوصاهم بالقرآن: «وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فرفع أصبعه إلى السماء فقال: اللهم اشهد اللهم اشهد اللهم اشهد (1) » يستشهد ربه وهو فوق العرش وفوق جميع المخلوقات، سبحانه وتعالى، يستشهده عليهم، وكل عالم يشهد، وكل مسلم يشهد بأنه بلغ الرسالة، وكل مسلم عرف دين الله يشهد لهذا النبي الكريم أنه أدى الرسالة وأدى الأمانة وبلغ البلاغ المبين عليه الصلاة والسلام. .
فعلينا جميعا معشر المسلمين، ومعشر طلاب العلم، ومعشر العلماء، على الجميع أن يعظموا هذا التراث العظيم، وأن يحببوه إلى الناس ويذكروهم بهذا التراث، ويتمسكوا به ويعضوا عليه بالنواجذ، ويعملوا به مع سنة رسول الله، فإنها الوحي الثاني الموضح لكتاب الله والدال على أحكام أخرى أوحاها الله لنبيه عليه الصلاة والسلام.
وهذا التراث العظيم، كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام هما أعظم التراث، وهما أهم التراث، والواجب العناية بهما، والوصية بهما والتمسك بهما قولا وعملا وعقيدة، في السر والجهر، في الشدة والرخاء، في الصحة والمرض، في السفر والإقامة، من الذكور والإناث، من العرب والعجم، من الجن والإنس، من الحكام والمحكومين، من الأغنياء والفقراء، على هؤلاء جميعا أن يعملوا بهذا القرآن وسنة رسول الله المطهرة، وأن يحفظوا هذا التراث حفظا يتضمن العمل والنصيحة، والدعوة إلى هذا التراث والاستقامة على معناه، والحرص على تبليغه لجميع العالم وبكل الطرق وبجميع الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة.
يقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) ويقول عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3)
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(2) سورة فصلت الآية 33
(3) سورة النحل الآية 125(6/210)
ويقول جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) ويقول النبي في الحديث الصحيح: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (2) » ويقول: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (3) » ويقول لما بعث عليا إلى خيبر وأمره أن يدعو أهلها وهم اليهود إلى الإسلام قال عليه الصلاة والسلام: «فوالله لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (4) » متفق على صحته.
فسيرته وأقواله وأعماله وتقريراته كلها من التراث وكلها من السنة، فالواجب العناية بذلك والحرص على كتب السنة، فكتب السنة من أعظم التراث.
وإن السنة التي جاءت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله وعمله وتقريراته وغزواته وغير ذلك- يجب على أهل الإسلام؛ والعلماء على الوجه الأخص، والحكام وطلبة العلم، العناية بها تفسيرا، ومن ذلك الكتب الإسلامية المشتملة على تفسير كتاب الله وبيان معناه، والمشتملة على أحاديث الرسول وسيرته ومغازيه وغير ذلك كالصحيحين والسنن الأربع وموطأ مالك ومسند أحمد وكتب الحديث، فإنها أعظم التراث وأفضل التراث وأهم التراث بعد كتاب الله، وإنها الحافظة للسنة والمبلغة لها، وهي الوحي الثاني، فالواجب على أهل الإسلام العناية بها وبأصولها ومخطوطاتها الصحيحة؛ لأنها مرجع يرجع إليها عند الحاجة، عند الاختلاف.
ومن أعظم العناية بالتراث العناية بالمخطوطات الحديثية والمخطوطات التفسيرية والمخطوطات الفقهية لأئمة الإسلام المعروفين المحتج بهم والمعمول بأقوالهم، فالعناية بها من أهم العناية، وهكذا كتب اللغة العربية والقواعد العربية وكتب التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية، كلها تجب العناية بها حتى تنقل سليمة صافية، سليمة من عبث العابثين وكذب الكذابين، وقد عني علماء الإسلام بذلك، وبينوا ما أدخله
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(3) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(4) صحيح البخاري المناقب (3701) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .(6/211)
الكذابون في أحاديث الرسول وما وضعه الواضعون من الكتب الباطلة، فقد عني أهل العلم بذلك.
فعلينا أيضا أن نسير على نهجهم، وعلينا أن نعنى بهذا التراث العظيم ونبين الحق من الباطل ونبين الصالح من الزائف، ونحرص على العناية بالكتب السليمة المفيدة من كتب الحديث والتفسير والفقه الإسلامي والقواعد العربية وغيرها من الكتب النافعة، حتى الكتب الأخرى التي تنفع المسلمين في أمور دنياهم والمتلقاة عن أهل الثقة والبصيرة في شئونهم؛ لأن الناس في حاجة إلى أن يعرفوا شئون دنياهم ويستعينوا بها على طاعة الله وكل شيء ينفع المسلمين ويعينهم على حفظ دينهم وحفظ كتاب ربهم وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، ويعينهم على الإعداد للأعداء فهو مهم، ومن التراث الذي يجب أن يحفظ ويعتنى به، والله يقول سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1)
فالكتب التي ألفها الأقدمون من المسلمين، أو ألفها غير المسلمين وتنفع المسلمين وتعينهم على الإعداد للعدو، وهم في شتى العلوم الدنيوية يعتنى بها أيضا، إن كانت تنفع المسلمين وتعينهم على إعداد القوة والاجتهاد فيما ينفعهم في دينهم ويقوي جندهم وجهادهم ضد عدوهم، ومن أعظم ذلك العناية أيضا بأخلاق النبي وسيرة أصحابه وسيرة أهل العلم حتى يقتدى بهم في الخير؛ لأن العلم المقصود منه العمل، علينا أن نعنى بالسلف الأخيار وعلى رأسهم نبينا عليه الصلاة والسلام، في أخلاقه وسيرته وقيامه وصلاته وغير ذلك، وسيرة أصحابه وأعمالهم الطيبة وغزواتهم وجهادهم وتعليمهم وإرشادهم وما كانوا عليه من بث العلم ونشره، وحلقات العلم في المساجد، وما كان عليه أهل العلم من النشاط في ذلك، والعناية بذلك، حتى يتأسى الآخر بالأول، وحتى يلحق الآخر بالأول بالعمل الصالح والعلم النافع والسيرة الحميدة والبلاغ للحق وإيثاره على ما سواه، وكل أمر سلكه الأخيار والقدامى مما ينفع المسلمين ويعينهم على تنفيذ أمر الله
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60(6/212)
والوقوف عند حدوده يعتني به.
أما ما ألصقه الجهلة أو الأعداء بالإسلام فيجب التنبيه عليه، حتى يتبين براءة الإسلام منه وحتى لا يلصق بالتراث الإسلامي ما ليس منه، كما فعل الجهلة والمشركون من إحداث الأبنية على القبور واتخاذ المساجد على القبور، فهذا ليس من شأن الإسلام، والإسلام يحارب هذا. يحارب البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها لأنها من وسائل الشرك كما فعلت اليهود والنصارى وتابعهم كثير من هذه الأمة، من الجهلة والمبتدعة حتى بنوا على القبور، واتخذوا عليها المساجد والقباب، وحصل الشرك بسبب ذلك، فيجب أن ينبه على أنها ليست من الإسلام وليست من التراث الإسلامي، ويجب إنكار ذلك والقضاء عليه، وهكذا الصلاة عند القبور والدعاء عندها وتحري القراءة عندها من وسائل الشرك، يجب أن ينبه على هذا ويبين أنها ليست من التراث الإسلامي، بل هي مما أحدثه الجهلة وأنكره الإسلام، وهكذا ما أحدثه بعض الناس من الاحتفال بالموالد ويزعمون أنه من التراث، وهذا غلط، ليس من التراث الإسلامي، وإن فعله كثير من المسلمين في أمصار كثيرة، جهلا وتقليدا، فالاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين بعد القرون المفضلة، وليس من التراث الإسلامي، وهو من التراث المبتدع.
وهكذا الاحتفال بجميع الآثار التي يدعو إليها دعاة الشرك، سواء كانت صخرة أو شجرة، أو غير ذلك مما يعظمه الجهال أو يتبركون به، كل هذا مما ينافي الإسلام وهو ضد الإسلام، ولما بلغ عمر رضي الله عنه أن أناسا يقصدون الشجرة التي بويع تحتها الرسول عليه الصلاة والسلام ويصلون عندها خاف عليهم وأمر بقطعها سدا لذرائع الشرك، ولما بلغه أن جثة في فارس تنسب إلى دانيال نبي الله، وأن هناك من يغلو فيها من الأعاجم، وبلغه جيشه ذلك، أمر بأن يحفر بالليل بضعة عشر قبرا ثم يدفن في أحدهما ثم تسوى ليلا، حتى لا يعرف، وحتى لا يغلى فيه ولا يعبد.
والمقصود أن الغلو في القبور بالبناء عليها والصلاة عندها والعكوف عليها واتخاذ المساجد عليها ليس من التراث الإسلامي، بل هو من التراث الذي نهى عنه الإسلام وأنكره وحذر منه، وهو من وسائل الشرك، وهكذا فقد توجد أصنام في بعض البلدان أو بعض الدول تنسب إلى الأنبياء أو تنسب إلى الإسلام يجب أن يعلم أنها خطأ وضلال، وأن(6/213)
جميع الأنبياء وجميع الرسل كلهم عليهم الصلاة والسلام دعواإلى توحيد الله، وإلى الإسلام، الذي هو إخلاص العبادة لله وحده، وكلهم يحاربون الأصنام، وأولهم نوح عليه الصلاة والسلام حارب ما يعبد من غير الله ونهى قومه عن ذلك، وحذر من عبادة: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، لما وقع الشرك بهم بسبب الغلو، فيجب التنبه لهذا الأمر، ويجب على طلاب العلم وأهله النهي عن ذلك حتى لا يدخل في الإسلام ما ليس منه.
ويجب أن يعرف التراث الإسلامي، وأنه ما ثبت بكتاب الله، أو سنة رسوله، وبما شرعه الله لعباده، أو أجمع عليه المسلمون، هذا هو التراث الإسلامي، أما ما ابتدعه المبتدعون وأحدثه المحدثون من عبادات أو أماكن تعظم، أو أشجار وغير ذلك- فهذه لا يجوز أن تنسب إلى الإسلام ويقال إنها تراث إسلامي، بل يبين أنها بدع وأنه من الواجب الحذر منها كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق على صحته، وقال عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » أخرجه مسلم في صحيحه.
والخلاصة: أن المقصود من التراث الإسلامي هو ما بعث به نبينا عليه الصلاة والسلام من الهدى ودين الحق، والكتب التي ألفت في ذلك مما ينفعنا والمخطوطات الموجودة في ذلك، وهكذا كل ما نريده ونأخذ به ونستعين به على طاعة الله وعلى الإعداد لأعداء الله.
أما ما يخالف ديننا فهو ليس من الإسلام في شيء، بل يجب أن يحارب ويبتعد عنه ويحذر منه على حسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة ومن إجماع أهل العلم.
وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمنحنا وإياكم الفقه في الدين والثبات عليه، وأن يصلح أحوالنا جميعا، وأن يوفق جميع المسلمين في كل مكان للفقه في الدين والثبات عليه، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم، وأن يوفق جميع ولاة الأمر من المسلمن إلى الأخذ بشريعته والتحاكم إليها وإنكار ما خالفها، إنه جل وعلا جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/270) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(6/214)
أسئلة مهمة والإجابة عليها
تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام
س: سؤال يتعلق بتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام وهل هناك دليل على ذلك؟
جـ: هذا مأخوذ من الاستقراء؛ لأن العلماء لما استقرءوا ما جاءت به النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ظهر لهم هذا، وزاد بعضهم نوعا رابعا هو توحيد المتابعة، وهذا كله بالاستقراء.
فلا شك أن من تدبر القرآن الكريم وجد فيه آيات تأمر بإخلاص العبادة لله وحده، وهذا هو توحيد الألوهية، ووجد آيات تدل على أن الله هو الخلاق وأنه الرزاق وأنه مدبر الأمور، وهذا هو توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون ولم يدخلهم في الإسلام، كما يجد آيات أخرى تدل على أن له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأنه لا شبيه له ولا كفو له، وهذا هو توحيد الأسماء والصفات الذي أنكره المبتدعة من الجهمية والمعتزلة والمشبهة، ومن سلك سبيلهم.
ويجد آيات تدل على وجوب اتباع الرسول ورفض ما خالف شرعه، وهذا هو توحيد المتابعة، فهذا التقسيم قد علم بالاستقراء وتتبع الآيات ودراسة السنة، ومن ذلك قول الله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) وقوله عز وجل: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (3) وقوله سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (4) وقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (5) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (6) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (7) وقوله
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة البقرة الآية 163
(4) سورة آل عمران الآية 18
(5) سورة الذاريات الآية 56
(6) سورة الذاريات الآية 57
(7) سورة الذاريات الآية 58(6/215)
سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1) وقوله سبحانه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (2) وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3) وقال عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (4) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (5) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (6) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (7) وقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (8) وقال سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (9) والآيات فيما ذكر من التقسيم كثيرة.
ومن الأحاديث: قول النبي في حديث معاذ رضي الله عنه المتفق على صحته: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (10) » وقوله: «من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار (11) » رواه البخاري في صحيحه، وقوله لجبريل لما سأله عن الإسلام قال: «أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة (12) » الحديث، متفق عليه، وقوله: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصا الله (13) » متفق على صحته، وقوله: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل يا رسول الله ومن يأبى؟ قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (14) » رواه البخاري في صحيحه.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الإله هو المعبود المطاع فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه
__________
(1) سورة الأعراف الآية 54
(2) سورة يونس الآية 31
(3) سورة الشورى الآية 11
(4) سورة الإخلاص الآية 1
(5) سورة الإخلاص الآية 2
(6) سورة الإخلاص الآية 3
(7) سورة الإخلاص الآية 4
(8) سورة آل عمران الآية 31
(9) سورة النور الآية 54
(10) صحيح البخاري الجهاد والسير (2856) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد بن حنبل (5/238) .
(11) صحيح البخاري تفسير القرآن (4497) ، مسند أحمد بن حنبل (1/374) .
(12) صحيح البخاري تفسير القرآن (4777) ، صحيح مسلم الإيمان (9) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4991) ، سنن ابن ماجه المقدمة (64) ، مسند أحمد بن حنبل (2/426) .
(13) صحيح البخاري الجهاد والسير (2957) ، صحيح مسلم الإمارة (1835) ، سنن النسائي الاستعاذة (5510) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2859) ، مسند أحمد بن حنبل (2/387) .
(14) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، صحيح مسلم الإمارة (1835) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .(6/216)
يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع) . وقال: (فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها وتخضع له وتذله وتخافه وترجوه وتنيب إليه في شدائدها وتدعوه في مهماتها وتتوكل عليه في مصالحها وتلجأ إليه وتطمئن بذكره وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، ولهذا كانت لا إله إلا الله أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله) (1) .
ونسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا من حكام ومحكومين للفقه في دينه والثبات عليه والنصح لله ولعباده، والحذر مما يخالف ذلك، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، باب فضل التوحيد(6/217)
اختلاف مدلولات الإيمان والتوحيد والعقيدة
س: الإيمان والتوحيد والعقيدة أسماء لمسميات هل تختلف في مدلولاتها؟
جـ: نعم، تختلف بعض الاختلاف، ولكنها ترجع إلى شيء واحد. التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، والإيمان هو الإيمان بأنه مستحق للعبادة، والإيمان بكل ما أخبر به سبحانه، فهو أشمل من كلمة التوحيد، التي هي مصدر وحد يوحد، يعني أفرد الله بالعبادة وخصه بها؛ لإيمانه بأنه سبحانه هو المستحق لها؛ لأنه الخلاق؛ لأنه الرزاق؛ ولأنه الكامل في أسمائه وصفاته وأفعاله؛ ولأنه مدبر الأمور والمتصرف فيها، فهو المستحق للعبادة، فالتوحيد هو إفراده بالعبادة ونفيها عما سواه، والإيمان أوسع من ذلك يدخل فيه توحيده والإخلاص له، ويدخل فيه تصديقه في كل ما أخبر به(6/217)
رسوله عليه الصلاة والسلام، والعقيدة تشمل الأمرين، فالعقيدة تشمل التوحيد، وتشمل الإيمان بالله وبما أخبر به سبحانه أو أخبر به رسوله، والإيمان بأسمائه وصفاته.
والعقيدة: هي ما يعتقده الإنسان بقلبه ويراه عقيدة يدين الله بها ويتعبده بها، فيدخل فيها كل ما يعتقده من توحيد الله والإيمان بأنه الخلاق الرزاق وبأنه له الأسماء الحسنى والصفات العلى، والإيمان بأنه لا يصلح للعبادة سواه، والإيمان بأنه حرم كذا وأوجب كذا وشرع كذا ونهى عن كذا، فهي أشمل.(6/218)
التعريف بالطريقة الظاهرية
س: نسمع بالطريقة الظاهرية لم تدعو؟ وهل هي مصادقة للسنة؟
جـ: الطريقة الظاهرية معروفة، وهي التي يسير عليها داود بن علي الظاهري، وأبو محمد ابن حزم، ومن يقول بقولهما، ومعناها: الأخذ بظاهر النصوص وعدم النظر في التعليل والقياس، فلا قياس عندهم ولا تعليل، بل يقولون بظاهر الأوامر والنواهي، ولا ينظرون إلى العلل والمعاني، فسموا ظاهرية لهذا المعنى؛ لأنهم أخذوا بالظاهر ولم ينظروا في العلل والحكم والأقيسة الشرعية التي دل عليها الكتاب والسنة، ولكن قولهم في الجملة أحسن من قول أهل الرأي المجرد الذين يحكمون الآراء والأقيسة، ويعرضون عن العناية بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، لكن عليهم نقص ومؤاخذات في جمودهم على الظاهر، وعدم رعايتهم للعلل والحكم والأسرار التي نبه عليها الشارع وقصدها، ولهذا غلطوا في مسائل كثيرة دل عليها الكتاب والسنة.
والله ولي التوفيق.(6/218)
لا إكراه في قبول الإسلام
س: يقول بعض الزملاء: من لم يدخل الإسلام يعتبر حرا لا يكره على الإسلام، ويستدل بقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (1) وقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (2) فما رأي سماحتكم في هذا؟
جـ: هاتان الآيتان الكريمتان والآيات الأخرى التي في معناهما بين العلماء أنها في حق من تؤخذ منهم الجزية كاليهود والنصارى والمجوس، لا يكرهون، بل يخيرون بين الإسلام وبين بذل الجزية. وقال آخرون من أهل العلم: إنها كانت في أول الأمر ثم نسخت بأمر الله سبحانه بالقتال والجهاد، فمن أبى الدخول في الإسلام وجب جهاده مع القدرة حتى يدخل في الإسلام أو يؤدي الجزية إن كان من أهلها، فالواجب إلزام الكفار بالإسلام إذا كانوا لا تؤخذ منهم الجزية؛ لأن إسلامهم فيه سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، فإلزام الإنسان بالحق الذي فيه الهدى والسعادة خير له من الباطل، كما يلزم الإنسان بالحق الذي عليه لبني آدم ولو بالسجن أو بالضرب.
فإلزام الكفار بتوحيد الله والدخول في دين الإسلام أولى وأوجب؛ لأن فيه سعادتهم في العاجل والآجل إلا إذا كانوا من أهل الكتاب كاليهود والنصارى أو المجوس، فهذه الطوائف الثلاث جاء الشرع بأنهم يخيرون. فإما أن يدخلوا في الإسلام وإما أن يبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
وذهب بعض أهل العلم إلى إلحاق غيرهم بهم في التخيير بين الإسلام والجزية، والأرجح أنه لا يلحق بهم غيرهم، بل هؤلاء الطوائف الثلاث هم الذين يخيرون؛ لأن الرسول قاتل الكفار في الجزيرة ولم يقبل منهم إلا الإسلام، قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) ولم يقل: أو أدوا الجزية، فاليهود
__________
(1) سورة يونس الآية 99
(2) سورة البقرة الآية 256
(3) سورة التوبة الآية 5(6/219)
والنصارى والمجوس يطالبون بالإسلام، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا وجب على أهل الإسلام قتالهم، إن استطاعوا ذلك، يقول عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1)
ولما «ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الجزية من المجوس (2) » ، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم أنهم أخذوا الجزية من غير الطوائف الثلاث المذكورة، والأصل في هذا قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (3) وقوله سبحانه {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) وهذه الآية تسمى آية السيف.
وهي وأمثالها هي الناسخة للآيات التي فيها عدم الإكراه على الإسلام. والله الموفق.
__________
(1) سورة التوبة الآية 29
(2) صحيح البخاري الجزية (3157) ، سنن الترمذي السير (1587) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3043) ، مسند أحمد بن حنبل (1/191) ، موطأ مالك الزكاة (617) ، سنن الدارمي السير (2501) .
(3) سورة الأنفال الآية 39
(4) سورة التوبة الآية 5(6/220)
معنى كلمة اسمه تعالى " الظاهر "
س: ما رأي سماحتكم في من قال في معنى اسم الله "الظاهر " أي الظاهر في كل شيء هل يدخل هذا في القول بالحلول أم لا؟
جـ: هذا باطل؛ لأنه خلاف ما فسر به النبي الآية الكريمة. فقد ثبت عنه أنه قال: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء فاقض عني الدين وأغنني من الفقر (1) » أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، فالظاهر معناها: العالي
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) ، سنن الترمذي الدعوات (3481) ، سنن أبو داود الأدب (5051) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3831) ، مسند أحمد بن حنبل (2/404) .(6/220)
فوق جميع الخلق، ولكن آياته ودلائل وجوده وملكه وعلمه موجودة في كل شيء وأنه رب العالمين وخالقهم ورازقهم، فأنت أيها الإنسان الذي أعطاك الله السمع والبصر والعقل، وأعطاك هذا البدن والأدوات التي تبطش بها وتمشي بها من جملة الآيات الدالة على أنه رب العالمين، وهكذا السماء والأرض والليل والنهار والمعادن والحيوانات وكل شيء، كلها آيات له سبحانه وتعالى تدل على وجوده وقدرته وعلمه وحكمته، وأنه المستحق للعبادة، كما قال الشاعر:
فواعجبا كيف يعصى الإل ... هـ أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
والله يقول جل وعلا: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) ثم قال بعدها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (2) فأوضح سبحانه في هذه الآية أنواعا من مخلوقاته الدالة على أنه سبحانه هو الإله الحق الذي لا تجوز العبادة لغيره سبحانه وتعالى، فكل شيء له فيه آية، ودليلنا على أنه رب العالمين، وأنه موجود وأنه الخلاق وأنه الرزاق وأنه المستحق لأن يعبد سبحانه وتعالى، وأما معنى الظاهر فهو العالي فوق جميع الخلق، كما تقدم ذلك في الحديث الصحيح عن رسول الله.
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة البقرة الآية 164(6/221)
معنى المثل الأعلى
س: قوله سبحانه: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1) أهل المثل يعني الشبيه؟
__________
(1) سورة الروم الآية 27(6/221)
جـ: يعني المثل: الوصف الأعلى من كل الوجوه، فهو سبحانه الموصوف بالكمال المطلق من كل الوجوه، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (3) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (4) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (5) والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة الإخلاص الآية 1
(3) سورة الإخلاص الآية 2
(4) سورة الإخلاص الآية 3
(5) سورة الإخلاص الآية 4(6/222)
الفرق بين الأسماء والصفات
س: ما الفرق بين الأسماء والصفات؟
جـ: كل أسماء الله سبحانه مشتملة على صفات له سبحانه تليق به وتناسب كماله، ولا يشبهه فيها شيء، فأسماؤه سبحانه أعلام عليه ونعوت له عز وجل، ومنها: الرحمن، الرحيم، العزيز، الحكيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن. إلى غير ذلك من أسمائه سبحانه الواردة في كتابه الكريم وفي سنة رسوله الأمين، فالواجب إثباتها له سبحانه على الوجه اللائق بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وهذا هو معنى قول أئمة السلف كمالك والثوري والأوزاعي وغيرهم: أمروها كما جاءت بلا كيف.
والمعنى أن الواجب إثباتها لله سبحانه على الوجه اللائق به سبحانه.
أما كيفيتها فلا يعلمها إلا الله سبحانه، ولما سئل مالك رحمه الله عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) كيف استوى؟ أجاب رحمه الله بقوله: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، يعني بذلك رحمه الله: السؤال عن الكيفية، وقد روى هذا المعنى عن شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وعن أم سلمة رضي الله عنها، وهو قول أئمة السلف جميعا. كما نقله عنهم غير واحد من أهل العلم، ومنهم شيخ الإسلام
__________
(1) سورة طه الآية 5(6/222)
ابن تيمية رحمه الله في: " العقيدة الواسطية " وفي: " الحموية " و " التدمرية " وفي غيرها من كتبه رحمه الله. هكذا نقله عنهم العلامة ابن القيم رحمه الله في كتبه المشهورة، ونقله عنهم قبل ذلك أبو الحسن الأشعري رحمه الله.(6/223)
هل الإسلام انتشر بالسيف
س: لمزيد من الفائدة ما رأيكم في قول من قال: إن الإسلام انتشر بالسيف، ونريد أن نرد عليهم ردا منطقيا؟
جـ: هذا القول على إطلاقه باطل، فالإسلام انتشر بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وأيد بالسيف، فالنبي صلى الله عليه وسلم بلغه بالدعوة بمكة ثلاثة عشر عاما، ثم في المدينة قبل أن يؤمر بالقتال، والصحابة والمسلمون انتشروا في الأرض ودعوا إلى الله، ومن أبى جاهدوه؛ لأن السيف منفذ، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (1) وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (2) فمن أبى قاتلوه لمصلحته ونجاته، كما يجب إلزام من عليه حق لمخلوق بأداء الحق الذي عليه ولو بالسجن أو الضرب، ولا يعتبر مظلوما فكيف يستنكر أو يستغرب إلزام من عليه حق لله بأداء حقه، فكيف بأعظم الحقوق وأوجبها وهو توحيد الله سبحانه وترك الإشراك به، ومن رحمة الله سبحانه أن شرع الجهاد للمشركين وقتالهم حتى يعبدوا الله وحده ويتركوا عبادة ما سواه، وفي ذلك سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة والله الموفق.
__________
(1) سورة الحديد الآية 25
(2) سورة الأنفال الآية 39(6/223)
الأهداف الأساسية الجديرة بالأولوية في الحياة
س: ما هي الأهداف الأساسية الجديرة بإعطائها الأولوية وحق الأسبقية حتى نفوز بالسعادة والنجاة والنصر على الأعداء إن شاء الله؟
جـ: إن الأهداف الأساسية التي يجب أن نعطيها الأولوية حتى نفوز بالنجاة والسعادة ونستحق النصر من عند الله هي أن نتفقه في ديننا ونعمل به في أنفسنا ومع غيرها، وأن ننصر الله عز وجل، ونصره إنما هو بنصر دينه وذلك بالامتثال بأوامره والانتهاء عن نواهيه في جميع نواحي الحياة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الحق، فإذا حققنا ذلك وعملنا على مقتضى الشريعة الإسلامية وحكمناها في مختلف شئون حياتنا فإن النصر من عند الله سيكون مضمونا لنا؛ لأن الله وعدنا بذلك وهو الصادق في وعده كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) وقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) ، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (3) وقال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (4) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (5)
ثم إن الإسلام يأمر بالأخذ بالأسباب المادية من توحيد الصفوف وأخذ الحذر وإعداد القوة لمواجهة العدو كما في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} (6) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (7) الآية، وقوله عز وجل {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (8) الآية، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة الروم الآية 47
(3) سورة النحل الآية 128
(4) سورة الحج الآية 40
(5) سورة الحج الآية 41
(6) سورة الأنفال الآية 60
(7) سورة النساء الآية 71
(8) سورة آل عمران الآية 103(6/224)
نصيحة بالقيام على الدعوة إلى الله والصبر عليها (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم الشيخ: م. أ. م. م وفقه الله وزاده علما وتوفيقا آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ في 19 \ 12 \ 73 م، وسرني ما تضمنه من الإفادة عن نشاطكم ضد المبادئ الهدامة وما جرى عليكم بسبب ذلك، وهكذا الرسل وأتباعهم يبتلون ثم تكون لهم العاقبة الحميدة، فاصبروا وصابروا وأبشروا، وقد اطلعت على المحاضر المرفقة بعنوان: " أين نحن من منهج الإسلام " فألفيتها في الجملة محاضرة جيدة كثيرة الفائدة، إلا أن فيها بعض المواضع الغامضة المعنى. مثال قولكم في صفحة "3": ولهذا يعتبرالإسلام كل من يخرج عن هذا الوضع ويشكل طبقة جديدة أو يكون مراكز قوى يعتبره الإسلام كافرا بالإسلام ... إلخ، فنوصيكم بالعناية بالتفصيل والإيضاح دائما في المحاضرات وغيرها.
أما ما ذكرتم من الرغبة في العمل في السعودية فلا يخفى عليكم أن السنة الدراسية مضى منها جزء كبير والغالب أن وزارة المعارف قد أمنت حاجتها من المدرسين. والذي أرى أن تعملوا في الوعظ والإرشاد في الكويت، ولا حرح عليكم في أخذ الراتب على ذلك، كما تأخذونه على التدريس، فكلا الأمرين دعوة إلى الله وتعليم وتوجيه، وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، وليس هناك بأس أن يأخذ المسلم من بيت المال ما يعينه على التدريس، أو الوعظ والإرشاد، أو الإمامة والأذان، أو نحوها من جهات البر، وإنما الخلاف في أخذ الأجرة على التعليم أو الإمامة إذا كان ذلك من غير بيت المال، وقد أخذ أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام في زمنه وزمن
__________
(1) صدر الخطاب من مكتب سماحته في 20\1\1394 هـ برقم 1264\1\1.(6/225)
خلفائه الراشدين من بيت المال ما يعينهم على طاعة الله والجهاد في سبيله، وهم أورع الناس، وأخشاهم لله، وأعلمهم بشرعه بعد الأنبياء رضي الله عنهم وأرضاهم، فلنا ولكم وللمسلمين فيهم أسوة حسنة. وفق الله الجميع لما يرضيه، ومنحنا وإياكم وسائر إخواننا الفقه في دينه والثبات عليه إنه سميع قريب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(6/226)
مرئيات حول مستقبل الإسلام
س: سماحة الشيخ: كيف ترون مستقبل الإسلام أمام التيارات والأيدولوجيات والمذاهب المختلفة التي تناصبه العداء.
جـ: أرى أن الإسلام سوف ينتصر بإذن الله على تلك التيارات والنحل الزائفة التي ابتلي بها العالم في عصرنا الحاضر، وأن كل ما يوجه إلى الإسلام من عداء ماكر للنيل منه وإزاحته عن قيادة العالم سوف يعود في النهاية بإذن الله تعالى على نحور أصحابه، وذلك أن الله جل شأنه قد تكفل بحفظ القرآن الكريم الذي هو الأساس العظيم للإسلام، حيث يقول سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1)
وقد هيأ الله سبحانه وله الحمد والمنة لدينه أنصارا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله (2) » وفي رواية أخرى: «لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة (3) » ومما يبشر بما ذكرنا ما انتشر في العالم الإسلامي وغيره من الحركات التي توصي باتباع الكتاب والسنة والسير عليهما. ثم إن تلك المبادئ والمذاهب المختلفة من شيوعية ورأسمالية غربية وغيرها من المذاهب التي يروج لها اليوم أصحابها قد ثبت بالتجربة زيفها وفشلها، وأنها لا تسعد البشرية بل تضرها في دينها وأخلاقها واقتصادها، حيث إنها
__________
(1) سورة الحجر الآية 9
(2) صحيح مسلم الإمارة (1920) ، سنن الترمذي الفتن (2229) ، سنن ابن ماجه الفتن (3952) ، مسند أحمد بن حنبل (5/279) .
(3) صحيح البخاري العلم (71) .(6/226)
من صنع البشر الذي طبيعته القصور والجهل والهوى، كما قال تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (1)
وقد بدأت البشرية تتلفت يمنة ويسرة علها تجد منهجا صالحا ينقذها من الهاوية التي تردت فيها جميع شئون حياتها، والإسلام وحده هو القادر على إنقاذ البشرية من تلك المهالك، وستكتشف البشرية بإذن الله تلك الحقيقة إن عاجلا أو آجلا، كما قال الله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} (2) وكلامنا هذا هو في الإسلام النقي من شوائب الشرك والبدع الذي أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح من بعده فأفلحوا ونجحوا وفتحوا البلاد وقادوا العباد إلى سبيل الرشاد وشاطئ السلامة. والله الموفق.
__________
(1) سورة النساء الآية 82
(2) سورة الرعد الآية 17(6/227)
رسالة إلى بعض أمراء الخليج
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأمير المكرم.) وفقه الله ونصر به الحق آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فقد كتب إلي بعض الناصحين عن قبر يوجد في بلدكم، وذكر أنه يعبد من دون الله، ونرفق لكم نسخة من رسالته ومعها صورتان للقبر المذكور، فأرجو من سموكم التكرم بالأمر على من يلزم بهدم هذ القبر، ومنع الناس من الغلو فيه، والذبح لصاحبه؛ لأن الغلو في القبور من أعمال الجاهلية الأولى، والتقرب إلى أهلها بالذبح أو بالنذور، أو بالاستغاثة وطلب المدد- كله شرك بالله عز وجل، وكله من أعمال الجاهلية الأولى، فالواجب على حكام المسلمين منع ذلك والقضاء عليه.
وينبغي أن ينقل رفات القبر إلى المقبرة العامة، على أن يحفر له عدة قبور ويوضع الرفات في أحدها ثم يسوى الجميع على صفة القبور حتى يخفى على الناس وحتى لا يعرف خشية الغلو فيه مرة ثانية، وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعل هذا العمل في قبر دانيال الذي كانت الفرس تغلو فيه، فأمر أن يحفر له ثلاثة عشر قبرا نهارا ثم يدفن في أحدها ليلا ثم تسوى القبور حتى يخفى أمره على الناس. جعلكم الله مباركين أينما كنتم ونصر بكم دينه ووفقكم لما يحبه ويرضاه وحمى بكم حمى الشريعة المطهرة من كل ما يخالفها إنه جواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(6/228)
وصية لبعض الأمراء بمناسبة تعيينه أميرا
على بعض المناطق بالمملكة (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حفرة صاحب السمو الملكي الأمير المكرم (..........) وفقه الله للخير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بعده:
حفظكم الله، علمت بإسناد جلالة الملك حفظه الله إلى سموكم الإمارة بمنطقة (.........) وبهذه المناسبة فإني أهنئ سموكم بهذه الثقة الملكية؟ وأسأل الله سبحانه أن يجعلكم عند حسن ظن جلالته وأن يزيدكم من التوفيق، وأن يمنحكم إصابة الحق في القول والعمل، ولا يخفى على سموكم أن الولاية شأنها عظيم وخطرها كبير كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها (2) » .
وعليه فإني أوصي سموكم ونفسي بتقوى الله والمحافظة على دينه، وأن تكونوا قدوة في كل خير، وأن تهتموا بشئون المسلمين أعظم اهتمام، وأن تعطوا الأمور الدينية أكبر قسط من العمل والعناية، وأن تساندوا هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتشجعوهم؛ لأن صلاح العباد والبلاد بالله سبحانه ثم بقيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يخفى أن قوة الهيئة ونشاطها بالله سبحانه ثم بتعضيد ولاة الأمور ووقوفهم في صفهم، مع حثهم على التثبت في الأمور والرفق في كل شيء.
ومن الأمور المهمة المبادرة بتنفيذ الأحكام الشرعية بكل حزم وقوة، والتأكيد على الجهات المختصة بذلك حتى يصل الحق إلى مستحقه بدون تعب ولامشقة.
__________
(1) صدر من مكتب سماحته في 27\5\1406 هـ برقم 548\خ
(2) صحيح مسلم الإمارة (1825) ، مسند أحمد بن حنبل (5/173) .(6/229)
ومن المهمات أيضا المحافظة على الصلاة في الجماعة والتأكيد على الموظفين والخدام بذلك حتى يكون الجميع قدوة في الخير.
ومن الأمور المهمة أيضا حفظ الوقت والحرص على الإشراف بأنفسكم على حاجات المسلمين التي ترفع إليكم لإيلائها ما تستحق من العناية.
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقكم لكل خير، وأن يعينكم على أداء ما يجب عليكم، وأن يمنحكم البطانة الصالحة وأن ينصر بكم الحق وأهله، ويخذل بكم الباطل وأهله، وأن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(6/230)
كلمة بمناسبة عقد المؤتمر بالجامعة الإسلامية
دار العلوم بديوبند في الهند
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة إخواني المؤتمرين وفقهم الله لما فيه رضاه ونصر بهم دينه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فيسرني إفادة إخواني المؤتمرين بأنه يسعدني كثيرا إجابة دعوة القائمين على هذه الجامعة للمشاركة في هذا المؤتمر الكريم الذي سيحضره الكثير من رجال العلم والمعرفة، بغية مشاركة إخوانهم في هذا الاحتفال بمرور قرن ونصف على تأسيس هذه الجامعة، إلا أنه بسبب مشاغلي الكثيرة لم أتمكن من الإجابة بنفسي، وقد أنبت في ذلك الأخوين الكريمين: فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم بن قعود مدير إدارة الدعوة في الخارج، وفضيلة الابن الشيخ عبد العزيز بن ناصر الباز مدير مكتبي ليمثلا الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية في هذا الاجتماع المبارك إن شاء الله، سائلا المولى سبحانه أن يكلل جهود المؤتمرين بالنجاح والفلاح وأن يهديهم سواء السبيل، وأن ينفع بجهودهم العباد والبلاد.
وبهذه المناسبة أرى من الواجب علي أن أتقدم إلى إخواني المؤتمرين بكلمة مختصرة تناسب المقام فأقول:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن من نعم الله على عباده المؤمنين في كل مكان أن يوجد بينهم من(6/231)
يهتم بإخوانهم القائمين على دور العلم خاصة، وشأن الدعوة الإسلامية عامة في جميع الأصقاع من العالم، يجندون لذلك إمكاناتهم ويبذلون الجهود العظيمة في سبيل ذلك ويستسهلون الصعاب من أجل إعلاء كلمة الله ورفع راية الإسلام.
أيها الإخوة الكرام: إنه من دواعي السرور والغبطة أن يجتمع نخبة من المؤمنين في أي مكان ولا سيما أهل العلم للنظر في مشكلات المسلمين وتبادل الرأي فيما يصلح شئونهم ويحل مشكلاتهم ويرفع من شأن العلم وأهله ويؤيد المؤسسات العلمية ويدعمها ويوجهها الوجهة الصالحة، ويسهل أسباب وصول العلم للراغبين فيه، وعليه فالذي أوصيكم به ونفسي تقوى الله سبحانه في جميع الأحوال والإخلاص له في جميع الأعمال والصبر والمصابرة في سبيل نشر العلم ودعوة الحق، عملا بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (1) وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وإن أهم العلوم علم العقيدة الصحيحة وتبصير الطلبة بها وتحذيرهم مما يخالفهما، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة المستقاة من كتاب الله العزيز وسنة رسوله الأمين، وأن توضح لهم أدلتها وأنها هي العقيدة التي نزل بها القرآن وصحت بها السنة ودرج عليها أصحاب رسول الله وأتباعهم بإحسان، وهي توحيد الله في عبادته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وأنه سبحانه هو المستحق للعبادة دون كل ما سواه، وأنه ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى، لا شبيه له، ولا كفء له، ولا ند له، ولا يشابه خلقه في شيء من صفاته، كما قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3) فينبغي أن يوضح لطلبة العلم هذا الأمر بغاية البيان، وأن ما سلكه بعض الفرق المنتسبة للإسلام من تأويل آيات الصفات وأحاديثها عن ظاهرها مسلك لا يجوز الأخذ به ولا الإقرار عليه، بل يجب التنبيه على فساده وأنه مخالف لنصوص الكتاب
__________
(1) سورة التوبة الآية 119
(2) سورة آل عمران الآية 200
(3) سورة الشورى الآية 11(6/232)
والسنة وإجماع سلف الأمة، وهكذا ما وقع في كثير من البلدان الإسلامية من الغلو في الأموات والاستغاثة بهم والنذر لهم ودعائهم من دون الله وطلب شفاعتهم وشفاء المرضى منهم - كل ذلك ونحوه مناقض لقول لا إله إلا الله، ولما دعى إليه رسول الله من إخلاص العبادة لله وحده وترك عبادة ما سواه، كما قال الله عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ومن ذلك قوله سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (4) وقوله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (5) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (6) » وقال عليه الصلاة والسلام: «من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار (7) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة معلومة، وإنما القصد التذكير بهذا الأمر العظيم والتواصي به والتعاون الكامل على تبصير الناس به وتفقيههم فيه وتحذيرهم من أنواع الشرك الذي حرمه الله، ويلي ذلك وصية المسلمين ولا سيما طلبة العلم بلزوم السنة والحذر من البدعة كما قال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (8) وقال الله سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (9) الآية.
وقال عليه الصلاة والسلام: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (10) » متفق على صحته، وكان يقول صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (11) » والآيات والأحاديث في هذه المسألة كثيرة معلومة، وكل ذلك داخل في تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
__________
(1) سورة الجن الآية 18
(2) سورة الأنعام الآية 162
(3) سورة الأنعام الآية 163
(4) سورة غافر الآية 14
(5) سورة الحج الآية 62
(6) صحيح البخاري الجهاد والسير (2856) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد بن حنبل (5/238) .
(7) صحيح البخاري تفسير القرآن (4497) ، مسند أحمد بن حنبل (1/374) .
(8) سورة آل عمران الآية 31
(9) سورة التوبة الآية 100
(10) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(11) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .(6/233)
ومن أهم المهمات أيضا- وهو من تحقيق الشهادتين- مناصحة ولاة أمر المسلمين في جميع الدول الإسلامية ومطالبتهم بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله الكريم في كل شيء، والرضا بحكمهما والانزجار عما يخالفهما عملا بقوله سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3)
وقوله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (4)
ومما يجدر التنبيه عليه أنه يحسن من هذا المؤتمر العظيم أن يحذر المسلمين مما وقع في بلادهم وغيرها من المذاهب الهدامة، والأفكار الزائفة من شيوعية وبهائية وقاديانية وغيرها، مما يخالف العقيدة الصحيحة والشرع المطهر، وقد يغتر بها من لا علم عنده ويقع في حبائل الدعاة إليها والمروجين لها، فالواجب على أهل العلم أن يشرحوها للناس وينذروهم منها نصحا لله ولعباده وبراءة للذمة وأداء للأمانة. والله المسئول أن يكتب لمؤتمركم هذا التوفيق والنجاح في كل قراراته وتوصياته، وأن ينفع به المسلمين وأن يضاعف مثوبتكم، كما أسأله سبحانه أن يصلح قادة المسلمين وعلماءهم في كل مكان، وأن يوفقهم لتحكيم شريعته والتحاكم إليها والحذر من كل ما يخالفها إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) سورة المائدة الآية 44
(2) سورة المائدة الآية 45
(3) سورة المائدة الآية 47
(4) سورة النساء الآية 65(6/234)
نصيحة بالدعوة إلى نشر الإسلام وفضائله في أمريكا
وشرح مسألة تتعلق
بمسح المرأة على الخمار وغسل الرأس بعد الجنابة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم الأستاذ: ح. ع. ب وفقه الله لما يرضيه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بعده:
كتابكم الكريم المؤرخ بدون، وصل، وصلكم الله بهداه، وسرنا منه علم صحتكم واستمراركم في الطلب والتحصيل لخدمة أمتكم ووطنكم، فالحمد لله على ذلك، نسأل الله لكم التوفيق والنجاح.
ولقد سررنا كثيرا بما ذكرتم من قيامكم بالدعوة إلى نشر الإسلام وبيان فضائله والرد على خصومه، وطلبكم إرسال بعض الدعاة من الجامعة الإسلامية لوجود الكثيرين ممن يتقبلون الإسلام عندما يتبين لهم حقيقته ويتضح لهم سمو تشريعاته وعدالة نظمه، فالحمد لله أن وفقكم للقيام بهذه المهمة الشريفة والهدف النبيل، نسأل الله أن يزيدكم من الخير والهدى وأن ينفع بكم ويجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين إنه جواد كريم.
