وهما مطمئنان وواثقان بربهما سبحانه وتعالى. القائم على كل شيء والعالم بكل شيء والقادر على كل شيء لا إله غيره ولا رب سواه، وبيده التصرف والمنع والضر والنفع، وهو المالك لكل شيء عز وجل.
والرسول صلى الله عليه وسلم هو أصدق الناس، فهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى كما قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (1) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (2) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (3) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (4) عليه من ربه أفضل الصلاة، وأتم التسليم.
__________
(1) سورة النجم الآية 1
(2) سورة النجم الآية 2
(3) سورة النجم الآية 3
(4) سورة النجم الآية 4(3/455)
شروط قبول الدعاء:
س8: هذا الذكر وهذا الدعاء سلاح تصفونه لكل مؤمن فهل تشترطون شروطا أخرى لمن يحمل هذا السلاح؟ .
جـ8: نعم، من أعظم الشروط الثقة بالله والتصديق له ولرسوله صلى الله عليه وسلم والإيمان بأن الله هو الحق ولا يقول إلا الحق والإخلاص لله سبحانه والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم مع الإيمان بأن الرسول عليه الصلاة والسلام بلغ الحق وهو الصادق فيما يقول، وأن يأتي بذلك عن إيمان وثقة بالله ورغبة فيما عنده وأنه سبحانه مدبر الأمور ومصرف الأشياء، وأنه القادر على كل شيء سبحانه وتعالى، لا عن شك ولا عن سوء ظن بل عن حسن ظن بالله وثقة به.
وأنه متى تخلف المطلوب فلعلة من العلل المذكورة أو غيرها فالعبد عليه أن يأتي بالأسباب والله مسبب الأسباب وهو الحكيم العليم وقد يحصل الدواء ولكن لا يزول الداء؛ لأسباب أخرى جهلها العبد والله فيها حكيم سبحانه وتعالى، وهذا يشمل الدواء الحسي والمعنوي، الحسي الذي يقوم به الأطباء من أدوية وعمليات ونحو ذلك، والمعنوي الذي يحصل بالدعاء والقراءة ونحو ذلك من الأسباب الشرعية، ومع هذا كله قد يتخلف المطلوب لأسباب كثيرة منها الغفلة عن الله(3/455)
سبحانه ومنها المعاصي ولا سيما أكل الحرام وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته في الدنيا، وإما أن تدخر له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من الشر مثل ذلك، قالوا يا رسول الله إذا نكثر قال الله أكثر (1) » .
وبذلك يعلم المؤمن والمؤمنة أن إجابته قد تؤجل إلى الآخرة لأسباب اقتضتها حكمة الله سبحانه، وقد يصرف عنه بأسباب الدعاء شر كثير بدلا من أن يعطى طلبه، والله سبحانه وتعالى هو الحكيم العليم في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره كما قال عز وجل {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (2) والله ولي التوفيق.
تم ولله الحمد الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع في التوحيد وما
يلحق به من كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن باز.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/18) .
(2) سورة يوسف الآية 6(3/456)
صفحة فارغة(4/1)
صفحة فارغة(4/2)
صفحة فارغة(4/3)
صفحة فارغة(4/4)
بيان معنى كلمة (لا إله إلا الله) (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
أيها الإخوة في الله لقد رأت اللجنة التي وكل إليها توزيع الندوات والمحاضرات في هذا البلد أن يكون عنوان الكلمة هذه الليلة (بيان معنى لا إله إلا الله) فوافقت على ذلك لأن هذه الكلمة هي أصل الدين وأساس الملة وهي التي فرق الله بها بين الكافر والمسلم، وهي التي دعت إليها الرسل جميعا وأنزلت من أجلها الكتب وخلق من أجلها الثقلان الجن والإنس، دعا إليها آدم أبونا عليه الصلاة والسلام وسار عليها هو وذريته إلى عهد نوح، ثم وقع الشرك في قوم نوح فأرسل الله إليهم نوحا عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى توحيد الله ويقول لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (2)
وهكذا هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وغيرهم من الرسل كلهم دعوا أممهم إلى هذه الكلمة، إلى توحيد الله والإخلاص له وترك عبادة ما سواه وآخرهم وخاتمهم وأفضلهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام بعثه الله إلى قومه بهذه الكلمة وقال لهم يا قوم: «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا (3) » وأمرهم بإخلاص العبادة لله وحده وأن يدعوا ما عليه آباؤهم وأسلافهم من الشرك بالله وعبادة الأصنام والأوثان والأشجار والأحجار وغير ذلك، فاستنكرها المشركون وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (4) لأنهم قد اعتادوا عبادة الأصنام والأوثان والأولياء والأشجار وغير ذلك والذبح لهم والنذر لهم وطلبهم قضاء الحاجات وتفريج الكروب فاستنكروا هذه الكلمة؛
__________
(1) محاضرة ألقاها سماحته في مسجد الأمير محمد بن عبد العزيز بالحوية مساء الخميس 13\1\1409 هـ
(2) سورة الأعراف الآية 59
(3) مسند أحمد بن حنبل (3/492) .
(4) سورة ص الآية 5(4/5)
لأنها تبطل آلهتهم ومعبوداتهم من دون الله.
وقال سبحانه في سورة الصافات: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (1) {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (2) سموا النبي عليه الصلاة والسلام شاعرا مجنونا بجهلهم وضلالهم وعنادهم وهم يعلمون أنه أصدق الناس وأنه الأمين وأنه أعقل الناس وأنه ليس بشاعر، ولكنه الجهل والظلم والعدوان والمغالطة والتكذيب والتشبيه على الناس، فكل من لم يحقق هذه الكلمة ويعرف معناها ويعمل بها فليس بمسلم، فالمسلم هو الذي يوحد الله ويخصه بالعبادة دون كل ما سواه، فيصلي له ويصوم له ويدعوه وحده، ويستغيث به وينذر ويذبح له إلى غير ذلك من أنواع العبادات، ويعلم يقينا أن الله سبحانه هو المستحق للعبادة وأن ما سواه لا يستحقها سواء كان نبيا أو ملكا أو وليا أو صنما أو شجرا أو جنيا أو غير ذلك كلهم لا يستحقون العبادة بل هي حق لله وحده؛ ولهذا قال الله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (3) يعني أمر وأوصى ألا تعبدوا إلا إياه، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، وهو أنه لا معبود حق إلا الله، فهي نفي وإثبات. نفي للإلهية عن غير الله وإثبات لها بحق لله وحده سبحانه وتعالى.
فالإلهية التي يوصف بها غير الله باطلة وهي لله وحده بحق ثابتة له سبحانه وتعالى كما قال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (4) فالعبادة لله وحده دون كل ما سواه، وأما صرف الكفار لها لغيره سبحانه فذلك باطل ووضع لها في غير محلها، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (5) وقال سبحانه في سورة
__________
(1) سورة الصافات الآية 35
(2) سورة الصافات الآية 36
(3) سورة الإسراء الآية 23
(4) سورة الحج الآية 62
(5) سورة البقرة الآية 21(4/6)
الفاتحة وهي أعظم سورة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) أمر الله المؤمنين أن يقولوا هكذا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) يعني نعبدك وحدك وإياك نستعين وحدك، وقال عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (3) وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (4) وقال عز وجل: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (5) وقال سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (6) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (7) إلى غير ذلك من آيات كثيرات كلها تدل على أنه سبحانه هو المستحق للعبادة وأن المخلوقين لا حظ لهم فيها، وهذا هو معنى لا إله إلا الله وتفسيرها وحقيقتها تخص العبادة بحق الله وحده وتنفيها بحق عما سواه.
ومعلوم أن عبادة غير الله موجودة وقد عبدت أصنام وأوثان من دون الله وعبد فرعون من دون الله وعبدت الملائكة من دون الله وعبدت الرسل من دون الله وعبد الصالحون من دون الله كل ذلك قد وقع ولكنه باطل وهو خلاف الحق والمعبود بالحق هو الله وحده سبحانه وتعالى.
وكلمة لا إله إلا الله نفي وإثبات كما سبق، نفي للعبادة بحق عن غير الله كائنا من كان وإثبات العبادة لله وحده بالحق كما قال جل وعلا عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه قال لأبيه وقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} (8) {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} (9) {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} (10) وقال سبحانه:
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة النساء الآية 36
(4) سورة البينة الآية 5
(5) سورة غافر الآية 14
(6) سورة الزمر الآية 2
(7) سورة الزمر الآية 3
(8) سورة الزخرف الآية 26
(9) سورة الزخرف الآية 27
(10) سورة الزخرف الآية 28(4/7)
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (1) وهذا قول الرسل جميعا لأن قوله سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} (2) يعني به الرسل جميعا، وهم الذين معه من أولهم إلى آخرهم ودعوتهم دعوته وكلمتهم هي البراءة من عبادة غير الله ومن المعبودين من دون الله الذين رضوا بالعبادة لهم ودعوا إليها، فالمؤمن يتبرأ منهم وينكر عبادتهم ويؤمن بالله وحده المعبود بالحق سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال سبحانه في الآية السابقة عن إبراهيم أنه قال لأبيه وقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} (3) {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} (4) وهو الله سبحانه وتعالى الذي فطره وفطر غيره فإنه لا يتبرأ من عبادته وإنما يتبرأ من عبادة غيره، فالبراءة تكون من عبادة غيره سبحانه، أما هو الذي فطر العباد وخلقهم وأوجدهم من العدم وغذاهم بالنعم فهو المستحق العبادة سبحانه وتعالى، فهذا هو مدلول هذه الكلمة ومعناها ومفهومها، وحقيقتها البراءة من عبادة غير الله وإنكارها واعتقاد بطلانها والإيمان بأن العبادة بحق لله وحده سبحانه وتعالى وهذا معنى قوله جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (5)
ومعنى يكفر بالطاغوت ينكر عبادة الطاغوت يتبرأ منها، والطاغوت: اسم لكل ما عبد من دون الله فكل معبود من دون الله يسمى طاغوتا فالأصنام والأشجار والأحجار والكواكب المعبودة من دون الله كلها طواغيت وهكذا من عبد وهو راض كفرعون ونمرود وأشباههما يقال له طاغوت، وهكذا الشياطين طواغيت لأنهم يدعون إلى الشرك.
وأما من عبد من دون الله ولم يرض بذلك كالأنبياء والصالحين والملائكة فهؤلاء ليسوا طواغيت وإنما الطاغوت الشيطان الذي دعا إلى عبادتهم من جن وإنس، أما الرسل
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 4
(2) سورة الممتحنة الآية 4
(3) سورة الزخرف الآية 26
(4) سورة الزخرف الآية 27
(5) سورة البقرة الآية 256(4/8)
والأنبياء والصالحون والملائكة فهم براء من ذلك وليسوا طواغيت لأنهم أنكروا عبادتهم وحذروا منها وبينوا أن العبادة حق الله وحده سبحانه وتعالى كما قال جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} (1) يعني ينكر عبادة غير الله ويتبرأ منها ويجحدها ويبين أنها باطلة.
{وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} (2) يعني يؤمن بأن الله هو المعبود بالحق وأنه هو المستحق للعبادة وأنه رب العالمين وأنه الحق العليم رب كل شيء ومليكه، العالم بكل شيء والقاهر فوق عباده وهو فوق العرش، فوق السماوات سبحانه وتعالى، وعلمه في كل مكان وهو المستحق العبادة جل وعلا.
فلا يتم الإيمان ولا يصح إلا بالبراءة من عبادة غير الله وإنكارها واعتقاد بطلانها، والإيمان بأن الله هو المستحق للعبادة سبحانه وتعالى، وهذا هو معنى قوله سبحانه في سورة الحج: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (3) وفي سورة لقمان:
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (4) وهو معنى الآيات السابقات وهي قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (5) وقوله جل وعلا: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (6) وقوله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (7) إلى غير ذلك من الآيات.
وكان الناس في عهد آدم وبعده إلى عشرة قرون كلهم على توحيد الله كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، ثم وقع الشرك في قوم نوح فعبدوا مع الله ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا كما ذكر الله ذلك في سورة نوح، فأرسل الله إليهم نوحا عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى توحيد الله وينذرهم نقمة
__________
(1) سورة البقرة الآية 256
(2) سورة البقرة الآية 256
(3) سورة الحج الآية 62
(4) سورة الحج الآية 62
(5) سورة البقرة الآية 21
(6) سورة النساء الآية 36
(7) سورة البينة الآية 5(4/9)
الله وعقابه، فاستمروا في طغيانهم وكفرهم وضلالهم ولم يؤمن به منهم إلا القليل، فأكثرهم ومعظمهم استكبروا عن ذلك كما بين الله ذلك في كتابه العظيم، فماذا فعل الله بهم؟.
فعل بهم ما بينه لنا في كتابه العظيم من إهلاكهم بالطوفان: وهو الماء العام الذي ملأ الأرض وعلا فوق الجبال وأغرق الله به من كفر بالله وعصى رسوله نوحا، ولم ينج إلا من كان مع نوح في السفينة كما قال سبحانه: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} (1) وهذا عقابهم في العاجل في الدنيا، ولهم عقاب آخر في الآخرة وهو العذاب في النار يوم القيامة نسأل الله العافية.
ثم جاءت عاد بعد ذلك وأرسل الله إليهم هودا بعد نوح، فسلكوا مسلك من قبلهم من قوم نوح في العناد والكفر بالله والضلال، فأرسل الله عليهم الريح العقيم فأهلكوا عن آخرهم ولم ينج منهم إلا من آمن بهود وهم القليل.
ثم جاء بعدهم قوم صالح وهم ثمود فسلكوا مسلك من قبلهم من الأمتين أمة نوح وأمة هود، فعصوا الرسل واستكبروا عن الحق فأخذهم الله بعقاب الصيحة والرجفة حتى هلكوا عن آخرهم ولم ينج إلا من آمن بنبيه صالح عليه الصلاة والسلام.
ثم جاء بعدهم الأمم الأخرى أمة إبراهيم وأمة لوط وشعيب وأمة يعقوب وإسحاق ويوسف، ثم جاء بعدهم موسى وهارون وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء كلهم دعوا الناس إلى توحيد الله كما أمروا، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (3) وكلهم أدوا ما عليهم من البلاغ والبيان عليهم الصلاة والسلام، بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة ونصحوا الأمة وبينوا لهم
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 15
(2) سورة النحل الآية 36
(3) سورة الأنبياء الآية 25(4/10)
معنى هذه الكلمة: " لا إله إلا الله " وبينوا أن الواجب إخلاص العبادة لله وحده وأنه هو الذي يستحق العبادة دون كل ما سواه، وأن الأشجار والأحجار والأصنام والكواكب والجن والإنس وغيرهم من المخلوقات كلهم لا يصلحون للعبادة؛ لأن العبادة يجب أن تصرف لله وحده.
وفرعون لما بغى وطغى وعاند موسى وخرج لقتله ساقه الله جل وعلا للبحر، وأغرقه ومن معه فيه في لحظة واحدة، وهذا عذاب معجل وهو الغرق وبعده عذاب النار، نسأل الله العافية والسلامة.
ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام دعا الناس إلى عبادة الله، وبشر بالجنة من آمن وحذر بالنار من كفر، فآمن من آمن وهم القليل في مكة، ثم بسبب الأذى له ولأصحابه أمره الله بالهجرة إلى المدينة، فهاجر إليها، ومن آمن معه ممن استطاع الهجرة، فصارت المدينة دار الهجرة، والعاصمة الأولى للمسلمين، وانتشر فيها دين الله، وقامت فيها سوق الجهاد بعد تعب عظيم، وإيذاء شديد من قريش وغيرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه في مكة.
كل ذلك من أجل هذه الكلمة " لا إله إلا الله "، الرسل تدعو إليها ومحمد خاتمهم عليه الصلاة والسلام يدعو إلى ذلك، يدعو إلى الإيمان بها، واعتقاد معناها، وتعطيل الآلهة التي عبدوها من دون الله وإنكارها وإخلاص العبادة لله وحده، والمشركون يأبون ذلك، ويقولون إنهم سائرون على طريقة أسلافهم، ويقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (1)
فأمة العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، سلكوا مسلك من قبلهم في العناد والكفر والضلال والتكذيب، ونبينا عليه الصلاة والسلام طيلة ثلاثة
__________
(1) سورة الزخرف الآية 23(4/11)
عشر سنة في مكة، يدعوهم إلى توحيد الله، وإلى ترك الشرك بالله، فلم يؤمن به إلا القليل، وهذا بعد الهجرة إلى المدينة، استمروا في طغيانهم، وقاتلوه يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب عنادا وكفرا وضلالا، وساعدهم من ساعدهم من كفار العرب، ولكن الله جلت قدرته أيد نبيه والمؤمنين وأعانهم، وجرى ما جرى يوم بدر من الهزيمة على أعداء الله، والنصر لأولياء الله، ثم جرى ما جرى يوم أحد من الامتحان الذي كتبه الله على عباده، وحصل ما حصل من الجراح والقتل على المسلمين بأسباب بينها في كتابه العظيم سبحانه وتعالى.
ثم جاءت وقعة الأحزاب بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أهل الكفر، فأعز الله جنده ونصر عبده وأنزل بأسه بالكفار، فرجعوا خائبين لم ينالوا خيرا ونصر الله المسلمين ضد أعدائهم.
ثم جاءت بعد ذلك غزوة الحديبية عام ست من الهجرة، وحصل فيها ما حصل من الصلح بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل مكة، والمهادنة عشر سنين حتى يأمن الناس، وحتى يتصل بعضهم ببعض، وحتى يتأملوا دعوته عليه الصلاة والسلام وما جاء به من الهدى، ثم نقضت قريش العهد فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم عام ثمان من الهجرة في رمضان، وفتح الله عليه مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجا والحمد لله.
فهذا الدين العظيم وهو الإسلام يحتاج من أهله إلى صبر ومصابرة وإخلاص لله ودعوة إليه وإيمان به وبرسله، والوقوف عند حدوده وترك لما نهى عنه عز وجل، هذا هو دين الله، الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه، وهو الدين الذي بعث به نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام، وهو توحيد الله والإخلاص له والإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والانقياد لشريعته قولا وعملا وعقيدة، وأصله وأساسه شهادة ألا لا إله إلا الله، التي بعث الله بها جميع الرسل، لا إسلام إلا بها من عهد نوح إلى عهد محمد عليه الصلاة والسلام، لا إسلام إلا بهذه الكلمة: " لا إله إلا الله " قولا وعملا وعقيدة،(4/12)
فيقول المسلم: " لا إله إلا الله " بلسانه ويصدقها بقلبه وأعماله، فيوحد الله، ويخصه بالعبادة، ويتبرأ من عبادة ما سواه، ولا بد مع هذا من الشهادة للنبي بالرسالة عليه الصلاة والسلام، لا بد من الإيمان بالله وحده وإخلاص العبادة له، لا بد من التصديق للرسل الذين بعثوا بذلك من عهد نوح إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم، لا بد مع الشهادة بأنه " لا إله إلا الله " والإيمان بالله: من تصديق نوح عليه الصلاة والسلام، فلا إسلام إلا بذلك.
وفي عهد هود كذلك لا إسلام إلا بتصديق هود عليه الصلاة والسلام، مع توحيد الله والإخلاص له، والإيمان بمعنى لا إله إلا الله، وهكذا في عهد صالح لا إسلام إلا بذلك.. بتوحيد الله والإخلاص له، والإيمان بصالح، وأنه رسول الله حقا عليه الصلاة والسلام، وهكذا من بعدهم كل نبي يبعث إلى أمته، لا بد في الإسلام من توحيد الله والإيمان بذاك الرسول الذي بعث إليهم وتصديقه، وآخرهم عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، هو آخر أنبياء بني إسرائيل وآخر الأنبياء قبل محمد عليه الصلاة والسلام، فلا إسلام إلا لمن آمن به واتبع ما جاء به، ولما أنكرته اليهود وكذبوه صاروا كفارا بذلك.
ثم بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وآخرهم، وجعل الدخول في الإسلام لا يتم ولا يصح إلا بالإيمان به عليه الصلاة والسلام، فلا بد من توحيد الله والإيمان بهذه الكلمة، وهي: " لا إله إلا الله " واعتقاد معناها. وأن معناها توحيد الله وإفراده بالعبادة، وتخصيصه بها دون كل ما سواه، مع الإيمان برسوله محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه خاتم الأنبياء، لا نبي بعده، هكذا علم الرسول أمته عليه الصلاة والسلام، وهكذا دل كتاب الله على ذلك، قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 177(4/13)
لا بد من الإيمان بالنبيين جميعا وآخرهم محمد عليه الصلاة والسلام، ولما سأل جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره (1) » .
فلا بد مع الإسلام وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله من الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين السابقين، والإيمان بجميع الملائكة، والكتب المنزلة على الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام جميعا، ولا بد من الإيمان بالقدر خيره وشره والإيمان باليوم الآخر، والبعث بعد الموت، والجنة والنار، وأن ذلك حق لا بد منه، ولكن أصل ذلك وأساسه الإيمان بالله وحده، وأنه هو المستحق العبادة.
هذا هو الأصل، وهذا هو الأساس والبقية تابعة لذلك، فمن أراد الدخول في الإسلام والاستقامة عليه والفوز بالجنة والنجاة من النار، وأن يكون من أتباع محمد عليه الصلاة والسلام الموعودين بالجنة والكرامة فإنه لا يتم له ذلك إلا بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
فتحقيق الأولى وهي " لا إله إلا الله " بإفراد الله بالعبادة، وتخصيصه بها، والإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله من أمر الجنة والنار والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
وأما تحقيق الثانية وهي " شهادة أن محمدا رسول الله"، فبالإيمان به صلى الله عليه وسلم، وأنه عبد الله ورسوله أرسله الله إلى الناس كافة إلى الجن والإنس، يدعوهم إلى توحيد الله والإيمان به، واتباع ما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام مع الإيمان بجميع الماضين من الرسل والأنبياء، ثم بعد ذلك الإيمان بشرائع الله التي شرعها لعباده، على يد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والأخذ بها والاستمساك بها من صلاة وزكاة وصوم وحج وجهاد وغير ذلك.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/28) .(4/14)
وكان صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن عمل يدخل به العبد الجنة وينجو به من النار قال له: تشهد أن لا الله إلا الله وأن محمدا رسول الله وربما قال له: تعبد الله ولا تشرك به شيئا فعبر له بالمعنى، فإن معنى شهادة أن لا إله إلا الله: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا.
ولهذا لما سأله جبرائيل عليه السلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنه «فقال: يا رسول الله، أخبرني عن الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا (1) » . وفي حديث عمر رضي الله عنه قال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (2) » فهذا يفسر هذا: فإن شهادة أن لا إله إلا الله: معناها إفراد الله بالعبادة، وهذا هو عبادة الله وعدم الإشراك به مع الإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام.
«وجاءه رجل فقال: يا رسول الله دلني على عمل أدخل به الجنة وأنجو من النار قال "تعبد الله ولا تشرك به شيئا " ثم قال " وتقيم الصلاة (3) » إلى آخره.
فعبادة الله وعدم الإشراك به هذا هو معنى لا إله إلا الله قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (4) يعني: اعلم أنه المستحق للعبادة، وأنه لا عبادة لغيره، بل هو المستحق لها وحده، وأنه الإله الحق، الذي لا تنبغي العبادة لغيره عز وجل.
وإنكار المشركين لها يبين معناها؛ لأنهم إنما أنكروها لما علموا أنها تبطل آلهتهم وتبين أنهم على ضلالة ولهذا أنكروها فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} (5) وقال الله عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (6) {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (7) فعرفوا أنها تبطل آلهتهم وتبين زيفها،
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (50) ، صحيح مسلم الإيمان (9) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4991) ، سنن ابن ماجه المقدمة (64) ، مسند أحمد بن حنبل (2/426) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/52) .
(3) صحيح البخاري الزكاة (1397) ، صحيح مسلم الإيمان (14) ، مسند أحمد بن حنبل (2/343) .
(4) سورة محمد الآية 19
(5) سورة ص الآية 5
(6) سورة الصافات الآية 35
(7) سورة الصافات الآية 36(4/15)
وأنها لا تصلح للعبادة، وأنها باطلة، وأن الإله الحق هو الله وحده سبحانه وتعالى. ولهذا أنكروها فعبادتهم للأصنام أو الأشجار أو الأحجار، أو الأموات أو الجن أو غير ذلك عبادة باطلة.
فجميع المخلوقات ليس عندهم ضر ولا نفع، كلهم مملوكون لله سبحانه وتعالى، عبيده جل وعلا، فلا يصلحون للعبادة؛ لأن الله سبحانه خالق كل شيء وهو القائل سبحانه وتعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) وقال جل وعلا: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} (2)
فالواجب على كل مكلف، وعلى كل مؤمن ومؤمنة من الجن والإنس التبصر في هذا الأمر وأن يعتني به كثيرا، حتى يكون جليا عنده، واضحا لديه؛ لأن أصل الدين وأساسه عبادة الله وحده، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله وحده سبحانه وتعالى، ويضاف إلى ذلك الإيمان بالرسل وبخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام، لا بد من ذلك مع الإيمان بملائكة الله، وكتب الله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره والإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله.
كل ذلك لا بد منه في تحقيق الدخول في الإسلام وكما سبق بيان ذلك، وكثير من الناس يظن أن قول: لا إله إلا الله، أو أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يكفيه ولو فعل ما فعل، وهذا من الجهل العظيم، فإنها ليست كلمات تقال، بل كلمات لها معنى لا بد من تحقيقه بأن يقولها ويعمل بمقتضاها فإذا قال: لا إله إلا الله، وهو يحارب الله بالشرك وعبادة غيره، فإنه ما حقق هذه الكلمة، فقد قالها المنافقون وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول، وهم مع ذلك في الدرك الأسفل من النار وكما قال عز وجل:
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة طه الآية 98(4/16)
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (1) لماذا؟! ؛ لأنهم قالوها باللسان وكفروا بها بقلوبهم، ولم يعتقدوها ولم يعملوا بمقتضاها فلا ينفعهم قولها بمجرد اللسان.
وهكذا من قالها من اليهود والنصارى وعباد الأوثان، كلهم على هذا الطريق، لا تنفعهم حتى يؤمنوا بمعناها وحتى يخصوا الله بالعبادة، وحتى ينقادوا لشرعه.
وهكذا اتباع مسيلمة الكذاب والأسود العنسي والمختار بن أبي عبيد الثقفي الذين ادعوا النبوة وغيرهم ويقولون لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، لكن لما صدقوا من ادعى أنه نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم كفروا، وصاروا مرتدين؛ لأنهم كذبوا قول الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (2) فهو خاتمهم وآخرهم، ومن ادعى بعده أنه نبي أو رسول صار كافرا ضالا، وهكذا من صدقه كأتباع مسيلمة في اليمامة والأسود العنسي في اليمن والمختار في العراق وغيرهم لما صدقوا هؤلاء الكذابين بأنهم أنبياء. كفر من صدقهم بذلك واستحقوا أن يقاتلوا.
فإذا كان من ادعى مقام النبوة يكون كافرا؛ لأنه ادعى ما ليس له في هذا المقام العظيم، وكذب على الله فكيف بالذي يدعي مقام الألوهية، وينصب نفسه ليعبد من دون الله؟ لا شك أن هذا أولى بالكفر والضلال.
فمن يعبد غير الله، ويصرف له العبادة، ويوالي على ذلك ويعادي عليه فقد أتى أعظم الكفر والضلال.
__________
(1) سورة النساء الآية 145
(2) سورة الأحزاب الآية 40(4/17)
فمن شهد لمخلوق بالنبوة بعد محمد عليه الصلاة والسلام فهو كافر ضال، فلا إسلام ولا إيمان إلا بشهادة أن لا إله إلا الله قولا وعملا وعقيدة، وأنه لا معبود بحق سوى الله، ولا بد من الإيمان بأن محمدا رسول الله، مع تصديق الأنبياء الماضين والشهادة لهم بأنهم بلغوا الرسالة عليهم الصلاة والسلام.
ثم بعد ذلك يقوم العبد بما أوجب الله عليه من الأوامر والنواهي، هذا هو الأصل لا يكون العبد مسلما إلا بهذا الأصل: بإفراد الله بالعبادة والإيمان بما دلت عليه، هذه الكلمة: " لا إله إلا الله "، ولا بد مع ذلك من الإيمان برسول الله والأنبياء قبله، وتصديقهم واعتقاد أنهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة عليهم الصلاة والسلام، وكثير من الجهلة كما تقدم يظن أنه متى قال لا إله إلا الله وشهد أن محمدا رسول الله فإنه يعتبر مسلما ولو عبد الأنبياء أو الأصنام أو الأموات أو غير ذلك، وهذا من الجهل العظيم والفساد الكبير والضلال البعيد، بل لا بد من العمل بمعناها والاستقامة عليه، وعدم الإتيان بضد ذلك قولا وعملا وعقيدة، ولهذا يقول جل وعلا في سورة فصلت: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (1) {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (2) الآية.
والمعنى أنهم قالوا: ربنا الله ثم استقاموا على ذلك، ووحدوه وأطاعوه واتبعوا ما يرضيه، وتركوا معاصيه، فلما استقاموا على ذلك صارت الجنة لهم، وفازوا بالكرامة، وفي الآية الأخرى من سورة الأحقاف قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4)
__________
(1) سورة فصلت الآية 30
(2) سورة فصلت الآية 31
(3) سورة الأحقاف الآية 13
(4) سورة الأحقاف الآية 14(4/18)
فعليك يا عبد الله بالتبصر في هذا الأمر والتفقه فيه بغاية العناية، حتى تعلم أنه الأصل الأصيل والأساس العظيم لدين الله، فإنه لا إسلام ولا إيمان إلا بشهادة أن لا إله إلا الله قولا وعملا وعقيدة، والشهادة بأن محمدا رسول الله قولا وعملا وعقيدة، والإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله عما كان وما سيكون، ثم بعد ذلك تأتي بأعمال الإسلام من صلاة وزكاة وصوم وغير ذلك.
ولا ينبغي لعاقل أن يغتر بدعاة الباطل، ودعاة الشرك الذين دعوا غير الله، وأشركوا بالله غيره، وعبدوا المخلوقين من دون الله، وزعموا أنهم بذلك لا يكونون كفارا؛ لأنهم قالوا: " لا إله إلا الله "، قالوها بالألسنة، ونقضوها بأعمالهم وأقوالهم الكفرية، قالوها وأفسدوها بشركهم بالله، وعبادة غيره سبحانه وتعالى، فلم تعصم دماءهم ولا أموالهم، ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله عز وجل (1) » .
هكذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا بد من هذه الأمور.
وفي حديث طارق بن أشيم الأشجعي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل (2) » . وفي اللفظ الآخر: «من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه (3) » أخرجهما الإمام مسلم في صحيحه.
فأبان النبي صلى الله عليه وسلم بهذين الحديثين وأمثالهما أنه لا بد من توحيد الله
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (23) ، مسند أحمد بن حنبل (6/394) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (23) ، مسند أحمد بن حنبل (6/394) .(4/19)
والإخلاص له، ولا بد من الكفر بعبادة غيره، وإنكار ذلك والبراءة منه، مع التلفظ بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأداء بقية الحقوق الإسلامية ... وهذا هو الإسلام حقا، وضده الكفر بالله عز وجل.
وهذا الأصل يجب التزامه والسير عليه، وهو أن توحد الله، وتخلص له العبادة أينما كنت مع أداء الحقوق التي فرضها الله، وترك ما حرم الله عليك، وبهذا تكون مسلما، مستحقا لثواب الله ولكرامته سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، ولذلك أنزل الله قوله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) فبين الحكمة في خلقهم، وهي أن يعبدوا الله وحده، وأنهم لم يخلقوا عبثا ولا سدى، بل خلقوا لهذا الأمر العظيم؛ ليعبدوا الله جل وعلا، ولا يشركوا به شيئا، ويخصوه بدعائهم وخوفهم ورجائهم وصلاتهم وصومهم، وذبحهم ونذرهم وغير ذلك، وقد بعث بهذا الأمر الرسل، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2)
فكل من أتى بناقض من نواقض الإسلام أبطل هذه الكلمة؛ لأن هذه الكلمة إنما تنفع أهلها إذا عملوا بها واستقاموا عليها، فأفردوا الله بالعبادة وخصوه بها، وتركوا عبادة ما سواه واستقاموا على ما دلت عليه من المعنى، فأطاعوا أوامر الله وتركوا نواهي الله، ولم يأتوا بناقض ينقضها.
وبذلك يستحقون كرامة الله، والفوز بالسعادة والنجاة من النار.
أما من نقضها بقول أو عمل فإنها لا تنفعه ولو قالها ألف مرة في الساعة الواحدة، فلو قال لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وصلى وصام
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة النحل الآية 36(4/20)
وزكى وحج ولكنه يقول: إن مسيلمة الكذاب - الذي خرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم في عهد الصحابة يدعي أنه رسول الله - لو قال: إنه صادق، كفر ولم ينفعه كل شيء. أو قال: إن المختار بن أبي عبيد الثقفي الذي ادعى النبوة في العراق إنه نبي صادق وأن الذين قاتلوه أخطئوا في قتاله، أو قال في حق الأسود العنسي الذي ادعى في اليمن أنه نبي، أو من بعدهم من الكذابين: إنهم صادقون يكون كافرا، ولو قال لا إله إلا الله، وكررها آلاف المرات.
وهكذا لو قالها وهو يعبد البدوي أو يعبد الحسين أو يعبد ابن علوان أو العيدروس، أو يعبد النبي محمدا صلى الله عليه وسلم، أو يعبد ابن عباس رضي الله عنهما، أو يعبد الشيخ عبد القادر الجيلاني، أو غيرهم يدعوهم ويستغيث بهم، وينذر لهم، ويطلب منهم المدد والعون، لم تنفعه هذه الكلمة، وهي " لا إله إلا الله "، وصار بذلك كافرا ضالا، وناقضا لهذه الكلمة، مبطلا لها.
وهكذا لو قال لا إله إلا الله، وصلى وصام ولكنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم، أو يتنقصه أو يهزأ به، أو يقول: إنه لم يبلغ الرسالة كما ينبغي، بل قصر في ذلك، أو يعيبه بشيء من العيوب، صار كافرا، وإن قال لا إله إلا الله آلاف المرات، وإن صلى وصام؛ لأن هذه النواقض تبطل دين العبد الذي يأتي بها، ولهذا ذكر العلماء رحمهم الله في كتبهم بابا سموه: باب حكم المرتد، وهو الذي يكفر بعد إسلامه، وذكروا فيه أنواعا من نواقض الإسلام منها ما ذكرنا آنفا.
وهكذا لو قال لا إله إلا الله، وجحد وجوب الصلاة، فقال: إن الصلاة ليست واجبة، أو الصوم ليس واجبا، أو الزكاة ليست واجبة، أو الحج ليس واجبا مع الاستطاعة، كفر إجماعا ولم ينفعه قوله: لا إله إلا الله أو صلاته(4/21)
أو صومه إذا جحد وجوب ذلك، ولو صام وصلى وتعبد، ولكنه يقول: إن الزنى حلال، أو غيره مما أجمعت الأمة على تحريمه كفر عند جميع المسلمين، ونقض دينه بهذا القول، وإن قال: لا إله إلا الله، وشهد أن محمدا رسول الله وصلى وصام؛ لأنه بتحليله الزنى صار مكذبا لله الذي حرمه بقوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (1)
وهكذا لو قال: إن الخمر أو الميسر حلال، كفر ولو صلى وصام، ولو قال: لا إله إلا الله فإنه يصير مشركا كافرا عند جميع المسلمين؛ لأنه مكذب لله في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) لكن إن كان من قال ذلك مثله يجهل الحكم لكونه نشأ في بلاد بعيدة عن المسلمين، بين له حكم ذلك بالأدلة الشرعية، فإذا أصر على حل الزنى أو الخمر ونحوهما من المحرمات المجمع عليها، كفر إجماعا.
والمقصود من هذا أن يعلم أن الدخول في الإسلام والنطق بهذه الكلمة: " لا إله إلا الله "، والشهادة بأن محمدا رسول الله لا يكفي في عصمة الدم والمال، إذا أتى قائلها بما ينقضه.
وهكذا لو أن إنسانا صلى وصام وتعبد وقال هذه الكلمة آلاف المرات في كل مجلس، ثم قال مع ذلك: إن أمه حلال أن يجامعها، أو بنته أو أخته، كفر عند جميع المسلمين، وصار مرتدا بذلك لكونه استحل ما حرم الله، بالنص والإجماع.
وهكذا لو كذب نبيا من الأنبياء، وقال: إن محمدا رسول الله وأنا مؤمن به وموحد لله، وأقول لا إله إلا الله، ولكني أقول إن عيسى ابن مريم كذاب ليس برسول لله، أو موسى أو هارون أو داود أو
__________
(1) سورة الإسراء الآية 32
(2) سورة المائدة الآية 90(4/22)
سليمان أو نوحا أو هودا أو صالحا أو غيرهم ممن نص القرآن على نبوته ليسوا أنبياء، أو سبهم كفر إجماعا ولم ينفعه قول لا إله إلا الله ولا شهادة أن محمدا رسول الله، ولا صلاته ولا صومه لأنه أتى بما يكذب به الله ورسوله، وطعن في رسل الله، وهكذا لو أتى بكل شيء مما شرعه الله، وعبد الله وحده وصلى وصام ولكنه يقول الزكاة ليست واجبة، من شاء زكى ومن شاء لم يزك كفر إجماعا، وصار من المرتدين الذين يستحقون أن تراق دماؤهم؛ لأنه قال: الزكاة غير واجبة، ولأنه خالف قول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (1) وخالف النصوص من السنة الدالة على أنها فرض من فروض الإسلام وركن من أركانه.
وهكذا لو ترك الصلاة، ولو قال: إنها واجبة، فإنه يكفر في أصح قولي العلماء كفرا أكبر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (2) » أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وأهل السنن بإسناد صحيح، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (3) » أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على كفر تارك الصلاة، ومن أراد التفصيل في هذا الأمر فليراجع باب حكم المرتد، ليعرف ما ذكر فيه العلماء من النواقض الكثيرة.
وبذلك يكون المؤمن على بصيرة في هذا الدين، ويعرف أن لا إله إلا الله هي أصل الدين، وهي أساس الملة مع شهادة أن محمدا رسول الله، وأنه لا إسلام ولا إيمان ولا دين إلا بهاتين الشهادتين، مع الإيمان بكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والالتزام بذلك، مع الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله
__________
(1) سورة البقرة الآية 43
(2) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/370) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .(4/23)
صلى الله عليه وسلم ومع الإيمان بفرائض الله، ومع الإيمان بمحارم الله، ومع الوقوف عند حدود الله.
وهذا أمر أوضحه العلماء، وبينوه في كتبهم، وهو محل إجماع ووفاق بين أهل العلم، فينبغي لك يا عبد الله أن تكون على بصيرة، وألا تنخدع بقول الجاهلين والضالين من القبوريين وغيرهم، من عباد غير الله، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وجهلوا دين الله، حتى عبدوا مع الله غيره، ويزعمون أنهم بذلك ليسوا كافرين؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، وهم ينقضونها بأعمالهم وأقوالهم، وتعلم أيضا أن هاتين الشهادتين اللتين هما أصل الدين وأساس الملة ينتقضان في حق من أتى بناقض من نواقض الإسلام.
فلو أن هذا الرجل أو هذه المرأة شهدا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وصليا وصاما إلى غير ذلك من أعمال، لكنهم يقولان: إن الجنة ليست حقيقة أو إن النار ليست حقيقة، فلا جنة ولا نار، بل كله كلام ما له حقيقة، فإنهما يكفران بذلك القول كفرا أكبر، بإجماع المسلمين.
ولو صلى وصام من قال ذلك وزعم أنه مسلم موحد لله وترك الشرك ولكنه يقول: إن الجنة أو النار ليستا حقا، ما هناك جنة ولا نار، أو قال: ما هناك ميزان، أو ما هناك قيامة، ما فيه يوم آخر، فإنه بذلك يصير مرتدا كافرا ضالا عند جميع المسلمين.
أو قال: إن الله ما يعلم الغيب أو لا يعلم الأشياء على حقيقتها، فإنه يكفر بذلك لكونه بهذا القول مكذبا لقول الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) وما جاء في معناها من الآيات، ولأنه قد تنقص ربه سبحانه وتعالى، وسبه بهذا القول، وبهذا تعلم يا أخي أن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله: هي أصل الإيمان وهي أساس
__________
(1) سورة الأنفال الآية 75(4/24)
الملة، ولكنها لا تعصم قائلها إذا أتى بناقض من نواقض الإسلام، بل لا بد من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.
ولا بد مع ذلك من أداء فرائض الله، وترك محارم الله، فمن أتى بعد ذلك بناقض من نواقض الإسلام بطل في حقه قول لا إله إلا الله، وصار مرتدا كافرا، وإن أتى بمعصية من المعاصي التي دون الشرك نقص دينه، وضعف إيمانه، ولم يكفر كالذي يزني أو يشرب الخمر، وهو يؤمن بتحريمها فإن دينه يكون ناقصا، وإيمانه ضعيفا، وهو على خطر إذا مات على ذلك من دخول النار والعذاب فيها، ولكنه لا يخلد فيها إذا كان قد مات موحدا مسلما، بل له أمد ينتهي إليه حسب مشيئة الله سبحانه وتعالى، ولكنه لا يكون آمنا، بل هو على خطر من دخول النار؛ لأن إيمانه قد ضعف ونقص بهذه المعصية، التي مات عليها ولم يتب، من زنى أو سرقة أو غيرهما من الكبائر.
فالمخالفة لأمر الله قسمان:
قسم يوجب الردة، ويبطل الإسلام بالكلية، ويكون صاحبه كافرا كالنواقض التي أوضحتها سابقا.
والقسم الثاني: لا يبطل الإسلام ولكن ينقصه ويضعفه، ويكون صاحبه على خطر عظيم من غضب الله وعقابه إذا لم يتب، وهو جنس المعاصي التي يعرف مرتكبها أنها معاصي، ولكن لا يستحلها، كالذي مات على الزنى، أو على الخمر، أو على عقوق الوالدين، أو على الربا ونحو ذلك. فهذا تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) ؛ لأنه ليس
__________
(1) سورة النساء الآية 48(4/25)
بكافر؛ لكونه لم يستحل هذه الأمور، وإنما فعلها اتباعا للهوى والشيطان، أما من استحل الزنى أو الخمر أو الربا فإنه يكفر كما تقدم بيان ذلك، فينبغي التنبه لهذه الأمور، والحذر منها، وأن يكون المسلم على بصيرة من أمره. وهذا الذي ذكرناه هو قول أهل السنة والجماعة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم وأتباعهم بإحسان.
رزقني الله وجميع المسلمين الاستقامة على دينه، ومن علينا جميعا بالفقه في الدين، والثبات عليه، وأعاذنا الله جميعا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.(4/26)
أسئلة مهمة في العقيدة تتعلق بالمحاضرة.
متى يعذر المسلم؟
س1: هل يعذر المسلم إذا فعل شيئا من الشرك كالذبح والنذر لغير الله جاهلا؟
ج 1: الأمور قسمان: قسم يعذر فيه بالجهل وقسم لا يعذر فيه بالجهل.
فإذا كان من أتى ذلك بين المسلمين، وأتى الشرك بالله، وعبد غير الله، فإنه لا يعذر لأنه مقصر لم يسأل، ولم يتبصر في دينه فيكون غير معذور في عبادته غير الله من أموات أو أشجار أو أحجار أو أصنام، لإعراضه وغفلته عن دينه، كما قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} (1) ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استأذن ربه أن يستغفر لأمه لأنها ماتت في الجاهلية لم يؤذن له ليستغفر لها؛ لأنها ماتت على دين قومها عباد الأوثان؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم قال لشخص سأله عن أبيه، قال: «هو في النار، فلما رأى ما في وجهه قال: إن أبي وأباك في النار (2) »
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 3
(2) صحيح مسلم الإيمان (203) ، سنن أبو داود السنة (4718) ، مسند أحمد بن حنبل (3/119) .(4/26)
لأنه مات على الشرك بالله، وعلى عبادة غيره سبحانه وتعالى، فكيف بالذي بين المسلمين وهو يعبد البدوي، أو يعبد الحسين، أو يعبد الشيخ عبد القادر الجيلاني، أو يعبد الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم، أو يعبد عليا أو يعبد غيرهم.
فهؤلاء وأشباههم لا يعذرون من باب أولى؛ لأنهم أتوا الشرك الأكبر وهم بين المسلمين، والقرآن بين أيديهم. وهكذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودة بينهم، ولكنهم عن ذلك معرضون.
والقسم الثاني: من يعذر بالجهل كالذي ينشأ في بلاد بعيدة عن الإسلام في أطراف الدنيا، أو لأسباب أخرى كأهل الفترة ونحوهم ممن لم تبلغهم الرسالة، فهؤلاء معذورون بجهلهم، وأمرهم إلى الله عز وجل، والصحيح أنهم يمتحنون يوم القيامة فيؤمرون، فإن أجابوا دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار؛ لقوله جل وعلا: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (1) ولأحاديث صحيحة وردت في ذلك.
وقد بسط العلامة ابن القيم رحمه الله الكلام في هذه المسألة في آخر كتابه: (طريق الهجرتين) لما ذكر طبقات المكلفين، فليراجع هناك لعظم فائدته.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 15(4/27)
حكم التوسل، ومعاشرة الفساق:
س 2: هل يجوز التوسل بجاه فلان أو حق فلان، وهل تجوز معاشرة الفساق وصحبتهم؟
ج 2: هذا من البدع التي لم يشرعها الله عند جمهور أهل العلم، وإنما المشروع التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وتوحيده ومحبته والإيمان به، وبالأعمال الصالحات كما قال سبحانه:(4/27)
{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) ولم يقل سبحانه: فادعوه بجاه محمد، أو بجاه الأنبياء أو بجاه الأولياء، أو بحق بيته العتيق، أو نحو ذلك وإنما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (2) أي بأسمائه هو وصفاته، ويدعى أيضا بتوحيده كما جاءت الأحاديث بذلك، ومنها الحديث: «اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد (3) » .
ومن ذلك حديث أهل الغار الذين انطبقت عليهم صخرة لما أووا إلى الغار في ليل فيه مطر، فقد انطبقت عليهم صخرة وسدت عليهم فم الغار ولم يستطيعوا الخروج، فقالوا فيما بينهم: لا ينجينا من هذا إلا أن نتوسل إلى الله بأعمالنا الخالصة، فتوسلوا إلى الله، فتوسل أحدهم إلى الله ببره لوالديه، والثاني توسل بعفته عن الزنى، والثالث توسل بأدائه للأمانة، ففرج الله عنهم.
فعلم بذلك مما ذكرنا أن العبد إذا توسل إلى الله بأسمائه أو بتوحيده، أو بإيمانه به ومحبته له، أو بالإيمان بنبيه صلى الله عليه وسلم ومحبته له، أو بأداء ما افترض الله عليه، من طاعته، أو بترك ما حرم عليه، فهو توسل مشروع وصاحبه حري بالإجابة.
وأما معاشرة الفساق ومجالستهم فلا تجوز؛ لأنهم يجرون إلى فسقهم وضلالهم، لكن إذا خالطهم للدعوة إلى الله وإنكار ما هم عليه من الباطل، وتوجيههم للخير، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فهذا لا بأس به؛ لأن المسلم مأمور بذلك، أما من يتخذهم أصحابا وخلانا يجالسهم ويأكل معهم ويأنس بهم، فذلك لا يجوز.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) سورة الأعراف الآية 180
(3) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان(4/28)
التحاكم إلى القوانين العرفية والقوانين القبلية:
س 3: من يتحاكم إلى القوانين العرفية، والقوانين القبلية، هل حققوا معنى لا إله إلا الله؟
ج 3: أما تحكيم القوانين والأعراف القبلية فهذا منكر لا يجوز، والواجب تحكيم شرع الله، كما قال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1)
والواجب على جميع الدول المدعية الإسلام أن تحكم شرع الله وأن تدع تحكيم القوانين، وعلى القبيلة أي قبيلة أن ترجع إلى حكم الله، ولا ترجع إلى قوانينها وأعرافها وسوالف آبائها.
أما الصلح فلا بأس به من غير إلزام.. فإذا أصلح شيخ القبيلة، أو أحد أفراد القبيلة وأعيانها بين متخاصمين صلحا لا يخالف شرع الله، بأن أشاروا على هذا بأن يسقط بعض حقه، وهذا بأن يتسامح عن بعض حقه، وهذا بأن يعفو؛ فلا بأس بهذا، أما أن يلزموهم بقوانين ترجع إلى أسلافهم وآبائهم فهذا لا يجوز، أما الصلح بالتراضي على أن هذا يسمح عن بعض حقه، أو يسمح عن سبه لأخيه، أو ما أشبه ذلك، فهذا لا بأس به لقول الله تعالى: والصلح خير ولقول النبي صلى الله عليه وسلم «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما (2) » .
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) سنن الترمذي الأحكام (1352) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2353) .(4/29)
النكاح بنية الطلاق:
س 4: سمعت لك فتوى على أحد الأشرطة بجواز الزواج في بلاد(4/29)
الغربة، وهو ينوي تركها بعد فترة معينة، لحين انتهاء الدورة أو الابتعاث. فما هو الفرق بين هذا الزواج وزواج المتعة، وماذا لو أنجبت زوجته طفلة، هل يتركها في بلاد الغربة مع أمها المطلقة أرجو الإيضاح؟
ج 4: نعم لقد صدر فتوى من اللجنة الدائمة وأنا رئيسها بجواز النكاح بنية الطلاق إذا كان ذلك بين العبد وبين ربه، إذا تزوج في بلاد غربة ونيته أنه متي انتهى من دراسته أو من كونه موظفا وما أشبه ذلك أن يطلق فلا بأس بهذا عند جمهور العلماء، وهذه النية تكون بينه وبين الله سبحانه، وليست شرطا.
والفرق بينه وبين المتعة: أن نكاح المتعة يكون فيه شرط مدة معلومة كشهر أو شهرين أو سنة أو سنتين ونحو ذلك، فإذا انقضت المدة المذكورة انفسخ النكاح، هذا هو نكاح المتعة الباطل، أما كونه تزوجها على سنة الله ورسوله، ولكن في قلبه أنه متى انتهى من البلد سوف يطلقها، فهذا لا يضره وهذه النية قد تتغير وليست معلومة وليست شرطا بل هي بينه وبين الله فلا يضره ذلك، وهذا من أسباب عفته عن الزنى والفواحش، وهذا قول جمهور أهل العلم، حكاه عنهم صاحب المغني موفق الدين ابن قدامة رحمه الله.(4/30)
حكم ذبيحة من لا تعرف عقيدته:
س 5: هل تؤكل ذبيحة من لا تعرف عقيدته، ومن يستحل المعاصي وهو يعلم أنها حرام، ومن يعرف عنه دعاء الجن بدون قصد؟
ج 5: إذا كان لا يعرف بالشرك فذبيحته حلال إذا كان مسلما يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولا يعرف عنه ما يقتضي كفره فإن ذبيحته تكون حلالا، إلا إذا عرف عنه أنه قد أتى بشيء من الشرك كدعاء الجن أو(4/30)
دعاء الأموات، والاستغاثة بهم فهذا نوع من الشرك الأكبر، ومثل هذا لا تؤكل ذبيحته، ومن أمثلة دعاء الجن أن يقول: افعلوا كذا أو افعلوا كذا أو أعطوني كذا أو افعلوا بفلان كذا، وهكذا من يدعو أصحاب القبور أو يدعو الملائكة ويستغيث بهم أو ينذر لهم فهذا كله من الشرك الأكبر. نسأل الله السلامة والعافية.
أما المعاصي فهي لا تمنع من أكل ذبيحة من يتعاطى شيئا منها إذا لم يستحلها، بل هي حلال إذا ذبحها على الوجه الشرعي، أما من يستحل المعاصي فهذا يعتبر كافرا، كأن يستحل الزنى أو الخمر أو الربا أو عقوق الوالدين أو شهادة الزور ونحو ذلك من المحرمات المجمع عليها بين المسلمين، نسأل الله العافية من كل ما يغضبه.(4/31)
توضيح معنى الشرك بالله (1) .
س 1: ما هو الشرك وما تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (2) الآية. .
ج 1: الشرك على اسمه هو تشريك غير الله مع الله في العبادة كأن يدعو الأصنام أو غيرها، يستغيث بها أو ينذر لها أو يصلي لها أو يصوم لها أو يذبح لها، ومثل أن يذبح للبدوي أو للعيدروس أو يصلي لفلان أو يطلب المدد من الرسول صلى الله عليه وسلم أو من عبد القادر أو من العيدروس في اليمن أو غيرهم من الأموات والغائبين فهذا كله يسمى شركا، وهكذا إذا دعا الكواكب أو الجن أو استغاث بهم أو طلبهم المدد أو ما أشبه ذلك، فإذا فعل شيئا من هذه العبادات مع الجمادات أو مع الأموات أو الغائبين صار هذا شركا بالله عز وجل، قال الله جل وعلا: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (4) ومن الشرك أن يعبد غير الله عبادة كاملة، فإنه يسمى شركا ويسمى كفرا، فمن أعرض عن الله بالكلية وجعل عبادته لغير الله كالأشجار أو الأحجار أو الأصنام أو الجن أو بعض الأموات من الذين يسمونهم بالأولياء يعبدهم أو يصلي لهم أو يصوم لهم وينسى الله بالكلية فهذا أعظم كفرا وأشد شركا، نسأل الله العافية.
وهكذا من ينكر وجود الله، ويقول: ليس هناك إله والحياة مادة كالشيوعيين والملاحدة المنكرين لوجود
__________
(1) نشرت في المجلة العربية التي تصدر شهريا بالرياض في الباب المخصص لسماحته بالإجابة على أسئلة القراء
(2) سورة المائدة الآية 35
(3) سورة الأنعام الآية 88
(4) سورة الزمر الآية 65(4/32)
الله هؤلاء أكفر الناس وأضلهم وأعظمهم شركا وضلالا نسأل الله العافية، والمقصود أن أهل هذه الاعتقادات وأشباهها كلها تسمى شركا وتسمى كفرا بالله عز وجل، وقد يغلط بعض الناس لجهله فيسمي دعوة الأموات والاستغاثة بهم وسيلة، ويظنها جائزة وهذا غلط عظيم؛ لأن هذا العمل من أعظم الشرك بالله، وإن سماه بعض الجهلة أو المشركين وسيلة، وهو دين المشركين الذي ذمهم الله عليه وعابهم به، وأرسل الرسل وأنزل الكتب لإنكاره والتحذير منه، وأما الوسيلة المذكورة في قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} (1)
فالمراد بها التقرب إليه سبحانه بطاعته، وهذا هو معناها عند أهل العلم جميعا، فالصلاة قربة إلى الله فهي وسيلة، والذبح لله وسيلة كالأضاحي والهدي، والصوم وسيلة، والصدقات وسيلة، وذكر الله وقراءة القرآن وسيلة، وهذا هو معنى قوله جل وعلا: {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} (2) يعني ابتغوا القربة إليه بطاعته، هكذا قال ابن كثير وابن جرير والبغوي وغيرهم من أئمة التفسير، والمعنى التمسوا القربة إليه بطاعته واطلبوها أينما كنتم مما شرع الله لكم، من صلاة وصوم وصدقات وغير ذلك، وهكذا قوله في الآية الأخرى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (3) هكذا الرسل وأتباعهم يتقربون إلى الله بالوسائل التي شرعها من جهاد وصوم وصلاة وذكر وقراءة قرآن إلى غير ذلك من وجوه الوسيلة، أما ظن بعض الناس أن الوسيلة هي التعلق بالأموات والاستغاثة بالأولياء فهذا ظن باطل
__________
(1) سورة المائدة الآية 35
(2) سورة المائدة الآية 35
(3) سورة الإسراء الآية 57(4/33)
وهذا اعتقاد المشركين الذين قال الله فيهم: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (1) فرد عليهم سبحانه بقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2)
__________
(1) سورة يونس الآية 18
(2) سورة يونس الآية 18(4/34)
هذا هو طريق الرسل وأتباعهم (1) .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فلقد سرني كثيرا وسر كل مسلم عرف ما تقومون به وانشرحت صدورنا بما نسمع عنكم من عمل متواصل، وجهود مشكورة في سبيل إعلاء كلمة الله ومجاهدة أعدائه الكفرة الملاحدة والاهتمام بنشر العلم الشرعي والمعتقد الصحيح ومحاربة البدع والمنكرات فنسأل الله أن يقر أعيننا وأعينكم بظهور دينه ودحر عدوه وأن يجعل العاقبة لعباده المتقين.
ووصيتي هي تقوى الله سبحانه والإخلاص له والصدق معه والثبات على طريق الجهاد والدعوة وحمل لواء العقيدة السلفية ونشر العلم الصحيح المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واجتهاد أئمة السلف المبني عليهما فإن هذا هو طريق الرسل وأتباع الرسل، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) وقال سبحانه: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (3) وقال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (4) الآية، ولا شك أن من سلك هذا السبيل فسيجد من الإيذاء والتضييق من أعداء الله ما وجده رسل الله وأولياؤه وأئمة العلم والدين من أتباعهم على هديهم لكن العاقبة للمتقين إذا تذرعوا بالصبر والثبات وإذا علم الله منهم حسن النية والإخلاص له وأن هدفهم هو إعلاء كلمته ونصر دينه وليس عرضا من الدنيا، قال تعالى:
__________
(1) رسالة بعث بها سماحته إلى الشيخ جميل الرحمن
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة الفرقان الآية 52
(4) سورة التوبة الآية 100(4/35)
{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (1) وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (2)
ولئن حوربتم وقتلتم وضربتم وشتمتم فلستم أفضل من رسل الله عليهم صلواته وسلامه وعليكم بالصبر والرفق فإن صاحب البدع والمعصية كالمريض يؤخذ بالرفق والحكمة، والرفق ما كان في شيء إلا زانه، ويعطي الله بالرفق ما لا يعطي على العنف ولا على غيره، واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا، كما قال صلى الله عليه وسلم.
وإنني أسأل الله أن يبارك في دعوتكم وأن يجعلها سببا مباركا لنشر التوحيد في بلادكم، واحتسبوا عند الله أجركم واذكروا قوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (3) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا (4) » .
أخي الشيخ جميل الرحمن: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن تسعونهم بأخلاقكم، فالله الله في قومكم حاولوا كسب قلوبهم ومودتهم والتقرب إليهم بما يرضي الله سبحانه، ليقبلوا منكم ويأخذوا عنكم بحسن الخلق ورحابة الصدر.
وكونوا يدا واحدة على أعداء الله وأعدائكم حتى يكتب الله لكم النصر على عدوكم وعدوه فعسى أن يكون قريبا.
وفقنا الله وإياكم لكل خير وهدانا إلى امتثال أمره في بذل النصيحة للمسلمين؛ ولاتهم وعامتهم، ورزقنا الاستقامة على دينه والثبات على نهجه ونصرة دينه والدعوة إليه على بصيرة إنه ولي ذلك والقادر عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة القصص الآية 83
(2) سورة يوسف الآية 90
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2942) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(4) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .(4/36)
وجوب شكر النعم والحذر من صرفها في غير مصارفها (1)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، أما بعد:
فقد يبتلي الله عباده بالفقر والحاجة كما حصل لأهل هذه البلاد في أول القرن الرابع عشر قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (2) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (3)
كما يبتليهم بالنعم وسعة الرزق كما هو واقعنا اليوم ليختبر إيمانهم وشكرهم قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (4) والعاقبة الحميدة في كل ذلك للمتقين الذين تكون أعمالهم وفق ما شرع الله كالصبر والاحتساب في حال الفقر وشكر الله على النعم وصرف المال في مصارفه في حال الغنى.
ومن الاقتصاد صرف المال في مصارفه في المأكل والمشرب من غير تقتير على النفس والأهل، ولا إسراف في تضييع المال من غير حاجة وقد نهى الله عن ذلك كله قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (5) وقال تعالى في النهي عن إضاعة المال: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (6) الآية.
نهى الله جل وعلا في هذه الآية عن إعطاء الأموال للسفهاء؛ لأنهم يصرفونها في غير مصارفها فدل ذلك على أن صرفها في غير مصارفها أمر منهي عنه، وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (7)
__________
(1) نشرت بمجلة الدعوة التي تصدر بالرياض
(2) سورة البقرة الآية 155
(3) سورة البقرة الآية 156
(4) سورة التغابن الآية 15
(5) سورة الإسراء الآية 29
(6) سورة النساء الآية 5
(7) سورة الأعراف الآية 31(4/37)
وقال سبحانه: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (1) {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (2) الآية.
والإسراف هو: الزيادة في صرف الأموال على مقدار الحاجة.
والتبذير: صرفها في غير وجهها.
وقد ابتلي الناس اليوم بالمباهاة في المآكل والمشارب خاصة في الولائم وحفلات الأعراس فلا يكتفون بقدر الحاجة وكثير منهم إذا انتهى الناس من الأكل ألقوا باقي الطعام في الزبالة والطرق الممتهنة.
وهذا من كفر النعمة وسبب في تحولها وزوالها، فالعاقل من يزن الأمور بميزان الحاجة وإذا فضل شيء عن الحاجة بحث عمن هو في حاجته وإذا تعذر ذلك وضعه في مكان بعيد عن الامتهان لتأكله الدواب ومن شاء الله ويسلم من الامتهان.
والواجب على كل مسلم أن يحرص على تجنب ما نهى الله عنه وأن يكون حكيما في تصرفاته مبتغيا في ذلك وجه الله شاكرا لنعمه، حذرا من التهاون بها وصرفها في غير مصارفها قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (3) وقال عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} (4) وأخبر سبحانه أن الشكر يكون بالعمل لا بمجرد القول فقال سبحانه: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (5) فالشكر لله سبحانه يكون بالقلب واللسان والعمل، فمن شكر الله قولا وعملا زاده من فضله وأحسن له العاقبة، ومن كفر بنعم الله ولم يصرفها في مصارفها فهو على خطر عظيم وقد توعده الله بالعذاب الشديد.
ونسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين ويمنحهم الفقه في دينه وأن يوفقنا وإياهم لشكر نعمه والاستعانة بها على طاعته ونفع عباده إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 26
(2) سورة الإسراء الآية 27
(3) سورة إبراهيم الآية 7
(4) سورة البقرة الآية 152
(5) سورة سبأ الآية 13(4/38)
أخلاق المؤمنين والمؤمنات (1)
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على عبده ورسوله وصفوته من خلقه وأمينه على وحيه نبينا - وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي العربي المكي ثم المدني - وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله عز وجل بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، والهدى: هو الخبر الصادق والعلم النافع، ودين الحق: هو الشرائع والأحكام التي جاء بها عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (2) والله سبحانه وتعالى أرسله إلى الجن والإنس والعرب والعجم والذكور والإناث، أرسله جل وعلا رحمة للعالمين جميعا وإماما للمتقين، أرسله عليه الصلاة والسلام يعلم الناس دينهم ويفقههم في دينهم ويوضح لهم أسباب النجاة ويحذرهم من أسباب الهلاك وبعثه بدين الإسلام {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (3) بعثه بالهدى ودين الحق بالأخبار الصادقة والعلوم النافعة والشرائع المستقيمة والأحكام العادلة، بعثه يدعو إلى كل خير وينهى عن كل شر، بعثه يدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وينهى عن سفاسف الأخلاق وسيئ الأعمال، قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (4)
__________
(1) محاضرة ألقاها سماحة الشيخ في مسجد سليمان الراجحي بالرياض، شهر ربيع الآخر عام 1407هـ.
(2) سورة التوبة الآية 33
(3) سورة آل عمران الآية 19
(4) سورة سبأ الآية 28(4/39)
وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1) وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2) وقال قبلها: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3)
هذه حال هذا الدين العظيم، وحال هذا النبي الكريم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، بعثه الله رحمة للعالمين، الجن والإنس، والذكور والإناث، والعرب والعجم، حتى الدواب رحمها الله ببعثته؛ لأنه أوصى بها خيرا وأوصى برحمتها والإحسان إليها. وبين الله سبحانه وتعالى أنه خلق الجن والإنس ليعبدوه فقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4) والمعنى: إلا ليخلصوا لي العبادة ويفردوني بها ويطيعوا أمري وينتهوا عن نهيي، هذه هي العبادة، طاعة أوامره سبحانه وترك نواهيه عن إخلاص له سبحانه وعن إيمان به وبرسله وعن رغبة ورهبة وعن تصديق لأخباره وأخبار رسوله عليه الصلاة والسلام، وعن وقوف عند حدوده.
وقد أمرهم بذلك فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (5) وهذا يعم الذكور والإناث، والجن والإنس والعرب والعجم، وقال عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (6) وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (7) وقال عز وجل:
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 107
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) سورة الأعراف الآية 157
(4) سورة الذاريات الآية 56
(5) سورة البقرة الآية 21
(6) سورة النساء الآية 36
(7) سورة الإسراء الآية 23(4/40)
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1)
وعلمهم في سورة فاتحة الكتاب وهي: " الحمد " أن يسألوا الله الهداية لصراطه المستقيم، وهو دينه الذي جاء به نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الإسلام والإيمان والهدى والتقوى والصلاح، فقال جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (3) {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (4) {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (5)
وهذا كله ثناء على الله سبحانه وتعالى وتوجيه للعباد إلى أن يعترفوا بأنه المعبود بالحق، وأنه المستعان في جميع الأمور سبحانه وتعالى، ثم علمهم أن يقولوا بعد ذلك: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (6) لما حمدوه وأثنوا عليه واعترفوا بأنهم عبيده وأنه المستعان وحده، علمهم أن يقولوا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (7) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (8) والصراط المستقيم هو دينه، وهو الإسلام والإيمان والعلم النافع والعمل الصالح، وهو طريق المنعم عليهم من أهل العلم والعمل، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان، ومن سبقهم من الرسل وأتباعهم.
هذا هو الصراط المستقيم، صراط من أنعم الله عليهم، وهم الذين عرفوا الحق وعملوا به، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (9) هذا الصراط المستقيم صراط هؤلاء، وهم الرسل
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) سورة الفاتحة الآية 2
(3) سورة الفاتحة الآية 3
(4) سورة الفاتحة الآية 4
(5) سورة الفاتحة الآية 5
(6) سورة الفاتحة الآية 6
(7) سورة الفاتحة الآية 6
(8) سورة الفاتحة الآية 7
(9) سورة النساء الآية 69(4/41)
عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم، ويخصنا منهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، فإننا مأمورون باتباعه صلى الله عليه وسلم والسير على منهاجه والسير على ما سلكه أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم من العلم والعمل، كما قال جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1)
فهذا الصراط، هو دين الله، وهو ما بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من العلم والعمل، من العلم النافع والعمل الصالح، وهو الهدى ودين الحق الذي بعث الله به نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام وهو ما بينه في كتابه جل وعلا، هذا الصراط العظيم هو فعل الأوامر وترك النواهي التي بينها سبحانه في كتابه العظيم وعلى لسان رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام.
فالواجب على أهل الإسلام أن يتدبروا كتاب الله ويتعقلوه، وهو القرآن ويتعلموا سنة رسوله عليه الصلاة والسلام ويستقيموا عليهما، ففي كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام بيان الأوامر والنواهي التي جاء بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفيها بيان الأخلاق التي مدحها سبحانه وأثنى عليها من أخلاق المؤمنين وأخلاق المؤمنات وصفاتهم وأعمالهم.
ومن تدبر كتاب الله وتعقله وجد ذلك، ومن تدبر السنة - وهي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأحاديثه، من تدبرها- وجد ذلك وعرف ذلك، ومن ذلك ما أوضحه الله سبحانه في آخر سورة الفرقان حيث قال سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (2) {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} (3) {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} (4) {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} (5) {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (6) {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (7)
__________
(1) سورة التوبة الآية 100
(2) سورة الفرقان الآية 63
(3) سورة الفرقان الآية 64
(4) سورة الفرقان الآية 65
(5) سورة الفرقان الآية 66
(6) سورة الفرقان الآية 67
(7) سورة الفرقان الآية 68(4/42)
أي من يشرك بالله أو يقتل نفسا بغير حق أو يزني يلق آثاما، أي عذابا عظيما، فسره سبحانه بقوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (1) أي في العذاب: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} (3) كل هذا من أخلاق أهل الإيمان من الرجال والنساء.
ثم قال: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} (4) أي لا يحضرونه، والزور هو الباطل والمنكر من سائر المعاصي والكفر، لا يشهدونه بل ينكرونه ويحاربونه {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (5) أعرضوا عنه كما في الآية الأخرى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} (6) الآية {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} (7) بل يخرون عن خشوع وعن إقبال على الله وعن تعظيم لله، هكذا المؤمن والمؤمنة، إذا ذكروا بآيات الله خشعوا لذلك ولانت قلوبهم وعظموا ربهم وبكوا من خشيته، يرجون ثوابه ويخشون عقابه سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (8)
كل هذا من صفات المؤمنين
__________
(1) سورة الفرقان الآية 69
(2) سورة الفرقان الآية 70
(3) سورة الفرقان الآية 71
(4) سورة الفرقان الآية 72
(5) سورة الفرقان الآية 72
(6) سورة القصص الآية 55
(7) سورة الفرقان الآية 73
(8) سورة الفرقان الآية 74(4/43)
والمؤمنات، وهم عباد الرحمن على الحقيقة والكمال، وقرة العين أن ترى ولدك من ذكر وأنثى متخلقا بصالح الأعمال، والولد إذا أطلق يشمل الذكر والأنثى، والذكر يقال له ابن والأنثى يقال لها بنت، وهكذا كلمة الذرية تشمل الذكر والأنثى، ومنه الحديث: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (1) » .
فالولد يشمل الذكر والأنثى كما تقدم، فقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (2) يعني ذرية تقر بهم العين لكونهم مطيعين لله مستقيمين على شريعته، وهكذا الأزواج، الزوج إذا رأى زوجته على طاعة الله قرت بها عينه، وهكذا الزوجة إذا رأت زوجها على طاعة الله وهي مؤمنة قرت بذلك عينها، فالزوج الصالح قرة عين لزوجته والزوجة الصالحة قرة عين لزوجها المؤمن، والذرية الطيبة قرة عين لآبائهم وأمهاتهم وأقاربهم المؤمنين والمؤمنات.
{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (3) يعني أئمة في الخير هداة للخلق، ثم أوضح سبحانه جزاءهم فقال: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} (4) وهي الجنة، سميت غرفة لارتفاعها؛ لأنها في أعلى مكان فوق السماوات تحت العرش، فالجنة في أعلى مكان ولهذا قال: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} (5) يعني الجنة {بِمَا صَبَرُوا} (6) أي بسبب صبرهم على طاعة الله، وصبرهم عن محارم الله، وصبرهم على المصائب، فلما صبروا جازاهم الله بالجنة العالية العظيمة، لما صبروا على أداء حق الله وصبروا عن محارم الله وصبروا على المصائب المؤلمة من مرض وفقر وغير ذلك، جزاهم الله بأحسن الجزاء {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا} (7) أي في الجنة {تَحِيَّةً وَسَلَامًا} (8) {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} (9) هذه من صفات أهل الإيمان الكامل من الذكور والإناث أهل السعادة
__________
(1) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .
(2) سورة الفرقان الآية 74
(3) سورة الفرقان الآية 74
(4) سورة الفرقان الآية 75
(5) سورة الفرقان الآية 75
(6) سورة الفرقان الآية 75
(7) سورة الفرقان الآية 75
(8) سورة الفرقان الآية 75
(9) سورة الفرقان الآية 76(4/44)
والنجاة.
وفي القرآن آيات كثيرات بين الله فيها سبحانه صفات المؤمنين والمؤمنات وأخلاقهم، ومن ذلك ما في سورة البقرة حيث يقول سبحانه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (1) هذه حالة الأتقياء من الذكور والإناث، هذه صفاتهم بينها سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة من سورة البقرة بقوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} (2) الآية.
والمعنى: ولكن ذا البر أي صاحب البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، آمن بالله ربا وإلها سبحانه وتعالى، وآمن بأنه معبوده الحق، وأنه خالقه ورازقه وأنه سبحانه موصوف بالأسماء الحسنى والصفات العلى، لا شبيه له ولا كفء له ولا ند له، بل هو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه، بل له الكمال المطلق من كل الوجوه كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (4) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (5) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (6) وآمن باليوم الآخر، أي بالبعث بعد الموت، هذه الدنيا تزول ويأتي اليوم الآخر، وهو يوم القيامة، لا بد من هذا اليوم، سوف يأتي وسوف يبعث الله عباده كما قال جل وعلا: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (7) {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (8) قال تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (9) فاليوم الآخر هو: يوم الحساب والجزاء والجنة والنار
__________
(1) سورة البقرة الآية 177
(2) سورة البقرة الآية 177
(3) سورة الإخلاص الآية 1
(4) سورة الإخلاص الآية 2
(5) سورة الإخلاص الآية 3
(6) سورة الإخلاص الآية 4
(7) سورة المؤمنون الآية 15
(8) سورة المؤمنون الآية 16
(9) سورة الحج الآية 7(4/45)
والميزان والصراط، وإعطاء الصحف باليمين والشمال ونصب الميزان ووزن الأعمال، ثم بعد ذلك كله ينتهي الناس إلى الجنة أو النار، فالمؤمنون إلى الجنة والسعادة والكرامة، والكافرون إلى النار والعذاب المهين، نسأل الله العافية.
وهكذا الإيمان بالملائكة الذين هم في طاعة ربهم وجند من جنوده وسفراء بينه وبين عباده في تبليغ أوامره ونواهيه سبحانه وتعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (1) خلقهم الله من نور ينفذون أوامره كما قال جل وعلا: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (2) {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (3) {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (4) عليهم الصلاة والسلام، ويقول فيهم جل وعلا: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (5)
وهكذا الإيمان بالكتاب، والمراد به الكتب المنزلة من السماء، وأعظمها القرآن الكريم، فأهل الإيمان يؤمنون بجميع الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين وآخرها وأعظمها وأشرفها القرآن العظيم، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا المؤمنون يؤمنون بالنبيين والمرسلين جميعا، ويصدقونهم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو خاتمهم وأفضلهم، وهكذا المؤمنون يتصدقون بالمال على حبه، وهو معنى قوله سبحانه وتعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} (6) ينفقون المال على حبه، في الفقراء والمساكين من الأقارب وغيرهم، وفي المشاريع الخيرية، وفي جهاد أعداء الله، هكذا أهل الإيمان والبر، ينفقون أموالهم في سبيل الخيرات.
وفي آية أخرى يقول عز وجل:
__________
(1) سورة التحريم الآية 6
(2) سورة الأنبياء الآية 26
(3) سورة الأنبياء الآية 27
(4) سورة الأنبياء الآية 28
(5) سورة التحريم الآية 6
(6) سورة البقرة الآية 177(4/46)
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (1) ويقول سبحانه: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (2)
وفي هذه الآية - آية البقرة - يقول سبحانه: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (3) المعنى أنهم ينفقون في هذه الجهات، في القرابات وفي الأيتام الفقراء، وفي المساكين غير الأقارب من الضعفاء وفي أبناء السبيل وهم الذين يمرون بالبلد وليسوا من أهلها وتنقطع بهم النفقة، وهكذا السائلون وهم الذين يسألون الناس لحاجتهم ومسكنتهم، أو سائلون مجهولون لا تعرف حالهم، فيعطون ما يسد حالهم، وقوله: {وَفِي الرِّقَابِ} (4) المعنى: ينفقون في عتق الرقاب، أي في عتق العبيد والإماء وفي عتق الأسارى وفك أسرهم.
ثم قال سبحانه وتعالى: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} (5) والمعنى: أن المؤمنين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، يحافظون على الصلوات، ويقيمونها في أوقاتها، كما شرعها الله، ويؤدون الزكاة كما شرعها الله، ثم قال سبحانه: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} (6) أي إذا أعطوا عهدا وفوا ولم يغدروا، ثم قال سبحانه: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} (7) أي في حالة البأساء، وهي: حالة الفقر، والضراء وهي: الأمراض والأوجاع والجراحات ونحو ذلك، وحين البأس: حين القتال والحرب، ثم قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (8) هؤلاء هم أهل الصدق، لكونهم حققوا إيمانهم بأعمالهم الطيبة، وتقواهم لله عز وجل. وذكر في سورة الأنفال صفات أخرى.
وفي سورة براءة، وفي سورة المؤمنون
__________
(1) سورة السجدة الآية 16
(2) سورة الحديد الآية 7
(3) سورة البقرة الآية 177
(4) سورة البقرة الآية 177
(5) سورة البقرة الآية 177
(6) سورة البقرة الآية 177
(7) سورة البقرة الآية 177
(8) سورة البقرة الآية 177(4/47)
قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (1) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2) وفي مواضع أخرى ذكر صفات المؤمنين وأخلاقهم ومن نظر في القرآن الكريم وتعقله وجد ذلك، ولهذا يقول سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) ويقول سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (4) ويقول عز وجل: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (5) ويقول سبحانه وتعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (6) فنصيحتي لإخواني وأخواتي في الله وعموم الناس، نصيحتي لهم جميعا ولنفسي: العناية بالقرآن وتدبر معانيه وحفظه عن ظهر قلب، والحرص على تلاوته باستمرار من المصحف تارة وعن ظهر قلب تارة أخرى إن كان القارئ ممن يحفظه بالتدبر والتعقل وطلب الفائدة.
كما قال سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (7) وتطبيق ذلك بالعمل والفهم والفقه، فالله سبحانه قد أنزل هذا الكتاب للعمل والعلم والفقه، قال عز وجل: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (8) فهو منزل للعمل والاتباع، لا لمجرد القراءة والحفظ؛ لأن الحفظ والقراءة وسيلة، والمقصود هو العلم بالكتاب والسنة مع الإيمان بالله ورسوله وتنفيذ أوامر الله وترك نواهيه، ويجمع ذلك قوله تعالى في سورة التوبة:
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 1
(2) سورة المؤمنون الآية 2
(3) سورة ص الآية 29
(4) سورة الإسراء الآية 9
(5) سورة فصلت الآية 44
(6) سورة محمد الآية 24
(7) سورة ص الآية 29
(8) سورة الأنعام الآية 155(4/48)
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1)
فهذه الآية من أجمع الآيات في بيان صفات المؤمنين والمؤمنات وأخلاقهم العظيمة، وما يجب عليهم، فقوله سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (2) يدل على أن المؤمنين والمؤمنات أولياء يتناصحون ويتحابون في الله، ويتواصون بالحق والصبر عليه ويتعاونون على البر والتقوى، هكذا المؤمنون والمؤمنات جميعا، المؤمن ولي أخيه وولي أخته في الله، والمؤمنة ولية أخيها في الله وأختها في الله، كل واحد منهما يحب الخير للآخر، ويدعوه إليه ويفرح باستقامته عليه، ويدفع عنه الشر، لا يغتابه ولا يتكلم في عرضه ولا عليه، ولا يشهد عليه بالزور ولا يسبه، ولا يدعي عليه دعوى باطلة، هكذا المؤمنون والمؤمنات.
فإذا رأيت من نفسك إيذاء لأخيك أو أختك في الله بالغيبة أو بالسب أو بالنميمة أو بالكذب أو غير هذا، فاعرف أن إيمانك ناقص وأنك ضعيف الإيمان، لو كان إيمانك مستقيما كاملا لما فعلت ما فعلت من ظلم أخيك، والتعدي عليه بالغيبة والنميمة، أو الدعوى الباطلة أو الشهادة بالزور أو اليمين الكاذبة أو السباب، ونحو ذلك، فالإيمان بالله ورسوله والتقوى لله والبر والهدى، كل ذلك يمنع صاحبه عن التعدي على أخيه في الله وأخته في الله، لا بالغيبة ولا بالشتم ولا بالكذب ولا بالدعوى الباطلة ولا بشهادة الزور ولا غير ذلك من أنواع الظلم، فإيمانه يحجزه عن ذلك ويمنعه من كل أذى، ثم قال سبحانه بعد ذلك: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) هذا واجب عظيم فيه صلاح الأمة، وبه نصر الدين، وبه القضاء على
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة التوبة الآية 71(4/49)
أسباب الهلاك والمعاصي والشرور، فالمؤمنون والمؤمنات يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، المؤمن لا يسكت إذا رأى من أخيه منكرا، ينهاه عنه، وهكذا إن رأى من أخته أو عمته أو خالته أو غيرهن، إذا رأى منهن منكرا نهاهن عن ذلك، وإذا رأى من أخيه في الله أو أخته في الله تقصيرا في الواجب أنكر عليه ذلك، وأمره بالمعروف، كل ذلك بالرفق والحكمة والأسلوب الحسن.
فالمؤمن إذا رأى أخا له في الله يتكاسل عن الصلوات أو يتعاطى الغيبة أو النميمة أو شرب الدخان أو المسكر أو يعصي والديه أو أحدهما أو يقطع أرحامه أنكر عليه بالكلام الطيب والأسلوب الحسن، لا بالألقاب المكروهة والأسلوب الشديد، وبين له أن هذا الأمر لا يجوز له.
وهكذا إذا رأى من أخته في الله منكرا أنكر عليها ذلك، كأن يراها تعصي والديها، أو تسيء إلى زوجها أو تقصر في تربية أولادها، أو تتساهل بالصلاة أنكر عليها، سواء كان زوجها أو أباها أو أخاها أو ابن أختها أو ابن أخيها، أو ليس قريبا لها بل من الناس الذين عرفوا ذلك منها.
وهي كذلك إذا رأت من زوجها تقصيرا نهته عن ذلك، كأن رأته يشرب الخمر أو رأته يدخن أو رأته يتساهل بالصلاة، أو يصلي في البيت دون المسجد تنكر عليه بالأسلوب الحسن وبالكلام الطيب، كأن تقول له: يا عبد الله، اتق الله وراقب الله، هذا لا يجوز لك، حافظ على الصلاة في الجماعة، دع عنك ما حرم الله عليك من المسكرات أو التدخين أو حلق اللحية، أو إطالة الشوارب، أو إسبال الملابس.
كل هذه المنكرات يجب على كل واحد من المؤمنين والمؤمنات والصلحاء إنكارها، وعلى الزوج والزوجة وعلى الأخ والقريب وعلى الجار وعلى الجليس وعلى غيرهم القيام بذلك كما قال الله تعالى في وصف المؤمنين والمؤمنات: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) وقال المصطفى عليه الصلاة والسلام: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله
__________
(1) سورة التوبة الآية 71(4/50)
بعقابه (1) » ، ويقول عليه الصلاة والسلام: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (2) » .
وهذا عام لجميع المنكرات سواء كانت في الطريق، أو في البيت أو في المسجد أو في الطائرة أو في القطار أو في السيارة أو في أي مكان، وهو يعم الرجال والنساء جميعا، المرأة تتكلم والرجل يتكلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن في هذا صلاح الجميع ونجاة الجميع.
ولا يجوز السكوت عن ذلك من أجل خاطر الزوج أو خاطر الأخ أو خاطر فلان وفلان، لكن يكون بالأسلوب الحسن والكلمات الطيبة، لا بالعنف والشدة، ومع ملاحظة الأوقات المناسبة، فقد يكون بعض الناس في وقت لا يقبل التوجيه ولكنه في وقت آخر يكون متهيئا للقبول، فالمؤمن والمؤمنة يلاحظان للإنكار والأمر بالمعروف الأوقات المناسبة ولا ييأس إذا لم يقبل منه اليوم أن يقبل منه غدا، فالمؤمن لا ييأس، والمؤمنة لا تيأس، بل يستمران في إنكار المنكر، وفي الأمر بالمعروف وفي النصيحة لله ولعباده مع حسن الظن بالله والرغبة فيما عند الله عز وجل.
ثم قال الله سبحانه: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (3) هكذا المؤمنون والمؤمنات يقيمون الصلاة ويحافظون عليها في أوقاتها، ويقيمها الرجال في المساجد، ويحافظون عليها مع إخوانهم في الجماعة، ويسارعون إليها إذا سمعوا المنادي يقول: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) ويبادرون إليها في جميع الأوقات. والواجب على كل مؤمن أن يراقب الله في ذلك ويحذر مما ابتلي به كثير من الناس - والعياذ بالله - من أدائها في البيت، والتخلف عن صلاة الجماعة حتى شابهوا أهل النفاق في ذلك، فيصلي في البيت وقد عافاه الله وربما أخر الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس إلى أن يقوم للعمل، فيصلي وربما تركها بالكلية، وهذا هو البلاء العظيم والمنكر الخطير، فالصلاة عمود الإسلام، من حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، من تركها كفر لقول
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2168) ، سنن ابن ماجه الفتن (4005) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .
(3) سورة التوبة الآية 71(4/51)
النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » وهذا يعم الرجال والنساء، ويقول عليه الصلاة والسلام: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (2) » فلا يجوز للمؤمن التساهل بهذا الأمر ولا للمؤمنة، ولا يجوز للرجل فعلها في البيت، بل يجب الخروج إلى المساجد، يقول النبي: «من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر (3) » ، «وجاءه رجل فقال: يا رسول الله أنا رجل أعمى ليس لي قائد يلائمني إلى المسجد فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم. قال: فأجب (4) » فلم يرخص له النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعمى ليس له قائد يلائمه، فكيف بحال الصحيح البصير.
وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم (5) » وهذا يدل على عظم الأمر.
فالواجب العناية بالصلاة والمسارعة إليها في المساجد، والحذر من التكاسل عنها والتثاقل، فإن الكسل عنها والتثاقل من صفات أهل النفاق - نعوذ بالله من حالهم - كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (6)
فالواجب على كل مسلم ومسلمة العناية بالصلاة التي هي عمود الإسلام، وهي أعظم أركانه بعد الشهادتين، فمن حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها ضيع دينه - ولا حول ولا قوة إلا بالله - ومن المحافظة عليها ومن إقامتها الخشوع فيها وعدم مسابقة الإمام، يقول الله سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (7) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (8) ويقول
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/370) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .
(3) سنن أبو داود الصلاة (551) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (793) .
(4) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (653) ، سنن النسائي الإمامة (850) .
(5) صحيح البخاري الأذان (644) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (651) ، سنن الترمذي الصلاة (217) ، سنن النسائي الإمامة (848) ، سنن أبو داود الصلاة (548) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (791) ، مسند أحمد بن حنبل (2/531) ، موطأ مالك النداء للصلاة (292) ، سنن الدارمي الصلاة (1274) .
(6) سورة النساء الآية 142
(7) سورة المؤمنون الآية 1
(8) سورة المؤمنون الآية 2(4/52)
صلى الله عليه وسلم «أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته. قيل يا رسول الله كيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها (1) » ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قد أساء في صلاته، فلم يتم ركوعها ولا سجودها أمره أن يعيد الصلاة، وقال له: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها (2) » .
وكثير من الناس ينقرها نقرا، ولا شك أن ذلك منكر عظيم؛ لأن من نقرها بطلت صلاته للحديث المذكور، فلا بد من الطمأنينة في الركوع والسجود والاعتدال بعد الركوع وبين السجدتين، مع الحذر من مسابقة الإمام، فإذا كنت مع الإمام فلا تسابقه، إذا كبر فلا تكبر حتى يكبر وينقطع صوته، وإذا قال: الله أكبر، راكعا، فلا تركع حتى يستوي راكعا وحتى ينقطع صوته، ثم تركع، وهكذا في السجود لا تسابق الإمام ولا تكن مع الإمام، لا معه ولا تسابقه، لا هذا ولا هذا، يقول صلى الله عليه وسلم: «إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف (3) » ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا ولا تكبروا حتى يكبر وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد (4) » ، وهذا الأمر واضح بين - لكل من وفقه الله - ولكن بعض الناس لا يصبر، بل يسارع ويسابق الإمام - والعياذ بالله - فالواجب الحذر من ذلك.
ومما يعين على المحافظة على صلاة الفجر في وقتها وعلى أدائها في الجماعة التبكير بالنوم وعدم السهر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبل
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/56) .
(2) صحيح البخاري الاستئذان (6251) ، صحيح مسلم الصلاة (397) ، سنن الترمذي الصلاة (303) ، سنن النسائي الافتتاح (884) ، سنن أبو داود الصلاة (856) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) ، مسند أحمد بن حنبل (2/437) .
(3) صحيح مسلم الصلاة (426) ، سنن النسائي السهو (1363) ، مسند أحمد بن حنبل (3/102) ، سنن الدارمي الصلاة (1317) .
(4) صحيح البخاري الأذان (722) ، صحيح مسلم الصلاة (414) ، سنن النسائي الافتتاح (921) ، سنن أبو داود الصلاة (603) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (846) ، مسند أحمد بن حنبل (2/314) ، سنن الدارمي الصلاة (1311) .(4/53)
صلاة العشاء والحديث بعدها.
فالمشروع لكل مؤمن ومؤمنة بذل المستطاع في المحافظة على أداء الصلاة في وقتها، وعدم السهر بعد العشاء؛ لأن ذلك قد يسبب النوم عن صلاة الفجر، وينبغي أن يستعان بالساعة المنبهة على ذلك.
كما ينبغي التعاون على ذلك بين الرجل وأهله في هذا الأمر، لقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) ويقول سبحانه وتعالى: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) فلا بد من التناصح والتواصي بالحق والتعاون على الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قبل حلول العقوبة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (5) » .
وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة، قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (6) » ، وقال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.
والمشروع للمسلم إذا سمع الفائدة أن يبلغها غيره، وهكذا المسلمة تبلغ غيرها ما سمعت من العلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية (7) » ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب الناس يقول: «ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع (8) » .
ويقول صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) سنن الترمذي الفتن (2168) ، سنن ابن ماجه الفتن (4005) .
(6) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(7) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461) ، سنن الترمذي العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (2/159) ، سنن الدارمي المقدمة (542) .
(8) صحيح البخاري الحج (1741) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، سنن ابن ماجه المقدمة (233) ، مسند أحمد بن حنبل (5/49) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .(4/54)
الجنة (1) » ، ويدخل في هذا الحديث العظيم كل من جاء إلى مسجد أو أي مكان فيه حلقة علم أو موعظة يطلب العلم ويستفيد.
ويقول عليه الصلاة والسلام: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » . ويقول عليه الصلاة والسلام: «نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها فرب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه (3) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده (4) » ، وهذا يدل على شرعية المسابقة إلى حلقات العلم، والعناية بها والحرص على الاجتماع على تلاوة القرآن ومدارسته.
ومن ذلك سماع البرامج الدينية والأحاديث المفيدة التي تذاع من إذاعة القرآن الكريم، ويتولاها المعروفون بالعلم والبصيرة، وحسن العقيدة.
ثم من المعلوم أن الله سبحانه خلق الثقلين لعبادته، والعبادة لا بد فيها من العلم. والإنسان لا يعرف العبادة التي كلف بها إلا بالتعلم والتفقه في الدين، والله يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (5) فما هي العبادة التي لا بد أن تتعلمها، ولا بد أن تتفقه فيها؟ هي كل ما شرعه الله وأحبه لعباده من صلاة وزكاة وصوم وغير ذلك، ثم قال سبحانه وتعالى بعد الصلاة: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (6) فالزكاة حق المال، يجب على المسلم أن يؤدي زكاة أمواله إلى أهلها، مخلصا لله، راجيا ثوابه، خائفا من عقابه، سبحانه وتعالى، وقد بين الله أهلها في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (7)
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(3) سنن ابن ماجه كتاب المناسك (3056) ، مسند أحمد بن حنبل (4/80) ، سنن الدارمي المقدمة (227) .
(4) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الصلاة (1455) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .
(5) سورة الذاريات الآية 56
(6) سورة المائدة الآية 55
(7) سورة التوبة الآية 60(4/55)
الآية من سورة التوبة، ثم قال بعدها: {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) بعدما ذكر الصلاة والزكاة والموالاة بين المؤمنين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال: {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (2) يعني في كل شيء، كما يطيعونه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الصلاة والزكاة، يطيعونه في كل شيء، هكذا المؤمن والمؤمنة، يطيعون الله ورسوله في كل الأوامر والنواهي أينما كانوا، ولا يتم الدين إلا بذلك، ثم قال تعالى: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (3) فأوضح سبحانه بذلك أن الذين استقاموا على دين الله وأدوا حقه وأطاعوه، وأطاعوا رسوله عليه الصلاة والسلام، هم المستحقون للرحمة في الدنيا والآخرة؛ لطاعتهم لله، وإيمانهم به، وأدائهم حقه، فدل ذلك على أن المعرض الغافل المقصر قد عرض نفسه لعذاب الله وغضبه، فالرحمة تحصل بالعمل الصالح والجد في طاعة الله والقيام بأمره، ومن أعرض عن ذلك وتابع الهوى والشيطان فله النار يوم القيامة، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} (4) {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (5) {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (6) {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} (7) {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (8)
فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وسائر المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يرزقنا التواصي بالحق والتواصي بالصبر، والتعاون على البر والتقوى وإيثار الآخرة على الدنيا، والحرص على سلامة القلوب وسلامة الأعمال، والحرص على نفع المسلمين أينما كانوا، كما أسأله سبحانه أن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يوفق جميع ولاة أمر المسلمين عموما، وأن يصلح قلوبهم وأعمالهم وأن يمنحهم الفقه في دينه وأن يشرح صدورهم لتحكيم شريعته والحكم بها، والاستقامة عليها، وأن يعيذنا وإياهم وسائر المسلمين في كل
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة التوبة الآية 71
(4) سورة النازعات الآية 37
(5) سورة النازعات الآية 38
(6) سورة النازعات الآية 39
(7) سورة النازعات الآية 40
(8) سورة النازعات الآية 41(4/56)
مكان من مضلات الفتن، وطوارق المحن، وأن يخذل أعداء الإسلام أينما كانوا، وأن يجعل الدائرة عليهم، وأن ينصر إخواننا المجاهدين في سبيل الله في كل مكان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(4/57)
الحاجة إلى القضاء الشرعي.
س 1: يقول نرى كبار الأئمة يتهرب من القضاء، وما ذاك إلا لإدراكهم الخطورة، فكيف نقدم عليه وحالنا لا تقارن بحالهم؟ .
ج 1: هذا صحيح، ولكن من تأمل حال الناس وشدة حاجتهم إلى القضاء الشرعي علم وجوب الاستجابة لذلك والصبر عليه - إذا كان من أهله - ووجب عليه أن يجتهد فيه وأن يبذل في ذلك ما يستطيع من أسباب التخلص من خطره والعافية من تبعاته، براءة للذمة ونصحا للأمة ورحمة لإخوانه المسلمين وإحسانا إليهم في حل مشاكلهم والحكم بينهم بالحق، وسيعينه الله ويسدده على حسب إخلاصه وصدقه.
وليس زماننا هذا كزمان السلف الصالح؛ لأن العلماء في ذلك الزمان كانوا كثيرين، إذا اعتذر بعضهم وجد من يقوم مقامه من إخوانه العلماء، أما في زماننا فقد قل العلماء وفشا الجهل، فإذا اعتذر عن القضاء من هو أهل له؛ صعب وجود غيره وتعطل الكثير من البلاد من القضاء الشرعي وفي ذلك من المضرة العظيمة ما لا يخفى على أحد، والله المستعان.(4/57)
المقارنة بين الشريعة والقانون.
س 2: هل المقارنة بين الشريعة والقانون يعد انتقاصا للشريعة؟ .(4/57)
ج 2: إذا كانت المقارنة لقصد صالح كقصد بيان شمول الشريعة وارتفاع شأنها وتفوقها على القوانين الوضعية واحتوائها على المصالح العامة فلا بأس بذلك - لما فيه من إظهار الحق وإقناع دعاة الباطل وبيان زيف ما يقولون في الدعوة إلى القوانين أو الدعوة إلى أن هذا الزمن لا يصلح للشريعة أو قد مضى زمانها- لهذا القصد الصالح الطيب، ولبيان ما يردع أولئك ويبين بطلان ما هم عليه، ولتطمين قلوب المؤمنين وتثبيتها على الحق.
لهذا كله لا مانع من المقارنة بين الشريعة والقوانين الوضعية إذا كان ذلك بواسطة أهل العلم والبصيرة المعروفين بالعقيدة الصالحة وحسن السيرة وسعة العلم بعلوم الشريعة ومقاصدها العظيمة.(4/58)
صبغ اللحية بالسواد
س 3: ما مدى صحة الأحاديث التي وردت في صبغ اللحية بالسواد؟
فقد انتشر صبغ اللحية بالسواد عند كثير ممن ينتسبون إلى العلم؟ .
ج 3: في هذا الباب أحاديث صحيحة كثيرة من أشهرها حديث جاء في قصة والد الصديق رضي الله عنه رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قال لما رأى رأس والد الصديق ولحيته كالثغامة بياضا: غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد (1) » وفي رواية: «وجنبوه السواد (2) » وحديث ابن عباس رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة (3) » وهذا وعيد شديد، وفي ذلك أحاديث أخرى كلها تدل على تحريم الخضاب بالسواد وعلى شرعية الخضاب بغيره.
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2102) ، سنن النسائي الزينة (5076) ، سنن أبو داود الترجل (4204) ، سنن ابن ماجه اللباس (3624) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) .
(2) سنن النسائي الزينة (5076) ، سنن أبو داود الترجل (4204) ، سنن ابن ماجه اللباس (3624) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) .
(3) سنن النسائي الزينة (5075) ، سنن أبو داود الترجل (4212) ، مسند أحمد بن حنبل (1/273) .(4/58)
أهمية العلم في محاربة الأفكار الهدامة.
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم واتبع هداهم إلى يوم الدين.
وبعد: فإني أحييكم أيها الإخوة وأيها الأبناء بتحية الإسلام فأقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم إني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء وأسأله سبحانه أن يجعله لقاء مباركا ومفيدا لنا جميعا وموصلا لما يرضيه ويقرب إليه، قاضيا على كثير من أسباب الفساد والبلاء، وعونا على ظهور الحق ودرء الباطل. ثم إني أشكر القائمين على هذا المشروع على دعوتهم لي للتحدث إليكم والإجابة عن أسئلتكم، وأسأله سبحانه أن يجزيهم على عملهم خيرا، وأن يجعلنا وإياهم من الهداة المهتدين، وأن يوفقنا جميعا لما فيه إظهار الحق وإدحاض الباطل، وإجابة السائلين بما يوافق الصواب للحق الذي يرضي المولى عز وجل.
والعنوان كما سمعتم (أهمية العلم في محاربة الأفكار الهدامة) ، هذا هو عنوان كلمتي التي ألقيها بين أيدي إخواني وأبنائي.
ولا ريب أن العلم هو مفتاح كل خير، وهو الوسيلة إلى أداء ما أوجب الله وترك ما حرم الله، فإن العمل نتيجة العلم لمن وفقه الله، وهو مما يؤكد العزم على كل خير، فلا إيمان ولا عمل ولا كفاح ولا جهاد إلا بالعلم، فالأقوال والأعمال التي بغير علم لا قيمة لها، ولا نفع فيها بل تكون لها عواقب وخيمة، وقد تجر إلى فساد كبير.(4/59)
وإنما يعبد الله ويؤدي حقه وينشر دينه وتحارب الأفكار الهدامة والدعوات المضللة والأنشطة المنحرفة بالعلم النافع، المتلقى عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهكذا إنما تؤدى الفرائض بالعلم، ويتقى الله بالعلم، وبه تكشف الحقائق الموجودة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، قال جل وعلا في كتابه العزيز: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (1)
فجميع ما يقدمه أهل الباطل وما يلبسون به في دعواتهم المضللة وفي توجيهاتهم لغيرهم بأنواع الباطل وفي تشكيكهم غيرهم فيما جاء عن الله عز وجل وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كله يندحض ويكشف بما جاء عن الله ورسوله بعبارة أوضح، وبيان أكمل، وبحجة قيمة تملأ القلوب وتؤيد الحق، وما ذاك إلا لأن العلم المأخوذ من الكتاب العزيز والسنة المطهرة، علم صدر عن حكيم عليم، يعلم أحوال العباد ويعلم مشكلاتهم ويعلم ما في نفوسهم من أفكار خبيثة أو سليمة، ويعلم بما يأتي به أهل الباطل فيما يأتي من الزمان، كل ذلك يعلمه سبحانه، وقد أنزل كتابه؛ لإيضاح الحق وكشف الباطل، وإقامة الحجج على ما دعت إليه رسله عليهم الصلاة والسلام، وقد أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وأنزل كتابه الكريم تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين.
وإنما يعمل أهل الباطل وينشطون عند اختفاء العلم وظهور الجهل، وخلو الميدان ممن يقول: قال الله وقال الرسول، فعند ذلك يستأسدون ضد غيرهم وينشطون في باطلهم، لعدم وجود من يخشونهم من أهل الحق والإيمان وأهل البصيرة، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه كل شيء إجمالا في مواضع، وتفصيلا في مواضع أخرى قال عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (2) وهذا كلام الحكيم
__________
(1) سورة الفرقان الآية 33
(2) سورة النحل الآية 89(4/60)
العليم الذي لا أصدق منه. {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} (1) وأوضح سبحانه في قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (2) أنه مع كونه تبيانا لكل شيء فيه هدى ورحمة وبشرى، فهو بيان للحق وإيضاح لسبله ومناهجه ودعوة إليه بأوضح عبارة وأبين إشارة، ومع ذلك فهو هدى للعالمين في كل ما يحتاجون إليه في ذكر ربهم والتوجه إلى ما يرضيه، والبعد عن مساخطه، ويبين لهم طريق النجاح وسبيل السعادة مع كونه رحمة في بيانه وإرشاده، وهدى وإحسانا وبشرى، وتطمينا للقلوب بما يوضح من الحقائق ويرشد إليه من البصائر التي تخضع لها القلوب وتطمئن إليها النفوس، وتنشرح لها الصدور، بوضوحها وظهورها يقول سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (3) ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (4) ويقول سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (5)
ولولا أن كتابه عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فيهما الهداية والكفاية لما رد الناس إليهما، ولكان رده إليهما غير مفيد، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وإنما رد الناس إليهما عند التنازع والخلاف لما فيهما من الهداية، والبيان الواضح، وحل المشكلات والقضاء على الباطل، ثم ذكر أن هذا شرط للإيمان فقال سبحانه:
__________
(1) سورة النساء الآية 122
(2) سورة النحل الآية 89
(3) سورة يونس الآية 57
(4) سورة النساء الآية 59
(5) سورة الشورى الآية 10(4/61)
{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (1) ثم ذكر أنه خير للعباد في العاجل والآجل وأحسن عاقبة، يعني أن ردهم ما يتنازعون فيه إلى الله والرسول خير لهم في الدنيا والآخرة وأحسن لهم في العاقبة.
ومن هذا يعلم أن في كتاب الله العزيز وسنة رسوله الأمين حلا لجميع المشكلات وبيانا لكل ما يحتاجه الناس في دينهم، وفي القضاء على خصوماتهم، كما أن في ذلك النصر للداعي إلى الحق والقضاء على خصمه بالحجة الواضحة ولهذا يقول سبحانه: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (2) والمثل يعم كل ما يقدمون من شبهة يزعمونها حجة، ومن مذهب يدعونه صحيحا، ومن دعوة يزعمون أنها مفيدة، كل ذلك يكشفه هذا الكتاب وما جاءت به سنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
فجميع ما يقدمونه من مشكلات وشبهات ودعوات مضللة ومذاهب هدامة كل ذلك يكشفه العلم بهذا الكتاب وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أن الأفكار الهدامة والمبادئ الضالة والمذاهب المنحرفة كثيرة، والملبسون للحق بالباطل لا يحصون، وكذلك دعاة الباطل والمؤلفون في الصد عن سبيل الله لا يحصيهم إلا الله، وهم يلبسون على الناس باطلهم بما يحرفون من الكلم، ولقد كثر الخطباء والمتكلمون في الإذاعات وفي التلفاز وفي كل مجال: في الصحافة والمجتمعات وفي كل نافذة، كل يدعو إلى نحلته، وينادي إلى فكرته، ويمني غيره ويدعوه إلى الباطل، ولا مخرج من هذه المحن، ولا طريق للتخلص منها والقضاء عليها إلا بعرضها على هذا الميزان العظيم الكتاب والسنة، ففي عرضها على هذا الميزان العظيم تمحيصها وبيان حقها من باطلها، ورشدها من غيها، وهداها من ضلالها، وبذلك ينتصر الحق وأهله، ويندحر الباطل وأهله، فإذا تقدم دعاة الشيوعية
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الفرقان الآية 33(4/62)
والاشتراكية المنكرون لوجود الله والقائلون: (لا إله والحياة مادة) المكذبون بالحق والمنكرون لكتاب الله وما ورد فيه من الأدلة النقلية والعقلية على وجود الباري وقدرته العظيمة وعلمه الشامل فارجعوا إلى كتاب الله واقرؤا من آياته ما يرشد إلى دلائل وجوده سبحانه، وأنه الصانع الحكيم لهذه الأشياء والموجد لها والخالق لها سبحانه.
وقد أرشد سبحانه في كتابه الكريم إلى ذلك، وبين أنه رب العالمين وأنه الخلاق العليم وأنه خالق كل شيء وأنه ينصر الحق، ويقيم الأدلة على ذلك في مواضع كثيرة من كتابه، ليعتمد عليها طالب الحق، يقول سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) ثم يقول سبحانه بعدها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (2) ويقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) ويقول: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} (5) ويقول سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (6) ويقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (7)
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة البقرة الآية 164
(3) سورة البقرة الآية 21
(4) سورة البقرة الآية 22
(5) سورة طه الآية 98
(6) سورة الإسراء الآية 23
(7) سورة الفاتحة الآية 5(4/63)
إلى آيات كثيرة يرشد بها سبحانه أنه رب العباد، وأنه رب العالمين، وأن الرسل جاءت بهذا، كما قال جل وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) ويقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) ويقول سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (3) ويقول جل وعلا: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (4) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (5) ويقول سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (6) ويقول سبحانه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (7)
ثم يبين الأدلة في مواضع كثيرة، عندما يتأملها المؤمن يعرف أن الدليل النقلي مؤيد بالدليل العقلي المشاهد المحسوس، ولهذا ذكر سبحانه بعد قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (8) الحجة على ذلك فقال: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (9) والمعنى أن هذا الخالق لنا هو المستحق أن نعبده؛ لكونه خلقنا؛ ولأنه يرعى مصالح العباد، وهذا أمر معلوم بالفطر السليمة والعقول الصحيحة، فهم لم يخلقوا أنفسهم فقد خلقهم بارؤهم، فالله هو الخالق بالأدلة النقلية والعقلية، ثم قال سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (10)
بين سبحانه
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25
(3) سورة الحج الآية 62
(4) سورة الزمر الآية 2
(5) سورة الزمر الآية 3
(6) سورة الزمر الآية 62
(7) سورة فاطر الآية 3
(8) سورة البقرة الآية 21
(9) سورة البقرة الآية 21
(10) سورة البقرة الآية 22(4/64)
وتعالى كيف تدرك هذه الأشياء المشاهدة المخلوقة التي يدركها العقل ويدركها كل إنسان، فجعل الأرض فراشا لنا ننام عليها، ونسير عليها، ونرعى المواشي عليها، ونحمل عليها، نزرع عليها الأشجار، ونأخذ منها المعادن إلى غير ذلك، ثم أنزل من السماء ماء من السحاب، أنزل المطر فأخرج به الثمرات لنا.
من الذي أنزل المطر؟
من الذي أخرج هذه الثمار التي يأكلها الناس والدواب مما زرعوا ومن غير ما زرعوا؟
كلها من آيات الله العظيمة الدالة على قدرته العظيمة وأنه رب العالمين. أرض مستقرة أرساها ربنا بالجبال التي جعلها أوتادا لها، وجعلها ممهدة ساكنة نعيش عليها، ونطمئن نحن ودوابنا وسياراتنا فوقها، وتطير في فضائها طائراتنا، ونتمتع بجميع ما خلق فيها، والسماء كذلك خلقها فوقنا، وزينها بالكواكب السيارات والثوابت، وجعل فيها الشمس والقمر؛ ليعلم العباد قدرة الخالق العظيم، والعلي الكبير الذي لا شريك له في ذلك سبحانه وتعالى.
ثم هذه المزروعات الكثيرة، والثمار المنوعة التي فيها المنافع الكثيرة، والمصالح العظيمة، مع اختلاف أشكالها وألوانها، وأحجامها وطعومها، ومنافعها إلى غير ذلك، هنا تظهر قدرة الله سبحانه، واستحقاقه للعبادة كما قال عز وجل: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (2) فهو سبحانه يبين لنا في هذه الآيات التي نشاهدها ونراها ونحس بها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (3) هذه السماوات مع اتساعها
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة البقرة الآية 164
(3) سورة البقرة الآية 164(4/65)
وارتفاعها وما فيها من عجائب وغرائب، وهذه الأرض مع سعتها وانبساطها وما فيها من أنهار وجبال وغير ذلك، ثم اختلاف الليل والنهار وما أنزل من السماء من ماء وما أخرج من البحر من أشياء تنفع الناس، وما يحمله ماؤها من البواخر التي أمسكها على ظهر هذا الماء، تحصل حاجات الناس، وتحملهم أيضا من بلاد إلى بلاد.
ثم أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح، والسحاب المسخر بين السماء والأرض. هذه الآيات العظيمة لمن تدبرها ترشده إلى وجود بارئها وخالقها الذي خلقه وأوجده من العدم وأنه رب العالمين سبحانه وتعالى، وأن هذه المخلوقات لا قوام لها إلا به سبحانه كما قال عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} (1) فهذه الآيات التي نشاهدها والدلائل التي نقرؤها ونعلمها إنما ينتفع بها ذوو العقول السليمة والبصائر المستقيمة ولهذا قال سبحانه في آخر الآية: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (2)
والرسل عليهم الصلاة والسلام، هم أصدق الناس، وقد أقاموا الأدلة والمعجزات على صدقهم، وقد أخبرونا بهذا وأن هذا صنع الله، وأنه ربنا وخالقنا، وأنه الرحمن، وأنه الرحيم، وأنه السلام، وأنه القدوس، إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى، كما أخبر جل وعلا في كتابه العظيم أنه الحكيم العليم القادر على كل شيء جل وعلا، وفي هذا أبلغ رد على دعاة الشيوعية والدهرية والاشتراكية وغيرهم ممن أنكروا وجود الله، فهل هذه المخلوقات؟ وهل هذه الموجودات تخلق نفسها وتنشيء نفسها؟ هل يقول هذا عاقل؟ بل كوب الماء لو قلت لعاقل إنه خلق نفسه لقال إنك مجنون، وهكذا كوب الشاي وكوب القهوة والملعقة والعصا، كلها معروف
__________
(1) سورة الروم الآية 25
(2) سورة البقرة الآية 164(4/66)
من صنعها فكيف بهذا العالم العظيم الذي أنشأه الخالق سبحانه من العدم، وجعل فيه من الآيات والمنافع ما لا يحصى، فهو المبدع سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
ثم هذا الخالق قد بين أسماء تليق بذاته، وبينت الرسل صفاته وأسماءه ودلوا عليه وأرشدوا إليه، وقامت الدلائل على صدقهم، وعلى رأسهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، أصدق الأنبياء وأفضلهم، قد بعثه الله بكتابه العظيم، والرسالة العامة التي أوضح بها كل شيء، ثم يأتي دعاة الماسونية الذين يريدون أن يردوا الناس إلى الأحوال البهيمية، والمساواة في كل شيء ويحاربوا مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ليجعلوهم كالبهائم، لا يصيرون حقا من باطل ولا خيرا من شر، وهذا كله خلاف ما دعت إليه الرسل عليهم الصلاة والسلام، وخلاف ما دل عليه القرآن الكريم المعجز، وهو أيضا خلاف ما دلت عليه العقول الصحيحة، والفطر السليمة التي فطر الله العباد عليها، فإن الله سبحانه فطر الناس على الاعتراف بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال والعدل والحق، وكراهة الظلم والعدوان والأذى.
لقد فطر الله العباد على تمييز الأب من الابن، والأخ من الأخت، والزوجة من الزوج، حتى البهائم ميزوا هذا عن هذا.
كذلك من ادعى الإباحية، وأنه لا حرج على الإنسان في أي حال أن يعمل ما يشاء ويستبيح ما يشاء من مهازل ومساوئ، كلهم ملحدون وضالون، وقد أبطل الله هذا المذهب، وبين سبحانه وتعالى أنه أرسل الرسل، وأنزل الكتاب لبيان حقه على عباده، وما أحل من الطيبات، وما حرم من الخبائث، وما أوصى به سبحانه وتعالى عبادة من التمسك بما جاءت به الرسل، ونبذ ما خالفه.
ولقد أوضح سبحانه في الكتب المنزلة من السماء تفصيل الحلال من(4/67)
الحرام، والهدى من الضلال، والمعروف من المنكر، والخير من الشر.
فالإباحيون والماسونيون قد أعرضوا عن ذلك كله، ونبذوه وراء ظهورهم، فلا خلقا كريما استقاموا عليه، ولا عقلا صحيحا تمسكوا به، فلم يأخذوا بما جاءت به الرسل من الهدى والتمييز بين الحق والباطل، والهدى والضلال، ومن تأمل كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وتأمل أحوال العالم؛ عرف أن الحق كله فيما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، من بيان ما أباح الله وبيان ما حرمه سبحانه، وأنهم بعثوا ليميزوا بين الطيب والخبيث، وبين الحلال والحرام، بما شرع الله، حتى تسير المجتمعات على هدى وبيان، وعلى خير ورشاد، وعلى الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة، التي تحفظ للإنسان عقله ودينه، وماله ونفسه، وذريته وزوجته وغير ذلك.
ولا يتعدى عليه غيره فيأمن المجتمع، وتستقيم الأحوال والأخلاق ويأمن الناس، وتحصل لكل إنسان حريته، في أخذه وعطائه، وبيعه وشرائه، وتعاطي ما يسر الله له من الحلال وتملكه ما كسب بالطرق الشرعية، وتصرفه بما ينفعه ولا يضره.
وأما من دعى إلى أفكار أخرى كدعوة القاديانية وأشباههم، ممن دعى إلى اتباع نبي جديد، أو رسول جديد، فدعواه باطلة وأفكاره مضللة زائفة؛ لأن الله عز وجل بين في كتابه المبين أن محمدا عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين، وقد جاء ذلك في الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشرت به النبوات السابقة، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1) ولكن هناك أشباه الأنعام، تلتبس عليهم كل دعوى، ويخفى عليهم كل شيء، ولا يميزون بين حق
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 40(4/68)
وباطل، ولا يفرقون بين هدى وضلال.
فكل ما يدعيه الداعون وينعق به الناعقون يلتبس عليهم؛ لعدم العلم والبصيرة، ولهذا ارتفع صوت هذا الرجل، اعني مرزا غلام أحمد بدعواه الباطلة، فاتبعه من الناس من هم أشباه الأنعام، وصدقوا بما قاله، وما كتبه في هذا الباب، مما يخالف نص الكتاب العزيز، وما تواترت به السنة عن المصطفى عليه الصلاة والسلام، من كونه خاتم الأنبياء والمرسلين.
كيف يحدث مثل هذا، وكيف يشتبه على من هم من بني آدم، الذين هم من أصحاب العقول، والذين يقرأون ويكتبون، وبطلانه من أوضح الأشياء وأظهرها، ولكن الله عز وجل يري عباده من العجائب والعبر ما فيه عظة وذكرى لكل ذي لب، قال سبحانه وتعالى: {لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (1) وهكذا البهائية والبابية وأشباههم، ممن ادعوا دعاوى باطلة، وضلوا في هذا السبيل، ولبسوا على أشباه الأنعام من البشر ما يدعون إليه من باطلهم، فزعم كبيرهم أنه نبي، ثم ادعى أنه رب العالمين.
ومع ظهور باطلهم، نجد لهم أتباعا ودعاة وأندية تروج باطلهم، وتدعو إليه وربما كان الكثير منهم يعرف الحق ويعلم أنه مبطل في دعواه، ولكنه يتظاهر بتأييد الباطل، لما له من غرض في ذلك في هذه الحياة الدنيا فتابعهم في طريق الباطل، وهم أشبه بالأنعام، بل هم أضل منها، كما قال الله عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (2) وقال سبحانه وتعالى:
__________
(1) سورة الحج الآية 46
(2) سورة الفرقان الآية 44(4/69)
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (1)
لقد ضل هؤلاء ضلالا بعيدا، كما ضل أصحاب فرعون بفرعون، وأصحاب النمرود بالنمرود.
فهذا المسكين الذي يتبول ويتغوط ويأكل ويشرب، ويتألم من كل شيء، كيف يكون ربا، وكيف يكون إلها، وكيف يجوز هذا عليه، وعلى أتباعه؟ ولكن الأمر كما قال الله سبحانه: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (2) وكما قال سبحانه وتعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ} (3) وكما قال عز وجل: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (4) الآية.
وهكذا الدجال الذي يأتي في آخر الزمان يتبعه جم كثير من كل جاهل، وأعمى بصيرة لما يروجه من الباطل، ويأتي به من خوارق العادات التي تشتبه على أشباه الأنعام.
وكل نحلة، وكل دعوة باطلة تجد لها اتباعا وأنصارا بغير قلوب، ولا هدى، أما طريق السلف الصالح فهو أوضح من الشمس في رابعة النهار، لما قام عليه من البراهين الساطعة، والحجج النيرة، والأدلة القاطعة، لكل من عنده أدنى بصيرة ورغبة في طلب الحق، وقد بين الله في كتابه الكريم وسنة رسوله الأمين أن الخير والفلاح يكونان في التمسك بكتاب الله العظيم، وسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وما كان عليه
__________
(1) سورة الأعراف الآية 179
(2) سورة الحج الآية 46
(3) سورة الفرقان الآية 44
(4) سورة القصص الآية 50(4/70)
سلف الأمة من الصحابة رضوان الله عليهم، وأتباعهم بإحسان، فيرد دعاة الحق على هؤلاء المنحرفين بما علموا من كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وبما علموا بعقولهم الصحيحة، وبصائرهم النافذة، وفطرهم السليمة على هدى ما علموه من كتاب الله، وسنة رسوله، وما علموه من مخلوقات الله عز وجل، من الدلالة على قدرته، وعظمته، واستحقاقه للعبادة، وصدق رسله عليهم الصلاة والسلام، وأن ما أتوا به هو الحق، وهو ما دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من بيان الحلال والحرام والهدى والضلال، وما شرع الله لعبادة، وما نهى عنه، وما أخبر به من الجنة والنار، إلى غير ذلك.
وأن ما أنكره هؤلاء وغيرهم من الشيوعيين وسائر الملاحدة من البعث والنشور والجنة والنار وغير ذلك من شئون اليوم الآخر كله باطل ومخالف للأدلة القطعية.
وهم جميعا حجتهم داحضة وباطلهم واضح، فإن الأدلة الدالة على بعث الموتى ووقوفهم أمام رب العالمين كثيرة لا تحصى، وأن كل ما خلقه الله في هذه الدنيا شاهد على قدرته سبحانه، ووجوب الاعتراف بألوهيته وحده، فالأرض الميتة ينزل الله عليها المطر فيخرج منها النبات بعد موتها، ويخرج منها جل وعلا ما شاء من الثمار.
فالذي أخرج هذا النبات، وأنعم علينا بهذه الثمار، هو الله سبحانه وتعالى، الذي أنزل هذا المطر وأحيا به الأرض الميتة التي أخرجت النبات والثمار، هو الذي سيحيي الموتى، ويبعثهم من قبورهم، ويقف كل واحد أمامه عز وجل للحساب على ما عمل، وما اكتسبت يداه في هذه الدنيا.
وهكذا الإنسان: خلق الله أبانا آدم من تراب، ثم جاءت منه الذرية(4/71)
خلقهم سبحانه من ماء مهين، ثم تحولوا إلى علقة، ثم إلى مضغة، ثم إلى إنسان سوي له سمع وبصر، وعقل وإدراك وجوارح، ثم يتدرج ويكبر، حتى يصير إنسانا عظيما، فيأخذ ويعطي ويفكر ويتعلم وينتج.
وأن هذه الآيات العظيمة كلها تدل على قدرة الله عز وجل، وتدل على صدق الرسل وإخبارهم بأن هناك - أي في الآخرة - مجتمعا لديه سبحانه، يؤيد فيه الحق، ويجزي أهله بأحسن الجزاء ويدخلهم الجنة ويقيهم عذاب النار، ويذل أعداءه ويخلدهم في النار أبد الآباد.
ثم إن كل عاقل في هذه الدار يشاهد من يظلم، ومن تؤخذ حقوقه، ومن يعتدى عليه في ماله وبدنه وغير ذلك، ثم يموت الظالم ولم يرد الحقوق، ولم ينصف المظلوم، فهل يضيع ذلك الحق على المظلومين المساكين المستضعفين؟ !، كلا، فإن الخالق العظيم الحكيم العليم حدد للإنصاف موعدا، ذلك الموعد هو يوم القيامة، ينصف فيه المظلوم الذي لم يعط حقه في الدنيا كاملا من الظالم فينتقم منه ويعاقبه بما يستحق.
إن هذه الدار ليست دار جزاء ولكنها دار امتحان وابتلاء، وعمل وسرور وأحزان، وقد ينصف فيها المظلوم فيأخذ حقه فيها، وقد يؤجل أمره إلى يوم القيامة لحكمة عظيمة، فينتقم الله من هؤلاء الظالمين، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (1)
ففي هذا اليوم الرهيب ينصف الله المظلومين، ويعطيهم جزاءهم، وينتقم لهم من الظالمين، وقد يعجل الله سبحانه للظلمة العقوبات في الدنيا، كما فعل في أمم كثيرة، وقد يؤجل ذلك للمظلومين والظالمين، ثم تعطى
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 42(4/72)
الحقوق في هذا اليوم العظيم، يوم القيامة الذي تشخص فيه الأبصار، وكل ذلك حق.
فالحكم العليم القادر على كل شيء لا يفوت على المظلومين حقهم، ولهذا أخبرنا أن هناك بعثا ونشورا، وأن هناك جزاء وحسابا، وقد قامت على هذا الأدلة من القرآن والسنة، وإجماع الأمة، والعقول الصحيحة، والفطر السليمة، ودلت على أنه لا بد من جزاء وحساب، وأن البعث حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، كل ذلك جاءت به الكتب السماوية، والسنة النبوية، وأجمع عليها المسلمون.
ومع ذلك فالفطر السليمة والعقول الصحيحة تشهد بذلك، وإننا نشاهد ظالمين ومظلومين لم يقتص من الظالمين للمظلومين، ولم تؤخذ منهم الحقوق، فلا بد لهم من يوم يحاسبون فيه، ويجازى فيه كل إنسان على ما قدم.
إننا نجد مؤمنين صالحين موفقين مجتهدين في سبيل الخير، لم ينالوا ما ناله غيرهم من أولئك الذين تعدوا حدود الله، وظلموا عباد الله، وهم مع هذا لديهم الأموال العظيمة، والقصور الشاهقة، والخدم والمتاع.
وجمع غفير من الأخيار المتقين، محرومون لم ينالوا من هذا شيئا، فلا بد من موعد ولا بد من لقاء مع ربهم، يعطون فيه من المنازل العالية، والأجر العظيم، ويتكرم عليه سبحانه بأنواع الفضل، جزاء صبرهم وأعمالهم الصالحة، فينالون الثواب الكبير، والمنازل العالية، والخير الجزيل، والإحسان العظيم، والقصور والجواري والخيرات التي لا تحصى، على ما فعلوا من خير، وعلى ما قدموا من عمل صالح، ويجازي سبحانه هؤلاء الظالمين، المفرطين المعرضين، الذين ركنوا إلى الدنيا، وغرتهم شهواتها وانساقوا وراء مفاتنها، بما يستحقون من العذاب(4/73)
والنكال، وسوء المصير، وما ذلك إلا لتفريطهم، وإعراضهم عن الله، وتعديهم حدوده، ومقابلتهم نعمه بالكفران، وظلمهم عباده، وأدبارهم عن طاعته.
فهؤلاء يجازيهم الله عز وجل بما يستحقون. وهذه الأمور العظيمة إذا تأملها صاحب العقل الصحيح، والفطرة السليمة، عرف أن المعاد حق، وعلم أن ما يدعيه الملحدون والشيوعيون والوثنيون وغيرهم ممن ينكرون الآخرة ومعاد الأبدان: من أبطل الباطل، واتضح له أن دعواهم ساقطة، وأقوالهم زائفة.
وهكذا أصحاب النحل والدعوات المضللة، والأفكار الهدامة، كلها على هذا السبيل، إذا تأملها ذو العقل الصحيح، والبصيرة النافذة، والفطرة السليمة، عرف بطلانها وعرف أدلة زيفها، من الكتاب والسنة المطهرة، ومن الكتب الصحيحة، فإنه سبحانه خلق الشواهد، وأقام الدلائل على الحق، من كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبما أودع في العقول من فهم وإدراك، وبما خلق في هذه الدنيا من مخلوقات، وأوجد فيها من كائنات، تشهد له بالحكمة، وأنه الخلاق العليم، الرزاق الكريم، القادر على كل شيء، والمستحق لأن يعبد وحده لا شريك له.
والجدير بطالب العلم، أينما كان أن يقبل على كتاب الله، وأن يجعل تدبره وتعقله، من أكبر همه، ومن أعظم شواغله، وأن تكون له العناية الكاملة بقراءته، وتدبر ما فيه من المعاني العظيمة، والبراهين الساطعة، على صحة ما جاءت به الرسل، وعلى صدق ما دل عليه الكتاب، وعلى بطلان ما يقول به أهل السوء، أينما كانوا، وكيفما كانوا.
ومن تدبر القرآن طالبا للهدى أعزه الله، وبصره وبلغه مناه، كما قال(4/74)
سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) وقال عز وجل: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (2)
وهكذا السنة المطهرة إذا تأملها المؤمن، وتأمل موقفه صلى الله عليه وسلم مع أعدائه وخصومه في مكة والمدينة عرف الحق، وأن أهل الحق منصورون وممتحنون، ومن فاته النصر في الدنيا فلن يفوته الجزاء والعوض في الآخرة، كما قال عز وجل: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (3) {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (4)
فقد وعد الله سبحانه بالنصر للعاملين في الدنيا والثواب في الآخرة، قال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (5) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (6) فقد وعد الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين، الذين يعملون للحق، ويقيمون الصلاة، ويؤدون الزكاة لمستحقيها، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وعدهم جل وعلا بالنصر، وهو يعلم النصر في الدنيا والتمكين فيها والنصر والرضى من الله سبحانه يوم القيامة، يوم يقوم الأشهاد.
وفي هذا عزة للمؤمنين، وذلة للكافرين، فالمؤمنون يفوزون بالجنة، والكافرون تعلو وجوههم الذلة والندامة، والنار تكون مثواهم ومصيرهم.
وفي هذا المعنى يقول سبحانه وتعالى:
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة فصلت الآية 44
(3) سورة غافر الآية 51
(4) سورة غافر الآية 52
(5) سورة الحج الآية 40
(6) سورة الحج الآية 41(4/75)
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (1)
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ومن تأمل أحوال أهل العلم الموفقين الذين نبغوا في هذه الأمة وتدبروا كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وعلموا في ذلك ما يعينهم على فهم كتاب الله وعلى فهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهما صحيحا من الصحابة رضي الله عنهم، وأرضاهم والتابعين لهم بإحسان من أئمة الإسلام فيما كتبوا وما نقل عنهم ومن سار على نهجهم من أهل الصدق والوفاء والبصيرة كأبي العباس بن تيمية رحمه الله وتلميذيه: العلامة ابن القيم والحافظ ابن كثير وغيرهم ممن برزوا في هذا الميدان من أئمة هذا الشأن.
نعم من تأمل أحوالهم، وفتح الله عليه بفهم ما قالوا وما كتبوا رأى العجب العجاب، والعبر الباهرة، والعلوم الصحيحة، والقلوب النيرة، والبراهين الساطعة، التي ترشد من تمسك بها إلى طريق السعادة وسبيل الاستقامة.
وبذلك يحصل له بتوفيق الله سبحانه، تحقيق الغاية المطلوبة، وتحصين نفسه بالعلوم والمعرفة والطمأنينة إلى الحق، الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ودرج عليه سلف هذه الأمة.
ويتضح له أن من خالفهم من دعاة الزيغ والضلال، ليس عندهم إلا الشبهات الباطلة، والحجج الزائفة، التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
__________
(1) سورة النور الآية 55(4/76)
ويعلم حقا أن طالب العلم في الحقيقة هو الذي يميز الحق من الباطل، بأدلته الظاهرة، وبراهينه الساطعة، ويقرأ كتب الأئمة المهتدين، ويأخذ منها ما وافق الحق، ويترك ما ظهر بطلانه، وعدم موافقته للحق، ومن هؤلاء الأئمة المبرزين الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وأنصاره في القرن الثاني عشر وما بعده، قد برزوا في هذا الميدان، وكتبوا الكتابات العظيمة الناجحة، وأرسلوا الرسائل إلى الناس وردوا على الخصوم، وأوضحوا الحق في رسائلهم ومؤلفاتهم، بأدلة من الكتاب والسنة، وقد جمع من ذلك العلامة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله جملة كثيرة في كتابه المسمى: (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) .
والأدلة التي كتبها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وتلاميذه من تأملها وتبصر فيها رأى فيها الحق المبين، والحجج الباهرة، والبراهين الساطعة التي توضح بطلان أقوال الخصوم، وشبهاتهم، وتبين الحق بأدلته الواضحة.
وهم رحمة الله عليهم - مع تأخر زمانهم - قد وفقوا في إظهار الحق وبيان أدلته، وأوضحوا ما يتعلق بدعوة التوحيد، والرد على دعاة الوثنية، وعباد القبور، وبرزوا في هذا السبيل، وكانوا على النهج المستقيم، نهج السلف الصالح، واستعانوا في هذا الباب بالأدلة الواضحة التي جاءت في الكتاب والسنة النبوية، وعنوا بكتب الحديث، وكتب التفسير، وبرزوا في هذا الميدان حتى أظهر الله بهم الحق، وأذل بهم الباطل، وأقام بهم الحجة على غيرهم، ونشر بهم راية الإسلام، وقامت راية الجهاد، وأجرى الله على أيديهم من نعمه وخيره الجزيل ما لا يحصى، وأصبح أهل الحق في سائر الأمصار الذين عرفوا كتبهم، وصحة دعوتهم، وسلامة منهجهم، ينشرون دعوتهم، ويستعينون بما ألفوا في هذا الشأن على خصوم الإسلام وأعداء الإسلام في كل مكان، من أهل الشرك والبدع والخرافات.(4/77)
واسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعا لما يرضيه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وصالحين مصلحين، وأن يمنحنا الفقه في دينه، كما أسأله عز وجل أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يولي عليهم خيارهم، وأن يصلح قادة المسلمين، ويجعلهم هداة مهتدين، وأن يوفقهم لتحكيم الشريعة والتحاكم إليها، وأن يوفق ولاة أمرنا لكل خير، وينصر بهم الحق، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(4/78)
أخلاق أهل العلم (1) .
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذه كلمة أردت أن أوضح فيها أخلاق العلماء وما ينبغي أن يسيروا عليه تأسيا بإمامهم الأعظم وقدوتهم في كل خير وهو نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، رسول رب العالمين، وقائد الغر المحجلين وإمام الدعاة إلى سبيل الله أجمعين، ورأيت أن يكون عنوانها " أخلاق أهل العلم "، ولا يخفى على كل ذي مسكة من علم أن العلماء هم خلفاء الأنبياء؛ لأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم، والعلم هو ما دل عليه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ولهذا قالت عائشة لما سئلت رضي الله عنها عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام، قالت: «كان خلقه القرآن (2) » فهذه الكلمة العظيمة من عائشة رضي الله عنها ترشدنا إلى أن أخلاقه عليه الصلاة والسلام هي اتباع القرآن، وهي الاستقامة على ما في القرآن من أوامر ونواهي، وهي التخلق بالأخلاق التي مدحها القرآن العظيم وأثنى على أهلها والبعد عن كل خلق ذمه القرآن، وعاب أهله وهي كلمة جامعة مختصرة عظيمة، فجدير بأهل العلم من الدعاة والمدرسين والطلبة، جدير بهم أن يعنوا بكتاب الله وأن يقبلوا عليه حتى يأخذوا منه الأخلاق التي يحبها الله عز وجل، وحتى يستقيموا عليها، وحتى تكون لهم خلقا ومنهجا يسيرون عليه أينما كانوا.
يقول عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (3) فهو الهادي إلى الطريقة التي هي أقوم الطرق وأهدى السبل، وهل هناك هدف للمؤمن أعظم من أن يكون على أهدى السبل وأقومها
__________
(1) محاضرة ألقاها سماحة الشيخ في جامعة أم القرى بمكة المكرمة في شهر رجب عام 1409هـ.
(2) سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1601) ، سنن أبو داود الصلاة (1342) ، مسند أحمد بن حنبل (6/91) .
(3) سورة الإسراء الآية 9(4/79)
وأصلحها ولا شك أن هذا هو أرفع الأهداف وأهمها وأزكاها وهو الخلق العظيم الذي مدح الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في سورة القلم حيث قال سبحانه وتعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (1) {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (2) {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} (3) {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) فعلى جميع أهل العلم وطلبته أن يعنوا بهذا الخلق، وأن يقبلوا على كتاب الله قراءة وتدبرا وتعقلا وعملا، يقول سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (5) وهم أصحاب العقول الصحيحة الذين وهبهم الله التمييز بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال، ومن أراد هذا الخلق العظيم فعليه بالإقبال على كتاب الله عز وجل والعناية به تلاوة وتدبرا وتعقلا ومذاكرة بينه وبين زملائه وسؤالا لأهل العلم عما أشكل عليه مع الاستفادة من كتب التفسير المعتمدة، ومع العناية بالسنة النبوية لأنها تفسر القرآن وتدل عليه، حتى يسر على هذا النهج القويم وحتى يكون من أهل كتاب الله قراءة وتدبرا وعملا.
فاليهود عندهم كتاب الله والنصارى عندهم كتاب الله وعلماء السوء من هذه الأمة عندهم كتاب الله، فماذا صار هؤلاء؟
صاروا من أشر الناس لما خالفوا كتاب الله، وغضب الله عليهم وهكذا أتباعهم من كل من خالف كتاب الله على علم وسار على نهج الغاوين من اليهود والنصارى وغيرهم، حكمه حكمهم والمقصود أن نعمل بكتاب الله وأن يكون خلقا لنا كما كان خلقا للذين آمنوا قبلنا وهدى وشفاء وقد قال الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (6) وهذا أيضا من أخلاقه عليه الصلاة والسلام، ومن أخلاق أهل العلم جميعا، أهل العلم والبصيرة أهل العلم والإيمان أهل العلم والتقوى، أما أهل العلم
__________
(1) سورة القلم الآية 1
(2) سورة القلم الآية 2
(3) سورة القلم الآية 3
(4) سورة القلم الآية 4
(5) سورة ص الآية 29
(6) سورة يوسف الآية 108(4/80)
من غير تقوى وإيمان فليس لهم حظ في ذلك؛ لأن أهل العلم من أخلاقهم الدعوة إلى الله على بصيرة مع العمل وبيان الحق بأدلته الشرعية قولا وعملا وعقيدة، فهم دعاة الخلق وهداتهم على ضوء كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، بل يبلغون الناس دين الله، ويرشدونهم إلى الحق الذي بعث الله به نبيه عليه الصلاة والسلام، ويصبرون على الأذى في جميع الأحوال، وبهذا يعلم أن من دعا على جهالة فليس على خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وليس على خلق أهل العلم بل هو مجرم؛ لأن الله سبحانه جعل القول عليه بغير علم فوق مرتبة الشرك، لما يترتب عليها من الفساد العظيم، قال تعالى في كتابه المبين: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) فجعل سبحانه القول عليه بغير علم في القمة من مراتب المحرمات؛ لأن هذه الآية فيها الترقي من الأدنى إلى ما هو أشد منه فانتهى إلى الشرك ثم القول على الله بغير علم، وبهذا يعلم خطر القول على الله بغير علم، وأنه من المنكرات العظيمة والكبائر الخطيرة لما فيه من العواقب السيئة وإضلال الناس، وفي آية أخرى من سورة البقرة بين سبحانه أن القول عليه بغير علم مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به، فلا ينبغي لطالب العلم أن يسير في ركاب الشيطان، يقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (2) {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (3) انظر يا أخي ما ذكره الله عن هذا العدو المبين وأنه يأمر بالسوء والفحشاء والقول على الله بغير علم لما يعلم من عظيم الخطر والفساد في القول عليه سبحانه بغير علم؛ لأن القائل على الله بغير علم يحل الحرام ويحرم
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2) سورة البقرة الآية 168
(3) سورة البقرة الآية 169(4/81)
الحلال وينهى عن الحق ويأمر بالباطل لجهله، فالواجب على أهلي العلم وطلبته الحذر من القول على الله بغير علم، والعناية بالأدلة الشرعية حتى يكونوا على علم بما يدعون إليه أو ينهون عنه وحتى لا يقولوا على الله بغير علم، والعلماء بالله هم أعظم الناس خشية لله وأكملهم في الخوف من الله والوقوف عند حدوده، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1) فكل مسلم يخشى الله وكل عالم يخشى الله، لكن الخشية متفاوتة، فأعظم الناس خشية لله وأكمل الناس خشية لله هم العلماء بالله، العلماء بدينه، ليسوا علماء الطب، وليسوا علماء الهندسة، وليسوا علماء الجغرافيا، وليسوا علماء الحساب، وليسوا علماء كذا وكذا، ولكنهم العلماء بالله وبدينه، وبما جاء به رسوله عليه الصلاة والسلام وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام.
فالرسل والأنبياء هم رأس العلماء وهم قدوة العلماء وهم الأئمة ومن بعدهم خلفاء لهم، ورثوا علمهم ودعوا إلى ما دعوا إليه. جاء في الحديث: «العلماء ورثة الأنبياء (2) » فجدير بأهل العلم - وإن تأخر زمانهم كزماننا هذا جدير بهم - أن يسلكوا مسلك أوائلهم الأخيار في خشية الله وتعظيم أمره ونهيه والوقوف عند حدوده، وأن يكونوا أنصارا للحق ودعاة للهدى لا يخشون في الحق لومة لائم، وبذلك ينفع علمهم، وتبرأ ذمتهم وينتفع الناس بهم فقوله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (3) يعني الخشية الكاملة، فالخشية الكاملة لأهل العلم، وأعلاهم الرسل والأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل من أهل العلم على حسب تقواهم لله، وعلى حسب سعة علمهم وعلى حسب قوة إيمانهم وكمال إيمانهم وتصديقهم.
ولما قال بعض الصحابة لما سألوا عن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم في السر فكأنهم تقالوه: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه
__________
(1) سورة فاطر الآية 28
(2) سنن الترمذي العلم (2682) ، سنن أبو داود العلم (3641) ، سنن ابن ماجه المقدمة (223) ، مسند أحمد بن حنبل (5/196) .
(3) سورة فاطر الآية 28(4/82)
وما تأخر، كما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها «فقال بعضهم: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر وقال الآخر: أما أنا فلا أنام على فراش وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب الناس وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني (1) » فبين عليه الصلاة والسلام أنه أخشى الناس صلى الله عليه وسلم، وأنه أتقى الناس لله وأعلمهم بما يتقى عليه الصلاة والسلام وهكذا الرسل قبله هم أعلم الناس بالله وأتقاهم لله ثم يليهم العلماء على مراتبهم، ولكن لا يلزم من كمال خشية الله والخوف منه أن يكونوا معصومين من الخطأ، بل كل عالم قد يخطئ فمتى بان له الحق رجع إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون (2) » . فعلى طالب العلم أن يتحرى الحق بدليله ويجتهد في ذلك ويسأل ربه التوفيق والإعانة ويخلص النية فإن أخطأ مع ذلك فله أجر واحد وإن أصاب فله أجران كما صحت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالخشية لله تقتضي الوقوف عند حدود الله والسير على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا زاد على ذلك صار تنطعا وغلوا لا يجوز، فالعالم هو الذي يقف عند حدود الله في الإباحة والمنع وفي العمل والترك، لكنه مع ذلك يكون شديد الحذر أن يقول على الله بغير علم أو يعمل بخلاف ما علم، فيشابه اليهود في ذلك، وقد ذكر الله سبحانه عن بعض أهل الكتاب العاملين الأتقياء خصالا حميدة تذكيرا لنا بذلك فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (3) ففي التاريخ والقصص عبر كما قال عز وجل. وقال سبحانه: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (4) {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (5)
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5063) ، صحيح مسلم النكاح (1401) ، سنن النسائي النكاح (3217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/285) .
(2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2499) ، سنن ابن ماجه الزهد (4251) ، مسند أحمد بن حنبل (3/198) ، سنن الدارمي الرقاق (2727) .
(3) سورة يوسف الآية 111
(4) سورة آل عمران الآية 113
(5) سورة آل عمران الآية 114(4/83)
وهذا نموذج من أعمالهم الطيبة، وهذه الصفات الحميدة ذكرها الله سبحانه عنهم؛ لنقتدي بهم فيها ولنسلك هذا المسلك ونتأسى بأهل الخير وهكذا في آخر سورة آل عمران يقول جل وعلا: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (1) فهذه الخصال الحميدة التي أخذ بها خيار أهل الكتاب ومن هداهم الله من علمائهم، إيمان بالله، خشوع وخضوع لله وطاعة لله سبحانه، وذل بين يديه سبحانه وتعالى، ثم مع ذلك لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ولا يجحدون الحق ولا يكتمونه كما فعل علماؤهم الضالون، كتموا سيرة محمد عليه الصلاة والسلام، وكتموا كثيرا من الحق من أجل حظهم العاجل وما أرادوا من متاع الدنيا.
أما أهل العلم والإيمان من الأولين والآخرين أهل الخوف من الله فإنهم ينطقون بالحق ويصرحون به ولا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، بل أن من أعمالهم العظيمة بيان الحق والدلالة عليه والدعوة إليه والتحذير من الباطل والترهيب منه يرجون ثواب الله ويخشون - عقابه سبحانه وتعالى، وقال عز وجل: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) وبين سبحانه في هاتين الآيتين أنه لا يستوي من يعلم الحق المنزل من عند ربنا - وهو الهدى والصلاح والإصلاح لا يستوي هؤلاء- مع من هو أعمى
__________
(1) سورة آل عمران الآية 199
(2) سورة الرعد الآية 19
(3) سورة الزمر الآية 9(4/84)
لا يعرف الحق ولا يهتدي إليه لفساد تصوره وانحراف قلبه وفساد لبه، لا يستوي هؤلاء وهؤلاء، ولهذا قال: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) فأوضح أن التذكر والتبصر إنما يكون من أولي الألباب، وهم أولوا العقول الصحيحة السليمة.
ثم ذكر صفاتهم العظيمة فقال: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} (2) هذه صفات أهل العلم والإيمان وهم الذين يوفون بعهد الله والذي عهد إليهم، يؤدون حقه ويستقيمون على دينه قولا وعملا وعقيدة ولا ينقضون الميثاق، بل يوفون بالمواثيق والعهود والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب، يصلون ما أمر الله به أن يوصل من الاستقامة على أمر الله والإخلاص لله سبحانه وتعالى واتباع سنة الرسول لا بد من هذا وهذا، لا بد من توحيد الله ومن اتباع الرسول ولا بد من وصل هذا بهذا وذلك بتحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وهكذا يتبعون الإيمان بالعمل ومن ذلك بر الوالدين وصلة الرحم ويخشون ربهم الخشية التي تعينهم على طاعة الله وتعنتهم من معاصي الله، يخشونه سبحانه خشية حقيقية لا مجرد دعوى تؤثر في قلوبهم، وتجعلها خاشعة لله خاضعة له معظمة لحرماته تاركة نواهيه، ممتثلة أوامره.
هكذا أهل العلم والإيمان يخشون ربهم الخشية التي تثمر المتابعة وتؤدي إلى الحق وترك الباطل {وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} (3) هذا من كمال الخشية خوفهم من سوء الحساب، ولهذا أعدوا العدة واستقاموا على الطريق خوفا من سوء الحساب يوم القيامة.
ثم ذكر سبحانه الصفتين السادسة والسابعة، فقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} (4) صبروا على طاعة الله وصبروا عن محارم الله،
__________
(1) سورة الزمر الآية 9
(2) سورة الرعد الآية 20
(3) سورة الرعد الآية 21
(4) سورة الرعد الآية 22(4/85)
لا تجلدا ولا عن رياء، ولكن ابتغاء وجه الله وابتغاء الزلفى لديه، هكذا أهل الإيمان وأهل العلم بالله يصبرون على الشدائد في أداء طاعة الله وفي ترك معاصي الله، وبتبليغ رسالة الله مع إقامتهم للصلاة وعدم التفريط في شيء مما أوجب الله عليهم من هذه العبادة العظيمة التي هي عمود الإسلام، وأدوها كما أمر الله.
ثم ذكر سبحانه الصفة الثامنة والتاسعة فقال: {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} (1) والمعنى أنهم مع هذا ينفقون في مرضاته وفي الإحسان لعباده سرا وعلانية، شيء يراه الناس وشيء لا يراه الناس، يبتغون فضل الله ويبتغون رحمته وإحسانه من الزكاة، وغيرها يؤدون الزكوات، وينفقون في وجوه الخير مما أعطاهم الله سبحانه، {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} (2) يدرءون بالحسنات السيئات لكمال صبرهم وتحملهم وكظمهم الغيظ، هكذا العلماء بالله وهكذا الصلحاء من عباده، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} (3) لهم العاقبة الحميدة، فسرها سبحانه بقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} (4) من ثوابهم على هذه الأعمال السابقة أن الله يشملهم وآبائهم وذرياتهم وأزواجهم بفضله سبحانه وتعالى ورحمته، فالاستقامة على أمر الله وأداء حقه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والثبات على الحق والصبر في ذلك ودرء السيئة بالحسنة، كل هذا من أسباب صلاح العبد وصلاح آبائه، وأزواجه وذريته واجتماعهم في دار كرامته وزيارة الملائكة لهم مسلمين عليهم ومرحبين بهم، ومن نعم الله العظيمة على العبد أن يكون سببا لهداية أبيه وأمه وزوجته وذريته، وهكذا من نعم الله العظيمة على المرأة أن تكون سببا لهداية زوجها وأبيها وأمها وأولادها، ويعلم من الآية الكريمة أن دخول الآباء والأزواج والذريات الجنة مع أقاربهم إنما هو بسبب صلاحهم
__________
(1) سورة الرعد الآية 22
(2) سورة الرعد الآية 22
(3) سورة الرعد الآية 22
(4) سورة الرعد الآية 23(4/86)
لا لمجرد النسب والقرابة ولكن بسبب الصلاح والاستقامة والاجتهاد في طاعة الله التي هي أعظم واسطة في صلاح العبد وأقربائه وزوجاته وذرياته واجتماعهم في دار كرامته، وهذه الآية الكريمة تشبه قوله تعالى في سورة سبأ: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (1)
وقوله تعالى في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (2) وهكذا ما جاء في معنى ذلك من الآيات الكريمات، كلها تبين أن المنازل العالية والفوز بجنات النعيم والسلامة من عذاب الله وغضبه، كل ذلك لا يحصل بمجرد الأماني والدعوة ولا بالأنساب والدعوة إنما يحصل ذلك بعد توفيق الله ورحمته بأسباب الصبر على طاعة الله والصبر عن محارمه والإقبال عليه سبحانه وتعالى والإخلاص له في العمل والضراعة إليه بطلب التوفيق والهداية مع صبرهم على الشدائد والمشاق في سبيل الحق وصبرهم على المصائب، بهذا كله حصل لهم الخير العظيم والفوز بدار النعيم، وهكذا ينبغي لأهل الإيمان وأهل العلم والهداية أن يتخلقوا بهذه الأخلاق العظيمة ويسيروا عليها؛ حتى تكون لهم العاقبة الحميدة، وحتى تكون لهم عقبى الدار، فلا بد من صبر ولا بد من إخلاص، ولا بد من صدق، قال تعالى في سورة الإنسان: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} (3) وقال سبحانه في سورة المؤمنون {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} (4) وقال في سورة الفرقان لما ذكر صفات عباد الرحمن العظيمة:
__________
(1) سورة سبأ الآية 37
(2) سورة الحجرات الآية 13
(3) سورة الإنسان الآية 12
(4) سورة المؤمنون الآية 111(4/87)
{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} (1)
فهذه الخصال الحميدة التي ذكرها في قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} (2) الآيات، حصلت لهم بصبرهم على طاعة الله، وصبرهم عن محارم الله، وصبرهم على المصائب، فلا بد من العناية بهذا الأمر، وأن نعد له عدته ولا بد أن يعلم طالب العلم أنه لا بد من الصبر وأن الأعمال العظيمة والخير الكثير، لا يحصل بمجرد الدعوى والرغبة والتمني من دون عمل وصبر.
أسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته أن يوفقنا وسائر المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح وأن يرزقنا جميعا التخلق بأخلاق أهل العلم والإيمان، أخلاق الرسل وأتباعهم بإحسان، وأن يزيدنا وجميع المسلمين من العلم النافع والعمل الصالح والبصيرة النافذة، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، كما نسأله سبحانه أن يوفق القائمين على أمور المسلمين في كل مكان لكل ما فيه رضاه وصلاح العباد وأن يصلح قادة المسلمين ويعينهم على طاعة الله ورسوله، وأن يوفقهم لتحكيم شريعته والالتزام بها والتحاكم إليها، والحذر مما يخالفها، كما أسأله عز وجل أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان وأن يمنحهم الفقه في الدين وأن يعينهم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يعيذنا وسائر المسلمين من كل ما يخالف شرعه إنه جل وعلا ولي ذلك والقادر عليه....
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 75
(2) سورة الفرقان الآية 63(4/88)
حادث المسجد الحرام
وأمر
المهدي المنتظر (1) .
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فإن الحادثة النكراء والجريمة الشنعاء التي قام بها جماعة من المسلمين بعد صلاة الفجر من يوم الثلاثاء الموافق 1\1\ من عام 1400 هجرية باقتحامهم المسجد الحرام وإطلاقهم النار بين الطائفين والقائمين والركع السجود في بيت الله الحرام أقدس بقعة وآمنها، قد أقضت مضاجع العالم الإسلامي وألهبت مشاعره وقابلها بالاستنكار الشديد، وما ذاك إلا لأنها عدوان على البيت الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا، وانتهاك لحرمته وحرمات البلد الأمين والشهر الحرام، وترويع للمسلمين، وإشعال لنار الفتنة، وخروج على ولي أمر البلاد بغير حق.
ولا شك أن هذا الإجرام يعتبر من الإلحاد في حرم الله الذي قال الله فيه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) ويعتبر ترويعا للمسلمين وإيذاء لهم وظلما وعدوانا وقد قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (3) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} (4) وقال عز وجل: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (5) يضاف إلى ذلك حملهم
__________
(1) نشر في العدد الخامس من مجلة البحوث الإسلامية سنة 1400هـ.
(2) سورة الحج الآية 25
(3) سورة الأحزاب الآية 58
(4) سورة الفرقان الآية 19
(5) سورة الشورى الآية 8(4/89)
السلاح وإطلاقهم النار على رجال الأمن الذين أرادوا إطفاء فتنتهم وحماية المسلمين من شرهم،.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «من حمل علينا السلاح فليس منا (1) » ونهى عن حمل السلاح في الحرم وقال عليه الصلاة والسلام: «إن هذا البلد حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يسفك فيه دم ولا يعضد فيه شجره (2) » وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «إن هذا البلد لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولا يحل لأحد بعدي وإنما أحل لي ساعة من نهار وقد عادت حرمته اليوم كحرمته بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب (3) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وقد تعدى شر هذه الفتنة وضررها إلى كثير من الحجاج وغيرهم.
يضاف إلى ذلك إغلاقهم أبواب المسجد الحرام ومنعهم بذلك الداخلين والخارجين، وبذلك تدخل هذه الطائفة تحت قوله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (4)
وبالجملة فقد حصل بهذه الحادثة الشنيعة ظلم كثير وفساد عظيم وبلاء كبير ولا نعلم أنه مر بالمسجد الحرام مثل هذه الحادثة لا في الجاهلية ولا في الإسلام.
أما تبريرهم لظلمهم وعدوانهم وفسادهم الكبير بأنهم أرادوا إعلان البيعة لمن زعموه المهدي، فهذا تبرير فاسد وخطأ ظاهر وزعم لا دليل عليه ولا يجوز أن يستحلوا به حرمة المسجد الحرام وحرمة المسلمين الموجودين فيه ولا يبيح لهم حمل السلاح وإطلاق النار على رجال الأمن ولا على غيرهم لأن المهدي المنتظر من الأمور الغيبية التي لا يجوز لأي مسلم أن يجزم بأن فلانا ابن فلان هو المهدي المنتظر؛ لأن ذلك قول على الله وعلى رسوله بغير علم، ودعوى لأمر قد استأثر الله به حتى تتوافر العلامات والأمارات التي أوضحها النبي صلى الله عليه وسلم وبين أنها وصف المهدي، وأهمها
__________
(1) صحيح البخاري الديات (6874) ، صحيح مسلم الإيمان (98) ، سنن النسائي تحريم الدم (4100) ، سنن ابن ماجه الحدود (2576) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) .
(2) صحيح البخاري الجنائز (1349) ، صحيح مسلم الحج (1353) ، سنن النسائي مناسك الحج (2892) ، سنن أبو داود المناسك (2017) ، مسند أحمد بن حنبل (1/316) .
(3) صحيح البخاري الحج (1832) ، صحيح مسلم الحج (1354) ، سنن الترمذي كتاب الحج (809) ، سنن النسائي مناسك الحج (2876) ، مسند أحمد بن حنبل (4/31) .
(4) سورة البقرة الآية 114(4/90)
وأوضحها أن تستقيم ولايته على الشريعة، وأن يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا مع توافر العلامات الأخرى، وهي: كونه من بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكونه أجلى الجبهة أقنى الأنف وكون اسمه واسم أبيه يوافق اسم النبي صلى الله عليه وسلم واسم أبيه، وبعد توافر هذه الأمور كلها يمكن المسلم أن يقول أن من هذه صفته هو المهدي.
أما اعتماد المنامات في إثبات كون فلان هو المهدي فهو مخالف للأدلة الشرعية ولإجماع أهل العلم والإيمان؛ لأن المرائي مهما كثرت لا يجوز الاعتماد عليها في خلاف ما ثبت به الشرع المطهر؛ لأن الله سبحانه أكمل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته الدين وأتم عليهم النعمة قبل وفاته عليه الصلاة والسلام فلا يجوز لأحد أن يعتمد شيئا من الأحلام في مخالفة شرعه عليه الصلاة والسلام، ثم إن المهدي قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم بالشرع المطهر فكيف يجوز له ولأتباعه انتهاك حرمة المسجد الحرام وحرمة المسلمين وحمل السلاح عليهم بغير حق، وكيف يجوز له الخروج على دولة قائمة قد اجتمعت على رجل واحد وأعطته البيعة الشرعية فيشق عصاها ويفرق جمعها، وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: «من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه كائنا من كان (1) » خرجه مسلم في صحيحه، ولما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بايعهم على أن لا ينازعوا الأمر أهله، وقال: «إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان (2) » .
وهذه الدولة بحمد الله لم يصدر منها ما يوجب الخروج عليها، وإنما الذي يستبيح الخروج على الدولة بالمعاصي هم الخوارج،. الذين يكفرون المسلمين بالذنوب، ويقاتلون أهل الإسلام، ويتركون أهل الأوثان، وقد قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1852) ، سنن النسائي تحريم الدم (4020) ، سنن أبو داود السنة (4762) ، مسند أحمد بن حنبل (4/341) .
(2) صحيح البخاري الفتن (7056) .(4/91)
الرمية (1) » وقال: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة (2) » متفق عليه.
والأحاديث في شأنهم كثيرة معلومة، وقد قال النبي: «من رأى من أميره شيئا من معصية لله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة فإن من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية (3) » وقال عليه الصلاة والسلام في حديث الحارث الأشعري: «وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: الجهاد، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجماعة، فإن من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع (4) » .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة....
وقد صدر من علماء المملكة فتوى في هذه الحادثة والقائمين بها، وأنا من جملتهم، وقد نشرت في الصحف المحلية، وأذيعت بواسطة الإذاعة المرئية والمسموعة ... وفيما يلي نصها:
__________
(1) صحيح البخاري كتاب المناقب (3611) ، صحيح مسلم الزكاة (1066) ، سنن النسائي تحريم الدم (4102) ، سنن أبو داود السنة (4767) ، مسند أحمد بن حنبل (1/92) .
(2) صحيح البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6930) ، صحيح مسلم الزكاة (1066) ، سنن النسائي تحريم الدم (4102) ، سنن أبو داود السنة (4767) ، مسند أحمد بن حنبل (1/131) .
(3) صحيح مسلم الإمارة (1855) ، مسند أحمد بن حنبل (6/24) ، سنن الدارمي الرقاق (2797) .
(4) سنن الترمذي الأمثال (2863) ، مسند أحمد بن حنبل (4/130) .(4/92)
بيان من هيئة كبار العلماء بشأن
الاعتداء على المسجد الحرام
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه.
وبعد:
فبمناسبة انعقاد مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الخامسة عشرة في مدينة الرياض في النصف الأول من شهر صفر عام 1400 هـ للنظر في الأعمال المدرجة في جدول أعمال هذه الدورة، رأت الهيئة أن من واجبها إصدار بيان بشأن الاعتداء على المسجد الحرام من قبل الفئة المعتدية الضالة التي كفى الله المؤمنين شر عدوانها فتم القضاء عليها بفضل الله وكرمه، فإن هيئة كبار العلماء بهذه المناسبة تستنكر من هذه الفئة الظالمة(4/92)
فعلها الآثم وعدوانها الغادر وتعتبرها بذلك قد ارتكبت عدة جرائم أهمها ما يلي:
1 - انتهاك حرم الله وجعله ميدانا للقتل والقتال وتحويله من حرم آمن إلى ساحة حرب تسوده الفوضى والفزع والاضطرابات والقتل والقتال متجاهلين ما في ذلك من الوعيد الشديد والإجرام البالغ، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرا فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب (2) » .
2 - سفك دماء المسلمين في بلد الله الحرام مكة المكرمة وفي حرمه الآمن حيث قتل فيه على أيديهم وبسبب فتنتهم العشرات من المسلمين معصومي الدم والمال.
3 - الإقدام على القتال في البلد الحرام وفي الشهر الحرام، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} (3) الآية.
4 - الخروج على إمام المسلمين وولي أمرهم، وهم مع إمامهم وتحت ولايته وسلطانه في حال من الاستقرار والتكاتف والتآلف والتناصح واجتماع الكلمة يحسدهم عليها كثير من شعوب العالم ودولها مستهينين بجريمة الخروج على ولي أمر المسلمين وخلع ما في أعناقهم له من بيعة نافذة
__________
(1) سورة الحج الآية 25
(2) صحيح البخاري العلم (104) ، صحيح مسلم الحج (1354) ، سنن الترمذي كتاب الحج (809) ، سنن النسائي مناسك الحج (2876) ، مسند أحمد بن حنبل (4/31) .
(3) سورة البقرة الآية 217(4/93)
جاهلين أو متجاهلين ما في ذلك من النصوص الشرعية من الكتاب والسنة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1)
وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا، أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان (2) » واللفظ لمسلم.
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية (3) » .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه إن استطاع فمن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر (4) » .
وفي صحيح مسلم عن عرفجة بن شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه كائنا من كان (5) » .
5 - التسبب في تعطيل حرم الله مدة اعتدائهم عليه من الشعائر الدينية من صلاة وذكر وطواف وتلاوة لكتاب الله وغير ذلك من أنواع العبادات حتى إنه مضى عليه جمعتان لم تصل فيه ولم ترفع من مأذنه نداءات الصلاة جمعة وجماعة، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} (6) الآية.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) صحيح مسلم برقم 1709.
(3) صحيح مسلم الإمارة (1851) ، مسند أحمد بن حنبل (2/97) .
(4) صحيح مسلم الإمارة (1844) ، سنن النسائي البيعة (4191) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4248) ، سنن ابن ماجه الفتن (3956) ، مسند أحمد بن حنبل (2/161) .
(5) صحيح مسلم الإمارة (1852) ، سنن النسائي تحريم الدم (4020) ، سنن أبو داود السنة (4762) ، مسند أحمد بن حنبل (4/341) .
(6) سورة البقرة الآية 114(4/94)
6 - التغرير بمجموعة من الأغرار والنساء والسذج وغيرهم، بزجهم في حظيرة هذا الطغيان الآثم وتعريضهم لكثير من المآسي وصنوف المشقة والتسبب في قتل بعضهم.
7 - الانقياد لداعي الهوى والضلال، حيث قام من تولى كبر هذه الفتنة بالإشارة إلى أحدهم بأنه هو المهدي المنتظر وأعلن المطالبة بمبايعته مع انتفاء ما يدل على ذلك ووجود ما يكذبه.
وبناء على ما تقدم فإن هيئة كبار العلماء تعتبر هذه الفئة فئة ضالة لاعتدائها على حرم الله وعلى مسجده الحرام وسفكها الدم الحرام وقيامها بما يسبب فرقة المسلمين وشق عصاهم وبذلك دخلت تحت قوله سبحانه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} (2) الآية.
والهيئة إذ ترى في هذه الفئة الظالمة هذا الرأي ترى أن في منشوراتها من الشبه الآثمة والتأويلات الباطلة والاتجاهات الضالة ما يعتبر بذور شر وفتنة وضلال وطريق إلى الفوضى والاضطرابات والتلاعب بمصالح البلاد والعباد بدعاوى قد يغتر بعض السذج بظاهرها وفي بواطنها الشر المستطير، وإذ تبين الهيئة ذلك وتستنكره فإنها تحذر المسلمين جميعا مما في تلك المنشورات من الشبه الآثمة والتأويلات الباطلة والاتجاهات السيئة، كما أن الهيئة بهذه المناسبة وبمناسبة القضاء على فتنتهم من حكومة جلالة الملك خالد بن عبد العزيز حفظه الله ووفقه وأعانه على كل خير، تشكر الله سبحانه وتعالى أن يسر أسباب القضاء عليها، وتسأله تعالى أن يحمي هذه البلاد وبلاد المسلمين عامة من كل سوء وأن يجمع شملها على الحق ويعين ولاتها
__________
(1) سورة الحج الآية 25
(2) سورة البقرة الآية 114(4/95)
ويعزهم بالإسلام ويعز الإسلام بهم ويجعل لهم من البطانة الصالحة من إذا هموا بالخير أعانوهم عليه وإذا جهلوه أرشدوهم إليه وإذا نسوه ذكروهم إياه وأن يحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون؛ من ظالم وحاقد وماكر وحاسد، وتقدر الهيئة الجهود العظيمة التي بذلتها الحكومة في القضاء على هذه الفتنة بطريقة اتسمت بالقوة والحكمة والبصيرة وتشكر كل من ساهم في القضاء عليها بيده أو لسانه أو قلمه وفي مقدمة هؤلاء جلالة الملك وولي عهده وأعوانه المخلصين والقوات العسكرية بمختلف مسمياتها ورتب أفرادها، ونسأل الله سبحانه وتعالى لقتلاهم المغفرة والرحمة وجزيل الثواب ولأحيائهم الأجر العظيم والثبات على الحق والهدى والله حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء.
عبد الله الخياط ... محمد بن علي الردركان ... عبد الله بن محمد بن حميد
سليمان بن عبيد ... عبد العزيز بن صالح ... عبد الرزاق عفيفي
راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن ... عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان(4/96)
وفيها الكفاية إن شاء الله والإقناع لطالب الحق، وإنما أردت بكلمتي هذه مزيد الإيضاح والبيان لخطأ هذه الطائفة وظلمها وعدوانها فيما فعلت، وخطئها فيمن زعمت أنه المهدي ...
أما إنكار المهدي المنتظر بالكلية كما زعم ذلك بعض المتأخرين فهو قول باطل؛ لأن أحاديث خروجه في آخر الزمان وأنه يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا قد تواترت تواترا معنويا وكثرت جدا واستفاضت كما صرح بذلك جماعة من العلماء، منهم أبو الحسن الآبري السجستاني من علماء القرن الرابع، والعلامة السفاريني والعلامة الشوكاني وغيرهم، وهو كالإجماع من أهل العلم.
ولكن لا يجوز الجزم بأن فلانا هو المهدي إلا بعد توافر العلامات التي بينها النبي في الأحاديث الصحيحة الثابتة، وأعظمها وأوضحها كونه يملأ الأرض عدلا وقسطا، كما ملئت جورا وظلما كما سبق بيان ذلك.
ونسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين ويمنحهم الفقه في الدين، وأن يوفق ولاة أمرهم للحكم بشريعته والتحاكم إليها والحذر من كل ما خالفها، وأن يحسن العاقبة للمسلمين أنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(4/97)
تعليق على محاضرة عنوانها:
"عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر"
بعد انتهاء المحاضر من إلقاء محاضرته " عقيدة أهل السنة والأثر ... " قام فضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية آنذاك الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز فعلق على المحاضرة بالكلمة التالية (1) .
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنا نشكر محاضرنا الأستاذ الفاضل الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد على هذه المحاضرة القيمة الواسعة فلقد أجاد فيها وأفاد واستوفى المقام حقا فيما يتعلق بالمهدي المنتظر مهدي الحق، ولا مزيد على ما بسطه من الكلام فقد بسط واعتنى، وذكر الأحاديث، وذكر كلام أهل العلم في هذا الباب، وقد وفق للصواب وهدي إلى الحق، فجزاه الله عن محاضرته خيرا وجزاه الله عن جهوده خيرا وضاعف له المثوبة وأعانه على التكميل والإتمام لرسالته في هذا الموضوع، وسوف نقوم - إن شاء الله - بطبعها بعد انتهائه منها لعظم فائدتها ومسيس الحاجة إليها والخلاصة التي أعلقها على هذه المحاضرة القيمة أن أقول:
إن الحق والصواب هو ما أبداه فضيلته في هذه المحاضرة، كما بينه أهل العلم، فأمر المهدي أمر معلوم والأحاديث فيه مستفيضة بل متواترة
__________
(1) نقلت من شريط التسجيل وعرضت على فضيلته بعد نقلها فأذن في نشرها(4/98)
متعاضدة، وقد حكى غير واحد من أهل العلم: تواترها، كما حكاه الأستاذ في هذه المحاضرة، وهي متواترة تواترا معنويا لكثرة طرقها واختلاف مخارجها وصحابتها ورواتها وألفاظها، فهي بحق تدل على أن هذا الشخص الموعود به أمره ثابت وخروجه حق وهو (محمد بن عبد الله العلوي الحسني) من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا الإمام من رحمة الله عز وجل للأمة في آخر الزمان يخرج فيقيم العدل والحق ويمنع الظلم والجور، وينشر الله به لواء الخير على الأمة عدلا وهداية وتوفيقا وإرشادا للناس.
وقد اطلعت على كثير من أحاديثه فرأيتها كما قال الشوكاني وغيره، وكما قال ابن القيم وغيره: فيها الصحيح وفيها الحسن، وفيها الضعيف المنجبر، وفيها أخبار موضوعة، ويكفينا من ذلك ما استقام سنده، سواء كان صحيحا لذاته أو لغيره، وسواء كان حسنا لذاته أو لغيره، وهكذا الأحاديث الضعيفة إذا انجبرت وشد بعضها بعضا فإنها حجة عند أهل العلم.
فإن المقبول عندهم أربعة أقسام: صحيح لذاته، وصحيح لغيره، وحسن لذاته، وحسن لغيره.
هذا ما عدا المتواتر، أما المتواتر فكله مقبول سواء كان تواتره لفظيا أو معنويا، فأحاديث المهدي من هذا الباب متواترة تواترا معنويا، فتقبل بتواترها من جهة اختلاف ألفاظها ومعانيها وكثرة طرقها وتعدد مخارجها، ونص أهل العلم الموثوق بهم على ثبوتها وتواترها.
وقد رأينا أهل العلم أثبتوا أشياء كثيرة بأقل من ذلك، والحق أن جمهور أهل العلم - بل هو اتفاق منهم - على ثبوت أمر المهدي، وأنه حق، وأنه سيخرج في آخر الزمان.
أما من شذ عن أهل العلم في هذا الباب فلا يلتفت إلى كلامه في ذلك. وأما ما قاله الحافظ إسماعيل بن كثير رحمة الله عليه في كتابه التفسير في سورة المائدة عند ذكر النقباء، وأن المهدي: يمكن أن(4/99)
يكون أحد الأئمة الاثنى عشر فهذا: محل نظر.
فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «لا يزال أمر هذه الأمة قائما ما ولي عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش (1) » فقوله: لا يزال أمر هذه الأمة قائما: يدل على أن الدين في زمانهم قائم، والأمر نافذ، والحق ظاهر، ومعلوم أن هذا إنما كان قبل انقراض دولة بني أمية، وقد جرى في آخرها اختلاف تفرق بسببه الناس، وحصل به نكبة على المسلمين، وانقسم أمر المسلمين إلى خلافتين: خلافة في الأندلس، وخلافة في العراق، وجرى من الخطوب والشرور ما هو معلوم.
والرسول عليه الصلاة والسلام قال: «لا يزال أمر هذه الأمة قائما (2) » ثم جرى بعد ذلك أمور عظيمة حتى اختل نظام الخلافة وصار على كل جهة من جهات المسلمين أمير وحاكم وصارت دويلات كثيرة، وفي زماننا هذا أعظم وأكثر.
والمهدي حتى الآن لم يخرج، فكيف يصح أن يقال أن الأمر قائم إلى خروج المهدي؟ هذا لا يمكن أن يقوله من تأمل ونظر.
والأقرب في هذا كما قاله جماعة من أهل العلم: أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث: «لا يزال أمر هذه الأمة قائما ما ولي عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش (3) » أن مراده من ذلك: الخلفاء الأربعة ومعاوية رضي الله عنهم، وابنه يزيد، ثم عبد الملك بن مروان، وأولاده الأربعة، وعمر بن عبد العزيز، فهؤلاء اثنا عشر خليفة.
والمقصود أن الأئمة الاثني عشر في الأقرب والأصوب ينتهي عددهم بهشام بن عبد الملك، فإن الدين في زمانهم قائم والإسلام منتشر والحق ظاهر والجهاد قائم، وما وقع بعد موت يزيد من الاختلاف والانشقاق في الخلافة وتولي مروان في الشام وابن الزبير في الحجاز، لم يضر المسلمين في ظهور دينهم، فدينهم ظاهر وأمرهم قائم وعدوهم مقهور مع وجود هذا الخلاف الذي جرى ثم زال بحمد الله بتمام
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7223) ، صحيح مسلم الإمارة (1822) ، سنن الترمذي الفتن (2223) ، سنن أبو داود المهدي (4279) ، مسند أحمد بن حنبل (5/107) .
(2) صحيح البخاري الأحكام (7223) ، صحيح مسلم الإمارة (1821) ، سنن الترمذي الفتن (2223) ، سنن أبو داود المهدي (4279) ، مسند أحمد بن حنبل (5/86) .
(3) صحيح البخاري الأحكام (7223) ، صحيح مسلم الإمارة (1822) ، سنن الترمذي الفتن (2223) ، سنن أبو داود المهدي (4279) ، مسند أحمد بن حنبل (5/107) .(4/100)
البيعة لعبد الملك واجتماع الناس بعد ما جرى من الخطوب على يد الحجاج وغيره.
وبهذا يتبين أن هذا الأمر الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم قد وقع ومضى وانتهى، وأمر المهدي يكون في آخر الزمان وليس له تعلق بحديث جابر بن سمرة في الأئمة الاثني عشر.
أما كون المهدي يكون عند نزول عيسى فقد قال ابن كثير في الفتن والملاحم: أظنه يكون عند نزول المسيح، والحديث الذي رواه الحارث بن أبي أسامة يرشد إلى هذا ويدل عليه؛ لأنه قال: أميرهم المهدي، فهو صريح في أنه يكون عند نزول عيسى ابن مريم، كما ترشد إليه بعض روايات مسلم وبعض الروايات الأخرى، لكن ليست بالصريحة فهذا هو الأقوم والأظهر ولكنه ليس بالأمر القطعي.
أما كونه سيخرج في آخر الزمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فهذا أمر معلوم، والأحاديث ظاهرة في ذلك كما تقدم، والحق كما قاله الأئمة والعلماء في ذلك أنه لا بد من خروجه وظهوره.
وأما أمر المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام وأمر المسيح الدجال فأمرهما أظهر وأوضح، فالأمر فيهما قطعي، وقد أجمع على ذلك علماء الأمة وبينوا للناس أن المسيح نازل في آخر الزمان، كما أن الدجال خارج في آخر الزمان، وقد تواترت بذلك الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وكلها صحيحة متواترة بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان وحكمه بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام وقتله الدجال مسيح الضلالة.
هذا حق وهكذا خروج الدجال حق أما من أنكر ذلك وزعم أن نزول المسيح ابن مريم ووجود المهدي إشارة إلى ظهور الخير، وإن وجود الدجال ويأجوج ومأجوج وما أشبه ذلك إشارة إلى ظهور الشر فهذه أقوال فاسدة بل باطلة في الحقيقة، لا ينبغي أن تذكر، فأهلها قد حادوا عن الصواب وقالوا أمرا منكرا وأمرا خطيرا، لا وجه له في الشرع ولا وجه له في الأثر ولا في النظر، والواجب تلقي ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم بالقبول والإيمان به(4/101)
والتسليم، فمتى صح الخبر عن رسول الله فلا يجوز لأحد أن يعارضه برأيه واجتهاده، بل يجب التسليم كما قال الله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر عن الدجال وعن المهدي وعن عيسى المسيح ابن مريم فوجب تلقي ما قاله بالقبول والإيمان بذلك والحذر من تحكيم الرأي والتقليد الأعمى الذي يضر صاحبه ولا ينفعه لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وأسأل الله عز وجل أن يوفق الجميع لما فيه رضاه وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه والثبات على الحق حتى نلقى ربنا سبحانه وتعالى وهو راض عنا.
وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة النساء الآية 65(4/102)
وجوب الصدق والنصح في المعاملات.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى أوجب على المسلمين الصدق والنصح في جميع المعاملات، وحرم عليهم الكذب والغش والخيانة، وما ذاك إلا لما في الصدق والنصح وأداء الأمانة من صلاح أمر المجتمع والتعاون السليم بين أفراده والسلامة من ظلم بعضهم لبعض وعدوان بعضهم على بعض، ولما في الغش والخيانة والكذب من فساد أمر المجتمع وظلم بعضه لبعض وأخذ الأموال بغير حقها وإيجاد الشحناء والتباغض بين الجميع، ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله؟ قال لله ولكتابه ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » خرجه مسلم في صحيحه.
وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (2) » .
وفي الصحيحين أيضا عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا (3) » أو قال «حتى يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما (4) » . وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من غشنا فليس منا (5) » . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «مر النبي صلى الله عليه وسلم على صبرة من طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال "ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال أصابته السماء يا رسول الله قال أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس من غش فليس مني (6) » .
فهذه الأحاديث الصحيحة وما جاء في معناها كلها تدل على وجوب النصح والبيان والصدق في المعاملات وعلى تحريم الكذب والغش والخيانة في ذلك كما تدل على أن
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1401) ، صحيح مسلم الإيمان (56) ، سنن الترمذي البر والصلة (1925) ، سنن النسائي البيعة (4175) ، مسند أحمد بن حنبل (4/364) ، سنن الدارمي البيوع (2540) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2108) ، صحيح مسلم البيوع (1532) ، سنن الترمذي البيوع (1246) ، سنن النسائي البيوع (4464) ، سنن أبو داود البيوع (3459) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) ، سنن الدارمي البيوع (2547) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2079) ، صحيح مسلم البيوع (1532) ، سنن الترمذي البيوع (1246) ، سنن النسائي البيوع (4464) ، سنن أبو داود البيوع (3459) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) ، سنن الدارمي البيوع (2547) .
(5) سنن ابن ماجه التجارات (2225) .
(6) صحيح مسلم الإيمان (102) ، سنن الترمذي البيوع (1315) ، سنن ابن ماجه التجارات (2224) ، مسند أحمد بن حنبل (2/242) .(4/103)
الصدق والنصح من أسباب البركة في المعاملة، وأن الكذب والغش من أسباب محقها، ومن النصح والأمانة بيان العيوب الخفية للمشتري والمستأجر وبيان حقيقة الثمن والسوم عند الإخبار عنهما.
ومن الغش والخيانة الزيادة في السوم أو الثمن ليبذل المشتري أو المستأجر مثل ذلك أو قريبا منه. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأعطي بها كذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك، ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها وفى وإن لم يعطه منها لم يف (1) » فالواجب على جميع المسلمين تقوى الله في المعاملة والحذر من أسباب غضب الله وأليم عقابه الذي توعد به أصحاب الغش والخيانة والكذب، كما يجب على الجميع التواصي بالصدق والنصح وتقوى الله في جميع الأمور؛ لأن في ذلك سعادة الدنيا والآخرة وصفاء القلوب وصلاح المجتمع، وفي ذلك أيضا حصول البركة في المعاملة والسلامة من أكل الحرام ومن ظلم المسلم لأخيه.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه (2) » وقال عليه الصلاة والسلام: «مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (3) » .
واسأل الله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين، ويجمع قلوبهم على التقوى، ويصلح قادتهم، ويمنحهم جميعا الصدق، والنصح في جميع الأمور والتعاون على البر والتقوى، إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) صحيح البخاري المساقاة (2358) ، صحيح مسلم الإيمان (108) ، سنن الترمذي السير (1595) ، سنن النسائي البيوع (4462) ، سنن أبو داود البيوع (3474) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2870) ، مسند أحمد بن حنبل (2/253) .
(2) صحيح البخاري المظالم والغصب (2446) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) .
(3) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .(4/104)
"
التذكير بالله والتآخي في الله من أهم القربات ومن أفضل
الطاعات
"
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، ومن سلك سبيله واتبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيتها الأخوات في الله، أشكر رئيسة الجمعية على دعوتي إلى هذا اللقاء، وأسأل الله أن يوفقها والعاملات معها لما فيه صلاح الجمعية واستمرار نفعها، ولما فيه أيضا صلاح المسلمين جميعا.
أيتها الأخوات في الله: إن التذكير بالله والتآخي في الله من أهم القربات ومن أفضل الطاعات، وهو من التناصح والتعاون على البر والتقوى، ومن التواصي بالحق الذي أثنى الله على أهله، وأخبر أنهم هم الرابحون، قال تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وقال عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4)
أمر سبحانه في الآية الأولى بالتعاون على البر والتقوى، ويدخل في ذلك النصيحة والتوجيه إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وغير ذلك مما ينفع العباد في العاجل والآجل، ونهى عن التعاون على الإثم والعدوان، ويدخل فيه التعاون على كل ما يغضب الله سبحانه وتعالى، كالتعاون على المعاصي كلها كالمسكرات وظلم الناس، وغير ذلك مما
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(4/105)
يدخل في التعاون على الإثم والعدوان. فلا يجوز لمسلم أو مسلمة أن يعين على معصية الله عز وجل، وينبغي للمؤمن والمؤمنة ألا يتأخرا عن التعاون على البر والتقوى.
وأخبر في سورة العصر أن من صفات الرابحين الناجين السعداء: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
هذه أيتها الأخوات في الله صفات الرابحين، صفات السعداء: الإيمان بالله ورسوله إيمانا صادقا، ثم العمل الصالح، وهو ثمرة الإيمان وهو موجب الإيمان، وهو أداء فرائض الله والكف عن محارم الله، والمسارعة إلى الخيرات والازدياد من أنواع القربات.
والأمر الثالث: التواصي بالحق، ويدخل فيه التناصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر وجوه الخير.
والرابع: التواصي بالصبر فإن الأمور المهمة لا تحصل إلا بالله ثم بالصبر، فلهذا أخبر سبحانه عن صفات الرابحين أنهم يتواصون بالصبر.
هذه العناصر الأربعة هي أسباب الوصول إلى السعادة، والوصول إلى الربح، وهذه العناصر إذا توافرت للمجتمع صار مجتمعا صالحا، سواء كان رجاليا أو نسائيا، كل مجتمع تتوافر فيه هذه الأمور الأربعة وهي: الإيمان الصادق بالله ورسوله، إيمانا يتضمن توحيد الله ويتضمن الإيمان بالرسل جميعا، ومنهم خاتمهم وأفضلهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ويتضمن الأصل الثاني: وهو العمل الصالح، وهو أداء الفرائض وترك المحارم، والمسارعة في الخيرات.
ويتضمن العنصر الثالث: وهو التواصي بالحق والتعاون على الخير والتناصح، ويتضمن العنصر الرابع التواصي بالصبر.(4/106)
ووصيتي لكن أيتها الأخوات العناية بهذه الأصول والحرص عليها، ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه الشرور، وغلب فيه الجهل بأمور الدين، وقل فيه العلم.
ويجب على المؤمن والمؤمنة التعاون على البر والتقوى دائما، ولا سيما في هذا العصر الذي لا تخفى حاله وما كثر فيه من المغريات وأسباب الشقاء، وما حصل فيه من الاختلاط بالكفرة والفسقة، وما حصل فيه أيضا من الرفاهية وتطور الأحوال في كل شيء.
فالمؤمن والمؤمنة في أشد الحاجة للتواصي بالحق والتناصح والتعاون على الخير والصبر على ذلك. فالمؤمن ينصح أخاه إذا رأى منه تقصيرا، وأيضا المؤمنة تنصح أختها في الله وأخاها في الله: زوجها وأباها وابنها وابنتها وأختها وجدتها وأمها وغيرهم، في كل شيء: في الصلاة، في الصوم، في الحج، في بر الوالدين، في الكف عن محارم الله، في صلة الرحم، إلى غير ذلك.
والناس بخير ما تناصحوا وتواصوا بالحق، فإذا أهملوا وضيعوا وتقاعسوا عن هذا الأمر العظيم، ظهرت بينهم المنكرات، وقلت بينهم الخيرات، وانتشرت الرذائل.(4/107)
أخلاق المؤمنين والمؤمنات:
ومما ورد في كتاب الله العظيم فيما يتعلق بهذا الأمر العظيم قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1)
__________
(1) سورة التوبة الآية 71(4/107)
هذه صفة المؤمنين والمؤمنات، وهذه أخلاقهم، بعضهم أولياء بعض لا حقد ولا حسد، ولا غش ولا خيانة ولا تنابز بالألقاب ولا لمز، ولا غير ذلك مما يؤذي ومما يسبب الشحناء والعداوة والفرقة، بل هم أولياء يتحابون في الله، ويتناصحون ويتواصون بكل خير. ولذلك يأمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر فيما بينهم، هكذا المؤمنون والمؤمنات.
وبهذا تصلح مجتمعاتهم، وتستقيم أحوالهم، ثم مع هذا يقيمون الصلاة كما شرعها الله بالطمأنينة، وبالخشوع والإقبال عليها، والمحافظة عليها في أوقاتها، وأداء ما يلزم فيها من شروط وأركان وواجبات، أي أن تقام كما شرع الله، يؤدونها كما شرع الله في كل وقت.
ويؤتون الزكاة، ويعطونها إلى المستحقين لها كما أمر الله، ثم قال: {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) من صفات أهل الإيمان ذكورا وإناثا طاعة الله ورسوله في جميع الأمور.
وهذه أسباب السعادة، وهذه سبل النجاة، هذا ما أوصيكم به ونفسي: تقوى الله جل وعلا، والقيام بهذه الأمور وتدبرها وتعقلها، كما أوصيكن بكتاب الله القرآن الكريم، بتدبره وتعقله، والإكثار من تلاوته والعمل بما فيه، وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، كتاب الله الذي قال فيه سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (2) وقال فيه عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (3) وقال فيه تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (4) فأوصيكن
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة الإسراء الآية 9
(3) سورة النحل الآية 89
(4) سورة ص الآية 29(4/108)
بهذا الكتاب العظيم تلاوة وتدبرا، وتعقلا وعملا، التي تقرأ عن ظهر قلب تحمد الله وتقرأ عن ظهر قلب، كيفما شاءت مضطجعة وجالسة وماشية، والتي تحتاج إلى مصحف تقرأ منه على طهارة وتدبر وتعقل، فيه الهدى والنور، وفيه الدعوة إلى كل خير: الدعوة إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، فيه الترهيب من مساوئ الأخلاق، وسيئ الأعمال.
كما أوصيكن بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم والحرص على سماع الأحاديث فيما بينكن: من (رياض الصالحين) ، أو (بلوغ المرام) ، أو (منتقى الأخبار) ، أو غيرها من كتب الحديث المعتبرة كالصحيحين والسنن الأربع.
وننصح بهذا كل مسلم ومسلمة في أنحاء المعمورة، فإن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تدعو إلى الهدى، وكلها تفسر كتاب الله، وتدل على معناه. فالتي تقرأ وتطالع الكتب تستفيد، ومن أحسن ما يقتنى (رياض الصالحين) ، فهو كتاب جيد، و (بلوغ المرام) ، و (منتقى الأخبار) و (عمدة الحديث) ، هذه كتب جيدة ومفيدة وعظيمة.
وإذا كانت لا تقرأ فيمكن أن تقرأ عليها ابنتها أو أختها أو ابنها أو أخوها في مجالس مرتبة، في أوقات معينة للفائدة والتعاون على الخير والتفقه في الدين.
أسأل الله بأسمائه أن يوفقنا وإياكن إلى الخير، وأن يمنحنا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يزيدنا وإياكن علما نافعا، وعملا صالحا.
أما موضوع هذا اللقاء وهو الكلام على (الاستهلاك) ، وما يترتب على الوقوع فيه من التبذير، والإسراف، فكلمتي هنا أقول: قد أنزل الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم آيات فيها ذكر الإسراف والتبذير، والنهي عنهما، والثناء على المقتصدين والمستقيمين في تصرفاتهم في أكلهم وشربهم وسائر نفقاتهم.(4/109)
فلا إسراف ولا تبذير، ولا بخل ولا تقتير، ولا غلو ولا جفاء. هكذا شرع الله بالتوسط في الأمور كلها، ومن ذلك النهي عن الغلو، فالعباد منهيون عنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (1) » .
والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (2) ونهيه سبحانه لهم هو نهي لنا أيضا، والجفاء والتقصير منهي عنهما، بل يجب أن نؤدي الواجبات وندع المحرمات ونسارع في الخيرات من غير غلو ولا جفاء.
والغلو هو: الزيادة فيما شرع الله، مثل الذي لا يكفيه الوضوء الشرعي، بل يزيد ويسرف في الماء، فلا يكتفي بغسل يديه ورجليه ثلاثا بل يزيد على ذلك، فهذا نوع من الغلو فيما شرع الله، وهكذا في الأذان، وهكذا في الإقامة، وهكذا في الصوم إلى غير ذلك.
فالزيادة في الشرع تسمى غلوا وإفراطا وبدعة، والتقصير في الصلاة بالنقص وعدم الكمال يسمى جفاء وتفريطا، وهكذا النقص في الصوم أن لا يحفظه من المعاصي كالغيبة والنميمة وسيئ الكلام والفعال حال صومه، فهذا جفاء في الصوم ونقص.
ومن الغلو في الصيام: كونه لا يتكلم أو لا يجالس الناس فهذا غلو.
ولكن نصلي كما شرع الله، ونصوم كما شرع الله، ونبتعد عما حرم الله، وهكذا في النفقات لا إسراف ولا تبذير ولا بخل ولا تقتير، ولكن بين ذلك خير الأمور أوسطها، كما قال سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (3)
__________
(1) سنن ابن ماجه المناسك (3029) ، مسند أحمد بن حنبل (1/215) .
(2) سورة النساء الآية 171
(3) سورة البقرة الآية 143(4/110)
فالشرع جاء بالتوسط في الأمور كلها، وعدم الغلو، وعدم الجفاء، وعدم التشدد. قال الله سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (1) أمر الله سبحانه بأخذ الزينة لما فيها من ستر العورات، ولما فيها من الجمال كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} (2)
الريش: ما يتجمل به الإنسان، فالله خلق لنا شيئا نستر به العورات، ثيابا تستر العورات، وخلق لنا ثيابا جميلة وهي الرياش فوق ذلك للتجمل بين العباد، ثم قال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (3) لباس التقوى: الإيمان بالله، وتقوى الله: بطاعته واتباع ما يرضيه، والكف عن محارمه، هذا اللباس الأعظم، وهذا هو لباس التقوى.
ثم قال سبحانه وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (4) أمر بالأكل والشرب لما فيهما من حفظ الصحة والسلامة، وقوام البنية؛ لأن ترك الأكل والشرب يفضي إلى الموت، وذلك لا يجوز، بل يجب الأكل والشرب بقدر ما يحفظ الصحة، ويكون الإنسان متوسطا في ذلك حتى يحفظ الصحة، وتستقيم حاله، فلا يسرف فيؤدي ذلك إلى التخمة والأمراض، والأوجاع المتنوعة، ولا يقصر فيضر بصحته، ولكن بين ذلك، ولهذا قال: {وَلَا تُسْرِفُوا} (5)
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه (6) » .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 31
(2) سورة الأعراف الآية 26
(3) سورة الأعراف الآية 26
(4) سورة الأعراف الآية 31
(5) سورة الأعراف الآية 31
(6) سنن الترمذي الزهد (2380) ، سنن ابن ماجه الأطعمة (3349) ، مسند أحمد بن حنبل (4/132) .(4/111)
وهذا الحديث الصحيح يدل على أن الإسراف في الأكل والتوسع فيه أمر غير مرغوب فيه، بل وخطير، بحسب ابن آدم ما يقيم صحته، ويقيم صلبه من اللقيمات التي تناسبه صباحا ومساء، وفي غير ذلك من الأوقات التي يحتاج فيها إلى الطعام والشراب.
فإن كان لا بد ولا محالة من الزيادة فلا يسرف، فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس والراحة، للقراءة والتهليل والنشاط الاجتماعي، ومخاطبة الناس، إلى غير ذلك، والإسراف هو الزيادة، وهو في الأكل يؤدي إلى التخمة، وهو في الملابس يفضي إلى إضاعة المال، وعدم الاهتمام بحفظه، وفي الكلام يفضي إلى ما لا تحمد عقباه، أو إلى ما حرم الله من الكلام.(4/112)
الإسراف من شرور الحياة:
وهذا الإسراف في كل شيء من شرور هذه الحياة، فالمؤمن يتوسط في أموره كلها، والمؤمنة تتوسط في كل الأمور، وقد أخبر جل وعلا عن منزلة المبذرين بقوله: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (1) {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (2)
فالمبذر مضيع للمال، لا يؤمن على مال، والمال له شأن عظيم، والمال الصالح نعم العون للرجل الصالح، ينفقه في سبيل الله.
فالواجب حفظ المال وعدم إضاعته، ولذلك جاء التشديد في شهادة الزور لما فيها من أخذ الأموال بغير حق، وسفك الدماء بغير حق، وهتك الأعراض بغير حق، فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ قلنا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا
__________
(1) سورة الإسراء الآية 26
(2) سورة الإسراء الآية 27(4/112)
وقول الزور ألا وشهادة الزور (1) » فكررها عليه الصلاة والسلام؛ لأن شهادة الزور شرها عظيم وعواقبها وخيمة، تؤخذ بها الأموال بغير حق، وتزهق بها الأرواح، وتنتهك بها الأعراض بغير حق؛ ولهذا حذر منها عليه الصلاة والسلام.
وجاء في كتاب الله العزيز ما يفيد التحذير منها، كما قال جل وعلا في سورة الحج: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (2)
أما عقوق الأمهات فهو كبيرة عظيمة، وجريمة شنيعة يجب الحذر منها، والتواصي بتركها، وأهل الشرك بالله فهو أعظم الذنوب وأكبرها كما قال سبحانه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (3) وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (4) نعود إلى إكمال البحث في التبذير، يقول سبحانه وتعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (5) يحذر سبحانه من التبذير وهو الإنفاق في غير الوجه الشرعي، كإنفاق الأموال في ظلم الناس، وقصد الإضرار بهم، أو في ظلم النفس كإنفاقها في المسكرات والمخدرات، وفي التدخين وفي الزنى وسائر المعاصي: كالقمار والربا ونحو ذلك، وهكذا إتلافها من غير سبب: كالإفراط في شراء الأغراض التي لا حاجة إليها. هذا من إضاعة المال، ومن التبذير، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال.
فالتبذير هو: صرف الأموال في غير وجهها، إما في المعاصي، وإما في غير فائدة لعبا وتساهلا بالأموال.
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5976) ، صحيح مسلم الإيمان (87) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3019) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) .
(2) سورة الحج الآية 30
(3) سورة لقمان الآية 13
(4) سورة النساء الآية 48
(5) سورة الإسراء الآية 26(4/113)
أما الإسراف فهو: الزيادة التي لا وجه لها، يزيد في الطعام والشراب بلا حاجة، يكفيه مثلا كيلو من الطعام أو كيلو من اللحم، أو ما شابه ذلك فيزيد طعاما ولحوما لا حاجة لها، تلقى في التراب وفي القمائم، هذا يسمى إسرافا.
وأما إتلاف الأموال بغير حق وصرفها في غير حق فيسمى تبذيرا، وبين سبحانه أن المبذرين إخوان الشياطين؛ لأنهم شابهوهم في اللعب والإضاعة والمعاصي.(4/114)
التأدب بآداب الله:
فالواجب على المؤمنين والمؤمنات جميعا أن يتأدبوا بآداب الله، وأن يحذروا مما نهى الله عنه، فلا إسراف ولا تبذير لا في المآكل ولا في المشارب ولا في الملابس، ولا في غير ذلك، ولا في الولائم العامة، ولا في الولائم الخاصة، بل بالمقدار المناسب، فإذا صنع طعاما لجماعة ولكن تخلفوا أو تخلف بعضهم فليس بإسراف لكن يجتهد في صرف الطعام لمن يحتاجه، وفي نقله إلى من يحتاجه، أو في حفظه حتى يؤكل بعد ذلك، ولا يلقى في القمائم والمواطن القذرة.
وإن كان ولا بد فليحمل إلى جهة بعيدة سليمة حتى تأكله الدواب، وإذا تيسر نقله إلى من يستفيد منه من العمال والفقراء وجب ذلك حتى لا تضيع هذه الأموال، وحتى لا يقع الإسراف والتبذير.
وقد مدح الله سبحانه عباده المقتصدين، وهم عباد الرحمن، فقال في أوصافهم عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (1)
__________
(1) سورة الفرقان الآية 67(4/114)
وهذا هو الحد الفاصل، لا إسراف ولا تقتير، وما بين ذلك هو القوام والعدل، يمدحهم سبحانه فيقول: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} (1) الإسراف الزيادة، والتقتير البخل، والبخيل والبخل مذمومان، وهكذا الإسراف والتبذير مذمومان أيضا، فلا هذا ولا هذان ولهذا مدح الله عباد الرحمن بقوله {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (2) كان عدلا وسطا.
فالوصية لكن أيتها الأخوات ولكل مسلم التخلق بهذا الخلق الكريم، والحرص في البيت وعند الولائم على التحري في هذه الأمور، والتوسط فيها، والحذر من إضاعة الأموال بغير حق، وكثرة الطعام بلا حاجة إليه، فإن المال ينفع إذا حفظ، والمحتاجون إليه كثيرون في هذه البلاد وفي غير هذه البلاد ونعلم من سكان هذه البلاد أمما لا يحصيها إلا الله، في حاجة إلى المال، وفي حاجة إلى الطعام، وفي حاجة إلى اللباس.
وإن كانت بلادنا بحمد الله من خير البلاد قد أفاء الله عليها خيرا كثيرا في دينها ودنياها. لكن مع ذلك موجود فيها من هو محتاج، إذا طلب وجد في هذه البلاد في المدن وفي القرى، وفي كل مكان محتاجون لأن تصل إليهم المساعدات من الزكاة وغيرها، بواسطة المحاكم والأعيان المعروفين بالثقة والأمانة، حتى توزع بينهم وينظر في شأنهم لأنهم في حاجة، وفوق ذلك في بلدان كثيرة في أفريقيا وفي آسيا، وفي كل مكان حاجات كثيرة وفقراء لا يعلم حالهم إلا الله، في أشد الحاجة إلى المال.
وهناك المجاهدون الأفغان، واللاجئون في باكستان في أشد الحاجة إلى المال، فكيف نضيعه، وكيف نسرف فيه، وكيف نبذر، وعندنا في بلادنا وغير بلادنا من هو محتاج، هذا لا يجوز أبدا، بل يجب التثبت في الأمور والحرص على التوسط فيها، في جميع الأمور من أكل وشرب ولباس، في وليمة عرس وغيرها.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 67
(2) سورة الفرقان الآية 67(4/115)
وولائم الأعراس فيها خطر عظيم؛ لأن كثيرا من الناس يباهي ويصرف نفقات باهظة، وربما وصلت إلى الدين والتكلف، فينبغي للمؤمن والمؤمنة أن يلاحظ هذا الأمر، فالمرأة تلاحظ زوجها، وتلاحظ أباها وأخاها، ولا تكلف زوجها ولا غيره ما لا يطيق، بل تعينه على الخير، وتعينه على الاقتصاد، وهكذا تعين ولدها وأخاها على الاقتصاد، وتعين أباها على ذلك، وتنصح إذا رأت من أبيها أو أخيها أو من زوجها أو من ابنها ميلا إلى الزيادة والإسراف والتبذير، تنصح وتقول: اتق الله، لا حاجة إلى هذا، ولا موجب لهذا، إذا كنا موسرين فلنتصدق ولنحسن إلى عباد الله، وإلا فلنبدأ بأنفسنا وسد حاجاتنا.
روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «كل واشرب والبس وتصدق في غير سرف ولا مخيلة (1) » أخرجه أبو داود وأحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أي من غير إسراف ولا تكبر، فبعض الناس يلبس ويصنع ولائم زائدة، تكبرا وتعاظما وفخرا وخيلاء، وذلك لا يجوز بل يشرع له أن يصنع الطعام بقدر الحاجة، ويلبس الإنسان ما يناسبه لا فخرا ولا تكبرا، ولكن للجمال، إن الله جميل يحب الجمال، والله يقول: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (2) فلا بأس بالزينة المعتادة، ولا بأس بالطعام المعتاد والمناسب، ولا بأس بأكل الطيبات، فالله سبحانه وتعالى قد أحل الطيبات، لكن بقدر الحاجة، لا تلقى في الأسواق والقمائم، ولا تضيع الأموال بغير حق، ولا يلبس الإنسان ما يضره، ولا حاجة له به، ولا يجر ملابسه في الأوساخ والنجاسات.
وللمرأة أن ترخي من ثيابها ما يناسب حتى تستر قدمها، والرجل يرفع ثيابه فوق الكعب، ولا يجوز للرجل أن يرخي تحت الكعب، والمرأة عليها أن
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2559) ، سنن ابن ماجه اللباس (3605) ، مسند أحمد بن حنبل (2/182) .
(2) سورة الأعراف الآية 31(4/116)
ترخي؛ لأنها عورة فتستر قدميها بإرخاء ثيابها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار (1) » رواه البخاري في الصحيح، وهذا في حق الرجال، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المسبل إزاره، والمنان فيما أعطى والمنفق سلعته بالحلف الكاذب (2) » خرجه مسلم في الصحيح. نسأل الله السلامة من كل ما يغضبه.
وقال عليه الصلاة والسلام: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة (3) » متفق عليه. وذلك يدل على أن الواجب على الرجل أن يرفع ثيابه فوق الكعب من نصف الساق إلى الكعب، ولا يجعلها تحت ذلك.
أما المرأة فإنها عورة، ويجب أن ترخي ثيابها حتى تستر أقدامها في مشيها، أو تلبس الجوارب من أجل الستر.
والخلاصة: من هذا كله أن الواجب علينا جميعا رجالا ونساء، التوسط في الأمور، في النفقات وفي الملابس والولائم، وفي كل شيء فلا غلو في العبادات ولا في غيرها، ولا إسراف ولا تبذير لا في المآكل ولا في المشارب، ولا في الولائم ولا في غير ذلك، وعلينا أن نتحرى التوسط في الأمور كلها، قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (4) وهذا هو التوسط المأمور به، لا بخل ولا إمساك، ولا إسراف ولا تبذير، ولكن بين ذلك، كما قال ربنا عز وجل في وصف الأخيار من عباده: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (5) وأرجو أن يكون فيما ذكرته مع اختصاره الكفاية، وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعا لما فيه رضاه، ولما فيه
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5787) ، سنن النسائي الزينة (5331) ، مسند أحمد بن حنبل (2/461) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (106) ، سنن الترمذي البيوع (1211) ، سنن النسائي الزكاة (2563) ، سنن أبو داود اللباس (4087) ، سنن ابن ماجه التجارات (2208) ، مسند أحمد بن حنبل (5/162) ، سنن الدارمي البيوع (2605) .
(3) صحيح البخاري المناقب (3665) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2085) ، سنن الترمذي اللباس (1731) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، سنن ابن ماجه اللباس (3569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/67) ، موطأ مالك الجامع (1696) .
(4) سورة الإسراء الآية 29
(5) سورة الفرقان الآية 67(4/117)
صلاح قلوبنا، وصلاح أعمالنا، وأن يمنحنا جميعا الفقه في الدين، والثبات عليه، وأن يصلح ولاة أمرنا، وأن يوفقهم لكل خير، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يعينهم على كل ما فيه صلاح الأمة ونجاتها في الدنيا والآخرة.
كما أسأله سبحانه أن يصلح عامة المسلمين في كل مكان، وان يولي عليهم خيارهم، وأن يصلح قادتهم، وأن يمنحنا وإياهم العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يوفق حكامهم للحكم بالشريعة وتطبيقها فيما بينهم، والسلامة مما يخالفها إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.(4/118)
الأسئلة المطروحة والإجابة عليها:
ثم تلى ذلك طرح بعض الأسئلة التي أجاب عليها سماحته كما يلي:
معنى آية: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (1) :
س1: قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (2) فإذا كان الإنسان لديه القدرة على العيش في رغد فهل ينطبق عليه هذه الآية الكريمة. وما معنى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (3) ؟
ج 1: معنى الآية: إن الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحدث بنعم الله، فيشكر الله قولا كما يشكره عملا، فالتحدث بالنعم كأن يقول المسلم: إننا بخير والحمد لله، وعندنا خير كثير، وعندنا نعم كثيرة، نشكر الله على ذلك.
لا يقول نحن ضعفاء، وليس عندنا شيء ... لا.... بل يشكر الله ويتحدث بنعمه، ويقر بالخير الذي أعطاه الله، لا يتحدث بالتقتير كأن يقول: ليس عندنا مال ولا لباس.. ولا كذا ولا كذا لكن يتحدث بنعم الله، ويشكر ربه عز وجل.
والله سبحانه إذا أنعم على عبده نعمة يحب أن يرى أثرها عليه في ملابسه وفي أكله وفي شربه، فلا يكون في مظهر الفقراء، والله قد أعطاه
__________
(1) سورة الضحى الآية 11
(2) سورة الضحى الآية 11
(3) سورة الضحى الآية 11(4/118)
المال ووسع عليه، لا تكون ملابسه ولا مآكله كالفقراء، بل يظهر نعم الله في مأكله ومشربه وملبسه.
ولكن لا يفهم من هذا الزيادة التي فيها الغلو، وفيها الإسراف والتبذير.(4/119)
حكم البذخ والإسراف في العزاء:
س 2: ما حكم البذخ والإسراف في العزاء حيث يتكلف أهل الميت بإقامة الولائم للمعزين وهناك عادة جرت مثل اليوم الثالث واليوم الثامن، والأربعين بالنسبة للمعزين؟ .
ج 2: هذا لا أصل له، بل هو بدعة ومنكر ومن أمر الجاهلية، فلا يجوز للمعزين أن يقيموا الولائم للميت لا في اليوم الأول ولا في الثالث ولا في الرابع ولا في الأربعين أو غير ذلك، هذه كلها بدعة، وعادة جاهلية لا وجه لها، بل عليهم أن يحمدوا الله ويصبروا ويشكروه سبحانه وتعالى على ما قدر، ويسألوه سبحانه أن يصبرهم وأن يعينهم على تحمل المصيبة ولكن لا يصنعون للناس طعاما.
قال جرير بن عبد الله البجلي - وهو صحابي جليل - رضي الله عنه: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد الدفن من النياحة رواه الإمام أحمد بإسناد حسن.
كان الصحابة يعدون النياحة من المحرمات؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم زجر عنها، ولكن يشرع لأقاربهم وجيرانهم أن يبعثوا لهم طعاما لأنهم مشغولون بالمصيبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصله نعي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه حين قتل في مؤتة بالأردن أمر صلى الله عليه وسلم أهل بيته أن يصنعوا لأهل جعفر طعاما وقال «إنه قد أتاهم ما يشغلهم (1) » .
أما أهل الميت فلا يصنعوا طعاما لا في اليوم الأول، ولا في اليوم الثالث، ولا في الرابع ولا في العاشر ولا في غيره.
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (998) ، سنن أبي داود الجنائز (3132) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1610) ، مسند أحمد (1/205) .(4/119)
لكن إذا صنعوا لأنفسهم أو لضيفهم طعاما فلا بأس، أما أن يجمعوا الناس للعزاء ويصنعوا لهم طعاما فلا يجوز لمخالفته للسنة.(4/120)
الإسراف في الحفلات:
س 3: الحفلات التي تقام في الفنادق، وتكلف أموالا طائلة هل هي إسراف، وإن كانت إسرافا فنأمل من سماحتكم التنبيه على ذلك؟ .
ج 3: الحفلات التي تقام في الفنادق فيها أخطاء، وفيها مؤاخذات متعددة منها أن الغالب أن بها إسرافا وزيادة لا حاجة إليها.
الأمر الثاني: أن ذلك يفضي إلى التكلف في اتخاذ الولائم، والإسراف في ذلك، وحضور من لا حاجة إليه.
والثالث: أنه قد يؤدي إلى اختلاط الرجال بالنساء من عمال الفندق وغيرهم، فيكون في هذا اختلاط مشين ومنكر، وهكذا قصور الأفراح التي تستأجر بنقود كثيرة، ينبغي تركها وعدم التكلف في ذلك رفقا بالناس، وحرصا على الاقتصاد وعدم الإسراف والتبذير، وحتى يتمكن المتوسطون في الدخل من الزواج وعدم التكلف؛ لأنه إذا رأى ابن عمه أو قريبه يتكلف في الفنادق وفي الولائم الكبيرة: إما أن يماثله ويشابهه فيتكلف الديون والنفقات الباهظة، وإما أن يتأخر ويتقاعس عن الزواج خوفا من هذه التكلفات.
فنصيحتي لجميع الإخوان المسلمين ألا يقيموها في الفنادق، ولا قصور الأفراح الغالية، بل تقام إما في قصر نفقته قليلة أو في البيوت، فهذا لا بأس به، وعدم إقامتها في قصور الأفراح، والاكتفاء بإقامتها في البيت حيث أمكن، ذلك أولى، وأبعد عن التكلف والإسراف. والله المستعان.(4/120)
الحكم على أمور مخالفة تحدث في ليلة الزفاف:
س 4: تكملة للسؤال الأول: تفضلتم وذكرتم أن إطالة الثوب بالنسبة للرجل محرم، وأيضا إذا كان بالنسبة للمرأة إذا كان تفاخرا فهو محرم. فما رأيكم بفستان الفرح الذي تسحبه العروس وراءها بطول 3 أمتار تقريبا، وما رأيكم أيضا في الأموال التي تدفع للمطربات في الزفاف؟
ج 4: أما ما يتعلق بالمرأة، فالسنة أن تضفي ثوبها شبرا، ولا تزيد على ذراع لأجل الستر وعدم إظهار القدمين، وأما الزيادة على ذراع فمنكر للعروس أو غيرها لا يجوز، وهذا إضاعة للأموال بغير حق في الملابس ذات الأثمان الغالية. فينبغي التوسط في الملابس، لا حاجة إلى ترصيعها بأشياء تهدر الأموال العظيمة، التي تنفع الأمة في دينها ودنياها.
وأما ما يتعلق بالمطربات فلا يجوز إحضارهن بالأموال الغالية، أما المغنية التي تغني غناء معتادا بسيطا خفيفا في وقت من الليل لإظهار الفرح، وإظهار السرور، وإظهار العرس فلا بأس، فالغناء في العرس والدف في العرس أمر جائز، بل مستحب إذا كان لا يفضي إلى شر لكن بين النساء خاصة في وقت من الليل ثم ينتهي بغير سهر أو مكبر صوت، بل بالأغاني المعتادة التي بها مدح للعروس، ومدح للزوج بالحق، أو أهل العروس، أو ما أشبه ذلك من الكلمات التي ليس فيها شر، ويكون بين النساء خاصة ليس معهن أحد من الرجال، ويكون بغير مكبر، هذا لا بأس به.
كالعادة المتبعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهد الصحابة. وأما التفاخر بالمطربات وبالأموال الجزيلة للمطربات فهذا منكر لا يجوز. وهكذا بالمكبرات؛ لأنه يحصل به إيذاء للناس، والسهر بالليل حتى تضيع صلاة الفجر، وهذا منكر يجب تركه.(4/121)
الإسراف في الحفلات:
س 5: ما رأي فضيلتكم فيما نراه من إسراف شديد في الأطعمة التي تقدم في الحفلات، والتي يكون مصيرها أكياس النفايات. وهل هناك حل؟
وأين توضع بقايا الأكل؟
ج 5: تقدمت الإجابة عن هذا الأمر في أنه لا يجوز؛ لأن الإسراف لا يجوز لا في الولائم بالزواج ولا في غير ذلك.
وينبغي على صاحب الوليمة أن يتحرى المطلوب الذي لا بد منه، أما الأشياء التي لا حاجة إليها فينبغي أن يتركها، والباقي يسلم للجهات التي تقبله مثل الجمعيات الخيرية، أو بعض الفقراء، أو العمال، ينقل إليهم.
فالواجب أن ينقل إلى من يستفيد منه، ولا يلقى في النفايات، ولا مع القمامات، ولا بقرب النجاسات، بل ينقل إلى المحتاجين، وإذا لم يكن هناك محتاجون فينقل إلى محل سليم، ليس في الطرقات ولا مع القاذورات، فلعله أن يأتي من يأكله من الناس أو الدواب، وحتى لا يمتهن.
وهذا عند الضرورة، أما إذا وجد من يأكله من عمال أو فقراء. فالواجب إيصاله إليهم، أو تجفيفه حتى ينقل لمحتاجين إليه، ولو علفا للدواب. وإذا حصل اقتصاد وعدم تكلف قلت الأطعمة الباقية.(4/122)
صحة حديث: «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع» س 6: بالنسبة لهذا الحديث لا ندري ما صحته، وهو: «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع» .
ج 6: هذا يروى عن بعض الوفود وفي سنده ضعف، يروى أنهم قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع» يعنون أنهم مقتصدون.
هذا المعنى صحيح لكن السند فيه ضعيف.
[يراجع في زاد المعاد والبداية لابن كثير] . وهذا ينفع الإنسان إذا كان يأكل على جوع أو حاجة، وإذا أكل لا يسرف في(4/122)
الأكل، ويشبع الشبع الزائد، أما الشبع الذي لا يضر فلا بأس به.
فالناس كانوا يأكلون ويشبعون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيره، ولكن يخشى من الشبع الظاهر الزائد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان يدعى إلى ولائم، ويضيف الناس ويأمرهم بالأكل فيأكلون ويشبعون، ثم يأكل بعد ذلك عليه الصلاة والسلام ومن بقي من الصحابة.
وفي عهده يروى أن جابر بن عبد الله الأنصاري دعا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب يوم غزوة الخندق إلى طعام على ذبيحة صغيرة - سخلة - وعلى شيء من شعير فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع الخبز واللحم وجعل يدعو عشرة عشرة فيأكلون ويشبعون ثم يخرجون ويأتي عشرة آخرون "وهكذا فبارك الله في الشعير وفي السخلة وأكل منها جمع غفير وبقي منها بقية عظيمة حتى صرفوها للجيران.
والنبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم أيضا سقى أهل الصفة، لبنا قال أبو هريرة فسقيتهم حتى رووا ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم اشرب يا أبا هريرة قال: شربت ثم قال: اشرب فشربت ثم قال: اشرب فشربت ثم قلت: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ما بقي وشرب عليه الصلاة والسلام. وهذا يدل على جواز الشبع وجواز الري، لكن من غير مضرة.(4/123)
آنية الذهب:
س7 إذا كان الإناء مطليا بالذهب وليس ذهبا خالصا فهل هذا حرام استعماله؟
وهل ينطبق عليه الحديث: «لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة (1) » ؟
ج 7: نعم نص العلماء على أن هذا ينطبق عليه النهي، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة (2) » متفق على صحته.
وقال عليه الصلاة والسلام: «الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم (3) » أخرجه مسلم في الصحيح.
وخرج
__________
(1) صحيح البخاري الأطعمة (5426) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2067) ، سنن الترمذي الأشربة (1878) ، سنن النسائي الزينة (5301) ، سنن أبو داود الأشربة (3723) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3414) ، مسند أحمد بن حنبل (5/408) ، سنن الدارمي الأشربة (2130) .
(2) صحيح البخاري الأشربة (5633) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2067) ، سنن الترمذي الأشربة (1878) ، سنن النسائي الزينة (5301) ، سنن أبو داود الأشربة (3723) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3414) ، مسند أحمد بن حنبل (5/397) ، سنن الدارمي الأشربة (2130) .
(3) صحيح البخاري الأشربة (5634) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2065) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3413) ، مسند أحمد بن حنبل (6/301) ، موطأ مالك الجامع (1717) ، سنن الدارمي الأشربة (2129) .(4/123)
الدارقطني وحسنه والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: «من شرب في إناء ذهب أو فضة أو في إناء فيه شيء من ذلك فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم (1) » .
فقوله صلى الله عليه وسلم: «من شرب في إناء ذهب أو فضة (2) » النهي يعم ما كان من الذهب أو الفضة، وما كان مطليا بشيء منهما.
ولأن المطلي فيه زينة الذهب وجماله، فيمنع ولا يجوز بنص هذا الحديث، وهكذا الأواني الصغار كأكواب الشاي وأكواب القهوة، والملاعق لا يجوز أن تكون من الذهب أو من الفضة بل يجب البعد عن ذلك، وإذا وسع الله على العباد فالواجب التقيد بشريعة الله، وعدم الخروج عنها، وإذا كان عنده زيادة فلينفق في عباد الله المحتاجين، ولا يسرف ولا يبذر.
__________
(1) سنن ابن ماجه الأشربة (3415) ، مسند أحمد بن حنبل (6/98) .
(2) سنن ابن ماجه الأشربة (3415) ، مسند أحمد بن حنبل (6/98) .(4/124)
زكاة الحلي
س 8: هناك إسراف من بعض النساء في لبس الذهب، مع أن لبسه حلال، فما حكم الزكاة في الذهب؟ طبعا الزكاة فرع من فروع موضوعنا عن الاستهلاك وعن الإنفاق.
ج 8: الذهب والحرير قد أحلا للإناث دون الرجال، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها (1) » خرجه أحمد والنسائي والترمذي وصححه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
واختلف العلماء في الزكاة هل تجب في الحلي أم لا؟
فذهب بعض العلماء إلى أنها لا تجب في الحلي الذي تلبسه المرأة وتعيره، وقال آخرون إنها تجب، وهذا هو الصواب أي وجوب الزكاة فيه إذ بلغ النصاب، وحال عليه الحول لعموم الأدلة.
والنصاب هو عشرون مثقالا من الذهب، ومائة وأربعون مثقالا من الفضة، فإذا بلغ الحلي من الذهب من القلائد أو الأسورة أو نحوها عشرين
__________
(1) سنن الترمذي اللباس (1720) ، سنن النسائي الزينة (5148) .(4/124)
مثقالا وجبت فيها الزكاة، والعشرون مثقالا تعادل أحد عشر جنيها ونصفا من الجنيهات السعودية.
ومقداره بالجرام 92 جراما.... فإذا بلغ الحلي من الذهب هذا المقدار 92 جراما - أحد عشر جنيها ونصفا - فإنه تجب فيه الزكاة.
والزكاة ربع العشر من كل ألف خمسة وعشرون كل حول.
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن امرأة دخلت عليه وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب فقال أتعطين زكاة هذا؟ قالت لا فقال أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ قال الراوي وهو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت هما لله ولرسوله (1) » رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح.
«وقالت أم سلمة رضي الله عنها وكانت تلبس أوضاحا من ذهب: أكنز هذا يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي فليس بكنز (2) » رواه أبو داود والدارقطني وصححه الحاكم.
وأخرج أبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها بسند. صحيح قالت: «دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يدي فتخات من ورق فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله قال: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا أو ما شاء الله قال هو حسبك من النار (3) » وقد صححه الحاكم كما ذكر ذلك الحافظ ابن رجب في بلوغ المرام، والمراد بالورق: الفضة.
فدل ذلك على أن الذي لا يزكى هو كنز يعذب به صاحبه يوم القيامة والعياذ بالله.
نسأل الله للجميع التوفيق والإعانة والهداية وصلاح العمل، كما نسأل سبحانه أن يوفقنا وإياكن وجميع المسلمين لما فيه خير الإسلام، وأن يتوفانا الله جميعا عليه إنه سميع قريب وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2479) ، سنن أبو داود الزكاة (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (2/204) .
(2) سنن أبو داود الزكاة (1564) .
(3) سنن أبو داود الزكاة (1565) .(4/125)
ملاحظات تتعلق بما نشر حول مشروع قانون
الأحوال الشخصية في بعض الدول الإسلامية (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقد نشرت صحيفة الرياض بعددها الصادر برقم 4974 خبرا بعنوان (مشروع قانون الأحوال الشخصية في الإمارات) وقد تضمن الخبر أن المشروع مستمد من الشريعة الإسلامية كما ورد فيه (فبالنسبة لعقود الزواج يشترط مشروع القانون ألا يقل عمر الفتى عن ثمانية عشر عاما وعمر الفتاة عن ستة عشر عاما ويفرض غرامة على كل من يخالف هذا الشرط لا تقل عن ألف درهم ولا تزيد عن خمسة آلاف ما لم تأخذ المحكمة بغير ذلك إذا رأت مبررا مثل " ستر العرض " كما لا يجوز بالنسبة لمن تجاوز الستين عاما عقد زواج إلا بإذن المحكمة خاصة عندما يكون فارق السن بين الطرفين يتجاوز نصف عمر الأكبر منهما) .
ولما كان ذلك يخالف ما شرعه الله جل وعلا أحببت التنبيه لبيان الحق، فالسن في الزواج لم يقيد بحد معين لا في الكبر ولا في الصغر، والكتاب والسنة يدلان على ذلك.
لأن فيهما الحث على الزواج والترغيب فيه من دون تقييد بسن معينة قال الله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} (2) الآية، فأجاز نكاح اليتيمة، وهي التي لم تبلغ سن البلوغ وأعلاه خمسة عشر عاما على الأرجح وقد تبلغ بأقل من ذلك بغير السن، وقال صلى الله عليه وسلم: «تستأذن اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو أذنها وإن أبت فلا جواز عليها (3) » ، وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) نشرت في مجلة الدعوة العدد 828 بتاريخ 16 ربيع الأول 1402هـ.
(2) سورة النساء الآية 127
(3) سنن النسائي النكاح (3270) ، سنن أبو داود النكاح (2093) ، مسند أحمد بن حنبل (2/259) .(4/126)
عائشة رضي الله عنها ولها ست أو سبع سنين ودخل بها وهي ابنة تسع، وفعله تشريع لهذه الأمة كما أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتزوجون في الصغر وفي الكبر دون تحديد سن معينة، فليس لأحد أن يشرع غير ما شرعه الله ورسوله ولا أن يغير ما شرعه الله ورسوله؛ لأن فيه الكفاية، ومن رأى خلاف ذلك فقد ظلم نفسه وشرع للناس ما لم يأذن به الله، وقد قال عز وجل ذاما لهذا الصنف من الناس: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » متفق عليه. وفي رواية مسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » وعلقه البخاري في الصحيح جازما به.
وإنني أذكر القائمين على هذا الأمر بقول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) فما يصيب الأمة أو الأفراد من فتن أو صد عن سبيل الله أو أوبئة أو حروب أو غير ذلك من أنواع البلاء فأسبابه ما كسبه العباد من أنواع المخالفات لشرع الله كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (5) وقد بين الله جل وعلا ما حصل لبعض الأمم السابقة من العذاب والهلاك بسبب مخالفتهم لأمره ليتبينه العاقل ويأخذ من ذلك عظة وعبرة.
ولا يكفي دعوى الأخذ من الشريعة الإسلامية إذا وجد ما يخالفها، فقد عاب الله جل وعلا ذلك على اليهود حيث قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (6)
__________
(1) سورة الشورى الآية 21
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(4) سورة النور الآية 63
(5) سورة الشورى الآية 30
(6) سورة البقرة الآية 85(4/127)
كما أذكر العلماء بتقوى الله جل وعلا وأداء ما وجب عليهم من النصح لولاة الأمر ببيان الحق والدعوة لاتباعه والتحذير من مخالفته، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (1)
وفقنا الله جميعا لقول الحق وقبوله والعمل به وجمع شمل المسلمين على الهدى وتحكيم شرعه المطهر في كل شيء إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وإله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة لقمان الآية 33(4/128)
الإجابة على أسئلة طرحت على سماحته بإحدى المحاضرات بمكة المكرمة بجامعة أم القرى.
"السفر إلى الخارج":
س 1: سائل يقول: أحسن الله إليكم: من الملاحظ أنه في المدة الأخيرة يكثر سفر الكثير من الشباب إلى بلاد الكفر إما للدراسة أو لغيرها. وبعضهم يكون حديث عهد بالإسلام.
فهل ترون إنهم بحاجة إلى إدارة وهيئة خاصة تقوم بمتابعتهم وتوجيههم إلى الوجهة الصحيحة، ورعاية شئونهم. فتكون هذه الإدارة إما مرتبطة بالرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء. أو بالرابطة الإسلامية. .
ج1: لا شك أن سفر الطالب إلى الخارج فيه خطر عظيم، سواء كانوا من أبناء المسلمين من الأساس، أو من المسلمين الجدد، لا شك أن هذا أمر خطير تجب العناية به، والحذر من عاقبته الوخيمة، وقد كتبنا وحذرنا غير مرة من السفر إلى الخارج، وبينا أخطار ذلك.
وإذا كان لا بد من السفر فليكونوا من الكبار الذين قد حصلوا العلم الكثير، وتبصروا في دينهم، وأن يكون معهم من يلاحظهم ويراقبهم، ويلاحظ سلوكهم حتى لا يذهبوا مذاهب تضرهم.
وهذا يجب أن يعتنى به، ويجب أن يتابع حتى يتم الأمر فيه؛ لأن الخطر كبير إذا ذهب طالب العلم من الثانوي أو من المتوسط أو من كان في حكم ذلك. أو في أثناء الدراسة الجامعية. فإن الخطر كبير في مثل هذا. فيجب أن يكون هناك تخصص في الداخل يغني عن السفر إلى الخارج. وإذا كان لا بد من السفر إلى الخارج فليكن من أناس يختارون، يعرف فيهم الفضل والعلم ورجاحة العقل والاستقامة في الدين، ويكون هناك من يشرف عليهم ويتابع خطاهم، ويعتني بهم، حتى يرجعوا، بشرط أن يكون ذلك(4/129)
للتخصص الذي لا بد منه، ولا يوجد في الداخل ما يغني عنه. ونسأل الله أن يوفق ولاة الأمور لكل خير، وأن يعين أهل العلم على أداء واجبهم.(4/130)
"ثواب الصلاة في مكة ":
س 2: هل الثواب في كل مساجد مكة المكرمة، مثل الثواب في الحرم؛ لأن كثيرا من الناس يصلون في مساجد مكة وفي حدود الحرم ويقولون إن الأجر سواء؟ .
ج2: هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، منهم من رأى أن المضاعفة تختص بما حول الكعبة " المسجد الحرام " الذي حول الكعبة، وأن مضاعفة المائة ألف صلاة إنما يكون ذلك لمن صلى في المسجد المحيط بالكعبة.
وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن المسجد الحرام يعم جميع الحرم، وإن كان للصلاة فيما حول الكعبة ميزة وفضل لكثرة الجماعة وعدم الخلاف في ذلك، ولكن الصواب هو القول الثاني: وهو أن الفضل يعم، وأن المساجد في مكة يحصل لمن صلى فيها التضعيف الوارد في الحديث.
وإن كان ذلك قد يكون دون من صلى في المسجد الحرام الذي حول الكعبة؛ لكثرة الجمع وقربه من الكعبة، ومشاهدته إياها، وخروجه من الخلاف في ذلك.
ولكن ذلك لا يمنع من كون جميع بقاع مكة كلها تسمى المسجد الحرام، وكلها يحصل فيها المضاعفة إن شاء الله.(4/130)
" الحق في معنى الساق ":
س3: طالب يسأل ويقول: ما هو الحق في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} (1) .؟
__________
(1) سورة القلم الآية 42(4/130)
ج3: الرسول صلى الله عليه وسلم فسرها بأن المراد يوم يجيء الرب يوم القيامة، ويكشف لعباده المؤمنين عن ساقه وهي العلامة التي بينه وبينهم سبحانه وتعالى، فإذا كشف عن ساقه عرفوه وتبعوه، وإن كانت الحرب يقال لها: كشفت عن ساق، إذا اشتدت. وهذا معنى معروف لغويا قاله أئمة اللغة.
ولكن في الآية الكريمة يجب أن يفسر بما جاء في الحديث الشريف، وهو كشف الرب عن ساقه سبحانه وتعالى، وهذه من الصفات التي تليق بجلال الله وعظمته، لا يشابهه، فيها أحد جل وعلا، وهكذا سائر الصفات كالوجه واليدين والقدم والعين وغير ذلك من الصفات الثابتة بالنصوص، ومن ذلك الغضب والمحبة والكراهة وسائر ما وصف به نفسه سبحانه في الكتاب العزيز، وفيما أخبر به عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
كلها صفات حق، وكلها تليق بالله جل وعلا لا يشابهه فيها أحد سبحانه وبحمده، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (3) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (4) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (5) وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان من أئمة العلم والهدى.. والله الموفق ...
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة الإخلاص الآية 1
(3) سورة الإخلاص الآية 2
(4) سورة الإخلاص الآية 3
(5) سورة الإخلاص الآية 4(4/131)
"حكم التأويل في الصفات":
س4: أخ يسأل ويقول: ما حكم التأويل في الصفات؟ .
ج4: التأويل في الصفات منكر لا يجوز، بل يجب إمرار الصفات كما جاءت على ظاهرها اللائق بالله جل وعلا بغير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، فالله جل جلاله أخبرنا عن صفاته وعن أسمائه، وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) فعلينا أن نمرها كما جاءت، وهكذا قال أهل السنة والجماعة: أمروها كما جاءت بلا كيف، أي أمروها
__________
(1) سورة الشورى الآية 11(4/131)
كما جاءت بغير تحريف لها ولا تأويل ولا تكييف، بل يقر بها كما جاءت على ظاهرها وعلى الوجه الذي يليق بالله جل وعلا، ومن دون تكييف ولا تمثيل. فيقال في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وأمثالها من الآيات إنه استواء يليق بجلال الله وعظمته، لا يشبه استواء المخلوقين، ومعناه عند أهل الحق: العلو والارتفاع.
وهكذا يقال في العين، والسمع والبصر واليد والقدم، وغير ذلك من الصفات الثابتة لله جل وعلا والواردة في النصوص الشرعية، وكلها صفات تليق بالله سبحانه، لا يشابهه فيها الخلق جل وعلا، وعلى هذا سار أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم من أئمة السنة، كالأوزاعي والثوري ومالك وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق وغيرهم من أئمة المسلمين رحمهم الله جميعا.
ومن ذلك قوله تعالى في قصة نوح: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} (2) {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (3) الآية، وقوله سبحانه في قصة موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (4) فسرها أهل السنة بأن المراد بقوله سبحانه: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (5) أي أنه سبحانه سيرها برعايته جل وعلا، حتى استوت على الجودي، وهذا قوله في قصة موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (6) أي على رعايته سبحانه وتوفيقه للقائمين على تربيته عليه الصلاة والسلام.
وهكذا قوله سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (7) أي أنك تحت كلاءتنا وعنايتنا وحفظنا، وليس هذا كله من التأويل، بل ذلك من التفسير المعروف في لغة العرب، وأساليبها ومن ذلك الحديث القدسي، وهو
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة القمر الآية 13
(3) سورة القمر الآية 14
(4) سورة طه الآية 39
(5) سورة القمر الآية 14
(6) سورة طه الآية 39
(7) سورة الطور الآية 48(4/132)
قول الله سبحانه: «من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة (1) » يمر كما جاء عن الله سبحانه وتعالى، من غير تحريف ولا تكييف ولا تمثيل، بل على الوجه الذي أراده الله سبحانه وتعالى، وهكذا نزوله سبحانه في آخر الليل، وهكذا السمع والبصر، والغضب والرضا، والضحك والفرح، وغير ذلك من الصفات الثابتة، كلها تمر كما جاءت على الوجه الذي يليق بالله من غير تكييف، ولا تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل، عملا بقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) وما جاء في معناها من الآيات.
أما التأويل للصفات وصرفها عن ظاهرها فهو مذهب أهل البدع من الجهمية والمعتزلة، ومن سار في ركابهم، وهو مذهب باطل أنكره أهل السنة والجماعة، وتبرأوا منه، وحذروا من أهله والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7405) ، صحيح مسلم التوبة (2675) ، سنن الترمذي الدعوات (3603) ، سنن ابن ماجه الأدب (3822) ، مسند أحمد بن حنبل (2/535) .
(2) سورة الشورى الآية 11(4/133)
واجب العلماء نحو الأمة (1)
واجب العلماء المسلمين تجاه النكبات التي حلت بالعالم الإسلامي:
س1: ما واجب علماء المسلمين تجاه الأزمات والنكبات التي حلت بالعالم الإسلامي؟
ج1: مما لا شك فيه أن المعاصي والابتعاد عن عقيدة الإسلام الصحيحة قولا وعملا من أهم الأسباب التي حدثت بسببها الأزمات والنكبات التي حلت بالمسلمين، يقول الله جلت قدرته: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (2) ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (3) فالله جلت قدرته حليم على عباده غفور رحيم يرسل لهم الآيات والنذر لعلهم يرجعون إليه ليتوب عليهم، وإذا تقرب إليه عبده ذراعا تقرب سبحانه إلى عبده باعا؛ لأنه تعالى يحب من عبده التوبة ويفرح بها وهو جل وعلا غني عن عباده، لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين، ولكنه بعباده رؤوف رحيم، وهو الموفق لهم لفعل الطاعات وترك المعاصي، والأزمات والنكبات ما هي إلا نذر لعباده ليرجعوا إليه، وبلوى يختبرهم بها، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (4) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (5) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (6) وقال سبحانه. {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (7) وقال تعالى {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (8) وقال سبحانه
__________
(1) هذه الأسئلة والأجوبة تابعة لمحاضرة ألقاها سماحته في جامعة أم القرى بمكة المكرمة في شهر رجب 1409هـ.
(2) سورة النساء الآية 79
(3) سورة الشورى الآية 30
(4) سورة البقرة الآية 155
(5) سورة البقرة الآية 156
(6) سورة البقرة الآية 157
(7) سورة الروم الآية 41
(8) سورة الأنبياء الآية 35(4/134)
{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على قادة المسلمين من العلماء والأمراء وغيرهم الاهتمام بكل مصيبة تحل أو نكبة تقع، وتذكير الناس وبيان ما وقعوا فيه، وأن يكون ولاة الأمر من العلماء والحكام هم القدوة الصالحة في العمل الصالح والبحث عن مسببات غضب الله ونقمته، وعلاجها بالتوبة والاستغفار وإصلاح الأوضاع، والأمة تبع لهم؛ لأن هداية العالم وحكمة الوالي وصلاحهما من أهم المؤثرات في الرعية فـ «كلكم راع وكل مسئول عن رعيته (2) » .
وإذا استمرأ المسلمون المعاصي ولم ينكرها من بيده الأمر والحل والعقد يوشك أن يعم الله الأمة بغضب منه، وإذا وقع غضب الله وحلت نقمته فإن ذلك يشمل المحسن والمسيء، عياذا بالله من ذلك، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (3) الآية.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه (4) » رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي بكر الصديق، وقال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (5)
وعلى العلماء بالذات مسئولية كبيرة أمام الله في تبصير الناس وإرشادهم وبيان الصواب من الخطأ، والنافع من الضار، نسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا لطاعة ربهم والتمسك بهدي نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يوفق قادتهم ويبصر علماءهم بطريق الرشاد حتى يسلكوه ويوجهوا الأمة إليه وأن يهدي ضال المسلمين ويصلح أحوالهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 168
(2) صحيح البخاري الجمعة (893) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .
(3) سورة الأنفال الآية 25
(4) سنن الترمذي الفتن (2168) ، سنن ابن ماجه الفتن (4005) .
(5) سورة الرعد الآية 11(4/135)
واجب العلماء المسلمين حيال كثرة الجمعيات والجماعات
س2: ما واجب علماء المسلمين حيال كثرة الجمعيات والجماعات في كثير من الدول الإسلامية وغيرها، واختلافها فيما بينها حتى إن كل جماعة تضلل الأخرى.
ألا ترون من المناسب التدخل في مثل هذه المسألة بإيضاح وجه الحق في هذه الخلافات، خشية تفاقمها وعواقبها الوخيمة على المسلمين هناك؟
ج2: إن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بين لنا دربا واحدا يجب على المسلمين أن يسلكوه وهو صراط الله المستقيم ومنهج دينه القويم، يقول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) كما نهى رب العزة والجلال أمة محمد صلى الله عليه وسلم عن التفرق واختلاف الكلمة؛ لأن ذلك من أعظم أسباب الفشل وتسلط العدو كما في قوله جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (2) وقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (3)
فهذه دعوة إلهية إلى اتحاد الكلمة وتآلف القلوب، والجمعيات إذا كثرت في أي بلد إسلامي من أجل الخير والمساعدات والتعاون على البر والتقوى بين المسلمين دون أن تختلف أهواء أصحابها فهي خير وبركة وفوائدها عظيمة، أما إن كانت كل واحدة تضلل الأخرى وتنقد أعمالها فإن الضرر بها حينئذ عظيم والعواقب وخيمة.
فالواجب على علماء المسلمين توضيح
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) سورة آل عمران الآية 103
(3) سورة الشورى الآية 13(4/136)
الحقيقة ومناقشة كل جماعة أو جمعية ونصح الجميع بأن يسيروا في الخط الذي رسمه الله لعباده ودعا إليه نبينا محمد، ومن تجاوز هذا واستمر في عناده لمصالح شخصية أو لمقاصد لا يعلمها إلا الله، فإن الواجب التشهير به والتحذير منه ممن عرف الحقيقة، حتى يتجنب الناس طريقهم وحتى لا يدخل معهم من لا يعرف حقيقة أمرهم فيضلوه ويصرفوه عن الطريق المستقيم الذي أمرنا الله باتباعه في قوله جل وعلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) ومما لا شك فيه أن كثرة الفرق والجماعات في المجتمع الإسلامي مما يحرص عليه الشيطان أولا وأعداء الإسلام من الإنس ثانيا؛ لأن اتفاق كلمة المسلمين ووحدتهم وإدراكهم الخطر الذي يهددهم ويستهدف عقيدتهم يجعلهم ينشطون لمكافحة ذلك والعمل في صف واحد من أجل مصلحة المسلمين ودرء الخطر عن دينهم وبلادهم وإخوانهم، وهذا مسلك لا يرضاه الأعداء من الإنس والجن، فلذا هم يحرصون على تفريق كلمة المسلمين وتشتيت شملهم وبذر أسباب العداوة بينهم، نسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين على الحق، وأن يزيل من مجتمعهم كل فتنة وضلالة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153(4/137)
تغلغل أعداء الإسلام في ديار المسلمين:
س3: يحرص أعداء الله على التغلغل في ديار الإسلام بشتى الطرق.
فما المجهود الذي ترون بذله للوقوف أمام هذا التيار الذي يهدد المجتمعات الإسلامية؟ .
ج3: هذا ليس بغريب من الدعاة إلى النصرانية أو اليهودية أو غيرهما من ملل الكفر ومذاهب الهدم؛ لأن الله سبحانه وبحمده قد أخبرنا عن ذلك(4/137)
بقوله في محكم التنزيل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (1) وقوله سبحانه: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (2) الآية.
ولهذا فإنهم يبذلون كل ما يستطيعون للنفوذ في ديار الإسلام، ولهم طرقهم المختلفة في هذا منها: التشكيك وزعزعة الأفكار، وهم دائبون على ذلك بدون كلل أو ملل، تحركهم الكنيسة والحقد والبغضاء بالتوجيه والدفع والبذل.
والجهود التي يجب أن تبذل هي التوعية والتوجيه لأبناء المسلمين من القادة والعلماء ومقابلة جهود أعداء الإسلام بجهود معاكسة. فأمة الإسلام أمة قد حصلت أمانة هذا الدين وتبليغه، فإذا حرصنا في المجتمعات الإسلامية على تسليح أبناء وبنات المسلمين بالعلم والمعرفة والتفقه في الدين والتعويد على تطبيق ذلك من الصغر؛ فإننا لن نخشى بإذن الله عليهم شيئا ما داموا متمسكين بدين الله معظمين له متبعين شرائعه محاربين لما يخالفه، بل العكس، سيخافهم الأعداء؛ لأن الله سبحانه وبحمده يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3) ويقول عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (4) والآيات في هذا المعنى كثيرة، فأهم عامل للوقوف أمام هذا التيار هو تهيئة جيل عارف بحقيقة الإسلام ويتم هذا بالتوجيه والرعاية في البيت والأسرة والمناهج التعليمية ووسائل الإعلام وتنمية المجتمع.
يضاف إلى هذا دور الرعاية والتوجيه من القيادات الإسلامية والدأب
__________
(1) سورة البقرة الآية 120
(2) سورة البقرة الآية 217
(3) سورة محمد الآية 7
(4) سورة آل عمران الآية 120(4/138)
على العمل النافع وتذكير الناس دائما بما ينفعهم وينمي العقيدة في نفوسهم: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (1) ولا ريب أن الغفلة من أسباب نفاذ أعداء الإسلام إلى ديار الإسلام بالثقافة والعلوم التي تباعد المسلمين عن دينهم شيئا فشيئا وبذلك يكثر الشر بينهم ويتأثرون بأفكار أعدائهم والله سبحانه وتعالى يأمر الفئة المؤمنة بالصبر والمصابرة والمجاهدة في سبيله بكل وسيلة في قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (3)
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح أحوال المسلمين، ويفقههم في الدين، وأن يجمع كلمة قادتهم على الحق ويصلح لهم البطانة، إنه جواد كريم، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
__________
(1) سورة الرعد الآية 28
(2) سورة آل عمران الآية 200
(3) سورة العنكبوت الآية 69(4/139)
خرافة يجب تكذيبها (1)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:
فقد اطلعت على ما نشرته جريدة عكاظ في عددها (رقم: 5977) الصادر في يوم الاثنين الموافق 24 \ 12 \ 1402هـ ص (20) نقلا عن صحيفة السياسة الكويتية عن الرجل المدعو محمد المصري الذي يزعم أنه أغمي عليه في يوم الأربعاء، وظن أنه ميت ودفن يوم الأربعاء وأخرج من قبره يوم الجمعة وما رأى من العجائب والغرائب. إلخ.
ونظرا إلى كون هذه الحكاية قد تروج على بعض الناس ويظن صحتها رأيت التنبيه على بطلانها وأنها خرافة لا تروج على عاقل بل هي كذب بحت زورها من سمى نفسه محمد المصري أو غيره لأغراض خسيسة حملته على ذلك، ومن المعلوم أن من يسمع كلام أهله وكلام الطبيب وكلام المشيعين لجنازته لا تخفى حياته لا على الطبيب ولا على غيره ممن ينظر إليه ويقلبه، ثم كيف يكون مغمى عليه وهو يعي ويحفظ كل ما دار حوله، ومن المعلوم أيضا أن سنة الله في عباده أن من جعل في محل مكتوم ضيق لا يعيش مثل هذه المدة، ثم من المعلوم شرعا أن ملكي القبر لا يأتيان إلى الحي إذا وضع في القبر وإنما يأتيان إلى الميت والله سبحانه يعلم الأحياء والأموات وهو الذي يرسل الملكين إلى الميت لسؤاله.
ثم هذا الرجل الكذاب وصف الملكين بما يدل على أنهما رجلان لا ملكان، ثم الملكان لا يخبران الميت لا بحسناته ولا بسيئاته، وإنما يسألانه عن ربه ودينه ونبيه، فإن أجاب جوابا صحيحا فاز بالنعيم وإن أجاب بالشك عذب، ثم ما ذكره بعد ذلك من المناظر الغريبة إنما قصد بذلك ترويج باطله وإيهام الناس أنه من الناجين حتى يعطفوا عليه ويساعدوه بما يطلب منهم أو يعطفوا عليه بدون طلب، وقد يكون من قصده الشهرة بين الناس
__________
(1) نشرت بمجلة الدعوة العدد 866 يوم الاثنين 15\1\1403هـ.(4/140)
حتى يطلب في كل مكان ليسأل عما رأى ويحصل له بعض ما يريد،.
ومن جهله قوله: (وتشاء الصدف أن كان أهلي قد جاءوا لزيارة قبري) ، ومثل هذا الكلام لا يجوز والصواب أن يقال (ويشاء الله) ؛ لأن الصدف لا مشيئة لها.
والخلاصة أن هذه الحكاية موضوعة مكذوبة لا أساس لها من الصحة كما يتضح ذلك من سياقها وواقعها ولا ينبغي لصحفنا ولا للصحف التي تحترم نفسها أن تنشر مثل هذه الخرافات، ونسأل الله أن يطهر صحفنا وصحف المسلمين من كل باطل، وأن يكبت الخداعين والماكرين ويفضحهم ويكفي المسلمين شرهم، وأن يوفق جميع المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، أنه سبحانه خير مسئول، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(4/141)
كثيرا ما نقرأ في الصحف ونرى إعلانات تشجب الأمية
والله تعالى وصف هذه الأمة بالأمية أرجو أن توضحوا ذلك.
سؤال: كثيرا ما نقرأ في الصحف ونرى إعلانات في الشوارع تشجب الأمية وتعدها من علامات التخلف والله تعالى وصف هذه الأمة بالأمية فقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} (1) فأرجو أن توضحوا ذلك؟ .
الجواب: كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم من العرب والعجم لا يقرءون ولا يكتبون ولهذا سموا أميين، وكان الذين يكتبون ويقرءون منهم قليلين جدا بالنسبة إلى غيرهم، وكان نبينا محمدا لا يقرأ الكتابة ولا يكتب كما قال الله سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (2) وكان ذلك من دلائل صدق رسالته ونبوته عليه الصلاة والسلام لأنه أتى إلى الناس بكتاب عظيم أعجز به العرب والعجم أوحاه الله إليه ونزل به عليه الروح الأمين جبرائيل عليه الصلاة والسلام، وأوحى إليه سبحانه السنة المطهرة وعلوما كثيرة من علوم الأولين وأخبره سبحانه بأشياء كثيرة مما كان في غابر الزمان ومما يكون في آخر الزمان ومما يكون في يوم القيامة، كما أخبره بأحوال الجنة والنار وأهلهما وكان ذلك مما فضله الله به على غيره وأرشد به الناس إلى منزلته العالية وصفة رسالته عليه الصلاة والسلام.
وليس وصف الأمة بالأمية المقصود منه ترغيبهم في البقاء عليها وإنما المقصود الأخبار عن واقعهم وحالهم حين بعث الله إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم وقد دل الكتاب والسنة على الترغيب في التعلم
__________
(1) سورة الجمعة الآية 2
(2) سورة العنكبوت الآية 48(4/142)
والكتابة والخروج من وصف الأمية فقال الله سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (2) الآية.
وقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (3) الآية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (4) » رواه الإمام مسلم في صحيحه. وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (5) » متفق على صحته والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وبالله التوفيق.
__________
(1) سورة الزمر الآية 9
(2) سورة المجادلة الآية 11
(3) سورة فاطر الآية 28
(4) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(5) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(4/143)
حكم البكاء بسبب المرض والتحدث عنه مع الآخرين
س: الأخت التي رمزت لاسمها بـ: أ - ع من الرياض تقول في سؤالها أنا مريضة وأحيانا أبكي لما صارت إليه حالتي بعد مرضي، فهل هذا البكاء معناه اعتراض على الله عز وجل وعدم الرضا بقضائه، وهذا الفعل خارج عن إرادتي؟
وكذلك هل التحدث مع المقربين عن المرض يدخل في ذلك؟ .
ج: لا حرج عليك في البكاء إذا كان بدمع العين فقط لا بصوت لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم: «العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون (1) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ولا حرج عليك أيضا في إخبار الأقارب والأصدقاء بمرضك مع حمد الله وشكره والثناء عليه وسؤاله العافية وتعاطي الأسباب المباحة، نوصيك بالصبر والاحتساب وأبشري بالخير لقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2) وقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (3) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (4) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (5) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يصيب المسلم هم ولا غم ولا نصب ولا وصب (وهو المرض) ولا أذى حتى الشوكة إلا كفر الله بها من خطاياه (6) » وقوله عليه الصلاة والسلام: «من يرد الله به خيرا يصب منه (7) » نسأل الله أن يمن عليك بالشفاء والعافية وصلاح القلب والعمل إنه سميع مجيب.
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1303) ، صحيح مسلم الفضائل (2315) ، سنن أبو داود كتاب الجنائز (3126) ، مسند أحمد بن حنبل (3/194) .
(2) سورة الزمر الآية 10
(3) سورة البقرة الآية 155
(4) سورة البقرة الآية 156
(5) سورة البقرة الآية 157
(6) صحيح البخاري المرضى (5642) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2573) ، سنن الترمذي الجنائز (966) ، مسند أحمد بن حنبل (3/19) .
(7) صحيح البخاري المرضى (5645) ، مسند أحمد بن حنبل (2/237) ، موطأ مالك الجامع (1752) .(4/144)
حكم من حلف ثلاث مرات على التوبة
السؤال: أنا شاب حلفت بالله أكثر من ثلاث مرات على أن أتوب من فعل محرم، سؤالي هل علي كفارة واحدة أم ثلاث وما هي كفارتي؟
أ. ح - المدينة المنورة.
الجواب: عليك كفارة واحدة وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة فإن لم تجد فصيام ثلاثة أيام لقول الله سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (1) الآية من سورة المائدة وهكذا كل يمين على فعل واحد أو ترك شيء واحد ولو تكررت ليس فيها إلا كفارة واحدة إذا كان لم يكفر عن الأولى منهما، أما إذا كفر عن الأولى ثم أعاد اليمين فعليه كفارة ثانية إذا حنث وهكذا لو أعادها ثالثة وقد كفر عن الثانية فعليه كفارة ثالثة.
أما إذا كرر الأيمان على أفعال متعددة أو ترك أفعال متعددة فإن عليه عن كل يمين كفارة كما لو قال والله لا أكلم فلان والله لا آكل طعامه والله لا أسافر إلى كذا أو قال والله لأكلمن فلانا والله لأضربنه وأشباه ذلك فالواجب في الإطعام لكل مسكين نصف صاع من قوت البلد وهو كيلو ونصف تقريبا.
وفي الكسوة ما يجزئه في الصلاة كالقميص أو إزار ورداء وإن عشاهم أو غداهم كفى ذلك لعموم الآية الكريمة المذكورة آنفا والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة المائدة الآية 89(4/145)
الحلف بالكعبة لا يجوز
س: ما حكم الحلف بالكعبة ونحوها وما هي صيغة الحلف الجائز؟
ع - ح - ق - قرية زهرة بني بشير
الجواب: لا يجوز الحلف بالكعبة ولا بغيرها من المخلوقات لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (1) » متفق على صحته.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف بشيء دون الله فقد أشرك (2) » رواه الإمام أحمد من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإسناد صحيح وقوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (3) » أخرجه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
والأحاديث في ذلك كثيرة وفيها يعلم تحريم الحلف بالكعبة والأمانة والأنبياء وغيرهم من سائر الخلق.
واليمين الشرعية هي اليمين بالله وحده وصفتها أن يقول: والله أو بالله أو تالله لأفعلن كذا أو لا أفعل كذا وهكذا لو حلف بغير اسم الجلالة من أسماء الله وصفاته كالرحمن والرحيم ومالك الملك وحياة الله وعلم الله ونحو ذلك.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف كثيرا بقوله: " والذي نفسي بيده " والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2679) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/47) .
(3) سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) .(4/146)
استماع الأغاني العاطفية
سائلة من العراق تقول أنا أقوم بالواجبات الدينية من الصلاة والصوم وقراءة القرآن بكل إخلاص ومع ذلك استمع للأغاني العاطفية والخالية من ذكر الخمر وما شابه ذلك من المحرمات هل يصح ذلك أفيدونا أفادكم الله؟ .
الجواب: ننصحك بألا تسمعي الأغاني مطلقا؛ لأنها شر ولأنها تفضي إلى فساد كبير في القلوب وننصحك بسماع إذاعة القرآن فإن فيها الخير الكثير، وسماع برنامج نور على الدرب، وسماع الأحاديث النافعة المفيدة، أما سماع الأغاني فاتركيها واحذريها، لأن شرها كبير وقد قال الله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (1) الآية. قال أكثر أهل العلم أن لهو الحديث هو الغناء وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل) .
وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه هو من أصحاب الرسول رضي الله عنه ومن علمائهم رضي الله عنهم أجمعين، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليكونن من أمتي أقواما يستحلون الحر والحرير والمعازف (2) » فأخبر أنه يكون في آخر الزمان قوم يستحلون المعازف وهي الملاهي والأغاني.
فنسأل الله أن يحمينا وإياكم وجميع المسلمين من شرها، وأن يثبت الجميع على الهدى إنه سميع قريب.
__________
(1) سورة لقمان الآية 6
(2) سنن أبو داود اللباس (4039) .(4/147)
لا تجوز الإعانة في المعصية
أبي يشرب الدخان وهو يأمرني أن أذهب إلى السوق لأشتري له دخانا فهل أطيعه؟ وإذا أطعته فهل علي إثم؟ علما أنني إذا لم أطعه قد تحصل مشاكل أفيدوني جزاكم الله خيرا. .
الجواب: الواجب على أبيك ترك الدخان لما فيه من المضار الكثيرة هو من الخبائث التي حرمها الله سبحانه في قوله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (1) والله عز وجل إنما أحل لعباده الطيبات كما في هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف وكما في قوله في سورة المائدة: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (2) فأوضح سبحانه أنه لم يحل لعباده إلا الطيبات، والدخان ليس من الطيبات بل هو من الخبائث الضارة، فالواجب على أبيك وعلى غيره ممن يتعاطى التدخين التوبة إلى الله سبحانه، من ذلك وعدم مجالسة من يتعاطاه ولا يجوز لك أن تعينه في ذلك ولا في غيره من المعاصي لقول الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3)
وعليك وعلى إخوانك وأعمامك إن كان لك إخوان وأعمام مناصحته وتحذيره من تعاطيه عملا بالآية المذكورة وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (4) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
وأسأل الله أن يوفق أباك للخير، وأن يعينه على التوبة من هذه المعصية وغيرها، وأن يجعلك من أعوانه على الخير، إنه سميع قريب.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) سورة المائدة الآية 4
(3) سورة المائدة الآية 2
(4) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .(4/148)
الواجب عدم الالتفات إلى قول الساخرين والمستهزئين
بعض من يدعي الإسلام إذا رأى شخصا ملتزما بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في تقصير ثوبه وإطالة لحيته والجلوس في المساجد تجده يقول: هذا دين خرافة أو يقول كلاما يغضب الله. أرجو نصيحة هؤلاء أثابكم الله.
ض - ش - حائل -.
الجواب: الواجب على كل مسلم وعلى كل مسلمة امتثال أمر الله ورسوله وترك ما نهى الله عنه ورسوله والتواصي بذلك والتعاون عليه وعدم الالتفات إلى قول الساخرين والمستهزئين عملا بقول الله عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) وقوله سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (2) وقوله سبحانه في سورة النساء: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (4)
والآيات في هذا المعنى كثيرة وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل: يا رسول الله ومن يأبى قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (5) » رواه الإمام البخاري في صحيحه.