أما ما أشرتم إليه من طلب إرسال بعثة إلى أمريكا للدعوة والتبليغ، فنفيدكم أننا مهتمون بذلك كثيرا ونحن نقدر لكم هذه البادرة الكريمة، وسوف نرسل إن شاء الله من يقوم بذلك عندما يتيسر من يصلح لهذه المهمة ممن يجيد اللغة الإنجليزية؛ لأن اللغة هي التي تحول كثيرا بيننا وبين ما نريد، حقق الله لنا ولكم كل ما نصبو إليه من عزة الإسلام وصلاح أمر المسلمين.(6/235)
وقد أرسلنا بعثات كثيرة إلى أفريقيا بجميع أقطارها للدعوة والإرشاد، وكتابة تقارير عن حالة المسلمين هناك، ودراسة مشاكلهم والتعرف على الجمعيات الإسلامية وبذل المساعدات التي يمكن تقديمها لهم واختيار الطلبة الذين يحسن ابتعاثهم إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة، وقد نجحت هذه البعثات بحمد الله نجاحا كبيرا وحققت خيرا كثيرا، نشكر الله على ذلك، ونسأله عز وجل أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين للفقه في الدين والثبات عليه وبذل الجهود في الدعوة إليه ونشر محاسنه وتعاليمه وأن يوفق ولاة أمرنا لما فيه صلاح أمر المسلمين وسلامة دينهم وجمع كلمتهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أما ما تضمنه خطابكم من السؤال عن حكم مسح المرأة على الخمار عند غسلها من الجنابة، وأن التزام المرأة الأمريكية بغسل الرأس بعد الجنابة كل مرة قد يقف حجر عثرة في طريق إسلامها لكونها تتخذ شكلا لرأسها يغيره الماء. إلخ- فقد فهمته.
والجواب: أن المعلوم من الشرع المطهر ومن كلام أهل العلم أن المسح على الحوائل من خف وعمامة وخمار لا يجوز في الجنابة بالإجماع، وإنما يجوز في الوضوء خاصة لحديث صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: «أمرنا رسول الله إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم (1) » .،
ولا ريب أن الشريعة الإسلامية هي شريعة السماحة والتيسير، ولكن ليس في غسل الرأس من الجنابة حرج شديد؛ لأن الرسول لما سألته أم سلمة عن الغسل من الجنابة والحيض قائلة: «يا رسول الله إني أشد شعر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة والحيضة قال لها عليه الصلاة والسلام: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين (2) » أخرجه مسلم في صحيحه، فعليه؛ يرشد النساء اللاتي يتحرجن من غسل رءوسهن في الجنابة بأنه يكفيهن أن يحثين على رءوسهن ثلاث حثيات من الماء حتى يعمه الماء من غير حاجة إلى نقض ولا تغيير شيء من الزي الذي يشق عليهن تغييره، مع بيان ما لهن عند الله من الأجر العظيم والعاقبة الحميدة والحياة الطيبة الكريمة الدائمة في دار الكرامة إذا صبرن على أحكام
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (96) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (478) .
(2) صحيح مسلم الحيض (330) ، سنن الترمذي الطهارة (105) ، سنن النسائي الطهارة (241) ، سنن أبو داود الطهارة (251) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (603) ، مسند أحمد بن حنبل (6/315) ، سنن الدارمي الطهارة (1157) .(6/236)
الشريعة وتمسكن بها، لكن الحوائل الضرورية التي يحتاجها الإنسان لعروض كسر أو جرح لا بأس بالمسح عليها في الطهارة الكبرى والصغرى، من أجل الضرورة من غير توقيت، ما دامت الحاجة ماسة إلى ذلك، لحديث جابر «في الرجل الذي شج في رأسه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعصب على جرحه خرقة ويمسح عليها ثم يغسل سائر جسده (1) » ، أخرجه أبو داود في سننه.
ومما يحسن التنبيه عليه للراغبين والراغبات في الإسلام عند التوقف في بعض المسائل أو التحرح في بعض الأحكام أن يقال لهم إن الجنة حفت بالمكاره والنار حفت بالشهوات، وأن الله سبحانه أمر عباده بما أمرهم به ليبلوهم أيهم أحسن عملا، فليس الحصول على رضى الرب ودخول جنته والفوز بكرامته بالأمر السهل من كل الوجوه الذي يناله الإنسان بدون أي مشقة، ليس الأمر هكذا، بل لا بد من صبر وجهاد للنفس، وتحمل للكثير من المشاق في سبيل مرضات الرب جل وعلا، ونيل كرامته والسلامة من غضبه وعقابه، كما قال الله عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (2) وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (3) وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (4) والآيات كثيرة في هذا المعنى. والله المسئول أن يجعلنا وإياكم من دعاة الهدى، وأن يصلح أحوال المسلمين وأن يمن على الجميع بالبصيرة فيما خلقوا له، وأن يكثر بينهم دعاة الحق إنه على كل شيء قدير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
__________
(1) سنن أبو داود الطهارة (336) .
(2) سورة الكهف الآية 7
(3) سورة الملك الآية 2
(4) سورة محمد الآية 31(6/237)
نصيحة موجهة
إلى الطلبة المسلمين بباكستان
إخواني؛ رئيس وأعضاء جمعية الطلبة المسلمين بباكستان حفظهم الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله عز وجل أن يجعل عملكم من أسباب إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه ونصر شريعته واتباع سنة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، التي بها عز الدنيا وسعادة الآخرة، ولا خلاص للإنسانية المضطربة إلا بسلوك سبيل هذا الرسول العظيم والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن مثل هذا المؤتمر من أمثالكم شباب المسلمين إذا أخلصت فيه النيات لله عز وجل وبذلت فيه الجهود الصادقة يكون له الآثار العظيمة، والنتائج الحسنة، والثمار الطيبة إن شاء الله؛ لأن الطلاب - وهم قادة المستقبل- إذا وجهوا توجيها إسلاميا صحيحا، ونمت فيهم روح الإسلام وشبت معهم الأخلاق التي رسمها رسول الله للمسلمين- فإنهم يكونون من أعظم أسباب سعادة أمتهم والسير بها إلى أحسن المناهج، وتجنيبها ويلات المذاهب الهدامة والمبادئ المدمرة والعقائد المنحرفة التي تفتك بالأمم وتقتل الشعوب.
وإن الله تبارك وتعالى قد من على المسلمين بهذا الدين العظيم المشتمل على أعظم المناهج وأحسن الأنظمة وأعدل القوانين، وقد تكفل الله عز وجل لمن يطبق شريعته أن يهديه الصراط المستقيم، وفي ذلك يقول عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1) كما بين سبحانه أن الإسلام هو سبب حياة القلوب والأمم، وأنه روح تحيا بها النفوس ونور يمشي في ضوئه المسلمون، حيث يقول عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (2) وكما قال عز وجل
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 69
(2) سورة الأنعام الآية 122(6/238)
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) وقد جرب الناس المذاهب الجديدة المنحرفة فكانت سببا لشقوة الشعوب وتدمير الحياة وإفلاس النفوس وجلب الخراب والدمار على أتباعها والمبتلين بها، بخلاف شريعة الإسلام التي جربت في مئات السنين فكانت بلسما شافيا ودواء ناجعا لكل أمراض الإنسانية، كما كانت -ولا تزال - شريعة الإسلام أعظم رابطة تجمع شمل المسلمين بقطع النظر عن أوطانهم أو ألوانهم أو لغاتهم، فالمسلم أخو المسلم دون فرق بين جيل وجيل أو قبيلة وقبيلة أو لغة ولغة، ولن يستشعر المسلم حلاوة الإسلام إلا إذا كان مع أخيه المسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا، ولذلك كان الإسلام أمتن القواعد لإقامة المجتمع المثالي.
وإنا لنرجو الله تبارك وتعالى أن يوفقكم إلى العمل لرفع راية الإسلام، وإعزاز كلمته وأن يمنحكم الفقه في دينه والمحافظة عليه والصدق في الدعوة إلى التمسك به والحذر مما يخالفه إنه سميع قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الشورى الآية 52(6/239)
نصيحة موجهة إلى طلبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
بمناسبة إصدار مجلة " صوت الطلبة " (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى الأبناء الكرام طلبة الجامعة الإسلامية زادهم الله من العلم والإيمان آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أما بعد: فبمناسبة عزمكم على إصدار العدد الأول من مجلة (صوت الطلبة) يسرني أن أكتب إليكم هذه الكلمة لنشرها في المجلة.
فأقول: إن من أهم المهمات الإخلاص في طلب العلم بأن يكون طلبه لله لا لغرض آخر؛ لأن ذلك هو سبيل الانتفاع به، وسبب التوفيق لبلوغ المراتب العالية في الدنيا والآخرة، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة - يعني ريحها- (2) » أخرجه أبو داود بإسناد صحيح، وأخرح الترمذي عنه أنه قال: «من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار (3) » .
فأوصيكم جميعا وأوصي كل مسلم يطلع على هذه المجلة بالإخلاص لله في جميع الأعمال، عملا بقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (4) وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه (5) » كما أوصيكم جميعا وأوصي كل مسلم بخشية الله سبحانه
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته 23\11\1388 هـ.
(2) سنن أبو داود العلم (3664) ، سنن ابن ماجه المقدمة (252) ، مسند أحمد بن حنبل (2/338) .
(3) سنن الترمذي العلم (2654) .
(4) سورة الكهف الآية 110
(5) صحيح مسلم الزهد والرقائق (2985) ، سنن ابن ماجه الزهد (4202) ، مسند أحمد بن حنبل (2/301) .(6/240)
ومراقبته في جميع الأمور عملا بقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (1) وقوله سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له (3) » وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار به جهلا» .،
وقال بعض السلف: "رأس العلم خشية الله"، وقال بعض السلف: " من كان بالله أعرف كان منه أخوف "، فكلما قوي علم العبد بالله كان ذلك سببا لكمال خشيته وتقواه وإخلاصه ووقوفه عند الحدود وحذره من المحارم، ولهذا قال الله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (4) يعني الخشية الكاملة، فالعلماء بالله وبدينه من أخشى الناس لله وأتقاهم له وأقومهم بدينه، وعلى رأسهم الرسل والأنبياء ثم أتباعهم بإحسان، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات السعادة أن يفقه العبد في دين الله، فقال عليه الصلاة والسلام: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (5) » أخرجاه في الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه، وما ذاك إلا لأن الفقه في الدين يحفز العبد إلى القيام بأمر الله وخشيته وأداء فرائضه والحذر من مساخطه ويدعوه إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والنصح لله ولعباده.
فأسأل الله عز وجل أن يمنحنا وإياكم وسائر المسلمين الفقه في دينه والاستقامة عليه وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
__________
(1) سورة الملك الآية 12
(2) سورة الرحمن الآية 46
(3) صحيح البخاري النكاح (5063) .
(4) سورة فاطر الآية 28
(5) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(6/241)
وصية لطلاب الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (1)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فالذي أوصي به أبنائي طلاب الجامعة الإسلامية هو تقوى الله سبحانه وتعالى في جميع الأحوال، والحرص على طلب العلم والعناية بالمقررات الدراسية والمذاكرة فيما بينهم فيما قد يخفى من مسائلها، والإصغاء للمدرسين والسؤال عن كل ما يشكل في الدرس بالأسلوب الحسن.
ومن أهم أسباب التحصيل: إصلاح النية وحفظ الوقت والعمل بما علم، وقد جاء في بعض الآثار: (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم) وشاهد هذا في كتاب الله سبحانه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (2) وقوله سبحانه: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} (3) ومن أهم الأسباب أيضا الاستقامة على تقوى الله والحذر من المعاصي، قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (4) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (5)
والمخرج من الجهل من أهم المخارج المطلوبة كما أن العلم من أفضل الرزق الذي ينتج عن التقوى، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} (6) الآية، وأحسن ما قيل في تفسيرالفرقان أنه ما يحصل للعبد من نور العلم الذي يفرق به بين الحق والباطل.
أما أثر المعاصي في الحرمان من العلم النافع فمعلوم بالنص والواقع كما قال الله سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (7) ولا ريب أن حرمان العلم النافع من أعظم المصائب، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته في18\10\1388 هـ.
(2) سورة محمد الآية 17
(3) سورة مريم الآية 76
(4) سورة الطلاق الآية 2
(5) سورة الطلاق الآية 3
(6) سورة الأنفال الآية 29
(7) سورة الشورى الآية 30(6/242)
قال: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه (1) » ولما جلس الشافعي بين يدي مالك رحمة الله عليهما قال مالك للشافعي: (إني أرى الله قد ألقى عليك من نوره فلا تطفئه بالمعاصي) أو كما قال رحمه الله.
وقال الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصي
وأسأل الله أن يمنحكم التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح، وأن ينفع بكم عباده إنه خير مسئول.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
__________
(1) سنن ابن ماجه المقدمة (90) ، مسند أحمد بن حنبل (5/280) .(6/243)
دعوة إلى القيام بالمحاضرات
في الجامعة لمن يصلح لها (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم معالي وزير التعليم العالي الشيخ: حسن بن عبد الله آل الشيخ.
حفظه الله تعالى.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد " لا يخفي على معاليكم أن التعليم الجامعي مناهج مختلفة من دينية ودنيوية، والأساتذة القائمون على التعليم كثير، منهم جاء من بلدان لا تخفى عليكم حالها، وقد نشأ من ذلك تأثير بعض الأفكار على بعض تأثيرا ليس بمحمود، والطلبة هم الذين ترد عليهم المؤثرات فيتأثرون بها وليس لدى كثير منهم من البصيرة ما يجلو الشبه، وقد قمت بزيارة بعض الجامعات لإلقاء بعض المحاضرات بناء على الدعوة التي وجهت إلي، فأدركت أن الطلبة في أمس الحاجة إلى العناية بهم وأنتم المسئولون عنهم أمام الله سبحانه.
وبناء على ذلك فإنني أرى أن تعتني بهذه الناحية عناية خاصة، وذلك بتعميم المحاضرات في جميع الجامعات، ويتولى إلقاءها من يصلح لذلك ويختار لكل جامعة من أهل البلد التي هي فيه، وإذا دعت الحاجة إلى أشخاص من النوادر يقومون بزيارة الجامعات التي ليست في بلدهم فينبغي أن تيسر لهم سبل ذلك، ويمكن معاليكم التنسيق بينكم وبين الجهات الدينية للقيام بهذه المهمة، والتأكيد على مديري الجامعات باختيار من يقوم بذلك من الأساتذة وغيرهم، وأسأل الله أن يبارك في جهودكم وأن ينفع بكم عباده وأن يوفقنا جميعا لكل ما فيه رضاه وصلاح أمر عباده. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) صدر من مكتب سماحته في 9\6\1400 هـ.(6/244)
بعض الانطباعات عن المعاهد العلمية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد بين فضل العلم وحث عليه في كتابه الكريم، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (1) وقال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (3)
والمقصود بالعلم: هو العلم الشرعي الموصل إلى معرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، وأنه الإله الحق الذي لا يستحق أحد أن يعبد سواه، وأنه الرب الخالق الرازق والمتصرف بهذا الكون والمنعم على جميع العالمين، والموصل أيضا إلى معرفة رسول الله محمد، وأنه الرسول الخاتم المبلغ عن الله شرعه ووحيه، والموصل إلى معرفة هذا الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن الله وبلغنا به في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بما يشمل جميع نواحي حياتنا في الاعتقاد والسياسة والاجتماع وفي القضاء والتشريع والاقتصاد وجميع ما يحتاجه المسلمون في أمور حياتهم ومعادهم.
فهذا العلم هو العلم الحقيقي الذي أثنى الله على حملته ورفع قدرهم وجعلهم من الشهداء على وحدانيته قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (4) ووصفهم سبحانه بأنهم أخشى الناس لله سبحانه فقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (5) والمعنى: الخشية الكاملة، وعلى رأسهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
__________
(1) سورة المجادلة الآية 11
(2) سورة الزمر الآية 9
(3) سورة العنكبوت الآية 43
(4) سورة آل عمران الآية 18
(5) سورة فاطر الآية 28(6/245)
وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بأن تنفر طائفة منهم للتعلم والتفقه في هذا الدين، ليكونوا على بصيرة ونور من الله، وليعلموا أحكامه وشرائعه ويبلغوا أقوامهم ويوجهوهم إلى الصراط المستقيم بسلوك هذا الدين والالتزام به، قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (1)
ومن نعم الله العظيمة على المسلمين في هذه المملكة - أعني المملكة العربية السعودية، وفي جميع بلاد المسلمين- أن قيض لهم من يقوم بهذا الدين كلما خبا نوره وتزاحمت عليه قوى الكفر وخيم على المسلمين الجهل، فيبعث الله من القادة الصالحين والعلماء والأفاضل والحكام المخلصين من يقوم بنصر هذا الدين وإحياء ما أماته الجهلاء من رسومه، ونشر العلم وتعليمه، وتحكيم شريعة الله وكبت الباطل وأهله.
ومن فضل الله على هذه الجزيرة أن قام فيها الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والإمام محمد بن سعود رحمة الله عليهما، وتعاهدا على نصرة هذا الدين، وصدقا في ذلك، فنصرهما الله ومكن لهم في الأرض وقامت بذلك حلق العلم بالمساجد، وانتشر التدريس فيها، وأخذ العلماء أماكنهم في توعية الناس بدينهم وتعليمهم أحكامه وشرائعه، واستمرت على ذلك حتى انتشر العلم في أرجاء هذه البلاد والبلدان المجاورة وفتحت المدارس والمعاهد العلمية وانتشرت في عدة قرى ومدن في هذه الجزيرة العربية، وكذا الكليات وغيرها من وسائل نشر العلم.
ولقد كان للمعاهد العلمية التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الأثر العظيم في نشر علوم العقيدة والشريعة، وتربية الأجيال الناشئة على فهم كتاب الله وفقهه ومعرفة علوم اللغة العربية، لغة القرآن والسنة.
__________
(1) سورة التوبة الآية 122(6/246)
وإن ثمار هذه المعاهد وما حصل بها من الخير العظيم والنفع العميم لتظهر واضحة جلية على ناشئة شباب هذه البلاد وغيرها من البلاد التي فتحت فيها معاهد تابعة لهذه الجامعة. فنسأل الله أن يوفق القائمين عليها للزيادة من كل خير وأن يعينهم وأن يضاعف من جهودهم في الإكثار منها والحرص عليها.
كما أن من فضل الله أن وفق ولاة الأمر للأمر بفتح بعض هذه المعاهد خارج المملكة العربية للسعودية لتقوم بإبلاغ الحق والخير ونشر العقيدة الصحيحة الصافية الخالية من شوائب الشرك والوثنية وتعليم أحكام الشريعة الغراء، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقهم للإكثار منها في جميع البلدان، وأن يوفق القائمين عليها لاختيار الأشخاص الأتقياء والدعاة المخلصين لإدارة هذه المعاهد والتعليم فيها، كما هو الواقع الآن. وهذا هو سبيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأتباعه بإحسان، كما قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) وقال: «ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (2) » رواه مسلم، وفي الحديث المتفق عليه عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (3) » .
فنحمد الله سبحانه وتعالى أن يسر هذه الأماكن لنشر العلم وهيأ أسبابها، ونسأله أن يوفق القائمين عليها، وأن يكلل جهودهم بالتوفيق والنجاح. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(3) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(6/247)
نصيحة لحضرات المشائخ مقادمة بيت القرزات
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرات المشايخ المكرمين مقادمة بيت القرزات، الشيخ عبود بن سعيد، والشيخ سالم بن سعيد، والمنصب الشيخ سالم باحميد، والشيخ عبود بن محمد الدلخ، وفقهم الله لما فيه رضاه وأصلح لي ولهم أمر الدنيا والآخرة آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
بلغني أن بعض الإخوة في الله قد سجن بطرفكم بأسباب قيامه بالدعوة الإسلامية والتحذير من عبادة الأولياء والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك، والدعوة إلى هدم القباب والأبنية التي على الأضرحة لكونها من أسباب الفتنة بالمقبورين والغلو فيهم، وقد كدرني ذلك وكدر من بلغه ذلك من المسلمين، وما ذاك إلا لأن الله سبحانه أنزل القرآن الكريم وبعث الرسول العظيم محمد بن عبد الله لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده وتحذيرهم من عبادة المخلوقين من الأنبياء والملائكة والأولياء وغيرهم، وقد صدع الرسول بذلك وأنذر الناس من الشرك وأمر بإخلاص العبادة لله وحده، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (3) وقال عز وجل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (4) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (5) وقال تعالى
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة الجن الآية 18
(4) سورة فاطر الآية 13
(5) سورة فاطر الآية 14(6/248)
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (1) {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (2) وقال تعالى لنبيه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (4)
والنسك: هو الذبح، ومعنى قوله {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (5) أي من هذه الأمة؛ لأن إسلام كل نبي يكون قبل أمته، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا (6) » وقال: «من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار (7) » وقال عليه الصلاة والسلام: «لعن الله من ذبح لغير الله (8) » وقال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (9) » .
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه (10) » فهذه الآيات والأحاديث - أيها المشايخ - تدل على وجوب إخلاص العبادة لله وحده، وأنه سبحانه هو المستحق لجميع العبادات من الدعاء والاستغاثة والذبح والنذر والصلاة والصوم وغير ذلك من العبادات، وأن صرف ذلك أو شيء منه لغير الله شرك بالله وعبادة لغيره، وتدل الأحاديث المذكورة أنه لا يجوز اتخاذ المساجد على القبور ولا البناء عليها ولا تجصيصها، وما ذاك إلا لأن هذه الأعمال وسيلة إلى الغلو في الأموات وعبادتهم من دون الله، كما قد وقع ذلك من بعض جهال الناس. إذا علمتم ذلك فالواجب عليكم مساعدة الدعاة إلى الله والقيام معهم وحمايتهم ممن يريد التعدي عليهم؛ لأن ذلك من نصر دين الله، والجهاد في سبيله، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (11) وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (12) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (13)
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 5
(2) سورة الأحقاف الآية 6
(3) سورة الأنعام الآية 162
(4) سورة الأنعام الآية 163
(5) سورة الأنعام الآية 163
(6) صحيح البخاري الجهاد والسير (2856) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد بن حنبل (5/238) .
(7) صحيح البخاري تفسير القرآن (4497) .
(8) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(9) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (529) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(10) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .
(11) سورة محمد الآية 7
(12) سورة الحج الآية 40
(13) سورة الحج الآية 41(6/249)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » وأعظم المنكرات هو الشرك بالله سبحانه ووسائله وذرائعه، ثم البدع والمعاصي، فالواجب عليكم أن تنكروا ما أنكره الله ونهى عنه، وأن تأمروا بما أمر الله به ورسوله، وذلك هو طريق السعادة والنجاة والعزة والكرامة في الدنيا والآخرة، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أنصار الحق ودعاة الهدى، ومن الهداة المهتدين إنه سميع قريب.
والذي أرجوه منكم هو البدار بالشفاعة لدى المسئولين في إطلاق سراح المسجونين من الدعاة، إن كان ما بلغني عن سجنهم صحيحا، وبذل الوسع في مساعدة الإخوان القائمين بالدعوة إلى الإسلام الصحيح السليم من الشوائب، والتحذير من الشرك والخرافات والبدع التي جاء الإسلام بالنهي عنها ومحاربتها، وإذا كان قد أشكل عليكم شيء من كلام بعضهم فأفيدونا عن ذلك حتى نوضح لكم إن شاء الله الإشكال، بالأدلة من القرآن الكريم وأحاديث الرسول الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، مع بيان خطأ من أخطأ منهم؛ لأن المقصود هو إظهار الحق الذي بعث الله به محمدا والدعوة إليه، وبيان الباطل والتحذير منه، عملا بقول الله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وقوله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) والله المسئول أن يصلح قلوبنا جميعا وأن يعمرها بخشيته ومحبته ومحبة رسوله ومحبة عباده المؤمنين، المحبة البريئة من الشرك والخرافات، وأن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، إنه على كل شيء قدير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله إمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة يوسف الآية 108(6/250)
التخلق بأخلاق الله
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم الشيخ: ع. س ح. سلمه الله وتولاه.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
كتابكم الكريم المؤرخ في 23 \ 3 \ 1386 هـ وصل، وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من السؤال عما قاله بعض الخطباء في خطبة الجمعة من الحث على الاتصاف بصفات الله والتخلق بأخلاقه هل لها محمل وهل سبق أن قالها أحد ... إلخ - كان معلوما.
والجواب: هذا التعبير غير لائق، ولكن له محمل صحيح وهو الحث على التخلق بمقتضى صفات الله وأسمائه وموجبها، وذلك بالنظر إلى الصفات التي يحسن من المخلوق أن يتصف بمقتضاها، بخلاف الصفات المختصة بالله كالخلاق والرزاق والإله ونحو ذلك. فإن هذا شيء لا يمكن أن يتصف به المخلوق، ولا يجوز أن يدعيه، وهكذا ما أشبه هذه الأسماء، وإنما المقصود: الصفات التي يحب الله من عباده أن يتصفوا بمقتضاها كالعلم والقوة والرحمة والحلم والكرم والجود والعفو. وأشباه ذلك، فهو سبحانه عليم يحب العلماء، قوي يحب المؤمن القوي أكثر من حبه للمؤمن الضعيف، كريم يحب الكرماء، رحيم يحب الرحماء، عفو يحب العفو ... إلخ، لكن الذي لله سبحانه من هذه الصفات وغيرها أكمل وأعظم من الذي للمخلوق، بالمقاربة بينهما؛ لأنه سبحانه ليس كمثله شيء في صفاته وأفعاله، كما أنه لا مثل له في ذاته، وإنما حسب المخلوق أن يكون له نصيب من معاني هذه الصفات يليق به ويناسبه على الحد الشرعي، فلو تجاوز الكرم الحد صار مسرفا، ولو تجاوز في الرحمة الحد عطل الحدود والتعزيرات الشرعية، وهكذا لو زاد في العفو على الحد الشرعي وضعه في غير موضعه، وهذه الأمثلة تدل على سواها، وقد نص العلامة ابن القيم رحمه الله على هذا المعنى في كتابيه: (عدة الصابرين) (والوابل الصيب) ، ولعله نص على ذلك في غيرهما كالمدارج وزاد المعاد وغيرهما،(6/251)
وإليك نص كلامه في العدة والوابل.
قال في العدة صفحة 310: ولما كان سبحانه هو الشكور على الحقيقة كان أحب خلقه إليه من اتصف بصفة الشكر، كما أن أبغض خلقه إليه من عطلها أو اتصف بضدها، وهذا شأن أسمائه الحسنى، أحب خلقه إليه من اتصف بموجبها، وأبغضهم إليه من اتصف بضدها، ولهذا يبغض الكفور والظالم والجاهل والقاسي القلب، والبخيل والجبان والمهين واللئيم، وهو سبحانه جميل يحب الجمال، عليم يحب العلماء، رحيم يحب الراحمين، محسن يحب المحسنين، ستير يحب أهل الستر، قادر يلوم على العجز، والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف، عفو يحب العفو، وتر يحب الوتر، وكل ما يحبه من آثار أسمائه وصفاته وموجبها، وكل ما يبغضه فهو مما يضادها وينافيها) ا. هـ.
وقال في الوابل الصيب صفحة 543 من مجموعة الحديث: (والجود من صفات الرب جل جلاله، فإنه يعطي ولا يأخذ، ويطعم ولا يطعم، وهو أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، وأحب الخلق إليه من اتصف بمقتضيات صفاته، فإنه كريم يحب الكرماء من عباده، وعالم يحب العلماء، وقادر يحب الشجعان، وجميل يحب الجمال) . انتهى.
وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية، وحصول للفائدة، وأسأل الله سبحانه أن يوفقنا جميعا للفقه في دينه والقيام بحقه إنه سميع قريب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية(6/252)
حكم من استهزأ بالرسول
العظيم عليه الصلاة والسلام
أو سبه أو تنقصه أو استحل شيئا مما حرمه (1)
__________
(1) نداء من الجامعة الإسلامية إلى العالم الإسلامي.(6/252)
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله.
لقد اطلعت على ما نشرته صحيفة صوت الإسلام بالقاهرة نقلا عن صحيفة المساء المصرية الصادرة في 29 يناير الماضي من الجرأة على الجناب الرفيع والمقام العظيم مقام سيدنا وإمامنا: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا بتمثيله بحيوان من أدنى الحيوانات، وهو الديك، لا يشك مسلم أن هذا التمثيل كفر بواح، وإلحاد سافر واستهزاء صريح بمقام سيد الأولين والآخرين ورسول رب العالمين وقائد الغر المحجلين، إنها لجرأة تحزن كل مسلم، وتدمي قلب كل مؤمن، وتوجب اللعنة والعار والخلود في النار، وغضب العزيز الجبار، والخروح من دائرة الإسلام والإيمان إلى حيز الشرك والنفاق والكفران لمن قالها أو رضي بها، ولقد نطق كتاب الله الكريم بكفر من استهزأ بالرسول العظيم، أو بشيء من كتاب الله المبين، وشرعه الحكيم، قال الله عز وجل: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) الآية، فهذه الآية الكريمة نص ظاهر وبرهان قاطع على كفر من استهزأ بالله العظيم أو رسوله الكريم أو كتابه المبين.
وقد أجمع علماء الإسلام في جميع الأعصار والأمصار على كفر من استهزأ بالله أو رسوله أو كتابه أو شيء من الدين، وأجمعوا على أن من استهزأ بشيء من ذلك وهو مسلم أنه يكون بذلك كافرا مرتدا عن الإسلام يجب قتله. لقول الرسول: «من بدل دينه فاقتلوه (3) » .
ومن الأدلة القاطعة على كفر من استهزأ بالله أو رسوله أو كتابه- أن الاستهزاء تنقص واحتقار للمستهزأ به والله سبحانه له صفة الكمال، وكتابه من كلامه، وكلامه من صفات كماله عز وجل، ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم هو أكمل الخلق وسيدهم
__________
(1) سورة التوبة الآية 65
(2) سورة التوبة الآية 66
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (3017) ، سنن الترمذي الحدود (1458) ، سنن النسائي تحريم الدم (4060) ، سنن أبو داود الحدود (4351) ، سنن ابن ماجه الحدود (2535) ، مسند أحمد بن حنبل (1/282) .(6/253)
وخاتم المرسلين وخليل رب العالمين، فمن استهزأ بالله أو رسوله أو كتابه أو شيء من دينه فقد تنقصه واحتقره، واحتقار شيء من ذلك وتنقصه كفر ظاهر ونفاق سافر وعداء لرب العالمين وكفر برسوله الأمين.
وقد نقل غير واحد من أهل العلم إجماع العلماء على كفر من سب الرسول الكريم أو تنقصه، وعلى وجوب قتله.
قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: أجمع عوام أهل العلم على أن حد من سب النبي صلى الله عليه وسلم القتل، وممن قاله مالك والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي. انتهى.
وقوله: (عوام) : جمع عامة، والعامة هنا بمعنى الجماعة، فمراده رحمه الله أن جماعات العلماء أجمعوا على وجوب قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن السب يتنوع أنواعا كثيرة، ولا ريب أن الاستهزاء به عليه الصلاة والسلام وتنقصه وتمثيله بحيوان حقير من أقبح السب وأعظم التنقص، فيكون فاعل ذلك كافرا حلال الدم والمال.
وقال القاضي عياض رحمه الله: أجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين وسابه. انتهى.
وقال محمد بن سحنون من أئمة المالكية: أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم والمتنقص له كافر، والوعيد جاء عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر. انتهى.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله بعدما نقل أقوال العلماء في شاتم الرسول ومتنقصه في كتابه: (الصارم المسلول على شاتم الرسول) ما نصه: وتحرير القول فيه: أن الساب إن كان مسلما أنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: من شتم الرسول أو انتقصه مسلما كان أو كافرا فعليه القتل، وأرى أن يقتل ولا يستتاب. انتهى.(6/254)
وكلام العلماء في هذا الباب كثير، وفيما نقلنا عنهم كفاية لطالب الحق. .
ولقد وفقت صحيفة صوت الإسلام القاهرية في ردها على جريدة المساء المصرية ما اقترفته من المحاربة للإسلام ومن الجرم الفظيع والمنكر الشنيع في حق المصطفى وشريعته بقلم رئيس التحرير الشيخ محمد عطية خميس، ولقد أحسن فضيلته إحسانا عظيما حيث أنكر ما فعلته هذه الصحيفة من الكفر الصريح والاستهزاء السافر بسيد عباد الله وأفضل رسول، واحتج على حكام مصر وطالبهم بوضع حد لهذه الفتنة.
وإلى القراء بعض كلمته، قال وفقه الله بعد كلام سبق في رد مقالات شنيعة كتبتها بعض الصحف المأجورة ما نصه:
فلا عجب بعد كل هذا أن يجترئ صحفي من صحفيي جريدة المساء ليعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة كاريكاتورية في عددها الصادر في 29 يناير الماضي فيرسم شخصا له جسم الديك ويقول تحت هذه الصورة " (أهوه ده يا سيدي محمد أفندي اللي متجوز تسع) " بمثل هذا الخبيث تنشر مثل هذه الصورة التي تعرض برسول الله وبشريعة الإسلام.
من الذي تزوج تسعا غير رسول الله؟ أيصل الأمر إلى أن ينشر مثل هذا الرسم في جريدة يومية يشرف عليها الاتحاد القومي، وتصل السخرية والتريقة على شخص رسول الله وأن يقال عنه: (محمد أفندي) ويرمز إليه بمثل هذا الرمز، لماذا اختار المحرر أو الرسام محمد أفندي بالذات ولم يختر علي أفندي أو سعيد أفندي أو أي اسم آخر؟ ولماذا حدد العدد بتسع بالذات؟ ولم يحدد بسبع أو عشر أو اثني عشر؟ إن خبث الرسام ظاهر واضح ولا يحتاح إلى تأويل والتماس عذر له.
إن مثل هذا الرسم لو نشر في أية صحيفة إنجليزية أو أمريكية أو فرنسية أو حتى إسرائيلية لقامت الدنيا وقعدت، ولاتخذت سلاحا بتارا للدعاية والتشهير، أما أن ينشر في جريدة من جرائد هذه الأمة فتغمض عنها الأعين وتمر بها مرورا عابرا، ومن المؤسف المؤلم أن يحدث هذا في صحافتنا في الوقت الذي يعمل فيه الأعداء أكثر من حساب(6/255)
لمشاعرنا نحن المسلمين، فأمريكا وإيطاليا يريدان إنتاج فيلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا بهم يلجئون إلى مشيخة الأزهر والجامعة العربية ليأخذوا رأيها وموافقتها في كل ما يتعلق بهذا الفيلم من حوار وسيناريو وخلافه، وكان باستطاعة هاتين الدولتين أن تخرجا الفيلم كما تشاءان وعلى النحو الذي يتفق مع روحهما العدائية لنا، هذا ما يحدث من أعدائنا، وهذا ما يحدث من أبناء أمتنا.
إلى متى يسكت المسئولون عن هذه الصحافة؟ وإلى متى نسكت نحن أبناء هذه الأمة؟ هل ننتظر إلى أن يلجأ هؤلاء الخونة والمفسدون إلى التصريح بدلا من التلميح؟ أننتظر إلى أن يسخر من إسلامنا في الشوارع والطرقات؟ والله إنها لفتنة سوداء يوقدها هؤلاء الجهلاء المأجورون تنذر بالخطر الفادح إن لم يوضع لها حد، فإننا لن نستطيع أن نسكت بعد هذا على هذا التمادي في محاربة الإسلام والأخلاق وفي التعريض برسول الله وشريعته، فالأمة لا تزال معتزة بدينها غيورة على رسولها، فإن أرادت هذه الصحافة الماجنة أن تعلنها حربا فلتعلنها كما تريد، ولكن لن نقف مكتوفي الأيدي. وكفى! .
فإسلامنا هو وطننا ولا وطن لنا غيره، وإسلامنا هو روحنا ولا حياة لنا بسواه، وإسلامنا هو رزقنا ولا قيمة للطعام والشراب عندنا بدونه، وإسلامنا هو كل شيء في الوجود بالنسبة لنا، وأقول هذا باسم أكثر من عشرين مليون مسلم من أبناء هذا الشعب العزيز، ونحن في انتظار بيان رسمي من الاتحاد القومي وما صنعه مع جريدة المساء ورسامها والمسئولين عنها، ومع صحافتنا على العموم حتى نطمئن إلى مستقبل ديننا، والله أكبر والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
انتهى كلام الشيخ محمد عطية خميس. ولقد أجاد وأفاد، وصدع بالحق، فجزاه الله عن ذلك خيرا وزاده من الهدى والتوفيق وكثر في المسلمين من أمثاله من الصادعين بالحق بين الظلمة اللئام، والحمد لله الذي أوجد في مصر من ينطق بالحق ويصدع بالرد على من حاد عنه، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن بالزوايا خبايا، وأن في الرجال بقايا، ولا شك أن ذلك من حفظ الله لدينه وحمايته لخاتم أنبيائه وسيد أصفيائه محمد، ولقد أخبر الله سبحانه في كتابه المجيد عن أعدائه من الكفار والمنافقين أنهم يسخرون بالمرسلين(6/256)
والمؤمنين، ويضحكون منهم، فلا غرابة أن سلك القائمون على صحيفة المساء مسلك أئمتهم من المشركين والمنافقين وساروا على منهاجهم الوخيم وطريقهم الذميم، {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} (1) قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} (2) {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} (3) الآيات، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} (4) {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} (5) {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} (6) وقال جل وعلا عن رسوله نوح وقومه: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} (7) {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (8) وقال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (9)
ففي هذه الآيات المحكمات والبراهين البينات دلالة ظاهرة وحجج قاهرة على أن الاستهزاء بالمرسلين والمؤمنين من صفات الكفار والمنافقين والمشركين، ومن عدائهم السافر وكفرهم الظاهر.
ولقد تخلق بعض القائمين على صحف القاهرة في هذا العصر بأخلاقهم وساروا سيرتهم ونهجوا نهجهم فلهم حكمهم في الدنيا والآخرة، وقد ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم (10) » فليس من شك عند كل من له أدنى مسكة من علم وهدى أن من شبه الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء من الحيوانات الحقيرة فقد تنقصه واحتقره، ومن فعل ذلك أو رضيه من حاكم أو صحفي أو غيرهما فهو كافر ملحد حلال الدم والمال.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 53
(2) سورة المطففين الآية 29
(3) سورة المطففين الآية 30
(4) سورة المؤمنون الآية 109
(5) سورة المؤمنون الآية 110
(6) سورة المؤمنون الآية 111
(7) سورة هود الآية 38
(8) سورة هود الآية 39
(9) سورة التوبة الآية 79
(10) سنن أبو داود اللباس (4031) .(6/257)
وهنا أمر عظيم ينبغي التنبيه له، وهو أن يقال: ما السر في تشبيه صحيفة المساء القاهرية للرسول صلى الله عليه وسلم بالديك دون بقية الحيوانات، إنه ظاهر لمن تأمله، إلا أنه الجحود لنبوته والإنكار لرسالته ورميه بأنه ثائر شهواني ليس له هم إلا إشباع نهمته من النساء، وهذا إمعان في الكفر، وإيغال في الاستهزاء والاحتقار للجناب العظيم والمقام الرفيع، لعن الله من تنقصه أو رماه بما هو براء منه، وقاتل الله صحيفة المساء القاهرية والقائمين عليها الراضين بهذا الاستهزاء، فما أعظم ما اجترؤا عليه من الباطل، وما أقبح ما وقعوا فيه من الإسفاف والاستهزاء، ولقد صان الله رسوله صلى الله عليه وسلم وحماه مما قاله المبطلون ورماه به المفترون، فقد كان أعف الناس وأنصحهم لله ولعباده وأرفعهم قدرا وأشرفهم نفسا وأشدهم صبرا وأقومهم بحق الله وتبليغ رسالته، وأخشاهم لله وأتقاهم له، وأزهدهم في كل ما يلوث مقامه العظيم، أو يعوقه عن مهمته في الجهاد والنصح والتبليغ، وإنما تزوج النساء كسنة من قبله من المرسلين، كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} (1)
وفي تزوجه صلى الله عليه وسلم بتسع من النساء حكم كثيرة وأسرار بديعة ومصالح عظيمة، منها: إعفافهن والإحسان إليهن، ومنها: أن يتعلمن منه صلى الله عليه وسلم أصول الشريعة وأحكامها ويعلمنها الناس بعده كما قد وقع، فقد كان بيت كل واحدة منهن مدرسة للمسلمين والمسلمات، يردونها للتعلم ويشربون من معينها الصافي عللا بعد نهل، ويسألون أمهات المؤمنين عن حياته صلى الله عليه وسلم وشمائله وأخلاقه وأعماله داخل بيوته وخارجها، ومن ذلك ما في تعددهن من مصلحة التأليف والتعاون على البر والتقوى، وتبليغ القرآن والسنة بواسطة أصهاره ومن يتصل بهم لأن أزواجه كن من قبائل شتى، وذلك أبلغ في مقام الدعوة والتأليف وأنفع للأمة وأكمل من جهة التبليغ والتعليم، ومن ذلك ما في تعددهن من راحته صلى الله عليه وسلم وأنسه، فإن الله سبحانه قد حبب إليه النساء والطيب، وجعل قرة عينه في الصلاة، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة (2) » وقد جبل الله الرجال على حب النساء والميل إليهن، وجعلهن سكنا للرجال، كما قال عز وجل:
__________
(1) سورة الرعد الآية 38
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) ، سنن الترمذي الفتن (2191) ، سنن ابن ماجه الفتن (4000) ، مسند أحمد بن حنبل (3/61) .(6/258)
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) وأعطى نبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك من كمال الرجولة والقوة على القيام بأمر الزوجات وحقوقهن ما لم يعطه الكثير ممن قبله، وليس هذا بمستنكر في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنهم أكمل الرجال رجولة، وأعفهم فرجا، وأقومهم بحق الله وحق عباده.
وقد كان لنبي الله داود زوجات كثيرة، ولابنه نبي الله سليمان بن داود كذلك، وقد قواهما الله على الطواف عليهن والقيام بحقهن، فكيف يستغرب على من هو أفضل منهما وأرفع عند الله منزلة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، أن يبيح الله له تسعا من النساء مع ما في ذلك من المصالح الكثيرة التي تقدم بعضها، وكلها تعود على الأمة بالخير والإحسان والنفع العام، وقد خص الله نبيه صلى الله عليه وسلم بخصائص عظيمة وحباه بصفات كريمة، فبعثه إلى الناس عامة، وجعله رحمة للعالمين، واتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ورفع منزلته في أعلى الجنة وهي الوسيلة، وجعله سيد أولاد آدم كلهم، وأعطاه المقام المحمود والشفاعة العظمى يوم القيامة، ونصره بالرعب مسيرة شهر، وشرح له صدره وغفر له ذنبه ووضع عنه وزره ورفع له ذكره، فلا يذكر سبحانه إلا ذكر معه، كما في الخطب والتشهد والإقامة والتأذين.
وخصائصه وشمائله صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا، فكيف بعد هذا كله تجرأ صحيفة المساء المصرية والقائمون عليها على الاستهزاء به والحط من قدره وتمثيله بحيوان من أحقر الحيوانات وأدناها، إمعانا في الاحتقار ومبالغة في الاستهزاء، سبحان الله ما أعظم شأنه، والله أكبر ما أوسع حلمه: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (2) وليس هذا الكفر الظاهر والنفاق السافر والاستهزاء الصريح بأشرف عباد الله ومن أخرج الله به العباد من الظلمات إلى النور - بغريب من صحف الخلاعة والمجون وأبواق الكفر والإلحاد ومنابر الظلم والعدوان ومحاربة الفضائل والدعوة إلى الرذائل، ليس ذلك بغريب على بعض القائمين على صحف القاهرة، الذين باعوا أنفسهم للشيطان، وأعرضوا عما جاءت به الرسل ونزل به القرآن، واهتموا بالفراعنة
__________
(1) سورة الروم الآية 21
(2) سورة الروم الآية 59(6/259)
والملاحدة وعباد الصلبان، وجندوا بعض صحفهم لمحاربة الإسلام وطمس شعائره العظام والتضليل والتلبيس على خفافيش الأبصار وسفهاء الأحلام.
ثم أقول: ليس هذا وحده جرم صحف القاهرة، فكم لهم من جرائم وكم لهم من مخاز، وكم لهم من مكفرات ونواقض للإسلام، أليسوا هم الذين أعلنوا في كثير من صحفهم الدعوة إلى الاشتراكية الكافرة والشيوعية الحمراء المشتملة على الظلم للعباد، وزعموا تلبيسا وتضليلا أنها من الإسلام، والإسلام براء من ذلك، الإسلام حرم على الناس دماءهم وأموالهم وأعراضهم، الإسلام يحترم مال الفرد والجماعة ويحرسه ويحميه بقطع يد السارق، وقتل المحارب إذا قتل، وقطع يده ورجله من خلاف إذا أخذ المال فقط، ويقول الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم النحر: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا (1) » متفق على صحته، ويقول صلى الله عليه وسلم: «من ظلم شبرا من الأرض طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين (2) » متفق على صحته، ويقول عليه الصلاة والسلام: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، قالوا وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك (3) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه، ويقول الله في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (4) الآية، وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) وقال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا (6) » وقال عليه الصلاة والسلام أيضا: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيبة من نفسه (7) » والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وقد أجمعت الرسل عليهم الصلاة والسلام في شرائعهم المتنوعة على عصمة مال المسلم وتحريم دمه وماله وعرضه إلا بحق، وأجمع علماء المسلمين على ذلك، ومع هذا كله فدعاة الاشتراكية والشيوعية
__________
(1) صحيح البخاري التمني (7230) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(2) صحيح البخاري المظالم والغصب (2453) ، صحيح مسلم المساقاة (1612) ، مسند أحمد بن حنبل (6/259) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (137) ، سنن النسائي آداب القضاة (5419) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2324) ، مسند أحمد بن حنبل (5/260) ، موطأ مالك الأقضية (1435) ، سنن الدارمي البيوع (2603) .
(4) سورة النساء الآية 29
(5) سورة البقرة الآية 188
(6) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2577) .
(7) مسند أحمد بن حنبل (5/113) .(6/260)
وأعوانهم على الظلم والعدوان استباحوا أموال الناس ودماءهم بغير حق، ونبذوا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وراءهم ظهريا، ولو أنهم قالوا: قد عرفنا أنه ظلم وعدوان وأقدمنا عليه، لكان أسهل عند الله وعند المؤمنين، ولكن بعضهم مع الظلم السافر والكفر الظاهر يزعمون أن أعمالهم الماركسية وتصرفاتهم الشيوعية وسيرتهم الكفرية والإلحادية من الإسلام، ويزعم لهم أذنابهم وعبيدهم تلبيسا وتضليلا أن الإسلام جاء بذلك، والله سبحانه ورسوله ودينه براء من ذلك كله {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (1) ، {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (2) ولقد صدق الله سبحانه حيث يقول وهو أصدق القائلين: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} (3) {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (4) ومن زعم أن ما يفعله دعاة الاشتراكية والشيوعية من الظلم والاستبداد والتعدي على حرمات المسلمين من الإسلام فهو كافر ضال كاذب على الله ورسوله وعلى شرعه، كما أن من أنكر الحدود كحد السرقة أو غيره وزعم أنها ليست من شرع الله، كما ينعق بذلك دعاة الإلحاد من الشيوعيين وغيرهم فهو كافر مكابر مكذب لقول الله سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (5) ومن زعم أن الاشتراكية الماركسية مباحة، وأنها من الإسلام، أو أنها خير من الإسلام وأرحم من الإسلام، فهو من أكفر عباد الله وأضلهم عن سواء السبيل؛ لأنه لا شيء أحسن من الإسلام ولا حكم أعدل من حكمه، ومن جعل الظلم منه ونسبه إليه فقد تنقصه وكذب عليه، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (6) وقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (7) {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (8) والله سبحانه قسم بين الناس معيشتهم، ورفع بعضهم فوق
__________
(1) سورة الكهف الآية 5
(2) سورة البقرة الآية 171
(3) سورة الفرقان الآية 43
(4) سورة الفرقان الآية 44
(5) سورة المائدة الآية 38
(6) سورة النحل الآية 105
(7) سورة النحل الآية 116
(8) سورة النحل الآية 117(6/261)
بعض درجات، لتنتظم أمورهم ويستعين بعضهم ببعض، فتكمل مصالحهم، وتظهر مواهبهم، ويتميز غنيهم من فقيرهم، وشاكرهم من كافرهم، وناصحهم من خائنهم، وطيبهم من خبيثهم، إلى غير ذلك من الحكم والأسرار الكامنة في حكمة التفاوت بينهم في المعيشة والأسباب والأخلاق والعقول، كما قال تعالى منكرا على المشركين الأولين: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (1) وقال تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} (2) الآية، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} (3) الآية، فلو سوى بينهم سبحانه في المعيشة والأخلاق والعقول والأسباب لتعطلت مصالحهم ولم تظهر هذه الحكم والأسرار التي رتب عليها الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة، ولم يعرف العباد معاني أسمائه الحسنى وصفاته العلى، ولم يخضع أحد لأحد ولم يعرف أحد قدر نعمة الله عليه، ولم يؤد ما يجب عليه من الشكر إلى غير ذلك من الأسرار والمعاني الشريفة والحكم الرفيعة التي لا يدركها ولايوفق لها إلا أهل الإيمان بالله واليوم الآخر وأرباب العلم النافع والبصائر.
والاشتراكية استوردها أربابها ليغنوا بها الفقراء بزعمهم، وإنما جلبوها في الحقيقة ليفقروا بها الأغنياء، ويسلبوا بها أموال الناس بالباطل باسم رحمة الفقراء ويصرفوها في مطامعهم الأشعبية، وأغراضهم الدنيئة، وشهواتهم البهيمية، ويخمدوا بها جذوة الحركة والعمل، ويصدوا بها الناس عن التفكير في: حق رب العالمين، والتنافس في مصالح الحياة، والثورة على الكفرة والطغاة الملحدين. هذه حال الاشتراكية وأهلها، حسدوا الناس على ما آتاهم الله من فضله، وتجرءوا على شرعه وظلموا العباد واستبدوا بالأموال والعتاد وحاربوا الله في أرضه واستكبروا عن طاعته وحقه، تبا لهم ما أخسر
__________
(1) سورة الزخرف الآية 32
(2) سورة النحل الآية 71
(3) سورة الأنعام الآية 165(6/262)
صفقتهم، وأخس مروءتهم، وأسوأ عاقبتهم، فالحذر الحذر أيها المسلمون من أرباب هذه الفتنة العمياء، والبدعة النكراء، والكفر الصريح، والمعادات لله ولرسوله وشرعه لعلكم تفلحون، وقد شرع الله في الإسلام ما يغني عن هذا المذهب الهدام، ويبطل كيد مخترعيه الكفرة اللئام، فأوجب سبحانه في أموال الأغنياء من الزكاة وصنوف النفقات، وشرع لعباده عز وجل من أن الكفارات والصدقات وسبل الإحسان ما تشد به حاجات الفقراء ويستغنى به عن ظلم العباد والتحايل على سلب أموالهم، بل جعل سبحانه وتعالى أداء الزكاة أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، وتوعد من بخل بها بأنواع العذاب والآلام، ووعد من بذلها كما شرع الله بالطهرة والزكاة لهم ولأموالهم ومضاعفة الأجور وعظيم الخلف، كما قال عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) وقال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (2) وقال عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (3) وقال وهو أصدق القائلين: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (4) وقال سبحانه وتعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (5)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، فالواجب على المسلمين جميعا أن يؤدوا ما أوجب الله عليهم لإخوانهم الفقراء وأن يطيبوا نفسا بذلك، وأن يرحموهم ويعطفوا عليهم، أداء لما أوجب الله ورجاء الرحمة من الله، وحذرا من غضب الله، وسدا لأبواب الفتن والفساد، وإغلاقا لسبل الكفر والإلحاد، وشكرا لله على إنعامه، وطمعا في المزيد من فضله وكرمه، وإرغاما لأنوف الكفار والملحدين الذين قد ساءت ظنونهم بالإسلام واعتقدوا أنه قد أهمل جانب الفقراء، ولم يعطهم حقهم، ولقد أخطأ ظنهم وخسرت صفقتهم وكذبوا على الله وحادوا عن الحق الواضح.
__________
(1) سورة النور الآية 56
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) سورة التوبة الآية 103
(4) سورة سبأ الآية 39
(5) سورة البقرة الآية 195(6/263)
فاتقوا الله أيها المسلمون، ومثلوا الإسلام في أعمالكم وأقوالكم وارحموا فقراءكم، وأدوا ما أوجب الله عليكم من الزكاة وغيرها؛ لتفوزوا بالسعادة والنجاة، وتسلموا من غضب الله وأليم عقابه في الدنيا والآخرة، والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يمنحهم الفقه في دينه، وأن يهدي زعماءهم وقادتهم لصراطه المستقيم، وأن يقيم علم الجهاد ويكبت أهل الشرك والكفر والإلحاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(6/264)
نصيحة لمن تعرض لسوء الكلام والتحريض
على المعاصي (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى الأخ المكرم: م. ع. أ. خ وفقه الله. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.
فقد وصلني كتابك المتضمن الإفادة عما تلاقيه من سوء الكلام من بعض الناس لحسن هيئتك وجمال وجهك، وأنك تتوب من المعاصي والمحرمات ثم تعود إليها بتحريض من بعض أصدقاء السوء، وقد طلبت مني النصيحة والموعظة بما يصلح حالك ويمنعك من الرجوع إلى المعاصي والمحرمات، وعليه أقول: إن الواجب عليك الثبات على الحق والمبادرة بالزواج حيث أمكن، والإنكار بالكلام على من يخاطبك بما أشرت إليه في رسالتك، واذكر قول الله تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2) وقوله تعالى عن وصية لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (3) وإن عليك الحذر من جميع المحارم والاستعانة بالله على ذلك وسؤاله التوفيق والهداية في ذلك والاستقامة على التوبة، ولاتيأس.
ونوصيك بصحبة الأخيار والحذر من صحبة الأشرار، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل (4) » وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا منتنة (5) » متفق عليه. وأسأل الله سبحانه للجميع التوفيق للعلم النافع والعمل به والثبات على الحق إنه سميع قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. .
__________
(1) نصيحة صدرت من سماحته برقم 1769 \ 1 في 14 \ 7 \ 1411 هـ.
(2) سورة الأنفال الآية 46
(3) سورة لقمان الآية 17
(4) سنن الترمذي الزهد (2378) ، سنن أبو داود الأدب (4833) ، مسند أحمد بن حنبل (2/334) .
(5) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5534) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2628) .(6/265)
نصيحة للصبر على الاستهزاء والتمسك
بالآداب الإسلامية
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم: ع. ف. م. م وفقه الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: -
فأفيدكم بوصول رسالتكم المؤرخة بدون وصلكم الله بهداه، وما تضمنته من بيان ما لحقكم من الأذى والمعاداة والاستهزاء والسخرية بسبب التزامكم وتمسككم بالآداب الشرعية من إعفاء اللحى وتقصير الثياب، ولبس الفتيات للنقاب وتحجبهن إلى آخر ما ذكرت في رسالتك - كان معلوما.
وأوصيك ومن معك بلزوم الآداب الشرعية من إعفاء اللحية وتوفيرها، وترك الإسبال، وتحجب النساء والصبر على ذلك؛ لأن ذلك من طاعة الله ورسوله، ولايضرنكم انتقاد المنتقدين واستهزاء المستهزئين، ولكم أسوة في الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد صبروا على الأذى وبلغوا رسالات ربهم.
أما ما ذكرتم حول إبراقي للرئيس حسني مبارك بالتهنئة والمبايعة، فلا أذكر أنه صدر مني شيء في ذلك، مع دعائي له بالتوفيق والإعانة على كل خير، وتحكيم الشريعة الإسلامية وحث الشعب المصري على التمسك بالإسلام والاستقامة عليه وإخلاص العبادة لله وحده، وهكذا غيره من حكام المسلمين ندعوا لهم جميعا بالتوفيق والإعانة على كل خير، وأن ينفع الله بهم عباده، ويكفي المسلمين شرهم، وفقكم الله لكل ما فيه رضاه وبارك فيكم، وأعانكم على كل خير، وثبتكم على الحق إنه خير مسئول. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(6/266)
عليكن بالأمر بالمعروف ولو غضب من تأمرونه (1)
س: الأخوات اللاتي رمزن لأسمائهن بـ أأ أ - ع - م م م من المجمعة في المملكة العربية السعودية يقلن في سؤالهن: إذا حاولنا منع النميمة والغيبة بين الناس، فإن من نأمره بالمعروف وننهاه عن المنكر يقوم بسبنا، ويغضب علينا، فهل علينا إثم بسبب غضبه، حتى لو كان أحد الوالدين؟ وهل نمنعهم أم ندع ما لا يعنينا في هذا الأمر الهام، أفيدونا أفادكم الله؟
جـ: من أهم الفرائض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2)
فأوضح سبحانه في هذه الآية أن من صفات المؤمنين والمؤمنات الواجبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (3) الآية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (4) » رواه مسلم في صحيحه، والآيات والأحاديث في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذم من ترك ذلك كثيرة، فالواجب عليكن وعلى كل مؤمن ومؤمنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو غضب من أنكرتم عليه ولو سبكن، فلا بد من الصبر تأسيا بالرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم بإحسان، كما قال الله عز وجل يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (5) الآية، وقال عز وجل: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (6) وقال سبحانه عن لقمان الحكيم
__________
(1) نشر في المجلة العربية في باب: '' فاسألوا أهل الذكر ''.
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة آل عمران الآية 110
(4) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .
(5) سورة الأحقاف الآية 35
(6) سورة الأنفال الآية 46(6/267)
أنه قال لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (1) ولاشك أن صلاح المجتمع واستقامته إنما يكون بالله سبحانه ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن فساده وتمزقه وتعرضه للعقوبة العامة من أعظم أسبابه ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (2) » وقد حذر الله سبحانه عباده من سيرة الكفار من بني إسرائيل في قوله عز وجل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (3) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (4) فنسأل الله أن يوفق جميع المسلمين حكاما ومحكومين للقيام بهذا الواجب على خير وجه، وأن يصلح أحوالهم، وأن يعيذ الجميع من أسباب غضبه وانتقامه إنه سميع مجيب.
__________
(1) سورة لقمان الآية 17
(2) سنن الترمذي الفتن (2168) ، سنن ابن ماجه الفتن (4005) .
(3) سورة المائدة الآية 78
(4) سورة المائدة الآية 79(6/268)
كلمة بمناسبة الأعاصير والفيضانات
في بنجلاديش (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يبلغه هذا الكتاب من المسلمين وفقني الله وإياهم لفعل الخيرات وجعلني وإياهم من المسارعين إلى النفقة في سبيله والإحسان إلى عباده في جميع الأوقات آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فمما لا يخفى على كل من له أدنى معرفة بأخبار العالم ما جرى على المسلمين في جمهورية بنجلاديش من الأعاصير والفيضانات المدمرة، وما حصل على المسلمين هناك بأسباب ذلك من موت عشرات الألوف والخراب والدمار لكثير من المساكن وجلاء الملايين من الناس عن مساكنهم، ولا شك أن هذه مصيبة عظيمة وكارثة كبيرة توجب على المسلمين في جميع أوطانهم المسارعة إلى نجدة إخوانهم في بنجلاديش ومساعدتهم ورحمة حالهم والعطف عليهم بأنواع المساعدة من النقود والطعام واللباس والخيام وغير ذلك من أنواع المساعدات المالية، عملا بما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة من الأمر بالإنفاق في سبيل الله ومساعدة المحاويج والمساكين والتعاون على الخير مثل قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (2) وقوله عز وجل: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (3) وقوله سبحانه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (4)
__________
(1) كلمة وجهها سماحته لبثها عن طريق وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في 4 \ 11 \ 1411 هـ.
(2) سورة الحديد الآية 7
(3) سورة البقرة الآية 272
(4) سورة البقرة الآية 274(6/269)
وقوله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (1) {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} (2) الآية، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخره، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (3) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته (4) » وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه (5) » وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (6) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وبناء على ما دلت عليه هذه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الصحيحة من الأمر بالإنفاق في سبيل الله ومساعدة المحاويج والتعاون بين المسلمين، فإني أهيب بجميع المسلمين في كل مكان إلى المبادرة بمساعدة إخوانهم في بنجلاديش والوقوف في صفهم ودعمهم بما يجبر مصيبتهم ويخفف من آلامهم ويسد بعض حاجتهم من أنواع المال والدعم والمساعدة من الزكاة وغيرها - طاعة لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ومسارعة إلى مواساة إخوانهم في الكربة وإعانتهم طلبا للأجر من الله سبحانه رغبة فيما عنده من جزيل الثواب، ورحمة لإخوانهم في بنجلاديش، وجبرا لهم وتعاطفا معهم، وقد وعد الله المنفقين في سبيله بالخلف الجزيل والأجر العظيم، كما قال الله عز وجل: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (7) وقال سبحانه: {لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (8) وقال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (9) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يتصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا تقبلها الله بيمينه فيربيها لصاحبها حتى تكون مثل الجبل (10) » والآيات
__________
(1) سورة آل عمران الآية 133
(2) سورة آل عمران الآية 134
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الأدب (4946) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .
(4) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) .
(5) صحيح البخاري المظالم والغصب (2446) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) .
(6) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(7) سورة سبأ الآية 39
(8) سورة المزمل الآية 20
(9) سورة البقرة الآية 245
(10) صحيح البخاري الزكاة (1410) ، صحيح مسلم الزكاة (1014) ، سنن الترمذي الزكاة (661) ، سنن النسائي الزكاة (2525) ، مسند أحمد بن حنبل (2/331) ، موطأ مالك الجامع (1874) ، سنن الدارمي الزكاة (1675) .(6/270)
والأحاديث في ذلك كثيرة، وهناك لجان من الحكومة السعودية تتعاون مع المسئولين في بنجلاديش على صرف المساعدات في وجهها وصرف الزكاة في أهلها، والله المسئول بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يلطف بإخواننا في بنجلاديش، ويرحم حال المنكوبين جميعا ويحسن لهم العاقبة ويخلف عليهم ما فقدوا بخير منه، وأن يصلح أحوالهم ويجبر مصيبتهم ويمنحهم الفقه في الدين ويعينهم على كل خير، وأن يوفق المسلمين في كل مكان حكومات وشعوبا لمواساتهم وعونهم والوقوف في صفهم بكل أنواع المساعدة، وأن يجزي خادم الحرمين الشريفين عن دعمه لإخوانه في بنجلاديش والوقوف في صفهم والتشجيع على دعمهم - أفضل الجزاء وأحسنه، وأن يضاعف له المثوبة، وأن يوفقه وحكومته وجميع المسلمين في كل مكان لكل خير إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(6/271)
أسئلة مهمة وأجوبتها
س ا: التعاون بالجهر أفضل أم بالسر؟
جـ: التعاون يكون بالسر ويكون بالجهر، والأصل أنه بالجهر، حتى يعلم السامع ما يقال ويستفيد، فالتعاون والإرشاد نصيحة جهرية للمجتمع هذا هو الأصل إلا إذا اقتضت المصلحة الشرعية عدم الجهر خوفا من الشر من بعض الناس؛ لأنه لو نصح أو وجه جهرا قد لا يقبل وقد يتكبر، فالنصيحة سرا مطلوبة حينئذ. والناصح والموجه والمرشد يتحرى ما هو الأصلح، فإذا كانت النصيحة والدعوة والإعانة على الخير جهرا تنفع الحاضرين وتعم بها المصلحة - فعل ذلك، وإذا كانت المصلحة تقتضي أن يكون التناصح في حالة السر - فعل ذلك؛ لأن المقصود حصول الخير والنفع للمنصوح وللمجتمع، فالوسيلة المؤدية إلى ذلك هي المطلوبة سواء كانت سرية أو جهرية، والناصح والداعي إلى الله كالطبيب يتحرى الوقت المناسب والكمية والكيفية المناسبة. فهكذا يكون الداعي إلى الله والناصح لعباده يتحرى ما هو الأنسب وما هو الأصلح وما هو الأقرب للنفع.(6/272)
س2: كيف يكون التعاون على البر والتقوى في البيت إذا كان الأب والأخ الأكبر لا يصلون في المسجد؟
جـ: هذا من أهم التناصح ومن أوجب التعاون، إذا كان الوالد أو الأخ أو غيرهما من أهل البيت يتعاطى شيئا من المنكر فإنه يجب التناصح والتعاون والتواصي بالحق على قدر المستطاع بالأسلوب الحسن وتحري الوقت المناسب حتى يزول المنكر، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (2) » فالوالد له شأن، والوالدة لها شأن، والأخ سواء كان كبيرا أو صغيرا له شأن، وكل يعامل بالأسلوب الحسن واللين والرفق بقدر المستطاع حتى يحصل المقصود ويزول المحذور.
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .(6/272)
وعلى الناصح والداعي إلى الله أن يتحرى الأوقات المناسبة والأسلوب المناسب لا سيما مع الوالدين؛ لأنهما ليسا مثل بقية الأقارب، فلهما شأن عظيم وبرهما متعين حسب الطاقة قال الله جل وعلا: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (1) {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (2) الآية، هذا وهما كافران، فكيف بالوالدين المسلمين، فإذا كان الوالدان الكافران يصحبهما الولد بالمعروف ويحسن إليهما؛ لعله يهديهما بأسبابه. فالمسلمان أولى وأحق بذلك. فإذا كان الوالد يتكاسل عن الصلاة في المسجد، أو يتعاطى شيئا من المعاصي الأخرى كالتدخين أو حلق اللحية أو الإسبال أو غير ذلك من المعاصي التي يقع فيها فإن الواجب على الولد أن ينصح بالحسنى، ويستعين على ذلك بمن يرى من خيار أهل البيت، وهكذا مع الوالدة والأخ الكبير وغيرهما من أهل البيت حتى يحصل المطلوب.
__________
(1) سورة لقمان الآية 14
(2) سورة لقمان الآية 15(6/273)
س 3: ما العلاج لمن يعصي ويتوب ثم يرجع إلى المعصية؟
جـ: لا بد من جهاد النفس في لزوم الحق والثبات على التوبة؛ لأن النفس تحتاج إلى جهاد، يقول الله عز وجل: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} (1) ويقول عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (2) ومعنى قوله سبحانه وتعالى {جَاهَدُوا فِينَا} (3) أي جاهدوا أنفسهم وجاهدوا الكفار وجاهدوا المنافقين وجاهدوا العصاة وجاهدوا الشيطان، فالآية عامة تشمل أنواع الجهاد، ومن ذلك جهاد النفس؛ لأنه سبحانه حذف المفعول ولم ينص عليه في الآية، حتى تعم جميع أنواع الجهاد، فالنفس تحتاج إلى تربية وعناية وصبر وجهاد، كما يقول الشاعر:
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 6
(2) سورة العنكبوت الآية 69
(3) سورة العنكبوت الآية 69(6/273)
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن أطمعت تاقت وإلا تسلت
ويقول الآخر:
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
وقال الآخر:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
هذه ثلاثة أبيات جيدة مطابقة لأحوال النفس، فالمؤمن الحازم هو الذي يجاهد نفسه لله حتى تستقيم على الطريق وتقف عند الحدود، وبذلك يهديه الله سبيله القويم وصراطه المستقيم، ويكون المؤمن بذلك من المحسنين، الذين قال فيهم سبحانه: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1) وقال فيهم عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (2)
والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 69
(2) سورة النحل الآية 128(6/274)
س 4: «إن الله خلق آدم على صورته (1) » ، هل معنى ذلك أن جميع ما لآدم من صفات تكون لله؟
جـ: هذا ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، في الصحيحين أنه قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله خلق آدم على صورته (2) » وجاء في رواية أحمد وجماعة من أهل الحديث «على صورة الرحمن» فالضمير في الحديث الأول يعود إلى الله، قال أهل العلم كأحمد رحمه الله وإسحاق بن راهويه وأئمة السلف: يجب أن نمره كما جاء على الوجه الذي يليق بالله من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل، ولا يلزم من ذلك أن تكون صورته سبحانه مثل صورة الآدمي، كما أنه لا يلزم من إثبات الوجه لله سبحانه واليد والأصابع والقدم والرجل والغضب وغير ذلك من صفاته أن تكون مثل صفات بني آدم، فهو سبحانه موصوف بما أخبر به عن نفسه أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2612) ، مسند أحمد بن حنبل (2/251) .
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2612) ، مسند أحمد بن حنبل (2/251) .(6/274)
اللائق به من دون أن يشابه خلقه في شيء في ذلك كما قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) فعلينا أن نمره كما جاء على الوجه الذي أراده الرسول من غير تكييف ولا تمثيل، والمعنى والله أعلم أنه خلق آدم على صورته ذا وجه وسمع وبصر يسمع ويتكلم ويبصر ويفعل ما يشاء، ولا يلزم أن تكون الصورة كالصورة وهذه قاعدة كلية في هذا الباب عند أهل السنة والجماعة، وهي إمرار آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها من غير تحريف ولا تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل بل يثبتون أسماءه وصفاته إثباتا بلا تمثيل وينزهونه سبحانه عن مشابهة خلقه تنزيها بلا تعطيل، خلافا لأهل البدع من المعطلة والمشبهة، فليس سمع المخلوق ولا بصر المخلوق ولا علم المخلوق مثل علم الله عز وجل وإن اتفقا في جنس العلم والسمع والبصر لكن ما يختص به الله لا يشابهه أحد من خلقه سبحانه وتعالى، وليس كمثله شيء؛ لأن صفاته كاملة لا يعتريها نقص بوجه من الوجوه أما أوصاف المخلوقين فيعتريها النقص والزوال في العلم وفي السمع والبصر وفي كل شيء.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الشورى الآية 11(6/275)
حول توظيف النساء في الدوائر الحكومية
الحمد لله رب العالمين والسلام على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم واقتفى آثارهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد اطلعت على ما نشر في الصحف المحلية في الأول من شهر رمضان عام 1400 هـ من اعتزام فرع ديوان الخدمة المدنية بالمنطقة الشرقية على توظيف النساء في الدوائر الحكومية للقيام بأعمال النسخ والترجمة والأعمال الكتابية الأخرى، ثم قرأت ما كتبه الأخ الناصح محمد أحمد حساني في صحيفة الندوة في عددها الصادر في 8 \ 9 \ 1400 هـ تعقيبا على ذلك الخبر، وكان صادقا وناصحا للأمة في تعقيبه، فشكر الله له وأثابه، ذلك أن من المعلوم أن نزول المرأة للعمل في ميدان الرجال يؤدي إلى الاختلاط، وذلك أمر خطير جدا، له تبعاته الخطيرة وثمراته المرة وعواقبه الوخيمة، وهو مصادم للنصوص الشرعية التي تأمر المرأة بالقرار في بيتها والقيام بالأعمال التي تخصها في بيتها ونحوه، مما تكون فيه بعيدة عن مخالطة الرجال، والأدلة الصريحة الصحيحة الدالة على تحريم الخلوة بالأجنبية وتحريم النظر إليها وتحريم الوسائل الموصلة إلى الوقوع فيما حرم الله - أدلة كثيرة محكمة قاضية بتحريم الاختلاط المؤدي إلى مالا تحمد عقباه.
منها قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (1) {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} (2) وقال تعالى {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (3) وقال تعالى:
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) سورة الأحزاب الآية 34
(3) سورة الأحزاب الآية 53(6/276)
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) وقال الله جل وعلا: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (2) {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} (3) إلى أن قال سبحانه: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) وقال: صلى الله عليه وسلم «إياكم والدخول على النساء - يعني الأجنبيات - قال رجال من الأنصار أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت (5) » ونهى الإسلام عن الخلوة بالمرأة الأجنبية على الإطلاق إلا مع ذي محرم وعن السفر إلا مع ذي محرم، سدا لذريعة الفساد وإغلاقا لباب الإثم، وحسما لأسباب الشر وحماية للنوعين من مكائد الشيطان، ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (6) » وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء (7) » وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما (8) » وهذه الآيات والأحاديث صريحة الدلالة في وجوب القرار في البيت والابتعاد عن الاختلاط المؤدي إلى الفساد، وتقويض الأسر وخراب المجتمعات فما الذي يلجئنا إلى مخالفتها والوقوع فيما يغضب الله ويحل بالأمة بأسه وعقابه، ألا نعتبر فيما وقع في المجتمعات التي سبقت إلى هذا الأمر الخطير وصارت تتحسر على ما فعلت، وتتمنى أن تعود إلى حالنا التي نحن عليها الآن. لماذا لا ننظر إلى وضع المرأة في بعض البلدان الإسلامية المجاورة كيف أصبحت مهانة مبتذلة بسبب إخراجها من بيتها، وجعلها تعمل في غير وظيفتها، لقد نادى العقلاء هناك وفي البلدان الغربية بوجوب إعادة المرأة إلى وضعها الطبيعي الذي هيأها الله له وركبها عليه جسميا ونفسيا وعقليا، ولكن بعد ما فات الأوان.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 59
(2) سورة النور الآية 30
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة النور الآية 31
(5) صحيح البخاري النكاح (5232) ، صحيح مسلم السلام (2172) ، سنن الترمذي الرضاع (1171) ، مسند أحمد بن حنبل (4/149) ، سنن الدارمي الاستئذان (2642) .
(6) صحيح البخاري النكاح (5096) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2741) ، سنن الترمذي الأدب (2780) ، سنن ابن ماجه الفتن (3998) ، مسند أحمد بن حنبل (5/210) .
(7) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) ، سنن الترمذي الفتن (2191) ، سنن ابن ماجه الفتن (4000) ، مسند أحمد بن حنبل (3/22) .
(8) سنن الترمذي الفتن (2165) ، مسند أحمد بن حنبل (1/18) .(6/277)
ألا فليتق الله المسئولون في ديوان الخدمة المدنية والرئاسة العامة لتعليم البنات، وليراقبوه سبحانه فلا يفتحوا على الأمة بابا عظيما من أبواب الشر، إذا فتح كان من الصعب إغلاقه، وليعلموا أن النصح لهذا البلد حكومة وشعبا هو العمل على ما يبقيه مجتمعا متماسكا قويا سائرا على نهج الكتاب والسنة، وسد أبواب الضعف والوهن ومنافذ الشرور والفتن، ولا سيما ونحن في عصر تكالب الأعداء فيه على المسلمين وأصبحنا أشد ما نكون حاجة إلى عون الله ودفعه عنا شرور أعدائنا ومكائدهم، فلا يجوز لنا أن نفتح أبوابا من الشر مغلقة.
ولعل في كلمتي هذه ما يذكر المسئولين في ديوان الخدمة المدنية والرئاسة العامة لتعليم البنات بما يجب عليهم من مراعاة أمر الله ورسوله والنظر فيما تمليه المصلحة العامة لهذه الأمة، والاستفادة مما قاله الأخ محمد أحمد حساني من أن عملية نقص الموظفين لا تعالج بالدعوة إلى إشراك النساء في وظائف الرجال؛ سدا للذريعة وقفلا لباب المحاذير، بل إن العلاج الصحيح يكون بإيجاد الحوافز لآلاف الشبان الذين لا يجدون في العمل الحكومي ما يشجع للالتحاق به فيتجهون إلى العمل الحر أو إلى المؤسسات والشركات، ومن هنا منطلق العلاج الصحيح وهو تبسيط إجراءات تعيين الموظفين وعدم التعقيد في الطلبات، وإعطاء الموظف ما يستحق مقابل جهده، وعندها سوف يكون لدى كل إدارة فائض من الموظفين، هذا وإنني مطمئن إن شاء الله إلى أن المسئولين بعد قراءتهم لهذه الكلمة سيرجعون عما فكروا فيه من تشغيل المرأة بأعمال الرجال إذا علموا أن ذلك محرم بالكتاب والسنة، ومصادم للفطرة السليمة، ومن أقوى الأسباب في تخلخل المجتمع وتداعي بنيانه، وهو مع ذلك أمنية غالية لأعداء المسلمين، يعملون لها منذ عشرات السنين، وينفقون لتحقيقها الأموال الطائلة، ويبذلون لذلك الجهود المضنية، ونرجو أن لا يكون أبناؤنا وإخواننا معينين لهم أو محققين لأغراضهم.
أسأل الله أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من مكايد الأعداء ومخططاتهم المدمرة وأن يوفق المسئولين فيها إلى حمل الناس على ما يصلح شئونهم في الدنيا والآخرة،(6/278)
تنفيذا لأمر ربهم وخالقهم والعالم بمصالحهم، وأن يوفق المسئولين في ديوان الخدمة المدنية والرئاسة العامة لتعليم البنات لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد في أمر المعاش والمعاد، وأن يعيذنا وإياهم وسائر المسلمين من مضلات الفتن وأسباب النقم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعهم بإحسان.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز.(6/279)
حكم مصافحة النساء من وراء حائل (1)
س: الأخ الذي رمز لاسمه: ر. ع. ق. أمن المعهد العلمي بحوطة بني تميم بالمملكة العربية السعودية يسأل عن حكم مصافحة المرأة الأجنبية إذا كانت عجوزا وكذلك يسأل عن الحكم إذا كانت تضع على يدها حاجزا من ثوب ونحوه؟
جـ: لاتجوز مصافحة النساء غير المحارم مطلقا سواء كن شابات أم عجائز، وسواء كان المصافح شابا أم شيخا كبيرا لما في ذلك من خطر الفتنة لكل منهما، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني لا أصافح النساء (2) » وقالت عائشة رضي الله عنها: «ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط ما كان يبايعهن إلا بالكلام (3) » ولا فرق بين كونها تصافحه بحائل أو بغير حائل لعموم الأدلة، ولسد الذرائع المفضية إلى الفتنة والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشرت في المجلة العربية.
(2) سنن النسائي البيعة (4181) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2874) ، مسند أحمد بن حنبل (6/357) ، موطأ مالك الجامع (1842) .
(3) صحيح البخاري تفسير القرآن (4891) ، صحيح مسلم الإمارة (1866) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2875) ، مسند أحمد بن حنبل (6/270) .(6/280)
التحذير من مكائد الأعداء (1)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين أما بعد:
فقد اطلعت على الخطاب المفتوح الموجه من بعض المسلمات في سويسرا إلى شيخ الأزهر ووزير الإعلام في مصر، المنشور في مجلة الدعوة المصرية في عددها السابع والأربعين الصادر في شهر جمادى الأولى عام 1400 هـ وقد جاء في هذا الخطاب أن العالم الغربي قد بدأ يتحدث عن الإسلام ويهتم به، وأن بعض جهات الإعلام استغلت هذا الوضع وأخذت تشوه الإسلام وتعرف به على غير حقيقته، ويضربن مثلا على ذلك بما قام به التلفزيون السويسري حينما عرض فيلما عن الإسلام والمسلمين في مصر يشتمل على مشاهد ليست من الإسلام، إذ عرض ما يجري عند الأضرحة وفي حفلات المزار ومولد البدوي وغيرها من الأمور المبتدعة، وقد ذكرت الأخوات في خطابهن ما نصه:
(وأكثر ما آلم المسلمين من كل الجنسيات هو عرض لفتاة تدعى نهال رزق قيل إنها مسلمة، وكانت هي محور الحلقة على أساس أنها مثل للمرأة المتحضرة؛ لأنه لا يمكن تطبيق قوانين جاءت منذ 14 قرنا كما، قال مقدم البرنامج، ونذكر لكم لقطتين فقط من جملة الفيلم عنها والحديث معها، اللقطة الأولى لهذه الفتاة في حمام سباحة نادي الجزيرة - وطبعا كانت بالمايوه أمام الرجال وبعدها لقاء معها في منزلها، ولقطة لها وهي تصلي وتلبس الطرحة وقالت: إنها تصلي وتصوم وسيأتي اليوم الذي تحج فيه للبيت الحرام، وكانت آخر لقطاتهم معها في كازينو وهي تراقص صديقها وقالت: إنه مسموح لها بالرقص مع صديقها والسهر معه حتى الواحدة صباحا، كما ذكر الأخوات أن التلفزيون السويسري أعد هذا الفيلم عندما قام فريق من المشرفين عليه
__________
(1) نشرت في مجلة الدعوة بعددها 817 في ذي الحجة 1401 هـ.(6/281)
بزيارة معلنة للقاهرة، سجل خلالها تلك المشاهد وأجرى أثناء لقاءات مع شيخ الأزهر ومفتي الجمهورية والشيخ السطوحي، ليوهم أن هؤلاء موافقون على ما يعرض في الفيلم، وتساءلن بقولهن من المسئول عن هذه المهزلة، ومن الذي قدم هذه الفتاة لتكون مثالا للفتاة المسلمة في مصر، أو لم يجد المسئولون في مصر مثالا يليق بعرض الإسلام والمرأة المسلمة للأوربيين سوى هذه الفتاة وهذه الصور. انتهى كلامهن.
وإنني أشكر للأخوات المسلمات في سويسرا غيرتهن ونصحهن، وأسأل الله أن يثبتهن على ذلك وأحب أن يعلمن هن وغيرهن أن ما فعله التلفزيون السويسري وغيره إنما هو جزء من الحرب الدائرة المستمرة بين المسلمين والكافرين، وقد أخبر الله عن ذلك في كتابه الكريم حيث قال: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (1) وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (2) وعندما يعمل التلفزيون السويسري النصراني هذا العمل إنما يريد به الصد عن دين الله، ومنع الناس من الدخول فيه أو الاستماع إلى من يدعوهم إليه، ولكنهم بإذن الله خائبون خاسرون، قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (3) وليس العجب من جرأة أعداء الإسلام على النيل منه وتزوير الحقائق وتضليل الناس، فتلك طبيعة الأعداء في حربهم للمسلمين ومحاولتهم لمنع دخول الناس في الإسلام، ولكن العجب من المسلمين وولاتهم الذين يستقبلونهم في بلدانهم ويهيئون لهم من الوسائل ما يعينهم على تحقيق مآربهم وتنفيذ مخططاتهم، ولعل ما حصل من بعض المسئولين في القاهرة كشيخ الأزهر والمفتي وغيرهما إنما ظنا منهم أن أولئك سيعرفون بالإسلام حقيقة، وسيقتصرون على نشر اللقاءات التي تمت معهم دون غيرها، ومع ذلك فإنني أنصح ولاة أمور المسلمين عامة وأهل الحل والعقد فيهم خاصة من الرؤساء والأمراء والعلماء وغيرهم أن يكونوا على حذر في معاملتهم مع أعداء الإسلام الذين يتسللون إلى
__________
(1) سورة البقرة الآية 217
(2) سورة البقرة الآية 120
(3) سورة الصف الآية 8(6/282)
صفوف المسلمين باسم الصحافة أو الاستشراق أو غيرهما، وأن يكونوا متيقظين لكل مؤامراتهم ومكائدهم، وأن لا يسهلوا لهم القيام بمهماتهم في بلاد المسلمين أو يتعاونوا معهم لإنجاحها، فكثيرا ما يرى النصارى وغيرهم يحملون آلات التصوير ويقصدون المناظر القديمة والمشوهة في بلاد المسلمين فيصورونها ويعلقون عليها مايشاءون وينشرونها في بلدانهم زاعمين أن هذا حال المسلمين وأن الإسلام يجعل أهله على تلك الصورة.
ولهذا ينبغي أن لا تستجاب طلبات أولئك إلا بعد دراستها دراسة وافية، ومعرفة أبعادها ونتائجها والتأكد من خلوها مما يلحق الضرر بالإسلام والمسلمين. وأسأل الله سبحانه أن يوفق المسلمين ورؤساءهم وأهل الحل والعقد فيهم؛ ليكونوا دعاة إلى الله وحماة لدينه على بصيرة، وأن يعلي كلمته وأن يخذل أعداءه ويبطل كيدهم، إنه سميع مجيب. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(6/283)
معاملة المسلم لغير المسلم (1)
س: ماهو الواجب على المسلم تجاه غير المسلم، سواء كان ذميا في بلاد المسلمين أو كان في بلاده، أو المسلم يسكن في بلاد ذلك الشخص غير المسلم. والواجب الذي أريد توضيحه هو المعاملات بكل أنواعها، ابتداء من إلقاء السلام وانتهاء بالاحتفال مع غير المسلم في أعياده، وهل يجوز اتخاذ صديق عمل فقط أفيدونا أثابكم الله؟
__________
(1) من برنامج نور على الدرب شريط 110.(6/283)
جـ: إن من المشروع للمسلم بالنسبة إلى غير المسلم أمورا متعددة، منها الدعوة إلى الله عز وجل بأن يدعوه إلى الله ويبين له حقيقة الإسلام، حيث أمكنه ذلك وحيث كانت لديه البصيرة؛ لأن هذا هو أعظم الإحسان، وأهم الإحسان، الذي يهديه المسلم إلى مواطنه وإلى من اجتمع به من اليهود والنصارى أو غيرهم من المشركين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه، «وقوله عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه لما بعثه إلى خيبر وأمره أن يدعو إلى الإسلام قال فوالله لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم (2) » متفق على صحته. وقال عليه الصلاة والسلام: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (3) » رواه مسلم في صحيحه، فدعوته إلى الله وتبليغه الإسلام ونصيحته في ذلك من أهم المهمات ومن أفضل القربات.
ثانيا: لا يجوز أن يظلمه في نفس ولا في مال ولا في عرض إذا كان ذميا أو مستأمنا أو معاهدا فإنه يؤدي إليه الحق فلا يظلمه في ماله لا بالسرقة ولا بالخيانة ولا بالغش، ولا يظلمه في بدنه لا بضرب ولا بغيره؛ لأن كونه معاهدا أو ذميا في البلد أو مستأمنا يعصمه.
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2942) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(3) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .(6/284)
ثالثا: لا مانع من معاملته في البيع والشراء والتأجير ونحو ذلك، فقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه اشترى من الكفار عباد الأوثان، واشترى من اليهود وهذه معاملة وقد توفي عليه الصلاة والسلام، ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام اشتراه لأهله.
رابعا: في السلام، لا يبدأه بالسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام (1) » خرجه مسلم في صحيحه وقال: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم (2) » فالمسلم لا يبدأ الكافر بالسلام، ولكن يرد عليه بقوله: (وعليكم) لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم (3) » متفق على صحته، هذا من الحقوق المتعلقة بين المسلم والكافر، ومن ذلك أيضا حسن الجوار إذا كان جارا تحسن إليه ولا تؤذيه في جواره، وتتصدق عليه إذا كان فقيرا تهدي إليه وتنصح له فيما ينفعه؛ لأن هذا مما يسبب رغبته في الإسلام ودخوله فيه؛ ولأن الجار له حق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مازال جبريل يوصيني بالجار حتى طننت أنه سيورثه (4) » متفق على صحته وإذا كان الجار كافرا كان له حق الجوار، وإذا كان قريبا وهو كافر صار له حقان: حق الجوار وحق القرابة، ومن المشروع للمسلم أن يتصدق على جاره الكافر وغيره من الكفار غير المحاربين من غير الزكاة. لقول الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (5) وللحديث الصحيح «عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن أمها وفدت عليها بالمدينة في صلح الحديبية وهي مشركة تريد المساعدة، فاستأذنت أسماء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك هل تصلها؟ فقال: صليها (6) » اهـ.
أما الزكاة فلا مانع من دفعها للمؤلفة قلوبهم من الكفار لقوله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} (7) الآية، أما مشاركة الكفار في احتفالاتهم بأعيادهم فليس للمسلم أن يشاركهم في ذلك.
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2167) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2700) .
(2) صحيح البخاري الاستئذان (6258) ، صحيح مسلم السلام (2163) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3301) ، سنن أبو داود الأدب (5207) ، سنن ابن ماجه الأدب (3697) ، مسند أحمد بن حنبل (3/218) .
(3) صحيح البخاري الاستئذان (6258) ، صحيح مسلم السلام (2163) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3301) ، سنن أبو داود الأدب (5207) ، سنن ابن ماجه الأدب (3697) ، مسند أحمد بن حنبل (3/218) .
(4) سنن ابن ماجه الأدب (3674) ، مسند أحمد بن حنبل (2/445) .
(5) سورة الممتحنة الآية 8
(6) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2620) ، صحيح مسلم الزكاة (1003) ، سنن أبو داود الزكاة (1668) ، مسند أحمد بن حنبل (6/355) .
(7) سورة التوبة الآية 60(6/285)
حكم السلام على المتحدث بالهاتف
إذا كان لا يعرف هل هو مسلم أم كافر
س: ما حكم إلقاء السلام على الشخص المتحدث بالهاتف إذا كان لا يعرف هل هو مسلم أم لا؟ (1)
جـ: حكمه حكم اللقاء إذا عرفت أنه كافر فلا تبدأه بالسلام، أما إذا كنت لا تعرف فليس في ذلك محظور. .
وبالله التوفيق.
__________
(1) نشرت بالمجلة العربية في باب: فاسألوا أهل الذكر.(6/286)
شكر المحسن والدعاء له
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم الشيخ م - ت مدير مدرسة التهذيب بساحل العاج.
زاده الله من العلم والإيمان. . آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فقد وصلني كتابك الكريم المؤرخ 4 \ 8 \ 1394 هـ وصلك الله بهداه وما تضمنه من الأسئلة كان معلوما، وهذا نصها وجوابها:
س 1: أيجوز أن يقال للمحسن شكرا أو بارك. . إلى آخره؟
جـ: لاحرح أن يقول الإنسان لأخيه إذا أحسن إليه شكرا لك أو شكر الله عملك أو أنت مشكور أو ما أشبه هذه الألفاظ؛ لقول الله سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (1) فأمر سبحانه الولد أن يشكر ربه ويشكر والديه، فدل ذلك على مشروعية شكر الله سبحانه وشكر المحسن من الناس، وثبت عن النبي أنه
__________
(1) سورة لقمان الآية 14(6/286)
قال: «من لم يشكر الناس لم يشكر الله (1) » وفي لفظ: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس (2) » وصح عنه عليه السلام أنه قال: «من صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه (3) » أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد جيد، وشكر المحسن من جنس الدعاء.
أما قولك: (أو بارك) فلم يتضح لي مرادك منها، فإن كان المراد الدعاء له بالبركة فلا بأس، أما إن كان المراد معنى آخر فأرجو الإفادة عنه حتى نجيبك على ذلك.
2: من عادتنا إذا انتهينا من الأكل نقول: (بعد أن حمدنا الله) لآبائنا وأمهاتنا وكبرائنا: بارك أو شكر لك يا فلان، نتداوله بيننا، أيجوز ذلك. . . . إلى آخره؟
جـ: الجواب عن هذا السؤال يتضح من جواب الذي قبله، وهو أنه لا حرج في شكر المحسن والدعاء له بالبركة، بل ذلك مشروع لما تقدم من الأدلة، وفي صحيح مسلم أن النبي زار بعض أصحابه فأكل عندهم طعاما فلما أراد الخروج قالت زوجة صاحب البيت: يا رسول الله: ادع لنا، فقال عليه الصلاة والسلام: «اللهم بارك لهم فيما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم» .