ومن طاعة الله ورسوله المحافظة على الصلوات في أوقاتها من الرجال والنساء، وأداؤها في المساجد مع المسلمين في حق الرجال ومن طاعة الله ورسوله أداء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت مع الاستطاعة وبر الوالدين وصلة الرحم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 132
(2) سورة النور الآية 54
(3) سورة النساء الآية 13
(4) سورة النساء الآية 14
(5) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، صحيح مسلم الإمارة (1835) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .(4/149)
وحفظ اللسان والجوارح عما حرم الله عز وجل، والتناصح، والتواصي بالحق، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،.
ومن طاعة الله ورسوله في حق الرجل قص الشارب، وإعفاء اللحية وتوفيرها، والحذر من إسبال الملابس تحت الكعبين لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين (1) » متفق على صحته وقال. عليه الصلاة والسلام: «ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار (2) » خرجه الإمام البخاري في صحيحه ويلحق بالإزار جميع الملابس من السراويل والقميص والبشت ونحو ذلك وقال عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المسبل إزاره والمنان فيما أعطى والمنفق سلعته بالحلف الكاذب (3) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه. والله ولي التوفيق.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5787) ، سنن النسائي الزينة (5331) ، مسند أحمد بن حنبل (2/461) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (106) ، سنن الترمذي البيوع (1211) ، سنن النسائي الزكاة (2563) ، سنن أبو داود اللباس (4087) ، سنن ابن ماجه التجارات (2208) ، مسند أحمد بن حنبل (5/162) ، سنن الدارمي البيوع (2605) .(4/150)
حكم التصفيق في الحفلات (1)
س1: ما حكم التصفيق للرجال في المناسبات والاحتفالات؟ .
ج1: التصفيق في الحفلات من أعمال الجاهلية وأقل ما يقال فيه الكراهة، والأظهر في الدليل تحريمه؛ لأن المسلمين منهيون عن التشبه بالكفرة وقد قال الله سبحانه في وصف الكفار من أهل مكة {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (2)
قال العلماء المكاء الصفير والتصدية التصفيق والسنة للمؤمن إذا رأى أو سمع ما يعجبه أو ما ينكره أن يقول: سبحان الله أو يقول: الله أكبر كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، ويشرع التصفيق للنساء خاصة إذا نابهن شيء في الصلاة أو كن مع الرجال فسهى الإمام في الصلاة فإنه يشرع لهن التنبيه بالتصفيق أما الرجال فينبهونه بالتسبيح كما صحت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبهذا يعلم أن التصفيق من الرجال فيه تشبه بالكفرة وبالنساء وكلا ذلك منهي عنه. والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشرت في فتاوى سماحته ضمن صفحة - اسألوا أهل الذكر - التي تصدر من سماحته بالمجلة العربية شهريا.
(2) سورة الأنفال الآية 35(4/151)
جميع ما يفعله الناس بقدر
قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (1) هل ما يصيبنا من شر قد كتبه الله لنا؟ وإذا كان الجواب بنعم فما معنى قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (2)
ع. خ، غ. - عفيف -.
الجواب: جميع ما يفعله العباد من حسنات وسيئات كله بقدر كما قال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (3) وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (4)
وقال سبحانه: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (5) ومع ذلك فالحسنات من فضل الله لأنه هو الذي كتبها ووفق العبد لفعلها فله الحمد على ذلك وأما السيئات فهي بقدر الله وأسبابها أفعال العباد ومعاصيهم كما قال عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (6) قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (7) الآية.
وهو سبحانه قدر الحسنات والسيئات، ووفق العبد لفعل الحسنات، ولم يوفق العصاة لترك السيئات، لحكمة بالغة وأسباب يحدثها العباد، وهو سبحانه المحمود على كل حال لكمال علمه وكمال حكمته وعدله.
__________
(1) سورة التوبة الآية 51
(2) سورة النساء الآية 79
(3) سورة القمر الآية 49
(4) سورة الحديد الآية 22
(5) سورة التوبة الآية 51
(6) سورة الشورى الآية 30
(7) سورة الرعد الآية 11(4/152)
تغيير الاسم بعد اعتناق الإسلام
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ح - م - ل وفقه الله سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:.
فجوابا لكتابكم الكريم المؤرخ في 13 \ 9 \ 1409هـ المتضمن سؤالكم عن حكم تغيير اسم من يعتنق الإسلام حديثا من اسمه القديم إلى اسم إسلامي وهل يلزم ذلك أم لا؟
أخبركم أنه ليس في الأدلة الشرعية ما يقتضي وجوب تغيير من هداه الله إلى الإسلام اسمه إلا أن يكون هناك ما يقتضي ذلك شرعا كتعبيده لغير الله كعبد المسيح ونحو ذلك، أو يكون اسما لا يستحسن التسمي به وغيره أفضل منه كحزن يبدل بسهل، وكذا ما أشبهه من الأسماء التي لا يستحسن التسمي بها.
لكن التغيير فيما عبد لغير الله يكون واجبا أما ما سواه فهو من باب الاستحسان والأفضلية.
ويدخل في القسم الثاني الأسماء التي اشتهر النصارى بالتسمي بها ويتوهم من سمعها أن صاحبها نصراني. فالتغيير فيها مناسب جدا.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، ومنحنا وإياكم الفقه في الدين والثبات عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(4/153)
مم خلق الله الملائكة وإبليس؟ (1)
س: لقد خلق الله آدم من طين وخلق قبله الملائكة وكان ضمن الملائكة إبليس وخلقه من النار، فلماذا خلقه من النار ومن أي شيء خلق الله الملائكة؟
ج: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «خلقت الملائكة من النور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم (2) » (يعني من الطين) خرجه مسلم في صحيحه أما الحكمة في ذلك فالله سبحانه وتعالى أعلم بها وهو الحكيم العليم في كل ما يخلقه ويشرع لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه. وهو على كل شيء قدير.
__________
(1) نشرت بالمجلة العربية في باب '' فاسألوا أهل الذكر ''.
(2) صحيح مسلم الزهد والرقائق (2996) ، مسند أحمد بن حنبل (6/153) .(4/154)
لا يجوز للمسلم أن يكره ما لم يكره الله
ترك المباح تقربا إلى الله عز وجل هل يعتبر من البدع الشركية أم لا؟
حيث يوجد أناس يلتزمون ذلك ويرون أنه من الورع وقد يطلقون التحريم أو الكراهة على بعض الأشياء المباحة بلا دليل ولا برهان ومن ثم يجتنبونها وقد يعادون ويخاصمون من أجل ذلك.
أرجو التوضيح بارك الله فيكم.
ع - ص - القصيم -
الجواب:
لا يجوز للمسلم أن يحرم ما أحل الله ولا أن يكره ما لم يكره الله ولا أن يحل ما حرم الله لقول الله سبحانه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (1) الآية.
وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2)
فجعل سبحانه في هذه الآية الكريمة القول عليه بغير علم فوق مرتبة الشرك لما يترتب عليه من الفساد العظيم.
وأخبر سبحانه في آية أخرى من سورة البقرة أن ذلك من أمر الشيطان حيث قال سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (3) {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (4)
__________
(1) سورة النحل الآية 116
(2) سورة الأعراف الآية 33
(3) سورة البقرة الآية 168
(4) سورة البقرة الآية 169(4/155)
أما ترك المباحات تقربا إلى الله سبحانه ليستعين بذلك على طاعة الله ورسوله من غير أن يحرم ذلك على نفسه أو على الناس، كترك الملابس الرفيعة بعض الأحيان تواضعا وحذرا من الكبر وكسرا للنفس عما يخشى عليها من الفخر والخيلاء والتكبر على الناس فهذا شيء لا بأس به ويؤجر عليه إن شاء الله.(4/156)
نشرات مكذوبة يروجها بعض الناس (1)
وردتنا رسالة من معلمة بالمدرسة الثانوية الثالثة بالرياض تسأل فيها عن نشرات توزع في بعض المدارس، ونص تلك النشرات:
قال الله تعالى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (2) ، {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) . {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (4) .
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (5) .
قم بإرسال هذه الآيات لتكون جالبة خير وحسن طالع وفلاح، فقم بتوزيعها حول العالم تسع مرات وستجلب لك الخير والفلاح بعد أربعة أيام بإذن الله، وليس الأمر بلهو ولعب أو لاتخاذ آيات الله الكريمة هزوا بك، وسترى ما يصلك خلال أربعة أيام.
فعليك أن ترسل نسخا من هذه الرسالة وقد سبق أن وصلت هذه الرسالة إلى أحد رجال الأعمال فوزعها فورا فجاءته أخبار نجاح صفقة تجارية بسبعة آلاف دينار زيادة عما كان متوقعا، ووصلت إلى طبيب وأهملها فلقي مصرعه في حادث سيارة أدى إلى تشويهه كاملا وبقي جثة هامدة مبعثرة تحدث عنها الجميع.
وذلك لأنه أهمل توزيع الرسالة، وفوجئ أحد المقاولين بإحالة عطاء مجز إليه، ولكنه أهمل توزيعها فتوفي ابنه الأكبر في حادث سيارة في بلد عربي شقيق. لذا
__________
(1) نشر في (الدعوة) العدد 938 في 15 \7 \1404هـ.
(2) سورة الزمر الآية 66
(3) سورة الأعراف الآية 157
(4) سورة يونس الآية 64
(5) سورة إبراهيم الآية 27(4/157)
يرجى إرسال 25 نسخة وستبشر بما يصلك في اليوم الرابع. وإياك أن تهملها، فهناك من ربح الآلاف لدى التزامه، وأما من أهمل كان خطرا على حياته وأمواله. وفقنا الله وإياكم لتبليغ هذه الرسالة والله ولي التوفيق) .
ولما اطلعت على هذه الرسالة كتبت ما يأتي:
هذه النشرة وما يترتب عليها من الفوائد بزعم من كتبها وما يترتب على إهمالها من الخطر كذب لا أساس له من الصحة، بل هي من مفتريات الكذابين اللعابين، ولا يجوز توزيعها لا في الداخل ولا في الخارج، بل ذلك منكر يأثم من فعله ويستحق عليه العقوبة العاجلة والآجلة؛ لأن البدع شرها عظيم وعواقبها وخيمة، وهذه النشرة على هذا الوجه من البدع المنكرة ومن الكذب على الله سبحانه وقد قال الله سبحانه: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (1)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » رواه مسلم في صحيحه ...
فالواجب على جميع المسلمين الذين تقع في أيديهم أمثال هذه النشرة تمزيقها وإتلافها وتحذير الناس منها، وقد أهملناها وأهملها غيرنا من أهل الإيمان فما رأينا إلا خيرا، ومثلها النشرة التي ينسبونها إلى خادم الحجرة النبوية.
ونشرة أخرى مثل النشرة المذكورة آنفا لكنها مبدوءة بقول الله سبحانه {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} (4) بدلا من قول الله سبحانه {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (5) وكلها نشرات مكذوبة لا أساس لها من الصحة ولا يترتب
__________
(1) سورة النحل الآية 105
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(4) سورة الملك الآية 29
(5) سورة الزمر الآية 66(4/158)
عليها خير ولا شر، ولكن يأثم من افتراها ومن وزعها ومن دعا إليها ومن روجها بين الناس؛ لأن ذلك كله من باب التعاون على الإثم والعدوان، ومن باب ترويج البدع والترغيب في الأخذ بها.
نسأل الله لنا وللمسلمين العافية من كل شر وحسبنا الله على من وضعها، ونسأل الله أن يعامله بما يستحق لكذبه على الله وترويجه الكذب وإشغاله الناس بما يضرهم ولا ينفعهم، وللنصيحة لله ولعباده جرى التنبيه على ذلك.(4/159)
مع الصحف والإذاعة (1)
نشرت بعض الصحف لبعض الكتاب والكاتبات كلمات لا تهدف إلى صالح المجتمع بل تضره وتفضي به إلى أسوأ العواقب، وقد يكون ذلك الكاتب وتلك الكاتبة لا يشعران بمدى خطورة ما كتبا ولا يعلمان عظيم جنايتهما على المجتمع الإسلامي الذي يعيشان فيه ولا سيما في هذا العصر الرهيب الذي استحكمت فيه غربة الإسلام وظهر فيه الإلحاد والإباحية وانتشر أنصارهما والدعاة إليهما، تارة باسم التقدم والرقي والقومية العربية، وتارة باسم الحرية والاشتراكية، وطورا بأسماء أخرى، شعارات براقة وأساليب خداعة لا تمت إلى الخير بصلة ولا تهدف إلى الحق بأدنى وسيلة، يغتر بها السذج والسفهاء ويخدع بها الجهال والحمقى ويربح من ورائها الأعداء.
وكان الواجب على كتابنا من الرجال والنساء أن يتحروا الحق فيما يكتبون وأن يزنوا كلماتهم وأهدافهم بالميزان الذي لا يجور وهو ميزان الشريعة الإسلامية الكاملة المعروف من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن لا يغتروا بالشعارات المضللة والدعايات الجوفاء والأساليب الساحرة التي انتحلها أعداؤهم وقصدوا من ورائها تضليل المسلمين وتلبيس دينهم عليهم ودعوتهم إلى التملص منه والخروج على أحكامه بشتى الأساليب وأنواع المغريات.
وهكذا وسائل الإعلام يجب على القائمين عليها أن يتحروا الخير فيما يوجهونه للناس، وأن يزودوها بالمقالات النافعة البناءة والأحاديث الهادفة والتوجيهات السديدة التي تنفع المجتمع في دينه ودنياه وتأخذ بيده إلى الطريق القويم وتنبهه على أخطائه ومواضع الزلل من سيرته، حتى يرجع
__________
(1) نشرت في الصحف المحلية في عام 1383هـ.(4/160)
عن الخطأ ويستقيم على سواء السبيل.
وبذلك تؤدي واجبها وتساهم في الإصلاح الديني والدنيوي ويتحقق بها نفع الأمة وتوجيهها إلى الصالح العام في المشارق والمغارب وتكون بذلك قد استغلت الوقت فيما يفيد وأحسنت سمعة بلدها وأخذت بأيدي مستمعيها إلى أسباب الرقي الصالح والتقدم السليم والحضارة الكريمة التي تصان بها الكرامة وتحفظ بها الحقوق وتزكى بها النفوس وترشد بها العقول إلى طرق السلامة ووسائل البناء والإصلاح والابتعاد عن أسباب الغي والضلال والتخريب والإفساد.
ولقد كان مما أخذ على الإذاعات واستاء له كل مسلم غيور ما تمليه على الناس عبر الأثير ليل نهار من الأغنيات الخليعة وما يضاف إلى ذلك من آلات العزف والطرب، ومعلوم ما يترتب على ذلك من إفساد القلوب ومرضها وصدها عن ذكر الله وعن الصلاة وإشغالها بأغنية فلان وفلانة وصوت علان وعلانة عن استماع القرآن الكريم وأحاديث النبي الأمين والمواعظ المفيدة والمقالات البناءة إلى غير ذلك من أنواع الفساد والتخريب، ولا ريب أن ذلك كله من لهو الحديث الذي أخبر الله في كتابه أنه يضل أهله عن سبيل الله ويفضي بهم إلى اتخاذ آيات الله هزوا كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (1) وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف (2) » أخرجه البخاري في صحيحه، والحر: بالحاء والراء المهملتين هو الفرج الحرام يعني بذلك الزنى، وأما الحرير والخمر فمعروفان، وأما المعازف فهي آلات اللهو كلها كالطنبور والعود والكمان والطبل وشبه ذلك.
وقد ظهر مصداق هذا الحديث الشريف في العصور المتأخرة، فقد
__________
(1) سورة لقمان الآية 6
(2) سنن أبو داود اللباس (4039) .(4/161)
استحل الكثير من الناس الفرج الحرام والخمر والمعازف، واستحل الكثير من الرجال لبس الحرير، وكل ذلك يدل على ضعف في الإيمان وقلة في العلم وفساد في المقصد وإقبال على الشهوات وإعراض عظيم عن التفقه في الشريعة الإسلامية والعمل بها، وهذا كله في المنتسبين إليها والمحسوبين عليها، وقد حاربوها وابتعدوا عن تعاليمها واستهزأوا بمن تمسك بها أو دعا إليها إلا من شاء الله وهم القليل.
ولا ريب أن بلادنا من أحسن البلاد الإسلامية وأقومها بشعائر الله على ما فيها من نقص وضعف، فالواجب علينا جميعا من مسئولين ومذيعين وكتاب وكاتبات أن نتقي الله جميعا في أنفسنا ومجتمعنا، وأن نتكاتف ونتعاون على نصر دينه وحماية شريعته وترك ما خالف ذلك حتى نكون أسوة صالحة ومثالا أعلى لجميع البلدان الإسلامية، ولا سيما ونحن في مهبط الوحي ومطلع شمس الرسالة وقبلة المسلمين في المشارق والمغارب، ولا ريب أن هذا كله يقتضي مضاعفة الجهود والعناية بعظم المسئولية، ولا يخفى ما في ذلك من جزيل المثوبة إذا قمنا بواجبنا، ويقتضى كبر الجريمة وشدة الخطر إذا تخلينا عنه وتساهلنا بالمسئولية الملقاة على عواتقنا.
وقد علم كل ذي بصيرة وعلم بأحوال الناس أن فشو الغناء والملاهي في المجتمع من أعظم الأسباب لزوال النعم وحلول النقم وخراب الدولة وزوال الملك وكثرة الفوضى والتباس الأمور.
فالجد الجد والبدار البدار قبل أن يحل بنا من أمر الله ما لا طاقة لنا به، وقبل أن تنزل بنا فتنة لا تصيب الذين ظلموا منا خاصة بل تعم الصالح والطالح ويهلك بها الحرث والنسل ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولقد استنكر أهل العلم والإيمان ما تنشره الصحف وغيرها وما تسير عليه الإذاعات حاليا مما أشرنا إليه آنفا وكتبوا في ذلك ما شاء الله أن يكتبوا مما نشر بعضه في الصحف وأكثره لم ينشر.
حفزهم إلى ذلك(4/162)
الغيرة لله والنصيحة له ولعباده وما أوجب عليهم مولاهم سبحانه من إنكار المنكر والأمر بالمعروف، وممن كتب في ذلك أخونا العلامة الناصح لله ولعباده الشيخ محمد أحمد باشميل، فقد نشرت له صحيفة الندوة في عددها الصادر في 20 \ 2 \ 1383هـ كلمة قيمة بعنوان: (اضربوا على أيدي السفهاء) ، أنكر فيها ما كتبه بعض من قل علمه وضعفت بصيرته من الدعوة إلى السفور والغناء والعزف والطرب وبروز المرأة واختلاطها مع الرجل في المصنع والمتجر والمكتب ونحو ذلك.
وأوضح ما يترتب على ذلك من الفساد. ودعا المسئولين إلى الضرب على أيدي السفهاء. ولا ريب أن هذا هو الواجب عليه وعلى غيره من أهل العلم أن ينصحوا لله ولعباده وأن ينكروا المنكر على من فعله وأن يحذروا الناس من مغبة ظهور المنكرات والتساهل في إنكارها.
ولا شك أن من دعا الناس إلى ما يفسد مجتمعهم ويضرهم في دينهم ويوجب غضب الله عليهم ويسبب حلول النقم. حقيق بأن يسمى سفيها وأن يطلب من المسئولين من ولاة الأمر وغيرهم من أعيان الناس وأرباب الغيرة والدين أن يضربوا على يديه وأن يمنعوه من أسباب الخطر، وأن يوقفوه عند حده ويبصروه بعيبه وخطئه، وهذا هو الواجب عليهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (1) » الحديث، فعلى السلطان واجبه مع الرعية بتقويم أخلاقهم وإلزامهم بالحق ومنعهم مما حرم الله حسب الطاقة، وعلى كل إنسان من والد وزوج وأمير وكبير عشيرة ونحوهم واجبهم من إنكار المنكر والأخذ على يد السفيه حسب الطاقة، وإذا كان الله سبحانه قد سمى من لا يحسن التصرف في ماله سفيها.
ولو كان شيخا كبيرا في قوله سبحانه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (2) الآية، فالذي لا يحسن التصرف في دينه ولا يقف عند الحد الذي حده الله له أولى بهذه
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (893) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .
(2) سورة النساء الآية 5(4/163)
التسمية وأحق بهذا اللقب، ولا ريب أن سفور النساء بحضرة الرجال غير المحارم وإبدائهن مفاتنهن من أعظم السفه سواء كان ذلك في الطريق أو الطائرة أو السيارة أو المتجر أو المكتب أو المصنع أو القطار أو غير ذلك.
وهكذا إعلان الأغاني وآلات العزف ودعوة الناس إلى ذلك وتحبيذه لهم من أعظم السفه.
فيجب على ولاة الأمر القضاء على ذلك والمنع منه والضرب على أيدي من يدعو إليه أو يفعله، وبذلك تصلح الأحوال ويؤدي الواجب ويزول المنكر ويؤخذ على يد السفيه، وقد جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه تلا الآية الكريمة من قول الله عز وجل ثم قال: والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم (3) » وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (4) » .
وإني لأعجب كثيرا من استنكار بعض كتابنا كلمة أخينا الشيخ محمد أحمد باشميل التي أشرنا إليها وغضبهم منها ومناقشتهم إياها وهم يعلمون نصح الرجل وغيرته العظيمة وكتاباته المفيدة، فما كان ينبغي لهم أن يغضبوا من كلمة الحق بل كان الواجب عليهم أن يؤيدوه ويؤازروه في الصدع بالحق والدعوة إليه وإنكار المنكر والتحذير منه، والواجب أيضا أن يحملوا كلامه على أحسن المحامل وأن يظنوا به الظن الحسن وأن لا يرموه بما لا يليق به، فالمؤمنون أخوة وجسد واحد وبناء واحد سواء كانوا عربا أو عجما وسواء نبتوا في هذه البلاد وعاشوا فوق أرضها وتحت سمائها أو هاجروا إليها من بعيد.
فكل مسلم يعبد الله وحده وينقاد
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3047) ، سنن أبو داود الملاحم (4336) ، سنن ابن ماجه الفتن (4006) .
(2) سورة المائدة الآية 78 (1) {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
(3) سورة المائدة الآية 79 (2) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
(4) سنن الترمذي الفتن (2168) ، سنن ابن ماجه الفتن (4005) .(4/164)
لشريعته أخونا وحبيبنا، سواء كان في المشرق أو المغرب، وسواء كان عربيا أو عجميا، وسواء تجنس بالجنسية الرسمية أم لم يتجنس بها، هكذا علمنا ربنا وأدبنا أحسن تأديب، وهكذا أرشدنا رسوله صلى الله عليه وسلم ووجهنا أكمل توجيه، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه (2) » .
فاتقوا الله يا إخواني وأنصفوا من أنفسكم وحققوا الأخوة الإيمانية التي أمر الله بها، وقولوا للمحق: أحسنت وأجملت ووجهوه واشكروه وأعينوه، وقولوا للمسيء: أسأت وأخطات برفق وحكمة ووجهوه وأرشدوه، وبذلك تستحقون الثواب الجزيل من الله سبحانه والثناء الحسن من الناس والسمعة الطيبة في الداخل والخارج، واحذروا طاعة الهوى والتعصب المقيت والتقليد الأعمى تربحوا وتسلموا وتفوزوا بالعاقبة الحميدة.
والله أسأل أن يهدينا جميعا سواء السبيل، وأن يوفق حكومتنا وولاة أمرنا لما فيه صلاح المجتمع وسعادته في الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا جميعا ممن يقول الحق ويعمل به لا يخاف في الله لومة لائم إنه على كل شيء قدير.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة الحجرات الآية 10
(2) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) ، مسند أحمد بن حنبل (2/91) .(4/165)
لقاء مع صحيفة الراية السودانية
[أسئلة مقدمة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز من مندوبي صحيفة الراية السودانية وهما: الأستاذ مهدي إبراهيم محمد، والأستاذ محمد وقيع الله أحمد. .
وقد تفضل سماحته فأجاب عليها بما يلي:] .
س1: هل لسماحتكم مذهب فقهي خاص وما هو منهجكم في الفتوى والأدلة؟ . .
ج1: مذهبي في الفقه هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وليس على سبيل التقليد ولكن على سبيل الاتباع في الأصول التي سار عليها.
أما مسائل الخلاف فمنهجي فيها هو ترجيح ما يقتضي الدليل ترجيحه والفتوى بذلك سواء وافق ذلك مذهب الحنابلة أم خالفه؛ لأن الحق أحق بالاتباع.
وقد قال الله عز وجل: صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1)
__________
(1) سورة النساء الآية 59(4/166)
س2: لقد قامت في السودان جبهة إسلامية بين مختلف الاتجاهات الحركية والصوفية والسلفية وقامت بعمل سياسي ومجابهة واسعة مع الشيوعية والتغريبيين عموما.
هل يمكن أن نعرف رأيكم في مثل هذا العمل الذي يضم تيارات مثل هذه؟ .
ج 2: لا ريب أن التعاون بين المسلمين في محاربة المذاهب الهدامة(4/166)
والدعوات المضللة والنشاط التنصيري والشيوعي والإباحي من أهم الواجبات ومن أعظم الجهاد في سبيل الله، لقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) وقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2)
وقال عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3)
وفي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليهود في خيبر وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام وأن يخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، وقال له صلى الله عليه وسلم: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (4) » وفي صحيح مسلم عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (5) » وفي صحيحه أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (6) » ، وروى الإمام أحمد والنسائي وصححه الحاكم عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (7) » .
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. فنسأل الله أن يوفق الجبهة لما فيه نصر الحق وظهوره على ما سواه وقمع الباطل وخذلان الدعاة إليه.
ونصيحتي للجبهة أن تنقي صفوفها من كل ما يخالف شرع الله المطهر
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة فصلت الآية 33
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2942) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(5) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(6) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(7) سنن النسائي الجهاد (3096) ، سنن أبو داود الجهاد (2504) ، مسند أحمد بن حنبل (3/251) ، سنن الدارمي الجهاد (2431) .(4/167)
وأن تتناصح وتتواصى بالاستقامة على شرع الله والثبات عليه، ورد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) وقال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) الآية. وقال عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5)
يبين سبحانه في هذه السورة العظيمة أن أسباب الربح والسعادة والسلامة من الخسران هي هذه الأمور الأربعة المذكورة في هذه السورة وهي: الإيمان الصادق بالله ورسوله، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
فنسأل الله أن يمنح أعضاء الجبهة التخلق بهذه الأخلاق والاستقامة عليها حتى يفوزوا بالنصر المبين والربح العظيم والعاقبة الحميدة.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3(4/168)
س3: السابقون رجال ونحن رجال
هذه قولة فقهية شجاعة، أي أن السابقين لهم قضايا عصرهم ونحن لنا قضايانا المتجددة.
ألا ترى أن الذين يقفون ضد الدعوة إلى التجديد للفقه يجنون على هذا الأدب الأصولي نفسه؟ . .
ج 3: هذه العبارة فيها إجمال واحتمال، فإن أريد بها أن الواجب على المتأخرين أن يجتهدوا في نصر دين الله وتحكيم شريعته، وتأييد ما عليه السلف الصالح من العقيدة والأخلاق فهذا حق. والواجب على جميع(4/168)
المسلمين أن يسيروا على نهج سلفهم الصالح في اتباع الكتاب والسنة وتحكيمهما في كل شيء، ورد ما تنازع فيه الناس إليهما، عملا بقول الله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) الآية، وقوله سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) الآية أما إن أريد بهذه العبارة أن المتأخرين لهم أن يجددوا في دين الله ما يخالف ما عليه سلف الأمة في العقيدة والأخلاق أو في الأحكام: فهذا أمر منكر لا يجوز فعله لأنه مخالف لقول الله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (3) وقوله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (4) وقوله سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (5)
ومن خالفهم وسلك غير سبيلهم، لم يتبعهم بإحسان، فلا يدخل في أتباعهم المرضي عنهم؛ لأنه ليس للمتأخرين أن يخالفوا ما أجمع عليه العلماء قبلهم؛ لأن الإجماع حق، وهو أحد الأصول الثلاثة التي يجب الرجوع إليها، ولا تجوز مخالفتها وهي الكتاب والسنة والإجماع؛ ولأن العلماء إذا أجمعوا على شيء دخلت فيهم الطائفة المنصورة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تزال على الحق.
أما التفقه في الدين والتماس حل المشكلات بالطرق الشرعية في المسائل التي جدت بين المسلمين ولم يتكلم فيها الأوائل
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) سورة آل عمران الآية 103
(4) سورة النساء الآية 115
(5) سورة التوبة الآية 100(4/169)
فهذا حق وليس فيه مخالفة للسابقين؛ لأن العلماء السابقين واللاحقين كلهم يوصون بتدبر الكتاب والسنة واستنباط الأحكام منهما، والاجتهاد فيما يعرض من المسائل المشكلة على ضوء الكتاب والسنة.
وليس هذا تجديدا مخالفا للسابقين، ولكنه تجديد سائر على منهج السابقين وعلى أصولهم، وقد صح في هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (2) » رواه الإمام مسلم في صحيحه. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(4/170)
س4: تنشب بين الدعاة بعض الاختلافات التي تكاد تطغى على نقاط الالتقاء الكثيرة، وكثيرا ما تؤدي إلى تعطيل العمل الإسلامي وإلى أنواع من الفتن والانشقاقات والخصومات.
ما هو تعليقكم ونصيحتكم للدعاة حول هذا الأمر؟ .
ج4: نصيحتي للدعاة أن يخلصوا أعمالهم لله وحده وأن يتعاونوا على البر والتقوى وأن يتفقوا على تحكيم الكتاب والسنة فيما شجر بينهم عملا بقول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) وبذلك يتحد الهدف وتجتمع الجهود وينصر الحق ويهزم الباطل، ولا يتم هذا كله إلا بالاستعانة بالله والتوجه إليه بطلب التوفيق، والحذر من اتباع الهوى، وقال الله عز وجل: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (2) الآية، وقال عز وجل يخاطب نبيه ورسوله داود عليه الصلاة والسلام: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (3) الآية.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة القصص الآية 50
(3) سورة ص الآية 26(4/170)
س5: وما هي نصيحتكم عموما لتيار الصحوة الإسلامية الشبابية المتعالية الآن في العالم الإسلامي؟ .
ج5: هذه الصحوة التي تسر كل مؤمن - ويصح أن تسمى حركة إسلامية وتجديدا إسلاميا ونشاطا إسلاميا - يجب أن تشجع وأن توجه إلى الاعتصام بالكتاب والسنة وأن يحذر قادتها وأفرادها من الغلو والإفراط عملا بقول الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (2) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون (3) » .
ويجب عليهم أن يتوجهوا إلى الله دائما بطلب التوفيق وصلاح القلوب والأعمال، والثبات على الحق، وأن يعنوا عناية تامة بالقرآن الكريم تلاوة وتدبرا وتعقلا، وعملا بالسنة المطهرة؛ لأنها الأصل الثاني؛ ولأنها المفسرة لكتاب الله كما قال الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (4)
وقال عز وجل: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (5)
كما يجب على الدعاة إلى الله أن يستغلوا هذه الحركة الإسلامية بالتعاون مع القائمين عليها والمذاكرة معهم والحرص على إزالة الشبه التي قد تعرض لبعضهم عملا بقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (6)
__________
(1) سورة النساء الآية 171
(2) سنن ابن ماجه المناسك (3029) ، مسند أحمد بن حنبل (1/215) .
(3) صحيح مسلم العلم (2670) ، سنن أبو داود السنة (4608) ، مسند أحمد بن حنبل (1/386) .
(4) سورة النحل الآية 44
(5) سورة النحل الآية 64
(6) سورة المائدة الآية 2(4/171)
س6: ما رأيكم في مجتمع إسلامي طبقت فيه الحدود لفترة عام وأكثر ثم تراجع عن هذه الحدود ليطبق القوانين الوضعية الغربية؟
ج6: الواجب على جميع حكام المسلمين هو تطبيق شريعة الله بين عباده(4/171)
والثبات على ذلك والدعوة إليه والإلزام به؛ لقول الله سبحانه يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (1)
والواجب على أمته تنفيذ ذلك. قال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) وقال عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (3) وقال عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (4) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (5) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (6)
فلا يجوز لحكام المسلمين أن يخالفوا هذه الآيات الكريمات، بل عليهم أن يلتزموا بما دلت عليه، ويلزموا شعوبهم به، ولهم في ذلك العزة والكرامة والنصر والتأييد وحسن العاقبة والفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (7) وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (8) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (9) وقال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (10) الآية.
__________
(1) سورة المائدة الآية 49
(2) سورة النساء الآية 65
(3) سورة المائدة الآية 50
(4) سورة المائدة الآية 44
(5) سورة المائدة الآية 45
(6) سورة المائدة الآية 47
(7) سورة محمد الآية 7
(8) سورة الحج الآية 40
(9) سورة الحج الآية 41
(10) سورة النور الآية 55(4/172)
ولا ريب أن تحكيم شريعة الله في شئون عباده من جملة النصر لله، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن الإيمان والعمل الصالح اللذين وعد الله أهلهما الاستخلاف في الأرض والتمكين في دينهم ومنحهم الأمن بعد الخوف، فنسأل الله أن يوفق حكام المسلمين للتمسك بشريعته والحكم بها والرضى بها وترك ما خالفها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(4/173)
س 7: ما رأيكم في الدعوة إلى القومية التي تعتقد أن الانتساب إلى العنصر أو اللغة مقدم على الانتساب إلى الدين، وهذه الجماعات تدعي أنها لا تعادي الدين ولكنها تقدم القومية عليه. ما رأيكم في هذه الدعوى؟ .
ج7: هذه دعوة جاهلية لا يجوز الانتساب إليها ولا تشجيع القائمين بها، بل يجب القضاء عليها؛ لأن الشريعة الإسلامية جاءت بمحاربتها والتنفير منها، وتفنيد شبههم ومزاعمهم والرد عليها بما يوضح الحقيقة لطالبها؛ لأن الإسلام وحده هو الذي يخلد العروبة لغة وأدبا وخلقا، وأن التنكر لهذا الدين معناه القضاء الحقيقي على العروبة في لغتها وأدبها وخلقها، ولذلك يجب على الدعاة أن يستميتوا في إبراز الدعوة إلى الإسلام بقدر ما يستميت الاستعمار في إخفائه.
ومن المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الدعوة إلى القومية العربية أو غيرها من القوميات دعوة باطلة وخطأ عظيم ومنكر ظاهر وجاهلية نكراء وكيد للإسلام وأهله، وذلك لوجوه قد أوضحناها في كتاب مستقل سميته: (نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع) (1) وإليكم نسخة منه لتنقلوا منه ما شئتم وأسأل الله أن يوفق الجميع لما فيه رضاه.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
__________
(1) نص هذه الرسالة طبعت في الجزء الأول من مجموع فتاوى ومقالات متنوعة ص 284 إلى ص 327.(4/173)
نداء لجميع المسلمين وغيرهم لمساعدة السودان وشعبها بالدعم والمواساة بسبب الكارثة العظيمة التي نزلت بهم (1) .
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يطلع عليه من المسلمين وغيرهم في المملكة العربية السعودية وغيرها، وفقني الله وإياهم لفعل الخيرات وجعلنا جميعا من المسارعين إلى الباقيات الصالحات.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فلا يخفى على الجميع ما حل بحكومة السودان وشعبها من الكارثة العظيمة بسبب الأمطار والفيضانات الغزيرة التي تسببت في أضرار عظيمة على العاصمة السودانية وما جاورها من المدن والقرى، مما تسبب في إتلاف الكثير من أموالهم، وتشريد أكثر من مليون من المواطنين، وموت العديد من الناس، وتهدم الآلاف من المساكن، وقد أصبح أهلها يعيشون في العراء بدون مأوى.
وقد تناقلت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة أنباء هذه الكارثة العظيمة، وشاهد الكثير من الناس على شاشة التلفاز الخراب والدمار الذي حل ببلادهم، كما شوهد المشردون وهم في العراء لا شيء يكنهم من الشمس والمطر والريح، ولا شك أن ما حصل لهم من الابتلاء والامتحان الذي يبتلي الله به من يشاء من عباده فيه عظة وذكرى واختبار وامتحان.
قال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (2) وقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (3) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (4) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (5)
__________
(1) نصيحة صدرت من مكتب سماحته في 8 \1 \1409هـ.
(2) سورة الأنبياء الآية 35
(3) سورة البقرة الآية 155
(4) سورة البقرة الآية 156
(5) سورة البقرة الآية 157(4/174)
وقال جل وعلا: {الم} (1) {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (2) {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (3) وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (4)
وكل هذه الآيات وغيرها كثير يبين الله سبحانه فيها أنه لا بد أن يبتلي عباده ويمتحنهم في هذه الحياة الدنيا، فإذا صبروا على هذا الابتلاء وأنابوا إلى الله ورجعوا إليه في كل ما يصيبهم، وتابوا إليه من سيئات أعمالهم، أثابهم الله رضاه ومغفرته وكشف عنهم الكربة، وأحسن لهم العاقبة، وعوضهم خيرا مما فاتهم.
ونظرا لعظم المصيبة التي حلت بإخواننا في السودان، وما ترتب عليها من الخسائر العظيمة في النفوس والأموال فإني أهيب بجميع المسلمين وغيرهم من الأمراء والوزراء والأغنياء وغيرهم ممن يحب الخير ويعين عليه في المملكة العربية السعودية وغيرها من سائر المعمورة أن يبادروا إلى مد يد العون لإخوانهم في السودان، وأن تكون المساعدة عامة لكل ما يحتاجون إليه من نقود وأطعمة وملابس وخيام وأدوية وغير ذلك.
كما أهيب بجميع العلماء والدعاة إلى الله سبحانه وجميع الأمراء وأئمة المساجد وجميع الأعيان أن يحثوا المسلمين على الوقوف بجنب إخوانهم في السودان بالدعم والمساعدة استجابة لأوامر الله سبحانه وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم بالحث على الإنفاق في وجوه الخير والتعاون على البر والتقوى، والمساعدة في تخفيف المصائب، قال الله عز وجل: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (5)
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 1
(2) سورة العنكبوت الآية 2
(3) سورة العنكبوت الآية 3
(4) سورة البقرة الآية 214
(5) سورة الحديد الآية 7(4/175)
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) وقال سبحانه {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (2) وقال جل وعلا: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (3) وقال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (4) وقال عز وجل {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (5) وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (6) وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (7) وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (8) » متفق على صحته، وقال عليه الصلاة والسلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه (9) » وقال عليه الصلاة والسلام: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (10) » رواه مسلم في صحيحه، وقال عليه الصلاة والسلام: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته (11) » متفق
__________
(1) سورة البقرة الآية 254
(2) سورة سبأ الآية 39
(3) سورة المزمل الآية 20
(4) سورة البقرة الآية 274
(5) سورة البقرة الآية 195
(6) سورة المائدة الآية 2
(7) سورة الحجرات الآية 10
(8) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(9) صحيح البخاري المظالم والغصب (2446) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) .
(10) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) ، مسند أحمد بن حنبل (2/91) .
(11) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) .(4/176)
على صحته.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم غاية الاهتمام بأمر المحتاجين وذوي الفاقة، ويستاء لحاجتهم ويبادر لمساعدتهم، وهكذا ينبغي لأتباعه أن يتأسوا به في ذلك صلوات الله وسلامه عليه، فعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه قوم عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال: والآية التي في الحشر: تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره " حتى قال: " ولو بشق تمرة "، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزوها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء (3) » أخرجه مسلم في صحيحه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نقص مال من صدقة (4) » رواه مسلم والترمذي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .
(2) سورة النساء الآية 1 (1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
(3) سورة الحشر الآية 18 (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
(4) سنن الترمذي كتاب الزهد (2325) .(4/177)
حتى تغشى أنامله وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة مكانها قال أبو هريرة رضي الله عنه: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعه هكذا في جيبه، فلقد رأيته يوسعها ولا تتسع (1) » أخرجه البخاري ومسلم.
فعلينا جميعا أيها المسلمون المبادرة بمد يد العون والمساعدة لإخواننا المنكوبين في السودان وبذل ما نستطيع مما أنعم الله به علينا لنحقق معنى الأخوة الإسلامية التي ذكرها الله سبحانه في كتابه الكريم وذكرها رسوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة الكثيرة، ونحقق معنى الاستجابة لله ورسوله التي أمرنا بها الله في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (2) الآية، وفي قوله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3) وفي قوله سبحانه: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (4) ودعا إليها رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته (5) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (6) » وقوله صلى الله عليه وسلم «من لا يرحم لا يرحم (7) » في أحاديث كثيرة تحث المؤمنين على التعاون على الخير ودعم المنكوبين ومواساتهم، وجبر مصابهم، رغبة فيما عند الله ورجاء لثوابه ورحمة لعباده، وإحسانا إليهم؛ وبذلك تتحقق الأخوة الإيمانية والتعاون على الخير، ولفوز الجميع بجزيل ثواب الله، وعظيم إحسانه.
واعلموا أيها الإخوة في الله أنه كلما كانت الحاجة إلى المساعدة أشد كان الأجر عليها من الله أعظم، ولا شك أن حاجة إخواننا في السودان شديدة وعظيمة، تستدعى منا المبادرة والمسارعة إلى مساعدتهم، والوقوف
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5797) ، صحيح مسلم الزكاة (1021) ، سنن النسائي الزكاة (2547) ، مسند أحمد بن حنبل (2/523) .
(2) سورة الأنفال الآية 24
(3) سورة المائدة الآية 2
(4) سورة البقرة الآية 195
(5) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) .
(6) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الأدب (4946) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .
(7) صحيح البخاري الأدب (5997) ، صحيح مسلم الفضائل (2318) ، سنن الترمذي البر والصلة (1911) ، سنن أبو داود الأدب (5218) ، مسند أحمد بن حنبل (2/269) .(4/178)
بجانبهم، وتخفيف آلامهم.
وفق الله المسلمين عموما وإخواننا في السودان خصوصا للصبر والاحتساب، والتعاون على الخير، وضاعف لنا ولهم الأجر، وأنزل على المصابين السكينة والطمأنينة وأحسن للجميع العاقبة في الدنيا والآخرة، ووفق الجميع للتوبة النصوح، والاستقامة على الحق، والحذر من أسباب غضب الله وعقابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ولا يفوتني في ختام كلمتي هذه أن أشكر حكومة المملكة العربية السعودية وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين على مبادرتها بمد يد العون والمساعدة للسودان حكومة وشعبا؛ للتخفيف من آثار هذه الكارثة، كما أشكر كل من بادر بمساعدتهم من حكام المسلمين وشعوبهم وغيرهم ممن ساهم في تخفيف هذه المصيبة بالعون والإحسان.
وأسأل الله أن يجعل ذلك عملا خالصا لوجهه الكريم، وأن يثقل به موازين الجميع يوم القيامة ويرفع به درجاتهم في دار الكرامة، ويخلف عليهم ما أنفقوا بخير منه وأفضل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد والله وصحبه وسلم.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
والرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة
والإرشاد بالمملكة العربية السعودية(4/179)
" الإهابة بالمسلمين لمساعدة إخوانهم في أفريقيا "
وهي نصيحة صدرت مني في تاريخ 25 \ 3 \ 1405هـ.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا معشر إخواني المسلمين هذه كلمة أوجهها إليكم للحث والترغيب في مساعدة إخوانكم المسلمين في أفريقيا المنكوبين بالجفاف والجدب والجوع. طاعة لله سبحانه وتعالى، وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم وتعاونا معكم على البر والتقوى عملا بقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (2) {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (3)
وقوله جل وعلا: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} (4)
وتعلمون بارك الله فيكم ما حل بالكثير من إخوانكم المسلمين في أفريقيا وفي السودان بوجه خاص منذ سنوات من جفاف وقحط لاحتباس الأمطار عنهم مما جعل المنظمات التبشيرية تتحرك نحوهم باسم الإنسانية مع أن لها أهدافا أخرى، خفية ومعلنة، وهي دعوة المسلمين هناك إلى التحول عن دينهم إلى النصرانية استغلالا لحاجتهم وعوزهم وجوعهم.
وأنتم أيها المسلمون أولى الناس بمد يد العون إليهم؛ لأنكم تسمعون
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة البقرة الآية 267
(3) سورة البقرة الآية 268
(4) سورة المنافقون الآية 10(4/180)
وتقرأون كما أسمع وأقرأ عن أخبار جفاف وهلاك المحاصيل والحيوانات، وعن عدد الذين يموتون جوعا كل يوم من الرجال والأطفال والنساء، وأغلبهم من المسلمين، وهؤلاء إخوة لنا في الدين وجيران لنا في الأوطان، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة (1) » متفق على صحته.
ثم اعلموا بارك الله فيكم أن المال الذي في أيديكم إنما هو مال الله عز وجل وأنتم مستخلفون فيه، وقد أمركم الله بالإنفاق منه ووعدكم بالخلف فقال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (2) وقال سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (3)
ومن بخل أيها الإخوة بماله، أو استغنى عن الأجر من ربه، فليس بمأمن من عقاب الله، وقد يحل به ما حل بإخوانه في أفريقيا والعياذ بالله من فجاءة نقمته، وما ذلك على الله بعزيز فهو القائل وقوله الحق: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (4)
فيا أيها المسلمون استجيبوا لنداء ربكم، وابذلوا من أموالكم في سبيله، واشكروا نعم الله عليكم بأداء حقها، ومن حقها إنقاذ الأنفس المؤمنة، وهو حق لو تعلمون عظيم، فقد روى جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه واقعة حدثت في عهد رسول الله تهيب بالمسلم إلى المبادرة
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) ، مسند أحمد بن حنبل (2/91) .
(2) سورة الحديد الآية 7
(3) سورة سبأ الآية 39
(4) سورة محمد الآية 38(4/181)
لمواساة إخوانه الفقراء ورحمتهم حيث قال رضي الله عنه: «كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء قوم عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقه، فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: الآية، والآية الأخرى التي في آخر الحشر: تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه، من صاع بره من صاع تمره (3) » حتى قال: «ولو بشق تمرة "، فجاء رجل من الأنصار بتمرة من فضة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء (4) » رواه مسلم.
وأنتم أيها المسلمون قد رأيتم بأعينكم وقرأتم بأنفسكم ما يقال عن هذه المحنة القاسية والمجاعة الأليمة التي تتعرض لها أنفس من إخوانكم المسلمين في أفريقيا، فتصدقوا عليهم مما أفاء الله عليكم أسوة برسول الله في حبه للخير ودعوته للصدقة، وإنفاقه في سبيل الله، وأسوة بأصحابه رضي الله عنهم في مسارعتهم للإنفاق في وجوه الخير، ففي كل نفس رطبة صدقة، ولا يحقرن أحدكم ما يبذل في نفع إخوانه من نقد أو متاع أو طعام واقطعوا بمسارعتكم طريق الرجعة على الكفار الذين انتهزوا هذه المجاعة لغزو المسلمين في عقر دارهم بالتنصير والتضليل، وذلك بما تبذلونه وتنفقونه
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) .
(2) سورة النساء الآية 1 (1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}
(3) سورة الحشر الآية 18 (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}
(4) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .(4/182)
في سبيل الله لمواساة إخوانكم والإحسان إليهم وإغنائهم عن عدوهم المتربص بهم الدوائر.
واعلموا أن الصدقة تدفع ميتة السوء وتذهب البلاء، وتطفئ الخطيئة، كما روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (1) وقد قال سبحانه: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (2)
وإنها لمبادرة كريمة ومباركة إن شاء الله تلك التي قام بها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز حفظه الله، إذ أهمه ما يلقاه إخوانه المسلمون وغيرهم في أفريقيا من جوع وعري وعطش وموت فأمر جلالته - حفظه الله - بتشكيل لجان في سائر أنحاء المملكة لإغاثة الجياع ومساعدة المحتاجين هناك، فجزاه الله خيرا وضاعف مثوبته ونصر به الحق.
ولقد نشرت الصحف ووسائل الإعلام أخبار هذه اللجان التي نرجو لها التوفيق بإذن الله، وهي أهداف جليلة حيث تعمل على إنقاذ الأنفس من الهلاك، والمساعدة لاجتياز المحنة، بما تجود به نفوس طالبي الأجر والمثوبة من الله.
فأهيب بكم - أيها الإخوة في الله - للمساعدة والتعاون مع هذه اللجان في جمع المساعدات والتشجيع عليها، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه وقد صح عن رسول الله في أنه قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه (3) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (4) » .
وقال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا النار ولو بشق تمرة (5) »
__________
(1) سورة النحل الآية 96
(2) سورة المزمل الآية 20
(3) صحيح البخاري المظالم والغصب (2446) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) .
(4) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(5) صحيح البخاري الزكاة (1417) ، صحيح مسلم الزكاة (1016) ، سنن النسائي الزكاة (2552) ، مسند أحمد بن حنبل (4/256) .(4/183)
وقال صلى الله عليه وسلم: «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار (1) » وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون أعظم من الجبل (2) » .
والآيات والأحاديث في فضل الصدقة ومساعدة فقراء المسلمين ومواساتهم كثيرة معلومة.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم للمسابقة لما يرضيه، وأن يتقبل منا ومنكم، وأن يجزل مثوبتكم ويخلف عليكم ما تنفقون في سبيل الخير بأحسن الخلف، وأن يرحم إخواننا المسلمين في أفريقيا وغيرها، وأن يغيثهم من فضله، ويرفع عنهم ما نزل بهم من بلاء ومصيبة. إنه جواد كريم وبالإجابة جدير، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2616) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1410) ، صحيح مسلم الزكاة (1014) ، سنن الترمذي الزكاة (661) ، سنن النسائي الزكاة (2525) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1842) ، مسند أحمد بن حنبل (2/331) ، موطأ مالك الجامع (1874) ، سنن الدارمي الزكاة (1675) .(4/184)
تهنئة لحكومة الباكستان لإعلانها
تطبيق الشريعة الإسلامية (1)
فخامة رئيس حكومة باكستان الإسلامية محمد ضياء الحق.
نصر الله به دينه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لقد سمعنا ما تناقلته الإذاعات والصحف من إعلان فخامتكم تحكيم الشريعة الإسلامية في باكستان فسرنا ذلك كثيرا كما سر كل مسلم على وجه الأرض، وإنه ليسرني أن أعرب لفخامتكم عن شكري وعظيم تقديري لهذا العمل الجليل الذي يرضاه الله ورسوله، ويرضاه كل مسلم وهو الواجب عليكم وعلى جميع حكام المسلمين فجزاكم الله خيرا وأمدكم بتوفيقه ونصركم بالحق ونصر الحق بكم.
وإنا وجميع المسلمين نشارك الشعب الباكستاني بالفرحة العظيمة والسرور البالغ بهذا النبأ العظيم الذي أنشئت من أجله الباكستان، ولم يزل أبناؤها المخلصون ينتظرون ذلك ويبذلون في تحقيقه كلما أمكنهم من الوسائل حتى يسره الله على يد فخامتكم مهنئا لكم بهذه المنحة العظيمة والنعمة الكبرى، ويحق لنا جميعا أن نفرح بذلك ونسر به ونشكر الله عليه عملا بقول الله سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (2) فسيروا على بركة الله والله ناصركم ومؤيدكم ما دمتم تنصرون دينه وتحكمون شريعته كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3)
وقال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (4) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (5)
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية العدد الخامس ص269 - 270 سنة 1400هـ.
(2) سورة يونس الآية 58
(3) سورة محمد الآية 7
(4) سورة الحج الآية 40
(5) سورة الحج الآية 41(4/185)
ولا شيء أحسن من حكم الله العالم بأحوال عباده ومصالحهم في العاجل والآجل كما قال الله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1)
وفقكم الله وثبتكم على الحق وأكثر أعوانكم فيه إنه سميع قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة المائدة الآية 50(4/186)
كلمة في مناسبة إجازة الربيع (1)
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فبمناسبة هذه الإجازة - إجازة الربيع - فإني أوصي جميع أبنائي الطلبة والطالبات وجميع المسلمين بتقوى الله عز وجل في جميع الأحوال، وحفظ الأوقات عما يغضب الله سبحانه وتعالى وشغلها بما يرضيه عز وجل ويقرب لديه، ومن ذلك شغلها بحلقات العلم وكتابة العلم والمذاكرة في العلم ومطالعة الكتب المفيدة فإن هذا كله مما ينفع الله به العبد في دنياه وأخراه ويحفظ عليه وقته مما يضره، وأخص جميع أبنائي الطلبة والطالبات بالتحذير من السفر إلى بلاد الكفرة؛ لأن ذلك يضرهم في العقيدة والأخلاق وفي سائر أحوالهم ولا يخفى على كل من له أدنى بصيرة بأحوال العالم أن السفر إلى الخارج يخشى منه الشر الكثير، وقل من يسلم من هذه الأسفار في عقيدته وأخلاقه، اللهم إلا من كان من أهل العلم والبصيرة والاستقامة وسافر للدعوة إلى الله عز وجل وتوجيه الناس إلى الخير وإرشاد الناس إلى ما خلقوا له من توحيد الله وطاعته، فهذا له شأن آخر، والدعوة إلى الله مطلوبة في كل زمان ومكان.
أما من كان ليس بهذه الصفة فإن الواجب عليه الحذر من السفر إلى بلاد الكفر والضلال والفساد والإفساد، فإن في ذلك خطرا عليه في عقيدته وأخلاقه، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين (2) » وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله (3) » وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «لا يقبل الله من مشرك عملا بعد ما أسلم أو يفارق المشركين (4) » والمعنى حتى يفارق
__________
(1) نشرت في جريدة الجزيرة في 16 جمادى الأولى 1407هـ العدد 5223.
(2) سنن الترمذي السير (1604) ، سنن أبو داود الجهاد (2645) .
(3) سنن أبو داود الجهاد (2787) .
(4) سنن النسائي الزكاة (2568) .(4/187)
المشركين.
وهذه الأحاديث وما جاء في معناها محمولة عند أهل العلم على من ليس عنده علم وبصيرة واستقامة، بحيث يأمن على نفسه الوقوع فيما حرم الله، وبحيث يدوم بالدعوة إلى الله والتوجيه إليه وإرشاد الناس إلى أسباب النجاة عملا بقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) وعملا بقوله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (2) الآية، وحرصا على ما وعد الله به الدعاة من الأجر، وما يترتب على دعوتهم من الخير العظيم كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) وقال عليه الصلاة والسلام لما بعث عليا رضي الله عنه إلى خيبر: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (4) » وقال عليه الصلاة والسلام: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (5) » .
فالدعاة إلى الله الذين قد تفقهوا في الدين وعرفوا وجه الدعوة لا خطر عليهم إن شاء الله في السفر إلى بلاد الكافرين لدعوتهم إلى الله وتوجيههم إلى الخير وإرشادهم إلى ما خلقوا له، أما عامة الناس وأشباه العامة من الشباب والطلبة الذين لم يتفقهوا في الدين ولم يتخرجوا من الجامعات والكليات الدينية التي تبصروا فيها وتعلموا فيها ما يجب عليهم وما ينبغي لهم من الدعوة إلى الله والالتزام بما أوجب الله عليهم فهؤلاء عليهم في سفرهم خطر عظيم، فنصيحتي لهم ولغيرهم ممن ليس بالصفة التي ذكرنا أنفا من أهل العلم والإيمان.
وصيتي لهم جميعا أن لا يسافروا إلى بلاد الكفرة وأن يحذروا ذلك، وأن تكون إجازتهم وسيلة إلى قوة إيمانهم وكثرة علمهم، وذلك
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة فصلت الآية 33
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2942) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(5) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .(4/188)
بصرفها في حلقات العلم والمذاكرة في العلم في بلادهم وفي المجالات البعيدة عن الخطر حتى تكون هذه الإجازة فرصة لهم في المزيد من العلم والمذاكرة والدعوة إلى الله عز وجل والسلامة مما يضيع عليهم هذا الوقت الثمين.
رزق الله الجميع التوفيق والهداية، وأعاذنا وجميع إخواننا المسلمين من مضلات الفتن ومن نزغات الشيطان، ووفق الجميع لما فيه صلاح القلوب وصلاح الأعمال وحسن العاقبة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.(4/189)
الشباب والإجازة (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد.
فبمناسبة الإجازة الحالية فإنه يسرني أن أوصي الشباب خاصة والمسلمين عامة بتقوى الله عز وجل أينما كانوا واستغلال هذه الإجازة فيما يرضي الله عنهم ويعينهم على أسباب السعادة والنجاة، ومن ذلك شغل هذه الإجازة بمراجعة الدروس الماضية والمذاكرة فيها مع الزملاء لتثبيتها والاستفادة منها في العقيدة والأخلاق والعمل، كما أوصي جميع الشباب بشغل هذه الإجازة بالاستكثار من قراءة القرآن الكريم بالتدبر والتعقل وحفظ ما تيسر منه؛ لأن هذا الكتاب العظيم هو أصل السعادة لجميع المسلمين، وهو ينبوع الخير ومنبع الهدى، أنزله الله سبحانه تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، وجعله سبحانه هاديا للتي هي أقوم ورغب عباده في تلاوته وتدبر معانيه كما قال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (2) وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) وقال عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (4)
فنصيحتي للشباب ولجميع المسلمين أن يكثروا من تلاوته وتدبر معانيه وأن يتدارسوه بينهم للعلم والاستفادة وأن يعملوا به أينما كانوا، كما أوصي الشباب وجميع المسلمين بالعناية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفظ ما تيسر منها ولا سيما في هذه الإجازة مع العمل بمقتضاها؛ لأنها الوحي الثاني والأصل الثاني من أصول الشريعة.
__________
(1) نشرت بمجلة الدعوة العدد 1023 الاثنين 25 ربيع الثاني 1406 هـ.
(2) سورة محمد الآية 24
(3) سورة ص الآية 29
(4) سورة الإسراء الآية 9(4/190)
كما أوصي جميع الشباب بالحذر من السفر إلى بلاد غير المسلمين لما في ذلك من الخطر على عقيدتهم وأخلاقهم؛ ولأن بلاد المسلمين في أشد الحاجة إلى بقائهم فيها للتوجيه والإرشاد والتناصح والتعاون على البر والتقوى والتواصي بينهم بالحق والصبر عليه.
وأوصي جميع المدرسين في هذه الإجازة باستغلالها في إقامة الحلقات العلمية في المساجد والمحاضرات والندوات لشدة الحاجة إلى ذلك، كما أوصيهم جميعا بالتجول للدعوة إلى الله في البلدان المحتاجة لذلك حسب الإمكان، وزيارة المراكز الإسلامية والأقليات الإسلامية في الخارج للدعوة والتوجيه، وتعليم المسلمين ما يجهلون من دينهم وتشجيعهم على التعاون فيما بينهم والتواصي بالحق والصبر عليه، وتشجيع الطلبة الموجودين هناك على التمسك بدينهم والعناية بما ابتعثوا من أجله والحذر من أسباب الانحراف، مع وصيتهم بالعناية بالقرآن الكريم حفظا وتلاوة وتدبرا، وعملا بالسنة المطهرة حفظا ومذاكرة وعملا بمقتضاها.
وأسأل الله أن يوفق المسلمين شيبا وشبابا وأساتذة وطلابا وعلماء وعامة لكل ما فيه صلاحهم وسعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله وصفوته من خلقه نبينا محمد وآله وصحبه.(4/191)
التحذير من السفر إلى بلاد الكفرة وخطره
على العقيدة والأخلاق
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد:
فقد أنعم الله على هذه الأمة بنعم كثيرة وخصها بمزايا فريدة وجعلها خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، وأعظم هذه النعم نعمة الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده شريعة ومنهج حياة وأتم به على عباده النعمة وأكمل لهم به الدين قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) ولكن أعداء الإسلام قد حسدوا المسلمين على هذه النعمة الكبرى فامتلأت قلوبهم حقدا وغيظا وفاضت نفوسهم بالعداوة والبغضاء لهذا الدين وأهله وودوا لو يسلبون المسلمين هذه النعمة أو يخرجونهم منها، كما قال تعالى في وصف ما تختلج به نفوسهم: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (2) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (3) وقال عز وجل: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} (4)
وقال جل وعلا: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (5)
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة النساء الآية 89
(3) سورة آل عمران الآية 118
(4) سورة الممتحنة الآية 2
(5) سورة البقرة الآية 217(4/192)
والآيات الدالة على عداوة الكفار للمسلمين كثيرة.
والمقصود أنهم لا يألون جهدا ولا يتركون سبيلا للوصول إلى أغراضهم وتحقيق أهدافهم في النيل من المسلمين إلا سلكوه ولهم في ذلك أساليب عديدة ووسائل خفية وظاهرة، فمن ذلك ما تقوم به بين وقت وآخر بعض مؤسسات السفر والسياحة من توزيع نشرات دعائية تتضمن دعوة أبناء هذا البلد لقضاء العطلة الصيفية في ربوع أوربا وأمريكا بحجة تعلم اللغة الإنجليزية ووضع برامج شاملة لجميع وقت المسافر. وهذه البرامج تشتمل على فقرات عديدة منها ما يلي:
أ - اختيار عائلة كافرة لإقامة الطالب لديها مع ما في ذلك من المحاذير الكثيرة.
ب - حفلات موسيقية ومسارح وعروض مسرحية في المدينة التي يقيم فيها.
جـ - زيارة أماكن الرقص والترفيه.
د - ممارسة رقصة الديسكو مع فتيات كافرات ومسابقات في الرقص.
هـ - جاء في ذكر الملاهي الموجودة في إحدى المدن الكافرة ما يأتي: (أندية ليلية. مراقص ديسكو. حفلات موسيقى الجاز والروك. الموسيقى الحديثة. مسارح ودور سينما وحانات كافرة تقليدية) ، وتهدف هذه النشرات إلى تحقيق عدد من الأغراض الخطيرة منها ما يلي:
1 - العمل على انحراف شباب المسلمين وإضلالهم.
2 - إفساد الأخلاق والوقوع في الرذيلة عن طريق تهيئة أسباب الفساد وجعلها في متناول اليد.
3 - تشكيك المسلم في عقيدته.
4 - تنمية روح الإعجاب والانبهار بحضارة الكفرة.
5 - دفع المسلم للتخلق بالكثير من تقاليد الكفار وعاداتهم السيئة.
6 - التعود على عدم الاكتراث بالدين وعدم الالتفات لآدابه وأوامره.
7 - تجنيد الشباب المسلم ليكونوا من دعاة السفر إلى بلد الكفر بعد(4/193)
عودتهم من هذه الرحلة وتشبعهم بأفكار الكفرة وعاداتهم وطرق معيشتهم.
إلى غير ذلك من الأغراض والمقاصد الخطيرة التي يعمل أعداء الإسلام لتحقيقها بكل ما أوتوا من قوة وبشتى الطرق والأساليب الظاهرة والخفية وقد يتسترون ويعملون بأسماء عربية ومؤسسات وطنية إمعانا في الكيد وإبعادا للشبهة وتضليلا للمسلمين عما يرومونه من أغراض في بلاد الإسلام.
لذلك فإني أحذر إخواني المسلمين في هذا البلد خاصة وفي جميع بلاد المسلمين عامة من الانخداع بمثل هذه النشرات والتأثر بها وأدعوهم إلى أخذ الحيطة والحذر وعدم الاستجابة لشيء منها فإنها سم زعاف ومخططات من أعداء الإسلام تفضي إلى إخراج المسلمين من دينهم وتشكيكهم في عقيدتهم وبث الفتن بينهم كما ذكر الله عنهم في محكم التنزيل، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (1) الآية كما أنصح أولياء أمور الطلبة خاصة بالمحافظة على أبنائهم وعدم الاستجابة لطلبهم السفر إلى الخارج؛ لما في ذلك من الأضرار والمفاسد على دينهم وأخلاقهم وبلادهم كما أسلفنا، وفي بلادنا بحمد الله من التعليم لسائر أنواع العلوم ما يغني عن ذلك، وإن إرشادهم إلى أماكن النزهة والاصطياف في بلادنا وهي كثيرة بحمد الله والاستغناء بها عن غيرها، مما يتحقق بذلك المطلوب وتحصل السلامة لشبابنا من الأخطار والمتاعب والعواقب الوخيمة والصعوبات التي يتعرضون لها في البلاد الأجنبية.
هذا وأسأل الله جل وعلا أن يحمي بلادنا وسائر بلاد المسلمين وأبناءهم وبناتهم من كل سوء ومكروه وأن يجنبهم مكائد الأعداء ومكرهم وأن يرد كيدهم في نحورهم، كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا وجميع ولاة أمور المسلمين لكل ما فيه القضاء على هذه الدعايات الضارة والنشرات الخطيرة، وأن يوفقهم لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة البقرة الآية 120(4/194)
حكم السفر خارج الدول الإسلامية
س1: كثير من الناس ابتلي بالأسفار خارج الدول الإسلامية التي لا تبالي بارتكاب المعصية فيها ولا سيما أولئك الذين يسافرون من أجل ما يسمونه شهر العسل.
أرجو من سماحة الشيخ أن يتفضل بنصيحة إلى أبنائه وإخوانه المسلمين وإلى ولاة الأمر كيما يتنبهوا لهذا الموضوع. .
ج1: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فلا ريب أن السفر إلى بلاد الكفر فيه خطر عظيم لا في وقت الزواج وما يسمى بشهر العسل ولا في غيره من الأوقات، فالواجب على المؤمن أن يتقي الله ويحذر أسباب الخطر فالسفر إلى بلاد المشركين وإلى البلاد التي فيها الحرية وعدم إنكار المنكر فيه خطر عظيم على دينه وأخلاقه وعلى دين زوجته أيضا إذا كانت معه، فالواجب على جميع شبابنا وعلى جميع إخواننا ترك هذا السفر وصرف النظر عنه والبقاء في بلادهم وقت الزواج وفي غيره لعل الله جل وعلا يكفيهم شر نزغات الشيطان.
أما السفر إلى تلك البلاد التي فيها الكفر والضلال والحرية وانتشار الفساد من الزنى وشرب الخمر وأنواع الكفر والضلال - ففيه خطر عظيم على الرجل والمرأة، وكم من صالح سافر ورجع فاسدا، وكم من مسلم رجع كافرا، فخطر هذا السفر عظيم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم-: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين (1) » وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يقبل الله من مشرك عملا بعد ما أسلم أو يفارق المشركين (2) » والمعنى: حتى يفارق المشركين.
فالواجب الحذر من السفر إلى بلادهم لا في شهر العسل ولا في غيره، وقد صرح أهل العلم بالنهي عن ذلك والتحذير منه، اللهم إلا رجل عنده علم وبصيرة فيذهب إلى هناك للدعوة إلى الله وإخراج الناس من الظلمات إلى النور وشرح محاسن الإسلام لهم
__________
(1) سنن الترمذي السير (1604) ، سنن أبو داود الجهاد (2645) .
(2) سنن النسائي الزكاة (2568) .(4/195)
وتعليم المسلمين هناك أحكام دينهم مع تبصيرهم وتوجيههم إلى أنواع الخير، فهذا وأمثاله يرجى له الأجر الكبير والخير العظيم، وهو في الغالب لا خطر عليه لما عنده من العلم والتقوى والبصيرة، فإن خاف على دينه الفتنة فليس له السفر إلى بلاد المشركين حفاظا على دينه وطلبا للسلامة من أسباب الفتنة والردة وأما الذهاب من أجل الشهوات وقضاء الأوطار الدنيوية في بلاد الكفر في أوروبا أو غيرها فهذا لا يجوز، لما فيه من الأخطار الدنيوية والعواقب الوخيمة والمخالفة للأحاديث الصحيحة التي أسلفنا بعضها نسأل الله السلامة والعافية.
وهكذا السفر إلى بلاد الشرك من أجل السياحة أو التجارة أو زيارة بعض الناس أو ما أشبه ذلك فكله لا يجوز لما فيه من الخطر العظيم والمخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم الناهية عن ذلك، فنصيحتي لكل مسلم هو الحذر من السفر إلى بلاد الكفر وإلى كل بلاد فيها الحرية الظاهرة والفساد الظاهر وعدم إنكار المنكر، وأن يبقى في بلاده التي فيها السلامة، وفيها قلة المنكرات فإنه خير له وأسلم وأحفظ لدينه.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(4/196)
لا لهذه الرحلات
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وآله وصحبه، وبعد: فقد نشرت إحدى الصحف في عددها رقم 2508 وتاريخ 1 \ 7 \ 1399 هـ الصفحة (8) إعلانا من مؤسسة أمريكية يتضمن دعوة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين سن 10 - 18 سنة إلى الاشتراك في رحلة صيفية لمدة ستة وستين يوما لزيارة كل من إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك.
وأداء لواجب المسئولية وقياما بواجب النصح للأمة نوضح لإخواننا المسلمين وكافة المواطنين ما تنطوي عليه مثل هذه الرحلات من الخطر العظيم على أخلاق أبنائهم ودينهم، فإن القائمين على هذه الرحلات هم من الكفار الذين لا يراعون خلقا ولا دينا إلا الكسب المادي، هذا إذا خلوا من أهداف تبشيرية أو أغراض سيئة أخرى.
كما أن هذه الرحلات إلى بلاد انتشرت فيها كل أنواع الرذائل والأخلاق السافلة والدعوات الهدامة، والذين وجهت إليهم الدعوة للاشتراك هم أطفال وشباب في سن المراهقة ومرحلة التأثر بالتوجيه والقدوة والانبهار بالمظاهر مع قلة العلم وضعف التمييز بين الخير والشر، إن دلوا على الخير سلكوا طريقه، وإن دلوا على الشر أسرعوا إليه إلا من شاء الله.
والناتج عن ذلك من الأضرار لا يحصى، فمنها: ابتعاد الابن عن إشراف أبيه وتوجيهه في سن هو في أمس الحاجة إلى الرعاية والتأديب فيه، ومنها: ما يخشى من هجره لفرائض الدين وتركه لأدائها وفي مقدمتها الصلاة والصيام.
إذ أن موعد الرحلة يصادف شهر رمضان الذي يجب على كل مسلم بالغ صيامه، وكيف يصوم هذا الفتى وهو يجر إلى الملاهي(4/197)
والشهوات؟ ! ومنها: التأثر بالأخلاق الفاسدة التي يعايشها ويشاهدها مما يضعف في نفسه الالتزام بالأخلاق الإسلامية ويؤدي به إلى الاستهانة بها وعدم احترامها، ومنها: وقوعه تحت توجيه الكفار وإشرافهم وولايتهم.
والحكم في هذه الحالة أنه لا يجوز للمسلم السفر إلى بلاد المشركين أو الإقامة بين ظهرانيهم من غير ضرورة إلا لعارف بدينه بأدلته الشرعية يستطيع الدعوة إليه والذب عن الشبه التي ترد عليه ويقوم بأداء واجباته، وعموم الأدلة يؤيد ذلك، ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (2) {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (3)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين (4) » وقوله: «لا يقبل الله من مشرك عملا بعد ما أسلم أو يزايل المشركين (5) » ولأن في ذلك وسيلة إلى ارتكاب المحرم وترك الواجب وما أفضى إليهما فحكمه التحريم.
والخلاصة أن هذه الرحلة لا تجوز من شبابنا وأوليائهم الاستجابة إليها بل يجب على ولاة الأمور وعلى الآباء بذل جميع الوسائل الممكنة لعدم اشتراك الشباب في مثل هذه الرحلات وإحباطها وعدم إنفاذها، حماية لشباب المسلمين مما يهدد عقيدتهم وأخلاقهم.
ولا يفوتني هنا أن أنبه إخواني المسلمين إلى ما يحيكه لهم أعداؤهم من الدسائس والمؤامرات لفتنهم عن دينهم وإبعادهم عنه وإضعاف التزامهم به التي تبينها خطط التبشير التي كشفها الكثير من علماء المسلمين ومفكريهم وفي حملات التشكيك المستمرة.
ويغلط غلطا عظيما من ينفي ذلك ويحسن الظن بهم، فأمامنا من البراهين الجلية ما لا ينكره إلا مغفل أو
__________
(1) سورة النساء الآية 97
(2) سورة النساء الآية 98
(3) سورة النساء الآية 99
(4) سنن الترمذي السير (1604) ، سنن أبو داود الجهاد (2645) .
(5) سنن ابن ماجه الحدود (2536) .(4/198)
فاسق أو مكابر، وما الغزوات والحملات التبشيرية المركزة على بلاد المسلمين في أندونيسيا والفلبين وبنغلادش وأوغندا والسودان وغيرها من البلاد إلا براهين على ذلك، ومن الوسائل التي يسلكها أعداء الإسلام إلى ذلك إنشاء المستشفيات والمدارس والملاجئ وإقامة الاجتماعات الترفيهية والجمعيات الإنسانية، وغايتهم في ذلك تدمير أخلاق المسلمين وعقولهم وقطع صلتهم بالله وإطلاق شهواتهم وهل هناك أنجح من حضنهم للمراهقين في مثل هذه الرحلات وغسل أدمغتهم بما يلقونه عليهم من توجيه.
فتيقظوا أيها الإخوان لهذه الخطط الخبيثة ولا تسلموا أولادكم لأعدائكم فتلقوا بهم إلى التهلكة وتدفعوهم إلى طرق الضلال، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (1)
كما نذكر إخواننا المسلمين بواجبهم تجاه أبنائهم من تربيتهم التربية الصالحة وأمرهم بأداء الشعائر والتحلي بالآداب الإسلامية ونهيهم عن المحرمات وعن الرذائل ووسائلها وغرس الأخلاق الفاضلة في نفوسهم وصيانتهم عن رفقاء السوء وعن المجتمعات الفاسدة.
وننبه القائمين على الصحف المحلية إلى المزيد من التيقظ والغيرة على الدين والمجتمع، وعدم نشر مثل هذه الإعلانات الضارة التي تخدم أعداء الدين وتعود بالضرر على المجتمع وأبنائه في دينهم وعقيدتهم وأخلاقهم، بل الواجب عليهم أن يكونوا وسائل مساعدة في الإصلاح والتوجيه إلى الخير والحق.
رزق الله الجميع السلامة في الدين والدنيا، وأرانا الحق حقا ورزقنا اتباعه، وأرانا الباطل باطلا ورزقنا اجتنابه، وأصلح ولاة أمر المسلمين ونصر بهم الحق، وكتب لجميع المسلمين في كل مكان أسباب الخير والعزة إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة التحريم الآية 6(4/199)
التحذير من القمار وشرب المسكر وبيوع الغرر (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه.
أما بعد:
فإن الله سبحانه أحل لعباده الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمعاملات لحاجة العباد إليها وعظيم نفعها وسلامتها من الضرر، وحرم عليهم عز وجل جميع الخبائث من المطاعم والمشارب والملابس والمعاملات لعظم ضررها وعدم نفعها أو قلته في جنب المضرة الغالبة، قال تعالى في سورة المائدة: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (2) وقال تعالى في السورة المذكورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (4) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (5) وقال تعالى في سورة الأعراف في وصف نبينا وسيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (6) أوضح الله سبحانه في هذه الآيات أنه أحل لعباده الطيبات وحرم عليهم الخبائث، وبين سبحانه أن من جملة الخبائث الخمر لعظم مضرتها وسلبها العقول وجلبها الشحناء والعداوة بين المتعاطين لها وغيرهم وصدها عن ذكر الله وعن الصلاة، فهي أم الخبائث ووسيلة
__________
(1) نشرة صدرت في تاريخ 8 \1 \1408 هـ.
(2) سورة المائدة الآية 4
(3) سورة المائدة الآية 90
(4) سورة المائدة الآية 91
(5) سورة المائدة الآية 92
(6) سورة الأعراف الآية 157(4/200)
الرذائل، وهي من أقبح الكبائر وأعظم الجرائم، وقد وعد الله من مات عليها أن يسقيه من طينة الخبال وهي عصارة أهل النار نستجير بالله من ذلك.
ومن جملة الخبائث الكسبية: الميسر وهو القمار وما ذاك إلا لما يترتب عليه من الأضرار العظيمة التي منها سلب الثروات وأكل المال بغير حق وجلب الشحناء والعداوة والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وكثير من الناس اليوم يتعاطى الميسر ولا يبالي بما قاله الله ورسوله في تحريمه والنهي عنه ولا بما يترتب عليه من المفاسد والأضرار وذلك لما جبلت عليه القلوب من الجشع والطمع والحرص على استحصال المال بكل وسيلة ولو كان في ذلك غضب الله وعقابه، بل ولو كان في ذلك ذهاب ماله وتلف نفسه في العاقبة إلا من شاء الله من العباد، وما ذاك إلا لسكر القلوب بحب المال والحرص عليه ونسيان ما يترتب على وسائله المحرمة كالقمار وبيع الغرر من العواقب الوخيمة في الدنيا والآخرة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «نهى عن بيع الغرر (1) » ومن المعاملة الداخلة في القمار وفي بيع الغرر ما حدث في هذا العصر من وضع بعض الشركات والتجار جوائز خفية في بعض السلع التي يراد بيعها طمعا في استنزاف ثروات المسلمين وترغيبا لهم في شراء السلع المشتملة على الجوائز بأغلى من ثمنها المعتاد والاستكثار من تلك السلع.
رجاء الظفر بتلك الجوائز، ولا ريب أن هذه المعاملات من الميسر ومن بيع الغرر؛ لأن المشتري يبذل ماله الكثير رجاء مال مجهول لا يدري هل يظفر به أم لا وهذا من الميسر وبيع الغرر الذي حذر الله ورسوله منه، وهكذا بيع البطاقات ذوات الأرقام ليفوز مشتريها ببعض الجوائز إذا حصل على الرقم المطلوب، ولا شك أن هذا العمل من الميسر الذي حرمه الله لما فيه من المخاطرة وأكل الأموال بالباطل.
فاتقوا الله أيها المسلمون واحذروا هذه المعاملات المحرمة وحذروا منها إخوانكم واحرصوا على حفظ أموالكم وعدم صرفها إلا فيما تتحققون منفعته وسلامته مما يخالف شرع الله، وإياكم أن تساعدوا
__________
(1) صحيح مسلم البيوع (1513) ، سنن الترمذي البيوع (1230) ، سنن النسائي البيوع (4518) ، سنن أبو داود البيوع (3376) ، سنن ابن ماجه التجارات (2194) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، سنن الدارمي البيوع (2563) .(4/201)
أعداءكم وأرباب الجشع من التجار والشركات بما يسلب أموالكم ويغضب الله عليكم، ويجب على الحكومة وفقها الله لكل خير أن تمنع هذه المعاملات وأن تمنع ورود هذه السلع المشتملة على الجوائز التي توقع الناس في القمار وتسلب الأموال وتضر المجتمع، نسأل الله أن يوفق الحكومة والمسلمين لما فيه صلاح البلاد والعباد وأن يهدينا وتجارنا وشركاتنا وسائر المسلمين لما يرضي الله ويقرب لديه وينفع المسلمين إنه على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.(4/202)
هذه المعاملة من القمار (1)
السؤال: في مدينتنا جمعية تعاونية قامت بعرض سيارة أمام مدخلها بحيث من يشتري منها بضائع بالسعر المادي بمائة درهم فأكثر تصرف له مجانا قسيمة مرقمة مطبوعا فيها " قيمتها عشرة دراهم " ويتم فيما بعد سحب يفوز فيه صاحب الحظ السعيد - كما يقولون - بتلك السيارة المعروضة. وسؤالي هو:
1 - ما حكم الاشتراك في هذا السحب بتلك القسيمة المصروفة بدون مقابل ولا يخسر المشترك شيئا في حالة عدم الفوز؟
2 - ما حكم الشراء من تلك الجمعية بغرض الحصول على القسيمة المذكورة للتمكن من الاشتراك في القرعة؟
وبما أن الناس هنا بما فيهم المثقفون مترددون ومحتارون قبل هذا الأمر، أرجو من سماحتكم الإجابة على السؤالين المرفقين بما تيسر من الدليل ليكون المسلمون على بينة في دينهم.
جزاكم الله خيرا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
م. ع. د
الفجيرة - الإمارات العربية المتحدة.
الجواب:
هذه المعاملة تعتبر من القمار وهو الميسر الذي حرمه الله والمذكور في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (3)
فالواجب على ولاة الأمر وأهل العلم في الفجيرة وغيرها إنكار هذه المعاملة والتحذير منها، لما في ذلك من مخالفة كتاب الله العزيز وأكل أموال الناس بالباطل، رزق الله الجميع الهداية والاستقامة على الحق.
__________
(1) مجلة الدعوة العدد 1145 في 29 \ 10 \ 1408 هـ.
(2) سورة المائدة الآية 90
(3) سورة المائدة الآية 91(4/203)
تعليق موجز على ما كتبه بعض الكتاب
في مجلة اليمامة الصادرة بعدد 684
وتاريخ 20 \ 3 \ 1402 هـ لإيضاح الحق.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فقد اطلعت على القصة المنقولة من تاريخ ابن جرير الطبري رحمه الله عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال ما نصه:
(فاتبعته فدخل دارا ثم دخل حجرة فاستأذنت وسلمت فأذن لي فدخلت عليه فإذا هو جالس على مسح (بساط) متكئ على وسادتين من أدم محشوتين ليفا، فنبذ إلي بإحداهما فجلست عليها وإذا بهو في صفة فيها بيت عليه ستير فقال: يا أم كلثوم غداءنا، فأخرجت إليه خبزة بزيت في عرضها ملح لم يدق، فقال: يا أم كلثوم ألا تخرجين إلينا تأكلين معنا من هذا. قالت: إني أسمع عندك حس رجل قال: نعم ولا أراه من أهل البلد، قالت: لو أردت أن أخرج إلى الرجال لكسوتني كما كسا ابن جعفر امرأته، وكما كسا الزبير امرأته، وكما كسا طلحة امرأته، قال: أو ما يكفيك أن يقال: أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وامرأة أمير المؤمنين عمر. فقال: كل فلو كانت راضية لأطعمتك أطيب من هذا) اهـ.
وهذه القصة باطلة لا تثبت رواية ولا دراية.
أما الرواية: فلأن مدارها على جماعة من الضعفاء وبعضهم متهم بالكذب وتنتهي القصة إلى مبهم لا يعرف من هو ولا تعرف حاله وهو الذي رواها عن عمر وبذلك يعلم بطلانها من حيث الرواية.(4/204)
وأما من حيث الدراية فمن وجوه:
1 - شذوذها ومخالفتها لما هو معلوم من سيرة عمر رضي الله عنه وشدته في الحجاب وغيرته العظيمة وحرصه على أن يحجب النبي صلى الله عليه وسلم نساءه حتى أنزل الله آية الحجاب.
2 - مخالفتها لأحكام الإسلام التي لا تخفى على عمر ولا غيره من أهل العلم، وقد دل القرآن والسنة النبوية على وجوب الاحتجاب وتحريم الاختلاط بين الرجال والنساء على وجه يسبب الفتنة ودواعيها.
3 - ما في متنها من النكارة الشديدة التي تتضح لكل من تأملها. وبكل حال فالقصة موضوعة على عمر بلا شك للتشويه من سمعته أو للدعوة إلى الفساد بسفور النساء للرجال الأجانب واختلاطهن بهم، أو لمقاصد أخرى سيئة. نسأل الله العافية.
ولقد أحسن الشيخ أبو تراب الظاهري، والشيخ محمد أحمد حساني، والدكتور هاشم بكر حبشي فيما كتبوه في رد هذه القصة وبيان بطلانها وأنه لا يصح مثلها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جزاهم الله خيرا وضاعف مثوبتهم وزادنا وإياهم علما وتوفيقا وجعلنا وإياهم وسائر إخواننا من أنصار الحق.
وللمشاركة في بيان الحق وإبطال الباطل رأيت تحرير هذه الكلمة الموجزة ليزداد القراء علما ببطلان هذه القصة، وأنها في غاية السقوط للوجوه السالف ذكرها وغيرها، والله المسئول أن يهدينا جميعا إلى سواء السبيل، وأن يعيذنا وسائر إخواننا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه سميع قريب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(4/205)
احذروا الصحف الخليعة (1)
لقد أصيب العالم الإسلامي عامة وسكان الجزيرة العربية خاصة بسيل من الصحف التي تحمل بين طياتها أشكالا كثيرة من الصور الخليعة، المثيرة للشهوات، الجالبة للفساد، الداعية للدعارة، الفاتنة للشباب والشابات، وكم حصل في ضمن ذلك من أنواع الفساد لكل من يطالع تلك الصور العارية وأشباهها، وكم شغف بها من الشباب من لا يحصى كثرة، وكم هلك بسمومها من شباب وفتيات استحسنوها ومالوا إليها وقلدوا أهلها، وكم في طيات تلك الصحف من مقالات إلحادية تنشر الأفكار المسمومة والقصائد الباطلة وتدعو إلى إنكار الأديان ومحاربة الإسلام، وإن من أقبح تلك الصحف وأكثرها ضررا: المصور، وآخر ساعة، والجيل، وروز اليوسف، وصباح الخير، ومجلة (العربي) ... فالواجب على حكومتنا - وفقها الله - منع هذه الصحف منعا باتا لما فيها من الضرر الكبير على المسلمين في عقائدهم وأخلاقهم ودينهم ودنياهم.
ولا ريب أن ولاة الأمر أول مسئول عن حفظ دين الرعية وأخلاقهم، ولا شك أن هذه الصحف مما يفسد الدين والأخلاق، ويضر المسلمين ضررا ظاهرا في الدين والدنيا ويزلزل عقائدهم ويحدث الشكوك والمشاكل الكثيرة بينهم والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (2) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} (3)
ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (4) ولا ريب أن القضاء على هذه الصحف ومنع دخولها البلاد من أعظم نصر الله وحماية دينه، وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع
__________
(1) نشرت في مجلة '' راية الإسلام '' التي كانت تصدر بالرياض، العدد السابع، جمادى الثانية 1380 هـ.
(2) سورة الحج الآية 40
(3) سورة الحج الآية 41
(4) سورة محمد الآية 7(4/206)
وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع ومسئول عن رعيته والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها والعبد راع في مال سيده ومسئول عن رعيته (1) » وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة (2) » . رواه مسلم.
فيا ولاة أمر المسلمين اتقوا الله في المسلمين وحاربوا هذه الصحف الهدامة وخذوا على أيدي السفهاء، وأغلقوا أبواب الفساد تفوزوا بالنجاة والسعادة وتنتشلوا بذلك جما غفيرا من الفتيان والفتيات من وهدة هذا التيار الجارف وحمأة هذه الصحف الخبيثة المدمرة، ويا معشر المسلمين حاربوا هذه الصحف الخبيثة المدمرة، ولا تشتروها بقليل ولا كثير، فإن بيعها وثمنها حرام، وإنما الواجب إتلافها أينما وجدت دفعا لضررها وحماية للمسلمين من شرها، أراح الله منها العباد والبلاد ووفق ولاة أمر المسلمين لما فيه صلاح دينهم ودنياهم وسلامة عقائدهم، وأخلاقهم، إنه على كل شيء قدير..
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (893) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .
(2) صحيح مسلم كتاب الإيمان (142) .(4/207)
جواب حول:
إصدار المجلات الخليعة (1)
يسأل قارئ من جدة قائلا:
ما حكم إصدار مجلات تظهر فيها النساء سافرات وبطريقة مغرية. وتهتم بأخبار الممثلين والممثلات؟ وما حكم من يعمل في هذه المجلة ومن يساعد على توزيعها. ومن يشتريها.
الجواب:
لا يجوز إصدار المجلات والصحف التي تشتمل على نشر الصور النسائية أو الداعية إلى الزنا والفواحش أو اللواط أو شرب المسكرات أو نحو ذلك مما يدعو إلى الباطل ويعين عليه، ولا يجوز العمل في مثل هذه المجلات لا بالكتابة ولا بالترويج؛ لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان ونشر الفساد في الأرض والدعوة إلى إفساد المجتمع ونشر الرذائل، وقد قال الله عز وجل في كتابه المبين: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (3) » خرجه مسلم في صحيحه.
وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: «صنفان من أهل النار لم أرهما: رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مائلات
__________
(1) الدعوة العدد 1032 الاثنين 29 جمادى الآخرة سنة 1406 هـ.
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .(4/408)
مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا (1) » خرجه مسلم في صحيحه أيضا، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
نسأل الله أن يوفق المسلمين لما فيه صلاحهم ونجاتهم، وأن يهدي القائمين على وسائل الإعلام وعلى شئون الصحافة لكل ما فيه سلامة المجتمع ونجاته، وأن يعيذهم من شرور أنفسهم ومن مكائد الشيطان إنه جواد كريم.
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/356) .(4/209)
حكم التصوير
السؤال:
ما قولكم في حكم التصوير الذي قد عمت به البلوى وانهمك فيه الناس؟
تفضلوا بالجواب الشافي عما يحل منه وما يحرم، أثابكم الله تعالى. .
الجواب: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فقد جاءت الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح والمسانيد والسنن دالة على تحريم تصوير كل ذي روح، آدميا كان أو غيره، وهتك الستور التي فيها الصور، والأمر بطمس الصور ولعن المصورين، وبيان أنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة. وأنا أذكر لك جملة من الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الباب، وأذكر بعض كلام العلماء عليها، وأبين ما هو الصواب في هذه المسألة إن شاء الله.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة (1) » لفظ مسلم.
وفيهما أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون (2) » .
ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الذين
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5953) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2111) ، مسند أحمد بن حنبل (2/232) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5950) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2109) ، سنن النسائي الزينة (5364) ، مسند أحمد بن حنبل (1/375) .(4/210)
يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم: أحيوا ما خلقتم (1) » لفظ البخاري.
وروى البخاري في الصحيح عن أبي جحيفة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور (2) » .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ (3) » متفق عليه.
وخرج مسلم عن سعيد بن أبي الحسن قال: «جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني رجل أصور هذه الصور فأفتني فيها، فقال: (ادن مني) فدنا منه، ثم قال: (ادن مني) فدنا منه، حتى وضع يده على رأسه فقال: أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسا تعذبه في جهنم وقال: إن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له (4) » .
وخرج البخاري قوله: إن كنت لا بد فاعلا ... إلخ في آخر الحديث الذي قبل بنحو ما ذكره مسلم.
وخرجه الترمذي في جامعه وقال: حسن صحيح عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصورة في البيت ونهى أن يصنع ذلك (5) » .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل فلما رآه هتكه وتلون وجهه وقال: يا عائشة أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله قالت عائشة: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين (6) » . رواه مسلم.
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5951) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2108) ، سنن النسائي الزينة (5361) ، مسند أحمد بن حنبل (2/55) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5962) ، مسند أحمد بن حنبل (4/308) .
(3) صحيح البخاري اللباس (5963) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2110) ، سنن الترمذي اللباس (1751) ، سنن أبو داود الأدب (5024) ، مسند أحمد بن حنبل (1/241) .
(4) صحيح مسلم اللباس والزينة (2110) ، مسند أحمد بن حنبل (1/308) .
(5) سنن الترمذي اللباس (1749) ، مسند أحمد بن حنبل (3/335) .
(6) صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) .(4/211)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيه تماثيل فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم هتكه وقال: أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله قالت فجعلناه وسادة أو وسادتين (1) » خرجه البخاري ومسلم، وزاد مسلم بعد قوله: (هتكه) : (وتلون وجهه) . اهـ.
وعنها قالت: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم من سفر وعلقت درنوكا فيه تماثيل فأمرني أن أنزعه فنزعته (2) » . رواه البخاري، ورواه مسلم بلفظ: «وقد سترت على بابي درنوكا فيه الخيل ذوات الأجنحة فأمرني فنزعته (3) » .
وعن القاسم بن محمد عن عائشة أيضا قالت: «اشتريت نمرقة فيها تصاوير فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل فعرفت في وجهه الكراهية قالت: يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله ما أذنبت؟ قال: ما بال هذه النمرقة؟ فقالت: اشتريتها لتقعد عليها وتوسدها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة (4) » رواه البخاري ومسلم، زاد مسلم من رواية ابن الماجشون قالت: فأخذته فجعلته مرفقتين، فكان يرتفق بهما في البيت.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة (5) » متفق عليه واللفظ لمسلم.
وخرج مسلم عن زيد بن خالد عن أبي طلحة مرفوعا قال: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تماثيل (6) » .
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما «عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام قال: (إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة) (7) » . وخرج مسلم عن عائشة وميمونة مثله.
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5954) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5956) .
(3) صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2105) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) ، مسند أحمد بن حنبل (6/246) ، موطأ مالك الجامع (1803) .
(5) صحيح البخاري بدء الخلق (3225) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2106) ، سنن الترمذي الأدب (2804) ، سنن النسائي الزينة (5348) ، سنن أبو داود اللباس (4153) ، سنن ابن ماجه اللباس (3649) ، مسند أحمد بن حنبل (4/30) .
(6) صحيح مسلم اللباس والزينة (2106) .
(7) صحيح البخاري بدء الخلق (3227) .(4/212)
وخرج مسلم أيضا عن أبي الهياج الأسدي قال: «قال لي علي رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته (1) » وخرج أبو داود بسند جيد عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب زمن الفتح وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها النبي صلى الله عليه وسلم حتى محيت كل صورة فيها.
وخرج أبو داود الطيالسي في مسنده عن أسامة قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة ورأى صورا، فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول: «قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون» قال الحافظ: إسناده جيد.
قال: وخرج عمر بن شبه من طريق عبد الرحمن بن مهران عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فأمرني فأتيته بماء في دلو فجعل يبل الثوب ويضرب به على الصور ويقول: قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون» . اهـ.
وخرج البخاري في صحيحه عن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه (2) » . ورواه الكشميهني بلفظ " تصاوير " وترجم عليه البخاري رحمه الله بـ " باب نقض الصور " وساق هذا الحديث.
وفي الصحيحين عن بسر بن سعيد عن زيد بن خالد عن أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة (3) » قال بسر: ثم اشتكى زيد فعدناه فإذا على بابه ستر فيه صورة، فقلت لعبيد الله الخولاني ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ فقال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال: إلا رقما في ثوب؟ وفي رواية لهما من طريق عمرو بن الحارث عن بكير الأشج عن بسر: فقلت لعبيد الله
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5952) ، سنن أبو داود اللباس (4151) .
(3) صحيح البخاري بدء الخلق (3226) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2106) ، سنن أبو داود اللباس (4155) ، مسند أحمد بن حنبل (4/30) .(4/213)
الخولاني: ألم يحدثنا في التصاوير؟ قال إنه قال: إلا رقما في ثوب. ألم تسمعه؟ قلت: لا. قال بلى قد ذكر ذلك.
وفي المسند وسنن النسائي «عن عبيد الله بن عبد الله أنه دخل على أبي طلحة الأنصاري يعوده فوجد عنده سهل بن حنيف، فأمر أبو طلحة إنسانا ينزع نمطا تحته، فقال له سهل: لم تنزع؟ قال: لأنه فيه تصاوير وقد قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد علمت. قال: ألم يقل: إلا رقما في ثوب؟ قال بلى ولكنه أطيب لنفسي (1) » . اهـ وسنده جيد، وأخرجه الترمذي بهذا اللفظ وقال: حسن صحيح.
وخرج أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد جيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل فقال لي أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن ومر بالكلب فليخرج ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا الكلب لحسن أو لحسين كان تحت نضد لهما فأمر به فأخرج (2) » . هذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي نحوه. ولفظ النسائي: «استأذن جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال ادخل فقال كيف أدخل وفي بيتك ستر فيه تصاوير؟ فإما أن تقطع رءوسها أو تجعل بساطا يوطأ فإنا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه تصاوير (3) » اهـ.
وفي الباب من الأحاديث غير ما ذكرنا كثير.
وهذه الأحاديث وما جاء في معناها دالة دلالة ظاهرة على تحريم التصوير لكل ذي روح، وأن ذلك من كبائر الذنوب المتوعد عليها بالنار.
وهي عامة لأنواع التصوير سواء كان للصورة ظل أم لا، وسواء كان
__________
(1) سنن الترمذي اللباس (1750) ، سنن النسائي الزينة (5349) ، موطأ مالك الجامع (1802) .
(2) سنن الترمذي الأدب (2806) ، سنن أبو داود اللباس (4158) .
(3) سنن النسائي الزينة (5365) .(4/214)
التصوير في حائط أو ستر أو قميص أو مرآة أو قرطاس أو غير ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين ما له ظل وغيره، ولا بين ما جعل في ستر أو غيره، بل لعن المصور، وأخبر أن المصورين أشد الناس عذابا يوم القيامة، وأن كل مصور في النار، وأطلق ذلك ولم يستثن شيئا.
ويؤيد العموم «أنه لما رأى التصاوير في الستر الذي عند عائشة هتكه وتلون وجهه وقال: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله (1) » وفي لفظ أنه قال عندما رأى الستر: «إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم (2) » فهذا اللفظ ونحوه صريح في دخول المصور للصور في الستور ونحوها في عموم الوعيد.
وأما قوله في حديث أبي طلحة وسهل بن حنيف: " إلا رقما في ثوب " فهذا استثناء من الصور المانعة من دخول الملائكة لا من التصوير، وذلك واضح من سياق الحديث، والمراد بذلك إذا كان الرقم في ثوب ونحوه يبسط ويمتهن، ومثله الوسادة الممتهنة كما يدل عليه حديث عائشة المتقدم في قطعها الستر وجعله وسادة أو وسادتين. وحديث أبي هريرة «وقول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: " فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن " ففعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم (3) » . ولا يجوز حمل الاستثناء على الصورة في الثوب المعلق أو المنصوب على باب أو جدار أو نحو ذلك؛ لأن أحاديث عائشة صريحة في منع مثل هذا الستر، ووجوب إزالته أو هتكه كما تقدم ذكرها بألفاظها.
وحديث أبي هريرة صريح في أن مثل هذا الستر مانع من دخول الملائكة، حتى يبسط أو يقطع رأس التمثال الذي فيه فيكون كهيئة الشجرة، وأحاديثه عليه الصلاة والسلام لا تتناقض بل يصدق بعضها
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2105) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) ، مسند أحمد بن حنبل (6/246) ، موطأ مالك الجامع (1803) .
(3) سنن الترمذي الأدب (2806) ، سنن أبو داود اللباس (4158) .(4/215)
بعضا، ومهما أمكن الجمع بينها بوجه مناسب ليس فيه تعسف وجب وقدم على مسلكي الترجيح والنسخ كما هو مقرر في علمي الأصول ومصطلح الحديث، وقد أمكن الجمع بينها هنا بما ذكرناه فلله الحمد.
وقد رجح الحافظ في الفتح الجمع بين الأحاديث بما ذكرته آنفا وقال: (قال الخطابي: والصورة التي لا تدخل الملائكة البيت الذي هي فيه ما يحرم اقتناؤه، وهو ما يكون من الصور التي فيها الروح مما لم يقطع رأسه أو لم يمتهن) . اهـ.
وقال الخطابي أيضا رحمه الله تعالى: (إنما عظمت عقوبة المصور لأن الصور كانت تعبد من دون الله؛ ولأن النظر إليها يفتن وبعض النفوس إليها تميل) . اهـ.
وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم: " باب تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه، وإن الملائكة عليهم السلام لا يدخلون بيتا فيه صورة أو كلب ".
(قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر؛ لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره فصنعته حرام بكل حال؛ لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى، وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها، وأما تصوير صورة الشجرة ورحال الإبل وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام.
هذا حكم نفس التصوير. وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان فإن كان معلقا على حائط أو ثوبا ملبوسا أو عمامة ونحو ذلك مما لا يعد ممتهنا فهو حرام، وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام ... إلى أن قال: ولا فرق في هذا كله بين ما له ظل وما لا ظل له.(4/216)
هذا تلخيص مذهبنا في المسألة، وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم.
وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل، وهذا مذهب باطل، فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصورة فيه لا يشك أحد أنه مذموم، وليس لصورته ظل، مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة) . اهـ.
قال الحافظ بعد ذكره لملخص كلام النووي هذا:
(قلت: ويؤيد التعميم فيما له ظل وما لا ظل له ما أخرجه أحمد من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره ولا صورة إلا لطخها (1) » أي طمسها. الحديث. وفيه «من عاد إلى صنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (2) » . اهـ.
قلت: ومن تأمل الأحاديث المتقدمة تبين له دلالتها على تعميم التحريم، وعدم الفرق بين ما له ظل وغيره كما تقدم توضيح ذلك.
فإن قيل: قد تقدم في حديث زيد بن خالد عن أبي طلحة أن بسر بن سعيد الراوي عن زيد قال: ثم اشتكى زيد فعدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة، فظاهر هذا يدل على أن زيدا يرى جواز تعليق الستور التي فيها الصور.
فالجواب: أن أحاديث عائشة المتقدمة وما جاء في معناها دالة على تحريم تعليق الستور التي فيها الصور وعلى وجوب هتكها، وعلى أنها تمنع دخول الملائكة، وإذا صحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تجز
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/87) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/87) .(4/217)
معارضتها بقول أحد من الناس ولا فعله كائنا من كان، ووجب على المؤمن اتباعها والتمسك بما دلت عليه، ورفض ما خالفه كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (2) فقد ضمن الله سبحانه في هذه الآية الهداية لمن أطاع الرسول، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3)
ولعل زيدا رضي الله عنه لم يعلم الستر المذكور، أو لم تبلغه الأحاديث الدالة على تحريم تعليق الستور التي فيها الصور، فأخذ بظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: إلا رقما في ثوب فيكون معذورا لعدم علمه بها.
وأما من علم الأحاديث الصحيحة الدالة على تحريم نصب الستور التي فيها الصور فلا عذر له في مخالفتها. ومتى خالف العبد الأحاديث الصحيحة الصريحة اتباعا للهوى، أو تقليدا لأحد من الناس استوجب غضب الرب ومقته، وخيف عليه من زيغ القلب وفتنته، كما حذر الله سبحانه من ذلك في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} (4) الآية.
وفي قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (5) وقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} (6) الآية.
وتقدم في حديث أبي هريرة الدلالة على أن الصورة إذا قطع رأسها جاز تركها في البيت؛ لأنها تكون كهيئة الشجرة، وذلك يدل على أن تصوير
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) سورة النور الآية 54
(3) سورة النور الآية 63
(4) سورة النور الآية 63
(5) سورة الصف الآية 5
(6) سورة التوبة الآية 77(4/218)
الشجر ونحوه مما لا روح فيه جائز، كما تقدم ذلك صريحا من رواية الشيخين عن ابن عباس موقوفا عليه.
ويستدل بالحديث المذكور أيضا على أن قطع غير الرأس من الصورة كقطع نصفها الأسفل ونحوه لا يكفي ولا يبيح استعمالها، ولا يزول به المانع من دخول الملائكة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهتك الصور ومحوها وأخبر أنها تمنع من دخول الملائكة إلا ما امتهن منها أو قطع رأسه، فمن ادعى مسوغا لبقاء الصورة في البيت غير هذين الأمرين فعليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الصورة إذا قطع رأسها كان باقيها كهيئة الشجرة، وذلك يدل على أن المسوغ لبقائها خروجها عن شكل ذوات الأرواح ومشابهتها للجمادات، والصورة إذا قطع أسفلها وبقي رأسها لم تكن بهذه المثابة لبقاء الوجه، ولأن في الوجه من بديع الخلقة والتصوير ما ليس في بقية البدن، فلا يجوز قياس غيره عليه عند من عقل عن الله ورسوله مراده.
وبذلك يتبين لطالب الحق أن تصوير الرأس وما يليه من الحيوان داخل في التحريم والمنع؛ لأن الأحاديث الصحيحة المتقدمة تعمه، وليس لأحد أن يستثني من عمومها إلا ما استثناه الشارع.
ولا فرق في هذا بين الصور المجسدة وغيرها من المنقوشة في ستر أو قرطاس أو نحوهما، ولا بين صور الآدميين وغيرها من كل ذي روح، ولا بين صور الملوك والعلماء وغيرهم، بل التحريم في صور الملوك والعلماء ونحوهم من المعظمين أشد؛ لأن الفتنة بهم أعظم ونصب صورهم في المجالس ونحوها وتعظيمها من أعظم وسائل الشرك وعبادة أرباب الصور من دون الله، كما وقع ذلك لقوم نوح، وتقدم في كلام الخطابي الإشارة إلى هذا.
وقد كانت الصور في عهد الجاهلية كثيرة معظمة معبودة من دون الله(4/219)
حتى بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فكسر الأصنام، ومحى الصور وأزال الله به الشرك ووسائله، فكل من صور صورة أو نصبها أو عظمها فقد شابه الكفار فيما صنعوا، وفتح للناس باب الشرك ووسائله، ومن أمر بالتصوير أو رضي به فحكمه حكم فاعله في المنع واستحقاق الوعيد؛ لأنه قد تقرر في الكتاب والسنة وكلام أهل العلم تحريم الأمر بالمعصية والرضا بها كما يحرم فعلها وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (1) وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (2) فدلت الآية على أن من حضر المنكر ولم يعرض عن أهله فهو مثلهم.
فإذا كان الساكت عن المنكر مع القدرة على الإنكار أو المفارقة مثل من فعله، فالآمر بالمنكر أو الراضي به يكون أعظم جرما من الساكت، وأسوأ حالا، وأحق بأن يكون مثل من فعله. والأدلة في هذا المعنى كثيرة يجدها من طلبها في مظانها.
وبما ذكرناه في هذا الجواب من الأحاديث وكلام أهل العلم يتبين لمريد الحق أن توسع الناس في تصوير ذوات الأرواح في الكتب والمجلات والجرائد والرسائل خطأ بين ومعصية ظاهرة يجب على من نصح نفسه الحذر منها وتحذير إخوانه من ذلك، بعد التوبة النصوح مما قد سلف.
ويتبين له أيضا مما سلف من الأدلة أنه لا يجوز بقاء هذه التصاوير المشار إليها على حالها بل يجب قطع رأسها أو طمسها ما لم تكن في بساط
__________
(1) سورة الأنعام الآية 68
(2) سورة النساء الآية 140(4/220)
ونحوه مما يداس ويمتهن فإنه لا بأس بتركها على حالها كما تقدم الدليل على ذلك في أحاديث عائشة وأبي هريرة، وأما اللعب المصورة على صورة شيء من ذوات الأرواح فقد اختلف العلماء في جواز اتخاذها للبنات وعدمه.
وقد ثبت في الصحيحين «عن عائشة قالت كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعن منه فيسربهن إلي يلعبن معي (1) » .
قال الحافظ في الفتح: (استدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات بهن، وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور، وبه جزم عياض، ونقله عن الجمهور، وأنهم أجازوا بيع اللعب للبنات لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن، قال: وذهب بعضهم إلى أنه منسوخ، وإليه مال ابن بطال، وحكى عن ابن أبي زيد عن مالك أنه كره أن يشتري الرجل لابنته الصور، ومن ثم رجح الداودي أنه منسوخ.
وقد ترجم ابن حبان: " الإباحة لصغار النساء اللعب باللعب " وترجم له النسائي: " إباحة الرجل لزوجته اللعب بالبنات " فلم يقيد بالصغر، وفيه نظر.
قال البيهقي بعد تخريج الأحاديث: ثبت النهي عن اتخاذ الصور، فيحمل على أن الرخصة لعائشة في ذلك كانت قبل التحريم، وبه جزم ابن الجوزي. إلى أن قال: وأخرج أبو داود والنسائي من وجه آخر عن عائشة قالت: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر) ، فذكر الحديث في هتكه الستر الذي نصبته على بابها، قالت: فكشف ناحية الستر على بنات لعائشة - لعب - فقال ما هذا يا عائشة؟ قالت بناتي قالت ورأى فيها فرسا مربوطا له جناحان فقال: ما هذا؟ قلت: فرس له جناحان قلت ألم
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .(4/221)
" تسمع أنه كان لسليمان خيل لها أجنحة "؟ فضحك (1) » إلى أن قال: قال الخطابي: في هذا الحديث أن اللعب بالبنات ليس كالتلهي بسائر الصور التي جاء فيها الوعيد، وإنما أرخص لعائشة فيها لأنها إذ ذاك كانت غير بالغة.
قلت: وفي الجزم به نظر، لكنه محتمل؛ لأن عائشة كانت في غزوة خيبر بنت أربع عشرة سنة، إما أكملتها أو جاوزتها أو قاربتها، وأما في غزوة تبوك فكانت قد بلغت قطعا، فيترجح رواية من قال: " في خيبر " ويجمع بما قال الخطابي؛ لأن ذلك أولى من التعارض) . انتهى المقصود من كلام الحافظ.
إذا عرفت ما ذكره الحافظ رحمه الله تعالى فالأحوط ترك اتخاذ اللعب المصورة؛ لأن في حلها شكا لاحتمال أن يكون إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة على اتخاذ اللعب المصورة قبل الأمر بطمس الصور، فيكون ذلك منسوخا بالأحاديث التي فيها الأمر بمحو الصور وطمسها إلا ما قطع رأسه أو كان ممتهنا كما ذهب إليه البيهقي وابن الجوزي، ومال إليه ابن بطال، ويحتمل أنها مخصوصة من النهي كما قاله الجمهور لمصلحة التمرين، ولأن في لعب البنات بها نوع امتهان، ومع الاحتمال المذكور والشك في حلها يكون الأحوط تركها، وتمرين البنات بلعب غير مصورة حسما لمادة بقاء الصور المجسدة، وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2) » وقوله في حديث النعمان بن بشير المخرج في الصحيحين مرفوعا: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه (3) » والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (4932) .
(2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .
(3) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .(4/222)
حكم تعليق الصور
س 1: ما حكم تعليق الصور في المنازل وفي غيرها؟ (1) .
الجواب: الحمد لله وحده وبعد:
حكم ذلك التحريم إذا كانت الصور من ذوات الأرواح من بني آدم أو غيرهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته (2) » رواه مسلم في صحيحه، ولما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها علقت على سهوة لها سترا فيه تصاوير فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم هتكه وتغير وجهه صلى الله عليه وسلم وقال: «يا عائشة إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم (3) » أخرجه مسلم وغيره.
لكن إذا كانت الصورة في بساط يمتهن أو وسادة يرتفق بها فلا حرج في ذلك؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان على موعد من جبرائيل فلما جاء جبرائيل امتنع عن دخول البيت فسأله النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن في البيت تمثالا وسترا فيه تصاوير وكلبا فمر برأس التمثال أن يقطع وبالستر أن يتخذ منه وسادتان منتبذتان توطآن ومر بالكلب أن يخرج (4) » ففعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فدخل جبرائيل عليه السلام. أخرجه النسائي وغيره بإسناد جيد، وفي الحديث المذكور أن الكلب كان جرو للحسن أو الحسين تحت نضد في البيت.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب (5) » متفق عليه، وقصة جبرائيل هذه تدل على أن الصورة في البساط ونحوه لا تمنع من دخول الملائكة، ومثل ذلك ما ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها اتخذت من الستر المذكور وسادة يرتفق بها النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) كتاب الدعوة ص 19.
(2) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/96) .
(3) صحيح مسلم اللباس والزينة (2107) ، سنن ابن ماجه التجارات (2151) ، مسند أحمد بن حنبل (6/246) ، موطأ مالك الجامع (1803) .
(4) سنن الترمذي الأدب (2806) ، سنن أبو داود اللباس (4158) .
(5) سنن النسائي الطهارة (261) ، سنن أبو داود اللباس (4152) ، سنن ابن ماجه اللباس (3650) ، مسند أحمد بن حنبل (1/150) ، سنن الدارمي الاستئذان (2663) .(4/223)
الصور والتماثيل:
حكم التماثيل التي توضع في البيت للزينة (1)
سؤال 2: ما حكم التماثيل التي توضع في المنازل للزينة فقط وليس لعبادتها.
الجواب: لا يجوز تعليق التصاوير ولا الحيوانات المحنطة في المنازل ولا في المكاتب ولا في المجالس لعموم الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدالة على تحريم تعليق الصور وإقامة التماثيل في البيوت وغيرها؛ لأن ذلك وسيلة للشرك بالله، ولأن في ذلك مضاهاة لخلق الله وتشبها بأعداء الله، ولما في تعليق الحيوانات المحنطة من إضاعة المال والتشبه بأعداء الله وفتح الباب لتعليق التماثيل المصورة وقد جاءت الشريعة الإسلامية الكاملة بسد الذرائع المفضية إلى الشرك أو المعاصي.
وقد وقع الشرك في قوم نوح بأسباب تصوير خمسة من الصالحين في زمانهم ونصب صورهم في مجالسهم، كما بين الله سبحانه ذلك في كتابه المبين حيث قال سبحانه: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (2) {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} (3) الآية، فوجب الحذر من مشابهة هؤلاء في عملهم المنكر الذي وقع بسببه الشرك.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته (4) » خرجه مسلم في صحيحه، وقال صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون (5) » متفق على صحته، والأحاديث في ذلك كثيرة، والله ولي التوفيق.
__________
(1) كتاب الدعوة ص 18.
(2) سورة نوح الآية 23
(3) سورة نوح الآية 24
(4) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/96) .
(5) صحيح البخاري اللباس (5950) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2109) ، سنن النسائي الزينة (5364) ، مسند أحمد بن حنبل (1/375) .(4/224)
حكم جمع الصور بقصد الذكرى (1)
سؤال 3: هل يجوز جمع الصور بقصد الذكرى أم لا؟ .
الجواب: لا يجوز لأي مسلم ذكرا كان أم أنثى جمع الصور للذكرى أعني صور ذوات الأرواح من بني آدم وغيرهم بل يجب إتلافها؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي رضي الله عنه: «لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته (2) » وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن الصورة في البيت، ولما دخل الكعبة عليه الصلاة والسلام يوم الفتح رأى في جدرانها صورا فطلب ماء وثوبا ثم مسحها، أما صور الجمادات كالجبل والشجر ونحو ذلك فلا بأس به.
__________
(1) كتاب الدعوة ص 242.
(2) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/96) .(4/225)
بسم الله الرحمن الرحيم.
أسئلة مهمة وأجوبتها (1) : كلمة عن تقبيح الوجه ... وأن الله خلق آدم على صورته:
س 1: ورد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ينهي فيه عن تقبيح الوجه، وأن الله سبحانه خلق آدم على صورته ... فما الاعتقاد السليم نحو هذا الحديث؟ . .
ج: الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته (2) » وفي لفظ آخر: على صورة الرحمن. وهذا لا يلزم منه التشبيه والتمثيل.
والمعنى عند أهل العلم أن الله خلق آدم سميعا بصيرا، متكلما إذا شاء، وهذا هو وصف الله فإنه سميع بصير متكلم إذا شاء، وله وجه جل وعلا.
وليس المعنى التشبيه والتمثيل، بل الصورة التي لله غير الصورة التي للمخلوق، وإنما المعنى أنه سميع بصير متكلم إذا شاء ومتى شاء، وهكذا خلق الله آدم، سميعا بصيرا، ذا وجه وذا يد وذا قدم، ولكن ليس السمع كالسمع، وليس البصر كالبصر، وليس المتكلم كالمتكلم، بل لله صفاته جل وعلا التي تليق بجلاله وعظمته، وللعبد صفاته التي تليق به، صفات يعتريها الفناء والنقص، وصفات الله سبحانه كاملة لا يعتريها نقص ولا زوال ولا فناء، ولهذا قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3) وقال سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) فلا يجوز ضرب الوجه، ولا تقبيح الوجه.
__________
(1) هذه الأسئلة وأجوبتها من برنامج نور على الدرب في الشريط رقم 30.
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/519) .
(3) سورة الشورى الآية 11
(4) سورة الإخلاص الآية 4(4/226)
التعزية في أهل المعاصي:
س 2: أحيان تحدث وفاة شخص إما متعمد للانتحار، أو شخص سكير شرب مسكرا يحتوي على كمية كبيرة من السكر المؤدية للوفاة، أو شخص اعتدى عليه للخلاص من شره. فهل يجوز مواساة والدة المتوفي بسبب من هذه الأسباب، أو غيرها ممن يمت له بصلة حيت أنني أتردد كثيرا هل أذهب أم لا؟
ج 2: لا بأس بالتعزية بل تستحب وإن كان الفقيد عاصيا بانتحار أو غيره، كما تستحب لأسرة من قتل قصاصا أو حدا كالزاني المحصن، وهكذا من شرب المسكر حتى مات بسبب ذلك لا مانع في تعزية أهله فيه، ولا مانع من الدعاء له ولأمثاله من العصاة بالمغفرة والرحمة، ويغسل ويصلى عليه، لكن لا يصلي عليه أعيان المسلمين مثل السلطان والقاضي ونحو ذلك، بل يصلي عليه بعض الناس من باب الزجر عن عمله السيء..
أما من مات بعدوان غيره عليه فهذا مظلوم يصلى عليه ويدعى له إذا كان مسلما، وكذا من مات قصاصا - كما تقدم - فهذا يصلى عليه ويدعى له ويعزى أهله في ذلك إذا كان مسلما ولم يحصل منه ما يوجب ردته ... والله ولي التوفيق.(4/227)
صلاة التوبة:
س 3: شاب يقول: في فترة الشباب المبكر من العمر ارتكبت بعض المعاصي، وقد تبت إلى الله ولله الحمد والشكر، ولكن لا زال في نفسي شيء، وسمعت عن صلاة التوبة، أرجو أن تفيدوني نحو هذا جزاكم الله خيرا؟ .
ج 3: التوبة تجب ما قبلها وتمحوه والحمد لله، فلا ينبغي أن يبقى في قلبك شيء من ذلك، والواجب أن تحسن الظن بربك، وأن تعتقد أن الله تاب(4/227)
عليك إن كنت صادقا في توبتك؛ لأن الله يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) فعلق الفلاح بالتوبة، فمن تاب فقد أفلح، وقال سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (2) وهو الصادق سبحانه وتعالى في خبره ووعده، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (3) و (عسى) من الله واجبة.
فعليك أن تحسن ظنك بربك، وأنه قبل توبتك، إذا كنت صادقا في توبتك نادما على ما عملت، مقلعا منه، عازما ألا تعود فيه، وإياك والوساوس، والله جل وعلا يقول في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي (4) » .
فينبغي أن تظن بالله خيرا، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن ظنه بالله (5) » خرجه مسلم في صحيحه.
أما صلاة التوبة فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث الصديق رضي الله عنه أنه قال: «ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتطهر فيحسن الطهور ثم يصلي ركعتين ثم يتوب لله من ذنبه إلا تاب الله عليه (6) » وبالله التوفيق.
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة طه الآية 82
(3) سورة التحريم الآية 8
(4) صحيح البخاري التوحيد (7405) ، سنن الترمذي الدعوات (3603) ، سنن ابن ماجه الأدب (3822) ، مسند أحمد بن حنبل (2/251) .
(5) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2877) ، سنن أبو داود الجنائز (3113) ، سنن ابن ماجه الزهد (4167) ، مسند أحمد بن حنبل (3/391) .
(6) سنن الترمذي تفسير القرآن (3006) ، سنن أبو داود الصلاة (1521) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1395) .(4/228)
السبيل الأمثل في الدعوة إلى الله:
س 4: رسالتان عن السبيل الأمثل للدعوة لله عز وجل، وعن السبيل الأمثل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. الرسالتان يذكر أصحابهما: أنهم يلاحظون أخطاء كثيرة من المسلمين ويتألمون لما يرون ويتمنون أن لو كان في أيديهم شيء لتغيير المنكر ويرجون التوجيه؟ . .
ج 4: الله عز وجل قد بين طريق الدعوة، وماذا ينبغي للداعي، فقال(4/228)
سبحانه وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1)
فالداعي إلى الله يجب أن يكون على علم وبصيرة بما يدعو إليه، وفيما ينهى عنه، حتى لا يقول على الله بغير علم، ويجب الإخلاص لله في ذلك، لا إلى مذهب، ولا إلى رأي فلان أو فلان. ولكنه يدعو إلى الله يريد ثوابه ومغفرته، ويريد صلاح الناس، فلا بد أن يكون على إخلاص وعلى علم، وقال عز وجل. {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2)
فهذا بيان كيفية الدعوة، وأنها تكون بالحكمة أي بالعلم (قال الله، وقال الرسول) سمي العلم بالحكمة: لأنه يردع عن الباطل، ويعين على اتباع الحق. ويكون مع العلم موعظة حسنة، وجدال بالتي هي أحسن، عند الحاجة إلى ذلك؛ لأن بعض الناس قد يكفيه بيان الحق بأدلته، لكونه يطلب الحق فمتى ظهر له قبله، فلا يكون في حاجة إلى الموعظة، وبعض الناس يكون عنده بعض التوقف وبعض الجفاء، فيحتاج إلى الموعظة الحسنة. فالداعي إلى الله يعظ ويذكر بالله متى احتاج إلى ذلك مع الجهال والغافلين، ومع المتساهلين حتى يقتنعوا ويلتزموا بالحق، وقد يكون المدعو عنده بعض الشبهات، فيجادل في ذلك، ويريد كشف الشبهة.
فالداعي إلى الله يوضح الحق بأدلته، ويجادله بالتي هي أحسن؛ لإزاحة الشبهة بالأدلة الشرعية، لكن بكلام طيب، وأسلوب حسن، ورفق، لا بعنف وشدة، حتى لا ينفر المدعو من الحق، ويصر على الباطل، قال الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (3)
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة آل عمران الآية 159(4/229)
وقال الله لما بعث موسى وهارون إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (1) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (2) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (3) » .
فالداعي إلى الله عز وجل عليه أن يتحرى الحق، ويرفق بالمدعو، ويجتهد في الإخلاص لله، وعلاج الأمور بالطريقة التي رسمها الله وهي الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وأن يكون في هذا كله على علم وبصيرة حتى يقنع الطالب للحق، وحتى يزيح الشبهة لمن عنده شبهة، وحتى يلين القلوب لمن عنده جفاء وإعراض وقسوة، فإن القلوب تلين بالدعوة إلى الله، والموعظة الحسنة، وبيان ما عند الله من الخير لمن قبل الحق، وما عليه من الخطر، إذا رد الدعوة التي جاءت بالحق، إلى غير هذا من وجوه الموعظة.
وأما أصحاب الحسبة وهم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فعليهم أن يلتزموا بالآداب الشرعية، ويخلصوا لله في عملهم، ويتخلقوا بما يتخلق به الدعاة إلى الله من حيث الرفق وعدم العنف، إلا إذا دعت الحاجة إلى غير ذلك من الظلمة والمكابرين والمعاندين فحينئذ تستعمل معهم القوة الرادعة لقول الله سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (4) وقوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (5) » خرجه مسلم في صحيحه.
أما غيرهم فيعامل في إنكار المنكر والدعوة إلى المعروف بمثل ما يفعل الداعي: ينكر المنكر بالرفق والحكمة، ويقيم الحجة على ذلك حتى يلتزم
__________
(1) سورة طه الآية 44
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .
(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2592) ، سنن أبو داود الأدب (4809) ، سنن ابن ماجه الأدب (3687) ، مسند أحمد بن حنبل (4/366) .
(4) سورة العنكبوت الآية 46
(5) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .(4/230)
صاحب المنكر بالحق، وينتهي عما هو عليه من الباطل، وذلك على حسب الاستطاعة، كما قال الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «من رأى منكم منكرا (2) » الحديث.
ومن الآيات الجامعة في ذلك قول الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (4)
وقد توعد الله سبحانه من ترك ذلك، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، حيث قال في كتابه الكريم في سورة المائدة: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (5) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (6)
فالأمر عظيم والمسئولية كبيرة، فيجب على أهل الإيمان وأهل القدرة من الولاة والعلماء وغيرهم من أعيان المسلمين الذين عندهم قدرة وعلم أن ينكروا المنكر ويأمروا بالمعروف، وليس هذا لطائفة معينة، وإن كانت الطائفة المعينة عليها واجبها الخاص، والعبء الأكبر، لكن لا يلزم من ذلك سقوطه عن غيرها، بل يجب على غيرها مساعدتها، وأن يكونوا معها في إنكار المنكر، والأمر بالمعروف حتى يكثر الخير ويقل الشر، ولا سيما إذا كانت الطائفة المعينة لم تقم بالمطلوب ولم يحصل بها المقصود، بل الأمر أوسع، والشر أكثر، فإن مساعدتها من القادرين واجبة بكل حال.
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .
(3) سورة التوبة الآية 71
(4) سورة آل عمران الآية 110
(5) سورة المائدة الآية 78
(6) سورة المائدة الآية 79(4/231)
أما لو قامت بالمطلوب وحصل بها الكفاية فإنه يسقط بها الوجوب عن غيرها في ذلك المكان المعين أو البلد المعين؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، فإذا حصل بالمعينين أو المتطوعين المطلوب من إزالة المنكر والأمر بالمعروف صار في حق الباقين سنة، أما المنكر الذي لا يستطيع أن يزيله غيرك لأنك الموجود في القرية أو القبيلة أو الحي وليس فيها من يأمر بالمعروف فإنه يتعين عليك إنكار المنكر والأمر بالمعروف ما دمت أنت الذي علمته، وأنت الذي تستطيع إنكاره، فإنه يلزمك، ومتى وجد معك غيرك صار فرض كفاية، من قام به منكما حصل به المقصود، فإن تركتماه جميعا أثمتما جميعا.
فالحاصل أنه فرض على الجميع فرض كفاية، فمتى قام به من المجتمع أو القبيلة من يحصل به المقصود سقط عن الباقين، وهكذا الدعوة إلى الله متى تركها الجميع أثموا، ومتى قام بها من يكفى دعوة وتوجيها وإنكارا للمنكر صارت في حق الباقين سنة عظيمة؛ لأنه اشتراك في الخير وتعاون على البر والتقوى.(4/232)
العلم الذي يحتاجه الداعي:
س 5: ما هو العلم الذي يحتاجه الداعي إلى الله، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؟
ج 5: لا بد في حق الداعي إلى الله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من العلم لقوله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) والعلم هو ما قاله الله في كتابه الكريم، أو قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، وذلك بأن يعتني كل منهما بالقرآن الكريم والسنة المطهرة؛ ليعرف ما أمر الله به وما نهى الله عنه، ويعرف طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(4/232)
دعوته إلى الله وإنكاره المنكر، وطريقة أصحابه رضي الله عنهم، ويتبصر في هذا بمراجعة كتب الحديث، مع العناية بالقرآن الكريم، ومراجعة أقوال العلماء في هذا الباب، فقد توسعوا في الكلام على هذا وبينوا ما يجب.
والذي ينتصب لهذا الأمر يجب عليه أن يعنى بهذا الأمر حتى يكون على بصيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليضع الأمور في مواضعها؛ فيضع الدعوة إلى الخير في موضعها، والأمر بالمعروف في موضعه، على بصيرة وعلم حتى لا يقع منه إنكار المنكر، بما هو أنكر منه، وحتى لا يقع منه الأمر بالمعروف على وجه يوجب حدوث منكر أخطر من ترك ذلك المعروف الذي يدعو إليه.
والمقصود أنه لا بد أن يكون لديه علم حتى يضع الأمور في مواضعها.(4/233)
إنكار المنكر على الأقارب:
س 6: إذا رأت المؤمنة أحدا من أقاربها يرتكب بعض المنكرات كيف يكون موقفها؟ . .
ج 6: عليها أن تنكر المنكر بالأسلوب الحسن، والكلام الطيب والرفق والعطف على صاحب المنكر؛ لأنه قد يكون جاهلا، وقد يكون شرس الأخلاق، فعند الإنكار عليه بشدة يزداد شره فعليها أن تنكر المنكر بالأسلوب الحسن والكلام الطيب، والدليل الواضح مما قاله الله وقاله رسوله مع الدعاء له بالتوفيق حتى لا تحصل النفرة، هكذا يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، عنده من العلم والبصيرة والرفق والتحمل ما يجعل من ينكر عليه يتقبل فلا ينفر ولا يعاند، فيجتهد الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في استعمال الألفاظ التي يرجى بسببها قبول الحق.(4/233)
نصح المؤمنة لأختها:
س 7: إذا كان المنكر الذي تراه الأخت المؤمنة: الاختلاط وعدم الحجاب، فكيف تنصحهم؟ .
ج 7: تنصحهم، تقول لأختها في الله: الواجب عليك عدم الاختلاط، وعدم السفور والاهتمام بأمر التحجب عن الرجال الذين ليسوا محارم لك، قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (1) وقال تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (2) الآية.
فتأتي بالآيات والأحاديث التي في المقام، وفيها إيضاح المطلوب والتحذير مما يخالف الشرع المطهر، وتوضح لأخواتها في الله أن الواجب علينا جميعا أن نحذر مما حرم الله، ونتعاون على البر والتقوى، ونتواصى بالحق والصبر عليه.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) سورة النور الآية 31(4/234)
مقاطعة مرتكب الجريمة:
س 8: مقاطعة مرتكب الجريمة، ما موقف الداعية منها، ولا سيما إن كان من الأقارب؟ .
ج 8: هذا فيه تفصيل: يشرع هجره ومقاطعته إذا أعلن المنكر وأصر ولم ينفع فيه النصح شرع لقريبه أو جاره هجره، وعدم إجابة دعوته، وعدم السلام عليه، حتى يتوب لله من هذا المنكر.
هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لما تخلف كعب بن مالك وصاحباه عن غزوة تبوك بغير عذر شرعي، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يكلموا ويهجروا.(4/234)
فهجروا جميعا حتى تابوا وتاب الله عليهم.
أما إن كان هجر الشخص قد يترتب عليه ما هو أنكر من فعله؛ لأنه ذو شأن في الدولة أو ذو شأن في قبيلته، فيترك هجره ويعامل بالتي هي أحسن ويرفق به حتى لا يترتب على هجره ما هو شر من منكره وما هو أقبح من عمله، والدليل على ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم لم يعامل رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول بمثل ما عامل به الثلاثة وهم: كعب وصاحباه، بل تلطف به ولم يهجره؛ لأنه رئيس قومه، ويخشى من سجنه وهجره فتنة لجماعته في المدينة، فلهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفق به حتى مات على نفاقه، نسأل الله العافية.
وهنا مواضع أخرى جرت للرسول صلى الله عليه وسلم على بعض الناس، لم يهجرهم بل رفق بهم حتى هداهم الله. فالرفق في الدعوة من ألزم أمورها. وبالله التوفيق.(4/235)
ثقافة الداعية:
س 9: ماذا ينبغي للداعية أن يفعله تجاه ثقافته، ومم يستمدها حتى تكون دعوته مؤثرة ومستجابة بإذن الله؟ .
ج 9: إن الدعوة إلى الله عز وجل من أهم المهمات، ومن أعظم الفرائض، والناس في أشد الحاجة إليها سواء كان مجتمعا مسلما أو مجتمعا كافرا.
فالمجتمع المسلم بحاجة إلى التنبيه على ما قد يقع فيه من أخطاء ومنكرات، حتى يتدارك ما وقع من ذلك، وحتى يستقيم على طاعة الله ورسوله، وحتى ينتهي عن ما نهى الله عنه ورسوله.
والكافر يدعى إلى الله، ويبين له أن الله خلقه لعبادته، وأن الواجب عليه الدخول في الإسلام والأخذ بما جاء به نبي الهدى عليه أفضل الصلاة والسلام.(4/235)
ولكن الداعي إلى الله يلزمه مراعاة أمور مهمة في الدعوة حتى تكون دعوته ناجحة، وتكون عاقبتها حميدة، أعظمها وأهمها العلم، فلا بد أن يكون لديه العلم، والعلم إنما يؤخذ من كتاب الله العظيم، وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (1) قال أهل العلم معناه: على علم؛ لأن العلم بالنسبة إلى المعلومات كالبصر بالنسبة للمرئيات، فيجب على العالم أن يعلم كيف يأمر، وكيف ينهى، وكيف يدعو إلى الله، كالبصير الذي يرى أمامه ما يضره من حفر وأشواك ونحو ذلك فيتجنبه.
فالحاصل أن الداعي إلى الله يجب أن يكون لديه من العلم والبصيرة والثقافة الإسلامية المستنبطة من كتاب الله وسنة رسوله عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام، ما يمكنه من توجيه الناس إلى الخير، وتحذيرهم من الشر.
وينبغي أن يستعين بكتب أهل العلم المعروفين بالاستقامة والفضل وحسن العقيدة، حتى يكون على بصيرة فيما يدعو إليه، وينهى عنه.
ثم أمر آخر وهو أن يتحرى في دعوته ويرفق فيها، فإن كان المدعو يمكن أن يستجيب من غير حاجة إلى موعظة وإلى جدال يوضح له الحق بالأدلة الشرعية والأسلوب الحسن، فإذا تقبل ذلك انتهى الموضوع وحصل المقصود.
ومما يلزم في ذلك الإخلاص لله، وأن يحذر الرياء، وأن يكون في دعوته قاصدا وجه الله والدار الآخرة، لا يقصد حمد الناس ولا مراءاتهم، ولا يقصد عرضا في الدنيا، إنما يريد وجه الله، ولهذا قال الله سبحانه
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(4/236)
وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} (1) وقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} (2)
وهناك أمر آخر، وهو اختيار الألفاظ المناسبة، والرفق في الكلام، وعدم الغلظة إلا عند الضرورة إليها، كما أمر الله بذلك في قوله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي} (3) هي أحسن، وقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (4) وهم الكفار من اليهود والنصارى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (5)
فلا بد من الرفق كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (6) » . وقال عليه الصلاة والسلام: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (7) » فعلى المسلم في دعوته الرفق، والأسلوب الحسن، حتى يستجاب له، وحتى لا يقابل بالرد أو بالأسلوب الذي لا يناسبه.
فإن بعض الناس لما عنده من الشدة وسوء الخلق قد يقابل بالشتم والسب الذي يزيد الطين بلة، فمتى كان الداعي إلى الله ذا أسلوب حسن، حكيما رفيقا فإنه لا يعدم قبول دعوته أو على الأقل الكلام الحسن والمقابلة الحسنة من المدعو، الذي يرجى من الرفق به أن يتأثر بدعوته ويستجيب لها، والله المستعان.
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة فصلت الآية 33
(3) سورة النحل الآية 125
(4) سورة العنكبوت الآية 46
(5) سورة العنكبوت الآية 46
(6) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .
(7) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2592) ، سنن أبو داود الأدب (4809) ، سنن ابن ماجه الأدب (3687) ، مسند أحمد بن حنبل (4/366) .(4/237)
الكتب المفيدة في مجال الدعوة إلى الله:
س 10: هل من كتب معينة ينصح بها سماحة الشيخ، إلى كل من يود أن يعمل في مجال الدعوة إلى الله؟ .
ج 10: أعظم كتاب وأشرف كتاب أنصح به هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فأنصح كل داع إلى الله، وكل آمر بالمعروف وناه عن المنكر، ومعلم ومدرس ومرشد، ذكرا كان أو أنثى، أن يعتني بكتاب الله ويتدبره، ويكثر من قراءته. فهو أصل كل خير، وهو المعلم، وهو الهادي إلى الخير، كما قال عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1)
وهو يهدي بهداية الله إلى الطريق الأقوم، إلى سبيل الرشاد. فالواجب على الدعاة والآمرين بالمعروف، والمعلمين، أن يجتهدوا في قراءته وتدبر معانيه، فإنهم بذلك يستفيدون الفائدة العظيمة، ويتأهلون بذلك للدعوة والتعليم بتوفيق الله عز وجل. ثم أنصح بالسنة، وما جاء فيها من العلم والهدى، وأن يراجع الداعي إلى الله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والمدرس ذكورا وإناثا، كتب الحديث، وما ألفه الناس في هذا، حتى يستفيد من ذلك، وأهم كتب الحديث وأصحها، صحيح البخاري، وصحيح مسلم، فليكثر من مراجعتهما والاستفادة منهما، ومن بقية كتب الحديث كالسنن الأربع، ومسند الإمام أحمد، وموطأ الإمام مالك وسنن الدارمي وغيرها من كتب الحديث المعروفة.
كما أوصي بمراجعة كتب أهل العلم المفيدة، مثل المنتقى للمجد ابن تيمية، ورياض الصالحين، وبلوغ المرام، وعمدة الحديث، وجامع العلم وفضله لابن عبد البر، وجامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجب، وزاد
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9(4/238)
المعاد في هدي خير العباد للعلامة ابن القيم، وأعلام الموقعين، وطريق الهجرتين، والطرق الحكمية، كلها له أيضا.
فقد ذكر رحمه الله في هذه الكتب الشيء الكثير حول الدعوة، وحول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فينبغي للمسلم أن يستفيد منها؛ لأنها كتب عظيمة من أئمة وعلماء لهم القدح المعلى في هذا السبيل مع حسن العقيدة، والتجارب الكثيرة.
وكذلك ما كتبه أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة الشرعية، والحسبة في الفتاوى ومنهاج السنة، فهو من الأئمة العظماء الذين جربوا هذا الأمر، وبرزوا فيه، ونفع الله به الأمة ونصر به الحق، وأذل به البدع وأهلها فجزاه الله وإخوانه العلماء عن صبرهم وجهادهم أفضل ما جزى به المحسنين، إنه جواد كريم.
فأنا أنصح كل مسلم، وكل معلم وكل مرشد أن يعتني بهذه الكتب المفيدة بعد العناية بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
كما أوصي بالكتب المؤلفة في هذا الباب من أئمة العلم والهدى في المذاهب الثلاثة، المالكية والشافعية والحنفية، وغير ذلك من كتب الحنابلة المعروفين بالعلم والهدى، وحسن العقيدة.
والمقصود أنه يستعين الداعية بكتب أهل العلم التي ألفت في هذا الباب؛ لأنها ترشده إلى ما يجهله، وتدله على كثير من العلم، قال الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (1) ولا شك أن التعلم والتبصر من التقوى.
__________
(1) سورة البقرة الآية 197(4/239)
المرأة والدعوة إلى الله(4/239)
س 11: عن المرأة والدعوة إلى الله ماذا تقولون؟ .
ج 11: هي كالرجل عليها الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن النصوص من القرآن الكريم، والسنة المطهرة تدل على ذلك، وكلام أهل العلم صريح في ذلك، فعليها أن تدعو إلى الله، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بالآداب الشرعية، التي تطلب من الرجل، وعليها مع ذلك أن لا يثنيها عن الدعوة إلى الله الجزع وقلة الصبر، لاحتقار بعض الناس لها أو سبهم لها أو سخريتهم بها، بل عليها أن تتحمل وتصبر، ولو رأت من الناس ما يعتبر نوعا من السخرية والاستهزاء، ثم عليها أن ترعى أمرا آخر، وهو أن تكون مثالا للعفة والحجاب عن الرجال الأجانب، وتبتعد عن الاختلاط، بل تكون دعوتها مع العناية بالتحفظ من كل ما ينكر عليها، فإن دعت الرجال دعتهم وهي محتجبة بدون خلوة بأحد منهم، وإن دعت النساء دعتهن بحكمة، وأن تكون نزيهة في أخلاقها وسيرتها، حتى لا يعترضن عليها، ويقلن لماذا ما بدأت بنفسها.
وعليها أن تبتعد عن اللباس الذي قد تفتن الناس به، وأن تكون بعيدة عن كل أسباب الفتنة، من إظهار المحاسن، وخضوع في الكلام، مما ينكر عليها، بل تكون عندها العناية بالدعوة إلى الله على وجه لا يضر دينها، ولا يضر سمعتها.(4/240)
دعوة المتأثرين بثقافات معينة
س 12: إذا كان المدعوون أو المدعوات متأثرين بثقافات معينة، أو بمجتمعات معينة، ما هو السبيل الأمثل لدعوتهم؟ !
ج 12: يبين لهم الداعي إلى الله جل وعلا ما في المذاهب التي تأثروا بها، والطرق التي انتسبوا إليها، والبيئات التي عاشوا فيها، من الأخطاء(4/240)
والبدع ونحو ذلك، وهكذا يبين لهم ما في الجمعيات والمجتمعات التي عاشوا فيها من الأشياء المخالفة للشرع، ويدعوهم إلى أن يعرضوا كل ما أشكل عليهم على الميزان العادل، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما وافقهما أو أحدهما فهو المعتبر شرعا، وما خالفهما رد على قائله كائنا من كان.
وهكذا كان أهل العلم يعرضون مسائل الاختلاف على الأدلة الشرعية فما وافق الشرع وجب أن يبقى، وما خالف الشرع وجب أن يطرح، ولو كان قائله عظيما؛ لأن الحق فوق الجميع، وهكذا العمل فيما يخالف الشرع من العادات والأخلاق يجب أن يترك، ولو كان من خلق الآباء والمشايخ والأسلاف وغير ذلك، وأن يتمسك الجميع بكل ما أمر الله ورسوله به؛ لأن ذلك هو سبيل النجاة، كما قال الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) وبالله التوفيق.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153(4/241)
تحريم التبرج والسفور (1)
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على خير خلقه أجمعين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده هي نعمة الإسلام، والهداية لاتباع شريعة خير الأنام، وذلك لما تضمنته هذه الشريعة من الخير والسعادة في الدنيا والفوز والفلاح والنجاة يوم القيامة لمن تمسك بها وسار على نهجها القويم.
ولقد جاء الإسلام بالمحافظة على كرامة المرأة وصيانتها، ووضعها في المقام اللائق بها وحث على إبعادها عما يشينها أو يخدش كرامتها، لذلك حرم عليها الخلوة بالأجنبي ونهاها عن السفر بدون محرم، ونهاها عن التبرج الذي ذم الله به الجاهلية لكونه من أسباب الفتنة بالنساء وظهور الفواحش، كما قال عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (2) والتبرج إظهار المحاسن والمفاتن، ونهاها عن الاختلاط بالرجال الأجانب عنها، والخضوع بالقول عند مخاطبتهم حسما لأسباب الفتنة والطمع في فعل الفاحشة كما في قوله سبحانه: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (3) والمرض هنا هو مرض الشهوة.
كما أمرها بالحشمة في لباسها وفرض عليها الحجاب لما في ذلك من الصيانة لهن، وطهارة قلوب الجميع فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (4)
__________
(1) نشرة صدرت من مكتب سماحته بتاريخ 13\ 2\ 1409 هـ.
(2) سورة الأحزاب الآية 33
(3) سورة الأحزاب الآية 32
(4) سورة الأحزاب الآية 59(4/242)
وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (1) الآية.
وقد امتثلن رضي الله عنهن لأمر الله ورسوله فبادرن إلى الحجاب والتستر عن الرجال الأجانب، فقد روى أبو داود بسند حسن عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من الأكسية وعليهن أكسية سود يلبسنها (2) » ، وروى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها فإذا جاوزونا كشفناه (3) » . وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي أكمل النساء دينا وعلما وخلقا وأدبا، قال في حقها المصطفى صلى الله عليه وسلم: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام (4) » والثريد هو: اللحم والخبز. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج النساء إلى مصلى العيد قلن يا رسول الله: إحدانا لا يكون لها جلباب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتلبسها أختها من جلبابها (5) » رواه البخاري ومسلم، فيؤخذ من هذا الحديث أن المعتاد عند نساء الصحابة أن لا تخرج المرأة إلا بجلباب فلم يأذن لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج بغير جلباب درءا للفتنة وحماية لهن من أسباب الفساد، وتطهيرا لقلوب الجميع، مع أنهن يعشن في خير القرون ورجاله ونساؤه من أهل الإيمان من أبعد الناس عن التهم والريب، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس (6) » ، فدل هذا الحديث على أن الحجاب والتستر كان من عادة نساء الصحابة الذين هم خير القرون وأكرمها على الله عز وجل وأعلاها أخلاقا
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) سنن أبو داود اللباس (4101) .
(3) سنن أبو داود المناسك (1833) ، مسند أحمد بن حنبل (6/30) .
(4) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3411) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2431) ، سنن الترمذي الأطعمة (1834) ، سنن النسائي عشرة النساء (3947) ، سنن ابن ماجه الأطعمة (3280) ، مسند أحمد بن حنبل (4/394) .
(5) صحيح البخاري الحج (1652) ، صحيح مسلم صلاة العيدين (890) ، سنن الترمذي الجمعة (539) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1307) ، مسند أحمد بن حنبل (5/84) ، سنن الدارمي الصلاة (1609) .
(6) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (578) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (645) ، سنن الترمذي الصلاة (153) ، سنن النسائي كتاب السهو (1362) ، سنن ابن ماجه الصلاة (669) ، مسند أحمد بن حنبل (6/37) ، موطأ مالك وقوت الصلاة (4) ، سنن الدارمي الصلاة (1216) .(4/243)
وآدابا وأكملها إيمانا وأصلحها عملا، فهم القدوة الصالحة في سلوكهم وأعمالهم لغيرهم ممن يأتي بعدهم.
إذا علم هذا تبين أن ما يفعله بعض نساء هذا الزمان من التبرج بالزينة والتساهل في أمر الحجاب وإبراز محاسنهن للأجانب وخروجهن للأسواق متجملات متعطرات أمر مخالف للأدلة الشرعية ولما عليه السلف الصالح، وأنه منكر يجب على ولاة الأمر من الأمراء والعلماء ورجال الحسبة تغييره وعدم إقراره كل على حسب طاقته ومقدرته وما يملكه من الوسائل والأسباب التي تؤدي إلى منع هذا المنكر، وحمل النساء على التحجب والتستر، وأن يلبسن لباس الحشمة والوقار، وأن لا يزاحمن الرجال في الأسواق.
ومن الأمور المنكرة التي استحدثها الناس في هذا الزمان وضع منصة للعروس بين النساء يجلس إليها زوجها بحضرة النساء السافرات المتبرجات وربما حضر معه غيره من أقاربه أو أقاربها من الرجال، ولا يخفى على ذوي الفطر السليمة والغيرة الدينية ما في هذا العمل من الفساد الكبير وتمكن الرجال الأجانب ن مشاهدة النساء الفاتنات المتبرجات، وما يترتب على ذلك من العواقب الوخيمة، فالواجب منع ذلك والقضاء عليه حسما لأسباب الفتنة وصيانة للمجتمعات النسائية مما يخالف الشرع المطهر.
وإني أنصح جميع إخواني المسلمين في هذه البلاد وغيرها بأن يتقوا الله ويلتزموا شرعه في كل شيء وأن يحذروا كل ما حرم الله عليهم وأن يبتعدوا عن أسباب الشر والفساد في الأعراس وغيرها التماسا لرضى الله سبحانه وتعالى وتجنبا لأسباب سخطه وعقابه.
وأسأل الله الكريم أن يمن علينا وعلى جميع المسلمين باتباع كتابه الكريم، والتمسك بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يعصمنا من مضلات الفتن واتباع شهوات النفوس، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، إنه خير مسئول. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.(4/244)
لا للاختلاط (1)
__________
(1) مجلة الدعوة.(4/244)
تحريم الدعوة إلى الاختلاط
اطلعت على ما كتبه الأستاذ سعد البواردي في جريدة الجزيرة بعددها رقم 3754 وتاريخ 15 \ 4 \ 1403 هـ الذي اقترح فيه اختلاط الذكور والإناث في الدراسة بالمرحلة الابتدائية ولما يترتب على اقتراحه من عواقب وخيمة رأيت التنبيه على ذلك.
فأقول: إن الاختلاط وسيلة لشر كثير وفساد كبير لا يجوز فعله.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع (1) » . وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بالتفريق بينهم في المضاجع؛ لأن قرب أحدهما من الآخر في سن العاشرة وما بعدها وسيلة لوقوع الفاحشة بسبب اختلاط البنين والبنات. ولا شك أن اجتماعهم في المرحلة الابتدائية كل يوم وسيلة لذلك. كما أنه وسيلة للاختلاط فيما بعد ذلك من المراحل.
وبكل حال فاختلاط البنين والبنات في المراحل الابتدائية منكر لا يجوز فعله لما يترتب عليه من أنواع الشرور وقد جاءت الشريعة الكاملة بوجوب سد الذرائع المفضية للشرك والمعاصي. وقد دل على ذلك دلائل كثيرة من الآيات والأحاديث. ولولا ما في ذلك من الإطالة لذكرت كثيرا منها.
وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين منها تسعة وتسعين دليلا. .
ونصيحتي للأستاذ سعد وغيره ألا يقترحوا ما يفتح على المسلمين أبواب شر قد أغلقت. نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق.
ويكفي العاقل ما جرى في الدول المجاورة وغيرها من الفساد الكبير
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (495) ، مسند أحمد بن حنبل (2/187) .(4/245)
بسبب الاختلاط. وأما ما يتعلق بالحاجة إلى معرفة الخاطب مخطوبته فقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ما يشفي بقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب أحدكم امرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل (1) » فيشرع له أن ينظر إليها بدون خلوة قبل عقد النكاح إذا تيسر ذلك فإن لم يتيسر بعث من يثق به من النساء للنظر إليها ثم إخباره بخلقها وخلقها، وقد درج المسلمون على هذا في القرون الماضية وما ضرهم ذلك بل حصل لهم من النظر إلى المخطوبة أو وصف الخاطبة لها ما يكفي والنادر خلاف ذلك لا حكم له. والله المسئول أن يوفق المسلمين لما فيه صلاحهم وسعادتهم في العاجل والآجل، وأن يحفظ عليهم دينهم، وأن يغلق عنهم أبواب الشر ويكفيهم مكائد الأعداء إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن باز
__________
(1) سنن أبو داود النكاح (2082) ، مسند أحمد بن حنبل (3/334) .(4/246)
حكم مصافحة الطالب لزميلته (1)
س 1: ما حكم مصافحة الطالب لزميلته في الدراسة؟ وماذا يفعل لو مدت يدها للسلام عليه؟
ج 1: لا تجوز الدراسة المختلطة مع الفتيات في محل واحد أو في مدرسة واحدة، أو في كراس واحدة بل هذا من أعظم أسباب الفتنة فلا يجوز للطالب ولا للطالبة هذا الاشتراك لما فيه من الفتن.
وليس للمسلم أن يصافح المرأة الأجنبية عنه ولو مدت يدها إليه. ويخبرها أن المصافحة لا تجوز للرجال الأجانب؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «قال حين بيعته للنساء: إني لا أصافح النساء (2) » وثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امراة قط، ما كان يبايعهن إلا بالكلام (3) » وقد قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (4) ولأن المصافحة للنساء من غير محارمهن من وسائل الفتنة للطرفين فوجب تركها.
أما السلام الشرعي الذي ليس فيه فتنة ومن دون مصافحة ولا ريبة ولا خضوع بالقول ومع الحجاب وعدم الخلوة فلا بأس به، لقول الله عز وجل: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (5) ولأن النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كن يسلمن عليه ويستفتينه فيما يشكل عليهن، وهكذا كانت النساء يستفتين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يشكل عليهن.
أما مصافحة المرأة للنساء ولمحارمها من الرجال كأبيها وأخيها وعمها وغيرهم من المحارم فليس في ذلك بأس، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشرت بالمجلة العربية في باب ''فاسألوا أهل الذكر''.
(2) سنن النسائي البيعة (4181) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2874) ، مسند أحمد بن حنبل (6/357) ، موطأ مالك الجامع (1842) .
(3) صحيح البخاري تفسير القرآن (4891) ، صحيح مسلم الإمارة (1866) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2941) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2875) ، مسند أحمد بن حنبل (6/270) .
(4) سورة الأحزاب الآية 21
(5) سورة الأحزاب الآية 32(4/247)
حكم الاختلاط في التعليم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد اطلعت على ما نشرته جريدة السياسة الصادرة يوم 24 \ 7 \ 1404 هـ بعددها 5644 منسوبا إلى مدير جامعة صنعاء عبد العزيز المقال الذي زعم فيه أن المطالبة بعزل الطالبات عن الطلاب مخالفة للشريعة، وقد استدل على جواز الاختلاط بأن المسلمين من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يؤدون الصلاة في مسجد واحد، الرجل والمرأة، وقال (ولذلك فإن التعليم لا بد أن يكون في مكان واحد) ، وقد استغربت صدور هذا الكلام من مدير لجامعة إسلامية في بلد إسلامي يطلب منه أن يوجه شعبه من الرجال والنساء إلى ما فيه السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولا شك أن هذا الكلام فيه جناية عظيمة على الشريعة الإسلامية؛ لأن الشريعة لم تدع إلى الاختلاط حتى تكون المطالبة بمنعه مخالفة لها، بل هي تمنعه وتشدد في ذلك كما قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (1) الآية، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} (2) وقال سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} (3)
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) سورة الأحزاب الآية 59
(3) سورة النور الآية 31(4/248)
إلى أن قال سبحانه: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (2) الآية، وفي هذه الآيات الكريمات الدلالة الظاهرة على شرعية لزوم النساء لبيوتهن حذرا من الفتنة بهن، إلا من حاجة تدعو إلى الخروج، ثم حذرهن سبحانه من التبرج تبرج الجاهلية، وهو إظهار محاسنهن ومفاتنهن بين الرجال، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (3) » متفق عليه من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه وخرجه مسلم في صحيحه عن أسامة وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنهما جميعا، وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستحلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء (4) » ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الفتنة بهن عظيمة، ولا سيما في هذا العصر الذي خلع فيه أكثرهن الحجاب، وتبرجن فيه تبرج الجاهلية، وكثرت بسبب ذلك الفواحش والمنكرات وعزوف الكثير من الشباب والفتيات عما شرع الله من الزواج في كثير من البلاد، وقد بين الله سبحانه أن الحجاب أطهر لقلوب الجميع فدل ذلك على أن زواله أقرب إلى نجاسة قلوب الجميع وانحرافهم عن طريق الحق، ومعلوم أن جلوس الطالبة مع الطالب في كرسي الدراسة
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة الأحزاب الآية 53
(3) صحيح البخاري النكاح (5096) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2741) ، سنن الترمذي الأدب (2780) ، سنن ابن ماجه الفتن (3998) ، مسند أحمد بن حنبل (5/210) .
(4) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) ، سنن الترمذي الفتن (2191) ، سنن ابن ماجه الفتن (4000) ، مسند أحمد بن حنبل (3/61) .(4/249)
من أعظم أسباب الفتنة،
ومن أسباب ترك الحجاب الذي شرعه الله للمؤمنات ونهاهن عن أن يبدين زينتهن لغير من بينهم الله سبحانه في الآية السابقة من سورة النور.
ومن زعم أن الأمر بالحجاب خاص بأمهات المؤمنين فقد أبعد النجعة وخالف الأدلة الكثيرة الدالة على التعميم وخالف قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (1) فإنه لا يجوز أن يقال إن الحجاب أطهر لقلوب أمهات المؤمنين ورجال الصحابة دون من بعدهم، ولا شك أن من بعدهم أحوج إلى الحجاب من أمهات المؤمنين ورجال الصحابة رضي الله عنهم لما بينهم من الفرق العظيم في قوة الإيمان والبصيرة بالحق، فإن الصحابة رضي الله عنهم رجالا ونساء ومنهن أمهات المؤمنين هم خير الناس بعد الأنبياء وأفضل القرون بنص الرسول صلى الله عليه وسلم المخرج في الصحيحين، فإذا كان الحجاب أطهر لقلوبهم فمن بعدهم أحوج إلى هذه الطهارة وأشد افتقارا إليها ممن قبلهم؛ ولأن النصوص الواردة في الكتاب والسنة لا يجوز أن يخص بها أحد من الأمة إلا بدليل صحيح يدل على التخصيص، فهي عامة لجميع الأمة في عهده صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة؛ لأنه سبحانه بعث رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين في عصره وبعده إلى يوم القيامة كما قال عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2) وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (3) وهكذا القرآن الكريم لم ينزل لأهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أنزل لهم ولمن بعدهم ممن يبلغه كتاب الله كما قال تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (4) وقال عز وجل: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (5) الآية، وكان النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يختلطن بالرجال لا
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) سورة سبأ الآية 28
(4) سورة إبراهيم الآية 52
(5) سورة الأنعام الآية 19(4/250)
في المساجد ولا في الأسواق الاختلاط الذي ينهى عنه المصلحون اليوم ويرشد القرآن والسنة وعلماء الأمة إلى التحذير منه حذرا من فتنته، بل كان النساء في مسجده صلى الله عليه وسلم يصلين خلف الرجال في صفوف متأخرة عن الرجال وكان يقول صلى الله عليه وسلم: «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها (1) » حذرا من افتتان آخر صفوف الرجال بأول صفوف النساء، وكان الرجال في عهده صلى الله عليه وسلم يؤمرون بالتريث في الانصراف حتى يمضي النساء ويخرجن من المسجد لئلا يختلط بهن الرجال في أبواب المساجد مع ما هم عليه جميعا رجالا ونساء من الإيمان والتقوى فكيف بحال من بعدهم، وكانت النساء ينهين أن يتحققن الطريق ويؤمرن بلزوم حافات الطريق حذرا من الاحتكاك بالرجال والفتنة بمماسة بعضهم بعضا عند السير في الطريق، وأمر الله سبحانه نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن حتى يغطين بها زينتهن حذرا من الفتنة بهن، ونهاهن سبحانه عن إبداء زينتهن لغير من سمى الله سبحانه في كتابه العظيم حسما لأسباب الفتنة وترغيبا في أسباب العفة والبعد عن مظاهر الفساد والاختلاط، فكيف يسوغ لمدير جامعة صنعاء - هداه الله وألهمه رشده- بعد هذا كله، أن يدعو إلى الاختلاط ويزعم أن الإسلام دعا إليه وأن الحرم الجامعي كالمسجد، وأن ساعات الدراسة كساعات الصلاة، ومعلوم أن الفرق عظيم، والبون شاسع، لمن عقل عن الله أمره ونهيه، وعرف حكمته سبحانه في تشريعه لعباده، وما بين في كتابه العظيم من الأحكام في شأن الرجال والنساء، وكيف يجوز لمؤمن أن يقول: إن جلوس الطالبة بحذاء الطالب في كرسي الدراسة مثل جلوسها مع أخواتها في صفوفهن خلف الرجال، هذا لا يقوله من له أدنى مسكة من إيمان وبصيرة يعقل ما يقول، هذا لو سلمنا وجود الحجاب الشرعي، فكيف إذا كان جلوسها مع الطالب في كرسي الدراسة مع التبرج وإظهار المحاسن والنظرات الفاتنة
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (440) ، سنن الترمذي الصلاة (224) ، سنن النسائي الإمامة (820) ، سنن أبو داود الصلاة (678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1000) ، مسند أحمد بن حنبل (2/340) ، سنن الدارمي الصلاة (1268) .(4/251)
والأحاديث التي تجر إلى الفتنة، فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله عز وجل: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (1)
وأما قوله: (والواقع أن المسلمين منذ عهد الرسول كانوا يؤدون الصلاة في مسجد واحد الرجل والمرأة ولذلك فإن التعليم لا بد أن يكون في مكان واحد)
فالجواب عن ذلك أن يقال: هذا صحيح، لكن كان النساء في مؤخرة المساجد مع الحجاب والعناية والتحفظ مما يسبب الفتنة، والرجال في مقدم المسجد، فيسمعن المواعظ والخطب ويشاركن في الصلاة ويتعلمن أحكام دينهن مما يسمعن ويشاهدن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في يوم العيد يذهب إليهن بعد ما يعظ الرجال فيعظهن ويذكرهن لبعدهن عن سماع خطبته، وهذا كله لا إشكال فيه ولا حرج فيه وإنما الإشكال في قول مدير جامعة صنعاء - هداه الله وأصلح قلبه وفقهه في دينه-: (ولذلك فإن التعليم لا بد أن يكون في مكان واحد) فكيف يجوز له أن يشبه التعليم في عصرنا بصلاة النساء خلف الرجال في مسجد واحد، مع أن الفرق شاسع بين واقع التعليم المعروف اليوم وبين واقع صلاة النساء خلف الرجال في عهده صلى الله عليه وسلم، ولهذا دعا المصلحون إلى إفراد النساء عن الرجال في دور التعليم، وأن يكن على حدة والشباب على حدة، حتى يتمكن من تلقي العلم من المدرسات بكل راحة من غير حجاب ولا مشقة؛ لأن زمن التعليم يطول بخلاف زمن الصلاة؛ ولأن تلقي العلوم من المدرسات في محل خاص أصون للجميع وأبعد لهن من أسباب الفتنة، وأسلم للشباب من الفتنة بهن، ولأن انفراد الشباب في دور التعليم عن الفتيات مع كونه أسلم لهم من الفتنة فهو أقرب إلى عنايتهم بدروسهم وشغلهم بها وحسن الاستماع إلى الأساتذة وتلقي العلم عنهم بعيدين عن ملاحظة الفتيات والانشغال بهن، وتبادل النظرات المسمومة والكلمات الداعية إلى الفجور.
__________
(1) سورة الحج الآية 46(4/252)
وأما زعمه- أصلحه الله- أن الدعوة إلى عزل الطالبات عن الطلبة تزمت ومخالف للشريعة، فهي دعوى غير مسلمة، بل ذلك هو عين النصح لله ولعباده والحيطة لدينه والعمل بما سبق من الآيات القرآنية والحديثين الشريفين، ونصيحتي لمدير جامعة صنعاء أن يتقي الله عز وجل وأن يتوب إليه سبحانه مما صدر منه، وأن يرجع إلى الصواب والحق، فإن الرجوع إلى ذلك هو عين الفضيلة والدليل على تحري طالب العلم للحق والإنصاف. والله المسئول سبحانه أن يهدينا جميعا سبيل الرشاد وأن يعيذنا وسائر المسلمين من القول عليه بغير علم، ومن مضلات الفتن ونزغات الشيطان، كما أسأله سبحانه أن يوفق علماء المسلمين وقادتهم في كل مكان لما فيه صلاح البلاد والعباد في المعاش والمعاد، وأن يهدي الجميع صراطه المستقيم إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.(4/253)
الاختلاط والسفور (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه ويطلع عليه من إخواني المسلمين، وفقني الله وإياهم لفعل الطاعات وجنبني وإياهم البدع والمنكرات.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فمن واجب النصح والتذكير أن أنبه على أمر لا ينبغي السكوت عليه بل يجب الحذر منه والابتعاد عنه وهو الاختلاط الحاصل من بعض الجهلة في بعض الأماكن والقرى مع غير المحارم لا يرون بذلك بأسا، بحجة أن هذا عادة آبائهم وأجدادهم وأن نياتهم طيبة، فتجد المرأة مثلا تجلس مع أخي زوجها أو زوج أختها أو مع أبناء عمها ونحوهم من الأقارب بدون تحجب وبدون مبالاة، ومن المعلوم أن احتجاب المرأة المسلمة عن الرجال الأجانب وتغطية وجهها وسائر مفاتنها أمر واجب دل على وجوبه الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح قال الله سبحانه وتعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} (2) الآية،
وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (3) الآية وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (4) والجلباب هو الرداء فوق الخمار بمنزلة العباءة.
__________
(1) نشرة صدرت من مكتب سماحته بالرياض.
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة الأحزاب الآية 53
(4) سورة الأحزاب الآية 59(4/254)
قالت أم سلمة رضي الله عنها: (لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها) .
وفي هذه الآيات الكريمات دليل واضح على أن رأس المرأة وشعرها وعنقها ونحرها ووجهها مما يجب عليها ستره عن كل من ليس بمحرم لها وأن كشفه لغير المحارم حرام. ومن أدلة السنة «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج النساء إلى مصلى العيد قلن: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب؟ فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: " لتلبسها أختها من جلبابها (1) » رواه البخاري ومسلم، فهذا الحديث يدل على أن المعتاد عند نساء الصحابة ألا تخرج المرأة إلا بجلباب.
فلم يأذن لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج بغير جلباب. وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر فيشهد معه نساء متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس (2) » وقالت: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء ما رأينا لمنعهن من المساجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها فدل هذا الحديث على أن الحجاب والتستر كان من عادة نساء الصحابة الذين هم خير القرون وأكرمها على الله عز وجل، وأعلاها أخلاقا وأدبا، وأكملها إيمانا وأصلحها عملا فهم القدوة الصالحة لغيرهم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها فإذا جاوزونا كشفناه (3) » رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ففي قولها: (فإذا حاذونا) تعني (الركبان) سدلت إحدانا جلبابها على وجهها دليل على وجوب ستر الوجه. لأن المشروع في الإحرام كشفه فلولا وجود مانع قوي من كشفه حينئذ لوجب بقاؤه مكشوفا.
وإذا تأملنا السفور وكشف المرأة وجهها للرجال الأجانب وجدناه يشتمل على مفاسد كثيرة منها: الفتنة التي تحصل بمظهر وجهها وهي من أكبر
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1652) ، صحيح مسلم صلاة العيدين (890) ، سنن الترمذي الجمعة (539) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1307) ، مسند أحمد بن حنبل (5/84) ، سنن الدارمي الصلاة (1609) .
(2) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (578) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (645) ، سنن الترمذي الصلاة (153) ، سنن النسائي كتاب السهو (1362) ، سنن ابن ماجه الصلاة (669) ، مسند أحمد بن حنبل (6/37) ، موطأ مالك وقوت الصلاة (4) ، سنن الدارمي الصلاة (1216) .
(3) سنن أبو داود المناسك (1833) ، مسند أحمد بن حنبل (6/30) .(4/255)
دواعي الشر والفساد، ومنها زوال الحياء عن المرأة وافتتان الرجال بها.
فبهذا يتبين أنه يحرم على المرأة أن تكشف وجهها بحضور الرجال الأجانب ويحرم عليها كشف صدرها أو نحرها أو ذراعيها أو ساقيها ونحو ذلك من جسمها بحضور الرجال الأجانب، وكذا يحرم عليها الخلوة بغير محارمها من الرجال وكذا الاختلاط بغير المحارم من غير تستر، فإن المرأة إذا رأت نفسها مساوية للرجل في كشف الوجه والتجول سافرة لم يحصل منها حياء ولا خجل من مزاحمة الرجال وفي ذلك فتنة كبيرة وفساد عظيم وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم من المسجد وقد اختلط النساء مع الرجال في الطريق فقال النبي صلى الله عليه وسلم «استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق عليكن بحافات الطريق فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى أن ثوبها ليتعلق به من لصوقها (1) » . ذكره ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (2)
فيحرم على المرأة أن تكشف وجهها لغير محارمها بل يجب عليها ستره كما يحرم عليها الخلوة بهم أو الاختلاط بهم أو وضع يدها للسلام في يد غير محرمها، وقد بين سبحانه وتعالى من يجوز له النظر إلى زينتها بقوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3)
أما أخو الزوج أو زوج الأخت أو أبناء العم وأبناء الخال والخالة ونحوهم
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (5272) .
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة النور الآية 31(4/256)
فليسوا من المحارم وليس لهم النظر إلى وجه المرأة ولا يجوز لها أن ترفع جلبابها عندهم لما في ذلك من افتتانهم بها، فعن عقبه بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت (1) » متفق عليه. والمراد بالحمو أخو الزوج وعمه ونحوهما وذلك لأنهم يدخلون البيت بدون ريبة ولكنهم ليسوا بمحارم بمجرد قرابتهم لزوجها، وعلى ذلك لا يجوز لها أن تكشف لهم عن زينتها ولو كانوا صالحين موثوقا بهم؛ لأن الله حصر جواز إبداء الزينة في أناس بينهم في الآية السابقة وليس أخو الزوج ولا عمه ولا ابن عمه ونحوهم منهم.
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم (2) » والمراد بذي المحرم من يحرم عليه نكاحها على التأبيد لنسب أو مصاهرة أو رضاع كالأب والابن والأخ والعم ومن يجري مجراهم.
وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك لئلا يرخي لهم الشيطان عنان الغواية ويمشي بينهم بالفساد ويوسوس لهم ويزين لهم المعصية. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما (3) » رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ومن جرت العادة في بلادهم بخلاف ذلك بحجة أن ذلك عادة أهلهم أو أهل بلدهم فعليهم أن يجاهدوا أنفسهم في إزالة هذه العادة وأن يتعاونوا في القضاء عليها. والتخلص من شرها محافظة على الأعراض وتعاونا على البر والتقوى وتنفيذا لأمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم. وأن يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى مما سلف منها وأن يجتهدوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويستمروا عليه ولا تأخذهم في نصرة الحق وإبطال الباطل لومة لائم ولا يردهم عن ذلك سخرية أو استهزاء من بعض الناس فإن الواجب على المسلم اتباع شرع الله برضا وطواعية ورغبة فيما عند الله وخوف من عقابه. ولو خالفه في ذلك أقرب الناس وأحب الناس إليه.
ولا يجوز اتباع
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5232) ، صحيح مسلم السلام (2172) ، سنن الترمذي الرضاع (1171) ، مسند أحمد بن حنبل (4/149) ، سنن الدارمي الاستئذان (2642) .
(2) صحيح البخاري النكاح (5233) ، صحيح مسلم الحج (1341) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) .
(3) سنن الترمذي الفتن (2165) ، مسند أحمد بن حنبل (1/18) .(4/257)
الأهواء والعادات التي لم يشرعها الله سبحانه وتعالى، لأن الإسلام هو دين الحق والهدى والعدالة في كل شيء، وفيه الدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والنهي عما يخالفها.