والله يحفظكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سنن الترمذي البر والصلة (1955) ، مسند أحمد بن حنبل (3/32) .
(2) سنن الترمذي البر والصلة (1954) ، سنن أبو داود الأدب (4811) ، مسند أحمد بن حنبل (2/303) .
(3) سنن النسائي الزكاة (2567) ، سنن أبو داود الزكاة (1672) ، مسند أحمد بن حنبل (2/99) .(6/287)
الدواء الشرعي للسحر (1)
س: سمعت من أحد العلماء قوله: إن من يظن أنه عمل له سحر عليه أن يأخذ سبع ورقات من السدر ثم يضعها في سطل ماء ويقرأ عليها سورتي المعوذات وآية الكرسي وسورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (2) وقوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} (3) وسورة الفاتحة، فما صحة هذا؟ وماذا يفعل من يظن أنه قد سحر. .؟ أفيدونا أفادكم الله.
جـ: لا شك أن السحر موجود، وبعضه تخييل، وأنه يقع ويؤثر بإذن الله عز وجل، كما قال الله سبحانه وتعالى في حق السحرة: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} (4) يعني الملكين {حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (5) فالسحر له تأثير، ولكنه بإذن الله الكوني القدري، إذ ما في الوجود من شيء إلا بقضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، ولكن هذا السحر له علاج وله دواء، وقد وقع على النبي صلى الله عليه وسلم فخلصه الله منه وأنجاه من شره، ووجدوا ما فعله الساحر، فأخذ وأتلف، فأبرأ الله نبيه من ذلك عليه الصلاة والسلام، وهكذا إذا وجد ما فعله الساحر من تعقيد الخيوط أو ربط المسامير بعضها ببعض أو غير ذلك فإن ذلك يتلف؛ لأن السحرة من شأنهم أن ينفثوا في العقد ويضربوا عليها لمقاصدهم الخبيثة، فقد يتم ما أرادوا بإذن الله، وقد يبطل، فربنا على كل شيء قدير، سبحانه وتعالى، وتارة يعالج السحر بالقراءة سواء كان ذلك بقراءة المسحور نفسه، إذا كان عقله سليما، وتارة بقراءة غيره عليه، فينفث عليه في صدره أو في أي عضو من أعضائه ويقرأ عليه الفاتحة، وآية الكرسي، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (6)
__________
(1) من برنامج نور على الدرب الشريط 53.
(2) سورة الكافرون الآية 1
(3) سورة البقرة الآية 102
(4) سورة البقرة الآية 102
(5) سورة البقرة الآية 102
(6) سورة الإخلاص الآية 1(6/288)
والمعوذتين، وآيات السحر المعروفة من سورة الأعراف، وسورة يونس، وسورة طه، من سورة الأعراف قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} (1) {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} (3) ومن سورة يونس قوله سبحانه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} (4) {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} (5) {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} (6) {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (7) ومن سورة طه قوله سبحانه: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} (8) {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (9) {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} (10) {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} (11) {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (12) ويقرأ أيضا سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (13) إلى آخرها، وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (14) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (15) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (16) والأولى أن يكرر سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (17) والمعوذتين ثلاث مرات، ثم يدعو له بالشفاء اللهم رب الناس أذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاءك شفاءا لا يغادر سقما، ويكرر هذا ثلاثا، وهكذا يرقيه بقوله: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك، ويكررها ثلاثا ويدعو له بالشفاء والعافية وإن قال في رقيته: أعيذك بكلمات الله التامات من شر ماخلق وكررها ثلاثا فحسن، كل هذا من الدواء المفيد، وإن قرأ هذه الرقية والدعاء في ماء ثم شرب منه المسحور واغتسل بباقيه كان هذا من أسباب الشفاء والعافية بإذن الله، وإن جعل في الماء سبع ورقات من السدر الأخضر بعد دقها كان هذا أيضا من أسباب الشفاء، وقد جرب هذا كثيرا ونفع الله به، وقد فعلناه مع كثير من الناس فنفعهم الله بذلك. فهذا دواء مفيد ونافع للمسحورين وهكذا ينفع هذا الدواء لمن حبس عن زوجته؛
__________
(1) سورة الأعراف الآية 117
(2) سورة الأعراف الآية 118
(3) سورة الأعراف الآية 119
(4) سورة يونس الآية 79
(5) سورة يونس الآية 80
(6) سورة يونس الآية 81
(7) سورة يونس الآية 82
(8) سورة طه الآية 65
(9) سورة طه الآية 66
(10) سورة طه الآية 67
(11) سورة طه الآية 68
(12) سورة طه الآية 69
(13) سورة الكافرون الآية 1
(14) سورة الإخلاص الآية 1
(15) سورة الفلق الآية 1
(16) سورة الناس الآية 1
(17) سورة الإخلاص الآية 1(6/289)
لأن بعض الناس قد يحبس عن زوجته فلا يستطيع جماعها، فإذا استعمل هذه الرقية وهذا الدعاء نفعه بإذن الله، سواء قرأه على نفسه أو قرأه عليه غيره أو قرأه في ماء ثم شرب منه واغتسل بالباقي - كل هذا نافع بإذن الله للمسحور والمحبوس عن زوجته، وهذه من الأسباب، والله سبحانه وتعالى هو الشافي وحده، وهو على كل شيء قدير، بيده جل وعلا الدواء والداء، وكل شيء بقضائه وقدره سبحانه، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أنزل داء إلا وأنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله (1) » وهذا فضل منه سبحانه وتعالى. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/377) .(6/290)
الأنبياء معصومون فيما يبلغونه
س: سمعت من عالم إسلامي يقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم يخطئ، فهل هذا صحيح؟ وقد سمعت أيضا أن الإمام مالك يقول: كل منا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر، مع بيان حديث الذباب بعد أن تجرأ على تكذيبه بعض الناس؟
جـ: قد أجمع المسلمون قاطبة على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا سيما خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم معصمون من الخطأ فيما يبلغونه عن الله عز وجل من أحكام. كما قال عز وجل: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (1) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (2) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (3) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (4) {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (5) فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم معصوم في كل ما يبلغ عن الله من الشرائع قولا وعملا وتقريرا، هذا لا نزاع فيه بين أهل العلم، وقد ذهب جمهور أهل العلم أيضا إلى أنه معصوم من المعاصي الكبائر دون الصغائر، وقد تقع منه الصغيرة لكن لا يقر عليها، بل ينبه عليها فيتركها، أما من أمور الدنيا فقد يقع الخطأ ثم ينبه على ذلك؛ كما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم «لما مر على جماعة يلقحون النخل
__________
(1) سورة النجم الآية 1
(2) سورة النجم الآية 2
(3) سورة النجم الآية 3
(4) سورة النجم الآية 4
(5) سورة النجم الآية 5(6/290)
فقال ما أظنه يضره لو تركتموه فلما تركوه صار شيصا، فأخبروه صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: إنما قلت ذلك ظنا مني وأنتم أعلم بأمر دنياكم، أما ما أخبركم به عن الله عز وجل فإني لم أكذب على الله (1) » رواه مسلم في الصحيح، فبين عليه الصلاة والسلام أن الناس أعلم بأمور دنياهم كيف يلقحون النخل وكيف يغرسون وكيف يبذرون ويحصدون.
أما ما يخبر به الأنبياء عن الله سبحانه وتعالى فإنهم معصومون من ذلك.
فقول من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم يخطئ فهذا قول باطل، ولا بد من التفصيل كما ذكرنا، وقول مالك رحمه الله: ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر - قول صحيح تلقاه العلماء بالقبول، ومالك رحمه الله من أفضل علماء المسلمين، وهو إمام دار الهجرة في زمانه في القرن الثاني، وكلامه هذا كلام صحيح تلقاه العلماء بالقبول، فكل واحد من أفراد العلماء يرد ويرد عليه، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو لا يقول إلا الحق، فليس يرد عليه، بل كلامه كله حق فيما يبلغ عن الله تعالى، وفيما يخبر به جازما به أو يأمر به أو يدعو إليه.
أما حديث الذباب فهو حديث صحيح رواه البخاري في صحيحه، وقد أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم جازما به، فقال عليه الصلاة والسلام: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء (2) » وله شواهد من حديث أبي سعيد الخدري وحديث أنس بن مالك، وكلها صحيحة، وقد تلقتها الأمة بالقبول ومن طعن فيها فهو غالط وجاهل لا يجوز أن يعول عليه في ذلك، ومن قال إنه من أمور الدنيا وتعلق بحديث «أنتم أعلم بشئون دنياكم (3) » . . - فقد غلط؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جزم بهذا ورتب عليه حكما شرعيا ولا قال أظن، بل جزم وأمر، وهذا فيه تشريع من الرسول؛ لأنه قال «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه (4) » فهذا أمر من الرسول صلى الله عليه وسلم وتشريع للأمة، وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الفضائل (2363) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2471) ، مسند أحمد بن حنبل (6/123) .
(2) صحيح البخاري الطب (5782) ، سنن أبو داود الأطعمة (3844) ، سنن ابن ماجه الطب (3505) ، مسند أحمد بن حنبل (2/340) ، سنن الدارمي الأطعمة (2038) .
(3) صحيح مسلم الفضائل (2363) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2471) ، مسند أحمد بن حنبل (6/123) .
(4) صحيح البخاري الطب (5782) ، سنن أبو داود الأطعمة (3844) ، سنن ابن ماجه الطب (3505) ، مسند أحمد بن حنبل (2/340) ، سنن الدارمي الأطعمة (2038) .(6/291)
فضل حفظ القرآن
س: إنني كثيرا ما أحفظ آيات من القرآن الكريم، ولكن بعد فترة أنساها، وكذلك عندما أقرأ آية لا أعلم هل قراءتي صحيحة أم لا؟ ثم أكتشف بعد ذلك أنني كنت مخطئا، دلوني لو تكرمتم.(6/291)
جـ: المشروع لك يا أخي أن تجتهد في حفظ ما تيسر من كتاب الله، وأن تقرأ على بعض الإخوة الطيبين في المدارس أو في المساجد أو في البيت، وتحرص على ذلك، حتى يصححوا لك قراءتك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1) » رواه البخاري رحمه الله في صحيحه، فخيار الناس هم أهل القرآن الذين تعلموه وعلموه الناس، وعملوا به.
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: «أيحب أحدكم أن يذهب إلى بطحان فيأتي بناقتين عظيمتين في غير إثم ولا قطيعة رحم (2) » فقالوا: يا رسول الله: كلنا يحب ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: «لأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين عظيمتين وثلاث خير من ثلاث وأربع خير من أربع ومن أعدادهن من الإبل (3) » أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وهذا يبين لنا فضل تعلم القرآن الكريم، فأنت يا أخي عليك بتعلم القرآن على الإخوان المعروفين بإجادة قراءة القرآن حتى تستفيد وتقرأ قراءة صحيحة.
أما ما يعرض لك من النسيان فلا حرج عليك في ذلك، فكل إنسان ينسى، كما قال عليه الصلاة والسلام: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون (4) » وسمع مرة قارئا يقرأ فقال: «رحم الله فلان لقد أذكرني آية كذا كنت أسقطتها (5) » أي أنسيتها، والمقصود أن الإنسان قد ينسى بعض الآيات ثم يذكر، أو يذكره غيره، والأفضل أن يقول (نسيت) بضم النون وتشديد السين، أو: أنسيت، لما ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقولن أحدكم نسيت آية كذا بل هو نسي (6) » يعني أنساه الشيطان، أما حديث:
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (803) ، سنن أبو داود الصلاة (1456) ، مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(3) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (803) ، سنن أبو داود الصلاة (1456) ، مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(4) صحيح البخاري الصلاة (401) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (572) ، سنن النسائي السهو (1244) ، سنن أبو داود الصلاة (1020) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/379) .
(5) صحيح البخاري الشهادات (2655) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (788) ، سنن أبو داود الصلاة (1331) .
(6) صحيح البخاري فضائل القرآن (5039) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (790) ، سنن الترمذي القراءات (2942) ، سنن النسائي الافتتاح (943) ، مسند أحمد بن حنبل (1/417) ، سنن الدارمي الرقاق (2745) .(6/292)
«من حفظ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم (1) » فهو حديث ضعيف عند أهل العلم لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والنسيان ليس باختيار الإنسان وليس في طوقه السلامة منه، والمقصود أن المشروع لك حفظ ما تيسر من كتاب الله عز وجل، وتعاهد ذلك، وقراءته على من يجيد القراءة حتى يصحح لك أخطاءك.
وفقك الله ويسر أمرك.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/328) .(6/293)
طريقة حفظ القرآن
س: أرشدوني إلى الطريقة التي تعينني على حفظ كتاب الله.
جـ: نوصيك بالعناية بالحفظ والإقبال على ذلك واختيار الأوقات المناسبة للحفظ كآخر الليل أو بعد صلاة الفجر أو في أثناء الليل أو في بقية الأوقات التي تكون فيها مرتاح النفس حتى تستطيع الحفظ، ونوصيك باختيار الزميل الطيب الذي يساعدك ويعينك على الحفظ والمذاكرة، مع سؤال الله التوفيق والإعانة والتضرع إليه أن يعينك، وأن يوفقك، وأن يعيذك من أسباب التعويق ومن استعان بالله صادقا أعانه الله ويسر أمره.(6/293)
حكم الاجتماع في دعاء ختم القرآن الكريم
س: ما حكم الاجتماع في دعاء ختم القرآن العظيم، وذلك بأن يختم الإنسان القرآن الكريم ثم يدعو بقية أهله أو غيرهم إلى الدعاء معه دعاء جماعيا لختم القرآن العظيم حتى ينالهم ثواب ختم القرآن الكريم الوارد عن شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله، أو غيره من الأدعية المكتوبة في نهاية المصاحف المسماة بدعاء ختم القرآن العظيم، فهل يجوز الاجتماع على دعاء ختم القرآن العظيم سواء كان ذلك في نهاية شهر رمضان المبارك أو غيره من المناسبات فهل يعتبر هذا الاجتماع بدعة أم لا؟ وهل ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء مخصص لختم القرآن العظيم؟ نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل.
جـ: لم يرد دليل على تعيين دعاء معين فيما نعلم، ولذلك يجوز للإنسان أن يدعو بما شاء، ويتخير من الأدعية النافعة، كطلب المغفرة من الذنوب والفوز بالجنة والنجاة من النار، والاستعاذة من الفتن، وطلب التوفيق لفهم القرآن الكريم على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى والعمل به وحفظه ونحو ذلك؛ لأنه ثبت عن أنس رضي الله عنه أنه كان يجمع أهله عند ختم القرآن ويدعو، أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عنه شيء في ذلك فيما أعلم.
أما الدعاء المنسوب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فلا أعلم صحة هذه النسبة إليه، ولكنها مشهورة بين مشائخنا وغيرهم، لكنني لم أقف على ذلك في شيء من كتبه والله أعلم.(6/294)
أسئلة وأجوبتها تتعلق بالتوبة
وجوب التوبة والتحلل من مظلمة الناس
س: كنت جاهلا ولقد من الله علي بالإسلام، وكنت قبل ذلك قد ارتكبت بعض المظالم والأخطاء، وسمعت حديثا عن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول: «من كانت عنده مظلمة لأخيه في عرض أو في شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم (1) » إلخ. كيف تنصحونني والحالة هذه؟
جـ: لقد شرع الله لعباده التوبة من جميع الذنوب، قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (3) وقال جل وعلا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (4) وقال صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (5) » فمن اقترف شيئا من المعاصي فعليه أن يبادر بالتوبة والندم والإقلاع والحذر والعزم الصادق ألا يعود في ذلك؛ تعظيما لله سبحانه، وإخلاصا له، وحذرا من عقابه والله يتوب على التائبين، فمن صدق في التوجه إلى الله عز وجل، وندم على ما مضى، وعزم عزما صادقا أن لا يعود، وأقلع منها تعظيما لله وخوفا منه، فإن الله يتوب عليه ويمحو عنه ما مضى من الذنوب، فضلا منه وإحسانا سبحانه وتعالى، ولكن إذ كانت المعصية ظلما للعباد فهذا يحتاج إلى أداء الحق، فعليه التوبة مما وقع بالندم، والإقلاع، والعزم أن لا يعود، وعليه مع ذلك أداء الحق لمستحقيه أو بتحلله من ذلك، كأن يقول لصاحب الحق سامحني يا أخي أو اعف عني، أو يعطيه حقه، للحديث الذي أشرت إليه، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كانت عنده لأخيه مظلمة فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ من حسناته بقدر مظلمته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه (6) » رواه البخاري في صحيحه.
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2449) ، مسند أحمد بن حنبل (2/435) .
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة التحريم الآية 8
(4) سورة طه الآية 82
(5) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .
(6) صحيح البخاري المظالم والغصب (2449) ، مسند أحمد بن حنبل (2/506) .(6/295)
فالواجب على المؤمن أن يحرص على البراءة والسلامة من حق أخيه، بأن يرد إليه أو يتحلله منه، وإن كان عرضا فلا بد من تحلله منه أيضا إن استطاع، فإن لم يستطع أو خاف من مغبة ذلك كأن يترتب على إخباره شر أكثر - فإنه يستغفر له ويدعو له ويذكره بالمحاسن التي يعرفها عنه بدلا مما ذكره عنه من السوء في المجالس التي اغتابه فيها ليغسل السيئات الأولى بالحسنات الآخرة ضد السيئات التي نشرها سابقا ويستغفر له ويدعو له. والله ولي التوفيق.(6/296)
امرأة تسببت في قتل نفسها
لكنها تابت قبل أن تموت
س: لي أخت متزوجة ولديها ثلاثة أطفال وهي على خلاف دائم مع زوجها وكانت أيضا على خلاف مع والدها، والسبب زوجها الذي كان يعاملها معاملة قاسية جدا مما اضطرها إلى ترك البيت وذهبت إلى بيت أمها المطلقة والمتزوجة من إنسان آخر، وزوج أمها يعاملها هو الآخر معاملة سيئة.
فقمت أنا - أخوها - وأخذت لها شقة لتسكن فيها معي وكانت كثيرا ما تذهب إلى أمها ومرة أجبرها زوج أمها أن تذهب وترمي أولادها عند زوجها، ففعلت ذلك إرضاء لأمها.
وفي أحد الأيام حصل خلاف بينها وبين زوج أمها وخرجت إلى شقتها متأثرة جدا بما مر بها من مصائب وأبعد أولادها عنها، فقامت وأخذت حبوبا من الثلاجة وأكلتها جميعا تريد أن تقضي على حياتها - فأخذتها إلى المستشفى وأعطيت العلاج اللازم، وقبل وفاتها أحست أنها في أيامها الأخيرة، فتابت وأخذت تستغفر كثيرا عما فعلته وكانت تطلب منا أن ندعو لها بالمغفرة. وأراد الله وتوفيت، فماذا يكون حالها بعد ذلك؟
وهل يجوز لي أن أقوم بالصدقة والحج عنها؟ علما أنني نذرت أن أقوم بهذه الأعمال طيلة حياتي إن شاء الله. أفيدوني على صفحات مجلة: (الدعوة)(6/296)
جـ: ما دامت أختك المذكورة قد تابت إلى الله سبحانه وندمت على ما فعلته من أسباب الانتحار فإنه يرجى لها المغفرة، والتوبة تجب ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما صحت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا تصدقت عنها أو استغفرت لها ودعوت لها يكون ذلك حسنا، وذلك ينفعها وتؤجر عليه أنت. وما نذرته من الطاعات فعليك أن توفي به؛ لأن الله سبحانه مدح الموفين بالنذور في قوله عز وجل في مدح الأبرار: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (2) » رواه الإمام البخاري في صحيحه.
__________
(1) سورة الإنسان الآية 7
(2) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3807) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .(6/297)
طريقة التوبة من المعاصي
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة المكرم (. . . . . . . . . .) أعاذه الله من وساوس الشيطان ووفقه لما فيه صلاح أمر دينه ودنياه.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
وصلني كتابك المتضمن بيان أشياء وقعت منك وأشكل عليك أمرها وخفت من عاقبتها، وقد سبق أن أجبناك في 12 \ 7 \ 1390 هـ بطلب حضورك فلم يتيسر ذلك، ونحن الآن نجيبك إن شاء الله على ما في خطابك:
س: ذكرت أنك تصلي في بعض الأوقات وتدع الصلاة في أوقات أخرى، ويحصل منك العزم على التوبة في بعض الأوقات ثم ترجع عن ذلك، وربما أفضى بك ذلك التساهل إلى ترك بقية الأركان، وقد عزمت على التوبة الصادقة والإقلاع التام فهل تقبل توبتك أم تكون من الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} (1) الآية، وهل يشترط في التوبة النطق بالشهادتين بمسمع عالم؟ وهل لا بد من الغسل وصلاة ركعتين إلى آخره. .
جـ: قد بين الله في كتابه العظيم أنه سبحانه يقبل التوبة من عباده مهما تنوعت ذنوبهم وكثرت، كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (2) أجمع العلماء أن هذه الآية في التائبين، وقد أخبر فيها سبحانه أنه يغفر الذنوب جميعا لهم إذا صدقوا في التوبة إليه بالندم والإقلاع عن الذنوب والعزم على أن لا يعودوا فيها، فهذه هي التوبة.
ونهاهم سبحانه عن القنوط من رحمته وهو اليأس مهما عظمت الذنوب وكثرت، فرحمة الله أوسع وعفوه أعظم، قال تعالى:
__________
(1) سورة النساء الآية 137
(2) سورة الزمر الآية 53(6/298)
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (1) وقال في حق النصارى {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يهدم ما كان قبله والتوبة تهدم ما كان قبلها (3) » والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب عليك الإقلاع عن جميع الذنوب والحذر منها والعزم على عدم العودة فيها مع الندم على ما سلف منها إخلاصا لله وتعظيما له وحذرا من عقابه، مع إحسان الظن به سبحانه، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني (4) » وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله (5) » فاتق الله يا حمد، وأحسن ظنك بربك وتب إليه توبة صادقة إرضاء له سبحانه وإرغاما للشيطان، وأبشر بأنه سبحانه سيتوب عليك ويكفر سيئاتك الماضية إذا صدقت في التوبة، وهو سبحانه الصادق في وعده الرحيم بعباده.
أما الشهادة على مسمع عالم فليس ذلك بشرط، وإنما التوبة تكون بالإقرار بما جحدته، وبعملك ما تركت، فإذا كان الكفر بترك الصلاة فإن التوبة تكون بفعل الصلاة مستقبلا والندم على ما سلف والعزيمة على عدم العودة وليس عليك قضاء ما تركته من الصلوات؛ لأن التوبة تهدم ما كان قبلها. أما إن كنت تركت الشهادتين أو شككت فيهما فإن التوبة من ذلك تكون بالإتيان بهما ولو وحدك فتقول: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله) عن إيمان وصدق بأن الله معبودك الحق لا شريك له وأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو عبد الله ورسوله إلى جميع الثقلين من أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار.
أما الغسل فهو مشروع وقد أوجبه بعض العلماء على من أسلم بعد كفره الأصلي أو الردة، فينبغي لك أن تغتسل وذلك بصب الماء على جميع بدنك بنية الدخول في الإسلام والتوبة مما سلف من الكفر.
أما صلاة ركعتين بعد الغسل فلا تجب، ولكن يستحب لكل مسلم إذا تطهر الطهارة الشرعية أن يصلي ركعتين لأحاديث وردت في ذلك، وتسمى سنة الوضوء.
وأما قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} (6) فليس
__________
(1) سورة الشورى الآية 25
(2) سورة المائدة الآية 74
(3) صحيح مسلم الإيمان (121) .
(4) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2675) .
(5) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2877) ، سنن أبو داود الجنائز (3113) ، سنن ابن ماجه الزهد (4167) ، مسند أحمد بن حنبل (3/334) .
(6) سورة النساء الآية 137(6/299)
معناها أن من زاد كفره أو تكرر لا يتوب الله عليه، وإنما معناها عند أهل العلم استمراره على الكفر حتى يموت، كما قال الله سبحانه في الآية الأخرى في سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (1) {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} (2) وقال تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} (3) وقال أيضا في سورة البقرة: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (4) فقد أوضح الله سبحانه في هذه الآيات الثلاث أن حصول العذاب واللعنة وعدم القبول وحبوط الأعمال كل ذلك مقيد بالموت على الكفر، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الكافر مهما تنوع كفره ومهما تكررت ردته فإنه مقبول التوبة عند الله إذا تاب توبة نصوحا، وهي المشتملة على الإقلاع عن الكفر والعزيمة على عدم العودة فيه والندم على ما مضى، وإنما اختلفوا في حكم من تكررت ردته في حكم الشرع في الدنيا هل يقبل منه ويسلم من القتل أم لا تقبل منه ويقتل هذا محل الخلاف. أما فيما بينه وبين الله سبحانه فليس في قبولها خلاف إذا كانت توبته نصوحا كما تقدم.
وأرجو أن يكون فيما ذكرناه مقنع لكم وكفاية، والواجب عليكم البدار بالتوبة الصادقة والضراعة إلى الله سبحانه والإلحاح في الدعاء أن يتقبل منكم وأن يثبتكم على الحق ويعيذكم من نزعات الشيطان ووساوسه، فإنه العدو اللدود الذي يريد إهلاكك وإهلاك غيرك كما قال الله سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (5) فبادر إلى إرغامه بالتوبة الصادقة وأبشر بالخير والعاقبة الحميدة والنجاة من النار وقبول التوبة إذا صدقت في ذلك.
وأوصيك بالإكثار من ذكر الله وتسبيحه وتحميده وكثرة الاستغفار والصلاة
__________
(1) سورة البقرة الآية 161
(2) سورة البقرة الآية 162
(3) سورة آل عمران الآية 91
(4) سورة البقرة الآية 217
(5) سورة فاطر الآية 6(6/300)
والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أفضل ذلك أن تكثر من كلمة التوحيد (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) ، ومن الكلمات الآتية: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم.
كما نوصيك أيضا بالإكثار من تلاوة القرآن الكريم والتدبر لآياته، فإن فيه الهداية لكل خير والتحذير من كل شر، ونوصيك أيضا بمطالعة ما تيسر من كتب الحديث المعروفة مثل: (رياض الصالحين) و (بلوغ المرام) فإن فيها ما ينفعك ويعينك على الخير إن شاء الله، أما صوم النافلة كالإثنين والخميس، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر فهو قربة وطاعة وفيه أجر عظيم، وتكفير للسيئات، ولكن إذا كانت أمك لا ترضى بذلك فلا تكدرها فإن الوالدة حقها عظيم، وبرها من أهم الواجبات، ولعلها تخاف عليك من الكسل إذا صمت، وعدم القيام بالواجب في طلب الرزق والقيام بحاجات البيت، ومعلوم أن طلب الرزق الحلال لإعاشة العيال وأهل البيت من أفضل القربات بل من أهم الواجبات، وهو أفضل من التفرغ لصوم التطوع وصلاة التطوع، وبكل حال فالذي أنصحك به هو أن تسمع لقولها وتطيعها في مثل هذا، وإذا رأيت مجالا في المستقبل لطلبها الإذن فاستأذنها في الصوم، إذا كان الصوم لا يعطلك ولا يضعفك عن المهمات المذكورة آنفا.
والله المسئول أن يمنحك الفقه في الدين ويهديك صراطه المستقيم، ويمن علينا وعليك بالتوبة النصوح، ويعيذنا وإياك وسائر المسلمين من نزغات الشيطان، وشر النفس، وسيئات العمل، إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(6/301)
طريقة التوبة عن اقتراف المعاصي
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم (. . . . . . . . . . . . .) وفقه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فأفيدكم بوصول كتابكم الكريم المؤرخ بدون. وصلكم الله بهداه. وما تضمنه من بيان اقترافك لبعض المحرمات وأنك نادم على ما فعلت، وتطلب دلالتك إلى طريق الصواب إلى آخر ما ذكرتم - كان معلوما.
ونخبرك بأننا نوصيك بلزوم التوبة والندم على ما بدر منك والعزم الصادق ألا تعود في ذلك مع كثرة الاستغفار والعمل الصالح، وأبشر بالخير وحسن العاقبة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (1) وفقنا الله وإياك لما يرضيه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة طه الآية 82(6/302)
نصيحة بلزوم التوبة
والتعوذ بالله من الشيطان
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم (. . . . . . . . . . . . . .) وفقه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فإشارة إلى رسالتك الكريمة رقم وتاريخ بدون، لقد سرني ما تضمنته من التوبة إلى الله مما بدر منك والحمد لله على ذلك، ونوصيك بلزوم التوبة والاستقامة عليها وجهاد النفس في طاعة الله وأبشر بالخير والعاقبة الحميدة كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (3) كما نوصيك بالإكثار من قراءة القرآن الكريم وتدبر معانيه، ففيه الهداية والنور، كما قال الله سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (4) الآية. ونوصيك أيضا بالتعوذ بالله من الشيطان الرجيم عند وجود الوساوس، وإذا كانت في الله أو في رسوله صلى الله عليه وسلم أو في الآخرة فقل: آمنت بالله ورسله، مع الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.
وإليك نسخة من مجموع فتاوينا، ومن العقيدة الواسطية، وبلوغ المرام، وفتح المجيد، وثلاثة الأصول، وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما فيه رضاه إنه جواد كريم. . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 69
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 3
(4) سورة الإسراء الآية 9(6/303)
نصيحة لمن ابتلي بالمعاصي ثم ندم (1)
س: أنا طالب بالمرحلة الثانوية كنت ملتزما، ومحبا للقرآن الكريم، وشغوفا بالعلم، ثم تغير أمري، حيث اجتمعت حولي فئة سوء، وبدأت أفعل العادة السرية وأفحش في أمور كثيرة كاللواط، والعبث ببنات الناس، والتطلع إلى عورات الجيران، وفي الظاهر أتحدث مع زملائي عن الدين وأمور الجماعات الإسلامية في المدرسة والمسجد والمنزل.
لقد حاولت مرارا الإقلاع عن الذنوب ولم أستطع، أريد دواء شافيا أمر به الله ورسوله، ولن تتم راحتي حتى أسمع وأقرأ من سماحتكم، أبقاكم الله للإسلام ومتعكم بالصحة والعافية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد من عباد الله
جـ: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يمن عليكم بالتوبة النصوح، وأن يشرح صدركم للحق، وأن يوفقكم لصحبة الأخيار ويعيذكم من صحبة الأشرار إنه خير مسئول، وأوصيكم بالتوبة النصوح وهي تشمل ثلاثة أمور:
1 - الندم على الماضي من جميع المعاصي.
2 - الإقلاع منها كلها خوفا من الله وتعظيما له.
3 - العزم الصادق ألا تعود فيها إخلاصا لله ورغبة فيما عنده.
ومتى تم ذلك منك فأبشر بالمغفرة وحسن العاقبة، وفقنا الله وإياك لما يرضيه، وأعاذنا وإياك من نزغات الشيطان ومن شر النفس وسيئات العمل إنه سميع قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) صدر الجواب على السؤال من مكتب سماحته برقم 526 \ أ. ش، في 18 \ 7 \ 1411 هـ.(6/304)
شاب يتوب ثم يعود إلى
المعاصي فكيف العمل (1)
س: أنا شاب في التاسعة عشرة من عمري، وقد أسرفت على نفسي في المعاصي كثيرا، حتى أنني لا أصلي في المسجد ولم أصم رمضان كاملا في حياتي، وأعمل أعمالا قبيحة أخرى، وكثيرا ما عاهدت نفسي على التوبة ولكني أعود للمعصية، وأنا أصاحب شبابا في حارتنا ليسوا مستقيمين تماما، كما أن أصدقاء إخواني كثيرا ما يأتوننا في البيت وهم أيضا ليسوا صالحين، ويعلم الله أنني أسرفت على نفسي كثيرا في المعاصي وعملت أعمالا شنيعة، ولكنني كلما عزمت على التوبة أعود مرة ثانية كما كنت. أرجو أن تدلوني على طريق يقربني إلى ربي ويبعدني عن هذه الأعمال السيئة.
جـ: يقول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (2) أجمع العلماء أن هذه الآية الكريمة نزلت في شأن التائبين، فمن تاب من ذنوبه توبة نصوحا غفر الله له ذنوبه جميعا لهذه الآية الكريمة، ولقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (3) فعلق سبحانه تكفير السيئات ودخول الجنات في هذه الآية بالتوبة النصوح، وهي التي اشتملت على ترك الذنوب والحذر منها، والندم على ما سلف منها، والعزم الصادق على ألا يعود فيها تعظيما لله سبحانه ورغبة في ثوابه وحذرا من عقابه.
ومن شرائط التوبة النصوح رد المظالم إلى أهلها أو تحللهم منها إذا كانت المعصية مظلمة في دم أو
__________
(1) نشر في كتاب الدعوة جـ 1 ص 252.
(2) سورة الزمر الآية 53
(3) سورة التحريم الآية 8(6/305)
مال أو عرض، وإذا لم يتيسر استحلال أخيه من عرضه دعا له كثيرا وذكره بأحسن أعماله التي يعلمها عنه في المواضع التي اغتابه فيها، فإن الحسنات تكفر السيئات، وقال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) فعلق عز وجل في هذه الآية الفلاح بالتوبة، فدل ذلك على أن التائب مفلح سعيد، وإذا أتبع التائب توبته بالإيمان والعمل الصالح محا الله سيئاته وأبدلها حسنات، كما قال سبحانه في سورة الفرقان لما ذكر الشرك والقتل بغير حق والزنا: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (2) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (3) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (4)
ومن أسباب التوبة الضراعة إلى الله سبحانه وسؤاله الهداية والتوفيق، وأن يمن عليك بالتوبة، وهو القائل سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (5) وهو القائل عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (6) الآية، ومن أسباب التوبة أيضا والاستقامة عليها صحبة الأخيار والتأسي بهم في أعمالهم الصالحة والبعد عن صحبة الأشرار، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل (7) » وقال عليه الصلاة والسلام: «مثل الجليس الصالح كصاحب المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ومثل الجليس السوء كنافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة (8) » .
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة الفرقان الآية 68
(3) سورة الفرقان الآية 69
(4) سورة الفرقان الآية 70
(5) سورة غافر الآية 60
(6) سورة البقرة الآية 186
(7) سنن الترمذي الزهد (2378) ، سنن أبو داود الأدب (4833) ، مسند أحمد بن حنبل (2/334) .
(8) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5534) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2628) .(6/306)
فضل التوبة ووجوب تكرارها إذا لزم الأمر
س: عاهدت الله أكثر من مرة أن لا آتي العمل الفلاني ولكني لم أوف بهذا العهد، أرجو نصيحتي ومن ماثلني.
جـ: هذا فيه تفصيل، فإن كانت المعاهدة على أمر حرم الله عليك فعله وعاهدت الله أن لا تعود إليه ولا تقربنه؛ فالواجب عليك التوبة إلى الله ورجوعك إليه ومن تاب تاب الله عليه.
والتوبة تشتمل على أمور ثلاثة: الندم على الماضي من المعصية، والإقلاع عنها، والعزم الصادق ألا يعود إليها تعظيما لله وإخلاصا له سبحانه، فإذا فعل المسلم ذلك تاب الله عليه سبحانه وتعالى، ومن تمام التوبة اتباعها بالعمل الصالح والاستقامة، كما قال جل وعلا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (1) وقال تعالى لما ذكر الشرك والقتل والزنا في سورة الفرقان: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (2) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (3) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (4) فأخبر عز وجل أن من تاب وأتبع توبته بالإيمان الصادق والعمل الصالح فإنه سبحانه يبدل سيئاته حسنات وهذا يتضمن قبول التوبة ثم زاده سبحانه مع ذلك بأن جعل مكان كل سيئة حسنة، وهذا من فضله وكرمه وجوده سبحانه.
وإن كان في المعصية حق للمخلوقين من سرقة أو عدوان على بعض أموال الناس أو دمائهم أو أعراضهم فلا بد من التحلل من صاحب الحق أو إعطائه حقه، فإذا سامحه سقط حقه.
وهكذا في العدوان على العرض إذا استحل صاحبه فعفى إلا أن يخاف مفسدة بسبب إخباره بالغيبة؛ فإنه لا يخبره ولكن يدعو له ويستغفر له ويذكره بالخير الذي يعلمه منه في المجالس التي ذكره فيها بالسوء أو يثني عليه بالأشياء الطيبة التي يعلمها عنه، حتى يقابل عمله السيء بعمل صالح.
__________
(1) سورة طه الآية 82
(2) سورة الفرقان الآية 68
(3) سورة الفرقان الآية 69
(4) سورة الفرقان الآية 70(6/307)
العاصي لا يخلد في النار (1)
س: يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) ويقول أيضا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (3) هل بين هاتين الآيتين تعارض وما المراد بقوله: {مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (4) ؟
ع - أ - ز - جدة
جـ: ليس بينهما تعارض، فالآية الأولى في حق من مات على الشرك ولم يتب، فإنه لا يغفر له ومأواه النار، كما قال الله سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (5) وقال عز وجل: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (6) والآيات في هذا المعنى كثيرة. أما الآية الثانية وهي قوله سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (7) فهي في حق التائبين، وهكذا قوله سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (8) أجمع العلماء على أن هذه الآية في التائبين، وأما قوله سبحانه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (9) فهي في حق من مات على ما دون الشرك من المعاصي غير تائب، فإن أمره إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، وإن عذبه فإنه لا يخلد في النار خلود الكفار، كما تقول الخوارج والمعتزلة ومن سلك سبيلهما، بل لا بد أن يخرج من النار بعد التطهير والتمحيص كما دلت على ذلك الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه سلف الأمة. والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة عدد 1290 في 25 \ 10 \ 1411 هـ.
(2) سورة النساء الآية 48
(3) سورة طه الآية 82
(4) سورة النساء الآية 48
(5) سورة المائدة الآية 72
(6) سورة الأنعام الآية 88
(7) سورة طه الآية 82
(8) سورة الزمر الآية 53
(9) سورة النساء الآية 48(6/308)
ربنا في السماء (1)
س: ذكرت قصة في إحدى الإذاعات، تقول: إن ولدا سأل أباه عن الله فأجاب الأب بأن الله موجود في كل مكان. السؤال: ما الحكم الشرعي في مثل هذا الجواب؟
عبد الله م - الرياض
جـ: هذا الجواب باطل وهو من كلام أهل البدع من الجهمية والمعتزلة ومن سار في ركابهما، والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه في السماء فوق العرش فوق جميع خلقه كما دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وإجماع سلف الأمة، كما قال عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2) وكرر ذلك سبحانه في ست آيات أخرى من كتابه العظيم.
ومعنى الاستواء عند أهل السنة هو: العلو والارتفاع فوق العرش على الوجه الذي يليق بجلال الله سبحانه، لا يعلم كيفيته سواه كما قال مالك رحمه الله لما سئل عن ذلك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ومراده رحمه الله السؤال عن كيفيته.
هذا المعنى جاء عن شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وهو مروي عن أم سلمة رضي الله عنها، وهو قول جميع أهل السنة من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من أئمة الإسلام، وقد أخبر الله سبحانه في آيات أخر أنه في السماء وأنه في العلو، كما قال سبحانه: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (3) وقال عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (4) وقال سبحانه: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (5) وقال عز وجل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (6) {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} (7)
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة 11 \ 10 \ 1411 هـ.
(2) سورة الأعراف الآية 54
(3) سورة غافر الآية 12
(4) سورة فاطر الآية 10
(5) سورة البقرة الآية 255
(6) سورة الملك الآية 16
(7) سورة الملك الآية 17(6/309)
ففي هذه الآيات، وفي آيات كثيرة من كتاب الله الكريم صرح سبحانه أنه في السماء وأنه في العلو وذلك موافق لما دلت عليه آيات الاستواء، وبذلك يعلم أن قول أهل البدع بأن الله سبحانه موجود في كل مكان من أبطل الباطل، وهو مذهب الحلولية المبتدعة الضالة، بل هو كفر وضلال وتكذيب لله سبحانه، وتكذيب لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من كون ربه في السماء، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء (1) » وكما جاء في أحاديث الإسراء والمعراج وغيرها.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4351) ، صحيح مسلم الزكاة (1064) ، سنن أبو داود السنة (4764) ، مسند أحمد بن حنبل (3/5) .(6/310)
ظلم الخدام حرام (1)
س: ما مدى طاعة الوالدين؟ وهل تجب في كل الأحوال؟ وهل وجود الخادمة البوذية في المنزل حرام أم لا؟ خاصة إذا كان بطلب من الوالدة، وهل يجوز عصيان الوالدة في هذه الحالة؟ وهل يجوز لي أن أوذي الخادمة حتى تمل وتطلب العودة إلى بلادها؟
أرشدوني بارك الله فيكم.
م. ص - الرياض.
جـ: يجب على الولد بر والديه والإحسان إليهما وطاعتهما في المعروف؛ لأن الله عز وجل أمر بذلك في كتابه الكريم في آيات كثيرة، وهكذا رسوله صلى الله عليه وسلم أمر ببر الوالدين، وجعل عقوقهما من أكبر الكبائر.
ولكن لا تجوز طاعتهما ولا غيرهما في المعصية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف (2) » وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق (3) » .
__________
(1) نشر في الدعوة بعددها 1168 في 19 \ 4 \ 1409 هـ.
(2) صحيح البخاري الأحكام (7145) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .
(3) سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/131) .(6/310)
أما استخدام الخادمات الكافرات سواء كن بوذيات أو نصارى أو غيرهما من أنواع الكفرة فلا يجوز في هذه الجزيرة، أعني الجزيرة العربية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع من ذلك، وأوصى بإخراج الكفار من هذه الجزيرة؛ لأنها مهد الإسلام ومطلع شمس الرسالة، فلا يجوز أن يجتمع فيها دينان، ولا يجوز أن يستقدم إليها كافر إلا لضرورة يراها ولي الأمر ثم يعاد إلى بلاده.
والواجب عليك وعلى والدتك إعادتها إلى بلادها، ولا يجوز لك ولا لأمك أذاها، بل الواجب استخدامها بإحسان حتى ترد إلى بلادها، لأن الله عز وجل حرم الظلم على عباده مع الكفار والمسلمين، لقوله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة (1) » ولقوله عليه الصلاة والسلام عن الله عز وجل أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا (2) » . وفق الله الجميع.
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/323) .
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2577) .(6/311)
حكم معاشرة الزوج الذي لا يصلي
ولا يصوم إلخ. . .
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخت في الله و. س. ح. ف. وفقها الله لما فيه رضاه ومنحها الفقه في الإسلام والثبات عليه، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابك الذي شرحت فيه حال زوجك، وذلك في يوم الاثنين 14 \ 6 \ 1411 هـ الموافق 31 \ 12 \ 1990 م وفهمت ما شرحت فيه من حال زوجك وأنه ادعى الإسلام، ومن أجل ذلك وافقت على الزواج عليه، ولك منه ولدان، ولكنه اتضح لك من سيرته أنه يستهزئ بالإسلام ويسبه، ويقول: إن الأديان خرافة، ولا يصلي، ولا يصوم، ولا يزكي، ولا يحج، ويشرب الخمر، ويأكل الخنزير.