والله المسئول أن يوفقنا وسائر المسلمين لما يرضيه، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(4/258)
الإجابة عن سؤال قدمه أحد الإخوان
حول بعض الأمور البدعية والشركية
السؤال: ما حكم الله ورسوله في قوم يفعلون الأشياء التالية: يقولون في الأذان (أشهد أن عليا ولي الله) و (حي على خير العمل) و (عترة محمد) و (علي خير العتر) ، وإذا توفي أحد منهم قام أقرباؤه بذبح شاة يسمونها العقيقة ولا يكسرون من عظامها شيئا، ثم بعد ذلك يقبرون عظامها وفرثها ويزعمون أن ذلك حسنة ويجب العمل به، فما موقف المسلم الذي على السنة المحمدية وله بهم رابطة نسب؟ هل يجوز له شرعا أن يوادهم ويكرمهم ويقبل كرامتهم ويتزوج منهم ويزوجهم؟ علما بأنهم يجاهرون بعقيدتهم ويقولون إنهم الفرقة الناجية وأنهم على الحق ونحن على الباطل.
والجواب: قد بين الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ألفاظ الأذان والإقامة، وقد «رأى عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري في النوم الأذان فعرضه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إنها رؤيا حق وأمره أن يلقيه على بلال لكونه أندى صوتا منه ليؤذن به، فكان بلال يؤذن بذلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفاه الله عز وجل (1) » ، ولم يكن في أذانه شيء من الألفاظ المذكورة في السؤال.
وهكذا عبد الله بن أم مكتوم كان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات ولم يكن في أذانه شيء من هذه الألفاظ، وأحاديث أذان بلال بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة في الصحيحين وغيرهما من كتب أهل السنة، وهكذا أذان أبي محذورة بمكة ليس فيه شيء من هذه الألفاظ، وقد علمه النبي صلى الله عليه وسلم ألفاظه ولم يعلمه شيئا من هذه الألفاظ، وألفاظ أذانه ثابتة في صحيح مسلم وغيره
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (189) ، سنن أبو داود الصلاة (499) ، سنن ابن ماجه الأذان والسنة فيه (706) ، مسند أحمد بن حنبل (4/43) ، سنن الدارمي الصلاة (1187) .(4/259)
من كتب أهل السنة.
وبذلك يعلم أن ذكر هذه الألفاظ في الأذان بدعة يجب تركها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق على صحته، وفي رواية أخرى «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » خرجه مسلم في صحيحه. . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبة الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (3) » وقد درج خلفاؤه الراشدون ومنهم علي رضي الله عنه وهكذا بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين على ما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الأذان ولم يحدثوا هذه الألفاظ.
وقد أقام علي رضي الله عنه في الكوفة - وهو أمير المؤمنين- قريبا من خمس سنين وكان يؤذن بين يديه بأذان بلال رضي الله عنه، ولو كانت هذه الألفاظ المذكورة في السؤال موجودة في الأذان لم يخف عليه ذلك؛ لكونه رضي الله عنه من أعلم الصحابة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته، وأما ما يرويه بعض الناس عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول في الأذان (حي على خير العمل) فلا أساس له من الصحة، وأما ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما وعن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنه وعن أبيه أنهما كانا يقولان في الأذان (حي على خير العمل) فهذا في صحته عنهما نظر، وإن صححه بعض أهل العلم عنهما لكن ما قد علم من علمهما وفقههما في الدين يوجب التوقف عن القول بصحة ذلك عنهما؛ لأن مثلهما لا يخفى عليه أذان بلال ولا أذان أبي محذورة، وابن عمر رضي الله عنهما قد سمع ذلك وحضره، وعلي بن الحسين - رحمه الله- من أفقه الناس فلا ينبغي أن يظن بهما أن يخالفا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المعلومة المستفيضة في الأذان،
ولو فرضنا صحة ذلك عنهما فهو موقوف عليهما، ولا يجوز أن تعارض السنة الصحيحة بأقوالهما ولا أقوال غيرهما، لأن السنة هي الحاكمة مع كتاب الله العزيز على جميع الناس كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (4)
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(4) سورة النساء الآية 59(4/260)
وقد رددنا هذا اللفظ المنقول عنهما وهو عبارة " حي على خير العمل " في الأذان إلى السنة فلم نجدها فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألفاظ الأذان، وأما قول علي بن الحسين رضي الله عنه فيما روي عنه أنها في الأذان الأول فهذا يحتمل أنه أراد به الأذان بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما شرع، فإن كان أراد ذلك فقد نسخ بما استقر عليه الأمر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعدها من ألفاظ أذان بلال وابن أم مكتوم وأبي محذورة وليس فيها هذا اللفظ ولا غيره من الألفاظ المذكورة في السؤال،
ثم يقال: إن القول بأن هذه الجملة موجودة في الأذان الأول إذا حملناه على الأذان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مسلم به. لأن ألفاظ الأذان من حين شرع محفوظة في الأحاديث الصحيحة وليس فيها هذه الجملة، فعلم بطلانها وأنها بدعة، ثم يقال أيضا: علي بن الحسين رضي الله عنه من جملة التابعين فخبره هذا لو صرح فيه بالرفع فهو في حكم المرسل، والمرسل ليس بحجة عند جماهير أهل العلم كما نقل ذلك عنهم الإمام أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد. هذا لو لم يوجد في السنة الصحيحة ما يخالفه، فكيف وقد وجد في الأحاديث الصحيحة الواردة في صفة الأذان ما يدل على بطلان هذا المرسل وعدم اعتباره والله الموفق.
وأما ما تفعله الطائفة المذكورة إذا توفي أحد منهم قامت قرابته بذبح شاة يسمونها العقيقة ولا يكسرون عظمها ويدفنون عظامها وفرثها ويزعمون أن ذلك حسنة يجب العمل بها.
فالجواب عن ذلك: أن هذا العمل بدعة ولا أساس له في الشريعة الإسلامية، فالواجب تركه والتوبة إلى الله منه كسائر البدع والمعاصي فإن التوبة إلى الله سبحانه تجب ما قبلها وهي واجبة من جميع الذنوب والمعاصي ومن جميع البدع، كما قال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1)
__________
(1) سورة النور الآية 31(4/261)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (1) الآية، وإنما العقيقة المشروعة التي جاءت بها السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي ما يذبح عن المولود في يوم سابعه وهي شاتان عن الذكر وشاة واحدة عن الأنثى، وقد «عق النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين رضي الله عنهما (2) » ، وصاحبها مخير إن شاء وزعها لحما بين الأقارب والأصحاب والفقراء وإن شاء طبخها ودعا إليها من شاء من الأقارب والجيران والفقراء، هذه هي العقيقة المشروعة، وهي سنة مؤكدة ومن تركها فلا إثم عليه.
وأما قول السائل: ما موقف المسلم الذي على السنة المحمدية وله بهذه الطائفة رابطة نسب هل يوادهم بمعنى يكرمهم ويكرمونه ويتزوج منهم ويزوجهم مع العلم بأنهم يجاهرون بعقيدتهم ويقولون إنهم الفرقة الناجية وأنهم على الحق ونحن على الباطل. .؟
والجواب:
إذا كانت عقيدتهم هي ما تقدم في الأسئلة مع موافقة أهل السنة في توحيد الله سبحانه وإخلاص العبادة لله وعدم الشرك به لا بأهل البيت ولا بغيرهم فلا مانع من تزويجهم والتزوج منهم وأكل ذبائحهم والمشاركة في ولائمهم وموادتهم على قدر ما معهم من الحق وبغضهم على قدر ما معهم من الباطل؛ لأنهم مسلمون قد اقترفوا أشياء من البدع والمعاصي لا تخرجهم من دائرة الإسلام، وتجب نصيحتهم وتوجيههم إلى السنة والحق وتحذيرهم من البدع والمعاصي فإن استقاموا وقبلوا النصيحة فالحمد لله وهذا هو المطلوب، أما إن أصروا على البدع المذكورة في الأسئلة فإنه يجب هجرهم وعدم المشاركة في ولائمهم حتى يتوبوا إلى الله ويتركوا البدع والمنكرات كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك الأنصاري وصاحبيه لما تخلفوا عن غزوة تبوك بغير عذر شرعي،
وإذا رأى قريبهم أو مجاورهم أن عدم الهجر أصلح وأن الاختلاط بهم ونصيحتهم أكثر فائدة في الدين وأقرب
__________
(1) سورة التحريم الآية 8
(2) سنن النسائي العقيقة (4219) .(4/262)
إلى قبولهم الحق فلا مانع من ترك الهجر؛ لأن المقصود من الهجر هو توجيههم إلى الخير وإشعارهم بعدم الرضا بما هم عليه من المنكر ليرجعوا عن ذلك فإذا كان الهجر يضر المصلحة الإسلامية ويزيدهم تمسكا بباطلهم ونفرة من أهل الحق كان تركه أصلح كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم هجر عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين لما كان ترك هجره أصلح للمسلمين.
أما إن كانت هذه الطائفة تعبد أهل البيت كعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أو غيرهم من أهل البيت بدعائهم والاستغاثة بهم وطلبهم المدد ونحو ذلك، أو كانت تعتقد أنهم يعلمون الغيب أو نحو ذلك مما يوجب خروجهم من الإسلام، فإنهم والحال ما ذكر لا يجوز مناكحتهم ولا مودتهم ولا أكل ذبائحهم بل يجب بغضهم والبراءة منهم حتى يؤمنوا بالله وحده كما قال الله سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (1)
وقال عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (2) وقال عز وجل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (3) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (4) وقال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (5) وقال سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (6) الآية، وقال تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (7)
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 4
(2) سورة المؤمنون الآية 117
(3) سورة فاطر الآية 13
(4) سورة فاطر الآية 14
(5) سورة النمل الآية 65
(6) سورة الأنعام الآية 59
(7) سورة الأعراف الآية 188(4/263)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا قول الله سبحانه: (2) » وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار (3) » وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه «سئل: أي الذنب أعظم فقال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك (4) » الحديث. وفي صحيح مسلم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله من ذبح لغير الله (5) » والأحاديث الدالة على وجوب إخلاص العبادة لله وحده وعلى تحريم الشرك به وعلى أنه سبحانه مختص بعلم الغيب كثيرة جدا.
وفيما ذكرناه مقنع وكفاية لطالب الحق إن شاء الله، والله ولي التوفيق وهو الهادي لمن يشاء إلى سواء السبيل.
أما قول هذه الطائفة أنهم الفرقة الناجية وأنهم على الحق وغيرهم على الباطل فالجواب عنه أن يقال: ليس كل من ادعى شيئا تسلم له دعواه، بل لا بد من البرهان الذي يصدق دعواه كما قال الله سبحانه: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (6) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء رجال وأموالهم (7) » الحديث متفق على صحته من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث أنه قال: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي (8) » .
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4627) ، مسند أحمد بن حنبل (2/52) .
(2) سورة لقمان الآية 34 (1) {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
(3) صحيح البخاري تفسير القرآن (4497) ، مسند أحمد بن حنبل (1/374) .
(4) صحيح البخاري تفسير القرآن (4477) ، صحيح مسلم الإيمان (86) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3183) ، سنن النسائي تحريم الدم (4014) ، مسند أحمد بن حنبل (1/380) .
(5) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(6) سورة البقرة الآية 111
(7) صحيح البخاري تفسير القرآن (4552) ، صحيح مسلم الأقضية (1711) ، سنن النسائي آداب القضاة (5425) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2321) .
(8) سنن الترمذي الإيمان (2641) .(4/264)
فهذا الحديث وما جاء في معناه من الأحاديث الصحيحة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: يا رسول الله: من يأبى. قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (1) » - كلها تدل على أن الفرقة الناجية من هذه الأمة هم المتمسكون في عقيدتهم وأقوالهم وأعمالهم بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
وقد دل كتاب الله الكريم على ما دلت عليه سنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم من أن الفرقة الناجية هم المتبعون لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والسائرون على نهج أصحابه بإحسان رضي الله عنهم، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (2) وقال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) فهاتان الآيتان الكريمتان دالتان على أن الدليل على حب الله هو اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في العقيدة والقول والعمل، وعلى أن اتباع أصحابه من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان في العقيدة والقول والعمل هم أهل الجنة والكرامة وهم الفائزون برضى الله عنهم ورضاهم عنه ودخولهم في الجنات أبد الآباد، وهذا بحمد الله واضح لا يخفى على من له أدنى مسكة من علم ودين، والله المسئول أن يهدينا وسائر إخواننا المسلمين صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يجعلنا من أتباع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بإحسان، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، صحيح مسلم الإمارة (1835) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) سورة التوبة الآية 100(4/265)
واجب المسلم تجاه الكافر (1)
س1: ما الواجب على المسلم تجاه غير المسلم سواء كان ذميا في بلاد المسلمين أو كان في بلاده والمسلم يسكن في بلاد ذلك الشخص غير المسلم؟ والواجب الذي أريد توضيحه هو المعاملات بأنواعها ابتداء من إلقاء السلام، وانتهاء بالاحتفال معه في أعياده. أفيدونا جزاكم الله خيرا.
ج 1: إن واجب المسلم بالنسبة إلى غير المسلم أمور متعددة منها:
أولا: الدعوة إلى الله عز وجل، وهي أن يدعوه إلى الله ويبين له حقيقة الإسلام حيث أمكنه ذلك وحيث كانت لديه البصيرة؛ لأن هذا أعظم وأكبر إحسان يهديه إلى مواطنه وإلى من اجتمع به من اليهود أوالنصارى أو غيرهم من المشركين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (2) » وقوله عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه لما بعثه إلى خيبر وأمره أن يدعو اليهود إلى الإسلام قال: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (3) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا (4) » فدعوته إلى الله وتبليغه الإسلام ونصيحته في ذلك من أهم المهمات ومن أفضل القربات.
ثانيا: لا يظلمه في نفس ولا في مال ولا في عرض، إذا كان ذميا أو مستأمنا أو معاهدا، فإنه يؤدي إليه حقه، فلا يظلمه في ماله لا بالسرقة ولا بالخيانة ولا بالغش ولا يظلمه في البدن بالضرب ولا بالقتل. لأن كونه معاهدا أو ذميا في البلد أو مستأمنا يعصمه.
ثالثا: لا مانع في معاملته في البيع والشراء والتأجير ونحو ذلك، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اشترى من الكفار عباد الأوثان واشترى من
__________
(1) نشرت بالمجلة العربية في باب '' فاسألوا أهل الذكر.
(2) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2942) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(4) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .(4/266)
اليهود، وهذه معاملة، وقد توفي عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام لأهله.
رابعا: لا يبدؤه بالسلام ولكن يرد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبدؤا اليهود ولا النصارى بالسلام (1) » رواه مسلم. وقال: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم (2) » متفق عليه، فالمسلم لا يبدأ الكافر بالسلام، ولكن متى سلم عليه اليهودي أو النصراني أو غيرهما من الكفار يقول: وعليكم كما أمر به النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا من الحقوق المشروعة بين المسلم والكافر، ومن ذلك حسن الجوار، فإذا كان جارا لك تحسن إليه ولا تؤذه في جواره وتتصدق عليه إن كان فقيرا أو تهدي إليه إن كان غنيا وتنصح له فيما ينفعه؛ لأن هذا مما يسبب رغبته في الإسلام ودخوله فيه، ولأن الجار له حق عظيم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه (3) » متفق عليه، ولعموم قوله عز وجل: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (4)
وفي الحديث الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أن أمها وفدت عليها وهي مشركة في فترة الصلح الذي عقد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة تريد المساعدة فاستأذنت أسماء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك هل تصلها؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «صليها (5) » .
وليس للمسلم مشاركتهم في احتفالاتهم أو أعيادهم، لكن لا بأس أن يعزيهم في ميتهم إذا رأى المصلحة الشرعية في ذلك بأن يقول: جبر الله مصيبتك أو أحسن لك الخلف بخير، وما أشبهه من الكلام الطيب، ولا يقول غفر الله له، ولا يقول رحمه الله إذا كان كافرا أي لا يدعو للميت وإنما يدعو للحي بالهداية وبالعوض الصالح ونحو ذلك.
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2167) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2700) .
(2) صحيح البخاري الاستئذان (6258) ، صحيح مسلم السلام (2163) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3301) ، سنن أبو داود الأدب (5207) ، سنن ابن ماجه الأدب (3697) ، مسند أحمد بن حنبل (3/218) .
(3) صحيح البخاري الأدب (6015) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (2/85) .
(4) سورة الممتحنة الآية 8
(5) صحيح البخاري الجزية (3183) ، صحيح مسلم الزكاة (1003) ، سنن أبو داود الزكاة (1668) ، مسند أحمد بن حنبل (6/347) .(4/267)
جواب عن أربع مسائل مهمة (1)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
فقد سألني بعض الإخوان عن أربع مسائل، وهذا نص السؤال والجواب:
الأولى: ما حكم ذبائح أهل الكتاب.
الثانية: ما حكم نكاح نسائهم.
الثالثة: من هم أهل الكتاب.
الرابعة: من هم الخلفاء الراشدون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا نص الجواب. والله الموفق سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه وهو حسبنا ونعم الوكيل.
المسألة الأولى: ما حكم ذبائح أهل الكتاب
الجواب: حكمها الحل والإباحة بالإجماع ما لم يعلم أنها ذبحت على غير الوجه الشرعي كالخنق ونحوه؛ لقول الله سبحانه: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (2) الآية من سورة المائدة.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه: (لما ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين من الخبائث وما أحله لهم من الطيبات قال بعده: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (3) ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين من اليهود والنصارى فقال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (4) قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وإبراهيم النخعي والسدي ومقاتل بن حيان: يعني ذبائحهم وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن ذبائحهم حل للمسلمين؛
__________
(1) نشرت من مكتب سماحته بتاريخ 10 \ 8 \ 1407 هـ.
(2) سورة المائدة الآية 5
(3) سورة المائدة الآية 5
(4) سورة المائدة الآية 5(4/268)
لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه تعالى وتقدس
وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: «أدلي بجراب من شحم يوم خيبر فحضنته وقلت: لا أعطي اليوم من هذا أحدا والتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم (1) » فاستدل به الفقهاء على أنه يجوز تناول ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة قبل القسمة، وهذا ظاهر، واستدل به الفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة على أصحاب مالك في منعهم أكل ما يعتقد اليهود تحريمه من ذبائحهم كالشحوم ونحوها مما حرم عليهم، فالمالكية لا يجوزون للمسلمين أكله لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2) قالوا: وهذا ليس من طعامهم واستدل عليهم الجمهور بهذا الحديث، وفي ذلك نظر؛ لأنه قضية عين.
ويحتمل أن يكون شحما يعتقدون حله كشحم الظهر والحوايا ونحوهما والله أعلم. وأجود منه في الدلالة ما ثبت في الصحيح «أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مصلية وقد سموا ذراعها وكان يعجبه الذراع فتناوله فنهش منه نهشة فأخبره الذراع أنه مسموم فلفظه، وأثر ذلك في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبهره، وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور فمات فقتل اليهودية التي سمتها وكان اسمها زينب فقتلت ببشر بن البراء (3) » ، ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا؟ وفي الحديث الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة يعني ودكا زنخا، انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله، وفيه الدلالة على أن ذبائح أهل الكتاب حلال للمسلمين بالإجماع، وهكذا شحم ذبائحهم وإن كان محرما عليهم فهو حل لنا للأحاديث المذكورة آنفا، وهو قول جمهور أهل العلم خلافا لأصحاب مالك رحمهم الله جميعا.
__________
(1) صحيح البخاري فرض الخمس (3153) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1772) ، سنن النسائي الضحايا (4435) ، سنن أبو داود الجهاد (2702) ، مسند أحمد بن حنبل (4/86) ، سنن الدارمي السير (2500) .
(2) سورة المائدة الآية 5
(3) سنن أبو داود الديات (4510) ، سنن الدارمي كتاب المقدمة (68) .(4/269)
المسألة الثانية: ما حكم نكاح نسائهم
الجواب: حكم ذلك الحل والإباحة عند جمهور أهل العلم؛ لقول الله سبحانه في الآية السابقة من سورة المائدة: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) والمحصنة: هي الحرة العفيفة في أصح أقوال علماء التفسير.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه:
(وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} (2) أي وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات وذكر هذا توطئة لما بعده وهو قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (3) فقيل: أراد بالمحصنات الحرائر دون الإماء، حكاه ابن جرير عن مجاهد، وإنما قال مجاهد: المحصنات الحرائر فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة كما في الرواية الأخرى عنه وهو قول الجمهور ههنا وهو الأشبه لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة فيفسد حالها بالكلية ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل (حشف وسوء كيل) .
والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات: العفيفات عن الزنى كما قال تعالى في الآية الأخرى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} (4) ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (5) هل يعم كل كتابية عفيفة سواء كانت حرة أو أمة، حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف ممن فسر المحصنة بالعفيفة، وقيل المراد بأهل الكتاب ههنا الإسرائيليات وهو مذهب الشافعي، وقيل المراد بذلك الذميات دون الحربيات
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة المائدة الآية 5
(3) سورة المائدة الآية 5
(4) سورة النساء الآية 25
(5) سورة المائدة الآية 5(4/270)
لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} (1) الآية، وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول: لا أعلم شركا أعظم من أن تقول إن ربها عيسى وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (2) الآية.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب حدثنا القاسم بن مالك يعني المزني حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي مالك الغفاري قال: نزلت هذه الآية {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (3) قال: فحجز الناس عنهن حتى نزلت الآية التي بعدها {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (4) فنكح الناس نساء أهل الكتاب، وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا أخذا بهذه الآية الكريمة {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (5) فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (6) إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها وإلا فلا معارضة بينها وبينها؛ لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (7) وكقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} (8) الآية) انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله.
وقال أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة الحنبلي رحمه الله في كتابه المغني ما نصه: (ليس بين أهل العلم بحمد الله اختلاف في حل حرائر نساء أهل الكتاب، وممن روي عنه ذلك عمر وعثمان وطلحة
__________
(1) سورة التوبة الآية 29
(2) سورة البقرة الآية 221
(3) سورة البقرة الآية 221
(4) سورة المائدة الآية 5
(5) سورة المائدة الآية 5
(6) سورة البقرة الآية 221
(7) سورة البينة الآية 1
(8) سورة آل عمران الآية 20(4/271)
وحذيفة وسلمان وجابر وغيرهم، قال ابن المنذر: ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك، وروى الخلال بإسناده أن حذيفة وطلحة والجارود بن المعلى وأذينة العبدي تزوجوا نساء من أهل الكتاب، وبه قال سائر أهل العلم، وحرمته الإمامية تمسكا بقوله تعالى {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (1) ، {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (2) ولنا قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (3) إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (4) وإجماع الصحابة، فأما قوله سبحانه: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} (5) فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نسخت بالآية التي في سورة المائدة، وكذلك ينبغي أن يكون ذلك في الآية الأخرى؛ لأنهما متقدمتان والآية التي في المائدة متأخرة عنهما، وقال آخرون ليس هذا نسخا فإن لفظ المشركين بإطلاقه لا يتناول أهل الكتاب بدليل قوله سبحانه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} (6) وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} (7) وقوله عز وجل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (8) وقوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ} (9) وسائر آي القرآن يفصل بينهما، فدل على أن لفظة المشركين بإطلاقها غير متناولة لأهل الكتاب، وهذا معنى قول سعيد بن جبير وقتادة؛ ولأن
__________
(1) سورة البقرة الآية 221
(2) سورة الممتحنة الآية 10
(3) سورة المائدة الآية 5
(4) سورة المائدة الآية 5
(5) سورة البقرة الآية 221
(6) سورة البينة الآية 1
(7) سورة البينة الآية 6
(8) سورة المائدة الآية 82
(9) سورة البقرة الآية 105(4/272)
ما احتجوا به عام في كل كافرة، وآيتنا خاصة في حل نساء أهل الكتاب والخاص يجب تقديمه، إذا ثبت هذا فالأولى أن لا يتزوج كتابية؛ لأن عمر رضي الله عنه قال للذين تزوجوا من نساء أهل الكتاب (طلقوهن) ، فطلقوهن إلا حذيفة، فقال له عمر: (طلقها) قال: (تشهد أنها حرام) قال: (هي خمرة طلقها) قال: (تشهد أنها حرام) قال: (هي خمرة) قال: (قد علمت أنها خمرة ولكنها لي حلال فلما كان بعد طلقها فقيل له: ألا طلقتها حين أمرك عمر؟ قال: كرهت أن يرى الناس أني ركبت أمرا لا ينبغي لي، ولأنه ربما مال إليها قلبه فتفتنه، وربما كان بينهما ولد فيميل إليها) انتهى كلام صاحب المغني رحمه الله.
والخلاصة مما ذكره الحافظ ابن كثير وصاحب المغني رحمة الله عليهما أنه لا تعارض بين قوله سبحانه في سورة البقرة: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (1) الآية، وبين قوله عز وجل في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (2) الآية، لوجهين:
أحدهما: أن أهل الكتاب غير داخلين في المشركين عند الإطلاق؛ لأن الله سبحانه فصل بينهم في آيات كثيرات مثل قوله عز وجل: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} (3) الآية، وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} (4) الآية، وقوله عز وجل: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (5) الآية، إلى غير ذلك من الآيات المفرقة بين أهل الكتاب والمشركين، وعلى هذا الوجه لا تكون المحصنات من أهل الكتاب
__________
(1) سورة البقرة الآية 221
(2) سورة المائدة الآية 5
(3) سورة البينة الآية 1
(4) سورة البينة الآية 6
(5) سورة البقرة الآية 105(4/273)
داخلات في المشركات المنهي عن نكاحهن في سورة البقرة، فلا يبقى بين الآيتين تعارض، وهذا القول فيه نظر، والأقرب أن أهل الكتاب داخلون في المشركين والمشركات عند الإطلاق رجالهم ونساؤهم؛ لأنهم كفار مشركون بلا شك، ولهذا يمنعون من دخول المسجد الحرام لقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (1) الآية، ولو كان أهل الكتاب لا يدخلون في اسم المشركين عند الإطلاق لم تشملهم هذه الآية، ولما ذكر سبحانه عقيدة اليهود والنصارى في سورة براءة قال بعد ذلك: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) فوصفهم جميعا بالشرك. لأن اليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، ولأنهم جميعا اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وهذا كله من أقبح الشرك، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
والوجه الثاني: أن آية المائدة مخصصة لآية البقرة، والخاص يقضي على العام ويقدم عليه كما هو معروف في الأصول، وهو مجمع عليه في الجملة، وهذا هو الصواب، وبذلك يتضح أن المحصنات من أهل الكتاب حل للمسلمين غير داخلات في المشركات المنهي عن نكاحهن عند جمهور أهل العلم بل هو كالإجماع منهم لما تقدم في كلام صاحب المغني، ولكن ترك نكاحهن والاستغناء عنهن بالمحصنات من المؤمنات أولى وأفضل؛ لما جاء في ذلك عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابنه عبد الله وجماعة من السلف الصالح رضي الله عنهم، ولأن نكاح نساء أهل الكتاب فيه خطر ولا سيما في هذا العصر الذي استحكمت فيه غربة الإسلام وقل فيه الرجال الصالحون الفقهاء في الدين وكثر فيه الميل إلى النساء والسمع والطاعة لهن في كل شيء إلا ما شاء الله، فيخشى على الزوج أن تجره زوجته الكتابية إلى دينها وأخلاقها كما
__________
(1) سورة التوبة الآية 28
(2) سورة التوبة الآية 31(4/274)
يخشى على أولاده منها من ذلك والله المستعان.
فإن قيل: فما وجه الحكمة في إباحة المحصنات من أهل الكتاب للمسلمين وعدم إباحة المسلمات للرجال من أهل الكتاب، فالجواب عن ذلك- والله أعلم- أن يقال: إن المسلمين لما آمنوا بالله وبرسله وما أنزل عليهم ومن جملتهم موسى بن عمران وعيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام ومن جملة ما أنزل على الرسل التوراة المنزلة على موسى والإنجيل المنزل على عيسى، لما آمن المسلمون بهذا كله أباح الله لهم نساء أهل الكتاب المحصنات فضلا منه عليهم وإكمالا لإحسانه إليهم، ولما كفر أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من الكتاب العظيم وهو القرآن حرم الله عليهم نساء المسلمين حتى يؤمنوا بنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، فإذا آمنوا به حل لهم نساؤنا وصار لهم ما لنا وعليهم ما علينا والله سبحانه هو الحكم العدل البصير بأحوال عباده العليم بما يصلحهم الحكيم في كل شيء تعالى وتقدس وتنزه عن قول الضالين والكافرين وسائر المشركين.
وهناك حكمة أخرى وهي: أن المرأة ضعيفة سريعة الانقياد للزوج فلو أبيحت المسلمة لرجال أهل الكتاب لأفضى بها ذلك غالبا إلى دين زوجها فاقتضت حكمة الله سبحانه تحريم ذلك.(4/275)
المسألة الثالثة: من هم أهل الكتاب؟
والجواب: هم اليهود والنصارى، كما نص على ذلك علماء التفسير وغيرهم، أما المجوس فليسوا من أهل الكتاب عند الإطلاق ولكنهم يعاملون معاملتهم في أخذ الجزية منهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها منهم، أما نساؤهم وذبائحهم فحرام على المسلمين عند الأئمة الأربعة وغيرهم وهو كالإجماع من أهل العلم، وفي حلهما قول شاذ لا يعول عليه عند أهل العلم، وممن نص على ما ذكرنا من العلماء؛ أبو محمد بن قدامة رحمه الله في كتابه المغني قال ما نصه:
(فصل: وأهل الكتاب الذين هذا حكمهم هم أهل التوراة والإنجيل قال(4/275)
الله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} (1) فأهل التوراة اليهود والسامرة وأهل الإنجيل النصارى ومن وافقهم في أصل دينهم من الإفرنج والأرمن وغيرهم. . . إلى أن قال رحمه الله: فصل: وليس للمجوس كتاب ولا تحل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم نص عليه أحمد وهو قول عامة العلماء إلا أبا ثور فإنه أباح ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب (2) » ولأنه روي أن حذيفة تزوج مجوسية، ولأنهم يقرون بالجزية فأشبهوا اليهود والنصارى.
ولنا قول الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} (3) وقوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (4) فرخص من ذلك في أهل الكتاب، فمن عداهم يبقى على العموم ولم يثبت أن للمجوس كتابا.
وسئل أحمد: أيصح عن علي أن للمجوس كتابا؟ فقال: هذا باطل. واستعظمه جدا، ولو ثبت أن لهم كتابا فقد بينا أن حكم أهل الكتاب لا يثبت لغير أهل الكتابين، وقوله عليه السلام: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب (5) » دليل على أنه لا كتاب لهم وإنما أراد به النبي صلى الله عليه وسلم في حقن دمائهم وإقرارهم بالجزية لا غير، وذلك أنهم لما كانت لهم شبهة كتاب غلب ذلك في تحريم دمائهم فيجب أن يغلب حكم التحريم لنسائهم وذبائحهم، فإننا إذا غلبنا الشبهة في التحريم فتغليب الدليل الذي عارضته الشبهة في التحريم أولى، ولم يثبت أن حذيفة تزوج مجوسية، وضعف أحمد رواية من روى عن حذيفة أنه تزوج مجوسية، وقال أبو وائل: يقول تزوج يهودية وهو أوثق ممن روي عنه أنه تزوج مجوسية. وقال ابن سيرين: كانت امرأة حذيفة نصرانية، ومع تعارض الروايات لا يثبت حكم إحداهن إلا بترجيح، على أنه لو ثبت ذلك عن حذيفة فلا يجوز الاحتجاج به مع مخالفة الكتاب وقول سائر العلماء.
وأما إقرارهم بالجزية فلأننا غلبنا حكم التحريم لدمائهم فيجب أن يغلب حكم التحريم في ذبائحهم ونسائهم) انتهى المقصود من كلام صاحب المغني رحمه الله. والله أعلم.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 156
(2) موطأ مالك الزكاة (617) .
(3) سورة البقرة الآية 221
(4) سورة الممتحنة الآية 10
(5) موطأ مالك الزكاة (617) .(4/276)
المسألة الرابعة: من هو الخليفة الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يتلوه بالتسلسل إلخ؟
والجواب: قد أجمع أهل السنة والجماعة على أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا وهذه مراتبهم في الفضل والخلافة، وقد فضل بعض أهل السنة عليا على عثمان رضي الله عنهما، ولكن جمهور أهل السنة قدموا عثمان على علي؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم قدموه عليه في الخلافة، وجاءت آثار كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على ذلك.
وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة التي نقل فيها عقيدة أهل السنة والجماعة ما نصه: (ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان، ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون) انتهى.
قال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتابه المسمى (بالمقالات في حكاية مذهب أهل السنة والجماعة) ما نصه: (وجملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئا، وأن الله إله واحد فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور،(4/277)
وأن الله تعالى على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وأن له عينين بلا كيف كما قال سبحانه: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (2) وأن له يدين بلا كيف كما قال سبحانه: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (3) وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (4) وأن له وجها جل ذكره كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (5) إلى أن قال رحمه الله: ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم ويقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليا رضي الله تعالى عنهم ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون وأنهم أفضل الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم) .
انتهى المقصود من كلامه رحمه الله، وبه يعلم أن أصحاب الحديث وأهل السنة جميعهم يقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليا رضي الله عنهم جميعا في الفضل والخلافة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية التي ذكر فيها عقيدة أهل السنة والجماعة ما نصه: (ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله بذلك في قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (6) ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة من فضائلهم ومراتبهم. . . إلى أن قال رحمه الله: ويقرون بما تواتر به
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة القمر الآية 14
(3) سورة ص الآية 75
(4) سورة المائدة الآية 64
(5) سورة الرحمن الآية 27
(6) سورة الحشر الآية 10(4/278)
النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن غيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها، أبو بكر، ثم عمر، ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي رضي الله عنهم، كما دلت عليه الآثار وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما - بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر - أيهما أفضل، فقدم قوم عثمان وسكتوا وربعوا بعلي، وقدم قوم عليا، وقوم توقفوا، لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي، وإن كانت هذه المسألة- مسألة عثمان وعلي - ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن التي يضلل فيها هي مسألة الخلافة، وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله) والنقول عن أهل السنة في هذا الباب كثيرة ونرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية لطالب الحق.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يهدينا صراطه المستقيم إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.(4/279)
حكم الاحتفالات بالموالد ونحوها (1)
السؤال: أحدث بعض المشايخ احتفالات، لا أعرف لها وجها في الشرع، كالاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وبليلة الإسراء والمعراج والهجرة النبوية. نرجو أن توضحوا لنا ما دل عليه الشرع في هذه المسائل حتى نكون على بينة؟
الجواب: لا ريب أن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها وأتم عليها النعمة، كما قال الله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2) الآية.
وقد توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعد ما بلغ البلاغ المبين وأكمل الله به شرائع الدين فليس لأحد أن يحدث في دينه ما لم يشرعه الله عز وجل، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » متفق على صحته من حديث عائشة رضي الله عنها، وأخرج مسلم في صحيحه عنها، رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (4) » ومعنى قوله: " فهو رد " أي مردود، لا يجوز العمل به؛ لأنه زيادة في الدين لم يأذن الله بها، وقد أنكر سبحانه في كتابه المبين على من فعل ذلك، فقال عز وجل في سورة الشورى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (5) وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبة الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (6) » .
__________
(1) نشرت في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة، ركن الفتاوى، العدد الأول السنة الثانية رجب عام 1389 هـ.
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(4) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(5) سورة الشورى الآية 21
(6) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .(4/280)
والأحاديث والآثار في إنكار البدع والتحذير منها كثيرة، لا يتسع هذا الجواب لذكرها.
وهذه الاحتفالات التي ذكرت في السؤال لم يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أنصح الناس وأعلمهم بشرع الله، وأحرصهم على هداية الأمة وإرشادها إلى ما ينفعها ويرضي مولاها سبحانه، ولم يفعلها أصحابه رضي الله عنهم، وهم خير الناس وأعلمهم بعد الأنبياء، وأحرصهم على كل خير، ولم يفعلها أئمة الهدى في القرون المفضلة، وإنما أحدثها بعض المتأخرين، بعضهم عن اجتهاد واستحسان من غير حجة، وأغلبهم عن تقليد لمن سبقهم في هذه الاحتفالات، والواجب على جميع المسلمين هو السير على ما درج عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، والحذر مما أحدثه الناس في دين الله بعدهم، فذلك هو الصراط المستقيم والمنهج القويم، كما قال الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1)
وثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا على أصحابه هذه الآية، ثم خط خطا مستطيلا، فقال: " هذا سبيل الله "، ثم خط خطوطا عن يمينه وشماله، وقال: " هذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه "، ثم تلا هذه الآية: (3) » وقال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4) ومما ذكرنا من الأدلة يتضح لك أن هذه الاحتفالات كلها بدعة، يجب على المسلمين تركها والحذر منها، والمشروع للمسلمين هو التفقه
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) صحيح البخاري الرقاق (6417) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2454) ، سنن ابن ماجه الزهد (4231) ، مسند أحمد بن حنبل (1/435) ، سنن الدارمي المقدمة (202) .
(3) سورة الأنعام الآية 153 (2) {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}
(4) سورة الحشر الآية 7(4/281)
في الدين، والعناية بدراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل بها في جميع الزمان، لا في وقت المولد خاصة، وفيما شرع الله سبحانه غنية وكفاية عما أحدث من البدع.
أما ليلة الإسراء والمعراج فالصحيح من أهل العلم أنها لا تعرف، وما ورد في تعيينها من الأحاديث فكلها أحاديث ضعيفة لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قال: إنها ليلة 27 من رجب فقد غلط؛ لأنه ليس معه حجة شرعية تؤيد ذلك، ولو فرضنا أنها معلومة فالاحتفال بها بدعة؛ لأنه زيادة في الدين لم يأذن الله بها، ولو كان ذلك مشروعا لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أسبق إليه وأحرص عليه ممن بعدهم، وهكذا زمن الهجرة، لو كان الاحتفال به مشروعا لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولو فعلوه لنقل، فلما لم ينقل دل ذلك على أنه بدعة.
وأسأل الله عز وجل أن يصلح أحوال المسلمين ويمنحهم الفقه في الدين، وأن يعيذنا وإياكم وإياهم من جميع البدع والمحدثات، وأن يسلك بالجميع صراطه المستقيم، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(4/282)
حكم الاحتفال بمرور سنة أو سنتين لولادة الشخص
السؤال: ما حكم الاحتفال بمرور سنة أو سنتين مثلا أو أكثر أو أقل من السنين لولادة الشخص وهو ما يسمى بعيد الميلاد، أو إطفاء الشمعة؟ وما حكم حضور ولائم هذه الاحتفالات؟ وهل إذا دعي الشخص إليها يجيب الدعوة أم لا؟ أفيدونا أثابكم الله.
الجواب:
قد دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على أن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين ولا أصل لها في الشرع المطهر، ولا تجوز إجابة الدعوة إليها، لما في ذلك من تأييد للبدع والتشجيع عليها. . وقد قال الله سبحانه وتعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1) وقال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (2) {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (3) وقال سبحانه: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (4)
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (5) » أخرجه مسلم في صحيحه، وقال عليه الصلاة والسلام: «خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمرر محدثاتها وكل بدعة ضلالة (6) » . . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سورة الشورى الآية 21
(2) سورة الجاثية الآية 18
(3) سورة الجاثية الآية 19
(4) سورة الأعراف الآية 3
(5) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(6) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .(4/283)
ثم إن هذه الاحتفالات مع كونها بدعة منكرة لا أصل لها في الشرع هي مع ذلك فيها تشبه باليهود والنصارى لاحتفالهم بالموالد وقد قال عليه الصلاة والسلام محذرا من سنتهم وطريقتهم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: " فمن (1) » أخرجاه في الصحيحين. . ومعنى قوله: " فمن " أي هم المعنيون بهذا الكلام. وقال صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم (2) » والأحاديث في هذا المعنى معلومة كثيرة. وفق الله الجميع لما يرضيه.
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7320) ، صحيح مسلم العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (3/84) .
(2) سنن أبو داود اللباس (4031) .(4/284)
حكم إقامة أعياد الميلاد (1)
سؤال: ما حكم إقامة أعياد الميلاد؟
الجواب: الاحتفال بأعياد الميلاد لا أصل له في الشرع المطهر بل هو بدعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » متفق على صحته.
وفي لفظ لمسلم وعلقه البخاري رحمه الله في صحيحه جازما به: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بمولده مدة حياته ولا أمر بذلك، ولا علمه أصحابه وهكذا خلفاؤه الراشدون، وجميع أصحابه لم يفعلوا ذلك وهم أعلم الناس بسنته وهم أحب الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأحرصهم على اتباع ما جاء به فلو كان الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم مشروعا لبادروا إليه، وهكذا العلماء في القرون المفضله لم يفعله أحد منهم ولم يأمر به.
فعلم بذلك أنه ليس من الشرع الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم، ونحن نشهد الله سبحانه وجميع المسلمين أنه صلى الله عليه وسلم لو فعله أو أمر به أو فعله أصحابه رضي الله عنهم لبادرنا إليه ودعونا إليه. لأننا والحمد لله من أحرص الناس على اتباع سنته وتعظيم أمره ونهيه. ونسأل الله لنا ولجميع إخواننا المسلمين الثبات على الحق والعافية من كل ما يخالف شرع الله المطهر إنه جواد كريم.
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية العدد الخامس عشر، ص 285.
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(4/285)
حكم الاحتفال بالموالد (1)
الحمد لله والصلاة، والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد اطلعت على كلمة نشرتها جريدة المدينة بعددها الصادر في يوم الاثنين الموافق 28 \ 12 \ 1401 هـ مضمونها أن الأخ جمال محمد القاضي رأى في برنامج أبناء الإسلام الذي يبث من التلفاز السعودي حلقة تشتمل على الاحتفال بعيد الميلاد. ويسأل جمال هل عيد الميلاد يجيزه الإسلام؟ . إلخ.
والجواب: لا ريب أن الله سبحانه وتعالى شرع للمسلمين عيدين يجتمعون فيهما للذكر والصلاة، وهما: عيد الفطر والأضحى بدلا من أعياد الجاهلية، وشرع أعيادا تشتمل على أنواع من الذكر والعبادة كيوم الجمعة ويوم عرفة وأيام التشريق، ولم يشرع لنا سبحانه وتعالى عيدا للميلاد لا ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره، بل قد دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على أن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين ومن التشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم، فالواجب على أهل الإسلام ترك ذلك والحذر منه، وإنكاره على من فعله وعدم نشر أو بث ما يشجع على ذلك أو يوهم إباحته في الإذاعة أو الصحافة أو التلفاز لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » متفق عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » أخرجه مسلم في صحيحه وعلقه البخاري جازما به، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبة الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (4) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وفي مسند أحمد بإسناد جيد عن
__________
(1) مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(4) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .(4/286)
ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تشبه بقوم فهو منهم (1) » وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة وفي لفط شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال فمن (2) » .
وفي هذا المعنى أحاديث أخرى كلها تدل على وجوب الحذر من مشابهة أعداء الله في أعيادهم وغيرها، وأشرف الخلق وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بمولده في حياته، ولم يحتفل به أصحابه بعده رضي الله عنهم ولا التابعون لهم بإحسان في القرون الثلاثة المفضلة، ولو كان الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم أو مولد غيره خيرا لسبقنا إليه أولئك الأخيار، ولعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أمته وحثهم عليه أو فعله بنفسه، فلما لم يقع شيء من ذلك علمنا أن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين التي يجب تركها والحذر منها امتثالا لأمر الله سبحانه وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكر بعض أهل العلم أن أول من أحدث الاحتفال بالموالد هم الشيعة الفاطميون في المائة الرابعة، ثم تبعهم بعض المنتسبين إلى السنة في هذه البدعة جهلا وتقليدا لهم ولليهود والنصارى، ثم انتشرت هذه البدعة في الناس، والواجب على علماء المسلمين بيان حكم الله في هذه البدع وإنكارها والتحذير منها، لما يترتب على وجودها من الفساد الكبير وانتشار البدع واختفاء السنن، ولما في ذلك من التشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم من أصناف الكفرة الذين يعتادون مثل هذه الاحتفالات، وقد كتب أهل العلم في ذلك قديما وحديثا، وبينوا حكم الله في هذه البدع فجزاهم الله خيرا، وجعلنا من أتباعهم بإحسان.
وهذه الكلمة الموجزة أردنا بها التنبيه للقراء على هذه البدعة ليكونوا على
__________
(1) سنن أبو داود اللباس (4031) .
(2) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7320) ، صحيح مسلم العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (3/84) .(4/287)
بينة، وقد كتبت في ذلك كتابة مطولة نشرت في الصحف المحلية وغيرها غير مرة، ولا ريب أن الواجب على المسئولين في حكومتنا وفي وزارة الإعلام بوجه أخص وعلى جميع المسئولين في الدول الإسلامية منع نشر هذه البدع والدعوة إليها أو نشر ما يوهم الناس إباحتها أداء لواجب النصح لله ولعباده، وقياما بما أوجب الله من إنكار المنكر، ومساهمة في إصلاح أوضاع المسلمين وتطهيرها مما يخالف الشرع المطهر، والله المسئول بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يوفقهم للتمسك بكتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، والحذر من كل ما يخالفهما، وأن يصلح قادتهم ويوفقهم لتحكيم شريعة الله في عباده ومحاربة ما خالفها إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(4/288)
هل يحل للمسلمين أن يحتفلوا بالمولد النبوي؟ (1)
السؤال: هل يحل للمسلمين أن يحتفلوا في المسجد ليتذكروا السيرة النبوية الشريفة في ليلة 12 ربيع الأول بمناسبة المولد النبوي الشريف بدون أن يعطلوا نهاره كالعيد؟ واختلفنا فيه، قيل بدعة حسنة، وقيل بدعة غير حسنة
الجواب: ليس للمسلمين أن يقيموا احتفالا بمولد النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة 12 ربيع الأول ولا في غيرها، كما أنه ليس لهم أن يقيموا أي احتفال بمولد غيره عليه الصلاة والسلام؛ لأن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بمولده في حياته صلى الله عليه وسلم وهو المبلغ للدين والمشرع للشرائع عن ربه سبحانه ولا أمر بذلك ولم يفعله خلفاؤه الراشدون ولا أصحابه جميعا ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة. فعلم أنه بدعة وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » متفق على صحته، وفي رواية لمسلم وعلقها البخاري جازما بها «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » .
والاحتفال بالموالد ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بل هو مما أحدثه الناس في دينه في القرون المتأخرة فيكون مردودا، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (4) » رواه مسلم في صحيحه وأخرجه النسائي بإسناد جيد وزاد «وكل ضلالة في النار (5) » ويغني عن الاحتفال بمولده تدريس الأخبار المتعلقة بالمولد ضمن الدروس التي تتعلق بسيرته عليه الصلاة والسلام وتاريخ حياته في الجاهلية والإسلام في المدارس والمساجد وغير ذلك، من غير حاجة إلى إحداث احتفال لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يقم عليه دليل شرعي.
والله المستعان ونسأل الله لجميع المسلمين الهداية والتوفيق للاكتفاء بالسنة والحذر من البدعة.
__________
(1) كتاب الدعوة ج 1 ص 240.
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(4) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(5) سنن النسائي صلاة العيدين (1578) .(4/289)
وصية بمناسبة تعيين الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن عويشز في رئاسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم عبد العزيز بن عبد الله بن عويشز وفقه الله.
سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته، كتابكم الكريم وصل وصلكم الله بهداه ونظمني وإياكم في سلك من خافه واتقاه آمين، وما تضمنه من الإفادة عن تعيينكم في رئاسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالظهران كان معلوما وقد كنت عازما على مكاتبتكم من حين بلغني ذلك ولكن كثرة الشواغل أوجبت التأخير حتى جاء كتابكم أحسن الله للجميع العاقبة. والذي أوصيكم به ونفسي تقوى الله وخشيته في جميع الأحوال وتقديم حقه على ما سواه والصدق في معاملته والنصح له ولعباده حسب الطاقة وأوصيكم برعاية القاعدة الشرعية القدرية عند تعارض المصالح والمفاسد وعدم إمكان تحصيل جميع المصالح ودرء جميع المفاسد وهي تحصيل أعلى المصلحتين أو المصالح ولو بتفويت الدنيا منهما أو منها ودرء وتعطيل كبرى المفسدتين أو المفاسد ولو بارتكاب الدنيا منهما أو منها، وأنتم في محل يحتاج إلى عناية وسياسة شرعية وقوة في أمر الله ولين عند الحاجة، فاتقوا الله واصبروا وصابروا وشجعوا أنفسكم وإخوانكم الأعضاء والهيئات الأخرى التي في الدمام والخبر والثقبة وغيرها بالثقة بالله والاعتماد عليه والاستنصار به، وتذكر حال النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح وما حصل عليهم من الأذى في الدعوة وصيرهم على ذلك حتى بلغهم الله المنى وأبطل بهم كيد الأعداء ونصر بهم حزب الإيمان وخذل بهم حزب الشيطان وذلك من تأويل قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1)
__________
(1) سورة الحج الآية 40(4/290)
وقوله سبحانه: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (2) وأوصيكم أيضا أن تكونوا والأعضاء أسرع الناس إلى كل خير ومن أبعدهم عن كل شر؛ لأن هذا هو الذي ينبغي لكل مسلم عموما وهو في حق الداعي إلى الله والآمر بالمعروف آكد، وهو من الدعوة إلى الله بالفعل مع القول، ونفع ذلك عظيم لا يخفى، وقد تكون الدعوة بالفعل في بعض الأزمان والأماكن أنفع من الدعوة بالقول ولئلا يصير للسفهاء عليكم حجة، ويكفي في هذا المعنى قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (3) وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (4) {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (5) والله المسئول أن يجعلنا وإياكم من الفقهاء في دينه والدعاة إليه على بصيرة، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا وأن يعيذنا وإياكم وجميع إخواننا المسلمين من مضلات الفتن ونزغات الشيطان إنه سميع قريب. وأرجو إبلاغ السلام الشيخ سليمان والشيخ إبراهيم العمود ومن لديكم من المشايخ وخواص الإخوان والأعضاء كما أننا والأولاد والمشايخ والإخوان بخير وعافية والله يتولاكم والسلام.
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة العنكبوت الآية 69
(3) سورة البقرة الآية 44
(4) سورة الصف الآية 2
(5) سورة الصف الآية 3(4/291)
معنى نقص العقل والدين عند النساء (1)
السؤال: دائما نسمع الحديث الشريف (النساء ناقصات عقل ودين) ويأتي به بعض الرجال للإساءة للمرأة. نرجو من فضيلتكم توضيح معنى هذا الحديث.
الجواب: معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب الرجل الحازم من إحداكن فقيل يا رسول الله ما نقصان عقلها؟ قال أليست شهادة المرأتين بشهادة رجل؟ قيل يا رسول الله ما نقصان دينها؟ قال أليست إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ (2) » بين عليه الصلاة والسلام أن نقصان عقلها من جهة ضعف حفظها وأن شهادتها تجبر بشهادة امراة أخرى؛ وذلك لضبط الشهادة بسبب أنها قد تنسى فتزيد في الشهادة أو تنقصها كما قال سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} (3) الآية، وأما نقصان دينها؛ فلأنها في حال الحيض والنفاس تدع الصلاة وتدع الصوم ولا تقضي الصلاة، فهذا من نقصان الدين، ولكن هذا النقص ليست مؤاخذة عليه، وإنما هو نقص حاصل بشرع الله عز وجل، هو الذي شرعه عز وجل رفقا بها وتيسيرا عليها لأنها إذا صامت مع وجود الحيض والنفاس يضرها ذلك، فمن رحمة الله شرع لها ترك الصيام وقت الحيض والنفاس والقضاء بعد ذلك. وأما الصلاة فإنها حال الحيض قد وجد منها ما يمنع الطهارة، فمن رحمة الله جل وعلا أن يشرع لها ترك الصلاة، وهكذا في النفاس، ثم شرع لها أنها لا تقضي؛ لأن في القضاء مشقة كبيرة؛ لأن الصلاة تتكرر في اليوم
__________
(1) نشرت في المجلة العربية ضمن الإجابات في باب (فاسألوا أهل الذكر) .
(2) صحيح البخاري الحيض (304) ، صحيح مسلم الإيمان (80) .
(3) سورة البقرة الآية 282(4/292)
والليلة خمس مرات، والحيض قد تكثر أيامه، فتبلغ سبعة أيام أو ثمانية أيام أو أكثر، والنفاس قد يبلغ أربعين يوما فكان من رحمة الله لها وإحسانه إليها أن أسقط عنها الصلاة أداء وقضاء، ولا يلزم من هذا أن يكون نقص عقلها في كل شيء ونقص دينها في كل شيء، وإنما بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن نقص عقلها من جهة ما قد يحصل من عدم الضبط للشهادة، ونقص دينها من جهة ما يحصل لها من ترك الصلاة والصوم في حال الحيض والنفاس، ولا يلزم من هذا أن تكون أيضا دون الرجل في كل شيء وأن الرجل أفضل منها في كل شيء، نعم جنس الرجال أفضل من جنس النساء في الجملة لأسباب كثيرة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (1) لكن قد تفوقه في بعض الأحيان في أشياء كثيرة، فكم لله من امرأة فوق كثير من الرجال في عقلها ودينها وضبطها، وإنما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جنس النساء دون جنس الرجال في العقل وفي الدين من هاتين الحيثيتين اللتين بينهما النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد تكثر منها الأعمال الصالحات فتربو على كثير من الرجال في عملها الصالح وفي تقواها لله عز وجل وفي منزلتها في الآخرة، وقد تكون لها عناية في بعض الأمور فتضبط ضبطا كثيرا أكثر من ضبط بعض الرجال في كثير من المسائل التي تعنى بها وتجتهد في حفظها وضبطها، فتكون مرجعا في التاريخ الإسلامي وفي أمور كثيرة، وهذا واضح لمن تأمل أحوال النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك، وبهذا يعلم أن هذا النقص لا يمنع من الاعتماد عليها في الرواية وهكذا في الشهادة إذ انجبرت بامرأة أخرى، ولا يمنع أيضا تقواها لله وكونها من خيرة عباد الله ومن خيرة إماء الله إذا استقامت
__________
(1) سورة النساء الآية 34(4/293)
في دينها وإن سقط عنها الصوم في الحيض والنفاس أداء لا قضاء، وإن سقطت عنها الصلاة أداء وقضاء، فإن هذا لا يلزم منه نقصها في كل شيء من جهة تقواها لله، ومن جهة قيامها بأمره، ومن جهة ضبطها لما تعتني به من الأمور، فهو نقص خاص في العقل والدين كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي للمؤمن أن يرميها بالنقص في كل شيء وضعف الدين في كل شيء، وإنما هو ضعف خاص بدينها، وضعف في عقلها فيما يتعلق بضبط الشهادة ونحو ذلك، فينبغي إيضاحها وحمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على خير المحامل وأحسنها، والله تعالى أعلم.(4/294)
نوعية جهاد الفلسطينيين (1) .
ما تقول الشريعة الإسلامية في جهاد الفلسطينيين الحالي، هل هو جهاد في سبيل الله، أم جهاد في سبيل الأرض والحرية؟ وهل يعتبر الجهاد من أجل تخليص الأرض جهادا في سبيل الله؟
الجواب: لقد ثبت لدينا بشهادة العدول الثقات أن الانتفاضة الفلسطينية والقائمين بها من خواص المسلمين هناك وأن جهادهم إسلامي؛ لأنهم مظلومون من اليهود؛ ولأن الواجب عليهم الدفاع عن دينهم وأنفسهم وأهليهم وأولادهم وإخراج عدوهم من أرضهم بكل ما استطاعوا من قوة.
وقد أخبرنا الثقات الذين خالطوهم في جهادهم وشاركوهم في ذلك عن حماسهم الإسلامي وحرصهم على تطبيق الشريعة الإسلامية فيما بينهم، فالواجب على الدول الإسلامية وعلى بقية المسلمين تأييدهم ودعمهم ليتخلصوا من عدوهم وليرجعوا إلى بلادهم عملا بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (2)
وقوله سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) الآيات وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (4) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (6) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (7)
__________
(1) مجلة الدعوة الصادرة في 9 \ 8 \ 1409 هـ.
(2) سورة التوبة الآية 123
(3) سورة التوبة الآية 41
(4) سورة الصف الآية 10
(5) سورة الصف الآية 11
(6) سورة الصف الآية 12
(7) سورة الصف الآية 13(4/295)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (1) » .
ولأنهم مظلومون، فالواجب على إخوانهم المسلمين نصرهم على من ظلمهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه (2) » متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قالوا يا رسول الله نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما قال تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه (3) » .
والأحاديث في وجوب الجهاد في سبيل الله ونصر المظلوم وردع الظالم كثيرة جدا.
فنسأل الله أن ينصر إخواننا المجاهدين في سبيل الله في فلسطين وفي غيرها على عدوهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يوفق المسلمين جميعا لمساعدتهم والوقوف في صفهم ضد عدوهم، وأن يخذل أعداء الإسلام أينما كانوا وينزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين إنه سميع قريب.
__________
(1) سنن النسائي الجهاد (3096) ، سنن أبو داود الجهاد (2504) ، مسند أحمد بن حنبل (3/251) ، سنن الدارمي الجهاد (2431) .
(2) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) ، مسند أحمد بن حنبل (2/91) .
(3) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .(4/296)
وجوب الرفق بالحيوان (1) .
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى جناب الأخ المكرم.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
فقد اطلعت على رسالتكم المؤرخة في 24 \ 1 \ 1982 م بخصوص ما رغبتم في كتابته منا في موضوع نقل الحيوان من بلادكم باستراليا إلى الشرق الأوسط وما يتعرض له من ظروف الشحن السيئة وأحوال السفن التي ينقل عليها وما ينتج من الزحام وما إلى ذلك. وإذ ندعو الله أن يسلك بنا وبكم وإخواننا المسلمين صراطه المستقيم لنشكركم على اهتمامكم بهذا الجانب المهم، كما تسرنا إجابتكم على ضوء نصوص الكتاب الكريم والسنة المطهرة الواردة بالحث على الإحسان الشامل للحيوان مأكول اللحم وغير مأكوله مع طائفة من الأحاديث مما صح في الوعيد لمعذبه سواء كان ذلك نتيجة تجويع أو إهمال في حالة نقل أو سواه.
فمما جاء في الحث على الإحسان الشامل للحيوان وسواه قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (2) وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (3) الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وأصحاب السنن: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته (4) » - وفي رواية - «فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته (5) » .
وفي إغاثة الملهوف منه صح الخبر بعظيم الأجر لمغيثه وغفران ذنبه وشكر صنيعه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما
__________
(1) نشرت بمجلة الدعوة العدد 910 شهر ذي الحجة عام 1403 هـ ص 10 - 11.
(2) سورة البقرة الآية 195
(3) سورة النحل الآية 90
(4) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4405) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .
(5) سنن الترمذي الديات (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) .(4/297)
رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له " فقالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجرا فقال في كل كبد رطبة أجر (1) » .
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما كلب يطيف بركية قد كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فاستقت له به فسقته فغفر لها به (2) » رواه مسلم في صحيحه، وكما حث الإسلام على الإحسان وأوجبه لمن يستحقه نهى عن خلافه من الظلم والتعدي فقال تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (3) وقال تعالى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} (4) وفي صحيح مسلم «أن ابن عمر رضي الله عنهما مر بنفر قد نصبوا دجاجة يترامونها، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا عنها، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا (5) » .
وفيه عن أنس رضي الله عنه «نهى رسول الله أن تصبر البهائم (6) » - أي تحبس حتى تموت- وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا (7) » وعن ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب النحلة والنملة والهدهد والصرد (8) » رواه أبو داود بإسناد صحيح.
وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض (9) » وفي سنن أبي داود عن أبي واقد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت (10) » وأخرجه الترمذي بلفط: «ما قطع من الحي فهو ميت (11) » .
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6009) ، صحيح مسلم السلام (2244) ، سنن أبو داود الجهاد (2550) ، مسند أحمد بن حنبل (2/375) ، موطأ مالك الجامع (1729) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3467) ، صحيح مسلم السلام (2245) ، مسند أحمد بن حنبل (2/510) .
(3) سورة البقرة الآية 190
(4) سورة الفرقان الآية 19
(5) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5515) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1958) ، مسند أحمد بن حنبل (2/103) ، سنن الدارمي الأضاحي (1973) .
(6) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5513) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1956) ، سنن النسائي الضحايا (4439) ، سنن أبو داود الضحايا (2816) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3186) ، مسند أحمد بن حنبل (3/171) .
(7) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1957) ، سنن الترمذي الأطعمة (1475) ، سنن النسائي الضحايا (4443) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3187) ، مسند أحمد بن حنبل (1/297) .
(8) سنن أبو داود الأدب (5267) ، سنن ابن ماجه الصيد (3224) ، مسند أحمد بن حنبل (1/347) ، سنن الدارمي الأضاحي (1999) .
(9) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3482) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2242) .
(10) سنن ابن ماجه كتاب الصيد (3216) .
(11) سنن ابن ماجه الصيد (3217) .(4/298)
وعن أبي مسعود قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة تعرش فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال " من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها " ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال "من حرق هذه؟ " قلنا نحن قال " إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار (1) » رواه أبو داود.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من إنسان قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عز وجل عنها قيل: يا رسول الله وما حقها؟ قال أن يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها فيرمي بها (2) » رواه النسائي والحاكم وصححه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على حمار قد وسم في وجهه فقال: لعن الله الذي وسمه (3) » رواه مسلم، وفي رواية له: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه (4) » وهذا شامل للإنسان والحيوان.
فهذه النصوص وما جاء في معناها دالة على تحريم تعذيب الحيوان بجميع أنواعه حتى ما ورد الشرع بقتله، ومنطوق هذه الأدلة ومفهومها الدلالة على عناية الإسلام بالحيوان سواء ما يجلب له النفع أو يدرأ عنه الأذى، فالواجب جعل ما ورد من ترغيب في العناية به وما ورد من ترهيب في تعذيبه في أي جانب يتصل به أن يكون نصب الأعين وموضع الاهتمام، ولا سيما النوع المشار إليه من الأنعام لكونه محترما في حد ذاته أكلا ومالية، ويتعلق به أحكام شرعية في وجوه الطاعات والقربات من جهة، ومن أخرى لكونه عرضة لأنواع كثيرة من المتاعب عند شحنه ونقله بكميات كبيرة خلال مسافات طويلة، ربما ينتج عنها تزاحم مهلك لضعيفها، وجوع وعطش وتفشي أمراض فيما بينها، وحالات أخرى مضرة تستوجب النظر السريع
__________
(1) سنن أبو داود الجهاد (2675) .
(2) سنن النسائي الصيد والذبائح (4349) ، مسند أحمد بن حنبل (2/210) .
(3) صحيح مسلم اللباس والزينة (2117) ، سنن أبو داود الجهاد (2564) .
(4) صحيح مسلم اللباس والزينة (2116) ، سنن الترمذي الجهاد (1710) .(4/299)
والدراسة الجادة من أولياء الأمور بوضع ترتيبات مريحة شاملة لوسائل النقل والترحيل والإعاشة، من إطعام وسقي وغير ذلك من تهوية وعلاج، وفصل الضعيف عن القوي الخطر، والسقيم عن الصحيح في كل المراحل حتى تسويقها قدر المستطاع، وهو اليوم شيء ممكن للمؤسسات المستثمرة والأفراد والشركات المصدرة والمستوردة وهو من واجب نفقتها على ملاكها ومن هي تحت يده بالمعروف.
ومما يؤسف له ويستوجب الإنكار والتحذير منه: الطرق المستخدمة اليوم في ذبح الحيوان مأكول اللحم في أكثر بلدان العالم الأجنبي وما يمهد له عند الذبح بأنواع من التعذيب كالصدمات الكهربائية في مركز الدماغ لتخديره ثم مروره بكلاليب تخطفه وتعلقه منكسا وهو حي مارا بسير كهربائي حتى موضع من يتولى ذبحه لدى بعض مصانع الذبح والتعليب، ومنها نتف ريش الدجاج والطيور وهي حية أو تغطيسها في ماء شديد الحرارة وهي حية أو تسليط بخار عليها لإزالة الريش زاعمين أنه أرفق بما يراد ذبحه من الحيوان، حسبما هو معلوم عن بعض تلك الطرق للذبح، وهذا فيه من التعذيب ما لا يخفى مخالفته لنصوص الأمر بالإحسان إليه والحث على ذلك في الشريعة الإسلامية السمحاء، وكل عمل مخالف لها يعتبر تعديا وظلما يحاسب عليه قاصده، لما سلف ذكره، ولما صح في الحديث: «إن الله ليقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء (1) » فكيف بمن يعقل الظلم ونتائجه السيئة ثم يقدم عليه. .
وبناء على النصوص الشرعية ومقتضياتها بوب فقهاء التشريع الإسلامي لما يجب ويستحب أو يحرم ويكره بخصوص الحيوان بوجه عام وبما يتعلق بالذكاة لمباح الأكل بوجه تفصيلي خاص، نسوق طائفة مما يتعلق بجانب الإحسان إليه عند تذكيته، ومنه: المستحبات الآتية:
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2582) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2420) ، مسند أحمد بن حنبل (2/235) .(4/300)
1 - عرض الماء على ما يراد ذبحه للحديث السابق: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء (1) » الحديث.
2 - أن تكون آلة الذبح حادة وجيدة، وأن يمرها الذابح على محل الذكاة بقوة وسرعة، ومحله اللبة من الإبل والحلق من غيرها من المقدور على تذكيته.
3 - أن تنحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى إن تيسر ذلك موجهة إلى القبلة.
4 - وذبح غير الإبل مضجعة على جنبها الأيسر موجهه إلى القبلة ويضع رجله على صفحة عنقها غير مشدودة الأيدي أو الأرجل وبدون لي شيء منها أو كسره قبل زهوق روحها وسكون حركتها، ويكره خنع رقبتها قبل ذلك، أو أن تذبح وأخرى تنظر.
هذه المذكورات مما يستحب عند التذكية للحيوان رحمة به وإحسانا إليه ويكره خلافها وكل ما لا إحسان فيه كجره برجله، فقد روى عبد الرزاق موقوفا أن ابن عمر رأى رجلا يجر شاة برجلها ليذبحها فقال له: (ويلك قدها إلى الموت قودا جميلا) .
أو أن يحد الشفرة والحيوان يبصره وقت الذبح. لما ثبت في مسند الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحد الشفار وأن توارى عن البهائم (2) » وما ثبت في معجمي الطبراني الكبير والأوسط ورجاله رجال الصحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها قال أفلا قبل هذا؟ أتريد أن تميتها موتتين» .
أما غير المقدور على تذكيته كالصيد الوحشي أو المتوحش، وكالبعير يند
__________
(1) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4405) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .
(2) سنن ابن ماجه الذبائح (3172) ، مسند أحمد بن حنبل (2/108) .(4/301)
فلم يقدر عليه فيجوز رميه بسهم أو نحوه بعد التسمية عليه مما يسيل الدم غير عظم وظفر، ومتى قتله السهم جاز أكله لأن قتله بذلك في حكم تذكية المقدور عليه تذكية شرعية ما لم يحتمل موته بغير السهم أو معه.
وهذا جرى ذكره منا على سبيل الإفادة بمناسبة طلبكم لا على سبيل الحصر، لما ورد وصح نقله بشأن الحيوان على اختلاف أنواعه، فالإسلام دين الرحمة وشريعة الإحسان ومنهاج الحياة المتكامل والطريق الموصلة إلى الله ودار كرامته، فالواجب الدعوة له والتحاكم إليه والسعي في نشره بين من لا يعرفه وتذكير عامة المسلمين بما يجهلون من أحكامه ومقاصده ابتغاء وجه الله، فمقاصد التشريع الإسلامي في غاية العدل والحكمة، فلا تحريم من كل نافع حيواني خلافا لما عليه البوذيون، ولا إباحة لكل ضار منه خلافا لما عليه أكلة الخبائث من الخنزير والسباع المفترسة وما في حكمها، ولا ظلم ولا إهدار لحرمة كل محترم من نفس أو مال أو عرض، فنشكر الله على نعمه التي أجلها نعمة الإسلام مع الابتهال إليه أن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن لا يجعلنا بسبب تقصيرنا فتنة للقوم الكافرين وصلى الله وسلم على نبينا محمد المبلغ البلاغ المبين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(4/302)
أسئلة مهمة والجواب عليها
حكم الصلاة مع المتمسكين بالبدعة
السؤال الأول: ما حكم المقيم في بلد أهله متمسكون بالبدعة هل يصح له أن يصلي معهم صلاة الجمعة والجماعة أو يصلي وحده أو تسقط عنه الجمعة، وإذا كان أهل السنة ببلد أقل من اثني عشر فهل تصح لهم الجمعة أم لا؟ .
الجواب: إن إقامة صلاة الجمعة واجبة خلف كل إمام بر أو فاجر، فإذا كان الإمام في الجمعة لا تخرجه بدعته عن الإسلام فإنه يصلى خلفه، قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة: (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم) انتهى، قال الشارح لهذه العقيدة وهو من العلماء المحققين في شرح هذه الجملة: قال صلى الله عليه وسلم: «صلوا خلف كل بر وفاجر» رواه مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه وأخرجه الدارقطني وقال: مكحول لم يلق أبا هريرة، وفي إسناده معاوية بن صالح متكلم فيه وقد احتج به مسلم في صحيحه، وخرجه الدارقطني أيضا وأبو داود عن مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة واجبة عليكم مع كل مسلم برا كان أو فاجرا وإن عمل بالكبائر، والجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا وإن عمل الكبائر (1) » وفي صحيح البخاري أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي، وكذا أنس بن مالك، وكان الحجاج فاسقا ظالما، وفي صحيحه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يصلون لكم فإن أصابوا فلكم وإن أخطأوا فلكم وعليهم (2) » وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلوا خلف من قال لا إله إلا الله وصلوا على من مات من أهل لا إلا لله»
__________
(1) سنن أبو داود الجهاد (2533) .
(2) صحيح البخاري الأذان (694) ، مسند أحمد بن حنبل (2/355) .(4/303)
أخرجه الدارقطني من طرق وضعفها.
اعلم رحمك الله وإيانا أنه يجوز للرجل أن يصلي خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقا باتفاق الأئمة وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه ولا أن يمتحنه فيقول: ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف المستور الحال، ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته أو فاسق ظاهر الفسق وهو الإمام الراتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه كإمام الجمعة والعيدين والإمام في صلاة الحج بعرفة ونحو ذلك - فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف، ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند أكثر العلماء، والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون، كما كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يصلي خلف الحجاج بن يوسف وكذلك أنس بن مالك رضي الله عنه كما تقدم، وكذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان يشرب الخمر، حتى إنه صلى بهم الصبح مرة أربعا ثم قال: أزيدكم. فقال له ابن مسعود: (ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة) وفي الصحيح أن عثمان رضي الله عنه لما حصر صلى بالناس شخص، فسأل سائل عثمان إنك إمام عامة وهذا الذي صلى بالناس إمام فتنة فقال: (يا ابن أخي إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم) .
والفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صحيحة، فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته، لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب.
ومن ذلك: أن من أظهر بدعة وفجورا لا يرتب إماما للمسلمين فإنه(4/304)
يستحق التعزير حتى يتوب، فإن أمكن هجره حتى يتوب كان حسنا وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثر ذلك في إنكار المنكر حتى يتوب أو يعزل أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه، فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان في ذلك مصلحة شرعية ولم تفت المأموم جمعة ولا جماعة.
وأما إذا كان ترك الصلاة خلفه يفوت المأموم الجمعة والجماعة فهنا لا يترك الصلاة خلفه إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم، وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية فهنا لا يترك الصلاة خلفه بل الصلاة خلفه أفضل.
فإذا أمكن للإنسان أن لا يقدم مظهرا للمنكر في الإمامة وجب عليه ذلك، لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان لا يتمكن من صرفه عن الإمامة إلا بشر أعظم ضررا من ضرر ما أظهر من المنكر فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظمهما، فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، فتفويت الجمع والجماعات أعظم فسادا من الاقتداء فيهما بالإمام الفاجر، لا سيما إذا كان التخلف عنها لا يدفع فجورا فيبقى تعطيل المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة.
وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر فهذا أولى من فعلها خلف الفاجر، وحينئذ فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر فهو موضع اجتهاد العلماء، منهم من قال يعيد، ومنهم من قال لا يعيد، وموضع بسط ذلك في كتب الفروع. انتهى كلام الشارح. والأقرب في هذه المسألة الأخيرة عدم الإعادة للأدلة السابقة. ولأن الأصل عدم وجوب الإعادة فلا يجوز الإلزام بها إلا بدليل خاص يقتضي ذلك، ولا نعلم وجوده والله الموفق.(4/305)
وأما السؤال الثاني:
فجوابه أن يقال: هذه المسألة فيها خلاف مشهور بين أهل العلم، والصواب في ذلك: جواز إقامة الجمعة بثلاثة فأكثر إذا كانوا مستوطنين في قرية لا تقام فيها الجمعة، أما اشتراط أربعين أو اثني عشر أو أقل أو أكثر لإقامة الجمعة فليس عليه دليل يعتمد عليه فيما نعلم، وإنما الواجب أن تقام في جماعة وأقلها ثلاثة وهو قول جماعة من أهل العلم واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الصواب كما تقدم.(4/306)
كسب المصور
السؤال الثالث: لقد اكتسبت من عمل التصوير مالا وأنا مستعد للتنازل عنه إرضاء لله ورسوله، فما حكم ذلك المال هل هو حرام أم ماذا أصنع فيه؟
الجواب: أرجو أن لا يكون عليكم فيه حرج لأنكم حين اكتسابه لم تكونوا متأكدين تحريمه جهلا بالحكم الشرعي أو لشبهة من أجاز التصوير الشمسي، وقد قال الله سبحانه في أهل الربا: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) أعاذنا الله وإياكم منها، فهذه الآية الكريمة يستفاد منها حل الكسب الماضي من العمل غير المشروع إذا تاب العبد إلى الله ورجع عن ذلك وإن تصدقتم به أو بشيء منه احتياطا فحسن. لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه (2) » أما وجوب الصدقة به فلا أعلم دليلا واضحا يدل عليه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .(4/306)
تصوير ما لا روح فيه
السؤال الرابع: إذا كان تصوير ما لا روح فيه مباحا شرعا فهل يجوز الاستمرار على ذلك؟(4/306)
الجواب: نعم يجوز ذلك كما أفتى بذلك ترجمان القرآن وحبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ودل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي ذكرنا في الجواب المفيد في حكم التصوير (1) وهو أن جبريل عليه السلام أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع رأس التمثال حتى يكون كهيئة الشجرة، وذلك يدل على جواز تصوير الشجر ونحوه، وقد أجمع العلماء على ذلك بحمد الله، لكن إذا تيسر للإنسان عمل آخر من الأعمال الطيبة المباحة فهو أحسن من عمل التصوير لما لا روح فيه.
لأنه قد يجر إلى تصوير ما له روح والبعد عن وسائل الشر مطلوب شرعا، رزقنا الله وإياكم العافية من أسباب غضبه.
__________
(1) نشر في رسالة طبعتها الرئاسة عام 1406هـ.(4/307)
ترك العمل والاتجاة للدراسة
السؤال الخامس: أرغب ترك العمل والاتجاه للدراسة فهل هذا حسن؟ وهل في الإمكان إلحاقي بالجامعة الإسلامية والدراسة والتفقه في الدين؟ .
الجواب: إن الاتجاه للدراسة والتفقه في الدين من أفضل الأعمال، وقد يجب ذلك إذا كان المسلم لم يتمكن من معرفة الأمور التي لا يسعه جهلها أعني أمور دينه، فطلب العلم حينئذ واجب حتى يعرف ما أوجب الله عليه وما حرم عليه ويعبد ربه على بصيرة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (2) » ، والجامعة الإسلامية ترحب بأمثالكم إذا كان لديكم مؤهل غير دبلوم الصناعة، فإذا رأيتم إرسال صورة من مؤهلاتكم للنظر فيها وإفادتكم فلا بأس مع العلم بأن الطالب في الجامعة يعطى مكافأة نقدية مقدارها (250) ريالا لطالب المرحلة المتوسطة والثانوية و (300) ريال لطالب المرحلة الجامعية مع إعداد
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(4/307)
السكن المجهز بما يلزم ووسائط النقل من الجامعة إلى المدينة ومن المدينة إلى الجامعة.(4/308)
حكم عمل المرأة
السؤال السادس: ما حكم الإسلام في عمل المرأة وخروجها بزيها الذي نراه في الشارع والمدرسة والبيت هكذا. وعمل المرأة الريفية مع زوجها في الحقل؟ .
الجواب: لا ريب أن الإسلام جاء بإكرام المرأة والحفاظ عليها وصيانتها عن ذئاب بني الإنسان، وحفظ حقوقها ورفع شأنها، فجعلها شريكة الذكر في الميراث وحرم وأدها وأوجب استئذانها في النكاح وجعل لها مطلق التصرف في مالها إذا كانت رشيدة وأوجب لها على زوجها حقوقا كثيرة وأوجب على أبيها وقراباتها الإنفاق عليها عند حاجتها وأوجب عليها الحجاب عن نظر الأجانب إليها لئلا تكون سلعة رخيصة يتمتع بها كل أحد، قال تعالى في سورة الأحزاب: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (1) الآية، وقال سبحانه في السورة المذكورة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) وقال تعالى في سورة النور: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (3) {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} (4) الآية. فقوله سبحانه {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (5) فسره الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بأن المراد بذلك الملابس الظاهرة؛ لأن ذلك لا يمكن ستره إلا بحرج كبير، وفسره ابن عباس رضي الله
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) سورة الأحزاب الآية 59
(3) سورة النور الآية 30
(4) سورة النور الآية 31
(5) سورة النور الآية 31(4/308)
عنهما في المشهور عنه بالوجه والكفين، والأرجح في ذلك قول ابن مسعود لأن آية الحجاب المتقدمة تدل على وجوب سترهما ولكونهما من أعظم الزينة فسترهما مهم جدا، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كان كشفهما في أول الإسلام ثم نزلت آية الحجاب بوجوب سترهما، ولأن كشفهما لدى غير المحارم من أعظم أسباب الفتنة ومن أعظم الأسباب لكشف غيرهما، وإذا كان الوجه والكفان مزينين بالكحل والأصباغ ونحو ذلك من أنواع التجميل كان كشفهما محرما بالإجماع، والغالب على النساء اليوم تحسينهما وتجميلهما، فتحريم كشفهما متعين على القولين جميعا، وأما ما يفعله النساء اليوم من كشف الرأس والعنق والصدر والذراعين والساقين وبعض الفخذين فهذا منكر بإجماع المسلمين لا يرتاب فيه من له أدنى بصيرة والفتنة في ذلك عظيمة والفساد المترتب عليه كبير جدا.
فنسأل الله أن يوفق قادة المسلمين لمنع ذلك والقضاء عليه والرجوع بالمرأة إلى ما أوجب الله عليها من الحجاب والبعد عن أسباب الفتنة.
ومما ورد في هذا الباب قوله سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (1) وقوله سبحانه: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2) فأمر الله سبحانه النساء في الآية الأولى بلزوم البيوت؛ لأن خروجهن غالبا من أسباب الفتنة، وقد دلت الأدلة الشرعية على جواز الخروج للحاجة مع الحجاب والبعد عن أسباب الريبة، ولكن لزومهن للبيوت هو الأصل وهو خير لهن وأصلح وأبعد عن الفتنة، ثم نهاهن عن تبرج الجاهلية وذلك بإظهار المحاسن والمفاتن وأباح في الآية الثانية للقواعد وهن العجائز اللاتي لا يرجون نكاحا وضع الثياب بمعنى عدم
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) سورة النور الآية 60(4/309)
الحجاب بشرط عدم تبرجهن بزينة، وإذا كان العجائز يلزمن بالحجاب عند وجود الزينة ولا يسمح لهن بتركه إلا عند عدمها وهن لا يفتن ولا مطمع فيهن فكيف بالشابات الفاتنات، ثم أخبر سبحانه أن استعفاف القواعد بالحجاب خير لهن ولو لم يتبرجن بالزينة وهذا كله واضح في حث النساء على الحجاب والبعد عن السفور وأسباب الفتنة والله المستعان.
أما عمل المرأة مع زوجها في الحقل والمصنع والبيت فلا حرج في ذلك وهكذا مع محارمها إذا لم يكن معهم أجنبي منها، وهكذا مع النساء، وإنما المحرم عملها مع الرجال غير محارمها.
لأن ذلك يفضي إلى فساد كبير وفتنة عظيمة كما أنه يفضي إلى الخلوة بها وإلى رؤية بعض محاسنها، والشريعة الإسلامية الكاملة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها وسد الذرائع الموصلة إلى ما حرم الله في مواضع كثيرة، ولا سبيل إلى السعادة والعزة والكرامة والنجاة في الدنيا والآخرة إلا بالتمسك بالشريعة والتقيد بأحكامها والحذر مما خالفهما والدعوة إلى ذلك والصبر عليه. وفقنا الله وإياكم وسائر إخواننا إلى ما فيه رضاه، وأعاذنا جميعا من مضلات الفتن إنه جواد كريم.(4/310)
العمل في البنوك ووضع الأموال فيها
السؤال السابع: ما حكم الإسلام فيمن يعملون في البنوك ويضعون أموالهم فيها دون أخذ فوائد لها؟ .
الجواب: لا ريب أن العمل في البنوك التي تتعامل بالربا غير جائز؛ لأن ذلك إعانة لهم على الإثم والعدوان، وقد قال الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(4/310)
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء (1) » أخرجه مسلم في صحيحه.
أما وضع المال في البنوك بالفائدة الشهرية أو السنوية فذلك من الربا المحرم بإجماع العلماء، أما وضعه بدون فائدة فالأحوط تركه إلا عند الضرورة إذا كان البنك يعامل بالربا لأن وضع المال عنده ولو بدون فائدة فيه إعانة له على أعماله الربوية فيخشى على صاحبه أن يكون من جملة المعينين على الإثم والعدوان وإن لم يرد ذلك، فالواجب الحذر مما حرم الله والتماس الطرق السليمة لحفظ الأموال وتصريفها، وفق الله المسلمين لما فيه سعادتهم وعزهم ونجاتهم، ويسر لهم العمل السريع لإيجاد بنوك إسلامية سليمة من أعمال الربا إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1598) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) .(4/311)
حكم الصلاة خلف من عرف بالغلو في الأنبياء والصالحين (1) .
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق أن سألني أعضاء الهيئة التعليمية السعودية في اليمن في عام 1395 هـ عن حكم الصلاة خلف الزيدية
فأجبتهم بتاريخ 3 9 1395 هـ بأني لا أرى الصلاة خلفهم. لأن الغالب عليهم الغلو في أهل البيت بالاستغاثة بهم ودعائهم والنذر لهم ونحو ذلك، هذا هو الذي صدر مني، وذلك مبني على ما بلغني من طرق كثيرة أن الزيدية يغلون في أهل البيت بأنواع من الشرك كدعائهم والاستغاثة بهم ونحو ذلك، ثم بلغني في هذه الأيام أعني في شعبان من عام 1396 هـ استغراب كثير من أهل العلم في اليمن هذه الفتوى واتصل بي جماعة منهم ومن خريجي الجامعة الإسلامية بالمدينة ممن أثق بعلمه ودينه مستغربين هذه الفتوى وقائلين: إن الغالب على علماء الزيدية هو عدم الغلو في أهل البيت هذا هو الذي نعلمه منهم، وإنما يقع هذا الغلو في بعض العامة ومن بعض الزيدية الذين ليس عندهم من العلم والبصيرة ما يعرفون به حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك، وذكروا انهم يعلمون من علماء الزيدية إنكار الغلو في أهل البيت وإنكار الشرك ولا يجوز أن يكون وقوع الشرك من بعضهم أو من بعض العامة مسوغا لتهمة الأغلبية منهم بذلك، وبناء على هذا وجب علي أن أعيد النظر في هذه الفتوى؛ لأن الواجب هو الأخذ بالحق؛ لأن الحق هو ضالة المؤمن متى وجده أخذه، فأقول:
إن هذة الفتوى التي سبق ذكرها قد رجعت عنها بالنسبة إلى ما فيها من التعميم والإطلاق؛ لأن الهدف هو الأخذ بالحق والدعوة إليه وأعوذ بالله أن أكفر مسلما أو أمنع من الصلاة خلف مسلم بغير مسوغ شرعي، والواجب أن يؤخذ كل إنسان بذنبه وأن يحكم عليه بما ظهر من أقواله وأعماله، فكل إمام علم منه ما يدل على أنه يغلو في أهل
__________
(1) صدرت الإجابة من مكتب سماحته بتاريخ 24 \ 9 \ 1396 هـ.(4/312)
البيت أو في غيرهم سواء كان من الزيدية أو من غيرهم وسواء كان في اليمن أو غير اليمن فإنه لا يصلى خلفه، ومن لم يعرف بذلك من الزيدية أو غيرهم من المسلمين فإنه يصلى خلفه، والأصل سلامة المسلم مما يوجب منع الصلاة خلفه، كما أن الأصل سلامة المسلم من الحكم عليه بالشرك حتى يوجد بأمر واضح وبينة عادلة ما يدل على أنه يفعل الشرك أو يعتقد جوازه، هذا هو الذي أعتقده وأعلنه الآن لإخواننا في اليمن وغيرها، وقد تقدم أن الحق ضالة المؤمن متى وجده أخذه، ومعلوم أن العصمة لله ولرسله فيما يبلغونه عن الله عز وجل، وكل مفت وكل عالم وكل طالب علم قد يقع منه بعض الخطأ أو بعض الإجمال، ثم بعد وضوح الحق وظهوره يرجع إليه وفي ذلك شرف وفضل وهذه طريقة أهل العلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وقد أثنى عليهم أهل العلم بذلك وشكروهم على هذه الطريقة الحميدة وهذا هو الذي يجب علينا وعلى غيرنا الرجوع إليه والأخذ به في جميع الأحوال، وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما فيه رضاه وأن يمنحنا وإخواننا جميعا في اليمن وغيره إصابة الحق في القول والعمل إنه سبحانه وتعالى سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(4/313)
حكم الصلاة خلف من يستغيث بغير الله (1)
هل يصح أن أصلي خلف من يستغيث بغير الله ويتلفظ بمثل هذه الكلمات " أغثنا يا غوث مدد يا جيلاني " وإذا لم أجد غيره فهل لي أن أصلي في بيتي. .
الجواب: لا تجوز الصلاة خلف جميع المشركين ومنهم من يستغيث بغير الله ويطلب منه المدد؛ لأن الاستغاثة بغير الله من الأموات والأصنام والجن وغير ذلك من الشرك بالله سبحانه، أما الاستغاثة بالمخلوق الحي الحاضر الذي يقدر على إغاثتك فلا بأس بها، لقول الله عز وجل في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (2) وإذا لم تجد إماما مسلما تصلي خلفه جاز لك أن تصلي في بيتك، وإن وجدت جماعة مسلمين يستطيعون الصلاة في المسجد قبل الإمام المشرك أو بعده فصل معهم، وإن استطاع المسلمون عزل الإمام المشرك وتعيين إمام مسلم يصلي بالناس وجب عليهم ذلك؛ لأن ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة شرع الله في أرضه إذا أمكن ذلك بدون فتنة؛ لقول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) الآية، وقوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (4) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (5) » رواه مسلم في صحيحه.
__________
(1) مجلة الدعوة في 13 \ 10 \ 1409 هـ.
(2) سورة القصص الآية 15
(3) سورة التوبة الآية 71
(4) سورة التغابن الآية 16
(5) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .(4/314)
التوسل بالجاه (1) .
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم: س. ش. ح. ن وفقه الله. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فقد وصلني كتابكم وما تضمنه كان معلوما. وسؤالكم عن قول بعض الشباب لديكم أنه لا يسأل الله بجاه الرسول
فهذا صحيح؛ لأنه لم يرد في الأدلة الشرعية ما يدل على مشروعية التوسل بجاه أحد من الناس ولا بحق أحد من الناس ولا بذاته، ولكن ليس ذلك من الشرك، بل هو من البدع ومن وسائل الشرك عند أكثر أهل العلم، والنبي صلى الله عليه وسلم له حق عظيم ومنزلة عظيمة عند الله وعند المؤمنين.
ولا إسلام لأحد ولا إيمان إلا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولكن لا يجوز التقرب إلى الله سبحانه ولا التوسل إليه إلا بما شرع من القول والعمل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » .
فالواجب على المسلمين جميعا تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم بما شرعه الله في حقه من اتباعه ومحبته وتعظيم سنته والدعوة إليها والتحذير مما يخالفها مع الإكثار من الصلاة والسلام عليه، عليه الصلاة والسلام.
وقد وقع في رسالتكم أخطاء وهي نسبتكم إلى الله سبحانه ما نصه: (ويقول الله سبحانه: اليد اليسرى عضو في جسم الإنسان مثلها مثل اليمنى) . وهذا ليس من كلام الله.
وقولكم: (وجعلنا من فوق كل علم عليم) ، وهذا أيضا ليس من كلام الله وإنما نص كلام الله {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (3) فنوصيك بالحذر من القول على الله بغير علم أصلح الله قلبك وعملك
__________
(1) صدرت الإجابة من مكتب سماحته في 3 \ 6 \ 1409 هـ برقم 1483\1.
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) سورة يوسف الآية 76(4/315)
أما اليد اليسرى فلها أعمال غير أعمال اليمنى، وقد شرع الله سبحانه استعمال اليمنى للمصافحة والأكل والأخذ والعطاء ونحو ذلك، أما اليد اليسرى فتستعمل في إزالة الأذى كالاستنجاء وغسل النجاسة والاستنثار ونحو ذلك، ولا مانع من الاستعانة بها مع اليمنى في حمل الثقيل وعلاج الحاجات الأخرى كما أنها تستعمل مع اليمنى في رفعهما عند الإحرام وعند الركوع والرفع منه وعند القيام من التشهد الأول، وتستعمل في الركوع والسجود وهذا أمر معلوم من الشرع المطهر. وفقنا الله وإياكم وجميع الشباب وجميع المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، وأعاذ الجميع من مضلات الفتن إنه سميع قريب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(4/316)
التوسل بعبارة جارية على ألسنة الناس (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة صاحب السمو الملكي الأمير المكرم نواف بن عبد العزيز وفقه الله لما فيه رضاه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
فقد أخبرني الأخ علي بن حسين بن عييد عن رغبتكم في الإفادة عن التوسل الجاري على ألسنة كثير من الناس وهو: (اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك) .
والجواب: هذا الدعاء ليس له أصل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم فيما نعلم، وقد ذكر العلامة الزيلعي في كتابه (نصب الراية) ص 272 جـ 4 أن الحافظ البيهقي رحمه الله رواه في كتابه الدعوات الكبير عن ابن مسعود رضي الله عنه وأن الحافظ ابن الجوزي رحمه الله ذكره في الموضوعات على رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني المكذوبات عليه، عليه الصلاة والسلام، وبذلك يعلم أنه لا يشرع التوسل به لكونه مكذوبا على النبي صلى الله عليه وسلم. ولأنه مجمل محتمل لا يعرف معناة، وقد زاد بعضهم في روايته كما ذكره البيهقي في كتابه بعد قوله: من عرشك ما نصه (ومنتهى الرحمة من كتابك وباسمك الأعظم وكلماتك التامة) وهذه الزيادة ليس لها أصل من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بهذا اللفظ فيما نعلم، ولكن قد دلت الأدلة الشرعية على شرعية التوسل بأسماء الله وصفاته ويدخل فيها الاسم الأعظم وكلمات الله التامات كما قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (2) وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك (3) » رواه الإمام مسلم في صحيحه، وروى مسلم في صحيحه أيضا عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في
__________
(1) صدر الخطاب الجوابي من مكتب سماحته في 20 \ 6 \ 1409 هـ.
(2) سورة الأعراف الآية 180
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) ، سنن الترمذي الدعوات (3437) ، سنن ابن ماجه الطب (3547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/378) ، سنن الدارمي الاستئذان (2680) .(4/317)
سجوده بقوله: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك (1) » وخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الرحمن بن خنبش التميمي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ فيقول: «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن (2) » والأحاديث في التوسل بأسماء الله وصفاته كثيرة، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ثلاثة ممن كان قبلنا أواهم المبيت إلى غار فانطبقت عليهم صخرة فسدت عليهم فم الغار فقالوا فيما بينهم: إنه لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فدعوا الله سبحانه وتوسل أحدهم إلى الله سبحانه ببره لوالديه فانفجرت الصخرة بعض الشيء ثم توسل الثاني بعفته عن الزنا بعد القدرة عليه فانفجرت الصخرة أكثر لكنهم لا يستطيعون الخروج ثم توسل الثالث بأدائه الأمانة لأهلها فانفجرت الصخرة فخرجوا. وهذا الحديث يدل على شرعية التوسل إلى الله سبحانه بصالح الأعمال، ومن ذلك التوسل بدعاء الحي وشفاعته كما كان الصحابة رضي الله عنهم يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم، ولما أجدبوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لهم فدعا الله سبحانه في خطبة الجمعة ورفع يديه وقال: «اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا (3) » فأنزل الله المطر في الحال، ومرة خرج بهم إلى الصحراء فصلى بهم ركعتين وخطبهم واستغاث الله سبحانه وتضرع إليه وألح في الدعاء ورفع يديه فأغاثهم الله سبحانه.
ولما وقع الجدب في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغيث بالناس فدعا العباس رضي الله عنه وأمن المسلمون على دعائه فأغاثهم الله.
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3566) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1747) ، سنن أبو داود الصلاة (1427) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1179) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/419) .
(3) صحيح البخاري الجمعة (1014) ، صحيح مسلم صلاة الاستسقاء (897) ، سنن النسائي الاستسقاء (1518) .(4/318)
فهذه هي التوسلات الشرعية.
أما التوسل بجاه فلان أو حق فلان أو ذات فلان فهو توسل غير مشروع بل بدعة عند جمهور أهل العلم.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل به، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق ولاة أمرنا وجميع ولاة أمر المسلمين لكل ما فيه رضاه وصلاح أمر عباده في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(4/319)
التعريف بالدين (1)
كل ما يدين به الناس ويتعبدون به يسمى دينا وإن كان باطلا
والسؤال هو: عرض التلفزيون مساء الجمعة 4 صفر 1403 هـ برنامج العالم الفطري والذي يقدمه إبراهيم الراشد وكانت الحلقة عن الهند، وفي مستهل مقدمته قال: حقا إن الهند تسمى بلاد الأديان ففيها نجد: الهندوسية، البوذية، السيخ ... إلخ، فأرجو منك إيضاح الآتي:
هل الأديان التي ذكرها مقدم البرنامج كما يدعي حقا أديان؟
وهل هي منزلة ومرسلة من عند الله؟
وفقكم الله لتصحيح المفاهيم. .
الجواب: كل ما يدين به الناس ويتعبدون به يسمى دينا وإن كان باطلا كالبوذية والوثنية واليهودية والهندوسية والنصرانية وغيرها من الأديان الباطلة. قال الله سبحانه في سورة الكافرون: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (2) فسمى ما عليه عباد الأوثان دينا، والدين الحق هو الإسلام وحدة كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (3) وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (4) وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (5)
والإسلام هو عبادة الله وحده دون كل ما سواه، وطاعة أوامره وترك
__________
(1) صدر في كتاب الدعوة ج 1 ص 15.
(2) سورة الكافرون الآية 6
(3) سورة آل عمران الآية 19
(4) سورة آل عمران الآية 85
(5) سورة المائدة الآية 3(4/320)
نواهيه والوقوف عند حدوده والإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله مما كان وما يكون، وليس شيء من الأديان الباطلة منزلا من عند الله ولا مرضيا له، بل كلها محدثة غير منزلة من عند الله والإسلام هو دين الرسل جميعا، وإنما اختلفت شرائعهم لقول الله سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 48(4/321)
الذبح لغير الله شرك
السؤال: التقرب بذبح الخرفان في أضرحة الأولياء الصالحين ما زال موجودا في عشيرتي. نهيت عنه، لكنهم لم يزدادوا إلا عنادا قلت لهم: إنه شرك بالله، قالوا: نحن نعبد الله حق عبادته، لكن ما ذنبنا إن زرنا أولياءه وقلنا لله في تضرعاتنا: (بحق وليك الصالح فلان اشفنا أو ابعد عنا الكرب الفلاني.) قلت: ليس ديننا دين واسطة قالوا: اتركنا وحالنا. .
ما الحل الذي تراه صالحا لعلاج هؤلاء؟
ماذا أعمل تجاههم؟ وكيف أحارب البدعة؟ وشكرا. .
الجواب: من المعلوم بالأدلة من الكتاب والسنة أن التقرب بالذبح لغير الله من الأولياء أو الجن أو الأصنام أو غير ذلك من المخلوقات شرك بالله ومن أعمال الجاهلية والمشركين قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) والنسك هو الذبح، وبين سبحانه في هذه الآية أن الذبح لغير الله شرك بالله كالصلاة لغير الله.
وقال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (3) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (4)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة الكوثر الآية 1
(4) سورة الكوثر الآية 2(4/321)
أمر الله سبحانه نبيه في هذه السورة الكريمة أن يصلي لربه وينحر له خلافا لأهل الشرك الذين يسجدون لغير الله ويذبحون لغيره، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة، والذبح من العبادة فيجب إخلاصه لله وحده، وفي صحيح مسلم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله (3) » .
وأما قول القائل: أسأل الله بحق أوليائه أو بجاه أوليائه أو بحق النبي أو بجاه النبي فهذا ليس من الشرك ولكنه بدعة عند جمهور أهل العلم ومن وسائل الشرك؛ لأن الدعاء عبادة وكيفيته من الأمور التوقيفية ولم يثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم ما يدل على شرعية أو إباحة التوسل بحق أو جاه أحد من الخلق فلا يجوز للمسلم أن يحدث توسلا لم يشرعه الله سبحانه وتعالى لقول الله عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (4) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (5) » متفق على صحته، وفي رواية لمسلم وعلقها البخاري في صحيحه جازما بها «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (6) » ومعنى قوله: " فهو رد " أي مردود على صاحبه لا يقبل، فالواجب على أهل الإسلام التقيد بما شرعه الله والحذر مما أحدثه الناس من البدع، أما التوسل المشروع فهو التوسل بأسماء الله وصفاته وبتوحيده وبالأعمال الصالحات والإيمان بالله ورسوله ومحبة الله ورسوله ونحو ذلك من أعمال البر والخير، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة البينة الآية 5
(3) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(4) سورة الشورى الآية 21
(5) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(6) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(4/322)
التحذير من اتخاذ المساجد على القبور ودعوة أهلها
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرات المشايخ المكرمين مقادمة بيت القرزات الشيخ عبود بن سعيد والشيخ سالم بن سعيد والشيخ سالم باحميد والشيخ عبود بن محمد الدلخ وفقهم الله لما فيه رضاه وأصلح لي ولهم أمر الدنيا والآخرة آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد: بلغني أن سعيد بن مبارك القرزي قد سجن بطرفكم بأسباب قيامه بالدعوة الإسلامية والتحذير من عبادة الأولياء والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك والدعوة إلى هدم القباب والأبنية التي على الأضرحة لكونها من أسباب الفتنة بالمقبورين والغلو فيهم، وقد كدرني ذلك وكدر من بلغه ذلك من المسلمين، وما ذاك إلا لأن الله سبحانه أنزل القرآن الكريم وبعث الرسول العظيم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده وتحذيرهم من عبادة المخلوقين كالملائكة والأنبياء والأولياء وغيرهم، وقد صدع الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك وأنذر الناس من الشرك وأمر بإخلاص العبادة لله وحده كما قال الله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (3) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (4) وقال تعالى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (5) {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (6)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة فاطر الآية 13
(4) سورة فاطر الآية 14
(5) سورة الأحقاف الآية 5
(6) سورة الأحقاف الآية 6(4/323)
وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) والنسك الذبح، ومعنى قوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (3) أي من هذه الأمة.
لأن إسلام كل نبي يكون قبل أمته وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا (4) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار (5) » وقال عليه الصلاة والسلام: «لعن الله من ذبح لغير الله (6) » وقال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (7) » وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه (8) » فهذه الآيات والأحاديث - أيها المشايخ - تدل على وجوب إخلاص العبادة لله وحده وأنه سبحانه هو المستحق لجميع العبادات من الدعاء والاستغاثة والذبح والنذر والصلاة والصوم وغير ذلك من العبادات، وأن صرف ذلك أو شيء منه لغير الله شرك بالله وعبادة لغيره وتدل الأحاديث المذكورة أنه لا يجوز اتخاذ المساجد على القبور ولا البناء عليها ولا تجصيصها، وما ذاك إلا لأن هذه الأعمال وسيلة إلى الغلو في الأموات وعبادتهم من دون الله، كما قد وقع ذلك من بعض جهال الناس في دول كثيرة، إذا علمتم ذلك فالواجب عليكم مساعدة الدعاة إلى الله والقيام معهم وحمايتهم ممن يريد التعدي عليهم؛ لأن ذلك من نصر دين الله والجهاد في سبيله، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (9) وقال تعالى:
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة الأنعام الآية 163
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2856) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد بن حنبل (5/238) .
(5) صحيح البخاري تفسير القرآن (4497) ، مسند أحمد بن حنبل (1/374) .
(6) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(7) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (529) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(8) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .
(9) سورة محمد الآية 7(4/324)
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (3) » وأعظم المنكرات هو الشرك بالله سبحانه ووسائله وذرائعه ثم البدع والمعاصي، فالواجب عليكم أن تنكروا ما أنكر الله ورسوله وأن تنهوا عما نهى الله عنه ورسوله وأن تأمروا بما أمر الله به ورسوله، وذلك هو طريق السعادة والنجاة وسبيل العزة والكرامة في الدنيا والآخرة.
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أنصار الحق ودعاة الهدى ومن الهداة المهتدين إنه سميع قريب. والذي أرجوه منكم هو البدار بالشفاعة لدى المسئولين في إطلاق سراح سعيد بن مبارك إن كان ما بلغني عن سجنه صحيحا، وبذل الوسع في مساعدة الإخوان القائمين بالدعوة إلى الإسلام الصحيح السليم من الشوائب، والتحذير من الشرك والخرافات والبدع التي جاء الإسلام بالنهي عنها ومحاربتها، وإذا كان قد أشكل عليكم شيء من كلام سعيد أو غيره فأفيدونا عن ذلك حتى نوضح لكم الإشكال بالأدلة من القرآن الكريم وأحاديث الرسول الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، مع بيان خطأ سعيد أو غيره لأن المقصود هو إظهار الحق الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم والدعوة إليه وبيان الباطل والتحذير منه، عملا بقول الله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (4) وقوله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (5) والله المسئول
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة الحج الآية 41
(3) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .
(4) سورة النحل الآية 125
(5) سورة يوسف الآية 108(4/325)
أن يصلح قلوبنا جميعا وأن يعمرها بخشيته ومحبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة عباده المؤمنين المحبة البريئة من الشرك والخرافات، وأن يهدينا وإياكم إلى صراطه المستقيم، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله إمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(4/326)
عدم جواز توجيه الطلب إلى الميت (1)
السؤال: يقول بعض الناس: إن الطلب إلى الميت في القبر جائز بدليل «إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا بأهل القبور» فهل هذا الحديث صحيح أم لا؟
الجواب: هذا الحديث من الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نبه على ذلك غير واحد من أهل العلم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه، حيث قال رحمه الله في مجموع الفتاوى الجزء الأول صفحة 356 بعد ما ذكره ما نصه: (هذا الحديث كذب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء بذلك ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة) انتهى كلامه رحمه الله.
وهذا المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مضاد لما جاء به الكتاب والسنة من وجوب إخلاص العبادة له وحده وتحريم الإشراك به، ولا ريب أن دعاء الأموات والاستغاثة بهم والفزع إليهم في النائبات والكروب من أعظم الشرك بالله عز وجل، كما أن دعاءهم في الرخاء شرك بالله سبحانه.
وقد كان المشركون الأولون إذا اشتدت بهم الكروب أخلصوا لله العبادة، وإذا زالت الشدائد أشركوا بالله كما قاله الله عز وجل: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة، أما المشركون المتأخرون فشركهم دائم في الرخاء والشدة بل يزداد شركهم في الشدة والعياذ بالله وذلك يبين أن كفرهم أعظم وأشد من كفر الأولين من هذه الناحية، وقد قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (3) وقال سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (4)
__________
(1) مجلة الدعوة العدد 939 في 22 \ 7 \ 1404 هـ.
(2) سورة العنكبوت الآية 65
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة غافر الآية 14(4/327)
وقال عز وجل: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (1) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (2) وقال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (3) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (4) وهذه الآية تعم جميع من يعبد من دون الله من الأنبياء والصالحين وغيرهم.
وقد أوضح سبحانه أن دعاء المشركين لهم شرك به سبحانه كما بين أن ذلك كفر به سبحانه في قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (5) والآيات الدالة على وجوب إخلاص العبادة لله وحده وتوجيه الدعاء إليه دون كل ما سواه، وعلى تحريم عبادة غيره سبحانه من الأموات والأصنام والأشجار والأحجار ونحو ذلك كثيرة جدا يعلمها من تدبر كتاب الله وقصد الاهتداء به. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) سورة الزمر الآية 2
(2) سورة الزمر الآية 3
(3) سورة فاطر الآية 13
(4) سورة فاطر الآية 14
(5) سورة المؤمنون الآية 117(4/328)
حكم البناء على القبور (1) .
السؤال: لاحظت عندنا على بعض القبور عمل صبة بالأسمنت بقدر متر طولا في نصف متر عرضا مع كتابة اسم الميت عليها وتاريخ وفاته وبعض الجمل (اللهم ارحم فلان ابن فلان) وهكذا، فما حكم مثل هذا العمل؟ .
الجواب: لا يجوز البناء على القبور لا بصبة ولا بغيرها ولا تجوز الكتابة عليها؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن البناء عليها والكتابة عليها، فقد روى مسلم رحمه الله من حديث جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه (2) » وخرجه الترمذي وغيره بإسناد صحيح وزاد «وأن يكتب عليه (3) » ولأن ذلك نوع من أنواع الغلو فوجب منعه.
ولأن الكتابة ربما أفضت إلى عواقب وخيمة من الغلو وغيره من المحظورات الشرعية، وإنما يعاد تراب القبر عليه ويرفع قدر شبر تقريبا حتى يعرف أنه قبر، هذه هي السنة في القبور التي درج عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولا يجوز اتخاذ المساجد عليها ولا كسوتها ولا وضع القباب عليها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (4) » متفق على صحته.
ولما روى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: «إن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (5) » ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ونسأل الله أن يوفق المسلمين للتمسك بسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام والثبات عليها والحذر مما يخالفها إنه سميع قريب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) مجلة الدعوة العدد 939 في 22 \ 7 \ 1404 هـ.
(2) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .
(3) سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) .
(4) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (529) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(5) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(4/329)
لا يجوز التبرك بالأموات (1)
السؤال: مات عندنا في البلد رجل وجاء خبر وفاته في النهار ورأينا نساء مسنات من البلد يذهبن إلى بيته وهو مسجى بعد تكفينه وسط النساء وهن حوله فسألناهن لم تذهبن عنده؟ قلن: (نتبارك به) ، فما حكم عملهن هذا؟ وهل هو سنة؟
الجواب: هذا العمل لا يجوز بل هو منكر؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يتبرك بالأموات أو قبورهم ولا أن يدعوهم من دون الله ويسألهم قضاء حاجة أو شفاء مريض أو نحو ذلك؛ لأن العبادة حق الله وحده ومنه تطلب البركة وهو سبحانه هو الموصوف بالتبارك كما قال عز وجل في سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (2) وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (3) ومعنى ذلك: أنه سبحانه بلغ النهاية في العظمة والبركة، أما العبد فهو مبارك - بفتح الراء- إذا هداه الله وأصلحه ونفع به العباد، كما قال الله عز وجل عن عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} (4) {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} (5) والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1117 تاريخ 2\ 4 \ 1408 هـ.
(2) سورة الفرقان الآية 1
(3) سورة الملك الآية 1
(4) سورة مريم الآية 30
(5) سورة مريم الآية 31(4/330)
حكم الدعاء ببركة الصالحين وحكم الحجب والمحو
. (1) .
السؤال: إمام للمسجد الذي نصلي فيه يقول: إنه يجوز للإنسان أن يسأل الله ببركة فلان أحد الصالحين، مثلا اغفر لي يا رب ببركة فلان، وسؤالي؛ أليس هذا نوع من الشرك، كما أن هذا الإمام يكتب الحجب ويعطي المحو للناس كعلاج فهل نصلي خلفه، وهل كلامه وفعله جائز، أفيدوني أفادكم الله؟
الجواب: التوسل بجاه فلان أو ببركة فلان أو بحق فلان بدعة وليست من الشرك، فإذا قال: اللهم إني أسألك بجاه أنبيائك أو بجاه وليك فلان أو بعبدك فلان أو بحق فلان أو بركة فلان فذلك لا يجوز وهو من البدع ومن وسائل الشرك؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة فيكون بدعة، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (2) ولم يقل ببركة فلان أو جاه فلان، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » ، فالتوسل يكون بأسماء الله وبصفاته وبتوحيده كما جاء في الحديث الصحيح: «اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد (4) » ويكون أيضا بالأعمال الصالحة، كسؤال أهل الغار لما انطبقت عليهم الصخرة ولم يستطيعوا الخروج، سألوا ربهم، أحدهم: سأل ببر الوالدين، والثاني: سأل بعفته عن الزنا، والثالث: سأل بأدائه الأمانة، ففرج الله عنهم، فدل ذلك على أن التوسل بالأعمال الصالحة كأن
__________
(1) نشرت في المجلة العربية في باب: (فاسألوا أهل الذكر) .
(2) سورة الأعراف الآية 180
(3) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(4) رواه أبو داود وابن ماجه(4/331)
يقول: اللهم إني أسألك بصحبتي لنبيك صلى الله عليه وسلم، أو باتباعي شرعك، أو بعفتي عما حرمت علي، أو نحو ذلك، توسل شرعي وصحيح أما ما يتعلق بعمله الآخر من كتابته الحجب فهذا لا يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له (1) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «من تعلق تميمة فقد أشرك (2) » .
والحجب: هي التمائم، فلا يجوز كتب التمائم ولا تعليقها، والذي يعلقها ينكر عليه والذي يكتبها للناس ينكر عليه حتى ولو كانت من القرآن.
كان عبد الله بن مسعود وجماعة غيره من السلف الصالح ينكرون ذلك، سواء كانت من القرآن أو غيره؛ للأحاديث العامة السابقة في ذلك ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (3) » ، والمراد بالرقى المصنوعة: الرقى المجهولة، أو الرقى التي فيها شرك، أما التي تجوز فالرقى الشرعية فقط؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (4) » ولأنه رقى ورقي.
أما التولة: فهي نوع من السحر، وتسمى الصرف والعطف وهي ممنوعة، والتمائم كذلك ممنوعة، وهي الحجب وتسمى الجوامع وتسمى الحروز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم زجر عنها، ولم يستثن منها شيئا وسماها شركا، ودعا على من تعلقها.
ولأن القول بجواز ما كان من القرآن أو الأدعية المباحة والأذكار الشرعية استثناء بغير حجة ووسيلة إلى تعليق التمائم الأخرى الشركية، ومعلوم أن الأخذ بالعموم متعين ما لم يرد ما يخصه، كما أن من المعلوم من الشريعة المطهرة وجوب سد الذرائع المفضية إلى الشرك أو إلى ما دونه من المعاصي، ولأنها إذا علقت صارت
__________
(1) فتح المجيد - رواه الإمام أحمد وأبو يعلى.
(2) رواه أحمد والحاكم بنحوه ورواته ثقات.
(3) رواه أحمد وأبو داود (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) .
(4) رواه مسلم من حديث عوف بن مالك (فتح المجيد) .(4/332)
وسيلة إلى تعلق القلوب بها والاعتماد عليها ونسيان الله سبحانه وتعالى، فمن حكمة الله في هذا أنه سبحانه وتعالى نهى عنها حتى تكون القلوب معلقة به سبحانه لا بغيره، وتعليق القرآن وسيلة لتعليق غيره، فلهذا وجب منع الجميع وأن لا يعلق شيء على المريض، ولا على الصبي لا من القرآن ولا من غيره، بل يعلم الدعاء الشرعي كالتعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وقراءة آية الكرسي وقراءة سورة الإخلاص والمعوذتين عند النوم وبعد الصلوات الخمس، فهذا الإمام ينكر عليه ويعلم أن هذا لا يجوز، فإن استقام وإلا وجب السعي في عزله.
أما المحو: فهو أن يكتب آيات بالزعفران في صحن نظيف أو في قرطاس ثم تغسل ويشربها المريض، وهذا فعله كثير من السلف والخلف ولا حرج فيه إذا كان القائم لذلك من المعروفين بالعلم والفضل وحسن العقيدة.(4/333)
حكم الطواف وختم القرآن للأموات
. (1) .
س: أقوم أحيانا بالطواف لأحد أقاربي أو والدي أو أجدادي المتوفين، ما حكم ذلك، وأيضا ما حكم ختم القرآن لهم، جزاكم الله خيرا؟
ج: الأفضل ترك ذلك لعدم الدليل عليه، لكن يشرع لك الصدقة عن من أحببت من أقاربك وغيرهم إذا كانوا مسلمين والدعاء لهم، والحج والعمرة عنهم، أما الصلاة عنهم والطواف عنهم والقراءة لهم فالأفضل تركه لعدم الدليل عليه، وقد أجاز ذلك بعض أهل العلم قياسا على الصدقة والدعاء والأحوط ترك ذلك (2) . وبالله التوفيق.
__________
(1) نشرت بالمجلة العربية في باب (فاسألوا أهل الذكر) .
(2) لأن الأصل في العبادات التوقيف وعدم القياس.(4/334)
لا يجوز وصف الميت بأنه مغفور له أو مرحوم (1) .
الحمد لله والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد: فقد كثر الإعلان في الجرائد عن وفاة بعض الناس، كما كثر نشر التعازي لأقارب المتوفين، وهم يصفون الميت فيها بأنه مغفور له أو مرحوم أو ما أشبه ذلك من كونه من أهل الجنة، ولا يخفى على كل من له إلمام بأمور الإسلام وعقيدته بأن ذلك من الأمور التي لا يعلمها إلا الله، وأن عقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز أن يشهد لأحد بجنة أو نار إلا من نص عليه القرآن الكريم كأبي لهب أو شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كالعشرة من الصحابة ونحوهم، ومثل ذلك في المعنى الشهادة له بأنه مغفور له أو مرحوم، لذا ينبغي أن يقال بدلا منها: (غفر الله له) أو (رحمه الله) أو نحو ذلك من كلمات الدعاء للميت. .
وأسأل الله سبحانه أن يهدينا جميعا سواء السبيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
__________
(1) صدرت نشرة من مكتب سماحته بالرياض.(4/335)
وجوب احترام قبور المسلمين وعدم امتهانها (1) .
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:.
فقد ورد إلي رسائل كثيرة مضمونها استنكار ما يقع من بعض الناس من الاستهانة بالقبور وعدم احترامها فرأيت أن أكتب في ذلك هذه الكلمة للتنبيه والتحذير نصحا لله ولعباده، فأقول: قد دلت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على وجوب احترام الموتى من المسلمين وعدم إيذائهم، ولا شك أن المرور عليها بالسيارات والتركتلات والمواشي وإلقاء القمامات عليها كل ذلك من الاستهانة بها وعدم احترامها، وكل ذلك منكر ومعصية لله ولرسوله وظلم للأموات واعتداء عليهم.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي والتحذير عما هو أقل من هذا كالجلوس على القبر أو الاتكاء عليه ونحوه. فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تصلوا على القبور ولا تجلسوا عليها (2) » رواه مسلم في صحيحه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه وتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر (3) » خرجه مسلم أيضا، وعن عمرو بن حزم قال: «رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا على قبر فقال: " لا تؤذ صاحب هذا القبر " أو لا تؤذه (4) » رواه أحمد. .
فالواجب على جميع المسلمين احترام قبور موتاهم وعدم التعرض لها بشيء من الأذى كالجلوس عليها والمرور عليها بالسيارات ونحوها وإلقاء القمامات عليها وأشباه ذلك من الأذى.
وفق الله المسلمين جميعا لما فيه صلاح أحيائهم وسلامة أمواتهم من الأذى، ورزق الله الجميع الفقه في الدين والوقوف عند الحدود الشرعية إنه سميع قريب وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) صدرت نشرة من مكتب سماحته بالرياض.
(2) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) .
(3) صحيح مسلم الجنائز (971) ، سنن النسائي الجنائز (2044) ، سنن أبو داود الجنائز (3228) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1566) ، مسند أحمد بن حنبل (2/389) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (5/223) .(4/336)
حكم الكتابة على القبور (1)
سؤال: هل يجوز وضع قطعة من الحديد أو " لافتة " على قبر الميت مكتوب عليها آيات قرآنية بالإضافة إلى اسم الميت وتاريخ وفاته. إلخ؟
الجواب: لا يجوز أن يكتب على قبر الميت لا آيات قرآنية ولا غيرها، لا في حديدة ولا في لوح ولا في غيرهما. لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم: «نهى أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه (2) » . رواه الإمام مسلم في صحيحه، زاد الترمذي والنسائي بإسناد صحيح: «وأن يكتب عليه (3) » .
__________
(1) كتاب الدعوة ج1 ص24، 25، 26.
(2) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .
(3) سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) .(4/337)
الحكمة من إدخال قبر الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد (1)
سؤال: من المعلوم أنه لا يجوز دفن الأموات في المساجد، وأيما مسجد فيه قبر لا تجوز الصلاة فيه، فما الحكمة من إدخال قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض صحابته في المسجد النبوي؟
الجواب: قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » متفق على صحته، وثبت عن عائشة رضي الله عنها «أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال صلى الله عليه وسلم: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله (3) » متفق عليه،.
وروى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم
__________
(1) كتاب الدعوة ج1 ص24، 25، 26.
(2) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (529) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(3) صحيح البخاري الجنائز (1341) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (528) ، سنن النسائي المساجد (704) .(4/337)
وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (1) » وروى مسلم أيضا عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه (2) » فهذه الأحاديث الصحيحة وما جاء في معناها كلها تدل على تحريم اتخاذ المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك، كما تدل على تحريم البناء على القبور واتخاذ القباب عليها وتجصيصها لأن ذلك من أسباب الشرك بها وعبادة سكانها من دون الله كما قد وقع ذلك قديما وحديثا.
فالواجب على المسلمين أينما كانوا أن يحذروا مما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وألا يغتروا بما فعله كثير من الناس، فإن الحق هو ضالة المؤمن متى وجدها أخذها، والحق يعرف بالدليل من الكتاب والسنة لا بآراء الناس وأعمالهم، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصاحباه رضي الله عنهما لم يدفنوا في المسجد وإنما دفنوا في بيت عائشة، ولكن لما وسع المسجد في عهد الوليد بن عبد الملك أدخل الحجرة في المسجد في آخر القرن الأول ولا يعتبر عمله هذا في حكم الدفن في المسجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه لم ينقلوا إلى أرض المسجد وإنما أدخلت الحجرة التي هم بها في المسجد من أجل التوسعة فلا يكون في ذلك حجة لأحد على جواز البناء على القبور أو اتخاذ المساجد عليها أو الدفن فيها لما ذكرته آنفا من الأحاديث الصحيحة المانعة من ذلك، وعمل الوليد ليس فيه حجة على ما يخالف السنة الثابتة عن رسول الله، والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .(4/338)
ما حكم قراءة القرآن للميت في داره؟ (1)
سؤال: هل قراءة القرآن للميت بأن نضع في منزل الميت أو داره مصاحف ويأتي بعض الجيران والمعارف من المسلمين فيقرأ كل واحد منهم جزء مثلا ثم ينطلق إلى عمله ولا يعطى في ذلك أي أجر من المال، وبعد انتهائه من القراءة يدعو للميت ويهدي له ثواب القرآن. فهل تصل هذه القراءة والدعاء إلى الميت ويثاب عليها أم لا؟ أرجو الإفادة وشكرا لكم. علما بأني سمعت بعض العلماء يقول بالحرمة مطلقا والبعض بالكراهة والبعض بالجواز. .
الجواب: هذا العمل وأمثاله لا أصل له، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم أنهم كانوا يقرءون للموتى، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » أخرجه مسلم في صحيحه وعلقه البخاري في الصحيح جازما به، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته يوم الجمعة أما بعد فإن خير الحديث كتاب لله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (4) » زاد النسائي بإسناد صحيح: «وكل ضلالة في النار (5) » .
أما الصدقة للموتى والدعاء لهم فهو ينفعهم ويصل إليهم بإجماع المسلمين.
وبالله التوفيق والله المستعان.
__________
(1) كتاب الدعوة ج1 ص 215.
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(4) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(5) سنن النسائي صلاة العيدين (1578) .(4/339)
حكم قراءة القرآن على الأموات
س: أرجو من سماحة الشيخ أن ينبه المسلمين إلى حكم قراءة القرآن على الأموات هل هو جائز أم لا، وما حكم الأحاديث الواردة في ذلك؟ .
ج: القراءة على الأموات ليس لها أصل يعتمد عليه ولا تشريع، وإنما المشروع القراءة بين الأحياء ليستفيدوا ويتدبروا كتاب الله ويتعقلوه، أما القراءة على الميت عند قبره أو بعد وفاته قبل أن يقبر أو القراءة له في أي مكان حتى تهدى له فهذا لا نعلم له أصلا.
وقد صنف العلماء في ذلك وكتبوا في هذا كتابات كثيرة منهم من أجاز القراءة ورغب في أن يقرأ للميت ختمات وجعل ذلك من جنس الصدقة بالمال، ومن أهل العلم من قال: هذه أمور توقيفية يعني أنها من العبادات فلا يجوز أن يفعل منها إلا ما أقره الشرع والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » وليس هناك دليل في هذا الباب فيما نعلمه يدل على شرعية القراءة للموتى.
فينبغي البقاء على الأصل وهو أنها عبادة توقيفية، فلا تفعل للأموات. بخلاف الصدقة عنهم والدعاء لهم والحج والعمرة وقضاء الدين، فإن هذه الأمور تنفعهم، وقد جاءت بها النصوص وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (2) » وقال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (3) - أي بعد الصحابة - {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (4) فقد أثنى الله سبحانه على هؤلاء المتأخرين بدعائهم لمن سبقهم وذلك يدل على شرعية الدعاء للأموات من المسلمين وأنه ينفعهم، وهكذا الصدقة تنفعهم للحديث
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .
(3) سورة الحشر الآية 10
(4) سورة الحشر الآية 10(4/340)
المذكور.
وفي الإمكان أن يتصدق بالمال الذي يستأجر به من يقرأ للأموات على الفقراء والمحاويج بنية لهذا الميت، فينتفع الميت بهذا المال ويسلم باذله من البدعة، وقد ثبت في الصحيح أن رجلا قال: «يا رسول الله إن أمي ماتت ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها قال النبي صلى الله عليه وسلم نعم (1) » .
فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصدقة عن الميت تنفعه، وهكذا الحج عنه والعمرة، وقد جاءت الأحاديث بذلك، وهكذا قضاء الدين ينفعه، أما كونه يتلو له القرآن ويثوبه له أو يهديه له أو يصلي له أو يصوم له تطوعا فهذا كله لا يصل له، والصواب أنه غير مشروع.
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1388) ، صحيح مسلم الزكاة (1004) ، سنن النسائي الوصايا (3649) ، سنن أبو داود الوصايا (2881) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2717) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) ، موطأ مالك الأقضية (1490) .(4/341)
حكم قراءة الفاتحة للميت وذبح المواشي له
س: من شخص سوداني يقيم في الكويت يقول فيه: ما حكم قراءة الفاتحة للميت وذبح المواشي ودفع الفلوس إلى أهل الميت؟ .
ج: التقرب إلى الأموات بالذبائح أو بالفلوس أو بالنذور وغير ذلك من العبادات كطلب الشفاء منهم أو الغوث أو المدد شرك أكبر لا يجوز لأحد فعله لأن الشرك أعظم الذنوب وأكبر الجرائم؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) وقوله سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (2) الآية، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، فالواجب إخلاص العبادة لله وحده سواء كانت ذبحا أو نذرا أو دعاء أو صلاة أو صوما أو غير ذلك من العبادات، ومن ذلك التقرب إلى أصحاب القبور بالنذور أو بالطعام؛ للآيات السابقة ولقوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (5)
أما إهداء الفاتحة أو غيرها من القرآن إلى الأموات فليس عليه دليل فالواجب تركه؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم ما يدل على ذلك، لكن يشرع الدعاء للأموات والصدقة عنهم وذلك بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، يتقرب العبد بذلك إلى الله سبحانه ويسأله أن يجعل ثواب ذلك لأبيه أو أمه أو غيرهما من الأموات أو الأحياء؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة المائدة الآية 72
(3) سورة الأنعام الآية 88
(4) سورة الأنعام الآية 162
(5) سورة الأنعام الآية 163(4/342)
ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (1) » ولأنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له: «يا رسول الله إن أمي ماتت ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها قال نعم (2) » متفق على صحته.
وهكذا الحج عن الميت والعمرة عنه وقضاء دينه كل ذلك ينفعه حسب ما ورد في الأدلة الشرعية، أما إن كان السائل يقصد الإحسان إلى أهل الميت والصدقة بالنقود والذبائح فهذا لا بأس به إذا كانوا فقراء، والأفضل أن يصنع الجيران والأقارب الطعام في بيوتهم ثم يهدوه إلى أهل الميت؛ لأنه ثبت «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بلغه موت ابن عمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في غزوة مؤتة أمر أهله أن يصنعوا لأهل جعفر طعاما وقال: لأنه قد أتاهم ما يشغلهم (3) » .
وأما كون أهل الميت يصنعون طعاما للناس من أجل الميت فهذا لا يجوز وهو من عمل الجاهلية سواء كان ذلك يوم الموت أو في اليوم الرابع أو العاشر أو على رأس السنة كل ذلك لا يجوز؛ لما ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصناعة الطعام بعد الدفن من النياحة (4) » .
أما إن نزل بأهل الميت ضيوف زمن العزاء فلا بأس أن يصنعوا لهم الطعام من أجل الضيافة، كما أنه لا حرج على أهل الميت أن يدعوا من شاءوا من الجيران والأقارب ليتناولوا معهم ما أهدي لهم من الطعام. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .
(2) صحيح البخاري الجنائز (1388) ، صحيح مسلم الزكاة (1004) ، سنن النسائي الوصايا (3649) ، سنن أبو داود الوصايا (2881) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2717) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) ، موطأ مالك الأقضية (1490) .
(3) سنن الترمذي الجنائز (998) ، سنن أبي داود الجنائز (3132) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1610) ، مسند أحمد (1/205) .
(4) سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1612) ، مسند أحمد بن حنبل (2/204) .(4/343)
زيارة القبور والتوسل بالأضرحة وأخذ أموال التوسل
سؤال من جمهورية مصر العربية يقول فيه: ما حكم الدين الإسلامي في زيارة القبور والتوسل بالأضرحة وأخذ خروف وأموال للتوسل بها كزيارة السيد البدوي والحسين والسيدة زينب أفيدونا أفادكم الله. .
الجواب: زيارة القبور نوعان:
أحدهما: مشروع ومطلوب لأجل الدعاء للأموات والترحم عليهم ولأجل تذكر الموت والإعداد للآخرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (1) » وكان يزورها صلى الله عليه وسلم، وهكذا أصحابه رضي الله عنهم، وهذا الفرع للرجال خاصة لا للنساء، أما النساء فلا يشرع لهن زيارة القبور بل يجب نهيهن عن ذلك.
لأنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور من النساء، ولأن زيارتهن للقبور قد يحصل بها فتنة لهن أو بهن مع قلة الصبر وكثرة الجزع الذي يغلب عليهن، وهكذا لا يشرع لهن اتباع الجنائز إلى المقبرة؛ لما ثبت في الصحيح عن أم عطية رضي الله عنها قالت: «نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا (2) » فدل ذلك على أنهن ممنوعات من اتباع الجنائز إلى المقبرة لما يخشى في ذلك من الفتنة لهن وبهن، وقلة الصبر، والأصل في النهي التحريم لقول الله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3)
أما الصلاة على الميت فمشروعة للرجال والنساء كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، أما قول أم عطية رضي الله عنها (لم يعزم علينا) فهذا لا يدل على جواز اتباع الجنائز للنساء؛ لأن صدور النهي عنه صلى الله عليه وسلم كاف في المنع، وأما قولها: (لم يعزم علينا) فهو مبني على اجتهادها وظنها، واجتهادها لا يعارض به السنة.
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .
(2) صحيح البخاري الجنائز (1278) .
(3) سورة الحشر الآية 7(4/344)
النوع الثاني: بدعي وهو: زيارة القبور لدعاء أهلها والاستغاثة بهم أو للذبح لهم أو للنذر لهم، وهذا منكر وشرك أكبر نسأل الله العافية، ويلتحق بذلك أن يزوروها للدعاء عندها والصلاة عندها والقراءة عندها، وهذا بدعة غير مشروع ومن وسائل الشرك، فصارت في الحقيقة ثلاثة أنواع:
النوع الأول: مشروع، وهو أن يزوروها للدعاء لأهلها أو لتذكر الآخرة.
الثاني: أن تزار للقراءة عندها أو للصلاة عندها أو للذبح عندها فهذه بدعة ومن وسائل الشرك.
الثالث: أن يزوروها للذبح للميت والتقرب إليه بذلك، أو لدعاء الميت من دون الله أو لطلب المدد منه أو الغوث أو النصر فهذا شرك أكبر نسأل الله العافية، فيجب الحذر من هذه الزيارات المبتدعة، ولا فرق بين كون المدعو نبيا أو صالحا أو غيرهما، ويدخل في ذلك ما يفعله بعض الجهال عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم من دعائه والاستغاثة به، أو عند قبر الحسين أو البدوي أو الشيخ عبد القادر الجيلاني أو غيرهم، والله المستعان.(4/345)
حكم أخذ أجرة قراءة القرآن على الأموات
س: سائل من اليمن يقول: أناس عندنا يقرءون القرآن على الأموات ويأخذون عليه أجرة، فهل يستفيد منه الأموات شيئا؟ وإذا مات واحد منهم يقرءون القرآن ثلاثة أيام ويعملون ذبائح وولائم، فهل هذا من الشرع؟ .
ج: القراءة على الأموات بدعة وأخذ الأجرة على ذلك لا يجوز لأنه لم يرد في الشرع المطهر ما يدل على ذلك، والعبادات توقيفية لا يجوز منها إلا ما شرعه الله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق على صحته، وهكذا ذبح الذبائح وإعداد الطعام من أجل الميت كله بدعة منكرة لا يجوز سواء كان ذلك في يوم أو أيام؛ لأن الشرع المطهر لم يرد بذلك بل هو من عمل الجاهلية؛ لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن؛ الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة (2) » وقال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب (3) » رواه مسلم في صحيحه.
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد الدفن من النياحة (4) » رواه الإمام أحمد بإسناد حسن، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن (5) » الحديث المذكور آنفا، ولم يكن من عمل النبي صلى الله عليه وسلم ولا من عمل الصحابة رضي الله عنهم أنه إذا مات الميت يقرءون له القرآن أو يقرءون عليه القرآن أو يذبحون الذبائح أو يقيمون المآتم والأطعمة والحفلات، كل هذا بدعة فالواجب الحذر من ذلك وتحذير الناس منه.
وعلى العلماء بوجه أخص أن ينهوا الناس عن ما حرم الله عليهم وأن يأخذوا على أيدي الجهلة والسفهاء حتى يستقيموا على الطريق السوي الذي شرعه الله لعباده، وبذلك تصلح الأحوال والمجتمعات ويظهر حكم الإسلام وتختفي أمور الجاهلية، نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (934) ، مسند أحمد بن حنبل (5/344) .
(3) صحيح مسلم الجنائز (934) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1581) .
(4) سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1612) .
(5) صحيح مسلم الجنائز (934) ، مسند أحمد بن حنبل (5/344) .(4/346)
إقامة الولائم عند موت الميت من تركته فما حكم ذلك؟ (1) .
سؤال: يقيم بعض الناس ولائم وذبائح عند موت بعض أقاربهم وتصرف قيمة هذه الولائم من مال المتوفى، ما حكم ذلك وإذا وصى الميت بإقامة مثل هذه الولائم بعد موته هل يلزم الشرع الورثة بإنفاذ هذه الوصية؟ .
الجواب: الوصية بإقامة الولائم بعد الموت بدعة ومن عمل الجاهلية، وهكذا عمل أهل الميت للولائم المذكورة ولو بدون وصية منكر لا يجوز؛ لما ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد الدفن من النياحة خرجه الإمام أحمد بإسناد حسن، ولأن ذلك خلاف ما شرعه الله من إسعاف أهل الميت بصنعة الطعام لهم لكونهم مشغولين بالمصيبة، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بلغه استشهاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في غزوة مؤتة قال لأهله: «اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم (2) » .
__________
(1) كتاب الدعوة ج1 ص 237.
(2) سنن الترمذي الجنائز (998) ، سنن أبي داود الجنائز (3132) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1610) ، مسند أحمد (1/205) .(4/347)
حكم قراءة القرآن لآخر حيا أو ميتا.
س: لي والدة لا تقرأ وأحب أن أبرها وكثيرا ما أقرأ القرآن وأجعل ثوابه لها، ولما سمعت أنه لا يجوز عدلت عن ذلك وأخذت أتصدق عنها بدراهم، وهي الآن حية على قيد الحياة، فهل يصل ثواب الصدقة من مال وغيره إليها سواء كانت حية أو ميتة، أم لا يصل إلا الدعاد، حيث لم يرد إلا ذلك كما في الحديث: «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث وذكر: ولد صالح يدعو له (1) » ؟ ، وهل الإنسان إذا كان كثير الدعاء لوالديه في الصلاة وغيرها قائما وقاعدا يشهد له الحديث بأنه صالح ويرجى له خير عند الله؟ أرجو الإفادة ولكم من الله الثواب الجزيل. .
ج: أما قراءة القرآن فقد اختلف العلماء في وصول ثوابها إلى الميت على قولين لأهل العلم، والأرجح أنها لا تصل لعدم الدليل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعلها لأمواته من المسلمين كبناته اللاتي متن في حياته عليه الصلاة والسلام، ولم يفعلها الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فيما علمنا، فالأولى للمؤمن أن يترك ذلك ولا يقرأ للموتى ولا للأحياء ولا يصلي لهم، وهكذا التطوع بالصوم عنهم؛ لأن ذلك كله لا دليل عليه، والأصل في العبادات التوقيف إلا ما ثبت عن الله سبحانه أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم شرعيته.
أما الصدقة فتنفع الحي والميت بإجماع المسلمين، وهكذا الدعاء ينفع الحي والميت بإجماع المسلمين، وإنما جاء الحديث بما يتعلق بالميت؛ لأنه هو محل الإشكال: هل يلحقه أم لا يلحقه فلهذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (2) » لما كان من المعلوم أن الموت تنقطع به الأعمال بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا لا ينقطع، وأما الحي فلا شك فيه أنه
__________
(1) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .
(2) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .(4/348)
ينتفع بالصدقة منه ومن غيره وينتفع بالدعاء، فالذي يدعو لوالديه وهم أحياء ينتفعون بدعائه، وهكذا الصدقة عنهم وهم أحياء تنفعهم.
وهكذا الحج عنهم إذا كانوا عاجزين لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فإنه ينفعهم ذلك، ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: «أن امرأة قالت: يا رسول الله إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: حجي عنه (1) » .
«وجاءه رجل آخر فقال: يا رسول الله: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا الظعن أفأحج عنه وأعتمر؟ ، قال: حج عن أبيك واعتمر (2) » فهذا يدل على أن الحج عن الميت أو الحي العاجز لكبر سنه أو المرأة العاجزة لكبر سنها جائز، فالصدقة والدعاء والحج عن الميت أو العمرة عنه وكذلك عن العاجز كل هذا ينفعه عند جميع أهل العلم.
وهكذا الصوم عن الميت إذا كان عليه صوم واجب سواء كان عن نذر أو كفارة أو عن صوم رمضان لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه (3) » متفق على صحته، ولأحاديث أخرى في المعنى، لكن من تأخر في صوم رمضان بعذر شرعي كمرض أو سفر ثم مات قبل أن يتمكن من القضاء فلا قضاء عنه ولا إطعام لكونه معذورا.
وأنت أيها السائل على خير إن شاء الله في إحسانك إلى والديك بالصدقة عنهما والدعاء لهما، ولا سيما إذا كان الولد صالحا، فهو أقرب إلى إجابة الدعاء، لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أو ولد صالح يدعو له لأن الولد الصالح أقرب إلى أن يجاب من الولد الفاجر، وإن كان الدعاء مطلوبا من الجميع للوالدين، ولكن إذا كان الولد صالحا صار أقرب في إجابة دعوته لوالديه.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1513) ، صحيح مسلم الحج (1334) ، سنن الترمذي الحج (928) ، سنن النسائي مناسك الحج (2642) ، سنن أبو داود المناسك (1809) ، سنن ابن ماجه المناسك (2907) ، مسند أحمد بن حنبل (1/251) ، موطأ مالك الحج (806) ، سنن الدارمي المناسك (1833) .
(2) سنن الترمذي الحج (930) ، سنن النسائي مناسك الحج (2637) ، سنن أبو داود المناسك (1810) ، سنن ابن ماجه المناسك (2906) ، مسند أحمد بن حنبل (4/10) .
(3) صحيح البخاري الصوم (1952) ، صحيح مسلم الصيام (1147) ، سنن أبو داود الصوم (2400) ، مسند أحمد بن حنبل (6/69) .(4/349)
وفاء النذر
س: إنني شاب أبلغ من العمر السادسة والعشرين عاما، قدر الله علي بحصول غمامة من غمامات الدهر التي تعترض كل شاب متزوج ولي ثلاثة من الأبناء يعيشون تحت رعايتي بعد الله ووالدتي طاعنة في السن، وحجبتني الأقدار الإلهية عن رؤيتهم ما يقارب سنة وستة أشهر، فنذرت لله أنه عند عودتي لمنزلي وأطفالي - الذين أصبحوا بعد فترة غيابي تحت بر المتصدقين - أن أصوم لله تعالى ستة أيام وأذبح اثنتين من الذبائح لله تعالى وأزور مكة والمدينة أنا ووالدي وأقوم بحمل والدتي على أكتافي وأطوف بها وأسعى، وعندما انجلت تلك الغمامة ولسوء حالتي المادية وحالة أسرتي قمت بذبح ذبيحة واحدة ولم أستطع إحضار الأخرى، كذلك لم أستطع الذهاب بأسرتي أو والدتي لمكة والمدينة وفاء بنذري. وذلك لسوء حالتي المادية، حتى الصيام لم أستطع القيام به وخوفا من وقوعي في الذنب والوزر بعثت برسالتي لأجد الحل بما يرضي الله. .
ج: الحمد لله الذي يسر لك الاجتماع بوالديك وأولادك ونسأله جل وعلا أن يصلح حالكم جميعا وأن يعينك على ما يحبه ويرضاه، أما النذر فالواجب عليك الوفاء به حسب الطاقة وقد مدح الله المؤمنين الموفين بالنذر في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} (1)
وقال النبي: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (2) » أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، فعليك أن تؤدي الذبيحة الثانية عند القدرة لقوله سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (3)
__________
(1) سورة الإنسان الآية 7
(2) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3807) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .
(3) سورة البقرة الآية 286(4/350)
وقوله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1)
فمتى استطعت وتيسر لك ما تشتري به الذبيحة الثانية فافعل واذبحها وتصدق بها على الفقراء إلا أن تكون نويت أن تأكلها مع أهلك فأنت على نيتك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (2) » متفق عليه، أما إن كنت نذرت الذبح ولم تقصد أن تأكلها مع أهلك فإنك تعطيها الفقراء، وعليك أن تصوم ستة أيام لأنها طاعة لله فعليك أن تصومها متى استطعت ولو متفرقة، إلا إن كنت نويت أن تصومها متتابعة فأنت على نيتك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات (3) » إن كنت نويت صيامها متتابعة فصمها متتابعة.
وعليك أيضا أن تحج بوالديك وتذهب بوالديك إلى مكة والمدينة كما نذرت إن كنت أردت العمرة فعمرة وإن كنت أردت الحج فحج على حسب نيتك متى استطعت، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (4) ويقول سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (5) وعليك أن تذهب بهما إلى المدينة أيضا؛ لأن شد الرحال إلى المدينة للصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم سنة وقربة، وإذا زرت المدينة فسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، وهذا هو الأفضل لك، فإن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه لمن كان في المدينة مشروعة.
وهكذا من وفد إليها من الرجال، إنما الذي ينهى عنه شد الرحال لمجرد زيارة قبره صلى الله عليه وسلم فقط، أما شد الرحل للمسجد والزيارة داخلة في ذلك فلا بأس بذلك، وتسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه رضي الله عنهما، أما النساء فلا يزرن القبور لكن أنت وأبوك ومن معك من الرجال، أما النساء فلا يزرن القبور ولكن يصلين في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ويصلين عليه في المسجد وفي البيوت وفي الطريق (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) .
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(3) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(4) سورة البقرة الآية 286
(5) سورة التغابن الآية 16(4/351)
ويشرع لك أنت ومن معك من الرجال زيارة البقيع وزيارة الشهداء، كل هذا مشروع للرجال، ويستحب أيضا لك ومن معك من الرجال والنساء زيارة مسجد قباء والصلاة فيه؛ لأنه مسجد فاضل تستحب الزيارة له والصلاة فيه لمن كان في المدينة ولمن وفد إليها.
أما حملك لأمك أو لأبيك حين تحج بهما وقت الطواف والسعي فلا حرج عليك في ذلك إذا كانا عاجزين عن المشي في الطواف والسعي وأنت قادر على ذلك، أما إن قدرا فعليهما أن يطوفا ويسعيا بأنفسهما ولا حرج أن يسعيا راكبين كغيرهما من الحجاج والعمار، والأمر في ذلك واسع والحمد لله، أما حملك لهما فلا يجب عليك حملهما لما فيه من المشقة ولعدم الدليل على شرعيته، وعليك أن تكفر عن نذرك هذا كفارة يمين إذا لم تحملهما. وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم تعطي كل واحد نصف صاع من التمر أو البر أو الأرز أو تكسو كل واحد كسوة تجزئه في الصلاة كالقميص أو إزار ورداء، وليس عليك حملهما، بل يطوفان ويسعيان بأنفسهما - كما تقدم - إذا كانا قادرين، أما إن كانا عاجزين فيطاف بهما ويسعى بهما، والحمد لله.
ونسأل الله أن يعينك على الوفاء بنذرك وأن يتقبل منا ومنك ومن سائر المسلمين ونوصيك بعدم النذر في المستقبل؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «لا تنذروا فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئا وإنما يستخرج به من البخيل (1) » فنوصيك في المستقبل أن لا تنذر أبدا متى حصلت لك نعم فاشكر الله عليها وأطعه واحمده ولا حاجة إلى النذر وقد قلت في سؤالك: (ولكن حجبتني الأقدار) فالأفضل أن تقول في مثل هذا: (ولكن قدر الله كذا وكذا) ؛ لأن الأقدار ليس لها تصرف إنما التصرف لله وحده فتقول في مثل هذا: (قدر الله علي كذا) أو (شاء الله كذا) فتنسب الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6694) ، صحيح مسلم النذر (1640) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1538) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3805) .(4/352)
تنبيهات مهمة (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى فضيلة الأخ المكرم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي وفقه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد تأملت ما ذكرتم في رسالتيكم المؤرختين في 20 ربيع الآخر سنة 1406 هـ وفي 7 \ 6 \ 1406 هـ، وقد سرني كثيرا حرصكم على البحث عن الحق الذي هو ضالة المؤمن، ولا شك أن الحق لا يرتبط بالمذهبية، كما أنه لا يعرف بالرجال وإنما الرجال يعرفون به.
أما الملاحظات التي استشكلتموها وهي:
(الملاحظة الأولى) :
ما ذكرتم في ص 144 من الكتاب وهو (لا مانع من أن نلتمس منهم البركة والخير) وقصدكم بذلك أحمد البدوي وأحمد الرفاعي وعبد القادر الجيلاني وأمثالهم، وقد أشكل عليكم أن يكون هذا من الشرك الأكبر، وذكرتم ما فعلته أم سليم وأم سلمة وأبو أيوب الأنصاري من التماس البركة في جسد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا تبرك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا يقاس عليه غيره؛ لأمرين:.
الأول: ما جعله الله سبحانه في جسده وشعره من البركة التي لا يلحقه فيها غيره.
الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك مع غيره كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من كبار الصحابة، ولو كان غيره يقاس عليه لفعله الصحابة مع كبارهم الذين ثبت أنهم من أولياء الله المتقين بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالجنة، وهذا يكفي، دليلا على ولايتهم وصدقهم، وقد اجتمعت
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته بالرياض في 26 \ 11 \ 1406هـ برقم 3127 \1.(4/353)
الأمة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر رضي الله عنه، كما أن من عقيدة أهل السنة والجماعة عدم الشهادة لأحد بجنة ولا نار إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لا يعلمون حقيقة أمره وخاتمة عمله، وما دام لا يدري ما يفعل الله به كيف يطلب منه البركة والخير؟ كما أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته مع أنه سيد ولد آدم وجاء بالخير كله من الله سبحانه، ولمزيد الفائدة أذكر بعض ما قاله أهل العلم في هذه المسألة.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في " فتح المجيد ": (وأما ما ادعاه بعض المتأخرين من أنه يجوز التبرك بآثار الصالحين فممنوع من وجوه: منها: أن السابقين الأولين من الصحابة ومن بعدهم لم يكونوا يفعلون ذلك مع غير النبي صلى الله عليه وسلم لا في حياته ولا بعد موته، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، وأفضل الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وقد شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن شهد له بالجنة، وما فعله أحد من الصحابة والتابعين مع أحد من هؤلاء السادة ولا فعله التابعون مع سادتهم في العلم والدين وهم الأسوة، فلا يجوز أن يقاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الأمة، وللنبي صلى الله عليه وسلم في حال الحياة خصائص كثيرة لا يصلح أن يشاركه فيها غيره.
ومنها: أن في المنع من ذلك سدا لذريعة الشرك كما لا يخفى) . اهـ.
ولا شك أن الشرك خطره عظيم والنفوس ضعيفة والشيطان حريص على التلبيس عليها وجرها إلى الشرك كما ذكر الله سبحانه ذلك عنه في آيات كثيرة، ولذلك دعا إبراهيم عليه السلام ربه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام لما يعلم من عظيم خطره ودقته وضعف النفس أو غفلتها وأنه يحبط العمل مع أن الله سبحانه برأه منه وشهد له بالإخلاص واتخذه خليلا واختار ملته(4/354)
لهذه الأمة وهي إخلاص العبادة لله وحده والبراءة من الشرك بأنواعه، كما أن الشرك أول ما نشأ في قوم نوح عليه السلام هو بسبب التبرك بالصالحين، ففي صحيح البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله سبحانه: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا} (1) الآية، قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت) .
وقد روى الترمذي رحمه الله وغيره بسند صحيح من حديث أبي واقد الليثي قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر إنها السنن قلتم كما قالت بنو إسرائيل لموسى لتركبن سنن من كان قبلكم (3) » .
قال ابن القيم رحمه الله في تعليقه على هذا الحديث في كتابه " إغاثة اللهفان ": (فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله تعالى مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها فما الظن بالعكوف حول القبر والدعاء به ودعائه والدعاء عنده فأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر لو كان أهل الشرك والبدعة يعلمون) انتهى بحروفه. وهذا هو الأصل الأصيل في منع التبرك بالمخلوقات إلا ما استثناه الشارع - ومن ذلك التبرك بشعر النبي صلى الله عليه وسلم وعرقه وغيرهما مما مس جسده استثناء - من هذا.
__________
(1) سورة نوح الآية 23
(2) سنن الترمذي الفتن (2180) ، مسند أحمد بن حنبل (5/218) .
(3) سورة الأعراف الآية 138 (2) {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}(4/355)
وقد سمى الله سبحانه وتعالى الذين يطيعون من جادلهم من أهل الباطل في حل ما لم يذكر اسم الله عليه مشركين وذلك في قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (1) وليس هذا عبادة لهم ولا دعاء لهم من دون الله ولكنهم طاعوهم في تحليل ما حرم الله فكانوا بذلك من المشركين، فكيف بمن يرجو البركة من الأموات ويدعوهم من دون الله أو مع الله سبحانه.
والمقصود أن الشرك بالله أمره عظيم وخطره جسيم ولذلك جاءت الشريعة بسد الذرائع الموصلة إليه من أي باب، مثل: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المقبرة، وشد الرحال لزيارة المقابر، وتجصيص القبور واتخاذها عيدا - أي زيارتها في أوقات محددة متكررة كما يتكرر العيد - واتخاذ السرج عليها إلى غير ذلك.
(الملاحظة الثانية) :
أما ما يتعلق بعلم الغيب فلا شك أن المراقبين حين انتقدوا ما ذكره فضيلتكم عن الغيب لم يكن لهم هوى أو قصد سيئ؛ لأنا نعلم نزاهتهم بحمد الله وبعدهم عن أن يقصدوا أحدا بضرر أو سوء ظن وإنما هو ظاهر عبارتكم حين قلتم ما نصه: (فلنلاحظ كيف أن القرآن سلب الإنسان الوصول إلى مفاتح الغيب ولكنه لم يسلب عنه معرفة الغيب ذاته) إلخ، ولم توضحوا بعد ذلك أن الغيب في الجملة علمه إلى الله وحده، وإنما الإنسان يستخرج بعض الغيب بالطرق التي أباحها الله كالتنقيب عن كنوز الأرض وما في البحار وكالحساب للكسوفات ونحوها حتى تبرأوا مما نسبه إليكم المراقبون، ولا يخفى أن الله سبحانه كما أنه جعل مفاتح الغيب عنده نفى علم الغيب عن غيره فقال سبحانه في سورة النمل: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (2) وقال عز وجل في آخر سورة هود: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (3) الآية.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 121
(2) سورة النمل الآية 65
(3) سورة هود الآية 123(4/356)
فاتضح من الآيتين وما جاء في معناهما في الكتاب والسنة أن علم الغيب على الإطلاق إلى الله وحده وإنما يعلم منه ما نص عليه الكتاب العزيز أو صحت به السنة أو استخرجه الإنسان في الطرق التي علمه إياها مولاه سبحانه وهداه إليها مما وقع في هذا العصر أو قبله ومما سيقع في المستقبل مما لا يعلمه الناس اليوم، فأرجو تأمل ما ذكرته لكم ليتضح لكم خطأ عبارتكم ودلالتها على ما ذكره المراقبون، ولعلكم في المستقبل توضحون ما يزيل الشك ويوضح الحق، والهدف هو التناصح والتعاون على الخير والتحذير مما يخالف الكتاب والسنة والحق ضالة المؤمن متى وجدها أخذها.
وأما ما ذكرتم عن الفناء بشهود المكون عن الأكوان، وما نقلتموه عن شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك من ذم هذه الحال لكنها لا تصل إلى الكفر البواح فقد فهمته، ولكن ما ذكرته الرقابة في ذلك من أنه كفر بواح وجيه وصحيح إذا كان الفاني معه عقله ونطق بمثل ما نقل عن أبي يزيد البسطامي (ما في الجبة إلا الله) وكقول بعضهم: (أنا الحق أو سبحاني) ، أما إذا كان الناطق لمثل هذا محكوما عليه بزوال العقل كما أشار إليه أبو العباس بما نقلتم عنه فإن عذره وجيه لرفع القلم عن من زال عقله.
وقد ذكر هذا المعنى العلامة ابن القيم رحمه الله في المجلد الأول من " مدارج السالكين " من ص 155 إلى 158، وأسأل الله أن يمنحنا وإياكم الفقه في دينه والبصيرة في حقه وأن يعيذنا وإياكم من مضلات الفتن ونزغات الشيطان إنه خير مسئول.
وأما ما أشرتم إليه من جهة الاحتفال بالموالد وأنه لا شك أنها بدعة إذا فهمت أنها عبادة. . . إلخ فأقول: لا ريب أن المقيمين لحفلات الموالد يعتقدون أنها عبادة ويتقربون إلى الله بذلك، وبذلك يعلم أنها بدعة بلا شك؛ لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يفعلها ولم يأذن فيها ولم يقرها، ولم يفعلها(4/357)
أصحابه رضي الله عنهم وهم خير القرون وأكمل الناس حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلم الناس بالشرع المطهر، وهكذا من بعدهم في القرون المفضلة، هذا لو سلمت من المنكرات الأخرى وأنى لها السلامة مع ما غلب على أكثر النفوس من الجهل والغلو، وقد يقع فيها من الشرك الأكبر وكبائر الذنوب ما لا يخفى على مثلكم.
ولو فرضنا أن المحتفلين بالموالد لم يقصدوا بها القربة فإنها بذلك تعتبر تشبها باليهود والنصارى في إقامة الأعياد لأنبيائهم وعظمائهم، والتشبه بهم ممنوع بالنص والإجماع كما أوضح ذلك أبو العباس ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " لا عملا بالأحاديث الصحيحة ومنها: ما خرجه الإمام أحمد بسند جيد عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: «من تشبه بقوم فهو منهم (1) » . فأرجو تدبر هذا الموضوع كثيرا طلبا للحق وحرصا على براءة الذمة وحذرا من الوقوع فيما حرمه الله. والله المستعان.
أما دراسة سيرته صلى الله عليه وسلم في المدارس والمعاهد والكليات وفي الخطب فلا بأس بذلك بل ذلك من القربات ومن نشر العلم، وهكذا وعظ الناس وتذكيرهم بسيرته وسنته بين وقت وآخر كل ذلك مما يعلم من الدين بالضرورة أنه مطلوب ومشروع، رزقني الله وإياكم وسائر إخواننا المزيد من العلم النافع والعمل الصالح مع حسن الفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم إنه خير مسئول.
خاتمة: اطلعت على الفصل الذي أشرتم إليه في رسالتكم وقرأته بتدبر فوجدته فصلا مفيدا نافعا، ضاعف الله مثوبتكم وزادني وإياكم من العلم والهدى، وقد لاحظت عليه بالإضافة إلى ما سبق ما يلي:
1 - قلتم في ص 218 (وقد أجمعت الأمة على أن الإكثار من الصلاة على سيدنا محمد خير جلاء للقلب وأفضل طهور للنفس) إلخ اهـ. هذا القول فيه نظر، ولو قلت: (على أن الإكثار من الصلاة على سيدنا
__________
(1) سنن أبو داود اللباس (4031) .(4/358)
محمد صلى الله عليه وسلم من خير جلاء للقلب ومن أفضل طهور للنفس) إلخ لكان أولى، أما كون ذلك (خير جلاء) فلا يظهر لي وجهه، والصواب: أن خير جلاء للقلوب هو ذكر الله سبحانه وتلاوة كتابه الكريم، وإذا انضم إلى ذلك الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كان خيرا إلى خير، ومما يدل على ذلك قوله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله (2) » الحديث، رواه الشيخان وهذا لفظ مسلم، وهكذا حديث عبد الله بن عمرو: «وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله (3) » الحديث، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وإنما القصد الإشارة والتذكير.
2 - قولكم في الهامش ص 219 ذكر ابن حجر الهيثمي في كتابه: " الدر المنضود " نقلا عن بعض أهل العلم: (أن المسلم إذا فقد المرشد الكامل) إلخ. ليس بجيد بل وليس بصحيح، فإن الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لا يغني عن طلب العلم بل ولا الإكثار من ذكر الله لا يغني عن طلب العلم، فالواجب على من فقد المرشد أن لا يخضع للكسل وترك طلب العلم بل يجب عليه أن يطلب العلم من مظانه مع الإكثار من ذكر الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله سبحانه يعينه بهذا الإكثار على تحصيل المطلوب، وسبق أن نبهنا أنه ليس هناك مرشد كامل على الحقيقة سوى الرسل عليهم الصلاة والسلام، بل كل عالم وكل داع إلى الله لا بد فيه من نقص والله المستعان، وبهذا يعلم فضيلتكم أن الأولى حذف هذا التعليق.
3 - يظهر من سياق كلامكم في ص 220 - التعليق -: وهو: (قلت لواحد من هؤلاء بعد أن انتهينا ذات ليلة من صلاة التراويح فلندع الله في ختام صلاتنا هذه.) إلخ - أنكم أردتم الدعاء الجماعي ولهذا رفض ذلك
__________
(1) سورة الرعد الآية 28
(2) صحيح مسلم الإيمان (35) ، سنن الترمذي الإيمان (2614) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5005) ، سنن أبو داود السنة (4676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (57) ، مسند أحمد بن حنبل (2/414) .
(3) سنن الترمذي الدعوات (3585) .(4/359)
الشخص الذي أشرتم إليه، والذي يظهر لي أن الصواب معه في هذا الشيء؛ لأنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم فيما أعلم أنهم دعوا بعد الصلوات الخمس أو بعد التراويح دعاء جماعيا. أما الدعاء بين العبد وبين ربه بعد صلاته أو في آخر التحيات قبل السلام فهذا مما جاءت به السنة، ولكنه قبل السلام أفضل؛ لكثرة الأحاديث في ذلك كما نبه على ذلك غير واحد من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم رحمة الله عليهما، والدعاء الذي ذكرتم عن سعد أخبر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو به في دبر كل صلاة فيحتمل أنه كان قبل السلام ويحتمل أنه بعد السلام، وعلى كل حال فليس فيه حجة على الدعاء الجماعي، فأرجو تدبر الموضوع ومراجعة كلام أهل العلم في ذلك.
هذا ما تيسر لي من الجواب عما أشكل عليكم رغم كثرة المشاغل وضيق الوقت. وأسأل الله أن يمنحني وإياكم وسائر إخواننا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن، إنه خير مسئول.(4/360)
تفسير آيات كريمات (1)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
س1: أرجو شرح معنى هذه الآية وبيان القول الراجح في تفسيرها، يقول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} (2) {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (3) {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (4) هل يفهم من هذا أن من دخل الجنة يخرج منها إذا شاء الله؟ وهل نسخت هاتان الآيتان بشيء من القرآن إذ أنهما وردتا في سورة مكية؟ . .
ج1: الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فالآيتان ليستا منسوختين بل هما محكمتان، وقوله جل وعلا: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (5) اختلف أهل العلم في بيان معنى ذلك، مع إجماعهم بأن نعيم أهل الجنة دائم أبدا لا ينقضي ولا يزول ولا يخرجون منها، ولهذا قال بعده سبحانه: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (6) لإزالة ما قد يتوهم بعض الناس أن هناك خروجا، فهم خالدون فيها أبدا، وأن هذا العطاء غير مجذوذ أي غير مقطوع، ولهذا في الآيات الأخرى يبين هذا المعنى فيقول سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (7) {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} (8) فبين سبحانه أنهم آمنون - أي آمنون من الموت وآمنون من الخروج وآمنون من الأمراض والأحزان وكل كدر - ثم قال سبحانه وتعالى:
__________
(1) من برنامج نور على الدرب رقم الشريط (22) .
(2) سورة هود الآية 106
(3) سورة هود الآية 107
(4) سورة هود الآية 108
(5) سورة هود الآية 108
(6) سورة هود الآية 108
(7) سورة الحجر الآية 45
(8) سورة الحجر الآية 46(4/361)
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (1) {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (2) فبين سبحانه أنهم فيها دائمون لا يخرجون، وقال عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} (3) {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (4) {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} (5) {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (6) {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} (7) {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (8) {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (9) فأخبر سبحانه أن أهل الجنة في مقام أمين لا يعترضهم خوف ولا زوال نعمة وأنهم آمنون أيضا، فلا خطر عليهم من موت ولا مرض ولا خروج منها ولا حزن ولا غير ذلك من المكدرات، وأنهم لا يموتون أبدا، ومعنى ذلك أن أهل الجنة يخلدون فيها أبد الآباد.
وقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (10) قال بعض أهل العلم: معناه: مدة بقائهم بالقبور وإن كان المؤمن في روضة من رياضها ونعيم من نعيمها، لكن ذلك ليس هو الجنة، ولكن هو شيء من الجنة، فيفتح على المؤمن في قبره باب إلى الجنة يأتيه من ريحها وطيبها ونعيمها ولينه ليس المحل الجنة بل ينقل إليها بعد ذلك إلى الجنة فوق السماوات في أعلى شيء، وقال بعضهم: معنى {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (11) أي مدة مقامهم في موقف القيامة للحساب والجزاء بعد خروجهم من القبور ثم ينقلون بعد ذلك إلى الجنة. وقال بعضهم: المراد جميع الأمرين مدة مقامهم في القبور ومدة مقامهم في الموقف ومرورهم على الصراط كل هذه الأوقات هم فيها ليسوا في الجنة لكن ينقلون منها إلى الجنة وقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (12) يعني إلا وقت مقامهم في القبور، وإلا وقت مقامهم في الموقف وإلا وقت مرورهم على الصراط
__________
(1) سورة الحجر الآية 47
(2) سورة الحجر الآية 48
(3) سورة الدخان الآية 51
(4) سورة الدخان الآية 52
(5) سورة الدخان الآية 53
(6) سورة الدخان الآية 54
(7) سورة الدخان الآية 55
(8) سورة الدخان الآية 56
(9) سورة الدخان الآية 57
(10) سورة هود الآية 107
(11) سورة هود الآية 107
(12) سورة هود الآية 107(4/362)
فهم في هذه الحالة ليسوا في الجنة ولكنهم منقولون إليها وسائرون إليها، وبهذا يعلم أن الأمر واضح ليس فيه شبهة ولا شك ولا ريب فالحمد لله.
فأهل الجنة ينعمون فيها وخالدون أبد الآباد، لا موت ولا مرض، ولا خروج، ولا كدر، ولا حزن، ولا حيض، ولا نفاس، ولا شيء من الأذى أبدا، بل في نعيم دائم وخير دائم.
وهكذا أهل النار مخلدون فيها أبد الآباد ولا يخرجون منها ولا تخرب أيضا هي بل تبقى وهم باقون فيها، وقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (1) قيل مدة مقامهم في المقابر، أو مدة مقامهم في الموقف كما تقدم في أهل الجنة، وهم بعد ذلك يساقون إلى النار ويخلدون فيها أبد الآباد ونسأل الله العافية، وكما قال عز وجل في سورة البقرة: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (2) وقال عز وجل في سورة المائدة في حق الكفرة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (3) وقال بعض السلف: إن النار لها أمد ولها نهاية بعد ما يمضي عليها آلاف السنين والأحقاب الكثيرة وأنهم يموتون أو يخرجون منها وهذا قول ليس بشيء عند جمهور أهل السنة والجماعة بل هو باطل ترده الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة كما تقدم، وقد استقر قول أهل السنة والجماعة إنها باقية أبد الآباد وأنهم لا يخرجون منها وأنها لا تخرب أيضا، بل هي باقية أبد الآباد في ظاهر القرآن الكريم وظاهر السنة الثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام، ومن الأدلة على ذلك مع ما تقدم قوله سبحانه في شأن النار: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} (4) وقوله سبحانه في سورة النبأ يخاطب أهل النار: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} (5) نسأل الله السلامة والعافية منها ومن حال أهلها.
__________
(1) سورة هود الآية 107
(2) سورة البقرة الآية 167
(3) سورة المائدة الآية 37
(4) سورة الإسراء الآية 97
(5) سورة النبأ الآية 30(4/363)
س2: أرجو تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1) .
ج2: هذه الآية عظيمة وهي تدل على أن العلماء وهم العلماء بالله وبدينه وبكتابه العظيم وسنة رسوله الكريم، هؤلاء هم أكمل الناس خشية لله وأكملهم تقوى لله وطاعة له سبحانه وعلى رأسهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فمعنى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ} (2) أي الخشية الكاملة من عباده العلماء وهم الذين عرفوا ربهم بأسمائه وصفاته وعظيم حقه سبحانه وتعالى وتبصروا في شريعته وآمنوا بما عنده من النعيم لمن اتقاه وما عنده من العذاب لمن عصاه وخالف أمره، فهم لكمال علمهم بالله وكمال معرفتهم بالحق كانوا أشد الناس خشية لله وأكثر الناس خوفا من الله وتعظيما له سبحانه وتعالى، وليس معنى الآية أنه لا يخشى الله إلا العلماء، فإن كل مسلم ومسلمة وكل مؤمن ومؤمنة يخشى الله عز وجل ويخافه سبحانه، لكن الخوف متفاوت ليسوا على حد سواء، فكلما كان المؤمن أعلم بالله وأفقه في دينه كان خوفه من الله أكثر وخشيته أكمل، وهكذا المؤمنة كلما كانت أعلم بالله وأعلم بصفاته وعظيم حقه كان خوفها من الله أعظم وكانت خشيتها لله أكمل من غيرها، وكلما قل العلم وقلت البصيرة قل الخوف من الله وقلت الخشية له سبحانه فالناس متفاوتون في هذا حتى العلماء متفاوتون، فكلما كان العالم أعلم بالله وكلما كان العالم أقوم بحقه وبدينه وأعلم بأسمائه وصفاته كانت خشيته لله أكمل ممن دونه في هذه الصفات، وكلما نقص العلم نقصت الخشية لله، ولكن جميع المؤمنين والمؤمنات كلهم يخشون الله سبحانه وتعالى
__________
(1) سورة فاطر الآية 28
(2) سورة فاطر الآية 28(4/364)
على حسب علمهم ودرجاتهم في الإيمان، ولهذا يقول جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (1) {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (2) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (3) وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (4) فهم مأجورون على خشيتهم لله وإن كانوا غير علماء وكانوا من العامة، لكن كمال الخشية يكون للعلماء لكمال بصيرتهم وكمال علمهم بالله، فتكون خشيتهم لله أعظم، وبهذا يتضح معنى الآية ويزول ما يتوهم بعض الناس من الإشكال في معناها. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البينة الآية 7
(2) سورة البينة الآية 8
(3) سورة الملك الآية 12
(4) سورة الرحمن الآية 46(4/365)
س3: ما معنى قول الحق تبارك وتعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (1) .
ج3: هذه الآية العظيمة يحذر الله فيها سبحانه عباده من الأمن من مكره فيقول سبحانه: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (2) المقصود من هذا تحذير العباد من الأمن من مكره بالإقامة على معاصيه والتهاون بحقه، والمراد من مكر الله بهم كونه يملي لهم ويزيدهم من النعم والخيرات وهم مقيمون على معاصيه وخلاف أمره، فهم جديرون بأن يؤخذوا على غفلتهم ويعاقبوا على غرتهم بسبب إقامتهم على معاصيه وأمنهم من عقابه وغضبه، كما قال سبحانه: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} (3) {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (4) وقال عز وجل: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (5)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 99
(2) سورة الأعراف الآية 99
(3) سورة الأعراف الآية 182
(4) سورة الأعراف الآية 183
(5) سورة الأنعام الآية 110(4/365)
وقال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (1) أي آيسون من كل خير.
فالواجب على المسلمين ألا يقنطوا من رحمة الله ولا يأمنوا من مكره وعقوبته، بل يجب على كل مسلم أن يسير إلى الله سبحانه في هذه الدنيا الدار الفانية بين الخوف والرجاء، فيذكر عظمته وشدة عقابه إذا خالف أمره فيخافه ويخشى عقابه، ويذكر رحمته وعفوه ومغفرته وجوده وكرمه فيحسن به الظن ويرجو كرمه وعفوه، والله الموفق سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 44(4/366)
س4: ما معنى قول الحق تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (1) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (2) هل المقصود في الآية أن يفعل الإنسان الكبائر الثلاث ثم يخلد في النار؟ أم المقصود إذا ارتكب إحدى هذه الكبائر يخلد في النار؟ فمثلا: ارتكب جريمة القتل هل يخلد في النار أم لا؟ نرجو أن تتفضلوا بالتفسير المفصل لهذه الآية الكريمة؟ .