وإذا كنت صادقة فيما ذكرت فالمذكور ليس بمسلم ولا نصراني(6/311)
بل هو كافر ملحد لا دين له، نسأل الله لك العافية والسلامة منه، ولا يجوز لك البقاء معه، بل يجب عليك أن تطلبي منه صك الطلاق، وسوف يعوضك الله خيرا منه إن شاء الله، لقول الله سبحانه في سورة الطلاق: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (2) وقوله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (3) وأنت أحق بولديك منه، لأنه كافر وأنت مسلمة، والولد الصغير يتبع خير الأبوين دينا، ودين الإسلام هو الدين الحق، وما سواه من الأديان باطل لقول الله عز وجل في سورة آل عمران: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (4) وقوله سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5) وقوله عز وجل في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (6)
وأسأل الله عز وجل أن يثبتنا وإياك على الإسلام، وأن يجعل لك من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، وأن يعوضك عن هذا الزوج زوجا مسلما صالحا خيرا منه. كما أسأله سبحانه أن يهدي زوجك هذا للإسلام، وأن يرده إلى الحق، وأن يعيذه من شر نفسه وشر الشيطان وشر جلساء السوء، إنه جل وعلا جواد كريم وعلى كل شيء قدير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 3
(3) سورة الطلاق الآية 4
(4) سورة آل عمران الآية 19
(5) سورة آل عمران الآية 85
(6) سورة المائدة الآية 3(6/312)
المؤمن والخوف من الموت
س: الأخت التي رمزت لاسمها بـ: أ. ع. من الرياض تقول في سؤالها هل يجب على المؤمن عدم الخوف من الموت؟ وإذا حدث هذا فهل معناه عدم الرغبة في لقاء الله؟
جـ: يجب على المؤمن والمؤمنة أن يخافا الله سبحانه ويرجواه؛ لأن الله سبحانه قال في كتابه العظيم: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) وقال عز وجل: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} (2) وقال سبحانه: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (3) وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} (4) وقال عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (5) في آيات كثيرة ولا يجوز للمؤمن ولا للمؤمنة اليأس من رحمة الله، ولا الأمن من مكره، قال الله سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (6) وقال تعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (7) وقال عز وجل: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (8)
ويجب على جميع المسلمين من الذكور والإناث الإعداد للموت والحذر من الغفلة عنه، للآيات السابقات، ولما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أكثروا من ذكر هادم اللذات - الموت (9) » ولأن الغفلة عنه وعدم الإعداد له من أسباب سوء الخاتمة، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 175
(2) سورة المائدة الآية 44
(3) سورة البقرة الآية 40
(4) سورة البقرة الآية 218
(5) سورة الكهف الآية 110
(6) سورة الزمر الآية 53
(7) سورة يوسف الآية 87
(8) سورة الأعراف الآية 99
(9) سنن الترمذي الزهد (2307) ، سنن النسائي الجنائز (1824) ، سنن ابن ماجه الزهد (4258) ، مسند أحمد بن حنبل (2/293) .(6/313)
«من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقلت: يا نبي الله: أكراهية الموت فكلنا نكره الموت، قال: ليس كذلك ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله فكره الله لقاءه (1) » متفق عليه، وهذا الحديث يدل على أن كراهة الموت والخوف منه لا حرج فيه، ولا يدل ذلك على عدم الرغبة في لقاء الله. لأن المؤمن حين يكره الموت أو يخاف قدومه يرغب في المزيد من طاعة الله والإعداد للقائه، وهكذا المؤمنة حين تخاف من الموت وتكره قدومه إليها إنما تفعل ذلك رجاء المزيد من الطاعات والاستعداد للقاء ربها.
ولا حرج على المسلم أن يخاف من المؤذيات طبعا كالسباع والحيات ونحو ذلك فيتحرز منها بالأسباب الواقية، كما أنه لا حرج على المسلمين في الخوف من عدوهم حتى يعدوا له العدة الشرعية، كما قال الله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (2) - أي الأعداء - مع الاعتماد على الله والاتكال عليه والإيمان بأن النصر من عنده، وإنما يأخذ المؤمن بالأسباب ويعدها؛ لأن الله سبحانه أمره بها لا من أجل الاعتماد عليها، كما قال الله سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (3) {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (4)
وإنما الخوف الذي نهى الله عنه هو الخوف من المخلوق على وجه يحمل صاحبه على ترك الواجب أو فعل المعصية، وفي ذلك نزل قوله سبحانه: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (5) وهكذا الخوف من غير الله على وجه العبادة لغيره، واعتقاد أنه يعلم الغيب أو يتصرف في الكون أو يضر وينفع بغير مشيئة الله كما يفعل المشركون مع آلهتهم.
وبالله التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (157) ، سنن الترمذي كتاب الجنائز (1067) ، سنن النسائي الجنائز (1838) ، سنن ابن ماجه الزهد (4264) .
(2) سورة الأنفال الآية 60
(3) سورة الأنفال الآية 9
(4) سورة الأنفال الآية 10
(5) سورة آل عمران الآية 175(6/314)
العلاج الشرعي لحالة ضيق النفس والشكوك
س: يقول سائل في رسالة طويلة ما ملخصها: إني أعيش الآن في حالة بؤس وشقاء، وقد عشت بفضل من الله قبل أربع سنوات في سعادة وطمأنينة، كنت مقبلا على الله محتسبا كل شيء لله، قائما صائما داعيا إلى الله. كان قلبي يتقطع غيرة على المسلمين وأوضاعهم حتى شاركت في الجهاد الأفغاني، وعاهدت الله هناك على أن لا أعود حتى يتم النصر ولكن ضعفت وعدت في شهرين بعد إصرار والدي على رجوعي، ثم تغيرت حياتي حتى أصبت بشكوك في وجود الله وصحة القرآن والرسول، دافعت ذلك وبحثت في أشرطة وكتب للشيخ الزنداني وظهر لي الحق كالشمس، ولكن مع ذلك تتعاودني وساوس وشكوك، والداهية الكبرى أن خشية ربي لم أعد أجد لها في قلبي موضعا، وأنا أستغفر الله وهذه الحالة معي حوالي سنة ونصف أعانيها، وما تركت شيئا يوصلني لليقين وطرد تلك الشكوك، ولكن دون جدوى ولو استقر الحق في قلبي قليلا فلا ألبث إلا عدت إلى ما كنت عليه، كنت أصوم أيام البيض وأتهجد ولا زلت إلى الآن، ولكن لا أشعر بلذة.
وقد بعت سيارتي وتبرعت بقيمتها في سبيل الله لعل الله أن يردني إليه ردا جميلا وكل يوم أجد نفسي أردى من اليوم السابق، اتجهت إلى القرآن أقرأ كل يوم جزءا بتدبر، ولكن لا أجد يقينا ولا تأثيرا في قلبي إلا قليلا، وأجد قسوة رهيبة في قلبي وحجابا وغشاوة عن الحق، وأخشى من غضب الله علي فيما ارتكبت، ولا أنسى أن أذكر أني منذ فترة أتبرع بحوالي ربع راتبي في سبيل الله وأكفل أيتاما ولازلت، ولا أتعظ بالمواعظ مثل السابق، وأتهم نفسي بالفسق والفجور، وأحيانا بالكفر، وإني ما تركت وسيلة ولا موعظة إلا حاولت فيها، ولكن الشكوك والريب والوساوس تمحقني ولم أستطع التخلص منها.(6/315)
فيا شيخي وحبيبي: أنت الأمل الوحيد بعد الله سبحانه في هذه الدنيا، وسوف لا أشكو حالي إلى أحد بعدك مهما بلغ، هل لي حل وعلاج لما أعانيه مما ذكرت؟ وسوف أستعين بالله سبحانه وأنفذ أمرك إن شاء الله وأرجو أن تدعو لي في ظلام الليل أن يدركني ربي برحمته ويردني إليه ردا جميلا، وجزاكم الله خير الجزاء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ابنك المعذب - من خميس مشيط
جـ: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. أما بعد: -
فقد قرأت جميع رسالتك، وكدرني كثيرا ما أصابك من الشك والوساوس وأسأل الله عز وجل أن يمنحك الهداية والرجوع إلى الحق، وأن يعم قلبك بالإيمان الصحيح، وأن يمن عليك بالتوبة النصوح، ويعيذك من نزغات الشيطان، إنه جواد كريم.
وقد وقع لبعض الصحابة مثل ما وقع لك من الشك، في بعض ما يتعلق بالله سبحانه، فأوصاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول من أحس بشيء من ذلك: «آمنت بالله ورسله» وأن يستعيذ بالله وينتهي، فأنا أوصيك بما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأن تقول هذه الكلمات عند خطرة أي شك: آمنت بالله ورسله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. . .
وأوصيك بالثبات على ذلك وتكراره عند كل خاطر سيء، كما أوصيك بعدم اليأس من رحمة الله وعدم القنوط، وعليك بالإكثار من قراءة القرآن الكريم وتدبر معانيه والضراعة إلى الله بصدق ورغبة ورهبة أن يهديك للحق، وأن يكشف عنك هذه الوساوس.
وأكثر من ذلك في السجود، وفي آخر الليل، وبين الأذان والإقامة، وأحسن ظنك بالله فهو القائل سبحانه فيما رواه عنه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني (1) » وفي اللفظ الآخر: «إذا ذكرني» وعليك بصحبة الأخيار، واحذر صحبة الأشرار.
وفقنا الله وإياك لما يرضه، وسلك بنا وبك صراطه المستقيم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7405) ، سنن الترمذي الدعوات (3603) ، سنن ابن ماجه الأدب (3822) ، مسند أحمد بن حنبل (2/251) .(6/316)
معنى البدعة وإطلاقها في أبواب العبادات (1)
س: متى يوصف العمل بأنه بدعة في الشرع المطهر؟ وهل إطلاق البدعة يكون في أبواب العبادات فقط، أم يشمل العبادات والمعاملات؟
جـ: البدعة في الشرع المطهر هي كل عبادة أحدثها الناس ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة، ولا في عمل الخلفاء الأربعة الراشدين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » أخرجه مسلم في صحيحه، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (4) » رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه بسند صحيح، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وتطلق البدعة في اللغة العربية على كل محدث على غير مثال سابق، لكن لا يتعلق بها حكم المنع إذا لم تكن من البدع في الدين، أما في المعاملات فما وافق الشرع منها فهو عقد شرعي، وما خالفه فهو عقد فاسد، ولا يسمى بدعة في الشرع. لأنه ليس من العبادة.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1243 في 10 \ 7 \ 1410 هـ.
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(4) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/127) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(6/317)
حكم الاحتفال بالمولد النبوي وغيره من الموالد (1)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه. في يوم الخميس الموافق 18 \ 3 \ 78 هـ اطلعت على مقال محمد أمين يحيى نشرته صحيفة الأضواء في عددها الصادر يوم الثلاثاء الموافق 16 \ 3 \ 1378 هـ، ذكر فيه الكاتب المذكور أن المسلمين في كافة أقطار الأرض يحتفلون بيوم المولد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة وأكمل التسليم بشتى
__________
(1) تعقيب على ما نشر في الموضوع بصحيفة الأضواء.(6/317)
أنواع الاحتفالات وأنه يجب علينا قبل غيرنا أفرادا وجماعات أن نحتفل به احتفالا عظيما، وعلى الصحف أن تهتم به وتدبج به المقالات، وعلى الإذاعة أن تهتم بذلك وتعد البرامج الخاصة لهذه المناسبة الذكرى الخالدة، هذا ملخص المقال المذكور.
وقد عجبت كثيرا من جرأة هذا الكاتب على الدعاية - بهذا المقال الصريح - إلى بدعة منكرة تخالف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام والسلف الصالح التابعون لهم بإحسان في بلاد إسلامية تحكم شرع الله وتحارب البدع، ولواجب النصح لله ولكتابه ولرسوله وللمسلمين رأيت أن أكتب كلمة على هذا المقال تنبيها للكاتب وغيره، على ما تقتضيه الشريعة الكاملة حول الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم فأقول:
لا ريب أن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وهما العلم النافع والعمل الصالح، ولم يقبضه إليه حتى أكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة كما قال سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) فأبان سبحانه بهذه الآية الكريمة أن الدين قد كمل والنعمة قد أتمت، فمن رام أن يحدث حدثا يزعم أنه مشروع وأنه ينبغي للناس أن يهتموا به ويعملوا به فلازم قوله إن الدين ليس بكامل بل هو محتاج إلى مزيد وتكميل، ولا شك أن ذلك باطل، بل من أعظم الفرية على الله سبحانه والمصادمة لهذه الآية الكريمة.
ولو كان الاحتفال بيوم المولد النبوي مشروعا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته؛ لأنه أنصح الناس، وليس بعده نبي يبين ما سكت عنه من حقه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وقد أبان للناس ما يجب له من الحق كمحبته واتباع شريعته، والصلاة والسلام عليه وغير ذلك من حقوقه الموضحة في الكتاب والسنة، ولم يذكر لأمته أن الاحتفال بيوم مولده أمر مشروع حتى يعملوا بذلك، ولم يفعله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته، ثم الصحابة رضي الله عنهم أحب الناس له وأعلمهم بحقوقه لم يحتفلوا بهذا اليوم، لا الخلفاء الراشدون ولا
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(6/318)
غيرهم، ثم التابعون لهم بإحسان في القرون الثلاثة المفضلة لم يحتفلوا بهذا اليوم. أفتظن أن هؤلاء كلهم جهلوا حقه أو قصروا فيه حتى جاء المتأخرون فأبانوا هذا النقص وكملوا هذا الحق؟ لا والله، ولن يقول هذا عاقل يعرف حال الصحابة وأتباعهم بإحسان. وإذا علمت أيها القاريء الكريم أن الاحتفال بيوم المولد النبوي لم يكن موجودا في عهده صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أصحابه الكرام، ولا في عهد أتباعهم في الصدر الأول، ولا كان معروفا عندهم - علمت أنه بدعة محدثة في الدين، لا يجوز فعلها ولا إقرارها ولا الدعوة إليها، بل يجب إنكارها والتحذير منها عملا بقوله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة: «خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (2) » وقوله عليه الصلاة والسلام: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » وفي لفظ: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (4) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ومعلوم عند كل من له أدنى مسكة من علم وبصيرة أن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون بالبدع كالاحتفال بيوم المولد، وإنما يكون بمحبته واتباع شريعته وتعظيمها والدعوة إليها ومحاربة ما خالفها من البدع والأهواء، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (5) وقال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (6) وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل: يا رسول الله: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (7) » خرجه البخاري في صحيحه.
وتعظيمه صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يكون في وقت دون آخر، ولا في السنة مرة واحدة، بل هذا العمل نوع من الهجران، وإنما الواجب
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) .
(2) سنن أبو داود السنة (4607) ، مسند أحمد بن حنبل (4/127) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(3) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(4) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(5) سورة آل عمران الآية 31
(6) سورة الحشر الآية 7
(7) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، صحيح مسلم الإمارة (1835) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .(6/319)
أن يعظم صلى الله عليه وسلم كل وقت بتعظيم سنته والعمل بها والدعوة إليها والتحذير من خلافها، وببيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الأعمال الصالحة والأخلاق الزاكية والنصح لله ولعباده، وبالإكثار من الصلاة والسلام عليه وترغيب الناس في ذلك وتحريضهم عليه، فهذا هو التعظيم الذي شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم للأمة ووعدهم الله عليه الخير الكثير والأجر الجزيل والعزة في الدنيا والسعادة الأبدية في الآخرة.
وليس ما ذكرته هنا خاصا بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، بل الحكم عام في سائر الموالد التي أحدثها الناس، وقد قامت الأدلة على أن الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم بدعة منكرة، ولا يجوز إقرارها فغيره من الناس أولى بأن يكون الاحتفال بمولده بدعة، فالواجب على العلماء وولاة أمر المسلمين في سائر الأقطار الإسلامية أن يوضحوا للناس هذه البدعة وغيرها من البدع، وأن ينكروها على من فعلها، وأن يمنعوا من إقامتها نصحا لله ولعباده، وأن يبينوا لمن تحت أيديهم من المسلمين أن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين إنما يكون باتباع سبيلهم، والسير على منهاجهم الصالح، ودعوة الناس إلى ما شرعه الله ورسوله، وتحذيرهم مما خالف ذلك، وقد نص العلماء المعروفون بالتحقيق والتعظيم للسنة على إنكار هذه الموالد والتحذير منها، وصرحوا بأنها بدع منكرة لا أصل لها في الشرع المطهر ولا يجوز إقرارها.
فالواجب على من نصح نفسه أن يتقي الله سبحانه في كل أموره، وأن يحاسب نفسه فيما يأتي ويذر، وأن يقف عند حدود الله التي حدها لعباده، وأن لا يحدث في دينه ما لم يأذن به الله. فقد أكمل الله الدين وأتم النعمة، وتوفي الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ترك أمته على المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك.
والله المسئول أن يهدينا وسائر المسلمين صراطه المستقيم، وأن يعصمنا وإياهم من البدع والأهواء، وأن يمن على الجميع بالتمسك بالسنة وتعظيمها والعمل بها والدعوة إليها والتحذير مما خالفها، وأن يوفق ولاة أمر المسلمين وعلماءهم لأداء ما يجب عليهم من نصر الحق وإزالة أسباب الشر وإنكار البدع والقضاء عليها، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(6/320)
زيارة المسجد النبوي سنة (1)
س: يعتقد بعض الحجاج أنه إذا لم يتمكن الحاج من زيارة المسجد النبوي فإن حجه ينقص، فهل هذا صحيح؟
ع. م. من الدرعية
جـ: الزيارة للمسجد النبوي سنة وليست واجبة، وليس لها تعلق بالحج، بل السنة أن يزار المسجد النبوي في جميع السنة، ولا يختص ذلك بوقت الحج لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (2) » متفق عليه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام (3) » متفق عليه.
وإذا زار المسجد النبوي شرع له أن يصلي في الروضة ركعتين ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، كما يشرع زيارة البقيع والشهداء للسلام على المدفونين هناك من الصحابة وغيرهم، والدعاء لهم والترحم عليهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزورهم، وكان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية (4) » .
وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذ زار البقيع: «يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد (5) » .
ويشرع أيضا لمن زار المسجد النبوي أن يزور مسجد قباء ويصلي فيه ركعتين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزوره كل سبت ويصلي فيه ركعتين، وقال عليه الصلاة والسلام: «من تطهر في بيته فأحسن الطهور ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه كان كعمرة (6) » .
هذه هي المواضع التي تزار في المدينة المنورة، أما المساجد السبعة ومسجد القبلتين وغيرها من المواضع التي يذكر بعض المؤلفين في المناسك زيارتها فلا أصل لذلك ولا دليل عليه، والمشروع للمؤمن دائما هو الاتباع دون الابتداع. والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر بمجلة الدعوة في العدد 1246 في 28 \ 11 \ 1410 هـ.
(2) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .
(3) صحيح البخاري الجمعة (1190) ، صحيح مسلم الحج (1394) ، سنن الترمذي الصلاة (325) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1404) ، موطأ مالك النداء للصلاة (461) .
(4) سنن النسائي الجنائز (2037) .
(5) صحيح مسلم الجنائز (974) ، سنن النسائي الجنائز (2039) ، مسند أحمد بن حنبل (6/221) .
(6) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1412) .(6/321)
تعليق على محاولة لإعادة بناء القبة على بئر الخاتم بالمدينة المنورة (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة سماحة الوالد شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ. وفقه الله ونصر به دينه آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أما بعد: ففي هذه الأيام بلغني أن هناك حركة في بلدية المدينة المنورة لإعادة بناء القبة على بئر الخاتم المعروفة غربي مسجد قباء، ثم ثبت عندي صحة ذلك من طرق يوثق بها، فاتصلت بسمو أمير المدينة وأخبرته أن هذا لا يجوز، وأن الواجب بقاؤها على حالها أو دفنها ومواساتها بالأرض سعة للميدان الذي هي في وسطه وهو موقف للسيارات التكاسي وغيرها.
ثم اتصلت بفضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح وأخبرته بما بلغني فتكدر لذلك، وكتب لسمو أمير منطقة المدينة في الموضوع، وإلى سماحتكم صورة ما كتبه. وإذا رأى سماحتكم الاتصال بجلالة الملك والمشورة عليه بأن الواجب دفنها سعة للميدان، وحسما لمادة التبرك بها من أهل الجهل فهو مناسب وفيما يراه سماحتكم إن شاء الله كفاية.
سدد الله رأيكم وبارك في جهودكم ونصر بكم دينه وحمى بكم شريعته. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) صدر من مكتب سماحته بتاريخ 18 \ 11 \ 1388 هـ برقم 9412 \ 1 \ م.(6/322)
ليس في الدين قشور (1)
س: ما حكم الشرع فيمن يقول إن حلق اللحية وتقصير الثوب قشور وليست أصولا في الدين أو فيمن يضحك ممن فعل هذه الأمور؟
جـ: هذا الكلام خطير ومنكر عظيم، وليس في الدين قشور بل كله لب وصلاح وإصلاح، وينقسم إلى أصول وفروع، ومسألة اللحية وتقصير الثياب من الفروع لا من الأصول. لكن لا يجوز أن يسمى شيء من أمور الدين قشورا، ويخشى على من قال مثل هذا الكلام متنقصا ومستهزئا أن يرتد بذلك عن دينه لقول الله سبحانه: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (2) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (3) الآية.
والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بإعفاء اللحية وإرخائها وتوفيرها وقص الشوارب وإحفائها، فالواجب طاعته وتعظيم أمره ونهيه في جميع الأمور.
وقد ذكر أبو محمد بن حزم إجماع العلماء على أن إعفاء اللحية وقص الشارب أمر مفترض ولا شك أن السعادة والنجاة والعزة والكرامة والعاقبة الحميدة في طاعة الله ورسوله، وأن الهلاك والخسران وسوء العاقبة في معصية الله ورسوله، وهكذا رفع الملابس فوق الكعبين أمر مفترض لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار (4) » رواه البخاري في صحيحه، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المسبل إزاره، والمنان فيما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب (5) » رواه مسلم في صحيحه.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء (6) » متفق عليه. فالواجب على الرجل المسلم أن يتقي الله وأن يرفع ملابسه سواء كانت قميصا أو إزارا أو سراويل أو
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة في 11 \ 11 \ 1411 هـ عدد 1251.
(2) سورة التوبة الآية 65
(3) سورة التوبة الآية 66
(4) صحيح البخاري اللباس (5787) ، سنن النسائي الزينة (5331) ، مسند أحمد بن حنبل (2/461) .
(5) صحيح مسلم الإيمان (106) ، سنن الترمذي البيوع (1211) ، سنن النسائي الزكاة (2563) ، سنن أبو داود اللباس (4087) ، سنن ابن ماجه التجارات (2208) ، مسند أحمد بن حنبل (5/162) ، سنن الدارمي البيوع (2605) .
(6) صحيح البخاري اللباس (5783) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2085) ، سنن الترمذي اللباس (1731) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، سنن ابن ماجه اللباس (3569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/147) ، موطأ مالك الجامع (1696) .(6/323)
بشتا وألا تنزل عن الكعبين، والأفضل أن تكون ما بين نصف الساق إلى الكعب، وإذا كان الإسبال عن خيلاء كان الإثم أكبر، وإذا كان عن تساهل لاعن كبر فهو منكر وصاحبه آثم في أصح قولي العلماء، لكن إثمه دون إثم المتكبر، ولا شك أن الإسبال وسيلة إلى الكبر وإن زعم صاحبه أنه لم يفعل ذلك تكبرا، ولأن الوعيد في الأحاديث عام فلا يجوز التساهل بالأمر.
وأما قصة الصديق رضي الله عنه وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: «إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: إنك لست ممن يفعله خيلاء (1) » فهذا في حق من كانت حاله مثل حال الصديق في استرخاء الإزار من غير كبر، وهو مع ذلك يتعاهده ويحرص على ضبطه فأما من أرخى ملابسه متعمدا فهذا يعمه الوعيد وليس مثل الصديق.
وفي إسبال الملابس مع ما تقدم من الوعيد إسراف وتعريض لها للأوساخ والنجاسة، وتشبه بالنساء وكل ذلك يجب على المسلم أن يصون نفسه عنه. والله ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5784) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) .(6/324)
حكم التعلق بالأولياء
س: نرجو توضيح حكم التعلق بالأولياء وعبادتهم والتحذير منها والتنبيه عليها.
جـ: الأولياء هم المؤمنون وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم بإحسان، وهم أهل التقوى والإيمان، وهم المطيعون لله ولرسوله، فكل هؤلاء هم الأولياء سواء كانوا عربا أو عجما بيضا أو سودا أغنياء أو فقراء حكاما أو محكومين رجالا أو نساء لقول الله سبحانه وتعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (2) فهؤلاء هم أولياء الله الذين أطاعوا الله ورسوله، واتقوا غضبه فأدوا حقه وابتعدوا عما نهوا عنه، فهؤلاء هم الأولياء وهم المذكورون في قول الله تعالى: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} (3) الآية.
وليسوا أهل الشعوذة ودعوى الخوارق الشيطانية والكرامات المكذوبة، وإنما هم المؤمنون بالله ورسوله، المطيعون لأمر الله ورسوله كما تقدم سواء حصلوا على كرامة أو لم يحصلوا عليها.
وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم هم أتقى الناس وهم أفضل الناس بعد الأنبياء، ولم يحصل لأكثرهم الخوارق التي يسمونها كرامات لما عندهم من الإيمان والتقوى والعلم بالله وبدينه، لذا أغناهم الله بذلك عن الكرامات.
وقد قال سبحانه في حق الملائكة: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (4) {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (5) فلا يجوز لأحد أن يعبد الرسل أو الملائكة أو غيرهم من الأولياء، ولا ينذر لهم ولا يذبح لهم ولا يسألهم شفاء المرضى أو
__________
(1) سورة يونس الآية 62
(2) سورة يونس الآية 63
(3) سورة الأنفال الآية 34
(4) سورة الأنبياء الآية 27
(5) سورة الأنبياء الآية 28(6/325)
النصر على الأعداء أو غير ذلك من أنواع العبادة لقول الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) وقوله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) والمعنى أمر ووصى، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (3) الآية، والآيات في هذا المعنى كثيرة
وهكذا لا يجوز الطواف بقبور الأولياء ولا غيرهم؛ لأن الطواف يختص بالكعبة المشرفة، ولا يجوز الطواف بغيرها، ومن طاف بالقبور يتقرب إلى أهلها بذلك فقد أشرك كما لو صلى لهم أو استغاث بهم أو ذبح لهم، لقول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (5)
أما سؤال المخلوق الحي القادر الحاضر للاستعانة به فيما يقدر عليه فليس من الشرك، بل ذلك جائز كقول الله عز وجل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (6) ولعموم قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (7) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (8) » والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهو أمر مجمع عليه بين المسلمين. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الجن الآية 18
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة الأنعام الآية 162
(5) سورة الأنعام الآية 163
(6) سورة القصص الآية 15
(7) سورة المائدة الآية 2
(8) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الأدب (4946) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .(6/326)
منع الدعاء عند القبور (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم: ع. م. ع. وفقه الله آمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بعده: كتابكم الكريم المؤرخ في 3 \ 3 \ 1974 م وصل وصلكم الله بهداه وما تضمنه كان معلوما، ونبارك لكم في الزواج جعله الله زواجا مباركا، وقد ذكرتم في كتابكم أن ندعو لكم عند قبر الرسول عليه الصلاة والسلام.
ونفيدكم أن الدعاء عند القبور غير مشروع سواء كان القبر قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره، وليست محلا للإجابة، وإنما المشروع زيارتها، والسلام على الموتى، والدعاء لهم، وذكر الآخرة والموت، أحببنا تنبيهك على هذا حتى تكون على بصيرة، وفي إمكانك أن تراجع أحاديث الزيارة في آخر كتاب الجنائز من بلوغ المرام حتى تعلم ذلك، وفقنا الله وإياكم لاتباع السنة والعمل بما يرضي الله سبحانه ويقرب لدينه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
__________
(1) صدر من مكتب سماحته في 25 \ 2 \ 1394 هـ برقم 3456 \ 1 \ 1.(6/327)
الطريقة السمانية الصوفية وضم الذكر بضرب الدف وغيره
س: عندنا في السودان شيخ له أتباع كثيرون يتفانون في خدمته وطاعته والسفر إليه، معتقدين أنه من أولياء الله، فيأخذون منه الطريقة السمانية الصوفية، وتوجد عنده قبة كبيرة لوالده يتبرك بها هؤلاء الأتباع ويضعون فيها ما تجود به أنفسهم من النذور، ويضمون الذكر بضرب الدفوف والطبول والأشعار، وفي هذا العام أمرهم شيخهم بزيارة قبر شيخ آخر فسافروا رجالا ونساء في مائة سيارة فكيف توجهونهم؟
جـ: هذا منكر عظيم وشر كبير، فإن السفر إلى زيارة القبور منكر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (1) » ثم إن التقرب لأصحاب القبور بالنذور أو الذبائح أو الصلوات أو بالدعاء والاستغاثة بهم كله شرك بالله عز وجل، فلا يجوز لمسلم أن يدعو صاحب قبر ولو كان عظيما كالرسل عليهم الصلاة والسلام، ولا يجوز أن يستغاث بهم كما لا يجوز أن يستغاث بالأصنام ولا بالأشجار ولا بالكواكب.
أما لعبهم بالدفوف والطبول وتقربهم بذلك إلى الله سبحانه فهو من البدع المنكرة، وكثير من الصوفية يتعبدون بذلك فكله منكر وبدعة، وليس مما شرعه الله، وإنما يشرع الدف للنساء في العرس خاصة إظهارا للنكاح وليعلم أنه نكاح وليس بسفاح.
كذلك من البدع ووسائل الشرك البناء على القبور واتخاذها مساجد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبور والبناء عليها والقعود عليها، كما روى الإمام مسلم في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه (2) » وقال عليه الصلاة والسلام: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (3) » فيجب أن تكون القبور ضاحية مكشوفة ليس عليها بناء، ولا يجوز التبرك بها ولا التمسح بها، كما لا يجوز دعاء أهلها والاستغاثة بهم ولا النذر لهم ولا الذبح لهم، فكل هذا من عمل الجاهلية، فالواجب
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .
(3) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (529) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(6/328)
على أهل الإسلام الحذر من ذلك، والواجب على أهل العلم أن ينصحوا هذا الشيخ، وأن يعلموه أن هذا العمل عمل باطل ومنكر، وأن ترغيبه للناس في الاستغاثة بالأموات ودعوتهم من دون الله أن هذا من الشرك الأكبر والعياذ بالله، ويجب على المسلمين أن لا يقلدوه ولا يتبعوه ولا يغتروا به، فالعبادة حق الله وحده وهو الذي يدعى ويرجى قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (2) فسماهم كفرة بدعوتهم غير الله من الجن والملائكة وأصحاب القبور والكواكب أو الأصنام، كل هؤلاء دعوتهم مع الله شرك أكبر يقول الله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (3) يعني المشركين، وعلى جميع من يستطيع إنكار هذا المنكر أن يساهم في ذلك، وعلى الدولة إن كانت مسلمة أن تمنع ذلك، وأن تعلم الناس ما شرع الله لهم وأوجبه عليهم من أمر الدين حتى يزول هذا الشرك وهذا المنكر. نسأل الله الهداية للجميع.
__________
(1) سورة الجن الآية 18
(2) سورة المؤمنون الآية 117
(3) سورة يونس الآية 106(6/329)
الطريقة التيجانية
س: عندنا ناس كثيرون متمسكون بالطريقة التيجانية، وأنا سمعت في برنامجكم نور على الدرب أن هذه الطريقة مبتدعة ولا يجوز اتباعها، لكن أهلي عندهم ورد الشيخ أحمد التيجاني وهي صلاة الفاتح، ويقولون: إن صلاة الفاتح هي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهل صلاة الفاتح هذه هي الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم أم لا؟ حيث يقولون إن من كان يقرأ صلاة الفاتح وتركها يعتبر كافرا، ويقولون إذا ما كنت تتحمل هذا وتركتها فما عليك شيء، وإذا تحملتها وتركتها تعتبر كافرا، وقد قلت لوالدي: إن هذا لا يجوز. فقالا لي: أنت وهابي، وشتماني. فنرجو التوجيه.
جـ: الطريقة التيجانية لا شك أنها طريقة مبتدعة، ولا يجوز لأهل الإسلام أن يتبعوا الطرق المبتدعة لا التيجانية ولا غيرها، بل الواجب الاتباع والتمسك بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الله يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (1) يعني قل يا محمد للناس: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم، ويقول عز وجل: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (2) ويقول تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3) ويقول تبارك وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (4) والسبل: هي الطرق المحدثة من البدع والأهواء والشبهات والشهوات المحرمة، فالله أوجب علينا أن نتبع صراطه المستقيم وهو ما دل عليه القرآن الكريم، وما دلت عليه سنة رسوله عليه الصلاة والسلام الصحيحة الثابتة، هذا هو الطريق الذي يجب اتباعه، أما الطريقة التيجانية أو الشاذلية أو القادرية أو غيرها من الطرق التي أحدثها الناس فلا يجوز اتباعها إلا ما وافق شرع الله منها أو غيرها فيعمل به، لأنه وافق الشرع المطهر لا لأنه من الطريقة الفلانية أو غيرها للآيات السابقة ولقوله تعالى:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31
(2) سورة الأعراف الآية 3
(3) سورة الحشر الآية 7
(4) سورة الأنعام الآية 153(6/330)
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1) وقوله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » متفق على صحته من حديث عائشة رضي الله عنها، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (4) » أخرجه مسلم في صحيحه، وقوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (5) » أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وصلاة الفاتح هي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكروا ولكن صيغة لفظها لم ترو عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قالوا فيها: اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، والناصر الحق بالحق. وهذا اللفظ لم ترد به الأحاديث الصحيحة التي يبين فيها النبي صلى الله عليه وسلم صفة الصلاة عليه لما سأله الصحابة عن ذلك، فالمشروع للأمة الإسلامية أن يصلوا عليه - عليه الصلاة والسلام - بالصيغة التي شرعها لهم وعلمهم إياها دون ما أحدثوه.
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا: «يا رسول الله أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد (6) » ومن ذلك ما ثبت في صحيح البخاري ومسلم أيضا من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وآل
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21
(2) سورة التوبة الآية 100
(3) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(4) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(5) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(6) صحيح البخاري الدعوات (6357) ، صحيح مسلم الصلاة (406) ، سنن الترمذي الصلاة (483) ، سنن النسائي السهو (1289) ، سنن أبو داود الصلاة (976) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (904) ، مسند أحمد بن حنبل (4/244) ، سنن الدارمي الصلاة (1342) .(6/331)
إبراهيم إنك حميد مجيد (1) » وفي حديث ثالث رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد (2) » فهذه الأحاديث وما جاء في معناها قد أوضحت صفة الصلاة عليه التي رضيها لأمته وأمرهم بها.
أما صلاة الفاتح وإن صح معناها في الجملة فلا ينبغي الأخذ بها والعدول عما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان صفة الصلاة عليه المأمور بها مع أن كلمة الفاتح لما أغلق فيها إجمال قد يفسر من بعض أهل الأهواء بمعنى غير صحيح. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3369) ، صحيح مسلم الصلاة (407) ، سنن النسائي السهو (1294) ، سنن أبو داود الصلاة (979) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (905) ، مسند أحمد بن حنبل (5/424) ، موطأ مالك النداء للصلاة (397) .
(2) صحيح مسلم الصلاة (405) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3220) ، سنن النسائي السهو (1285) ، مسند أحمد بن حنبل (4/119) ، موطأ مالك النداء للصلاة (398) ، سنن الدارمي الصلاة (1343) .(6/332)
حكم أخذ العلاج عند المتصوفة
س: بعض الناس يصيبهم الجنون ويذهب بهم إلى شيوخ المتصوفة ويعالجونهم بالبخور والمحو والحجاب وبعد ذلك يصيرون بحالة متحسنة فما رأي الشرع في ذلك؟
جـ: من أصابه جنون لا يذهب به إلى الخرافيين، بل يذهب به إلى أهل الخير من القراء الطيبين والعارفين بعلاج هذه الأشياء ليقرءوا عليه وينفثوا عليه ويستعملوا في القراءة ما يرجى من الله سبحانه أن يكون سببا في خروج الجن منه، والله جعل لكل شيء سببا ولكل داء دواء، والغالب أن المؤمن التقي والعالم المعروف بالاستقامة وحسن العقيدة إذا قرأ ونفث عليه وتعاهده بالقراءة والوعيد للجني وتحذيره فإنه يخرج بإذن الله، وبكل حال فليس للمسلم أن يذهب إلى الصوفية المخرفين المعروفين ببدعهم وضلالهم وخرافاتهم، ليس له أن يذهب إليهم ولا يتعالج عندهم لئلا يضروه ويجروه إلى البدع والخرافات، فإن الصوفية في الغالب طريقتهم هي البدع والخرافات، وكثير منهم يعبد شيخه من دون الله ويستغيث به وينذر له ويطلب منه المدد حيا وميتا، وأحوالهم خطيرة والناجي منهم قليل ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نسأل الله لنا ولهم الهداية والبصيرة والتوفيق للطريقة السليمة، التي هي طريقة أتباع الكتاب والسنة، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، وهي الصراط المستقيم، وهي دين الله الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أيضا أن يعالج مجنون أو غيره من المرضى عند السحرة والمشعوذين والكهنة الذين يدعون علم الغيب ويعبدون غير الله سبحانه ويعالجون المرضى بغير ما أباح الله سبحانه وتعالى.(6/333)
الذبح لغير الله
س: هل الذبح لغير الله يجوز؛ لأن عندنا ناسا يذبحون لرجل اسمه (مجلى) وعندما نقول من هو مجلى؟ يقولون إنه نبي من أنبياء الله. أفيدونا في ذلك بارك الله فيكم.
جـ: الذبح لغير الله منكر عظيم وشرك أكبر سواء كان ذلك لنبي أو ولي أو كوكب أو جني أو صنم أو غير ذلك؛ لأن الله سبحانه يقول: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) فأخبر سبحانه أن الذبح لله كما أن الصلاة لله، فلو ذبح لغير الله فهو كمن صلى لغير الله يكون شركا بالله عز وجل، وهكذا يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (3) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (4) فالصلاة والنحر عبادتان عظيمتان.
فمن صرف الذبح لأصحاب القبور أو للأنبياء أو للكواكب أو للأصنام أو للجن أو للملائكة فقد أشرك بالله، كما لو صلى لهم أو استغاث بهم أو نذر لهم كل هذا شرك بالله عز وجل، والله يقول سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (5) ويقول عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (6) ويقول سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (7)
فالعبادة حق الله، والذبح من العبادة وهكذا الاستغاثة من العبادة، وهكذا الصلاة من العبادة، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله من ذبح لغير الله (8) » رواه مسلم في صحيحه من حديث علي رضي الله عنه، فعليكم أن تنكروا على هؤلاء، وأن تعلموهم بأن هذا شرك أكبر، وأن الواجب عليهم ترك ذلك فليس لهم أن يذبحوا لغير الله، كما أنهم ليس لهم أن يصلوا لغير الله، وهذا من باب التعاون على البر والتقوى، ومن باب إنكار المنكر، ومن باب الدعوة إلى الله وإخلاص العبادة له
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة الكوثر الآية 1
(4) سورة الكوثر الآية 2
(5) سورة الجن الآية 18
(6) سورة الذاريات الآية 56
(7) سورة الإسراء الآية 23
(8) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(6/334)
ومن التوحيد الذي يجب أن يكون لله وحده سبحانه وتعالى، وهذا هو واجب أهل العلم وواجب طلبة العلم وواجب أئمة المسلمين أن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن ينكر الشرك على من فعله حتى يظهر التوحيد، وحتى يقضى على أسباب الشرك، نسأل الله للجميع التوفيق والهداية.(6/335)
حكم ذبح الأبقار أو الأغنام عند انتهاء بناء المسجد
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الابن المكرم: أ. ب. ج.
وفقه الله لكل خير آمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فقد اطلعت على كتابكم الكريم وفهمت ما تضمنه من الأسئلة الواردة إليكم من أحد أصدقائكم في - سيراليون - وطلبكم الإجابة عليها، وإليكم نصها وجوابها:
الأول: أنه إذا انتهى بناء المسجد يزعم بعض الناس أنه لا يجوز إلقاء خطبة الجمعة ولا الصلاة المفروضة فيه حتى يشتري أبقار أو أغنام ثم يدعى الناس وتذبح ويطعم المجتمعون. وبدون هذا يزعمون أن إمام المسجد يموت قبل أجله إذا صلى فيه.
جـ: هذا كله لا أصل له، واعتقاده خطأ محض، وينبغي الإنكار على من يعتقد لك أو يفعله؛ لأن هذا بدعة في الدين، وكل بدعة ضلالة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(6/335)
السؤال الثاني: عن جواز ترجمة خطبة الجمعة بغير العربية.
الجواب: لا بأس بذلك وقد كتبنا جوابا لمن سأل مثل هذا السؤال أوضحنا فيه الأدلة على ذلك، وإليكم برفقه نسخة منه.
السؤال الثالث: عن الأشخاص الذين يجتمعون عند الصدقة التي يراد تفريقها عليهم ويضعون أيديهم عليها، ويدعو أحدهم للمتصدق ويؤمن الباقون بأصوات مرتفعة.
والجواب: لا تنبغي هذه الكيفية، لأنها بدعة، أما الدعاء للمتصدق من غير وضع الأيدي على المال المتصدق به، ومن دون اجتماع على رفع الأصوات على الكيفية المذكورة فهو مشروع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه (1) » رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح.
وأسأل الله أن يمنح الجميع الفقه في دينه، والثبات عليه واجتناب ما خالفه إنه جواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2567) ، سنن أبو داود الزكاة (1672) ، مسند أحمد بن حنبل (2/99) .(6/336)
حكم نقل حجارة مسجد إلى البيت والتبرك بها
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم: ح. م. ر.
وفقه الله لكل خير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعده:
كتابكم الكريم المؤرخ في 17 \ 10 \ 1392 هـ وصل - وصلكم الله بهداه - وما تضمنه من السؤال عن حكم نقل حجارة مسجد قديم جدا ومع استمرار الزمان قد كبسته السيول، ويحتمل أن يكون فيه قبر، فهل يصح لأحد من المسلمين نقل حجارته إلى بيته ويتخذها ملكا؟(6/336)
والجواب: إذا خرب المسجد ونحوه بأسباب سيل أو غيره شرع لأهل المحلة التي فيها المسجد أن يعمروه ويقيموا الصلاة فيه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة (1) » ولقول عائشة رضي الله عنها: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب (2) » أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه بإسناد حسن.
والمراد بالدور القبائل والحارات ونحوها، والأحاديث في فضل تعمير المساجد كثيرة، فإن كان في المحلة مسجد يغني عنه صرفت حجارته وأنقاضه في مسجد آخر في محلة أخرى أو بلدة أخرى محتاجة إلى ذلك، وعلى ولي الأمر في البلد التي فيها المسجد المذكور من قاض أو أمير أو شيخ قبيلة ونحوهم العناية بذلك، ونقل هذه الأنقاض إلى تعمير المساجد المحتاجة إليها أو بيعها وصرفها في مصالح المسلمين، وليس لأحد من أهل البلد أن يأخذ شيئا منها إلا بإذن ولي الأمر، وإذا كان في المسجد قبر وجب أن ينبش وينقل ما فيه من عظام - إن وجدت - إلى مقبرة البلد فيحفر لها وتدفن في المقبرة؛ لأنه لا يجوز شرعا وضع قبور في المساجد ولا بناء المساجد عليها؛ لأن ذلك من وسائل الشرك والفتنة بالمقبور، كما قد وقع ذلك في أكثر بلاد المسلمين من أزمان طويلة، بأسباب الغلو في أصحاب القبور، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنبش القبور التي كانت في محل مسجده عليه الصلاة والسلام، وثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (3) » وفي صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها (4) » وفي صحيح مسلم أيضا عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (5) » وفي الصحيحين عن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أنهما ذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها في الحبشة وما فيها من الصور فقال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله (6) » وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/241) .
(2) سنن الترمذي الجمعة (594) ، سنن أبو داود الصلاة (455) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (759) .
(3) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (529) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(4) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) .
(5) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .
(6) صحيح البخاري الصلاة (434) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (528) ، سنن النسائي المساجد (704) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) .(6/337)
عنهما قال: «فتاوى ابن باز body {font-family: verdana, arial, helvetica, sans-serif; font-size: 14px;} h1 {font-size:18px} a:link {color:#33c} a:visited {color:#339} /* This is where you can customize the appearance of the tooltip */ div#tipDiv {position:absolute; visibility:hidden; left:0; top:0; z-index:10000; background-color:AntiqueWhite; border:1px solid #336; padding:4px; color:#000; font-size:11px; line-height:1.2;} /* These are optional. They demonstrate how you can individually format tooltip content */ div.tp1 {font-size:12px; color:#336; font-style:italic} div.tp2 {font-weight:bolder; color:#337; padding-top:4px}
فتاوى ابن باز (1)
تصفح برقم المجلد > المجلد السادس > نقل حجارة مسجد إلى البيت والتبرك بها
حكم نقل حجارة مسجد إلى البيت والتبرك بها
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم: ح. م. ر.
وفقه الله لكل خير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعده:
كتابكم الكريم المؤرخ في 17 \ 10 \ 1392 هـ وصل - وصلكم الله بهداه - وما تضمنه من السؤال عن حكم نقل حجارة مسجد قديم جدا ومع استمرار الزمان قد كبسته السيول، ويحتمل أن يكون فيه قبر، فهل يصح لأحد من المسلمين نقل حجارته إلى بيته ويتخذها ملكا؟
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) .(6/338)
والجواب: إذا خرب المسجد ونحوه بأسباب سيل أو غيره شرع لأهل المحلة التي فيها المسجد أن يعمروه ويقيموا الصلاة فيه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة (1) » ولقول عائشة رضي الله عنها: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب (2) » أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه بإسناد حسن.
والمراد بالدور القبائل والحارات ونحوها، والأحاديث في فضل تعمير المساجد كثيرة، فإن كان في المحلة مسجد يغني عنه صرفت حجارته وأنقاضه في مسجد آخر في محلة أخرى أو بلدة أخرى محتاجة إلى ذلك، وعلى ولي الأمر في البلد التي فيها المسجد المذكور من قاض أو أمير أو شيخ قبيلة ونحوهم العناية بذلك، ونقل هذه الأنقاض إلى تعمير المساجد المحتاجة إليها أو بيعها وصرفها في مصالح المسلمين، وليس لأحد من أهل البلد أن يأخذ شيئا منها إلا بإذن ولي الأمر، وإذا كان في المسجد قبر وجب أن ينبش وينقل ما فيه من عظام - إن وجدت - إلى مقبرة البلد فيحفر لها وتدفن في المقبرة؛ لأنه لا يجوز شرعا وضع قبور في المساجد ولا بناء المساجد عليها؛ لأن ذلك من وسائل الشرك والفتنة بالمقبور، كما قد وقع ذلك في أكثر بلاد المسلمين من أزمان طويلة، بأسباب الغلو في أصحاب القبور، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنبش القبور التي كانت في محل مسجده عليه الصلاة والسلام، وثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (3) » وفي صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها (4) » وفي صحيح مسلم أيضا عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (5) » وفي الصحيحين عن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أنهما ذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها في الحبشة وما فيها من الصور فقال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله (6) » وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/241) .
(2) سنن الترمذي الجمعة (594) ، سنن أبو داود الصلاة (455) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (759) .
(3) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (529) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(4) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) .
(5) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .
(6) صحيح البخاري الصلاة (434) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (528) ، سنن النسائي المساجد (704) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) .(6/337)
عنهما قال: «نهى رسول صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه (1) » زاد الترمذي رحمه الله في روايته بإسناد صحيح: «وأن يكتب عليه (2) » ، فهذه الأحاديث وما جاء في معناها كلها تدل على تحريم البناء على القبور، واتخاذ المساجد عليها، والصلاة فيها وإليها وتجصيصها ونحو ذلك من أسباب الشرك بأربابها، ويلحق بذلك وضع الستور عليها والكتابة عليها وإراقة الأطياب عليها وتبخيرها ووضع الزهور عليها؛ لأن هذا كله من وسائل الغلو فيها والشرك بأهلها، فالواجب على جميع المسلمين الحذر من ذلك، والتحذير منه، ولا سيما ولاة الأمر، فإن الواجب عليهم أكبر ومسئوليتهم أعظم؛ لأنهم أقدر من غيرهم على إزالة هذه المنكرات وغيرها، وبسبب تساهلهم وسكوت الكثيرين من المنسوبين إلى العلم كثرت هذه الشرور، وانتشرت في أغلب البلاد الإسلامية، ووقع بسببها الشرك والوقوع فيما وقعت فيه أهل الجاهلية الذين عبدوا اللات والعزى ومناة وغيرها، وقالوا كما ذكر الله عنهم في كتابه العظيم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (3) ، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (4) وذكر أهل العلم أن القبر إذا وضع في مسجد وجب نبشه وإبعاده عن المسجد، وإن كان المسجد هو الذي حدث أخيرا بعد وجود القبر وجب هدم المسجد وإزالته؛ لأنه هو الذي حصل ببنائه المنكر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر من بناء المساجد على القبور ولعن اليهود والنصارى على ذلك، ونهى أمته عن مشابهتهم، وقال لعلي رضي الله عنه: «لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته (5) » والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين جميعا ويمنحهم الفقه في دينهم ويصلح قادتهم ويجمع كلمتهم على التقوى، ويوفقهم للحكم بشريعته والحذر مما خالفها إنه جواد كريم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه ومن سلك سبيله إلى يوم الدين.
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) .
(2) سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) .
(3) سورة يونس الآية 18
(4) سورة الزمر الآية 3
(5) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/96) .(6/338)
من ليس له شيخ (1)
س: شائع لدى بعض الناس أن الذي ليس له شيخ شيخه الشيطان، فبماذا توجهونهم سماحة الشيخ؟
جـ: هذا غلط عامي وجهل من بعض الصوفية؛ ليرغبوا الناس في الاتصال بهم وتقليدهم في بدعهم وضلالاتهم، فإن الإنسان إذا تفقه في دينه بحضوره الحلقات العلمية الدينية، أو تدبر القرآن أو السنة واستفاد من ذلك فلا يقال شيخه الشيطان، وإنما يقال قد اجتهد في طلب العلم وحصل له خير كثير.
وينبغي لطالب العلم الاتصال بالعلماء المعروفين بحسن العقيدة والسيرة، يسألهم عما أشكل عليه؛ لأنه إذا كان لا يسأل أهل العلم قد يغلط كثيرا وتلتبس عليه الأمور. أما إذا حضر الحلقات العلمية وسمع الوعظ من أهل العلم فإنه بذلك يحصل له خير كثير وفوائد جمة، وإن لم يكن له شيخ معين، ولا شك أن الذي يحضر حلقات العلم ويسمع خطب الجمعة وخطب الأعياد والمحاضرات التي تعرض في المساجد - شيوخه كثيرون، وإن لم ينتسب إلى واحد معين يقلده ويتبع رأيه.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب شريط رقم 831.(6/339)
هذا منكر عظيم
س: قال شيخ لمريده الذي يريد أن يدرس في أوربا وهو يودعه: يا بني إذا سولت لك نفسك بالمعصية هناك فتذكر شيخك يصرف الله عنك هذا السوء وهذه الفاحشة، فهل هذا شرك بالله؟
جـ: هذا منكر عظيم وشرك بالله جل وعلا؛ لأنه فزع إلى الشيخ لينقذه من هذا الشيء، والواجب أن يقول: فاذكر الله واسأل ربك العون والتوفيق واعتصم به، وأما أن يوصيه بأن يذكر شيخه فهذا من أخطاء غلاة الصوفية، يوجهون مريديهم وتلاميذهم إلى أن يعبدوهم من دون الله، ويلجئوا إليهم ويتوكلوا عليهم في قضاء الحاجات وتفريج الكروب، وهذا من الشرك الأكبر، نعوذ بالله من ذلك.
فالواجب على هذا الشخص أن يتقي الله، وأن يفزع إليه سبحانه فيما يهمه، ويسأله العون والتوفيق، لا إلى شيخه الذي علمه أن يفزع إليه، والله المستعان.(6/340)
الخوارج ليسوا من أنصار علي (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم: ع. ح. ع. وفقه الله
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: -
فقد وصلني كتابك المتضمن إفادتك عن كتاب لأحد الشيوخ الإباضيين في الجزائر بعنوان (الخوارج هم أنصار علي كرم الله وجهه) بما جعلك تشك في كثير من الحقائق التي كنت تؤمن فيها من قبل.
وعليه أفيدك بأن الخوارج ليسوا أنصار علي، بل هم خصماؤه، وقد قاتلهم وقتل منهم جما غفيرا، وقد كفروه واستحلوا دمه رضي الله عنه حتى قتله ابن ملجم وهو منهم. والخوارج طائفة خبيثة يكفرون المسلم بالمعصية، ويرون خلود العصاة من المسلمين في النار، وأنهم لا يخرجون منها كالكفار، وقد حذر منهم صلى الله عليه وسلم وأخبر أنهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية.
أما أبو هريرة رضي الله عنه فهو عدل ثقة عند أهل السنة والجماعة كبقية الصحابة رضي الله عنهم، وهو من أحفظ الصحابة لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكذبه عمر ولا غيره من الصحابة، بل احتجوا بأحاديثه وعملوا بها.
ومن ذلك تعلم أن صاحب الكتاب المذكور قد أخطأ خطأ عظيما وكذب على الصحابة رضي الله عنهم، فلا يعول عليه ولا يعتمد على كتابه، بل يجب إتلافه إذا كان الواقع كما قلت أنت.
أما فضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد فهو ثقة معروف لدينا وهو من علماء أهل السنة والجماعة. وأسأل الله سبحانه أن يوفق الجميع لما يرضيه. إنه سميع قريب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) صدر من مكتب سماحته في 19 \ 2 \ 1411 برقم 516 \ 1.(6/341)
تعليق على ما أذيع في البرنامج الإذاعي حول وجود الله سبحانه
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم سعادة وكيل وزارة الإعلام المساعد لشئون الإذاعة.
وفقه الله لما فيه رضاه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فأشفع لكم مذكرة من الأخ في الله ع - م. ذكر فيها أنه سمع في يوم الاثنين 28 \ 6 \ 1411 هـ الساعة 7.20 إلى 7.25 شخصا يسأل أباه عن الله سبحانه فأجابه أبوه بأن الله سبحانه موجود في كل زمان ومكان. لا شك أن هذا الجواب باطل وهو من كلام أهل البدع من الجهمية والمعتزلة ومن سار في ركابهما.
والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه فوق العرش، فوق جميع خلقه، كما دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وإجماع سلف الأمة، كما قال عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) وكرر ذلك سبحانه في ست آيات أخرى من كتابه العظيم، ومعنى الاستواء عند أهل السنة هو: العلو والارتفاع فوق العرش على الوجه الذي يليق بجلال الله سبحانه، لا يعلم كيفيته سواه، كما قال مالك رحمه الله لما سئل عن ذلك:
الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ومراده رحمه الله: السؤال عن كيفيته، وهذا المعنى جاء عن شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وهو مروي عن أم سلمة رضي الله عنها، وهو قول جميع أهل السنة من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من أئمة الإسلام، وقد أخبر الله سبحانه في آيات أخرى أنه العلي كما قال سبحانه: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (2) وقال عز
__________
(1) سورة الأعراف الآية 54
(2) سورة غافر الآية 12(6/342)
وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (1) وقال سبحانه: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (2) في آيات كثيرة من كتاب الله الكريم، صرح فيها سبحانه في العلو وذلك موافق لما دلت عليه آيات الاستواء، وبذلك يعلم أن قول أهل البدع إن الله سبحانه موجود في كل مكان - من أبطل الباطل، وهو مذهب الحلولية المبتدعة الضالة، بل هو كفر وضلال وتكذيب لله سبحانه، وتكذيب لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من كون ربه في السماء، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء (3) » وكما جاء في أحاديث الإسراء والمعراج.
فأرجو إذاعة هذه الرسالة في البرنامج الإذاعي في الوقت المذكور وفي أوقات أخرى، حتى يعلم ذلك من سمع المقال المشار إليه.
شكر الله سعيكم وبارك في جهودكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة فاطر الآية 10
(2) سورة البقرة الآية 255
(3) صحيح البخاري المغازي (4351) ، صحيح مسلم الزكاة (1064) ، سنن أبو داود السنة (4764) ، مسند أحمد بن حنبل (3/5) .(6/343)
عن مخالطة من لا يتمسكون بشعائر الإسلام (1)
هذه رسالة وردتنا من السائل: س. أ. ع من العراق محافظة ديالي، وهي رسالة طويلة، قد ضمنها مشكلة يقع فيها كثير من الناس، يقول: أنا شاب مسلم أعبد الله وأريد أن أعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن المشكلة أنني أعيش في وسط قوم أكثرهم لا يصلون ولا يصومون ولا يتصدقون، ويعملون بالبدع ومحدثات الأمور، ويحلفون بغير الله، وينذرون لغير الله، وبعض الناس يكفر بالله ورسوله باللفظ، وأنا شاب أدرس في المرحلة المتوسطة، وأكثر طلابها سيئوا الأخلاق، لا يفعلون أوامر الله، وتوجد معنا فتيات غير محجبات، والمدرسات كذلك، حتى أصبح فعل الشر سهلا وارتكاب المحرم ميسورا، وأمورا يطول شرحها، لكن والدي لا يسمح لي أن أترك الدراسة وأنا أرغب أن أترك هذه المدرسة، وأبتعد عن هذا الجو، وأعمل في الزراعة وأعبد الله بعيدا عن شر الناس، لكن والدي لا يسمح لي بذلك، وأريد أن أسأل هل يجوز لي أن أترك المدرسة؟ وهل يجوز لي السفر من هذه البلاد إلى بلاد أخرى، ولو لم يرض والدي؟ أفيدوني أفادكم الله.
جـ: إذا كان الحال ما ذكره السائل فالواجب عليك ترك هذه المدرسة والحذر من شرها والبعد عنها وعن أهلها، حفاظا على دينك وحذرا على عقيدتك وأخلاقك من هؤلاء السيئين من طلبة وطالبات ومجتمع سيئ، عليك أن تبذل وسعك في الانتقال إلى مدرسة سليمة أو إلى بلدة سليمة أو إلى مزرعة أو إلى ما تكون فيه بعيدا عن الخطر على دينك وعلى أخلاقك، هذا هو الواجب عليك، ولو لم يرض والدك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف (2) » ولقوله صلى الله عليه وسلم أيضا: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (3) » فالجلوس بين أهل الشر وأهل الشرك وتاركي الصلوات وبين الفتيات المتبرجات والسافرات فيه خطر عظيم على العقيدة والأخلاق، فلا يجوز
__________
(1) من برنامج نور على الدرب شريط رقم 52.
(2) صحيح البخاري الأحكام (7145) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .
(3) صحيح البخاري أخبار الآحاد (7257) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/94) .(6/344)
للمسلم البقاء على هذه الحال، بل يجب عليه أن يحذر هذا المجتمع ويبتعد عنه إلى مجتمع أصلح وأسلم لدينه ولو بالسفر من بلد إلى بلد آخر كمكة والمدينة للدراسة في المسجد الحرام والمسجد النبوي، لوجود مدرسين فيهما من أهل العلم والفضل والعقيدة السلفية، سواء رضيا والداه أم لم يرضيا؛ لأن الطاعة لهما إنما تكون في المعروف لا في المعاصي، كما تقدم، والله المستعان.(6/345)
سؤال عائشة رضي الله عنها لدخول الكعبة والجواب عنه
س: لعل سماحتكم يذكر المسلمين بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة في شأن الكعبة.
جـ: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها: «لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم وجعلت لها بابين بابا للدخول وبابا للخروج (1) » فترك صلى الله عليه وسلم نقض الكعبة وإدخال حجر إسماعيل فيها خشية الفتنة، وهذا يدل على وجوب مراعاة المصالح العامة وتقديم المصلحة العليا، وهي تأليف القلوب وتثبيتها على الإسلام على المصلحة التي هي أدنى منها وهي إعادة الكعبة على قواعد إبراهيم.
وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لعائشة رضي الله عنها لما طلبت دخول الكعبة: «صلي في الحجر فإنه من البيت (2) » .
__________
(1) صحيح البخاري العلم (126) ، صحيح مسلم الحج (1333) ، سنن الترمذي كتاب الحج (876) ، سنن النسائي مناسك الحج (2903) ، سنن أبو داود المناسك (2028) ، سنن ابن ماجه المناسك (2955) ، مسند أحمد بن حنبل (6/102) ، موطأ مالك الحج (813) ، سنن الدارمي المناسك (1868) .
(2) سنن النسائي مناسك الحج (2911) .(6/345)
معنى (وهب المسيئين منا للمحسنين)
س: الأخت التي رمزت لاسمها: ف. س. ص. من عنيزة في المملكة العربية السعودية تقول في سؤالها: ما معنى هذا الدعاء: (وهب المسيئين منا للمحسنين) ؟
جـ: معناه الطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعفو عن المسيئين من المسلمين بأسباب المحسنين منهم، ولا حرج في ذلك؛ لأن صحبة الأخيار ومجالستهم من أسباب العفو عن المسيء المسلم، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل الجليس الصالح كحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ومثل جليس السوء كنافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة (1) » ولكن لا يجوز للمسلم أن يعتمد على مثل هذه الأمور لتكفير سيئاته، بل يجب عليه أن يلزم التوبة دائما من سائر الذنوب وأن يحاسب نفسه ويجاهدها في الله، حتى يؤدي ما أوجب الله عليه ويحذر ما حرم الله عليه، ويرجو مع ذلك من الله سبحانه العفو والغفران، وأن لا يكله إلى نفسه ولا إلى عمله، ولهذا صح عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سددوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أنه لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل (2) » .
وبالله التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5534) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2628) .
(2) صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2818) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .(6/346)
حديث السبعة وهل هو خاص بالرجال
س: الأخ الذي رمز لاسمه: ب. ع. ق. ا. من المعهد العلمي في حوطة بني تميم بالمملكة العربية السعودية، يقول في سؤاله هل حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله خاص بالذكور؟ أم من عمل عمل هؤلاء من النساء يحصل على الأجر المذكور في الحديث؟
جـ: ليس هذا الفضل المذكور في هذا الحديث خاصا بالرجال بل يعم الرجال والنساء، فالشابة التي نشأت في عبادة الله داخلة في ذلك، وهكذا المتحابات في الله من النساء داخلات في ذلك، وهكذا كل امرأة دعاها ذو منصب وجمال إلى الفاحشة فقالت: (إني أخاف الله) داخلة في ذلك، وهكذا من تصدقت بصدقة من كسب طيب لا تعلم شمالها ما تنفق يمينها داخلة في ذلك، وهكذا من ذكر الله خاليا من النساء داخل في ذلك كالرجال، أما الإمامة فهي من خصائص الرجال وهكذا صلاة الجماعة في المساجد تختص بالرجال، وصلاة المرأة في بيتها أفضل لها كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله ولي التوفيق.(6/347)
حكم استعمال الجرائد سفرة للأكل (1)
س: هل يجوز استخدام الجرائد كسفرة للأكل عليها؟ وإذا كان لا يجوز فما العمل فيها بعد قراءتها؟
جـ: لا يجوز استعمال الجرائد سفرة للأكل عليها، ولا جعلها ملفا للحوائج، ولا امتهانها بسائر أنواع الامتهان إذا كان فيها شيء من الآيات القرآنية أو من ذكر الله عز وجل، والواجب إذا كان الحال ما ذكرنا حفظها في محل مناسب أو إحراقها أو دفنها في أرض طيبة.
__________
(1) نشر في كتاب الدعوة جـ 1 ص241، 242.(6/347)
حكم لبس الذهب المحلق للنساء (1)
س: إن بعض النسوة عندنا تشككن وارتبن من فتوى العلامة: محمد ناصر الدين الألباني محدث الديار الشامية في كتابه: (آداب الزفاف) نحو تحريم لبس الذهب المحلق عموما، هناك نسوة امتنعن بالفعل عن لبسه، فوصفن النساء اللابسات له بالضلال والإضلال. فما قول سماحتكم في حكم لبس الذهب المحلق خصوصا وذلك لحاجتنا الماسة إلى دليلكم وفتواكم بعد ما استفحل الأمر وزاد، وغفر الله لكم وزادكم بسطة في العلم.
خ. أ. ع. شبيبة. الدوحة
جـ: يحل لبس النساء للذهب محلقا وغير محلق، لعموم قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} (2) حيث ذكر سبحانه أن الحلية من صفات النساء وهي عامة في الذهب وغيره. ولما رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند جيد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه «إن هذين حرام على ذكور أمتي (3) » زاد ابن ماجه في روايته: «وحل لإناثهم (4) » .
ولما رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه وأخرجه أبو داود والحاكم، وصححه وأخرجه الطبراني، وصححه ابن حزم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها (5) » وقد أعل بالانقطاع بين سعيد بن أبي هند وأبي موسى، ولا دليل على ذلك يطمأن إليه، وقد ذكرنا آنفا من صححه، وعلى فرض صحة العلة المذكورة فهو منجبر بالأحاديث الأخرى الصحيحة كما هي القاعدة المعروفة عند أئمة الحديث.
وعلى هذا درج علماء
__________
(1) هذه الأسئلة والأجوبة نشرت في كتاب الدعوة الجزء الأول ص 242، 247.
(2) سورة الزخرف الآية 18
(3) سنن النسائي الزينة (5144) ، سنن أبو داود اللباس (4057) ، سنن ابن ماجه اللباس (3595) ، مسند أحمد (1/115) .
(4) سنن ابن ماجه اللباس (3595) .
(5) سنن النسائي الزينة (5148) ، مسند أحمد بن حنبل (4/392) .(6/348)
السلف، ونقل غير واحد الإجماع على جواز لبس المرأة الذهب، فنذكر أقوال بعضهم زيادة في الإيضاح: -
قال الجصاص في تفسيره: 3 ص 388 في كلامه عن الذهب: (والأخبار الواردة في إباحته للنساء عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أظهر وأشهر من أخبار الحظر، ودلالة الآية [يقصد بذلك الآية التي ذكرناها آنفا] أيضا ظاهرة في إباحته للنساء، وقد استفاض لبس الحلي للنساء منذ قرن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى يومنا هذا من غير نكير من أحد عليهن، ومثل ذلك لا يعترض عليه بأخبار الآحاد) ا. هـ.
وقال الكيا الهراسي في تفسير القرآن ج 4 ص 391 عند تفسيره لقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} (1) (فيه دليل على إباحة الحلي للنساء: والإجماع منعقد عليه، والأخبار في ذلك لا تحصى) .
وقال البيهقي في السنن الكبرى ج 4 ص 142 لما ذكر بعض الأحاديث الدالة على حل الذهب والحرير للنساء من غير تفصيل ما نصه: (فهذه الأخبار وما في معناها تدل على إباحة التحلي بالذهب للنساء، واستدللنا بحصول الإجماع على إباحته لهن على نسخ الأخبار الدالة على تحريمه فيهن خاصة) ا. هـ.
وقال النووي في المجموع ج 4 ص 442: (ويجوز للنساء لبس الحرير والتحلي بالفضة وبالذهب بالإجماع للأحاديث الصحيحة) ا. هـ.
وقال أيضا ج 6 ص 40: (أجمع المسلمون على أنه يجوز للنساء لبس أنواع الحلي من الفضة والذهب جميعا كالطوق والعقد والخاتم والسوار والخلخال والدمالج والقلائد والمخانق وكل ما يتخذ في العنق وغيره وكل ما يعتدن لبسه، ولا خلاف في شيء من هذا) ا. هـ.
وقال في شرح صحيح مسلم في باب تحريم خاتم الذهب على الرجال ونسخ ما كان من إباحته في أول الإسلام: (أجمع المسلمون على إباحة خاتم الذهب للنساء) ا. هـ.
__________
(1) سورة الزخرف الآية 18(6/349)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح حديث البراء: «ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن سبع، نهى عن خاتم الذهب (1) » . . . الحديث قال ج 10 ص 317 (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب أو التختم به مختص بالرجال دون النساء، فقد نقل الإجماع على إباحته للنساء) ا. هـ.
ويدل أيضا على حل الذهب للنساء مطلقا محلقا وغير محلق مع الحديثين السابقين، ومع ما ذكره الأئمة المذكورون آنفا من إجماع أهل العلم على ذلك الأحاديث الآتية:
1 - ما رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب فقال لها أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: هما لله ولرسوله (2) » . فأوضح لها النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الزكاة في المسكتين المذكورتين، ولم ينكر عليها لبس ابنتها لهما، فدل على حل ذلك وهما محلقتان، والحديث صحيح وإسناده جيد، كما نبه عليه الحافظ في البلوغ.
2 - ما جاء في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم حلية من عند النجاشي أهداها له فيها خاتم من ذهب به فص حبشي، قالت: فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معرضا عنه، أو ببعض أصابعه ثم دعا أمامة ابنة أبي العاص ابنة ابنته زينب فقال: تحلي بهذه يا بنية (3) » ، فقد أعطى صلى الله عليه وسلم أمامة خاتما، وهو حلقة من الذهب، وقال: تحلي بها، فدل على حل الذهب المحلق نصا.
3 - ما رواه أبو داود والدارقطني وصححه الحاكم كما في بلوغ المرام «عن أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت تلبس أوضاحا من ذهب، فقالت: يا رسول الله أكنز هو؟ قال: إذا أديت زكاته فليس بكنز (4) » ا. هـ.
وأما الأحاديث التي ظاهرها النهي عن لبس الذهب للنساء فهي شاذة، مخالفة لما هو أصح منها وأثبت، وقد قرر أئمة الحديث أن ما جاء من الأحاديث بأسانيد جيدة
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6222) ، سنن الترمذي الأدب (2809) ، سنن النسائي الجنائز (1939) .
(2) سنن النسائي الزكاة (2479) ، سنن أبو داود الزكاة (1563) .
(3) سنن أبو داود الخاتم (4235) ، سنن ابن ماجه اللباس (3644) ، مسند أحمد بن حنبل (6/119) .
(4) سنن أبو داود الزكاة (1564) .(6/350)
لكنها مخالفة لأحاديث أصح منها، ولم يمكن الجمع ولم يعرف التاريخ، فإنها تعتبر شاذة لا يعول عليها ولا يعمل بها. قال الحافظ العراقي رحمه الله في الألفية:
وذو الشذوذ ما يخالف الثقة ... فيه الملا فالشافعي حققه
وقال الحافظ ابن حجر في النخبة ما نصه: فإن خولف بأرجح فالراحج المحفوظ ومقابله الشاذ. اهـ.
كما ذكروا من شرط الحديث الصحيح الذي يعمل به ألا يكون شاذا، ولا شك أن الأحاديث المروية في تحريم الذهب على النساء على تسليم سلامة أسانيدها من العلل لا يمكن الجمع بينها وبين الأحاديث الصحيحة الدالة على حل الذهب للإناث، ولم يعرف التاريخ، فوجب الحكم عليها بالشذوذ وعدم الصحة عملا بهذه القاعدة الشرعية المعتبرة عند أهل العلم.
وما ذكره أخونا في الله العلامة الشيخ: محمد ناصر الدين الألباني في كتابه: (آداب الزفاف) من الجمع بينها وبين أحاديث الحل بحمل أحاديث التحريم على المحلق وأحاديث الحل على غيره غير صحيح وغير مطابق لما جاءت به الأحاديث الصحيحة الدالة على الحل؛ لأن فيها حل الخاتم وهو محلق وحل الأسورة وهي محلقة، فاتضح بذلك ما ذكرنا؛ ولأن الأحاديث الدالة على الحل مطلقة غير مقيدة، فوجب الأخذ بها لإطلاقها وصحة أسانيدها، وقد تأيدت بما حكاه جماعة من أهل العلم من الإجماع على نسخ الأحاديث الدالة على التحريم كما نقلنا أقوالهم آنفا، وهذا هو الحق بلا ريب. وبذلك تزول الشبهة ويتضح الحكم الشرعي الذي لا ريب فيه بحل الذهب لإناث الأمة، وتحريمه على الذكور. والله ولي التوفيق والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(6/351)
حكم السلام بالإشارة باليد
سؤال: ما حكم السلام بالإشارة باليد؟
الجواب: لا يجوز السلام بالإشارة، وإنما السنة السلام بالكلام بدءا وردا. أما السلام بالإشارة فلا يجوز؛ لأنه تشبه ببعض الكفرة في ذلك؛ ولأنه خلاف ما شرعه الله، لكن لو أشار بيده إلى المسلم عليه ليفهمه السلام لبعده مع تكلمه بالسلام فلا حرج في ذلك؛ لأنه قد ورد ما يدل عليه، وهكذا لو كان المسلم عليه مشغولا بالصلاة فإنه يرد بالإشارة، كما صحت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.(6/352)
حكم البول واقفا
سؤال: هل يجوز أن يبول الإنسان واقفا، علما أنه لا يأتي الجسم والثوب شيء من ذلك؟
الجواب: لا حرج في البول قائما، ولا سيما عند الحاجة إليه، إذا كان المكان مستورا لا يرى فيه أحد عورة البائل، ولا يناله شيء من رشاش البول، لما ثبت عن حذيفة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائما (1) » متفق على صحته، ولكن الأفضل البول عن جلوس؛ لأن هذا هو الغالب من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأستر للعورة، وأبعد عن الإصابة بشيء من رشاش البول.
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (224) ، صحيح مسلم الطهارة (273) ، سنن الترمذي الطهارة (13) ، سنن النسائي الطهارة (18) ، سنن أبو داود الطهارة (23) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (305) ، مسند أحمد بن حنبل (5/402) ، سنن الدارمي الطهارة (668) .(6/352)
رجل مسلم أسعف رجلا غير مسلم هل يصبح أخا له؟
س: هل يصبح رجل مسلم أسعف رجلا غير مسلم أخا له؟
جـ: إسعاف المسلم لغيره من المسلمين والكفار غير الحربيين لا يكون بذلك أخا له، ولا محرما لها؛ إن كان المسعف امرأة، ولكنه يؤجر على ذلك، لما فيه من الإحسان، ولو كان المسعف كافرا لقول الله عز وجل: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (1) وقوله عز وجل {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (3) » وقوله: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته (4) » وهذان الحديثان في حق المسلم، وفي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لها أن تصل أمها وكانت كافرة، وذلك في وقت الهدنة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مكة، أما الكفار الحربيون فلا تجوز مساعدتهم بشيء، بل مساعدتهم على المسلمين من نواقض الإسلام. لقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (5)
__________
(1) سورة البقرة الآية 195
(2) سورة الممتحنة الآية 8
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الأدب (4946) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .
(4) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) .
(5) سورة المائدة الآية 51(6/353)
حكم لبس المعاطف الجلدية
س: تعرضنا في الآونة الأخيرة إلى نقاش حاد في قضية لبس المعاطف الجلدية. ومن الإخوان من يرى أن هذه المعاطف تصنع - عادة - من جلود الخنازير. وإذا كانت كذلك فما رأيكم في لبسها؟ وهل يجوز لنا ذلك دينيا؟ علما أن بعض الكتب الدينية كالحلال والحرام للقرضاوي، والدين على المذاهب الأربعة قد تطرقا إلى هذه القضية، إلا أن إشارتهما كانت عرضية إلى المشكلة، ولم يوضحا ذلك بجلاء.
جـ: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا دبغ الجلد فقد طهر (1) » وقال: «دباغ جلود الميتة طهورها (2) » واختلف العلماء في ذلك، هل يعم هذا الحديث جميع الجلود أم يختص بجلود الميتة التي تحل بالذكاة، ولا شك أن ما دبغ من جلود الميتة التي تحل بالذكاة كالإبل والبقر والغنم طهور يجوز استعماله في كل شيء في أصح أقوال أهل العلم.
أما جلد الخنزير والكلب ونحوهما مما لا يحل بالذكاة ففي طهارته بالدباغ خلاف بين أهل العلم؛ والأحوط ترك استعماله، عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه (3) » وقوله عليه الصلاة والسلام «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (4) » .
__________
(1) صحيح مسلم الحيض (366) ، سنن الترمذي اللباس (1728) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4241) ، سنن أبو داود اللباس (4123) ، سنن ابن ماجه اللباس (3609) ، مسند أحمد بن حنبل (1/270) ، موطأ مالك الصيد (1079) ، سنن الدارمي الأضاحي (1985) .
(2) سنن النسائي الفرع والعتيرة (4244) .
(3) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(4) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .(6/354)
شرح معنى «مائلات مميلات (1) »
س: ما معنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث «مائلات مميلات (2) » "؟
جـ: هذا حديث صحيح، رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صنفان من أهل النار لم أرهما: رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها (3) » وهذا وعيد عظيم يجب الحذر مما دل عليه.
فالرجال الذين في أيديهم سياط كأذناب البقر هم من يتولى ضرب الناس بغير حق من شرط أو من غيرهم، سواء كان ذلك بأمر الدولة أو بغير أمر الدولة. فالدولة إنما تطاع في المعروف، قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف (4) » وقال عليه الصلاة والسلام: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (5) » وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات (6) » فقد فسر ذلك أهل العلم بأن معنى " كاسيات " يعني من نعم الله " عاريات " يعني من شكرها، لم يقمن بطاعة الله، ولم يتركن المعاصي والسيئات مع إنعام الله عليهن بالمال وغيره، وفسر الحديث أيضا بمعنى آخر وهو أنهن كاسيات كسوة لا تسترهن إما لرقتها أو لقصورها، فلا يحصل بها المقصود، ولهذا قال: " عاريات ".
لأن الكسوة التي عليهن لم تستر عوراتهن. " مائلات " يعني: عن العفة والاستقامة. أي عندهن معاصي وسيئات كاللائي يتعاطين الفاحشة، أو يقصرن في أداء الفرائض، من الصلوات وغيرها. " مميلات ": يعني: مميلات لغيرهن، أي يدعين إلى الشر والفساد، فهن بأفعالهن وأقوالهن يملن غيرهن إلى الفساد والمعاصي، ويتعاطين الفواحش؛ لعدم إيمانهن أو لضعفه وقلته، والمقصود من هذا الحديث الصحيح هو التحذير من الظلم وأنواع الفساد من الرجال والنساء، وقوله صلى الله عليه وسلم: «رءوسهن كأسنمة البخت المائلة (7) »
قال بعض أهل العلم: إنهن يعظمن الرءوس بما يجعلن عليها من شعر ولفائف وغير ذلك، حتى تكون مثل أسنمة البخت المائلة، والبخت نوع من الإبل لها سنامان، بينهما شيء من الإنخفاض والميلان، هذا
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/356) ، موطأ مالك الجامع (1694) .
(2) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/356) ، موطأ مالك الجامع (1694) .
(3) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/356) .
(4) صحيح البخاري الأحكام (7145) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .
(5) صحيح البخاري أخبار الآحاد (7257) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/94) .
(6) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/356) ، موطأ مالك الجامع (1694) .
(7) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .(6/355)
مائل إلى جهة وهذا مائل إلى جهة، فهؤلاء النسوة لما عظمن رءوسهن وكبرن رءوسهن بما جعلن عليها أشبهن هذه الأسنمة.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها (1) » فهذا وعيد شديد، ولا يلزم من ذلك كفرهن ولا خلودهن في النار كسائر المعاصي، إذا متن على الإسلام، بل هن وغيرهن من أهل المعاصي كلهم متوعدون بالنار على معاصيهم، ولكنهم تحت مشيئة الله إن شاء سبحانه عفا عنهم وغفر لهم وإن شاء عذبهم، كما قال عز وجل في سورة النساء في موضعين: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2)
ومن دخل النار من أهل المعاصي فإنه لا يخلد فيها خلود الكفار بل من يخلد منهم كالقاتل والزاني، والقاتل نفسه لا يكون خلوده مثل خلود الكفار بل هو خلود له نهاية عند أهل السنة والجماعة، خلافا للخوارج والمعتزلة ومن سار على نهجهم من أهل البدع؛ لأن الأحاديث الصحيحة قد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دالة على شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل المعاصي من أمته، وأن الله عز وجل يقبلها منه صلى الله عليه وسلم عدة مرات، في كل مرة يحد له حدا فيخرجهم من النار، وهكذا بقية الرسل والمؤمنون والملائكة والأفراط كلهم يشفعون بإذنه سبحانه، ويشفعهم عز وجل فيمن يشاء من أهل التوحيد الذين دخلوا النار بمعاصيهم وهم مسلمون، ويبقى في النار بقية من أهل المعاصي لا تشملهم شفاعة الشفعاء، فيخرجهم الله سبحانه برحمته وإحسانه، ولا يبقى في النار إلا الكفار فيخلدون فيها أبد الآباد كما قال عز وجل في حق الكفرة: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} (3) وقال تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} (4) وقال سبحانه في الكفرة من عباد الأوثان: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (5) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (6) {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (7) والآيات في هذا المعنى كثيرة. نسأل الله العافية والسلامة من حالهم.
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .
(2) سورة النساء الآية 48
(3) سورة الإسراء الآية 97
(4) سورة النبأ الآية 30
(5) سورة البقرة الآية 167
(6) سورة المائدة الآية 36
(7) سورة المائدة الآية 37(6/356)
هذا الحديث مكذوب عليه صلى الله عليه وسلم
س: بعض المصلين بحي دار النعيم ببور سودان يقولون: ذات يوم في مسجدنا خطب علينا أحد مدعي العلم بعد أن صلى بنا صلاة الظهر، حدثنا فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما توفيت زوجته خديجة ذبح عليها ناقة وأقام عليها العزاء لمدة ثلاثة أيام وقال: إن ذلك جاء في حديث قتادة.
ثم ساق حديثا آخر رفض أن يبين راويه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا شجرة وعلي ساقها وفاطمة فروعها والحسن والحسين ثمارها.
ثم أورد حديثا ثالثا قال فيه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادفه يوما بأحد جبال مكة رجل يهودي، فقال له: ألم تؤمن بي؟ قال اليهودي: لا أومن بك، فقال له: أدع تلك الشجرة، فقال لها: إن محمدا يدعوك فجاءت إليه تضلله بأغصانها وتجر جذورها، فقال لها: من أنا قالت: إنك محمد رسول الله، فنطق اليهودي بالشهادتين بعد ذلك ثم صعدت الشجرة إلى السماوات وطافت حول العرش والكرسي واللوح والقلم، وطلبت من الله الإذن لها بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أيها اليهودي: قبل كفي وقدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ساق قصة أخرى فقال: إن عثمان بن عفان رضي الله عنه وجد رجلا يطوف بالكعبة، فقال له إنك زان، فقال له: كيف عرفت ذلك؟ قال: عرفته في عينيك، فقال الرجل: أنا لم أزن ولكني نظرت إلى يهودية، فقال الرجل لعثمان رضي الله عنه: وهل عرفت ذلك بالوحي؟ قال: لا، ولكنها فراسة المؤمن، ولما طولب بالأدلة كاد أنصاره أن يفتكوا بنا نرجو معرفة رأي الشرع في ذلك؟
جـ: هذه الأخبار التي ذكرها هذا الواعظ كلها باطلة ومكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصل لها، فلم يفعل عزاء عند موت خديجة رضي الله عنها، ولم يذبح ناقة، ولم يدع الناس إلى عزاء، كما يفعل بعض الناس اليوم. وكان عليه الصلاة والسلام يدعو لخديجة رضي الله عنها كثيرا، وفي بعض الأحيان يذبح الشاة ويوزعها على خليلاتها وصديقاتها من باب الهدية والإحسان، ويدعو لها ويحسن إليها بالدعاء.(6/357)
وهكذا ما قاله عن الشجرة كل هذا باطل ولا أصل له، وكذلك ما قال عن اليهودي، كل هذا كذب من كذب المفترين المجرمين. وكذلك ما روي عن عثمان رضي الله عنه مع الرجل، وقتادة ليس بصحابي بل هو تابعي.
فالمقصود أن هذه الأخبار الأربعة كلها باطلة ولا صحة لها، لكن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى أنه دعا بعض الشجر فانقاد له، وذلك من علامات النبوة، والقصة ثابتة في صحيح مسلم وذلك أنه في بعض أسفاره أراد أن يقضي حاجته فدعا شجرتين فالتأمتا وجلس بينهما حتى قضى حاجته، ثم رجعت كل شجرة إلى مقرها، وذلك من آيات الله سبحانه ومن دلائل قدرته العظيمة، وأنه يقول للشيء كن فيكون، وذلك أيضا من دلائل صدق رسول الله وأنه رسول الله حقا وهذا غير الخبر الذي ذكره هذا المفتري.
فينبغي التحذير من هؤلاء الكذابين، وينبغي للواعظ أن يتقي الله سبحانه إذا وعظ الناس، وأن يذكرهم بما ينفعهم في دينهم ودنياهم من الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة النبوية وفيها الكفاية والشفاء، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين (1) » رواه مسلم في صحيحه، وقال عليه الصلاة والسلام: «من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار (2) » متفق على صحته. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) صحيح مسلم مقدمة (1) ، سنن الترمذي العلم (2662) ، سنن ابن ماجه المقدمة (41) ، مسند أحمد بن حنبل (4/252) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/65) .(6/358)
شرح معنى القاسطين والمقسطين في القرآن الكريم
س: أرجو أن تتفضلوا بالإجابة عما يلي: ما الفرق بين الآيات الكريمة الآتية في الآية الخامسة عشرة من سورة الجن، قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (1) وفي الآية الثامنة من سورة الممتحنة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2) وفي الآية الثانية والأربعين من سورة المائدة: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (3)
جـ: القسط الذي أمر الله بالحكم به هو العدل، والمقسطون هم أهل العدل في حكمهم وفي أهليهم وفيما ولاهم الله عليهم، وأقسط أي عدل في الحكم وأدى الحق ولم يجر، أما القاسط فهو الجائز الظالم، يقال: قسط يقسط قسطا فهو قاسط إذا جار وظلم، ولهذا قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (4) يعني الظالمين الجائرين المعتدين المتعدين لحدود الله، وهم الذين توعدهم الله بأن يكونوا حطبا لجهنم، أما المقسطون بالميم من أقسطوا من الرباعي فهؤلاء هم: أهل العدل الموفقون المهديون الذين يعدلون في حكمهم وفي أهليهم، وفيمن ولاهم الله عليهم، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (5) يعني يحب أهل العدل والاستقامة والإنصاف، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المقسطون على منابر من نور يوم القيامة الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا (6) » .
__________
(1) سورة الجن الآية 15
(2) سورة الممتحنة الآية 8
(3) سورة المائدة الآية 42
(4) سورة الجن الآية 15
(5) سورة المائدة الآية 42
(6) صحيح مسلم الإمارة (1827) ، سنن النسائي آداب القضاة (5379) ، مسند أحمد بن حنبل (2/160) .(6/359)
حكم مس الحائض للقرآن الكريم
س: إننا طالبات ندرس في مدرسة بنات، وفي حصة القرآن الكريم يأمرنا الأستاذ بقراءة القرآن ونكون في حالة العذر، ونستحي أن نخبر الأستاذ فنقرأ مراعاة لذلك، فهل يجوز هذا؟ وإن كان لا يجوز فكيف نعمل أيام الامتحان إذا صادفتنا ونحن في حال الدورة الشهرية؟
جـ: اختلف العلماء رحمة الله عليهم في قراءة الحائض والنفساء للقرآن الكريم: فذهب جماعة من أهل العلم إلى تحريم ذلك وألحقوهما بالجنب، وقالوا: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الجنب لا يقرأ القرآن، لأن الجنابة حدث أكبر، والحيض مثل ذلك، والنفاس مثل ذلك فقالوا: لا تقرأ الحائض ولا النفساء حتى تطهرا، واحتجوا أيضا بحديث رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (1) » .
وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنه يجوز للحائض والنفساء قراءة القرآن عن ظهر قلب؛ لأن مدتهما تطول أياما كثيرة فلا يصح قياسهما على الجنب؛ لأن مدته قصيرة؛ لأن في إمكانه إذا فرغ من حاجته أن يغتسل ويقرأ، أما الحائض والنفساء فليس في إمكانها ذلك، وقالوا في الحديث السابق الذي احتج به المانعون إنه حديث ضعيف، ضعفه أهل العلم لكونه من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين وروايته عنهم ضعيفة، وهذا القول هو الصواب.
فيجوز للحائض والنفساء قراءة القرآن عن ظهر قلب، لأن مدتهما تطول فقياسهما على الجنب غير صحيح، فعلى هذا لا بأس أن تقرأ الطالبة القرآن، وهكذا المدرسة في الامتحان وغير الامتحان عن ظهر قلب لا من المصحف. أما إن احتاجت إحداهن إلى القراءة من المصحف فلا حرج عليها بشرط أن يكون ذلك من وراء حائل كالقفازين ونحوهما.
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (131) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596) .(6/360)
حكم التحجب عن الخادمة المسيحية
س: يوجد لدينا خادمة مسيحية فهل يجب علينا التحجب عنها؟
جـ: أولا: يجب أن يعلم أنه لا يجوز استقدام الكفرة إلى هذه الجزيرة لا من النصارى ولا من غير النصارى، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج الكفرة من هذه الجزيرة وأوصى عند موته صلى الله عليه وسلم بإخراجهم من هذه الجزيرة، وهي المملكة العربية السعودية واليمن ودول الخليج، كل هذه الدول داخلة في الجزيرة العربية فالواجب ألا يقر فيها الكفرة من اليهود، والنصارى، والبوذيين، والشيوعيين، والوثنيين، وجميع من يحكم الإسلام بأنه كافر لا يجوز بقاؤه ولا إقراره في هذه الجزيرة ولا استقدامه إليها إلا عند الضرورة القصوى التي يراها ولي الأمر كالضرورة لأمر عارض ثم يرجع إلى بلده ممن تدعو الضرورة إلى مجيئه أو الحاجة الشديدة إلى هذه المملكة وشبهها كاليمن ودول الخليج.
أما استقدامهم ليقيموا بها فلا يجوز بل يجب أن يكتفي بالمسلمين في كل مكان، وأن تكون المادة التي تصرف لهؤلاء الكفار تصرف للمسلمين، وأن ينتقى من المسلمين من يعرف بالاستقامة والقوة على القيام بالأعمال حسب الطاقة والإمكان، وأن يختار أيضا من المسلمين من هم أبعد عن البدع والمعاصي الظاهرة، وأن لا يستخدم إلا من هو طيب ينفع البلاد ولا يضرها، هذا هو الواجب، لكن من ابتلي باستقدام أحد من هؤلاء الكفرة كالنصارى وغيرهم فإن عليه أن يبادر بالتخلص منهم وردهم إلى بلادهم بأسرع وقت، ولا يجب على المرأة المسلمة أن تتحجب عن المرأة الكافرة في أصح قولي العلماء، وذهب بعض أهل العلم إلى وجوب احتجاب المرأة المسلمة عن المرأة الكافرة مستدلين بقوله سبحانه في سورة النور لما نهى الله سبحانه المؤمنات عن إبداء الزينة إلا لبعولتهن، قال تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} (1) . . إلى أن قال تعالى: {أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} (2) قال بعض أهل العلم: يعني بنسائهن المؤمنات، فإذا كانت
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة النور الآية 31(6/360)
النساء كافرات فإن المؤمنة لا تبدي زينتها لهن، وقال آخرون: بنسائهن جنس النساء مؤمنات أو غير مؤمنات، وهذا هو الأصح فليس على المرأة المؤمنة أن تحتجب عن المرأة الكافرة لما ثبت أن اليهوديات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وهكذا الوثنيات يدخلن على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر أنهن كن يحتجبن عنهن، ولو كان هذا واقعا من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أو من غيرهن لنقل؛ لأن الصحابة لم يتركوا شيئا إلا نقلوه رضي الله عنهم وهذا هو المختار والأرجح.(6/362)
حكم شرب الدخان وبيعه والاتجار به
س: ما حكم شرب الدخان؟ وهل هو حرام أم مكروه؟ وما حكم بيعه والاتجار فيه؟
ع. ح. ع. ح.
جـ: الدخان محرم لكونه خبيثا ومشتملا على أضرار كثيرة والله سبحانه وتعالى إنما أباح لعباده الطيبات من المطاعم والمشارب وغيرها وحرم عليهم الخبائث.
قال الله سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (1) وقال سبحانه في وصف نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في سورة الأعراف: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (2) والدخان بأنواعه كلها ليس من الطيبات، بل هو من الخبائث وهكذا جميع المسكرات كلها من الخبائث، والدخان لا يجوز شربه ولا بيعه ولا التجارة فيه لما في ذلك من المضار العظيمة والعواقب الوخيمة.
والواجب على من كان يشربه أو يتجر فيه البدار بالتوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى والندم على ما مضى والعزم على ألا يعود في ذلك، ومن تاب صادقا تاب الله عليه كما قال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) وقال سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «التوبة تجب ما كان قبلها» وقال عليه الصلاة والسلام: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (5) » .
ونسأل الله أن يصلح حال المسلمين وأن يعيذهم من كل ما يخالف شرعه إنه سميع مجيب.
__________
(1) سورة المائدة الآية 4
(2) سورة الأعراف الآية 157
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة طه الآية 82
(5) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .(6/362)
إنكار على وضع لائحات تدعو إلى الدخان والتشجيع عليه
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم سمو الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز أمير منطقة المدينة المنورة. وفقه الله آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . .
بعده حفظكم الله لا يخفى على سموكم أن الحكومة وفقها الله قد منعت الإعلان عن الدخان في الصحف، وحذرت من التشجيع عليه وشددت في ذلك، وقد علمت هذه الأيام أن كثيرا من أهل البقالات وغيرهم يضعون لائحات تدعو إلى الدخان وتشجع عليه، كما علمت أن كثيرا من الصبيان وغيرهم يطوفون بالدخان على أبواب المسجد النبوي عند خروج الناس من الصلاة يدعون الناس إلى شراء الدخان ويشجعون على استعماله.
فأرجو من سموكم الكريم التأكيد على الجهات المختصة بمنع هذا وأمثاله والتشديد في ذلك، وفرض عقوبة على من يخالف الأوامر حماية للمسلمين من شر هذه الشجرة الخبيثة، وحفظا لدينهم وصحتهم وأموالهم من ذلك وتنفيذا لأوامر الحكومة المشددة في هذا الأمر. شكر الله سعيكم ونصر بكم دينه وبارك في جهودكم إنه خير مسئول. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(6/363)
أسئلة وأجوبتها (1)
السؤال الأول: هل يجوز للمرأة أن تقرأ القرآن الكريم في أيام عذرها؟ وهل لها أن تقرأ القرآن الكريم إذا أوت إلى النوم وتقرأ آية الكرسي بدون أن تلمس المصحف؟ نرجو من سماحة الشيخ أن يتفضل بإشباع هذا الموضوع حتى نكون فيه على بصيرة.
ج: الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله، أما بعد: فقد سبق أن تكلمت في هذا الموضوع غير مرة وبينت أنه لا بأس ولا حرج أن تقرأ المرأة وهي حائض أو نفساء ما تيسر من القرآن عن ظهر قلب؛ لأن الأدلة الشرعية دلت على ذلك وقد اختلف العلماء رحمة الله عليهم في هذا:
فمن أهل العلم من قال: إنها لا تقرأ كالجنب واحتجوا بحديث ضعيف رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (2) » وهذا الحديث ضعيف عند أهل العلم، لأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين، وروايته عنهم ضعيفة.
وبعض أهل العلم قاسها على الجنب قال: كما أن الجنب لا يقرأ فهي كذلك. لأن عليها حدثا أكبر يوجب الغسل، فهي مثل الجنب.
والجواب عن هذا أن هذا قياس غير صحيح، لأن حالة الحائض والنفساء غير حالة الجنب، الحائض والنفساء مدتهما تطول وربما شق عليهما ذلك وربما نسيتا الكثير من حفظهما للقرآن الكريم، أما الجنب فمدته يسيرة متى فرغ من حاجته اغتسل وقرأ، فلا يجوز قياس الحائض والنفساء عليه، والصواب من قولي العلماء أنه لا حرج على الحائض والنفساء أن تقرأ ما تحفظان من القرآن، ولا حرج أن تقرأ الحائض والنفساء آية الكرسي عند النوم، ولا حرج أن تقرأ ما تيسر من القرآن في جميع الأوقات عن ظهر قلب، هذا هو الصواب، وهذا هو الأصل، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة لما حاضت في حجة الوداع قال لها: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري (3) » ولم ينهها عن
__________
(1) من برنامج نور على الدرب رقم الشريط 32.
(2) سنن الترمذي الطهارة (131) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596) .
(3) صحيح البخاري الحيض (305) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) ، موطأ مالك الحج (941) ، سنن الدارمي المناسك (1846) .(6/364)
قراءة القرآن.
ومعلوم أن المحرم يقرأ القرآن. فيدل ذلك على أنه لا حرج عليها في قراءته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما منعها من الطواف؛ لأن الطواف كالصلاة وهي لا تصلي وسكت عن القراءة، فدل ذلك على أنها غير ممنوعة من القراءة ولو كانت القراءة ممنوعة لبينها لعائشة ولغيرها من النساء في حجة الوداع وفي غير حجة الوداع.
ومعلوم أن كل بيت في الغالب لا يخلو من الحائض والنفساء، فلو كانت لا تقرأ القرآن لبينه صلى الله عليه وسلم للناس بيانا عاما واضحا حتى لا يخفى على أحد، أما الجنب فإنه لا يقرأ القرآن بالنص ومدته يسيرة متى فرغ تطهر وقرأ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحيانه إلا إذا كان جنبا انحبس عن القرآن حتى يغتسل عليه الصلاة والسلام كما قال علي رضي الله عنه: «كان عليه الصلاة والسلام لا يحجبه شيء عن القرآن سوى الجنابة» . وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ بعدما خرج من محل الحاجة، فقد قرأ وقال: «هذا لمن ليس جنبا أما الجنب فلا ولا آية (1) » فدل ذلك على أن الجنب لا يقرأ حتى يغتسل.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/110) .(6/365)
السؤال الثاني: لي أخت في العقد الخامس من عمرها ولها ابن من شدة حبها له تتغاضى كثيرا عن مخالفاته لأمر دينه ولأمور تتعلق بالأخلاق، وتقول إن هذا شأن كثير من الوالدات وبعض الآباء. أرجو التوجيه في هذا لو تكرمتم وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الواجب على المسلم أن يتقي الله في نفسه وفي أهل بيته وفي جيرانه وفي كل شئونه ومع كل المسلمين؛ وذلك بدعوتهم إلى الله وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وألا تأخذه في الله لومة لائم، هذا هو الواجب على كل مسلم، فلا يدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجل قرابة قريب أو محبة شخص، بل من حبه لقريبه ومن صلته له الصلة الحقيقية التي يؤجر عليها أن يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر كما قال عز وجل: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (1) فالواجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يتقي الله، وأن يؤدي الحق الذي عليه مع القريب والبعيد يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (2) الآية،
__________
(1) سورة الأنعام الآية 152
(2) سورة النساء الآية 135(6/365)
ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (1) فالواجب على المؤمن والمؤمنة أن ينصح كل منهما قريبه وغيره، وأن ينكر المنكر، وأن يأمر بالمعروف مع الأقرباء وغيرهم، فإن من أهم المهمات أن ينصح قريبه وأن يوجهه إلى الخير وهذا أعظم من صلته بالمال إن كان يصله بالمال ويؤجر على صلة الرحم، فكونه يصله بتوجيهه للخير أو تعليمه الخير وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أهم من صلته بالمال، لأن توجيهه إلى الخير ينفعه في الدنيا والآخرة، فليس لأختك ولا لغيرها أن تدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحبها لولدها أو لأخيها أو لأختها أو غيرهم، بل يجب عليها أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بالطرق التي تراها مفيدة مجدية، وبالأساليب الحسنة حتى تنجح إن شاء الله في عملها وتبرأ ذمتها.
__________
(1) سورة التحريم الآية 6(6/366)
السؤال الثالث: يقول السائل كثر كلام الناس واختلف حول قبر سيدنا الحسين أين مكانه؟ وهل يستفيد المسلمون من معرفة مكانه بالتحديد؟
الجواب: بالواقع قد اختلف الناس في ذلك، فقيل: إنه دفن في الشام، وقيل: في العراق، والله أعلم بالواقع. أما رأسه فاختلف فيه؛ فقيل: في الشام، وقيل: في العراق، وقيل: في مصر، والصواب أن الذي في مصر ليس قبرا له، بل هو غلط وليس به رأس الحسين، وقد ألف في ذلك بعض أهل العلم، وبينوا أنه لا أصل لوجود رأسه في مصر ولا وجه لذلك، وإنما الأغلب أنه في الشام؛ لأنه نقل إلى يزيد بن معاوية وهو في الشام، فلا وجه للقول بأنه نقل إلى مصر، فهو إما حفظ في الشام في مخازن الشام، وإما أعيد إلى جسده في العراق.
وبكل حال فليس للناس حاجة في أن يعرفوا أين دفن وأين كان، وإنما المشروع الدعاء له بالمغفرة والرحمة، غفر الله له ورضي عنه، فقد قتل مظلوما فيدعى له بالمغفرة والرحمة، ويرجى له خير كثير، وهو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة، كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهما وأرضاهما، ومن عرف قبره وسلم عليه ودعا له فلا بأس، كما تزار القبور الأخرى، من(6/366)
غير غلو فيه ولا عبادة له، ولا يجوز أن تطلب منه الشفاعة ولا غيرها كسائر الأموات؛ لأن الميت لا يطلب منه شيء وإنما يدعى له ويترحم عليه إذا كان مسلما، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (1) » .
فمن زار قبر الحسين أو الحسن أو غيرهما من المسلمين للدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار لهم كما يفعل مع بقية قبور المسلمين - فهذا سنة، أما زيارة القبور لدعاء أهلها أو الاستعانة بهم أو طلبهم الشفاعة - فهذا من المنكرات، بل من الشرك الأكبر، ولا يجوز أن يبنى عليها مسجد ولا قبة ولا غير ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » متفق على صحته، ولما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن تجصيص القبور وعن القعود عليها وعن البناء عليها (3) » ، فلا يجوز أن يجصص القبر أو يطيب أو توضع عليه الستور أو يبنى عليه، فكل هذا ممنوع ومن وسائل الشرك، ولا يصلى عنده لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (4) » خرجه مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وهذا الحديث يدل على أنه لا تجوز الصلاة عند القبور ولا اتخاذها مساجد؛ ولأن ذلك وسيلة للشرك وأن يعبدوا من دون الله بدعائهم والاستغاثة بهم والنذر لهم والتمسح بقبورهم طلبا لبركتهم، فلهذا حذر النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك، وإنما تزار القبور زيارة شرعية فقط، للسلام عليهم والدعاء لهم والترحم عليهم من دون شد رحل لذلك. والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (529) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(3) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2029) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1562) ، مسند أحمد بن حنبل (3/332) .
(4) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(6/367)
السؤال الخامس (1) : ما حكم من يدعي أنه قد رأى رب العزة في المنام؟ وهل كما يزعم البعض أن الإمام أحمد بن حنبل قد رأى رب العزة والجلال في المنام أكثر من مائة مرة؟
ج: ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وآخرون أنه يمكن أنه يرى الإنسان ربه في المنام، ولكن يكون ما رآه ليس هو الحقيقة؛ لأن الله لا يشبهه شيء سبحانه وتعالى، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) فليس يشبهه
__________
(1) السؤال الرابع والجواب عليه نقل إلى باب النكاح.
(2) سورة الشورى الآية 11(6/367)
شيء من مخلوقاته، لكن قد يرى في النوم أنه يكلمه ربه، ومهما رأى من الصور فليست هي الله جل وعلا؛ لأن الله لا يشبهه شيء سبحانه وتعالى، فلا شبيه له ولا كفو له.
وذكر الشيخ تقي الدين رحمه الله في هذا أن الأحوال تختلف بحسب حال العبد الرائي، وكل ما كان الرائي من أصلح الناس وأقربهم إلى الخير كانت رؤيته أقرب إلى الصواب والصحة، لكن على غير الكيفية التي يراها، أو الصفة التي يراها؛ لأن الأصل الأصيل أن الله لا يشبهه شيء سبحانه وتعالى.
ويمكن أن يسمع صوتا ويقال له كذا وافعل كذا، ولكن ليس هناك صورة مشخصة يراها تشبه شيئا من المخلوقات؛ لأنه سبحانه ليس له شبيه ولا مثيل سبحانه وتعالى، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى ربه في المنام، من حديث معاذ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى ربه، وجاء في عدة طرق أنه رأى ربه، وأنه سبحانه وتعالى وضع يده بين كتفيه حتى وجد بردها بين ثدييه، وقد ألف في ذلك الحافظ ابن رجب رسالة سماها: " اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى " وهذا يدل على أن الأنبياء قد يرون ربهم في النوم، فأما رؤية الرب في الدنيا بالعيان فلا.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يرى أحد ربه حتى يموت، أخرجه مسلم في صحيحه. ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك قال: «رأيت نورا (1) » وفي لفظ «نور أنى أراه (2) » رواهما مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن ذلك فأخبرت أنه لا يراه أحد في الدنيا؛ لأن رؤية الله في الجنة هي أعلى نعيم المؤمنين، فهي لا تحصل إلا لأهل الجنة ولأهل الإيمان في الدار الآخرة، وهكذا المؤمنون في موقف يوم القيامة، والدنيا دار الابتلاء والامتحان ودار الخبيثين والطيبين، فهي مشتركة فليست محلا للرؤية؛ لأن الرؤية أعظم نعيم للرائي فادخرها الله لعباده المؤمنين في دار الكرامة وفي يوم القيامة، وأما الرؤيا في النوم التي يدعيها الكثير من الناس فهي تختلف بحسب الرائي - كما قال شيخ الإسلام رحمه الله - بحسب صلاحهم وتقواهم؛ وقد يخيل لبعض الناس أنه رأى ربه وليس كذلك، فإن الشيطان قد يخيل لهم ويوهمهم أنه ربهم، كما روي أنه تخيل لعبد القادر الجيلاني على
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (178) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (178) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3282) ، مسند أحمد بن حنبل (5/175) .(6/368)
عرش فوق الماء، وقال أنا ربك وقد وضعت عنك التكاليف، فقال الشيخ عبد القادر: إخسأ يا عدو الله لست بربي؛ لأن أوامر ربي لا تسقط عن المكلفين، أو كما قال رحمه الله، والمقصود أن رؤية الله عز وجل يقظة لا تحصل في الدنيا لأحد من الناس حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما تقدم في حديث أبي ذر، وكما دل على ذلك قوله سبحانه لموسى عليه الصلاة والسلام لما سأل ربه الرؤية. قال له: {لَنْ تَرَانِي} (1) الآية، لكن قد تحصل الرؤية في المنام للأنبياء وبعض الصالحين على وجه لا يشبه فيها سبحانه الخلق، كما تقدم في حديث معاذ رضي الله عنه، وإذا أمره بشيء يخالف الشرع فهذا علامة أنه لم ير ربه وإنما رأى شيطانا، فلو رآه وقال له: لا تصل قد أسقطت عنك التكاليف، أو قال: ما عليك زكاة أو ما عليك صوم رمضان أو ما عليك بر والديك أو قال لا حرج عليك في أن تأكل الربا. . . فهذه كلها وأشباهها علامات على أنه رأى شيطانا وليس ربه. أما عن رؤية الإمام أحمد لربه لا أعرف صحتها، وقد قيل: إنه رأى ربه، ولكني لا أعلم صحة ذلك.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 143(6/369)
أسئلة والأجوبة عليها (1)
س 1: قرأت حديثا فما مدى صحته؟ وهو: من كان اسمه محمدا فلا تضربه ولا تشتمه.
ج: هذا الحديث مكذوب وموضوع على الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس لذلك أصل في السنة المطهرة، وهكذا قول من قال: من سمى محمدا فإنه له ذمة من محمد ويوشك أن يدخله بذلك الجنة وهكذا من قال: من كان اسمه محمدا فإن بيته يكون لهم كذا وكذا فكل هذه الأخبار لا أساس لها من الصحة، فالاعتبار باتباع محمد، وليس باسمه صلى الله عليه وسلم، فكم ممن سمي محمدا وهو خبيث؛ لأنه لم يتبع محمدا ولم ينقد لشريعته، فالأسماء لا تطهر الناس، وإنما تطهرهم أعمالهم الصالحة وتقواهم لله جل وعلا، فمن تسمى بأحمد أو بمحمد أو بأبي القاسم وهو كافر أو فاسق لم ينفعه ذلك، بل الواجب على العبد أن يتقي الله ويعمل بطاعة الله ويلتزم بشريعة الله التي بعث بها نبيه محمدا، فهذا هو الذي ينفعه، وهو طريق النجاة والسلامة، أما مجرد الأسماء من دون عمل بالشرع المطهر فلا يتعلق به نجاة ولا عقاب. ولقد أخطأ البوصيري في بردته حيث قال:
فإن لي ذمة منه بتسميتي ... محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم
وأخطأ خطأ أكبر من ذلك بقوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
فجعل هذا المسكين لياذه في الآخرة بالرسول صلى الله عليه وسلم دون الله عز وجل، وذكر أنه
__________
(1) من برنامج نور على الدرب.(6/370)
هالك إن لم يأخذ بيده، ونسي الله سبحانه الذي بيده الضر والنفع والعطاء والمنع وهو الذي ينجي أولياءه وأهل طاعته، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم هو مالك الدنيا والآخرة، وأنها بعض جوده، وجعله يعلم الغيب، وأن من علومه علم ما في اللوح والقلم، وهذا كفر صريح وغلو ليس فوقه غلو، نسأل الله العافية والسلامة.
فإن كان مات على ذلك ولم يتب فقد مات على أقبح الكفر والضلال، فالواجب على كل مسلم أن يحذر هذا الغلو، وألا يغتر بالبردة وصاحبها. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.(6/371)
س2: ما صحة حديث سمعته عن النبي صلى الله عليه وسلم: تعلموا السحر ولا تعملوا به؟
جـ: هذا الحديث باطل لا أصل له، ولا يجوز تعلم السحر ولا العمل به وذلك منكر بل كفر وضلال، وقد بين الله إنكاره للسحر في كتابه الكريم في قوله تعالى: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون، فأوضح سبحانه في هذه الآيات أن السحر كفر وأنه من تعليم الشياطين، وقد ذمهم الله على ذلك وهم أعداؤنا، ثم بين أن تعليم السحر كفر، وأنه يضر ولا ينفع، فالواجب الحذر منه؛ لأن تعلم السحر كله كفر، ولهذا أخبر عن الملكين أنهما لا يعلمان الناس حتى يقولا للمتعلم إنما نحن فتنة فلا تكفر، ثم قال: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (1) فعلم أنه كفر وضلال وأن السحرة لا يضرون أحدا إلا بإذن الله، والمراد بذلك إذنه سبحانه الكوني القدري لا الشرعي الديني؛ لأنه سبحانه لم يشرعه ولم يأذن فيه
__________
(1) سورة البقرة الآية 102(6/371)
شرعا بل حرمه ونهى عنه، وبين أنه كفر ومن تعليم الشياطين كما أوضح سبحانه أن من اشتراه أي اعتاضه وتعلمه ليس له في الآخرة من خلاق؛ أي من حظ ولا نصيب، وهذا وعيد عظيم، ثم قال سبحانه: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (1) والمعنى باعوا أنفسهم للشيطان بهذا السحر، ثم قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (2) فدل ذلك على أن تعلم السحر والعمل به ضد الإيمان والتقوى ومناف لهما، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) سورة البقرة الآية 102
(2) سورة البقرة الآية 103(6/372)
س3: إذا توفي واحد عندنا في السودان بعد أربعين يوما تقوم الأسرة بزيارة القبر النساء والأولاد يفتحون القبر ومعهم حبوب ذرة ينشرونها على الميت ويرمون فيما أعتقد حجارة على الميت، وهل الحريم يزرن القبر؟
جـ: هذا بدعة لا أصل له في الشرع، فرمي الحبوب والطيب والملابس كله منكر لا أصل له، فالقبر لا يفتح إلا لحاجة كأن ينسى العمال أدواتهم كالمسحاة فيفتح لأجل ذلك أو يسقط لأحدهم شيء له أهمية فيفتح القبر لذلك، أما أن يفتح للحبوب أو ملابسه أو نحو ذلك فلا يجوز، وليس للنساء زيارة القبر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور، وروي ذلك عن أبي هريرة وابن عباس وحسان بن ثابت رضي الله عنهم، فلا يجوز لهن زيارتها، لكنها مشروعة للرجال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (1) » رواه مسلم في صحيحه.
والحكمة - والله أعلم - في نهي النساء عن ذلك هي أنهن فتنة وقليلات الصبر.
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .(6/372)
س 4: لو طلب مني رجل مسيحي مصحفا هل أعطيه أو لا؟
ج: ليس لك أن تعطيه، ولكن تقرأ عليه القرآن، وتسمعه القرآن، وتدعوه إلى الله وتدعو له بالهداية؛ لقوله تعالى في كتابه العزيز: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسافروا
__________
(1) سورة التوبة الآية 6(6/372)
بالقرآن إلى أرض العدو لئلا تناله أيديهم (1) » فدل ذلك على أنه لا يعطى الكافر المصحف خشية أن يهينه أو يعبث به، ولكن يعلم ويقرأ عليه القرآن ويوجه ويدعى له، فإذا أسلم سلم له المصحف، ولا مانع أن يعطى بعض كتب التفسير أو بعض كتب الحديث إذا رجي انتفاعه بذلك أو بعض تراجم معاني القرآن الكريم.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/6) .(6/373)
س5: حدثونا لو تكرمتم عما وعد الله به الصابرين في الدنيا والآخرة، والعاملين في الآخرة، وسبق أن سأل عما يجب على الإنسان أن يفعله تجاه هذه الدنيا وحبها ومتاعها؟
جـ: نعم إن الله خلق الخلق لعبادته، أي ليعبدوه وحده لا شريك له، ليعبدوه وحده بأن يطيعوا أوامره وينتهوا عن نواهيه، ويكثروا من ذكره، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وعبادته هي توحيده سبحانه بدعائه وبخوفه ورجائه والصلاة والصيام وغير ذلك وطاعة أوامره واجتناب نواهيه، ووعدهم في الدنيا الخير الكثير والعاقبة الحميدة ووعدهم في الآخرة بالجنة والكرامة، قال تعالى {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (2) وقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (3) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (4) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (5) وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر (6) » ، فالصابر له العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، أو له العاقبة الحميدة في الآخرة إذا صبر على تقوى الله سبحانه وطاعته وصبر على ما ابتلي به من شظف العيش والفاقة أو الفقر والمرض وتسديد بعض العازات، والصبر عاقبته حميدة، قال تعالى في حق بعض المؤمنين وعدوهم: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (7)
الصبر له عواقب حميدة إذا صبر على طاعة الله وعلى مصائب الدنيا، وإذا استقام على أمر الله فإن له النعيم في الآخرة، فالصابر مرتاح الضمير والقلب، جاهد
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة هود الآية 49
(3) سورة البقرة الآية 155
(4) سورة البقرة الآية 156
(5) سورة البقرة الآية 157
(6) صحيح البخاري الزكاة (1469) ، صحيح مسلم الزكاة (1053) ، سنن الترمذي البر والصلة (2024) ، سنن النسائي الزكاة (2588) ، سنن أبو داود الزكاة (1644) ، مسند أحمد بن حنبل (3/94) ، موطأ مالك الجامع (1880) ، سنن الدارمي الزكاة (1646) .
(7) سورة آل عمران الآية 120(6/373)
نفسه بالله وصبر على ما ابتلي به من الفقر والأعمال الشاقة، وفي الآخرة في دار النعيم مع الإيمان والتقوى. والله أعلم.(6/374)
نصيحة لمن يدعو لحلق الذقن (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم رئيس تحرير جريدة عكاظ حفظه الله
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعده
فقد نشر في العدد الصادر بتاريخ 18 شعبان سنة 1393 هـ من جريدتكم في صفحة: (مجتمعنا) كلمة قصيرة بعنوان: (الإهمال تدمير للحياة الزوجية) وقد جاء فيها: (وبالمثل قد يصيب الإهمال الرجل الزوج فلا يحلق ذقنه يوم العطلة فيبدو رثا مهلهلا مكتئبا) وبما أن هذا قول منكر، ودعوة إلى مخالفة السنة النبوية تنشر علنا في صحيفتكم رأيت أن من الواجب الكتابة لكم نصحا لكم وللمسلمين، وحذرا من العقوبة.
ومعلوم لكل عاقل ذي بصيرة أن خير القرون قرن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في ذلك القرن من يحلق ذقنه من الصحابة الكرام رضي الله عنهم اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وامتثالا لأمره حيث قال: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس (2) » خرجه مسلم في صحيحه، وقوله عليه الصلاة والسلام: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين (3) » متفق على صحته، وحذرا من الوقوع في مخالفته صلى الله عليه وسلم ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولكنه التقليد الأعمى لأعداء الله والزهد في تعاليم الشريعة السمحة جعل الكثير من الناس يقع في استبدال الذي هو شر بالذي
__________
(1) صدر الخطاب في 7 \ 1 \ 1394 برقم 532 \ 1 \ 1.
(2) صحيح مسلم الطهارة (260) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .(6/374)
هو خير، ولم يقتصر ذلك على وقوعه في المحذور بمفرده بل تعدى ذلك إلى نشر الدعوة إليه كما جاء في جريدتكم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (1) »
فالواجب عليكم الحذر من نشر كل ما لا تقره الشريعة، والحرص على نشر هديها وتعاليمها، وأن تكون جريدتكم مفتاح هدى ودليل رشد، ولم أعلم بما ذكر إلا في 5 \ 1 \ 1394 هـ ولهذا تأخر التنبيه.
وفقنا الله وإياكم لما يرضيه وهدانا جميعا صراطه المستقيم وأعاذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة.
__________
(1) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .(6/375)
الإجابة الصريحة على المناقشة حول إعفاء اللحى وحلقها (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ م. د. ع. د، زاده الله من العلم والإيمان وجعله مباركا أينما كان آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ في 13 \ 10 \ 1394 هـ وصلكم الله بحبل الهدى والتوفيق، وما تضمنه من الإفادة من أنه جرى بينك وبين بعض المدرسين من خريجي الأزهر مذاكرة في حكم إعفاء اللحى وحلقها وتقصيرها ولم
__________
(1) صدر الخطاب من مكتب سماحته في 29 \ 10 \ 1394 هـ برقم 3097 \ 1 خ.(6/375)
يقتنع كل منكما بقول الآخر، ورغبتكم في الإجابة الصريحة الشافية في هذا الموضوع - كان معلوما؟
والجواب: قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بإعفاء اللحى وإرخائها من حديث ابن عمر في الصحيحين ومن حديث أبي هريرة في صحيح مسلم، وورد في ذلك أحاديث أخرى في غير الصحيحين وكلها تدل على وجوب إعفاء اللحى وإرخائها وتوفيرها كما تدل على تحريم حلقها وتقصيرها؛ لأن الأصل في الأوامر الوجوب والأصل في النهي التحريم، ولا يجوز لأحد أن يصرف النصوص عن أصلها وظاهرها إلا بحجة صحيحة يحسن الاعتماد عليها ولا حجة لمن أخرج هذه الأحاديث عن أصلها وظاهرها وقال: إنها لا تدل على الوجوب أو لا تدل على تحريم الحلق والتقصير.
أما الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها (1) » فهو حديث باطل عند أهل العلم؛ لأن في إسناده عمر بن هارون البلخي وهو من المتهمين بالكذب عند أكثر أئمة الحديث ونقاده كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب) وتقريبه، وكما ذكر ذلك الذهبي في (الميزان) .
وقد جمع أخونا العلامة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم العاصمي رحمه الله رسالة في هذه المسألة نشفع لكم نسختين منها، وأرجو أن يكون فيها وفيما ذكرنا الكفاية والجواب الشافي لسؤالكم، وأسأل الله أن يمنحنا وإياكم وسائر إخواننا الفقه في دينه، والثبات عليه، وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن إنه سميع قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2762) .(6/376)
العدل بين الأولاد (1)
ورد في الحديث: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم (2) » فهل المقصود المساواة المطلقة أم للذكر مثل حظ الأنثيين أسوة في الميراث، فالحديث على ما أظن يقول أكلهم أعطيتهم مثل ذلك فكلمة " مثل " إن صحت توحي بالمساواة المطلقة اللهم إلا إن كان يتكلم عن الذكور فقط، أفيدونا أفادكم الله.
جـ: الحديث صحيح رواه الشيخان عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن «أباه أعطاه غلاما، فقالت أمه: لا أرضى حتى يشهد رسول الله عليه الصلاة والسلام فذهب بشير بن سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما فعل فقال: أكل ولدك أعطيته مثل ما أعطيت النعمان. فقال: لا، فقال الرسول: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم (3) »
فدل ذلك على أنه لا يجوز تفضيل بعض الأولاد على بعض في العطايا أو تخصيص بعضهم بها فكلهم ولده، وكلهم يرجى بره، فلا يجوز أن يخص بعضهم بالعطية دون بعض، واختلف العلماء رحمة الله عليهم هل يسوى بينهم ويكون الذكر كالأنثى أم يفضل الذكر على الأنثى كالميراث على قولين لأهل العلم، والأرجح أن تكون العطية كالميراث، وأن التسوية تكون بجعل الذكر كالأنثيين، فإن هذا هو الذي جعله الله لهم في الميراث، وهو سبحانه الحكم العدل، فيكون المؤمن في عطيته لأولاده كذلك كما لو خلفه لهم بعد موته للذكر مثل حظ الأنثيين، وهكذا إذا أعطاهم في حال حياته يعطي الذكر مثل حظ الأنثيين، هذا هو العدل بالنسبة إليهم وبالنسبة إلى أمهم وأبيهم، وهذا هو الواجب على الأب والأم أن يعطوا الأولاد، وهكذا للذكر مثل حظ الأنثيين، وبذلك يحصل العدل والتسوية كما جعل الله ذلك عدلا في إرثهم من أبيهم وأمهم.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب شريط رقم 53.
(2) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587) ، سنن النسائي النحل (3681) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2375) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، موطأ مالك الأقضية (1473) .
(3) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587) ، صحيح مسلم الهبات (1623) ، سنن النسائي النحل (3681) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2375) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، موطأ مالك الأقضية (1473) .(6/377)
تحريم آنية الذهب والفضة (1)
س: هذه رسالة وردتنا من عبد الرحمن: ف. ع من الرياض، يقول انتشر في هذه الأيام استعمال آنية الذهب والفضة وخاصة بين الموسرين من الناس، بل وصل الأمر عند بعضهم إلى أن يشتري أطقما من المواد الصحية كخلاطات الحمامات أو المسابح أو مواسير المياه أو مساكاتها كلها من الذهب الخالص ولا يزكون هذا الذهب ولا ينظرون إلى قيمته، والمعلوم أن هذا ممنوع ما رأي سماحتكم في ذلك؟ وهل يمكن التوجيه بمنع بيع مثل هذه الأجهزة للمسلمين الذين يجهلون حكمها بارك الله فيكم؟
جـ: الأواني من الذهب والفضة محرمة بالنص والإجماع وقد ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة (2) » متفق على صحته من حديث حذيفة رضي الله عنه، وثبت أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم (3) » متفق على صحته من حديث أم سلمة رضي الله عنها وهذا لفظ مسلم.
فالذهب والفضة لا يجوز اتخاذهما أواني، ولا الأكل ولا الشرب فيها، وهكذا الوضوء والغسل، هذا كله محرم بنص الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
والواجب منع بيعها حتى لا يستعملها المسلم، وقد حرم الله عليه استعمالها فلا تستعمل في الشراب ولا في الأكل ولا في غيرهما، ولا يجوز أن يتخذ منها ملاعق ولا أكواب للقهوة أو الشاي كل هذا ممنوع؛ لأنها نوع من الأواني.
فالواجب على المسلم الحذر مما حرم الله عليه وأن يبتعد عن الإسراف والتبذير والتلاعب بالأموال، وإذا كان عنده سعة من الأموال فعنده الفقراء يتصدق عليهم، عنده المجاهدون في سبيل الله يعطيهم في سبيل الله يتصدق لا يلعب بالمال، المال له
__________
(1) من أسئلة نور على الدرب الإذاعي.
(2) صحيح البخاري الأطعمة (5426) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2067) ، سنن الترمذي الأشربة (1878) ، سنن النسائي الزينة (5301) ، سنن أبو داود الأشربة (3723) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3414) ، مسند أحمد بن حنبل (5/397) ، سنن الدارمي الأشربة (2130) .
(3) صحيح البخاري الأشربة (5634) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2065) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3413) ، مسند أحمد بن حنبل (6/301) ، موطأ مالك الجامع (1717) ، سنن الدارمي الأشربة (2129) .(6/378)
حاجة وله من هو محتاج، فالواجب على المؤمن أن يصرف المال في جهته الخيرية كمواساة الفقراء والمحاويج وفي تعمير المساجد والمدارس وفي إصلاح الطرقات، وفي إصلاح القناطر، وفي مساعدة المجاهدين والمهاجرين الفقراء، وفي غير ذلك من وجوه الخير كقضاء دين المدينين العاجزين، وتزويج من لا يستطيع الزواج كل هذه طرق خيرية يشرع الإنفاق فيها.
أما التلاعب بها في أواني الذهب والفضة أو ملاعق أو أكواب منها أو مواسير وأشباه ذلك كل هذا منكر يجب تركه والحذر منه، ويجب على من له شأن في البلاد التي فيها هذا العمل من العلماء والأمراء إنكار ذلك وأن يحولوا بين المسرفين وبين هذا التلاعب والله المستعان.(6/379)
حكم استعمال أشرطة الأفلام الخليعة وآلات التصوير بعد التوبة
س 1: رجل تاب إلى الله عز وجل وعنده فيديو وأشرطة وأفلام خليعة فهل يجوز له بيعها؟ وإذا كان لا يجوز بيعها فماذا يعمل بها؟ وهل يجوز أن يسجل فيها الخطب والبرامج والمشاهد المفيدة؟
جـ: نعم له أن يسجل فيها ما ينفعه ويمسح ما فيها من الباطل فيسجل فيها الطيب ويمحو الخبيث، أما بيعها فلا يجوز وهي على حالتها الرديئة؛ لأن ذلك يعتبر من التعاون على الإثم والعدوان.
س 2: رجل عنده استديو وكان فيه آلات التصوير، وعلم أن التصوير حرام فكيف يتصرف فيها، بحيث يمكنه السلامة من الخسارة؟ وإذا باعها على مسلم أليس يكون ذلك مساعدة على نشر المعصية؟ وما حكم ما يأتيه من كسب ذلك من المال هل يجوز صرفه عليه وعلى أهله؟(6/379)
جـ: هذا فيه تفصيل: فإن الأستوديو يصور الجائز والممنوع، فإذا صور فيه ما هو جائز من السيارات والطائرات والجبال وغيرها مما ليس فيه روح فلا بأس أن يبيع ذلك ويصور هذه الأشياء التي قد يحتاج إليها الناس وليس فيها روح، أما تصوير ذوات الأرواح من بني الإنسان أو الدواب والطيور فلا يجوز إلا للضرورة كما لو صور شيئا مما يضطر إليه الناس كالتابعية التي يحتاجها الناس وتسمى حفيظة النفوس فلا بأس، وهكذا جواز السفر والشهادة العلمية التي لا تحصل إلا بالصورة، وهكذا تصوير المجرمين ليعرفوا ويتحرز من شرهم وهكذا أشباه ذلك مما تدعو إليه الضرورة لقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) والمقصود أنه لا يستعمل فيه إلا الشيء الجائز وإذا باعه على الناس فلا بأس ببيعه؛ لأنه يستخدم في الطيب والخبيث، مثل بيع الإنسان السيف والسكين وأشباههما مما يستعمل في الخير والشر، والإثم على من استعملها في الشر لكن من علم أن المشتري للسكين أو السيف أو نحوهما يستعملها في الشر حرم بيعها عليه.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119(6/380)
س 3: رجل تشارك مع آخر في دكان لآلات التصوير وقد تاب فكيف ينهي شراكته فيه بحيث لا يخسر؟ وما حكم ما يأتيه من كسب هذا الدكان؟
جـ: ينهي الشراكة بالتقويم ويصطلح هو وإياه على القيمة التي يرضاها الشخصان جميعا وما دخل عليه من ذلك فهو مباح له إلا إذا كان شيء من ذلك قيمة لتصوير ذوات الأرواح أو شيء من المحرمات الأخرى فلا يجوز له أكل ذلك بل عليه أن يتصدق به أو يصرفه في مشروع خيري.(6/380)
الجمع بين حديثين متعلقين
بالرقى والتمائم والتولة (1)
س: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (2) » وعن جابر رضي الله عنه قال: «كان لي خال يرقي من العقرب فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، قال فأتاه فقال: يا رسول الله إنك نهيت عن الرقى وأنا أرقي من العقرب فقال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل (3) » ، ما هو الجمع بين أحاديث المنع والجواز في موضوع الرقى؟ وما حكم تعليق الرقى من القرآن على صدر المبتلى؟ ع. س. ف. من الرياض
الجواب: الرقى المنهي عنها هي الرقى التي فيها شرك، أو توسل بغير الله، أو ألفاظ مجهولة لا يعرف معناها، أما الرقى السليمة من ذلك فهي مشروعة ومن أعظم أسباب الشفاء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (4) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه (5) » خرجهما مسلم في صحيحه، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا رقية إلا من عين أو حمة (6) » ومعناه، لا رقية أولى وأشفى من الرقية من هذين الأمرين وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم ورقي.
أما تعليق الرقى على المرضى أو الأطفال فذلك لا يجوز، وتسمى الرقى المعلقة: (التمائم) وتسمى الحروز والجوامع؛ والصواب فيها أنها محرمة ومن أنواع الشرك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له (7) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «من تعلق تميمة فقد أشرك (8) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (9) » .
واختلف العلماء في التمائم إذا كانت من القرآن أو من الدعوات المباحة هل هي محرمة أم لا؟ والصواب تحريمها لوجهين:
__________
(1) نشر في كتاب الدعوة جـ 1 ص 20 - 21.
(2) سنن أبو داود الطب (3883) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) .
(3) صحيح مسلم السلام (2199) ، سنن ابن ماجه الطب (3515) .
(4) صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبو داود الطب (3886) .
(5) صحيح مسلم السلام (2199) .
(6) سنن الترمذي الطب (2057) ، سنن أبو داود الطب (3884) ، مسند أحمد بن حنبل (4/446) .
(7) مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(8) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .
(9) سنن أبو داود الطب (3883) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) .(6/381)
أحدهما: عموم الأحاديث المذكورة، فإنها تعم التمائم من القرآن وغير القرآن. والوجه الثاني: سد ذريعة الشرك فإنها إذا أبيحت التمائم من القرآن اختلطت بالتمائم الأخرى واشتبه الأمر وانفتح باب الشرك بتعليق التمائم كلها، ومعلوم أن سد الذرائع المفضية إلى الشرك والمعاصي من أعظم القواعد الشرعية.
والله ولي التوفيق.(6/382)
أسئلة متفرقة والأجوبة عليها حكم إطالة الثوب سواء كان للخيلاء أو بحكم العادة
س: ما حكم إطالة الثوب إن كان للخيلاء أو لغير الخيلاء؟ وما الحكم إذا اضطر الإنسان إلى ذلك سواء إجبارا من أهله إن كان صغيرا أو جرت العادة على ذلك؟
الجواب: حكمه التحريم في حق الرجال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار (1) » رواه البخاري في صحيحه، وروى مسلم في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان فيما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب (2) »
وهذان الحديثان وما في معناهما يعمان من أسبل ثيابه تكبرا أو لغير ذلك من الأسباب، لأنه صلى الله عليه وسلم عمم وأطلق ولم يقيد، وإذا كان الإسبال من أجل الخيلاء صار الإثم أكبر والوعيد أشد لقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة (3) » ولا يجوز أن يظن أن المنع من الإسبال مقيد بقصد الخيلاء؛ لأن الرسول لم يقيد ذلك عليه الصلاة
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5787) ، سنن النسائي الزينة (5331) ، مسند أحمد بن حنبل (2/461) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (106) ، سنن الترمذي البيوع (1211) ، سنن النسائي الزكاة (2563) ، سنن أبو داود اللباس (4087) ، سنن ابن ماجه التجارات (2208) ، مسند أحمد بن حنبل (5/162) ، سنن الدارمي البيوع (2605) .
(3) صحيح البخاري المناقب (3665) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2085) ، سنن الترمذي اللباس (1731) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، سنن ابن ماجه اللباس (3569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/67) ، موطأ مالك الجامع (1696) .(6/382)
والسلام في الحديثين المذكورين آنفا، كما أنه لم يقيد ذلك في الحديث الآخر وهو قوله لبعض أصحابه «وإياك والإسبال فإنه من المخيلة (1) » ، فجعل الإسبال كله من المخيلة، لأنه في الغالب لا يكون إلا كذلك، ومن لم يسبل للخيلاء فعمله وسيلة لذلك، والوسائل لها حكم الغايات، ولأن ذلك إسراف وتعريض لملابسه للنجاسة والوسخ، ولهذا ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه لما رأى شابا يمس ثوبه الأرض قال له: ارفع ثوبك فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك.
أما قوله لأبي بكر الصديق رضي الله عنه لما قال: «يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده فقال له صلى الله عليه وسلم: إنك لست ممن يفعله خيلاء (2) » فمراده صلى الله عليه وسلم أن من يتعاهد ملابسه إذا استرخت حتى يرفعها لا يعد ممن يجر ثيابه خيلاء لكونه لم يسبلها، وإنما قد تسترخي عليه فيرفعها ويتعاهدها ولا شك أن هذا معذور، أما من يتعمد إرخاءها سواء كانت بشتا أو سراويل أو إزارا أو قميصا فهو داخل في الوعيد وليس معذورا في إسباله ملابسه، لأن الأحاديث الصحيحة المانعة من الإسبال نعمة بمنطوقها وبمعناها ومقاصدها فالواجب على كل مسلم أن يحذر الإسبال وأن يتقي الله في ذلك، وألا تنزل ملابسه عن كعبه عملا بهذا الحديث الصحيح، وحذرا من غضب الله وعقابه. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن أبو داود اللباس (4084) ، مسند أحمد بن حنبل (3/483) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5784) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، مسند أحمد بن حنبل (2/147) .(6/383)
حكم من يقصر ثوبه ويطول سرواله
س: بعض الناس يقومون بتقصير ثيابهم إلى ما فوق الكعب ولكن السراويل تبقى طويلة فما حكم ذلك؟
ج: الإسبال حرام ومنكر سواء كان ذلك في القميص أو الإزار أو السراويل أو البشت وهو ما تجاوز الكعبين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار (1) » . رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5787) ، سنن النسائي الزينة (5331) ، مسند أحمد بن حنبل (2/461) .(6/383)
القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المسبل إزاره والمنان فيما أعطى والمنفق سلعته بالحلف الكاذب (1) » خرجه مسلم في صحيحه، وقال صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: «إياك والإسبال فإنه من المخيلة» وهذه الأحاديث تدل على أن الإسبال من كبائر الذنوب، ولو زعم فاعله أنه لم يرد الخيلاء؛ لعمومها وإطلاقها، أما من أراد الخيلاء بذلك فإثمه أكبر وذنبه أعظم. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة (2) » ولأنه بذلك جمع بين الإسبال والكبر نسأل الله العافية من ذلك.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر لما قال له: «يا رسول الله إن إزاري يرتخي إلا أن أتعاهده فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لست ممن يفعله خيلاء (3) » فهذا الحديث لا يدل على أن الإسبال جائز لمن لم يرد به الخيلاء وإنما يدل على أن من ارتخى عليه إزاره أو سراويله من غير قصد الخيلاء فتعهد ذلك وأصلحه فإنه لا إثم عليه. وأما ما يفعله بعض الناس من إرخاء السراويل تحت الكعب فهذا لا يجوز، والسنة أن يكون القميص ونحوه ما بين نصف الساق إلى الكعب عملا بالأحاديث كلها.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (106) ، سنن الترمذي البيوع (1211) ، سنن النسائي الزكاة (2563) ، سنن أبو داود اللباس (4087) ، سنن ابن ماجه التجارات (2208) ، مسند أحمد بن حنبل (5/162) ، سنن الدارمي البيوع (2605) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3665) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2085) ، سنن الترمذي اللباس (1731) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، سنن ابن ماجه اللباس (3569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/67) ، موطأ مالك الجامع (1696) .
(3) صحيح البخاري اللباس (5784) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، مسند أحمد بن حنبل (2/147) ، موطأ مالك الجامع (1696) .(6/384)
دفع الرشوة للموظفين
س: سؤال من بلجرشي في المملكة العربية السعودية يقول السائل هل يجوز أن أدفع رشوة لأحد الموظفين أو المسئولين الذين يحكمون في القضايا مثل القضاة أو رؤساء اللجان التي تقوم بالكشف على أراضي أم ذلك حرام في حالة إذا لم يثبت حق الشخص إلا بتلك الرشوة، وإذا لم يدفعها فإنه يضيع حقه، وإذا دفعها فإنه يحصل على حقه من غير ظلم لشخص آخر، فهل يجوز هذا الأمر؟ وأين نذهب من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: «لعن الله الراشي والمرتشي والرائش (1) » ؟
جـ: لا يجوز دفع الرشوة لأحد من المسئولين سواء كانوا قضاة أو أمراء أو لجانا تفصل بين الناس، ولا شك أن ذلك حرام، وأنه من كبائر الذنوب؛ للحديث المذكور. ولأن ذلك وسيلة إلى ظلم وإضاعة حق من لم يدفع الرشوة.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/279) .(6/384)
الرجل الأخضر
س: أنا أومن بالله وحده لا شريك له، ولكنني سمعت بعض الناس يقولون يوجد رجل شديد البياض والثياب، ولا يرى عليه أثر السفر، هذا الرجل يدعى الرجل الأخضر وإذا أعطاك هذا الرجل شيئا تزيد بركة مالك، وإذا نزل في متجر زاد ربحه أفيدونا هل هذه الأمور معقولة أم هي من البدع؟
جـ: هذا القول قول باطل لا أساس له وهذا الرجل لا وجود له، ويدعي بعض الناس أن الخضر هو المقصود بهذا الرجل وهذا شيء لا صحة له، فالخضر قد مات قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم بمدة على الصحيح من أقوال أهل العلم. وهذه الخرافة التي ذكرتها كلها من وضع الشيطان لا أساس لها؛ فينبغي أن تعلم ذلك ولا تغتر بأقوال هؤلاء المشعوذين.(6/385)
من يذبح لأبيه وجده كل سنة
س: يوجد لي ابن عم يذبح لأبيه وجده بعد مضي كل حول، ونصحته أكثر من مرة ويقول لي إني سألت وقالوا ليس في ذلك إثم، أفيدونا هل هذا الكلام صحيح أم لا؟
جـ: إذا ذبح وقصد أضحية في يوم العيد وأيام النحر عن أبيه أو جده أو غيرهما فلا بأس، أو ذبح وقصد الصدقة عنهما على الفقراء في أي وقت فلا بأس؛ لأن الصدقة تنفع الميت والحي باللحوم وغير اللحوم من النقود والطعام وغير ذلك، كل ذلك ينفع الميت والحي، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه «سئل عن الرجل يتصدق لأمه بعد وفاتها أفلها أجر؟ فقال: نعم (1) » وفي صحيح مسلم رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (2) »
والخلاصة أن الصدقة للميت نافعة له بإجماع المسلمين، وهكذا الدعاء له فإذا أراد بهذه الذبيحة الصدقة بها عن أبيه أو جده أو غيرهما، أو ذبحها أضحية عنه في أيام النحر تقربا إلى الله سبحانه وتعالى - لكن ليس
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1388) ، صحيح مسلم الزكاة (1004) ، سنن النسائي الوصايا (3649) ، سنن أبو داود الوصايا (2881) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2717) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) ، موطأ مالك الأقضية (1490) .
(2) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .(6/385)
له أن يخص يوما معينا أو شهرا معينا بالذبح غير أيام النحر إلا إذا تحرى الأوقات الفاضلة كرمضان وتسع ذي الحجة - فلا بأس، وله أجر وللميت أجر، على حسب إخلاصه لله وكسبه الطيب، أما إذا أراد التقرب إليه كما يتقرب الذين يذبحون لأصحاب القبور أو الشمس أو القمر أو الجن فهذا شرك أكبر؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يتقرب إلى أحد بذبح أو نذر أو غيرهما من العبادات سوى الله سبحانه وتعالى لقول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) ولقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (3) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (4) ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لعن الله من ذبح لغير الله (5) » رواه مسلم في الصحيح، فالذبح للجن أو لأصحاب القبور أو غيرهما من المخلوقات كالأصنام والكواكب ونحوها يرجو الذابح شفاعتهم، أو أنهم ينفعوا به أو يدفعون عنه مرضا أو غيره منكر وشرك، وهكذا من ذبح لجده أو لأبيه يعتقد فيه أنه ينفعه أو يشفي مريضه أو يقربه إلى الله بهذا الذبح فهو مثل من يذبح للشمس أو للقمر والنجوم كل ذلك شرك نسأل الله السلامة.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة الكوثر الآية 1
(4) سورة الكوثر الآية 2
(5) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(6/386)
دعوة الوالد على الولد
س: رجل له ثلاثة أولاد لا يقصرون في طاعته وبره وهو يدعو عليهم، هل يضرهم دعاءه؟
جـ: لا ينبغي للمرء أن يدعو على أولاده بل ينبغي له أن يحذر ذلك؛ لأنه قد يوافق ساعة الإجابة فينبغي له ألا يدعو عليهم، وإذا كانوا صالحين كان الأمر أشد في تحريم الدعاء عليهم، أما إذا كانوا مقصرين فينبغي أيضا ألا يدعو عليهم، بل يدعو لهم بالهداية والصلاح والتوفيق، هكذا ينبغي أن يكون المؤمن، وجاءت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم تحذر المسلم من الدعاء على ولده أو على أهله أو على ماله لئلا يصادف ساعة الإجابة فيضر نفسه أو يضر أهله أو يضر ولده فينبغي لك أيها(6/386)
السائل أن تحفظ لسانك، وأن تؤكد على من تعلمه يتعاطى هذا الأمر بأن يحفظ لسانه، وأن يتقي الله في ذلك حتى لا يدعو على ولده ولا على غيره من المسلمين، بل يدعو لهم بالخير والسداد والاستقامة.(6/387)
حكم من سب الدين أو الرب
س: ما حكم سب الدين أو الرب؟ - أستغفر الله رب العالمين - هل من سب الدين يعتبر كافرا أو مرتدا وما هي العقوبة المقررة عليه في الدين الإسلامي الحنيف؟ حتى نكون على بينة من أمر شرائع الدين وهذه الظاهرة منتشرة بين بعض الناس في بلادنا أفيدونا أفادكم الله.
جـ: سب الدين من أعظم الكبائر ومن أعظم المنكرات وهكذا سب الرب عز وجل، وهذان الأمران من أعظم نواقض الإسلام، ومن أسباب الردة عن الإسلام، فإذا كان من سب الرب سبحانه أو سب الدين ينتسب للإسلام فإنه يكون مرتدا بذلك عن الإسلام، ويكون كافرا يستتاب فإن تاب وإلا قتل من جهة ولي أمر البلد بواسطة المحكمة الشرعية، وقال بعض أهل العلم إنه لا يستتاب بل يقتل؛ لأن جريمته عظيمة، ولكن الأرجح أنه يستتاب لعل الله يمن عليه بالهداية فيلزم الحق، ولكن ينبغي أن يعزر بالجلد والسجن حتى لا يعود لمثل هذه الجريمة العظيمة، وهكذا لو سب القرآن أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإن سب الدين أو سب الرسول أو سب الرب عز وجل من نواقض الإسلام، وهكذا الاستهزاء بالله أو برسوله أو بالجنة أو بالنار أو بأوامر الله كالصلاة والزكاة، فالاستهزاء بشيء من هذه الأمور من نواقض الإسلام، قال الله سبحانه: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) نسأل الله العافية.
__________
(1) سورة التوبة الآية 65
(2) سورة التوبة الآية 66(6/387)
نلعب الورق (البلوت)
والفائز منا يحصل على مائتي
ريال فهل هذا حرام
س: كثيرا ما نلعب مع بعض ذوي الأموال الكثيرة الورق (البلوت) والفائز منا يعطيه هؤلاء 200 ريال فهل هذا حرام ومن القمار؟ م - ع - أ
جـ: هذه اللعبة على الوجه المذكور حرام، ومن القمار، والقمار هو الميسر المذكور في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2)
فالواجب على كل مسلم أن يتقي الله ويحذر هذه اللعبة وغيرها من أنواع القمار. ليفوز بالفلاح وحسن العاقبة، والسلامة مما يترتب على هذه اللعبة من الشرور الكثيرة المذكورة في الآيتين.
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سورة المائدة الآية 91(6/388)
حكم الاستماع إلى الراديو ونحوه
س: ما حكم السماع إلى الراديو ونحوه إذا كان ما تسمعه أو تشاهده ليس فيه أمر محرم؟ ع - ع - أ - القصيم.
الجواب: لا حرج في سماع ما يذاع من الراديو من القرآن الكريم، أو الأحاديث المفيدة، أو الأخبار المهمة، وهكذا لا حرج فيما يسجل من القرآن الكريم، أو الأحاديث المفيدة والنصائح ونحو ذلك.
وأنصح بالعناية بسماع إذاعة القرآن وبرنامج نور على الدرب لما في ذلك من الفوائد العظيمة.(6/389)
حكم استماع بعض البرامج المفيدة التي تتخللها الموسيقى
س: ما حكم استماع بعض البرامج المفيدة كأقوال الصحف ونحوها التي تتخللها الموسيقى؟ ل - ع - م - الرياض.
الجواب: لا حرج في استماعها والاستفادة منها مع قفل المذياع عند بدء الموسيقى حتى تنتهي، لأن الموسيقى من جملة آلات اللهو يسر الله تركها والعافية من شرها.(6/389)
مشاهدة برامج التلفزيون
س: هل سماع ومشاهدة الأغاني بالراديو أو التلفزيون حرام في الإسلام في بعض الأوقات من ليل أو نهار أفيدونا أفادكم الله؟
جـ: نعم سماع الأغاني والملاهي حرام في الإسلام كما قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) الآية، ولهو الحديث قال أكثر العلماء: إنه الغناء، ويضاف إليه أيضا أصوات الملاهي كالطنبور والعود والكمان وشبه ذلك، فهذه كلها تصد عن سبيل الله وتقسي القلوب وتنفرها من سماع القرآن الكريم، وقد أخبرنا الرب عز وجل أن ذلك من أسباب الضلال والإضلال، ومن أسباب الاستكبار والبعد عن سماع كتاب الله، فالقلب إذا اعتاد سماع الأغاني ومشاهدة المغنيين فإنه يقسو بذلك، وتصده عن الحق إلا من رحم الله، كما أنها تشغله عن طاعة الله ورسوله وعن سماع القرآن والمواعظ حتى قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف» رواه البخاري في صحيحه معلقا مجزوما به، فأخبر أنه يكون في آخر الزمان قوم يستحلون المعازف وهي محرمة، والمعازف: الأغاني وآلات اللهو. والله المستعان.
__________
(1) سورة لقمان الآية 6(6/390)
الفرق بين خمر الدنيا والآخرة (1)
س: كلنا نعلم تحريم الخمر في الدنيا وأنه يسكر، وأنه يخامر العقل، ولهذا فهو رجس من عمل الشيطان، وأنه أم الخبائث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والسؤال يا سماحة الشيخ: لماذا الخمر في الدنيا حرام وفي الآخرة حلال؟
ج: خمر الآخرة طيب ليس فيه إسكار ولا مضرة ولا أذى، أما خمر الدنيا ففيه المضرة والإسكار والأذى، أي أن خمر الآخرة ليس فيه غول ولا ينزف صاحبه، وليس فيه ما يغتال العقول ولا ما يضر الأبدان، أما خمر الدنيا فيضر العقول والأبدان جميعا، فكل الأضرار التي في خمر الدنيا منتفية عن خمر الآخرة. وبالله التوفيق.
__________
(1) نشرت بالمجلة العربية في باب: فاسألوا أهل الذكر.(6/391)
حكم النكت في الإسلام (1)
س: ما حكم النكت في ديننا الإسلامي، وهل هي من لهو الحديث علما بأنها ليست استهزاء بالدين أفتونا مأجورين؟
ج: التفكه بالكلام والتنكيت إذا كان بحق وصدق فلا بأس به ولا سيما مع عدم الإكثار من ذلك، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقا صلى الله عليه وسلم، أما ما كان بالكذب فلا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ثم ويل له (2) » أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد جيد.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشرت بالمجلة العربية في باب: فاسألوا أهل الذكر.
(2) سنن أبو داود الأدب (4990) ، مسند أحمد بن حنبل (5/7) ، سنن الدارمي الاستئذان (2702) .(6/391)
الجيران والتفضيل بينهم (1)
س: هل للجار من بني جنسي التفضيل على الجار المسلم الملاصق لداري؟ وهل لبني جنسي التفضيل وهم يسكنون بعيدين عنا على غيرهم من المسلمين في نفس الحي الذي نسكن فيه؟
جـ: التفضيل بالقرابة والإسلام والجوار ثلاثة أنواع:
جار له ثلاثة حقوق وهو الجار المسلم ذو الرحم، فله حق الإسلام وحق الجوار وحق القرابة.
وجار له حقان وهو الجار المسلم، أو القريب وليس مسلما، فله حق الإسلام وحق الجوار، أو حق الجوار والقرابة إن كان غير مسلم.
وجار له حق واحد وهو الجار الكافر فله حق الجوار فقط.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشرت بالمجلة العربية في باب فاسألوا أهل الذكر.(6/392)
الكافر ليس أخا للمسلم
س: يقول يسكن معي واحد مسيحي ويقول لي أخي ونحن أخوة ويأكل معنا ويشرب هل يجوز هذا العمل أم لا؟
ج: الكافر ليس أخا للمسلم والله سبحانه يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم (2) » فليس الكافر: يهوديا أو نصرانيا أو وثنيا أو
__________
(1) سورة الحجرات الآية 10
(2) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) ، مسند أحمد بن حنبل (2/68) .(6/392)
مجوسيا أو شيوعيا أو غيرهم - أخا للمسلم، ولا يجوز اتخاذه صاحبا وصديقا، لكن إذا أكل معه بعض الأحيان من غير أن يتخذه صاحبا أو صديقا إنما قد يقع ذلك في وليمة عامة أو وليمة عارضة، فلا حرج في ذلك، أما اتخاذه صاحبا وجليسا وأكيلا فلا يجوز، لأن الله قطع بين المسلمين وبين الكفار الموالاة والمحبة، قال سبحانه في كتابه العظيم: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (1) وقال سبحانه: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (2) الآية
فالواجب على المسلم البراءة من أهل الشرك وبغضهم في الله، ولكن لا يؤذيهم ولا يضرهم ولا يتعدى عليهم بغير حق إذا لم يكونوا حربا لنا، لكن لا يتخذهم أصحابا ولا إخوانا ومتى صادف أنه أكل معهم في وليمة عامة أو طعام عارض من غير صحبة ولا موالاة ولا مودة فلا بأس.
ويجب على المسلم أن يعامل الكفار إذا لم يكونوا حربا للمسلمين معاملة إسلامية بأداء الأمانة، وعدم الغش والخيانة والكذب، وإذا جرى بينه وبينهم نزاع جادلهم بالتي هي أحسن وأنصفهم في الخصومة عملا بقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (3) ويشرع للمسلم دعوتهم إلى الخير ونصيحتهم والصبر على ذلك مع حسن الجوار وطيب الكلام لقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (4) وقوله سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (5) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (6) » والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 4
(2) سورة المجادلة الآية 22
(3) سورة العنكبوت الآية 46
(4) سورة النحل الآية 125
(5) سورة البقرة الآية 83
(6) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .(6/393)
هذا العمل منكر
س: ظاهرة منتشرة عند بعض الناس في المغرب العربي تتمثل في أن الأم تقوم بجرح أعلى ركبة ابنتها بموس الحلاقة ثلاثة خطوط متجاورة وتضع على الدم النازف قطعة سكر، وتأمر ابنتها بأكلها وقول بعض الكلمات مدعية هذه الأم أن هذه الفعلة تحفظ لابنتها بكارتها وتمنع وصول أي معتد إليها (وهناك طرق أخرى لهذه الفعلة) فما حكم الشريعة الإسلامية في هذا العمل؟
جـ: هذا العمل منكر، وهو خرافة لا أصل لها، ولا يجوز فعلها، بل يجب تركها والحذر منها، والقول بأنها تحفظ على البنت بكارتها أمر باطل من وحي الشيطان لا أساس له في الشرع المطهر، فيجب التواصي بتركه والحذر من فعله، ويجب على أهل العلم بيان ذلك والتحذير منه؛ لأنهم المبلغون عن الله سبحانه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
والله المستعان.(6/394)
حكم الأوراق التي فيها ذكر الله (1)
س: تقع تحت يدي بحكم عملي أوراق ومعاملات فيها ذكر الله فما الواجب عمله نحو تلك الأوراق؟
جـ: هذه الأوراق التي فيها ذكر الله يجب الاحتفاظ بها وصيانتها عن الابتذال والامتهان حتى يفرغ منها، فإذا فرغ منها ولم يبق لها حاجة وجب دفنها في محل طاهر أو إحراقها أو حفظها في محل يصونها عن الابتذال كالدواليب والرفوف ونحو ذلك.
والله المستعان.
__________
(1) نشرت بالمجلة العربية ضمن الإجابات في باب فاسألوا أهل الذكر.(6/394)
الترحم على الفاسق جائز
س: عندما يموت شخص مسلم ولكنه فاسق في حياته فهل يجوز الترحم عليه؟
جـ: نعم يجوز الترحم عليه، والدعاء له بالعفو والمغفرة، كما يصلى عليه صلاة الجنازة إذا كان فاسقا لا كافرا.
والله المستعان.(6/395)
من علامات الساعة أن تلد الأمة ربتها
(1)
س: جاء في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " أن «من أشراط الساعة أن تلد الأمة ربتها (2) » " أرجو من سماحتكم شرح وبيان معنى أن تلد الأمة ربتها؟
جـ: المعنى: أن من أشراط الساعة أن تكثر السراري بين الناس حتى تلد المملوكة سيدتها أي تحمل من سيدها وتلد سيدتها؛ لأن بنت السيد سيدة وابن السيد سيد.
والله المستعان.
__________
(1) نشرت بالمجلة العربية ضمن الإجابات في باب فاسألوا أهل الذكر.
(2) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/52) .(6/395)
حكم وضع المساحيق على الوجه (1)
س: ما حكم المساحيق التي يضعها النساء على وجوههن للزينة؟
ج: المساحيق فيها تفصيل: إن كان يحصل بها الجمال وهي لا تضر الوجه، ولا تسبب فيه شيئا فلا بأس بها ولا حرج، أما إن كانت تسبب فيه شيئا كبقع سوداء أو تحدث فيه أضرارا أخرى فإنها تمنع من أجل الضرر.
والله المستعان.
__________
(1) نشرت بالمجلة العربية ضمن الإجابات في باب فاسألوا أهل الذكر.(6/395)
استعمال الروائح العطرية المسماة بالكولونيا
س: هل يجوز استعمال الروائح العطرية المسماة (بالكولونيا) المشتملة على مادة الكحول؟
جـ: استعمال الروائح العطرية المسماة (بالكولونيا) المشتملة على مادة الكحول لا يجوز، لأنه ثبت لدينا بقول أهل الخبرة من الأطباء أنها مسكرة لما فيها من مادة السبيرتو المعروفة، وبذلك يحرم استعمالها على الرجال والنساء.
أما الوضوء فلا ينتقض بها، وأما الصلاة ففي صحتها نظر؛ لأن الجمهور يرون نجاسة المسكر ويرون أن من صلى متلبسا بالنجاسة ذاكرا عامدا لم تصح صلاته، وذهب بعض أهل العلم إلى عدم تنجيس المسكر، وبذلك يعلم أن من صلى وهي في ثيابه أو بعض بدنه ناسيا أو جاهلا حكمها أو معتقدا طهارتها فصلاته صحيحة، والأحوط غسل ما أصاب البدن والثوب منها خروجا من خلاف العلماء فإن وجد من الكولونيا نوع لا يسكر لم يحرم استعماله؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما.
والله ولي التوفيق.(6/396)
حكم ذهاب المرأة للسوق بدون محرم (1)
س: هل يجوز الاختلاء بزوجة العم والخال والأخ وغيرهم من الأقارب؟ وهل يجوز الذهاب بهن إلى السوق وغيره؟
جـ: لا تجوز الخلوة بزوجة الأخ ولا بزوجة الخال ولا العم ولا غيرهن من غير محارمه لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم (2) » متفق على صحته ونهى عن الخلوة بالمرأة وقال: إن الشيطان ثالثهما فلا يجوز الخلوة بالأجنبية مطلقا وزوجة الأخ والخال والعم تعتبر أجنبية، والذهاب إلى السوق إذا كان يتضمن الخلوة لا يجوز أما إذا كان معها غيرها على وجه لا ريب فيه فلا بأس. والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر بالمجلة العربية ضمن الإجابات في باب فاسألوا أهل الذكر.
(2) صحيح البخاري الحج (1862) ، صحيح مسلم الحج (1341) ، سنن ابن ماجه المناسك (2900) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) .(6/396)
حكم الغش في الامتحانات (1)
س: الغش في الاختبارات الدراسية إذا كان المدرس على علم بذلك؟
جـ: الغش محرم في الاختبارات، كما أنه محرم في المعاملات، فليس لأحد أن يغش في الاختبارات في أي مادة، وإذا رضي الأستاذ بذلك فهو شريكه في الإثم والخيانة.
والله المستعان.
__________
(1) نشرت بالمجلة العربية ضمن الإجابات في باب فاسألوا أهل الذكر.(6/397)
حكم لبس خاتم الذهب للرجال (1)
س: ما حكم لبس خاتم الذهب للرجال وهو ما يسمى بخاتم الزواج؟
جـ: لا يجوز لبس الرجل للخاتم من الذهب لا قبل الزواج ولا بعده؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم «نهى عن التختم بالذهب (2) » في الأحاديث الصحيحة، ولما «رأى خاتما من ذهب في يد رجل نزعه وطرحه وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من النار فيضعها في يده (3) » رواه مسلم في الصحيح، فهذا يدل على تحريم التختم بالذهب للرجال وأنه لا يجوز مطلقا ولو كان للزواج.
__________
(1) نشرت بالمجلة العربية ضمن الإجابات في باب: فاسألوا أهل الذكر.
(2) صحيح مسلم اللباس والزينة (2078) ، سنن الترمذي اللباس (1737) ، سنن النسائي الزينة (5178) ، سنن ابن ماجه اللباس (3642) ، مسند أحمد بن حنبل (1/114) ، موطأ مالك النداء للصلاة (177) .
(3) صحيح مسلم اللباس والزينة (2090) .(6/397)
حكم لبس الكعب العالي (1)
س: ما حكم الإسلام في لبس الحذاء ذي الكعب العالي؟
جـ: أقل أحواله الكراهة؛ لأن فيه أولا تلبيسا حيث تبدو المرأة طويلة وهي ليست كذلك، وثانيا فيه خطر على المرأة من السقوط، وثالثا ضار صحيا كما قرر ذلك الأطباء.
__________
(1) نشرت بالمجلة العربية ضمن الإجابات في باب: فاسألوا أهل الذكر.(6/397)
حكم لقطة الحرم (1)
س: ما حكم لقطة الحرم؟ وهل يجوز أن يعطيها للفقراء؟ أو ينفقها في بناء مسجد مثلا؟
جـ: الواجب على من وجد لقطة في الحرم أن لا يتبرع بها لمسجد، ولا يعطيها الفقراء ولا غيرهم، بل يعرفها دائما في الحرم في مجامع الناس قائلا: من له الدراهم من له الذهب، من له كذا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحل ساقطتها إلا لمعرف وفي رواية إلا لمنشد وهو الذي ينادي عليها، وكذلك حرم المدينة، وإن تركها في مكانها فلا بأس وإن سلمها للجنة الرسمية التي قد وكلت لها الدولة حفظ اللقطة برئت ذمته.
__________
(1) نشرت بالمجلة العربية ضمن الإجابات في باب: فاسألوا أهل الذكر.(6/398)
رؤية ليلة القدر
س: هل ترى ليلة القدر عيانا أي أنها ترى بالعين البشرية المجردة؟ حيث إن بعض الناس يقولون إن الإنسان إذا استطاع رؤية ليلة القدر يرى نورا في السماء ونحو هذا، وكيف رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؟ وكيف يعرف المرء أنه قد رأى ليلة القدر؟ وهل ينال الإنسان ثوابها وأجرها وإن كانت في تلك الليلة التي لم يستطع أن يراها فيها؟ نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل.
جـ: قد ترى ليلة القدر بالعين لمن وفقه الله سبحانه وذلك برؤية أماراتها، وكان الصحابة رضي الله عنهم يستدلون عليهما بعلامات، ولكن عدم رؤيتها لا يمنع حصول فضلها لمن قامها إيمانا واحتسابا، فالمسلم ينبغي له أن يجتهد في تحريها في العشر الأواخر من رمضان كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم طلبا للأجر والثواب فإذا صادف قيامه إيمانا واحتسابا هذه الليلة نال أجرها وإن لم يعلمها قال صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (1) » وفي رواية أخرى: «من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر (2) » . (3)
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1901) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (760) ، سنن الترمذي الصوم (683) ، سنن النسائي الصيام (2202) ، سنن أبو داود الصلاة (1372) ، مسند أحمد بن حنبل (2/241) ، سنن الدارمي الصوم (1776) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/318) .
(3) البخاري 4 \ 221، مسلم 760.(6/398)
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن من علاماتها طلوع الشمس صبيحتها لا شعاع لها، وكان أبي بن كعب يقسم على أنها ليلة سبع وعشرين ويستدل بهذه العلامة، والراجح أنها متنقلة في ليالي العشر كلها، وأوتارها أحرى، وليلة سبع وعشرين آكد الأوتار في ذلك، ومن اجتهد في العشر كلها في الصلاة والقرآن والدعاء وغير ذلك من وجوه الخير أدرك ليلة القدر بلا شك وفاز بما وعد الله به من قامها إذا فعل ذلك إيمانا واحتسابا.
والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(6/399)
إطلاق كلمة عليه السلام لغير الرسول
س: أثناء اطلاعي على موضوعات كتاب: (عقد الدرر في أخبار المنتظر) ، في بعض الروايات المنقولة عن علي بن أبي طالب أجدها على النحو التالي: عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج رجل من أهل بيتي في تسع رايات» ما حكم النطق بهذا اللفظ أعني (عليه السلام) ، أو ما يشابهه لغير الرسول صلى الله عليه وسلم؟
جـ: لا ينبغي تخصيص علي رضي الله عنه بهذا اللفظ بل المشروع أن يقال في حقه وحق غيره من الصحابة (رضي الله عنه) أو رحمهم الله لعدم الدليل على تخصيصه بذلك، وهكذا قول بعضهم كرم الله وجهه فإن ذلك لا دليل عليه ولا وجه لتخصيصه بذلك، والأفضل أن يعامل كغيره من الخلفاء الراشدين ولا يخص بشيء دونهم من الألفاظ التي لا دليل عليها.(6/399)
الإجابة على أسئلة مختلفة
س 1: ما حكم الصلاة خلف العاصي كحالق اللحية وشارب الدخان؟
جـ: اختلف العلماء في هذه المسألة فذهب بعضهم إلى عدم صحة الصلاة خلف العاصي لضعف إيمانه وأمانته، وذهب جمع كبير من أهل العلم إلى صحتها، ولكن لا ينبغي لولاة الأمر أن يجعلوا العصاة أئمة للناس مع وجود غيرهم وهذا هو الصواب؛ لأنه مسلم يعلم أن الصلاة واجبة عليه ويؤديها على هذا الأساس فصحت صلاة من خلفه، والحجة في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الصلاة خلف الأمراء الفسقة: «يصلون لكم فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساءوا فلكم وعليهم (1) » وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أحاديث أخرى ترشد إلى هذا المعنى، وصلى بعض الصحابة خلف الحجاج وهو من أفسق الناس، ولأن الجماعة مطلوبة في الصلاة فينبغي للمؤمن أن يحرص عليها وأن يحافظ عليها ولو كان الإمام فاسقا، لكن إذا أمكنه أن يصلي خلف إمام عدل فهو أولى وأفضل وأحوط للدين.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (694) ، مسند أحمد بن حنبل (2/355) .(6/400)
س 2: ما حكم بيع ريالات الفضة بريالات الورق متفاضلا؟
جـ: في هذه المسألة إشكال وقد جزم بعض علماء العصر بجواز ذلك؛ لأن الورق غير الفضة، وقال آخرون بتحريم ذلك، لأن الورق عملة دارجة بين الناس وقد أقيمت مقام الفضة فألحقت بها في الحكم، أما أنا فإلى حين التاريخ لم يطمئن قلبي إلى واحد من القولين وأرى أن الأحوط ترك ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (1) » وقوله عليه الصلاة والسلام: «من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه (2) » وقال عليه الصلاة والسلام: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس (3) » .
وعليه فالأحوط في مثل هذا أن يبيع الفضة بجنس آخر كالذهب أو غيره ثم يشتري بذلك الورق، وإن كان الذي بيده الورق يريد الفضة باع الورق بذهب أو غيره ثم اشترى بذلك الفضة المطلوبة.
__________
(1) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/271) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2553) ، سنن الترمذي الزهد (2389) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) ، سنن الدارمي الرقاق (2789) .(6/400)
س 3: إذا كان من حقوق الموظف عند تعيينه بدل ترحيل عائلته من بلدته إلى مقر عمله ولم يرحل عائلته حقيقة بل زيف سندات واستلم المبلغ فهل ذلك جائزا أم لا؟
جـ: هذا العمل لا يجوز في الشرع المطهر؛ لأنه اكتساب للمال من طريق الكذب والتدليس، وما كان بهذه المثابة فهو محرم يجب إنكاره والتحذير منه رزق الله الجميع العافية من ذلك.(6/401)
س 4: إذا كان إنسان له مورد من المال يحصل له شيئا بعد شيء كالموظف والتاجر ونحوهما وينفق من ذلك ولا يعرف الذي حال عليه الحول فكيف يصنع بالزكاة؟
جـ: على مثل هذا أن يحفظ أوقات دخول المال، وأن يقيدها حتى يعرف حول الزكاة، ويجعل للنفقة مالا مخصوصا، كلما نفد جعل مكانه غيره حتى لا يشتبه عليه أمر الزكاة، إلا أن تسمح نفسه بإخراج الزكاة عن المال المجتمع عنده كل سنة اعتبارا بأول المال الذي وصل إليه فلا بأس عليه، ولا حاجة إلى أن يحفظ أوقات الوارد؛ لأنه إذا زكى الجميع برأت ذمته براءة كاملة وما زاد على الزكاة فهو صدقة تطوع، وأجر الصدقة معروف وعظيم، جعلنا الله وإياكم من المتصدقين.(6/401)
س 5: إذا كان إنسان يرغب العمل بوظيفة وهو يستطيع القيام بعملها والنجاح في المسابقة، ولكن ليس لديه شهادة تخوله الدخول فيها فهل يجوز له تزييف شهادة الدخول في المسابقة؟ وإذا نجح فهل يجوز له الراتب أم لا؟
جـ: الذي يظهر لي من الشرع المطهر وأهدافه السامية عدم جواز مثل هذا العمل؛ لأنه توصل إلى الوظائف من طريق الكذب والتلبيس وذلك من المحرمات المنكرة ومما يفتح أبوابا من الشر وطرقا من التلبيس، ولا شك أن الواجب على من يسند إليهم أمر التوظيف أن يتحروا الأكفاء والأمناء حسب الإمكان.(6/401)
س 6: ما حكم من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو يستطيع ذلك؟
جـ: حكمه أنه عاص لله ولرسوله ضعيف الإيمان وعليه خطر عظيم من أمراض القلوب وعقوبتها العاجلة والآجلة كما قال الله سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2)
__________
(1) سورة المائدة الآية 78
(2) سورة المائدة الآية 79(6/401)
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (2) » رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة نسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا للقيام بهذا الواجب العظيم على الوجه الذي يرضيه.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .
(2) سنن الترمذي الفتن (2168) ، سنن ابن ماجه الفتن (4005) .(6/402)
س 7: إذا دخل مسابقة الوظائف صديقان قد توفرت فيهما شروط القبول واختبر أحدهما عن الآخر فهل يحل ذلك إذا كان يستطيع القيام بالعمل؟ وهل يباح له الراتب؟
جـ: لا يجوز مثل هذا العمل لما فيه من الكذب والتدليس، وفتح أبواب تجرؤ غير الأكفاء على الأعمال بوسائل الكذب والاحتيال على ما لا يباح له.(6/402)
إزالة الشعر النابت في وجه المرأة
س: ما حكم إزالة الشعر الذي ينبت في وجه المرأة؟
جـ: هذا فيه تفصيل: إن كان شعرا عاديا فلا يجوز أخذه لحديث: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النامصة والمتنمصة (1) » الحديث والنمص هو أخذ الشعر من الوجه والحاجبين، أما إن كان شيئا زائدا يعتبر مثله تشويها للخلقة كالشارب واللحية فلا بأس بأخذه ولا حرج؛ لأنه يشوه خلقتها ويضرها.
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2123) ، سنن النسائي الزينة (5101) ، مسند أحمد بن حنبل (6/228) .(6/402)
ضرب الطالبات لغرض التعليم
س: ما حكم ضرب الطالبات لغرض التعليم، والحث على أداء الواجبات المطلوبة منهن لتعويدهن على عدم التهاون فيها؟
جـ: لا بأس في ذلك فالمعلم والمعلمة والوالد كل منهم عليه أن يلاحظ الأولاد، وأن يؤدب من يستحق التأديب إذا قصر في واجبه حتى يعتاد الأخلاق الفاضلة وحتى يستقيم على ما ينبغي من العمل الصالح، ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع (1) » فالذكر يضرب والأنثى كذلك إذا بلغ كل منهم العشر وقصر في الصلاة ويؤدب حتى يستقيم على الصلاة، وهكذا الواجبات الأخرى في التعليم وشئون البيت وغير ذلك، فالواجب على أولياء الصغار من الذكور والإناث أن يعتنوا بتوجيههم وتأديبهم، لكن يكون الضرب خفيفا لا خطر فيه ولكن يحصل به المقصود.
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (495) ، مسند أحمد بن حنبل (2/187) .(6/403)
الخوف من الرياء في النصح
س: امرأة تسأل فتقول: إني أخاف من الرياء وأحذره لدرجة أنني لا أستطيع أن أنصح بعض الناس أو أنهاهم عن أمور معينة مثل الغيبة والنميمة ونحو ذلك، فأخشى أن يكون ذلك رياء مني وأخشى أن يظن الناس في ذلك ويعدوه رياء، فلا أنصحهم بشيء، كما أني أقول في نفسي إنهم أناس متعلمون وليسوا في حاجة إلى نصح فما هو توجيهكم؟
جـ: هذا من مكائد الشيطان، يخذل بها الناس عن الدعوة إلى الله وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك أن يوهمهم أن هذا من الرياء، أو أن هذا يخشى أن يعده الناس رياء فلا ينبغي لك أيتها الأخت في الله أن تلتفتي إلى هذا، بل الواجب عليك أن تنصحي لأخواتك في الله وإخوانك إذا رأيت منهم التقصير في الواجب، أو ارتكاب المحرم كالغيبة والنميمة وعدم التستر عند الرجال ولا تخافي(6/403)
الرياء، ولكن اخلصي لله واصدقي معه وأبشري بالخير، واتركي خداع الشيطان ووساوسه والله يعلم ما في قلبك من القصد والإخلاص لله تعالى والنصح لعباده، ولا شك أن الرياء شرك ولا يجوز فعله، لكن لا يجوز للمؤمن ولا للمؤمنة أن يدع ما أوجب الله عليه من الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفا من الرياء، فعليه الحذر من ذلك، وعليه القيام بالواجب في أوساط الرجال والنساء، والرجل والمرأة في ذلك سواء وقد بين الله ذلك في كتابه العزيز حيث يقول سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1)
__________
(1) سورة التوبة الآية 71(6/404)
مسألة الشلوخ في الوجه تمييزا لكل قبيلة
س: أرجو أن تفيدونا عن مسألة الشلوخ، وهي علامة تعمل بالموس على الوجه تمييزا لكل قبيلة عن الأخرى فهل هذا حلال أم حرام؟
جـ: هذا يسمى في لغة العرب (الوشم) وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولعن من فعله وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربا وموكله، ولعن الواشمة، ولعن المستوشمة، ولا فرق بين الوشم في الوجه أو في اليد أو في غيرهما، أما ما مضى عن جهل فالتوبة تكفي في ذلك والحمد لله، وإذا أمكن إزالته بدون مضرة وجب ذلك، أما المستقبل بعدما يعلم المسلم حكم الله فالواجب عليه الحذر مما حرم الله، وهذا يعم الرجال والنساء.(6/404)
مشاركة النصارى في أعيادهم
س: بعض المسلمين يشاركون النصارى في أعيادهم فما توجيهكم؟
جـ: لا يجوز للمسلم ولا المسلمة مشاركة النصارى أو اليهود أو غيرهم من الكفرة في أعيادهم بل يجب ترك ذلك؛ لأن من تشبه بقوم فهو منهم، والرسول عليه الصلاة والسلام حذرنا من مشابهتهم والتخلق بأخلاقهم.
فعلى المؤمن وعلى المؤمنة الحذر من ذلك، ولا تجوز لهما المساعدة في ذلك بأي شيء؛ لأنها أعياد مخالفة للشرع فلا يجوز الاشتراك فيها، ولا التعاون مع أهلها، ولا مساعدتهم بأي شيء لا بالشاي ولا بالقهوة ولا بغير ذلك كالأواني وغيرها، ولأن الله سبحانه يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) فالمشاركة مع الكفرة في أعيادهم نوع من التعاون على الإثم والعدوان.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(6/405)
كتابة البسملة على البطاقات مشروعة (1)
س: هل يجوز كتابة البسملة على بطاقات الزواج نظرا لأنها ترمى بعد ذلك في الشوارع أو في سلال المهملات؟ جـ: يشرع كتابة البسملة في البطاقات وغيرها من الرسائل لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر (2) » ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يبدأ رسائله بالتسمية.
ولا يجوز لمن يتسلم البطاقة التي فيها ذكر الله أو آية من القرآن أن يلقيها في المزابل أو القمامات أو يجعلها في محل يرغب عنه، وهكذا الجرائد وأشباهها لا يجوز امتهانها ولا إلقاؤها في القمامات ولا جعلها سفرة للطعام ولا ملفا للحاجات - لما يكون فيها من ذكر الله عز وجل، والإثم على من فعل ذلك أما الكاتب فليس عليه إثم.
__________
(1) مجلة الدعوة العدد 993.
(2) سنن أبو داود الأدب (4840) ، سنن ابن ماجه النكاح (1894) ، مسند أحمد بن حنبل (2/359) .(6/405)
ظهور المرأة أمام الرجال
س: كثير من الرجال في بعض الأسر يسمح لزوجته أو ابنته أو أخته بالظهور أمام الرجال غير المحارم كجماعته وأصدقائه وزملائه والجلوس معهم والتحدث إليهم كما لو كانوا محرما لها، وإذا نصحناهم قالوا إن هذه عاداتهم وعادات آبائهم، كما أنهم يزعمون أن قلوبهم نظيفة، ومنهم المكابر والمعاند وهو يفهم الحكم، ومنهم من يجهله فما نصيحتكم لهم؟
جـ: الواجب على كل مسلم أن لا يعتمد على العادات بل يجب عرضها على الشرع المطهر، فما أقره منها جاز فعله وما لا فلا، وليس اعتياد الناس للشيء دليلا على حله فجميع العادات التي اعتادها الناس في بلادهم أو في قبائلهم يجب عرضها على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام فما أباح الله ورسوله فهو مباح، وما نهى الله عنه وجب تركه وإن كان عادة للناس، فإذا اعتاد الناس التساهل بالخلوة بالأجنبية أو بكشف وجهها لغير محارمها فهذه عادات باطلة، يجب أن تترك، كما لو اعتاد الناس الزنا أو اللواط أو شرب المسكر فإن الواجب عليهم تركها، وليست العادة حجة لهم في ذلك، بل الشرع فوق الجميع فعلى من هداه الله للإسلام أن يبتعد عما حرم الله عليه من خمر وزنا وسرقة وعقوق وقطيعة الرحم وسائر ما حرم الله عز وجل، وأن يلتزم بما أوجب الله عليه.
وهكذا الأسرة يجب عليها أن تحترم أمر الله ورسوله وأن تبتعد عما حرم الله ورسوله، فإذا كان من عاداتهم كشف نسائهم لغير المحارم أو الخلوة بغير المحارم وجب عليهم ترك ذلك.
فليس للمرأة أن تكشف وجهها أو غيره لابن عمها، ولا لزوج أختها، ولا لإخوان زوجها، ولا لأعمامه، ولا لأخواله، بل يجب عليها الاحتجاب وستر وجهها ورأسها وجميع بدنها عن غير محارمها، أما الكلام فلا بأس به كرد السلام والبداءة به مع الحجاب والبعد عن الخلوة لقول الله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (1) وقوله عز وجل:
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53(6/406)
{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (1) فنهى الله سبحانه وتعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم أن يخضعن بالقول وهو تليينه وتكسيره حتى يطمع من كان في قلبه مرض أي مرض الشهوة ويظن أنها مواتية ولا مانع عندها، بل تقول قولا وسطا ليس فيه عنف ولا خضوع، وأخبر سبحانه أن الحجاب أطهر لقلوب الجميع.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) والجلباب ثوب يطرح على الرأس والبدن تطرحه المرأة على رأسها وتغطي به بدنها فوق ثيابها، وقال عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} (3) الآية فهؤلاء المذكورون في الآية لا حرج في إبداء المرأة زينتها لهم.
والواجب على جميع النساء المسلمات تقوى الله سبحانه وتعالى، والحذر مما حرم الله عليهن من إبداء الزينة لغير من أباح الله إبداءها له.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 32
(2) سورة الأحزاب الآية 59
(3) سورة النور الآية 31(6/407)
كتاب درة الناصحين
س: قرأت في كتاب درة الناصحين في الوعظ والإرشاد ولعالم من علماء القرن التاسع الهجري اسمه: عثمان بن حسن بن أحمد الخوبري قرأت ما نصه: عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال: إن الله تعالى نظر إلى جوهرة فصارت حمراء، ثم نظر إليها ثانية فذابت وارتعدت من هيبة ربها، ثم نظر إليها ثالثة فصارت ماء، ثم نظر إليها رابعة فجمد نصفها فخلق من النصف العرش ومن النصف الماء، ثم تركه على حاله ومن ثم يرتعد إلى يوم القيامة.(6/407)
وعن علي رضي الله عنه أن الذين يحملون العرش أربعة ملائكة، لكل ملك أربعة وجوه، أقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة مسيرة خمسمائة عام. أرجو الإفادة؟
جـ: هذا الكتاب لا يعتمد عليه، وهو يشتمل على أحاديث موضوعة وأحاديث ضعيفة لا يعتمد عليها، ومنها هذان الحديثان فإنهما لا أصل لهما، بل هما حديثان موضوعان مكذوبان على النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي أن يعتمد على هذا الكتاب وما أشبهه من الكتب التي تجمع الغث والسمين والموضوع والضعيف، فإن أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام قد خدمها العلماء من أئمة السنة وبينوا صحيحها من سقيمها، فينبغي للمؤمن أن يقتني الكتب الجيدة المفيدة مثل الصحيحين، وكتب السنن الأربع، ومنتقى الأخبار لابن تيمية، ورياض الصالحين للنووي، وبلوغ المرام للحافظ ابن حجر، وعمدة الحديث للحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي، وأمثالها من الكتب المفيدة المعتمدة عند أهل العلم.(6/408)
قراء الكف
س: هناك بعض الناس يذكر أن الخطوط التي في كف الإنسان أنها على شكل رقمين 18 في اليد اليمنى، و 81 في اليد اليسرى والمجموع 99 ويقول أنها بعدد أسماء الله فهل هذا صحيح؟
جـ: هذا الذي قاله بعض الناس لا أصل له ولم يبلغنا عن أحد من أهل العلم أنه قاله، فلا ينبغي التعويل عليه.(6/408)
كرامات زائفة
س: يقال إن هناك رجالا من رجال الخطوة وهم يحجون بدون وسيلة مواصلات، ويقال إنهم يحضرون الجنازة في مكة وهم أصلا موجودون في منطقة بعيدة جدا، فهل سخرت لهم الريح مثلا في تنقلاتهم؟ نرجو التوجيه.(6/408)