ج 4: هذه الآية العظيمة فيها التحذير من الشرك والقتل والزنا والوعيد لأصحاب هذه الجرائم بما ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (3) قال بعض المفسرين: إنه جب في جهنم، وقال آخرون: معنى ذلك أنه إثما كبيرا عظيما فسره سبحانه بقوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (4)
__________
(1) سورة الفرقان الآية 68
(2) سورة الفرقان الآية 69
(3) سورة الفرقان الآية 68
(4) سورة الفرقان الآية 69(4/366)
فهذا جزاء من اقترف هذه الجرائم الثلاث أنه يضاعف له العذاب ويخلد فيه مهانا لا مكرما، وهذه الجرائم الثلاث مختلفة في المراتب، فجريمة الشرك: هي أعظم الجرائم وأعظم الذنوب، وصاحبها مخلد في النار أبد الآباد لا يخرج من النار أبدا بإجماع أهل العلم كما قال الله تعالى في كتابه العظيم: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (1) وقال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) وقال في حقهم: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (4) والآيات في هذا كثيرة، فالمشرك إذا مات على شركه ولم يتب فإنه مخلد في النار، والجنة عليه حرام والمغفرة عليه حرام بإجماع المسلمين، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (5) وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (6) فجعل المغفرة حراما على المشرك
__________
(1) سورة التوبة الآية 17
(2) سورة الأنعام الآية 88
(3) سورة الزمر الآية 65
(4) سورة المائدة الآية 37
(5) سورة المائدة الآية 72
(6) سورة النساء الآية 48(4/367)
إذا مات على الشرك، أما ما دون الشرك فهو تحت مشيئة الله.
والخلاصة: أن المشرك إذا مات على شركه فهو مخلد في النار أبد الآباد بإجماع أهل العلم، وذلك مثل الذي يعبد الأصنام أو الأحجار أو الأشجار أو الكواكب أو الشمس أو القمر أو الأنبياء، أو يعبد الأموات ومن يسمونهم بالأولياء أو يستغيث بهم ويطلب منهم المدد أو العون عند قبورهم أو بعيدا منها، مثل قول بعضهم: يا سيدي فلان المدد المدد، يا سيدي البدوي المدد المدد، أو يا سيدي عبد القادر أو يا سيدي رسول الله المدد المدد الغوث الغوث، أو يا سيدي الحسين أو يا فاطمة أو يا ست زينب أو غير ذلك ممن يدعوه المشركون، وهذا كله من الشرك الأكبر والعياذ بالله، فإذا مات عليه صاحبه صار من أهل النار - والعياذ بالله - والخلود فيها.
أما الجريمة الثانية وهي: القتل، والثالثة وهي الزنا: فهاتان الجريمتان دون الشرك وهما أكبر المعاصي وأخطرها إذا كان من تعاطاهما لم يستحلهما بل يعلم أنهما محرمتان ولكن حمله الغضب أو الهوى أو غير ذلك على الإقدام على القتل وحمله الهوى والشيطان على الزنا وهو يعلم أن القتل بغير حق محرم وأن الزنا محرم فأصحاب هاتين الجريمتين متوعدون بالعقوبة المذكورة إلا أن يعفو الله عنهم أو يمن عليهم بالتوبة النصوح قبل الموت، ولعظم هاتين الجريمتين وكثرة ما يحصل بهما من الفساد قرنهما الله بجريمة الشرك في هذه الآية، وتوعد أهل هذه الجرائم الثلاث بمضاعفة العذاب والخلود فيه تنفيرا منها وتحذيرا للعباد من عواقبها الوخيمة، ودلت النصوص الأخرى من الكتاب والسنة على أن القتل والزنا دون الشرك في حق من لم يستحلهما وأنهما داخلان في قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) أما من استحلها فهو كافر حكمه حكم الكفرة في الخلود في العذاب يوم القيامة. نسأل العافية والسلامة.
__________
(1) سورة النساء الآية 48(4/368)
أما من تاب من أهل هذه الجرائم الثلاث وغيرها توبة نصوحا فإن الله يغفر له، ويبدل سيئاته حسنات إذا أتبع التوبة بالإيمان والعمل الصالح كما قال سبحانه بعد ما ذكر هذه الجرائم الثلاث وعقوبة أصحابها: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) فالله سبحانه يغفر لأهل المعاصي التي دون الشرك إذا شاء ذلك، أو يعذبهم في النار على قدر معاصيهم ثم يخرجهم منها بشفاعة الشفعاء كشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة الملائكة والأفراط والمؤمنين، ويبقى في النار أقوام من أهل التوحيد لا تنالهم الشفاعة من أحد فيخرجهم الله سبحانه وتعالى برحمته لأنهم ماتوا على التوحيد والإيمان ولكن لهم أعمال خبيثة ومعاصي دخلوا بها النار، فإذا طهروا منها ومضت المدة التي كتب الله عليهم أخرجوا من النار برحمة من الله عز وجل ويلقون في نهر يقال له (نهر الحياة) من أنهار الجنة ينبتون فيه كما تنبت الحبة في حمأ السيل، فإذا تم خلقهم أدخلهم الله الجنة.
وبهذا يعلم أن العاصي كالقاتل والزاني لا يخلد في النار خلود الكفار بل له خلود خاص على حسب جريمته لا كخلود الكفار، فخلود الشرك خلود دائم ليس له منه محيص وليس له نهاية كما قال تعالى في سورة البقرة في حق المشركين: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (2) وقال تعالى في سورة المائدة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (4) أما من دخل النار من العصاة فإنهم يخرجون منها إذا تمت المدة التي كتب الله عليهم،
__________
(1) سورة الفرقان الآية 70
(2) سورة البقرة الآية 167
(3) سورة المائدة الآية 36
(4) سورة المائدة الآية 37(4/369)
إما بشفاعة الشفعاء وإما برحمة الله سبحانه وتعالى من دون شفاعة أحد كما جاء ذلك في أحاديث الشفاعة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فيها أنه يبقى في النار أقوام لم يخرجوا بشفاعة الشفعاء فيخرجهم سبحانه منها بدون شفاعة أحد بل بمجرد رحمته سبحانه لكونهم ماتوا على التوحيد، وخلود من يخلد من العصاة في النار خلود مؤقت له نهاية، والعرب تسمي الإقامة الطويلة خلودا، كما قال بعض الشعراء يصف قوما:
أقاموا فأخلدوا.
أي طولوا الإقامة، فلا يخلد في النار الخلود الدائم إلا أهلها وهم - الكفرة فتطبق عليهم ولا يخرجون منها كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} (1) {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} (2) وقال سبحانه: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} (3) {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} (4) نسأل الله العافية والسلامة.
__________
(1) سورة البلد الآية 19
(2) سورة البلد الآية 20
(3) سورة الهمزة الآية 8
(4) سورة الهمزة الآية 9(4/370)
متى يعرف العبد أن هذا الابتلاء امتحان أو عذاب:.
س5: إذا ابتلي أحد بمرض أو بلاء سيئ في النفس أو المال، فكيف يعرف أن ذلك الابتلاء امتحان أو غضب من عند الله؟ .
ج5: الله عز وجل يبتلي عباده بالسراء والضراء وبالشدة والرخاء، وقد يبتليهم بها لرفع درجاتهم وإعلاء ذكرهم ومضاعفة حسناتهم كما يفعل بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام والصلحاء من عباد الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل (1) » ، وتارة يفعل ذلك سبحانه بسبب المعاصي والذنوب، فتكون العقوبة معجلة كما قال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (2) فالغالب على الإنسان التقصير وعدم القيام بالواجب، فما أصابه فهو بسبب ذنوبه وتقصيره بأمر الله، فإذا ابتلي أحد من عباد الله الصالحين بشيء من
__________
(1) سنن الترمذي الزهد (2398) ، سنن ابن ماجه الفتن (4023) ، مسند أحمد بن حنبل (1/180) ، سنن الدارمي الرقاق (2783) .
(2) سورة الشورى الآية 30(4/370)
الأمراض أو نحوها فإن هذا يكون من جنس ابتلاء الأنبياء والرسل رفعا في الدرجات وتعظيما للأجور وليكون قدوة لغيره في الصبر والاحتساب، فالحاصل أنه قد يكون البلاء لرفع الدرجات وإعظام الأجور كما يفعل الله بالأنبياء وبعض الأخيار، وقد يكون لتكفير السيئات كما في قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أصاب المسلم من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا حزن ولا أذى إلا كفر الله به من خطاياه حتى الشوكة يشاكها (2) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يصب منه (3) » وقد يكون ذلك عقوبة معجلة بسبب المعاصي وعدم المبادرة للتوبة كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة (4) » خرجه الترمذي وحسنه.
__________
(1) سورة النساء الآية 123
(2) صحيح البخاري المرضى (5642) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2573) ، سنن الترمذي الجنائز (966) ، مسند أحمد بن حنبل (3/19) .
(3) صحيح البخاري المرضى (5645) ، مسند أحمد بن حنبل (2/237) ، موطأ مالك الجامع (1752) .
(4) سنن الترمذي الزهد (2396) .(4/371)
الإجابة عن أسئلة متفرقة (1)
صحة الحديث: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة (2) » . .
س1: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة (3) » هل هذا حديث. وهل إذا كان حديثا فهل الرسول صلى الله عليه وسلم ترك شيئا لأحد حتى يسن به سنة في الإسلام؟ نرجو أن توضحوا لنا هذا المقام بالتفصيل. .
ج1: هذا الحديث صحيح، وهو يدل على شرعية إحياء السنن والدعوة إليها والتحذير من البدع والشرور لأنه صلى الله عليه وسلم يقول: «من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا (4) » خرجه مسلم في صححيه.
ومثل هذا الحديث ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (5) » ، وهكذا حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (6) » خرجهما مسلم في صحيحه.
ومعنى " سن في الإسلام " يعني: أحيا سنة وأظهرها وأبرزها مما قد يخفى على الناس، فيدعو إليها ويظهرها ويبينها، فيكون له من الأجر مثل أجور أتباعه فيها وليس معناها الابتداع في الدين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن
__________
(1) من برنامج '' نور على الدرب '' رقم الشريط (26) .
(2) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .
(3) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .
(4) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .
(5) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(6) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .(4/372)
البدع وقال: «كل بدعة ضلالة (1) » وكلامه صلى الله عليه وسلم يصدق بعضه بعضا، ولا يناقض بعضه بعضا بإجماع أهل العلم، فعلم بذلك أن المقصود من الحديث إحياء السنة وإظهارها، مثال ذلك: أن يكون العالم في بلاد ما يكون عندهم تعليم للقرآن الكريم أو ما عندهم تعليم للسنة النبوية فيحيي هذه السنة بأن يجلس للناس يعلمهم القرآن ويعلمهم السنة أو يأتي بمعلمين، أو في بلاد يحلقون لحاهم أو يقصونها فيأمر هو بإعفاء اللحى وإرخائها، فيكون بذلك قد أحيا هذه السنة العظيمة في هذا البلد التي لم تعرفها ويكون له من الأجر مثل أجر من هداه الله بأسبابه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين (2) » متفق على صحته من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والناس لما رأوا هذا العالم قد وفر لحيته ودعا إلى ذلك تابعوه، فأحيا بهم السنة، وهي سنة واجبة لا يجوز تركها، عملا بالحديث المذكور وما جاء في معناه، فكيون له مثل أجورهم.
وقد يكون في بلاد يجهلون صلاة الجمعة ولا يصلونها فيعلمهم ويصلي بهم الجمعة فيكون له مثل أجورهم، وهكذا لو كان في بلاد يجهلون الوتر فيعلمهم إياه ويتابعونه على ذلك، أو ما أشبه ذلك من العبادات والأحكام المعلومة من الدين، فيطرأ على بعض البلاد أو بعض القبائل جهلها، فالذي يحييها بينهم وينشرها ويبينها يقال: سن في الإسلام سنة حسنة بمعنى أنه أظهر حكم الإسلام، فيكون بذلك ممن سن في الإسلام سنة حسنة.
وليس المراد أن يبتدع في الدين ما لم يأذن به الله، فالبدع كلها ضلالة لقول النبي في الحديث الصحيح: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (3) » ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أيضا: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (4) » ، وفي اللفظ الآخر: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (5) » متفق عليه.
ويقول في خطبة الجمعة عليه الصلاة والسلام: «أما بعد: فإن خير
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .
(3) سنن أبو داود السنة (4607) .
(4) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(5) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(4/373)
الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (1) » خرجه مسلم في صحيحه.
فالعبادة التي لم يشرعها الله لا تجوز الدعوة إليها، ولا يؤجر صاحبها، بل يكون فعله لها ودعوته إليها من البدع، وبذلك يكون الداعي إليها من الدعاة إلى الضلالة، وقد ذم الله من فعل ذلك بقوله سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (2) الآية.
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(2) سورة الشورى الآية 21(4/374)
حكم الأخطاء التي ارتكبت قبل الهداية
س2: يقول السائل: إنه كان جاهليا ولقد من الله عليه بالإسلام، وكان قبل ذلك قد ارتكب بعض الأخطاء، ويقول: سمعت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم (1) » كيف تنصحونني والحالة هذه؟ .
ج2: قد شرع الله سبحانه وتعالى لعباده التوبة، فقال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (3) وقال جل وعلا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (4) وقال صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (5) » فمن اقترف شيئا من المعاصي فعليه بالبدار بالتوبة والندم والإقلاع والحذر والعزم أن لا يعود في ذلك والله يتوب على التائبين سبحانه وتعالى.
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2449) ، مسند أحمد بن حنبل (2/435) .
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة التحريم الآية 8
(4) سورة طه الآية 82
(5) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .(4/374)
فمتى صدق العبد في التوبة بالندم على ما مضى والعزم على أن لا يعود، وأقلع منها تعظيما لله وخوفا من الله فإنه يتاب عليه، ويمحو الله عنه ما مضى من الذنوب فضلا منه وإحسانا سبحانه وتعالى.
لكن إن كانت المعصية ظلما للعباد، فذلك يحتاج إلى أداء الحق الذي عليه بالتوبة مما وقع والندم والإقلاع والعزم أن لا يعود، وعليه مع ذلك أداء الحق لمستحقه أو تحلله من ذلك، كما يقول: (سامحني يا أخي) ، أو (اعف عني) أو ما أشبه ذلك، أو يعطيه حقه للحديث الذي ذكره السائل، وغيره من الأحاديث والآيات. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول «من كان عنده لأخيه مظلمة فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ من حسناته بقدر مظلمته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه (1) » خرجه البخاري في صحيحه، فينبغي للمؤمن أن يحرص على البراءة والسلامة من حق أخيه، فإما أن يؤديه إليه أو يتحلله منه، وإذا كان عرضا فلا بد من تحلله إن استطاع، فإن لم يستطع أو خاف من مغبة ذلك وأن يترتب على إخباره شر أكثر فإنه يستغفر له ويدعو له ويذكره بالمحاسن التي يعرفها عنه بدلا من ما ذكره بالسوء، يعني عليه أن يغسل السيئة الأولى بالحسنات الأخيرة فيذكره بالخير الذي يعلمه عنه، وينشر محاسنه ضد السيئات التي نشرها سابقا ويستغفر له ويدعو له، وبهذا ينتهي من المشكلة.
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2449) ، مسند أحمد بن حنبل (2/506) .(4/375)
تربية ثلاث بنات
س3: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له ثلات بنات فصبر عليهن وسقاهن وكساهن كن له حجابا من النار (1) » هل يكن حجابا من النار لوالدهن فقط أم حتى الأم شريكة في ذلك؟ وأنا عندي ولله الحمد ثلاث بنات. .
ج3: الحديث عام للأب والأم بقوله صلى الله عليه وسلم «من كان له ابنتان فأحسن إليهما كن له سترا من النار (2) » وهكذا لو كان له أخوات أو عمات أو خالات
__________
(1) سنن ابن ماجه الأدب (3669) ، مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(2) صحيح البخاري الأدب (5995) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2629) ، سنن الترمذي البر والصلة (1915) ، مسند أحمد بن حنبل (6/88) .(4/375)
أو نحوهن فأحسن إليهن فإنا نرجو له بذلك الجنة، فإنه متى أحسن إليهن فإنه بذلك يستحق الأجر العظيم ويحجب من النار ويحال بينه وبين النار لعمله الطيب.
وهذا يختص بالمسلمين، فالمسلم إذا عمل هذه الخيرات ابتغاء وجه الله يكون قد تسبب في نجاته من النار، والنجاة من النار والدخول في الجنة لها أسباب كثيرة، فينبغي للمؤمن أن يستكثر منها، والإسلام نفسه هو الأصل الوحيد وهو السبب الأساسي لدخول الجنة والنجاة من النار.
وهناك أعمال إذا عملها المسلم دخل بهن الجنة ونجا من النار، مثل من رزق بنات أو أخوات فأحسن إليهن كن له سترا من النار، وهكذا «من مات له ثلاثة أفراط لم يبلغوا الحنث كانوا له حجابا من النار، قالوا يا رسول الله: واثنان. قال: " واثنان (1) » ولم يسألوه عن الواحد، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله عز وجل ما لعبدي المؤمن جزاء إذا أخذت صفيه من أهل الدنيا فاحتسب إلا الجنة (2) » فبين سبحانه وتعالى أن ليس للعبد المؤمن عنده جزاء إذا أخذ صفيه - أي محبوبه - من أهل الدنيا فصبر واحتسب إلا الجنة، فالواحد من أفراطنا يدخل في هذا الحديث إذا أخذه الله وقبضه إليه فصبر أبوه أو أمه أو كلاهما واحتسبا فلهما الجنة، وهذا فضل من الله عظيم وهكذا الزوج والزوجة وسائر الأقرباء والأصدقاء إذا صبروا واحتسبوا دخلوا في هذا الحديث مع مراعاة سلامتهم مما قد يمنع ذلك من الموت على شيء من كبائر الذنوب، نسأل الله السلامة.
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (1061) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1606) ، مسند أحمد بن حنبل (1/429) .
(2) صحيح البخاري الرقاق (6424) ، مسند أحمد بن حنبل (2/417) .(4/376)
معنى الإحسان
س4: ما هو هذا الإحسان المذكور في الحديث؟
ج4: الإحسان للبنات ونحوهن يكون بتربيتهن التربية الإسلامية، وتعليمهن وتنشئتهن على الحق والحرص على عفتهن وبعدهن عن ما حرم الله(4/376)
من التبرج وغيره، وهكذا تربية الأخوات والأولاد الذكور إلى غير ذلك من وجوه الإحسان، حتى يتربى الجميع على طاعة الله ورسوله والبعد عن محارم الله والقيام بحق الله سبحانه وتعالى، وبذلك يعلم أنه ليس المقصود مجرد الإحسان بالأكل والشرب والكسوة فقط، بل المراد ما هو أعم من ذلك من الإحسان إليهن في عمل الدين والدنيا.(4/377)
اجتناب الكبائر لحصول الوعد
س5: هل يشترط اجتناب الكبائر كما هو معلوم في الحصول على هذا الوعد؟ .
ج 5: نعم، وهذه قاعدة عظيمة مجمع عليها عند أهل السنة، وهي أن الوعد من الرب جل وعلا أو من الرسول صلى الله عليه وسلم بالمغفرة أو الجنة أو النجاة من النار مقيد باجتناب الكبائر؛ لأن الله سبحانه يقول: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (1) بين سبحانه أن من شرط دخول الجنة وتكفير السيئات اجتناب الكبائر فقال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (2) فدل ذلك على أن من لم يجتنبها لا يحصل له هذا الجواب. وذلك لأن كلمة: {إِنْ تَجْتَنِبُوا} (3) شرط، والجواب: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (4) وهذه قاعدة أن الجواب مرتب على الشرط، فمتى وجد الشرط وجد الجواب والجزاء، وإلا فلا، فعلى المؤمن أن يبتعد عن الكبائر ويحذرها، وكذلك المؤمنة.
والكبائر: المعاصي العظام التي جاء فيها الوعيد بلعنة أو غضب أو نار، أو التي جاء فيها حد في الدنيا مثل الزنا والسرقة والعقوق للوالدين وقطيعة
__________
(1) سورة النساء الآية 31
(2) سورة النساء الآية 31
(3) سورة النساء الآية 31
(4) سورة النساء الآية 31(4/377)
الرحم والربا وأكل مال اليتيم والغيبة والنميمة والسب والشتم. إلى غير هذا من الكبائر، فالواجب الحذر منها غاية الحذر والتوبة مما سلف منها.
ومن هذا ما ورد في الحديث الصحيح: يقول عليه الصلاة والسلام: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما لم تغش الكبائر (1) » ، وفي لفظ، آخر «إذا اجتنبت الكبائر (2) » خرجه مسلم في صحيحه، فدل ذلك على أن هذه العبادات العظيمة تكفر بها السيئات إن اجتنبت الكبائر، فهذا الحديث يطابق الآية الكريمة.
ولما توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة الوضوء الشرعي ذكر أنه من توضأ فأحسن وضوءه غفر له ما تقدم من ذنبه ما لم تصب المقتلة وهي الكبيرة.
فينبغي للمؤمن وهكذا المؤمنة أن يجتهد كل منهما في اكتساب الخيرات والمنافسة في الأعمال الصالحة، مع الحذر من السيئات وعدم تعاطيها ولا سيما الكبائر، فإن خطرها عظيم ما لم يعف الله عن صاحبها، إذا كانت دون الشرك. لقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) الآية.
__________
(1) صحيح مسلم الطهارة (233) ، سنن الترمذي الصلاة (214) ، مسند أحمد بن حنبل (2/484) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/359) .
(3) سورة النساء الآية 48(4/378)
تبادل الزيارات بين المسلمات وغير المسلمات.
س6: لدي بعض الجارات من غير المسلمات ومسلمات أيضا، لكن لي عليهن بعض الملاحظات، ما حكم تبادل الزيارات فيما بيننا؟ .
ج6: تبادل الزيارات في مثل هذا إذا كان للتوجيه والنصح والتعاون على البر والتقوى طيب مأمور به، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: وجبت محبتي للمتحابين في والمتزاورين في والمتجالسين في والمتباذلين في (1) » أخرجه الإمام مالك رحمه الله بإسناد صحيح، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سبعة
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/233) ، موطأ مالك الجامع (1779) .(4/378)
يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (1) » وذكر منهم: «رجلين تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه (2) » ، مثل بالرجلين، والحكم يعم الرجلين والمرأتين، فإذا كانت الزيارة لمسلمة أو نصرانية أو غيرهما لقصد الدعوة إلى الله وتعليم الخير والإرشاد إلى الخير لا لقصد الطمع في الدنيا والتساهل بأمر الله فهذا كله طيب.
فإذا زارت المسلمة أختها في الله ونصحتها عن التبرج والسفور وعن التساهل بما حرم الله من سائر المعاصي، أو زارت جارة لها نصرانية أو غير نصرانية كبوذية أو نحو ذلك لتنصحها وتعلمها وترشدها فهذا شيء طيب ويدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة (3) » ، فإن قبلت فالحمد لله وإن لم تقبل تركت الزيارة التي لم يحصل منها فائدة.
أما الزيارة من أجل الدنيا أو اللعب أو الأحاديث الفارغة أو الأكل أو نحو ذلك - فهذه الزيارة لا تجوز للكافرات من النصارى أو غيرهن؛ لأن هذا قد يجر الزائرة إلى فساد دينها وأخلاقها؛ لأن الكفار أعداء لنا وبغضاء لنا، فلا ينبغي أن نتخذهم بطانة ولا أصحابا، لكن إذا كانت الزيارة للدعوة إلى الله والترغيب في الخير والتحذير من الشر فهذا أمر مطلوب، كما تقدم، وقد قال الله سبحانه وتعالى في سورة الممتحنة: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (4) الآية.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (660) ، صحيح مسلم الزكاة (1031) ، سنن الترمذي الزهد (2391) ، سنن النسائي آداب القضاة (5380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، موطأ مالك الجامع (1777) .
(2) صحيح البخاري الأذان (660) ، صحيح مسلم الزكاة (1031) ، سنن الترمذي الزهد (2391) ، سنن النسائي آداب القضاة (5380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، موطأ مالك الجامع (1777) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(4) سورة الممتحنة الآية 4(4/379)
قطع الأشجار المؤذية من المقابر
س7: هل يجوز قطع الأشجار المؤذية من المقابر؟ .
ج7: ينبغي قطعها لأنها تؤذي الزوار، وهكذا ما يوجد فيها من الشوك(4/379)
ينبغي إزالته إراحة للزوار من شره، ولا يشرع لأحد أن يغرس على القبور شيئا من الشجر أو الجريد لأن الله سبحانه لم يشرع ذلك.
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما غرس جريدتين على قبرين عرفهما وأنهما معذبان، ولم يغرس على قبور المدينة وقبور البقيع، وهكذا الصحابة لم يفعلوا ذلك، فعلم أن ذلك خاص بصاحبي القبرين المعذبين نسأل الله السلامة.(4/380)
الشجرة النابتة على القبر
س8: ألاحظ أن بعض الناس إذا رأى شجرا نبت على قبر ما يصف صاحب القبر بأنه كان على صفات مقدارها كذا وكذا، هل لنبات الأشجار على القبور شيء من العلاقة. .
ج8: لا أصل لهذا، وليس نبات الشجر والحشيش على القبور دليلا على صلاح أصحابها، بل ذلك ظن باطل، والشجر ينبت على قبور الصالحين والطالحين ولا يختص بالصالحين، فينبغي عدم الاغترار بقول من يزعم خلاف ذلك من المنحرفين وأصحاب العقائد الباطلة، والله المستعان.(4/380)
وجوب العدل بين العامل المسلم وغيره (1)
س1: يوجد لدي عاملان أحدهما مسلم والثاني كافر، وهما متكافئان في العمل، ومطلوب مني أن أقوم عملهما، فهل يجوز أن أغمط الكافر حقه بسبب ديانته. .
ج1: الواجب العدل بينهما، ولكن يجب إبعاد الكافر ولو كان أنشط؛ لأن المسلم أبرك، ولو كان أقل كفاءة، فما بالك إذا كان مساويا له، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوصى بإخراج الكفار من هذه الجزيرة وأن لا يبقى فيها دينان والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشرت بالمجلة العربية في باب: '' فاسألوا أهل الذكر ''.(4/380)
حكم السكن مع العوائل في الخارج
س2: ما حكم السكن مع العوائل لمن سافر إلى الخارج للدراسة لأجل الاستفادة من اللغة أكثر. .
ج2: لا يجوز السكن مع العوائل لما في ذلك من تعرض الطالب للفتنة بأخلاق الكفرة ونسائهم، والواجب أن يكون سكن الطالب بعيدا عن أسباب الفتنة، وهذا كله على القول بجواز سفر الطالب إلى بلاد الكفرة للتعلم، والصواب أنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار للتعلم إلا عند الضرورة القصوى، بشرط أن يكون ذا علم وبصيرة وأن يكون بعيدا عن أسباب الفتنة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله من مشرك عملا بعد ما أسلم أو يزايل المشركين (1) » أخرجه النسائي بإسناد جيد. ومعناه: حتى يزايل المشركين، وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين (2) » رواه أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد صحيح، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على المسلمين الحذر من السفر إلى بلاد أهل الشرك إلا عند الضرورة القصوى، إلا إذا كان المسافر ذا علم وبصيرة ويريد الدعوة إلى الله والتوجيه إليه فهذا أمر مستثنى، وهذا فيه خير عظيم؛ لأنه يدعو المشركين إلى توحيد الله ويعلمهم شريعة الله، فهو محسن وبعيد عن الخطر لما عنده من العلم والبصيرة والله المستعان.
__________
(1) سنن ابن ماجه الحدود (2536) .
(2) سنن الترمذي السير (1604) ، سنن النسائي القسامة (4780) ، سنن أبو داود الجهاد (2645) .(4/381)
حكم تغيير الاسم بعد الإسلام
س3: هل يلزم من أعلن إسلامه أن يغير اسمه السابق مثل جورج وجوزيف وغيرهما؟ .
ج3: لا يلزمه تغيير اسمه، إلا إن كان معبدا لغير الله، ولكن تحسينه مشروع، فكونه يحسن اسمه من أسماء أعجمية إلى أسماء إسلامية فهذا(4/381)
مناسب وطيب، أما الوجوب فلا، أو إن كان اسمه عبد المسيح وأشباهه من الأسماء المعبدة لغير الله فالواجب تغييره؛ لأنه من التعبيد لغير الله بإجماع أهل العلم، كما نقل ذلك أبو محمد بن حزم رحمه الله. وبالله التوفيق.(4/382)
هل في القرآن مجاز (1)
سائل من القصيم بعث إلي رسالة يقول فيها: كثيرا ما أقرأ في كتب التفاسير وغيرها بأن هذا الحرف زائد كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) فيقولون بأن (الكاف) في " كمثله " زائدة، وقد قال لي أحد المدرسين بأنه ليس في القرآن شيء اسمه زائد أو ناقص أو مجاز، فإذا كان الأمر كذلك فما القول في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (3) وقوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} (4)
الجواب: الصحيح الذي عليه المحققون أنه ليس في القرآن مجاز على الحد الذي يعرفه أصحاب فن البلاغة، وكل ما فيه فهو حقيقة في محله، ومعنى قول بعض المفسرين أن هذا الحرف زائد يعني من جهة قواعد الإعراب وليس زائدا من جهة المعنى، بل له معناه المعروف عند المتخاطبين باللغة العربية؛ لأن القرآن الكريم نزل بلغتهم كقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (5) يفيد المبالغة في نفي المثل، وهو أبلغ من قوله: (ليس مثله شيء) وهكذا قوله سبحانه: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} (6)
__________
(1) الدعوة العدد 1016 الاثنين 6 ربيع الأول سنة 1406 هـ.
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) سورة يوسف الآية 82
(4) سورة البقرة الآية 93
(5) سورة الشورى الآية 11
(6) سورة يوسف الآية 82(4/382)
فإن المراد بذلك سكان القرية وأصحاب العير.
وعادة العرب تطلق القرية على أهلها والعير على أصحابها، وذلك من سعة اللغة العربية وكثرة تصرفها في الكلام، وليس من باب المجاز المعروف في اصطلاح أهل البلاغة ولكن ذلك من مجاز اللغة، أي مما يجوز فيها ولا يمتنع، فهو مصدر ميمي كـ " المقام " و " المقال "، وهكذا قوله سبحانه: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} (1) يعني حبه، وأطلق ذلك لأن هذا اللفظ يفيد المعنى عند أهل اللغة المتخاطبين بها، وهو من باب الإيجاز والاختصار لظهور المعنى. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 93(4/383)
حكم مس المصحف بغير وضوء
س: ما حكم مس المصحف بدون وضوء أو نقله من مكان لآخر، وما الحكم في القراءة على الصورة التي ذكرت. .
ج: لا يجوز للمسلم مس المصحف وهو على غير وضوء عند جمهور أهل العلم وهو الذي عليه الأئمة الأربعة رضي الله عنهم وهو الذي كان يفتي به أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وقد ورد في ذلك حديث صحيح لا بأس به من حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن: أن لا يمس القرآن إلا طاهر (1) » وهو حديث جيد له طرق يشد بعضها بعضا، وبذلك يعلم أنه لا يجوز مس المصحف للمسلم إلا على طهارة من الحدثين الأكبر والأصغر، وهكذا نقله من مكان إلى مكان إذا كان الناقل على غير طهارة لكن إذا كان مسه أو نقله بواسطة كأن يأخذه في لفافة أو في جرابة أو بعلاقته فلا بأس، أما أن يمسه مباشرة وهو على غير طهارة فلا يجوز على الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم لما تقدم.
وأما القراءة فلا بأس أن يقرأ وهو محدث عن ظهر قلب أو يقرأ ويمسك له القرآن من يرد عليه ويفتح عليه فلا بأس بذلك لكن الجنب صاحب الحدث
__________
(1) سنن الدارمي الطلاق (2266) .(4/383)
الأكبر لا يقرأ؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يحجبه شيء عن القراءة إلا الجنابة، وروى أحمد بإسناد جيد عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الغائط وقرأ شيئا من القرآن وقال: «هذا لمن ليس بجنب أما الجنب فلا ولا آية (1) » .
والمقصود أن ذا الجنابة لا يقرأ لا من المصحف ولا عن ظهر قلب حتى يغتسل، وأما المحدث حدثا أصغر وليس بجنب فله أن يقرأ عن ظهر قلب ولا يمس المصحف، وهنا مسألة تتعلق بهذا الأمر وهي مسألة الحائض والنفساء هل تقرآن أم لا تقرآن، في ذلك خلاف بين أهل العلم، منهم من قال: لا تقرآن وألحقهما بالجنب، والقول الثاني: أنهما تقرآن عن ظهر قلب دون مس المصحف؛ لأن مدة الحيض والنفاس تطول وليستا كالجنب؛ لأن الجنب يستطيع أن يغتسل في الحال ويقرأ، أما الحائض والنفساء فلا تستطيعان ذلك إلا بعد طهرهما، فلا يصح قياسهما على الجنب لما تقدم فالصواب: أنه لا مانع من قراءتهما عن ظهر قلب، هذا هو الأرجح؛ لأنه ليس في الأدلة ما يمنع ذلك بل فيها ما يدل على ذلك.
فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة لما حاضت في الحج: «افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري (2) » والحاج يقرأ القرآن ولم يستثنه النبي صلى الله عليه وسلم فدل ذلك على جواز القراءة لها، وهكذا قال لأسماء بنت عميس لما ولدت محمد بن أبي بكر في الميقات في حجة الوداع.
فهذا يدل على أن الحائض والنفساء لهما قراءة القرآن لكن من غير مس المصحف، وأما حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (3) » فهو حديث ضعيف، في إسناده إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة، وأهل العلم بالحديث يضعفون رواية إسماعيل عن الحجازيين ويقولون: إنه جيد في روايته عن أهل الشام أهل بلاده، لكنه ضعيف في روايته عن أهل الحجاز، وهذا الحديث من روايته عن أهل الحجاز فهو ضعيف.
__________
(1) مسند أحمد (1/110) .
(2) صحيح البخاري الحيض (305) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) ، موطأ مالك الحج (941) ، سنن الدارمي المناسك (1846) .
(3) سنن الترمذي الطهارة (131) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596) .(4/384)
تأييد وشكر (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد اطلعت على ما كتبه أخونا العلامة الشيخ (أحمد محمد جمال) في مقالاته الأسبوعية المنشورة في صحيفة المدينة الصادرة بتاريخ 11 \ 11 \ 95 هـ و 18 \ 11 \ 1395 هـ و 25 \ 11 \ 95 هـ من المقالات المتضمنة استنكار ما اقترحه بعض الكتاب من إيجاد دور سينمائية في البلاد تحت المراقبة، وما وقع من بعض الشركات وغيرها من توظيف النساء في المجالات الرجالية من سكرتيرات وغيرهن، والإعلان في بعض الصحف لطلب ذلك.
وإني لأشكر لأخينا العلامة (أحمد محمد جمال) هذه الغيرة الإسلامية والحرص على سلامة هذه البلاد مما يشينها، ويفسد مجتمعها، ويعرضها لما أصاب غيرها من التحلل والفساد، وانحراف الأخلاق، واختلال الأمن، وظهور الرذيلة، واختفاء الفضيلة، فجزاه الله خيرا وضاعف مثوبته، وإني أؤيده كل التأييد فيما دعا إليه من سد الذرائع المفضية إلى الفساد، والقضاء على جميع وسائل الشر في مهدها حماية لديننا وصونا لمجتمعاتنا وتنفيذا لأحكام شرعنا الذي جاء بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، ودعا إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال وبالغ في التحذير من سفاسف الأخلاق وسيئ الأعمال.
وإن هذه البلاد- كما قال أخونا الأستاذ أحمد - هي قبلة المسلمين وأستاذهم وقدوتهم، فيجب على حكامها وجميع المسئولين فيها أن يتكاتفوا على جميع ما يصونها ويصون مجتمعاتها من عوامل الفساد وأسباب الانحطاط، وأن يشجعوا فيها الفضيلة ويقضوا على أسباب الرذيلة، وأن يحافظوا على جميع أحكام الله في كل الشئون، وأن
__________
(1) نشرت بمجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة العدد الرابع السنة الثامنة ربيع الأول عام 1396هـ ص 3 - 5.(4/385)
يمنعوا توظيف المرأة في غير محيطها النسوي، وأن يدعوا مجتمعات الرجال للرجال، وأن يمنعوا منعا باتا كل ما يفضي إلى الاختلاط بين الجنسين في التعليم والعمل وغيرهما، ولا فرق في هذا كله بين المرأة السعودية وغيرها، وحسبنا في هذا الباب قوله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (1) الآية وقوله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (2) الآية، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} (3) الآية، وقوله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (4) {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (5)
ففي هذه الآيات الكريمات وما جاء في معناها الأمر بالحجاب وغض النظر وإخفاء الزينة سدا لباب الفتنة وتحذيرا مما لا تحمد عقباه، فكيف يمكن تنفيذ هذه الأوامر مع وجود المرأة بين الرجال في المكاتب والمعارض وميادين الأعمال.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) سورة الأحزاب الآية 53
(3) سورة الأحزاب الآية 59
(4) سورة النور الآية 30
(5) سورة النور الآية 31(4/386)
وحسبنا أيضا في هذا المعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم أيضا في الحديث الصحيح: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (2) » ، فكيف تتقى هذه الفتنة مع توظيف النساء في ميدان الرجال.
ويكفينا عظة وعبرة ما وقع في غيرنا من الفساد الكبير والشر العظيم بسبب السماح بعمل الفتيات في ميدان الرجال، (والسعيد من وعظ بغيره) والعاقل الحكيم هو الذي ينظر في العواقب ويحسم وسائل الفساد ويسد الذرائع المفضية إليه.
ومما ذكرناه من الأدلة يتضح لذوي البصائر ورواد الفضيلة والغيورين على الإسلام أن الواجب على حكام هذه البلاد والمسئولين فيها وفقهم الله جميعا أن يمنعوا منعا باتا فتح دور السينما مطلقا؛ لما يترتب على السماح بذلك من الفساد العظيم والعواقب الوخيمة، والرقابة في مثل هذه الأمور لا يحصل بها المقصود، ومعلوم أن الوقاية مقدمة على العلاج، وأن الواجب سد الذرائع وحسم مواد الفساد، وفي واقع غيرنا عبرة لنا كما سلف، كما يجب تطهير الإذاعة والتلفاز من جميع ما يخالف الشرع المطهر ويفضي إلى فساد الأخلاق والأسر.
ويتضح أيضا أن الواجب على المسئولين منع توظيف النساء في غير محيطهن سواء كن سعوديات أو غيرهن، وفي ذوي الكفاية من الرجال ما يغني عن توظيف النساء في ميادين الرجال، وليس هناك ما يدعو إلى توظيفهن في ميدان أعمال الرجال إلا التأسي بمن نهينا عن التأسي بهم من أعداء الله عز وجل، أو قصد إفساد هذا المجتمع الذي يجب أن يحافظ عليه وأن يحمى من أسباب الفساد، ويجب على حملة الأقلام من ذوي الغيرة الإسلامية وعلى أعيان الشعب أن يتكاتفوا مع الحكومة والمسئولين في كل ما يحمي بلادهم ومجتمعهم من وسائل الشر والفساد؛ لقول الله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (3)
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) ، سنن الترمذي الفتن (2191) ، سنن ابن ماجه الفتن (4000) ، مسند أحمد بن حنبل (3/61) .
(2) صحيح البخاري النكاح (5096) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2741) ، سنن الترمذي الأدب (2780) ، سنن ابن ماجه الفتن (3998) ، مسند أحمد بن حنبل (5/210) .
(3) سورة آل عمران الآية 103(4/387)
وقوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) وقوله عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4)
والله المسئول أن يوفق حكومتنا وسائر المسئولين فيها لكل ما فيه رضاه وصلاح عباده، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يمنحهم الفقه في دينه وأن يوفق علماءهم وكتابهم للتمسك بدينه والغيرة له والحفاظ عليه والدعوة إليه على بصيرة، وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن ونزغات الشيطان إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(4/388)
العلاج الشرعي
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ... سلمه الله. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 2610 وتاريخ 4 \ 7 \ 1407 هـ الذي تذكر فيه ما أصاب والدتك من النسيان بعد إجرائها لعملية المرارة، وطلبك أن ندلك على علاج شرعي لما أصابها.
وأفيدك بأن ما حصل على والدتك إنما هو بقضاء الله وقدره، وعلى المسلم أن يصبر ويحتسب ما عند الله من الأجر عملا بقول الله سبحانه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (1) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (2) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (3) وقوله سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط (5) » حسنه الترمذي.
ونوصيك بأن تقرأ عليها بفاتحة الكتاب وآية الكرسي و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (6) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (7) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (8) وغير ذلك من آيات القرآن العزيز، وتكرر ذلك في كل صباح ومساء لأن الله سبحانه أنزل كتابه شفاء من كل سوء، كما قال سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (9)
كما نوصيك مع ذلك بالدعاء الصحيح المشهور مثل: «اللهم رب الناس أذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما (10) » ،
__________
(1) سورة البقرة الآية 155
(2) سورة البقرة الآية 156
(3) سورة البقرة الآية 157
(4) سورة التغابن الآية 11
(5) سنن الترمذي الزهد (2396) .
(6) سورة الإخلاص الآية 1
(7) سورة الفلق الآية 1
(8) سورة الناس الآية 1
(9) سورة فصلت الآية 44
(10) صحيح البخاري الطب (5750) ، صحيح مسلم السلام (2191) ، سنن ابن ماجه الطب (3520) ، مسند أحمد بن حنبل (6/126) .(4/389)
و «باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك (1) » تكرر هذين الدعاءين ثلاث مرات وتدعو لها أيضا بما أحببت من الدعاء سوى ذلك، وكونه مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل.
كما نوصيك بعرضها على الأطباء المختصين ولا سيما الذين أجروا لها العملية لعلهم يجدون لها علاجا وفق الله الجميع لما فيه رضاه، وشفى والدتك مما أصابها، ومتع الجميع بالصحة والعافية إنه سميع مجيب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2186) ، سنن الترمذي الجنائز (972) ، سنن ابن ماجه الطب (3523) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) .(4/390)
الله سبحانه غني بذاته عمن سواه وهو الممسك للعرش والسماوات والأرض
رسالة موجزة في الموضوع:
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ... وفقه الله. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
إجابة عن سؤالك عن حملة العرش وعزرائيل
تسأل عن ما يأتي.
س: بعد أن يأخذ عزرائيل أرواح الخلق جميعا والملائكة أجمعين ويأخذ أرواح جبريل وإسرافيل وحملة العرش ... والمهم هو: بعد أخذ أرواح حملة العرش وهم الثمانية كيف يحمل العرش بعدهم؟ وبعد عزرائيل أن يقبض روحه بنفسه بأمر الله ماذا يحدث بعد ذلك؟
ج1: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين ومبلغا للثقلين وآله وصحبه، وبعد: فالله سبحانه هو الذي أقام العرش والسماوات والأرض وأمسك الجميع بقدرته العظيمة وليس هو سبحانه في حاجة إلى حملة العرش ولا غيرهم كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} (1) الآية. وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} (2) الآية.
أما عزرائيل فالله يميته بقدرته العظيمة كما يشاء كما يميت غيره، والموت ليس هو عزرائيل بل هو شيء آخر، وإنما عزرائيل ملك موكل بالموت كما قال سبحانه: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (3) الآية، فإذا أراد الله إماتة الوكيل فهو سبحانه على كل شيء قدير يدبر الأمور كما يشاء.
وفق الله الجميع لما يرضيه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة فاطر الآية 41
(2) سورة الروم الآية 25
(3) سورة السجدة الآية 11(4/391)
ظاهرة السائقين والخدم (1)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا وإمامنا وسيدنا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين أما بعد:
فقد شكى إلي الكثير من الناس ظاهرة كثرة السائقين والخدم، وأن البعض يستخدمهم من غير ضرورة ملحة أو حاجة ماسة، والبعض منهم على غير دين الإسلام ويحصل منهم فساد كبير على عقيدة المسلمين وأخلاقهم وأمنهم إلا من شاء الله منهم، ورغب إلي البعض أن أكتب في هذا الشأن نصيحة للمسلمين تتضمن تحذيرهم من التمادي والتساهل في هذا الأمر.
فأقول مستعينا بالله: لا شك أن كثرة الخدم والسائقين والعمال بين المسلمين وفي بيوتهم وبين أسرهم وأولادهم له نتائج خطيرة وعواقب وخيمة لا تخفى على عاقل، وأنا لا أحصي من يتذمر ويتضجر منهم وما يحصل من بعضهم من المخالفات لقيم هذه البلاد وأخلاقها الإسلامية، وقد تمادى الناس وتساهلوا في جلبهم من الخارج وتمكينهم من بعض الأعمال، وأخطرها الخلوة بالنساء والسفر بهن إلى مكان بعيد أو قريب ودخولهم البيوت واختلاطهم بالنساء، هذا بالنسبة إلى السائقين والخدم، أما الخادمات فلا يقل خطرهن عن أولئك بسبب اختلاطهن بالرجال وعدم التزامهن بالحجاب والتستر وخلوتهن بالرجل داخل البيوت، وربما تكون شابة وجميلة، وقد تكون غير عفيفة؛ لما اعتادته في بلادها من الحرية المطلقة والسفور ودخول أماكن العهر والدعارة وما ألفته من عشق الصور ومشاهدة الأفلام الخليعة، يضاف إلى ذلك ما يتصف به بعضهن من الأفكار المنحرفة والمذاهب الضالة والأزياء المخالفة لتعاليم الإسلام، ومن المعلوم أن هذه الجزيرة لا يجوز أن يقيم بها
__________
(1) مجلة الدعوة العدد 1137 في 24 \ 8 \ 1408هـ.(4/392)
غير المسلمين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بإخراج الكفار من الجزيرة، فلا يدخلوها إلا لحاجة عارضة، فلا يجوز استقدامهم ولا السماح لهم بذلك، فالحاصل أن الجزيرة العربية لا يجوز أن يقر فيها دينان؛ لأنها معقل الإسلام ومنبعه ومهبط الوحي، فلا يجوز أن يقر فيها المشركون إلا بصفة مؤقتة لحاجة يراها ولي الأمر كالبرد وهم الرسل الذين يقدمون من دول كافرة لمهمات، وكباعة الميرة ونحوها ممن يجلب إلى بلاد المسلمين ما يحتاجون إليه ويقيم أياما لذلك ثم يرجع إلى بلاده حسب التعليمات التي يضعها ولي الأمر.
فوجود غير المسلمين في هذه الجزيرة العربية فيه خطر عظيم على المسلمين في عقائدهم وأخلاقهم ومحارمهم وقد يفضي إلى موالاة الكفار ومحبتهم والتزيي بزيهم، ومن اضطر إلى خادم أو سائق أو خادمة فالواجب أن يتحرى الأفضل فالأفضل من المسلمين لا من الكفار، وأن يجتهد في اختيار من كان أقرب إلى الخير وأبعد عن مظاهر الفسق والفساد، ولأن بعض المسلمين يدعي الإسلام وهو غير ملتزم بأحكامه فيحصل به ضرر عظيم وفساد كبير، فنسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين ويحفظ عليهم دينهم وأخلاقهم وأن يغنيهم بما أحل لهم عن ما حرم عليهم، وأن يوفق ولاة الأمر لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد والقضاء على أسباب الشر والفساد، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(4/393)
حكم القيام للقادم (1)
س: دخل رجل وأنا في مجلس فقام له الحاضرون، ولكني لم أقم، فهل يلزمني القيام، وهل على القائمين إثم؟ .
ج: لا يلزم القيام للقادم، وإنما هو من مكارم الأخلاق، من قام إليه ليصافحه ويأخذ بيده، ولا سيما صاحب البيت والأعيان، فهذا من مكارم الأخلاق، وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة، وقامت له رضي الله عنها، وقام الصحابة رضي الله عنهم بأمره لسعد بن معاذ رضي الله عنه لما قدم ليحكم في بني قريظة، وقام طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه من بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء كعب بن مالك رضي الله عنه حين تاب الله عليه فصافحه وهنأه ثم جلس، وهذا من باب مكارم الأخلاق والأمر فيه واسع، وإنما المنكر أن يقوم واقفا للتعظيم، أما كونه يقوم ليقابل الضيف لإكرامه أو مصافحته أو تحيته فهذا أمر مشروع، وأما كونه يقف والناس جلوس للتعظيم، أو يقف عند الدخول من دون مقابلة أو مصافحة، فهذا ما لا ينبغي، وأشد من ذلك الوقوف تعظيما له وهو قاعد لا من أجل الحراسة بل من أجل التعظيم فقط.
والقيام ثلاثة أقسام كما قال العلماء:
القسم الأول: أن يقوم عليه وهو جالس للتعظيم، كما تعظم العجم ملوكها وعظماءها، كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يجوز، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلسوا لما صلى بهم قاعدا، أمرهم أن يجلسوا ويصلوا معه قعودا، ولما قاموا قال: «كدتم أن تعظموني كما تعظم الأعاجم رؤساءها» .
القسم الثاني: أن يقوم لغيره واقفا لدخوله أو خروجه من دون مقابلة ولا مصافحة، بل لمجرد التعظيم، فهذا أقل أحواله أنه مكروه، وكان
__________
(1) نشرت بالمجلة العربية في باب: '' فاسألوا أهل الذكر ''(4/394)
الصحابة رضي الله عنهم لا يقومون للنبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليهم، لما يعلمون من كراهيته لذلك عليه الصلاة والسلام.
القسم الثالث: أن يقوم مقابلا للقادم ليصافحه أو يأخذ بيده ليضعه في مكان أو ليجلسه في مكانه، أو ما أشبه ذلك، فهذا لا بأس به، بل هو من السنة كما تقدم.(4/395)
الإجابة عن سؤال عن الأوراد والأدعية المتنوعة في مجالس الذكر وبعد الصلوات (1)
__________
(1) نشرت بمجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة العدد الثالث السنة السادسة محرم 1394هـ(4/395)
سؤال من الأخ: ع. م. ح من اليمن يقول فيه:
يوجد في بلادنا أناس متمسكون بأوراد ما أنزل الله بها من سلطان، منها ما هو بدعي ومنها ما هو شركي وينسبون ذلك إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، ويقرءون تلك الأوراد في مجالس الذكر أو في المساجد بعد صلاة المغرب زاعمين أنها قربة إلى الله، كقولهم: بحق الله رجال الله أعينونا بعون الله وكونوا عوننا بالله، وكقولهم: يا أقطاب ويا أوتاد ويا أسياد أجيبوا يا ذوي الأمداد فينا واشفعوا لله هذا عبدكم واقف وعلى بابكم عاكف، ومن تقصيره خائف، أغثنا يا رسول الله وما لي غيركم مذهب ومنكم يحصل المطلب وأنتم خير أهل الله بحمزة سيد الشهداء ومن منكم لنا مددا، أغثنا يا رسول الله، وكقولهم: اللهم صل على من جعلته سببا لانشقاق أسرارك الجبروتية وانفلاقا لأنوارك الرحمانية فصار نائبا عن الحضرة الربانية وخليفة أسرارك الذاتية. .
نرجو بيان ما هو بدعة وما هو شرك وهل تصح الصلاة خلف الإمام الذي يدعو بهذا الدعاء. .
والجواب: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاعلم وفقك الله أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق وأرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام ليعبد وحده لا شريك له دون ما سواه كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1)
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56(4/396)
والعبادة هي طاعته سبحانه وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بفعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى الله عنه ورسوله، عن إيمان بالله ورسوله وإخلاص لله في الفعل كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) أي أمر وأوصى بأن يعبد وحده، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (3) {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (4) {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (5) أبان سبحانه بهذه الآيات أنه هو المستحق لأن يعبد وحده ويستعان به وحده، وقال عز وجل: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (6) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (7) وقال سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (8) وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (9) والآيات في هذا المعنى كثيرة، وكلها تدل على وجوب إفراد الله بالعبادة، ومعلوم أن الدعاء بأنواعه من العبادة، فلا يجوز لأحد من الناس أن يدعو إلا ربه ولا يستعين ولا يستغيث إلا به عملا بهذه الآيات الكريمات وما جاء في معناها، وهذا فيما عدا الأمور العادية والأسباب الحسية التي يقدر عليها المخلوق الحي الحاضر، فإن تلك ليست من العبادة، بل يجوز بالنص والإجماع أن يستعين الإنسان بالإنسان الحي القادر في الأمور العادية التي يقدر عليها. كأن يستعين به أو يستغيث به في دفع شر ولده أو خادمه أو كلبه وما أشبه ذلك، وكأن يستعين الإنسان بالإنسان الحي الحاضر القادر أو الغائب بواسطة الأسباب الحسية كالمكاتبة ونحوها في بناء بيته أو إصلاح سيارته أو ما أشبه ذلك.
ومن هذا الباب قول الله عز وجل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (10)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة الفاتحة الآية 2
(3) سورة الفاتحة الآية 3
(4) سورة الفاتحة الآية 4
(5) سورة الفاتحة الآية 5
(6) سورة الزمر الآية 2
(7) سورة الزمر الآية 3
(8) سورة غافر الآية 14
(9) سورة الجن الآية 18
(10) سورة القصص الآية 15(4/397)
ومن ذلك استغاثة الإنسان بأصحابه في الجهاد والحرب ونحو ذلك، فأما الاستغاثة بالأموات والجن والملائكة والأشجار والأحجار فذلك من الشرك الأكبر وهو من جنس عمل المشركين الأولين مع آلهتهم كالعزى واللات وغيرهما، وهكذا الاستغاثة والاستعانة بمن يعتقد فيهم الولاية من الأحياء فيما لا يقدر عليه إلا الله كشفاء المرضى وهداية القلوب ودخول الجنة والنجاة من النار وأشباه ذلك.
والآيات السابقات وما جاء في معناها من الآيات والأحاديث كلها. تدل على وجوب توجيه القلوب إلى الله في جميع الأمور وإخلاص العبادة لله وحده؛ لأن العباد خلقوا لذلك وبه أمروا كما سبق في الآيات وكما في قوله سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (1) وقوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2) الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (3) » متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار (4) » رواه البخاري، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: «إنك، تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله (5) » وفي لفظ: «فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله (6) » وفي رواية للبخاري: «فادعهم إلى أن يوحدوا الله (7) » وفي صحيح مسلم عن طارق بن أشيم الأشجعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل (8) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهذا التوحيد هو أصل دين الإسلام وهو أساس الملة وهو رأس الأمر، وهو أهم الفرائض وهو الحكمة في خلق الثقلين والحكمة في إرسال الرسل جميعا
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) سورة البينة الآية 5
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2856) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد بن حنبل (5/238) .
(4) صحيح البخاري تفسير القرآن (4497) ، مسند أحمد بن حنبل (1/374) .
(5) صحيح البخاري الزكاة (1395) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(6) صحيح البخاري الزكاة (1496) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(7) صحيح البخاري التوحيد (7372) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(8) صحيح مسلم الإيمان (23) ، مسند أحمد بن حنبل (6/394) .(4/398)
عليهم الصلاة والسلام كما تقدمت الآيات الدالة على ذلك، ومنها قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1)
ومن الأدلة على ذلك أيضا قوله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) وقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (3) وقال عز وجل عن نوح وهود وصالح وشعيب عليهم الصلاة والسلام أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (4) وهذه دعوة الرسل جميعا كما دلت على ذلك الآيتان السابقتان.
وقد اعترف أعداء الرسل بأن الرسل أمروهم بإفراد الله بالعبادة وخلع الآلهة المعبودة من دونه، كما قال عز وجل في قصة عاد أنهم قالوا لهود عليه الصلاة والسلام: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} (5) وقال سبحانه وتعالى عن قريش لما دعاهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى إفراد الله بالعبادة وترك ما يعبدون من دونه من الملائكة والأولياء والأصنام والأشجار وغير ذلك: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (6) وقال عنهم سبحانه في سورة الصافات: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (7) {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (8) والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة.
ومما ذكرناه من الآيات والأحاديث يتضح لك - وفقني الله وإياك للفقه في الدين والبصيرة بحق رب العالمين -:
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة النحل الآية 36
(3) سورة الأنبياء الآية 25
(4) سورة الأعراف الآية 59
(5) سورة الأعراف الآية 70
(6) سورة ص الآية 5
(7) سورة الصافات الآية 35
(8) سورة الصافات الآية 36(4/399)
أن هذه الأدعية وأنواع الاستغاثة التي بينتها في سؤالك كلها من أنواع الشرك الأكبر؛ لأنها عبادة لغير الله وطلب لأمور لا يقدر عليها سواه من الأموات والغائبين، وذلك أقبح من شرك الأولين؛ لأن الأولين إنما يشركون في حال الرخاء، وأما في حال الشدائد فيخلصون لله العبادة؛ لأنهم يعلمون أنه سبحانه هو القادر على تخليصهم من الشدة دون غيره، كما قال تعالى في كتابه المبين عن أولئك المشركين: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (1) وقال سبحانه وتعالى يخاطبهم في آية أخرى في سورة (سبحان) : {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} (2)
فإن قال قائل من هؤلاء المشركين المتأخرين: إنا لا نقصد أن أولئك ينفعون بأنفسهم ويشفون مرضانا أو يعينونا بأنفسهم أو يضرون عدوا بأنفسهم وإنما نقصد شفاعتهم إلى الله في ذلك.
فالجواب أن يقال لهم: إن هذا هو مقصد الكفار الأولين ومرادهم، وليس مرادهم أن آلهتهم تخلق أو ترزق أو تنفع أو تضر بنفسها فإن ذلك يبطله ما ذكره الله عنه في القرآن، وإنما أرادوا شفاعتهم وجاههم وتقريبهم إلى الله زلفى، كما قال سبحانه وتعالى في سورة يونس عليه الصلاة والسلام: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (3) فرد الله عليهم ذلك بقوله سبحانه: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (4) فأبان سبحانه أنه لا يعلم في
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 65
(2) سورة الإسراء الآية 67
(3) سورة يونس الآية 18
(4) سورة يونس الآية 18(4/400)
السماوات ولا في الأرض شفيعا عنده على الوجه الذي يقصده المشركون، وما لا يعلم الله وجوده لا وجود له؛ لأنه سبحانه لا يخفى عليه شيء، وقال تعالى في سورة الزمر: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (1) {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (2) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (3) فأبان سبحانه أن العبادة له وحده وأنه يجب على العباد إخلاصها له جل وعلا؛ لأن أمره للنبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص العبادة له أمر للجميع، ومعنى الدين هنا هو العبادة، والعبادة هي طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم كما سلف ويدخل فيها الدعاء والاستغاثة والخوف والرجاء والذبح والنذر، كما يدخل فيها الصلاة والصوم وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله، ثم قال عز وجل بعد ذلك: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (4) أي يقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (5) فرد الله عليهم بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (6) فأوضح سبحانه في هذه الآية الكريمة أن الكفار ما عبدوا الأولياء من دونه إلا ليقربوهم إلى الله زلفى، وهذا هو مقصد الكفار قديما وحديثا، وقد أبطل الله ذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (7) فأوضح سبحانه كذبهم في زعمهم أن آلهتهم تقربهم إلى الله زلفى وكفرهم بما صرفوا لها من العبادة، وبذلك يعلم كل من له أدنى تمييز أن الكفار الأولين إنما كان كفرهم باتخاذهم الأنبياء والأولياء والأشجار والأحجار وغير ذلك من المخلوقات شفعاء بينهم وبين الله، واعتقدوا أنهم يقضون حوائجهم من دون إذنه سبحانه ولا رضاه كما تشفع الوزراء عند الملوك، فقاسوه عز وجل على الملوك والزعماء، وقالوا كما أنه من له حاجة إلى الملك والزعيم يتشفع إليه بخواصه
__________
(1) سورة الزمر الآية 1
(2) سورة الزمر الآية 2
(3) سورة الزمر الآية 3
(4) سورة الزمر الآية 3
(5) سورة الزمر الآية 3
(6) سورة الزمر الآية 3
(7) سورة الزمر الآية 3(4/401)
ووزرائه فهكذا نحن نتقرب إلى الله بعبادة أنبيائه وأوليائه، وهذا من أبطل الباطل؛ لأنه سبحانه لا شبيه له ولا يقاس بخلقه ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ولا يأذن في الشفاعة إلا لأهل التوحيد، وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير وبكل شيء عليم وهو أرحم الراحمين لا يخشى أحدا ولا يخافه؛ لأنه سبحانه هو القاهر فوق عباده والمتصرف فيهم كيف يشاء، بخلاف الملوك والزعماء فإنهم ما يقدرون على كل شيء ولا يعلمون كل شيء، فلذلك يحتاجون إلى من يعينهم على ما قد يعجزون عنه من وزرائهم وخواصهم وجنودهم، كما يحتاجون إلى تبليغهم حاجات من لا يعلمون حاجته، ولأن الملوك والزعماء قد يظلمون ويغضبون بغير حق فيحتاجون إلى من يستعطفهم ويسترضيهم من وزرائهم وخواصهم، أما الرب عز وجل فهو سبحانه غني عن جميع خلقه وهو أرحم بهم من أمهاتهم وهو الحكم العدل يضع الأشياء في مواضعها على مقتضى حكمته وعلمه وقدرته، فلا يجوز أن يقاس بخلقه بوجه من الوجوه، ولهذا أوضح سبحانه في كتابه أن المشركين قد أقروا بأنه الخالق الرازق المدبر، وأنه هو الذي يجيب المضطر ويكشف السوء ويحيي ويميت إلى غير ذلك من أفعاله سبحانه، وإنما الخصومة بين المشركين وبين الرسل في إخلاص العبادة لله وحده كما قال عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (1) وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة وسبق ذكر الآيات الدالة على أن النزاع بين الرسل وبين الأمم إنما هو في إخلاص العبادة لله وحده كقوله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) الآية، وما جاء في معناها من الآيات.
__________
(1) سورة الزخرف الآية 87
(2) سورة يونس الآية 31
(3) سورة النحل الآية 36(4/402)
وبين سبحانه في مواضع كثيرة من كتابه الكريم شأن الشفاعة فقال تعالى في سورة البقرة: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (1) وقال في سورة النجم: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (2) وقال في سورة الأنبياء في وصف الملائكة: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (3) وأخبر عز وجل أنه لا يرضى من عباده الكفر وإنما يرضى منهم الشكر، والشكر هو توحيده والعمل بطاعته فقال تعالى في سورة الزمر: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} (4) الآية، وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: " من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه " أو قال: " من نفسه (5) » وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا (6) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وجميع ما ذكرنا في الآيات والأحاديث كلها تدل على أن العبادة حق الله وحده وأنه لا يجوز صرف شيء منها لغير الله لا للأنبياء ولا لغيرهم، وأن الشفاعة ملك الله عز وجل كما قال سبحانه: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} (7) الآية.
ولا يستحقها أحد إلا بعد إذنه للشافع ورضاه عن المشفوع فيه وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد كما سبق، أما المشركون فلا حظ لهم في الشفاعة كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (8) وقال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (9) الآية.
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة النجم الآية 26
(3) سورة الأنبياء الآية 28
(4) سورة الزمر الآية 7
(5) صحيح البخاري العلم (99) ، مسند أحمد بن حنبل (2/373) .
(6) صحيح البخاري الدعوات (6304) ، صحيح مسلم الإيمان (199) ، سنن الترمذي الدعوات (3602) ، سنن ابن ماجه الزهد (4307) ، مسند أحمد بن حنبل (2/426) ، موطأ مالك كتاب النداء للصلاة (492) ، سنن الدارمي الرقاق (2805) .
(7) سورة الزمر الآية 44
(8) سورة المدثر الآية 48
(9) سورة غافر الآية 18(4/403)
والظلم عند الإطلاق هو الشرك كما قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (2)
أما ما ذكرته في السؤال من قول بعض الصوفية في المساجد وغيرها: (اللهم صل على من جعلته سببا لانشقاق أسرارك الجبروتية وانفلاقا لأنوارك الرحمانية فصار نائبا عن الحضرة الربانية وخليفة أسرارك الذاتية. .) إلخ.
فالجواب: أن يقال: إن هذا الكلام وأشباهه من جملة التكلف والتنطع الذي حذر منه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون (3) » قالها ثلاثا. قال الإمام الخطابي رحمه الله: المتنطع المتعمق في الشيء المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم.
وقال أبو السعادات بن الأثير: هم المتعمقون المغالون في الكلام المتكلمون بأقصى حلوقهم مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل تعمق قولا وفعلا.
وبما ذكره هذان الإمامان وغيرهما من أئمة اللغة يتضح لك ولكل من له أدنى بصيرة أن هذه الكيفية في الصلاة والسلام على نبينا وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من جملة التكلف والتنطع المنهي عنه، والمشروع للمسلم في هذا الباب أن يتحرى الكيفية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الصلاة والسلام عليه وفي ذلك غنية عن غيره، ومن ذلك ما روى البخاري ومسلم في الصحيحين - واللفظ للبخاري - عن كعب بن عجرة رضي الله عنه «أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا: يا رسول الله أمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نصلي
__________
(1) سورة البقرة الآية 254
(2) سورة لقمان الآية 13
(3) صحيح مسلم العلم (2670) ، سنن أبو داود السنة (4608) ، مسند أحمد بن حنبل (1/386) .(4/404)
عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد (1) » .
وفي الصحيحين عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه «أنهم قالوا: يا رسول الله: كيف نصلي عليك؟ قال: " قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد (2) » ، وفي صحيح مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال بشير بن سعد: «يا رسول الله أمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟ فسكت ثم قال: " قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما علمتم (3) » .
فهذه الألفاظ وأشباهها وغيرها مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هي التي ينبغي للمسلم أن يتعلمها ويستعملها في صلاته وسلامه على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعلم الناس بما يليق أن يستعمل في حقه، كما أنه هو أعلم الناس بما ينبغي أن يستعمل في حق ربه من الألفاظ، أما الألفاظ المتكلفة والمحدثة والألفاظ المحتملة لمعنى غير صحيح كالألفاظ التي ذكرت في السؤال فإنه لا ينبغي استعمالها لما فيها من التكلف ولكونها قد تفسر بمعان باطلة مع كونها مخالفة للألفاظ التي اختارها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرشد إليها أمته وهو أعلم الخلق وأنصحهم وأبعدهم عن التكلف، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.
وأرجو أن يكون فيما ذكرناه من الأدلة في بيان حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك والفرق بين ما كان عليه المشركون الأولون والمشركون المتأخرون في
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (406) ، سنن النسائي السهو (1289) ، سنن أبو داود الصلاة (976) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (904) ، مسند أحمد بن حنبل (4/244) ، سنن الدارمي الصلاة (1342) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3369) ، صحيح مسلم الصلاة (407) ، سنن النسائي السهو (1294) ، سنن أبو داود الصلاة (979) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (905) ، مسند أحمد بن حنبل (5/424) ، موطأ مالك النداء للصلاة (397) .
(3) صحيح مسلم الصلاة (405) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3220) ، سنن النسائي السهو (1285) ، سنن أبو داود الصلاة (979) ، مسند أحمد بن حنبل (5/274) ، موطأ مالك النداء للصلاة (398) ، سنن الدارمي الصلاة (1343) .(4/405)
هذا الباب، وفي بيان كيفية الصلاة المشروعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاية ومقنع لطالب الحق، أما من لا رغبة له في معرفة الحق فهذا تابع لهواه وقد قال الله عز وجل: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1)
فبين سبحانه في هذه الآية الكريمة أن الناس بالنسبة إلى ما بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق قسمان: أحدهما: مستجيب لله ولرسوله، والثاني: تابع لهواه، وأخبر سبحانه أنه لا أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله. فنسأل الله عز وجل العافية من اتباع الهوى، كما نسأله سبحانه أن يجعلنا وإياكم وسائر إخواننا من المستجيبين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والمعظمين لشرعه والمحذرين من كل ما يخالف شرعه من البدع والأهواء إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
__________
(1) سورة القصص الآية 50(4/406)
وصية بمناسبة تعيين الدكتور يوسف الهاجري وزيرا
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم معالي وزير الصحة الدكتور يوسف الهاجري وفقه الله لكل خير آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعده:
لقد علمت نبأ تعيينكم وزيرا للصحة فسألت الله لكم التوفيق والسداد والإعانة على القيام بأعباء ما أسند إليكم على الوجه الذي يرضيه وينفع عباده إنه مجيب الدعاء، ولا يحسن بي أن أهنئكم بهذه الوظيفة لما لا يخفى عليكم من أن المسئولية عظيمة والخطر كبير، ولكن يحسن بي أن أهنئكم بها من جهة أخرى وهي ثقة المسئولين بكم وحسن ظنهم بمعاليكم وأسأل الله عز وجل أن يجعلكم في الخير فوق ظنهم وأن يحقق على أيديكم ما يرجوه المسلمون من خير وصلاح وتقدم ونجاح.
وبهذه المناسبة فإني أوصيكم بأمر عظيم وهو تقوى الله سبحانه في كل أموركم، فبالتقوى يحصل كل خير ويندفع كل شر، وبالتقوى تصلح أمور الدنيا والآخرة ويستحق العبد العون من الله والتسديد والمزيد من كل خير، وبالتقوى تفرج الكروب وتيسر الأمور وتحسن العاقبة كما قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (2) وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (3) وقال سبحانه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (4) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (5) وقال جل وعلا: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (6) والآيات في هذا المعنى
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 3
(3) سورة الطلاق الآية 4
(4) سورة البقرة الآية 197
(5) سورة الأنفال الآية 29
(6) سورة القلم الآية 34(4/407)
كثيرة، وسمى الله دينه تقوى؛ لأنه سبحانه يقي من استقام على دينه شر الدنيا والآخرة ويمنحه السعادة في الدارين إذا استقام وصبر.
وحقيقة التقوى هي الإخلاص لله في كل الأمور وتعظيمه ومراقبته والرهبة منه والرجاء لما عنده والاستقامة على طاعته وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام في جميع الأحوال، ومن التقوى الشعور بالمسئولية وأخذ العمل بقوة ونشاط وحزم وصبر والحذر من الكسل والملل والتبرم بكثرة العمل، ومن التقوى الضراعة إلى الله سبحانه دائما والاستعانة به في كل شيء وإشعار القلب بأنه لا حول ولا قوة للعبد إلا بالله سبحانه، كما في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي موسى: «ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله قال: " لا حول ولا قوة إلا بالله (1) » ومن التقوى غض النظر عن زينة الحياة الدنيا والمنافسة فيها والرغبة في الآخرة وإيثارها، وفي وصية عمر رضي الله عنه لأبي عبيدة لما ولاه الإمرة على الجيش في الشام أن قال له: (أوصيك بتقوى الله الذي يبقى، ويفنى ما سواه، الذي هدانا من الضلالة وأخرجنا من الظلمات إلى النور فغض بصرك عن الدنيا وأله قلبك عنها، وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك فقد رأيت مصارعهم) ، ومن التقوى النصح للمسلمين في جميع الأحوال والأعمال والاستعانة بأهل الدين والأمانة والقوة حسب الإمكان والحذر من تولية المعروفين بالشر والخيانة ورقة الدين والمتهمين بذلك، حسب الطاقة، ومن يتق الله يسدد خطاه ويسهل أمره كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (2) ومن التقوى إلزام من تحت يدك بالحق وتشجيعهم عليه وترغيبهم فيه وبيان حسن عاقبته وتحذيرهم من خلاف ذلك حسب القدرة، وأن تكون في نفسك مثالا عاليا وقدوة حسنة في الأمانة والقوة
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4205) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2704) ، سنن الترمذي الدعوات (3374) ، سنن أبو داود الصلاة (1526) ، سنن ابن ماجه الأدب (3824) ، مسند أحمد بن حنبل (4/407) .
(2) سورة الطلاق الآية 4(4/408)
والصدق في العمل وسائر الأخلاق الفاضلة حتى يتأسى بك من دونك ومن فوقك ومن يشاكلك، واذكر قوله تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1) وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (2)
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يمنحك التوفيق والسداد، وأن يصلح لك البطانة، وأن يعينك على أداء ما أوجب عليك وأسند إليك على الوجه الذي يرضيه وينفع عباده إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
__________
(1) سورة الأنفال الآية 46
(2) سورة العنكبوت الآية 69(4/409)
حكم من قتل في سبيل مكافحة المخدرات فهو شهيد، ومن أعان
على فضح أوكارها فهو مأجور (1)
القارئ علي عبد الله جمعان من المنطقة الشرقية بعث إلينا سؤالا يقول فيه: لا شك أن إدارة مكافحة المخدرات تسعى جاهدة لسد المنافذ التي من طريقها تتسلل تلك السموم من المخدرات إلى هذا البلد الطاهر. وقد نشط مروجو هذه السموم ولكن بعون الله ثم بقوة وعزيمة رجال مكافحة المخدرات أصيبت جهود أولئك المروجين بالشلل.
وسؤالي يا سماحة الشيخ هو: هل يعتبر شهيدا من قتل من رجال مكافحة المخدرات عند مداهمة أوكار متعاطي المخدرات ومروجيها؟ ثم ما حكم من يدلي بمعلومات تساعد رجال المكافحة للوصول إلى تلك الأوكار؟ أفتونا مأجورين.
الجواب: لا ريب أن مكافحة المسكرات والمخدرات من أعظم الجهاد في سبيل الله، ومن أهم الواجبات التعاون بين أفراد المجتمع في مكافحة ذلك؛ لأن مكافحتها في مصلحة الجميع؛ ولأن فشوها ورواجها مضرة على الجميع، ومن قتل في سبيل مكافحة هذا الشر وهو حسن النية فهو من الشهداء، ومن أعان على فضح هذه الأوكار وبيانها للمسئولين فهو مأجور، وبذلك يعتبر مجاهدا في سبيل الحق وفي مصلحة المسلمين وحماية مجتمعهم مما يضر بهم، فنسأل الله أن يهدي أولئك المروجين لهذا البلاء وأن يردهم إلى رشدهم وأن يعيذهم من شرور أنفسهم ومكائد عدوهم الشيطان، وأن يوفق المكافحين لهم لإصابة الحق وأن يعينهم على أداء واجبهم ويسدد خطاهم وينصرهم على حزب الشيطان إنه خير مسئول.
__________
(1) مجلة الدعوة العدد 1061 في 10 \ 2 \ 1407 هـ.(4/410)
حكم الملاكمة ومصارعة الثيران والمصارعة الحرة (1)
س: سائل من مصر يسأل عن حكم الإسلام في الملاكمة ومصارعة الثيران والمصارعة الحرة؟ .
ج: الملاكمة ومصارعة الثيران من المحرمات المنكرة لما في الملاكمة من الأضرار الكثيرة والخطر العظيم، ولما في مصارعة الثيران من تعذيب للحيوان بغير حق، أما المصارعة الحرة التي ليس فيها خطر ولا أذى ولا كشف للعورات فلا حرج فيها؛ لحديث مصارعة «النبي صلى الله عليه وسلم ليزيد بن ركانة فصرعه عليه الصلاة والسلام (2) » ؛ ولأن الأصل في مثل هذا الإباحة إلا ما حرمه الشرع المطهر، وقد صدر من المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي قرار بتحريم الملاكمة ومصارعة الثيران لما ذكرنا آنفا وهذا نصه:
القرار الثالث
بشأن موضوع (الملاكمة والمصارعة الحرة ومصارعة الثيران) (3)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 24 صفر 1408 هـ الموافق 17 أكتوبر 1987 م إلى يوم الأربعاء 28 صفر 1408 هـ الموافق 21 أكتوبر 1987 م
__________
(1) نشر بالمجلة العربية في باب '' فاسألوا أهل الذكر ''.
(2) سنن أبو داود اللباس (4078) .
(3) الدورة العاشرة المنعقدة في مكة المكرمة يوم السبت 24 صفر سنة 1408 هـ الموافق 17 أكتوبر سنة 1987م. .(4/411)
قد نظر في موضوع الملاكمة والمصارعة الحرة من حيث عدهما رياضة بدنية جائزة، وكذا في مصارعة الثيران المعتادة في بعض البلاد الأجنبية، هل تجوز في حكم الإسلام أو لا تجوز. وبعد المداولة في هذا الشأن من مختلف جوانبه والنتائج التي تسفر عنها هذه الأنواع التي نسبت إلى الرياضة وأصبحت تعرضها برامج البث التلفازي في البلاد الإسلامية وغيرها. وبعد الاطلاع على الدراسات التي قدمت في هذا الشأن بتكليف من مجلس المجمع في دورته السابقة من قبل الأطباء ذوي الاختصاص، وبعد الاطلاع على الإحصائيات التي قدمها بعضهم عما حدث فعلا في العالم نتيجة لممارسة الملاكمة وما يشاهد في التلفزة من بعض مآسي المصارعة الحرة، قرر مجلس المجمع ما يلي:
أولا: الملاكمة:
يرى مجلس المجمع بالإجماع أن الملاكمة المذكورة التي أصبحت تمارس فعلا في حلبات الرياضة والمسابقة في بلادنا اليوم هي ممارسة محرمة في الشريعة الإسلامية لأنها تقوم على أساس استباحة إيذاء كل من المتغالبين للآخر إيذاء بالغا في جسمه قد يصل به إلى العمى أو التلف الحاد أو المزمن في المخ أو إلى الكسور البليغة، أو إلى الموت، دون مسئولية على الضارب، مع فرح الجمهور المؤيد للمنتصر، والابتهاج بما حصل للآخر من الأذى، وهو عمل محرم مرفوض كليا وجزئيا في حكم الإسلام لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (2) وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار (3) » . على ذلك فقد نص فقهاء الشريعة على أن من أباح دمه لآخر فقال له: (اقتلني) أنه لا يجوز له قتله، ولو فعل كان مسئولا ومستحقا للعقاب.
__________
(1) سورة البقرة الآية 195
(2) سورة النساء الآية 29
(3) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .(4/412)
وبناء على ذلك يقرر المجمع أن هذه الملاكمة لا يجوز أن تسمى رياضة بدنية ولا تجوز ممارستها لأن مفهوم الرياضة يقوم على أساس التمرين دون إيذاء أو ضرر، ويجب أن تحذف من برامج الرياضة المحلية ومن المشاركات فيها في المباريات العالمية، كما يقرر المجلس عدم جواز عرضها في البرامج التلفازية كي لا تتعلم الناشئة هذا العمل السيئ وتحاول تقليده.
المصارعة الحرة:
وأما المصارعة الحرة التي يستبيح فيها كل من المتصارعين إيذاء الآخر والإضرار به، فإن المجلس يرى فيها عملا مشابها تمام المشابهة للملاكمة المذكورة وإن اختلفت الصورة؛ لأن جميع المحاذير الشرعية التي أشير إليها في الملاكمة موجودة في المصارعة الحرة التي تجرى على طريقة المبارزة وتأخذ حكمها في التحريم. وأما الأنواع الأخرى من المصارعة التي تمارس لمحض الرياضة البدنية ولا يستباح فيها الإيذاء فإنها جائزة شرعا ولا يرى المجلس مانعا منها.
ثالثا: مصارعة الثيران:
وأما مصارعة الثيران المعتادة في بعض بلاد العالم، والتي تؤدي إلى قتل الثور ببراعة استخدام الإنسان المدرب للسلاح فهي أيضا محرمة شرعا في حكم الإسلام؛ لأنها تؤدي إلى قتل الحيوان تعذيبا بما يغرس في جسمه من سهام، وكثيرا ما تؤدي هذه المصارعة إلى أن يقتل الثور مصارعه وهذه المصارعة عمل وحشي يأباه الشرع الإسلامي الذي يقول رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض (1) » . فإذا كان هذا الحبس للهرة يوجب دخول النار يوم القيامة فكيف بحال من يعذب الثور بالسلاح حتى الموت؟
__________
(1) صحيح البخاري المساقاة (2365) ، صحيح مسلم السلام (2242) ، سنن الدارمي الرقاق (2814) .(4/413)
رابعا: التحريش بين الحيوانات:
ويقرر المجمع أيضا تحريم ما يقع في بعض البلاد من التحريش بين الحيوانات كالجمال والكباش، والديكة، وغيرها، حتى يقتل أو يؤذي بعضها بعضا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.
وقد حضر مناقشة هذا الموضوع سعادة الدكتور نجم عبد الله عبد الواحد من الكويت.
[توقيع] ... . ... [توقيع]
(نائب الرئيس) ... . ... (رئيس مجلس المجمع)
د. عبد الله عمر نصيف ... . ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
محمد بن جبير ... د. بكر عبد الله أبو زيد ... عبد الله العبد الرحمن البسام
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان ... محمد بن عبد الله بن سبيل ... مصطفى أحمد الزرقاء
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
محمد محمود الصواف ... أبو الحسن علي الحسني الندوي ... محمد رشيد راغب قباني
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
محمد الشاذلي النيفر ... أبو بكر جومي ... د. أحمد فهمي أبو سنة
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
محمد الحبيب بن الخوجة ... محمد سالم بن عبد الودود ... د. طلال عمر بافقيه
. .
(مقرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي)
وقد تخلف عن الحضور في هذه الدورة كل من: فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي، وفضيلة الشيخ صالح بن عثيمين، وفضيلة الشيخ عبد القدوس الهاشمي، ومعالي اللواء الركن محمود شيت خطاب، وفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف، وفضيلة الشيخ مبروك مسعود العوادي.(4/414)
الرد على من يعتبر الأحكام الشرعية غير
متناسبة مع العصر الحاضر (1)
السؤال: رجل يقول: إن بعض الأحكام الشرعية تحتاج إلى إعادة نظر وأنها بحاجة إلى تعديل لكونها لا تناسب تطور هذا العصر، مثال ذلك في الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين. فما حكم الشرع في مثل من يقول هذا الكلام؟ .
الجواب: الأحكام التي شرعها الله لعباده وبينها في كتابه الكريم أو على لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم كأحكام المواريث والصلوات الخمس والزكاة والصيام ونحو ذلك مما أوضحه الله لعباده وأجمعت عليه الأمة ليس لأحد الاعتراض عليها ولا تغييرها؛ لأنه تشريع محكم للأمة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى قيام الساعة، ومن ذلك تفضيل الذكر على الأنثى من الأولاد وأولاد البنين والإخوة للأبوين وللأب؛ لأن الله سبحانه قد أوضحه في كتابه الكريم وأجمع عليه علماء المسلمين، فالواجب العمل بذلك عن اعتقاد وإيمان، ومن زعم أن الأصلح خلافه فهو كافر، وهكذا من أجاز مخالفته يعتبر كافرا؛ لأنه معترض على الله سبحانه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى إجماع الأمة، وعلى ولي الأمر أن يستتيبه إن كان مسلما، فإن تاب وإلا وجب قتله كافرا مرتدا عن الإسلام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه (2) » رواه البخاري.
نسأل الله لنا ولجميع المسلمين العافية من مضلات الفتن ومن مخالفة الشرع المطهر.
__________
(1) مجلة الدعوة العدد 1149 في 27 \ 11 \ 1408 هـ.
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (3017) ، سنن الترمذي الحدود (1458) ، سنن النسائي تحريم الدم (4060) ، سنن أبو داود الحدود (4351) ، سنن ابن ماجه الحدود (2535) ، مسند أحمد بن حنبل (1/282) .(4/415)
حكم من يحكم بغير ما أنزل الله (1)
السؤال: هل يعتبر الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله كفارا وإذا قلنا إنهم مسلمون فماذا نقول عن قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2) ؟ .
الجواب: الحكام بغير ما أنزل الله أقسام، تختلف أحكامهم بحسب اعتقادهم وأعمالهم، فمن حكم بغير ما أنزل الله يرى أن ذلك أحسن من شرع الله فهو كافر عند جميع المسلمين، وهكذا من يحكم القوانين الوضعية بدلا من شرع الله ويرى أن ذلك جائز، ولو قال: إن تحكيم الشريعة أفضل فهو كافر لكونه استحل ما حرم الله.
أما من حكم بغير ما أنزل الله اتباعا للهوى أو لرشوة أو لعداوة بينه وبين المحكوم عليه أو لأسباب أخرى وهو يعلم أنه عاص لله بذلك وأن الواجب عليه تحكيم شرع الله فهذا يعتبر من أهل المعاصي والكبائر ويعتبر قد أتى كفرا أصغر وظلما أصغر وفسقا أصغر كما جاء هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن طاوس وجماعة من السلف الصالح وهو المعروف عند أهل العلم. والله ولي التوفيق.
__________
(1) مجلة الدعوة العدد 963 في 5\ 2\ 1405 هـ.
(2) سورة المائدة الآية 44(4/416)
فاتقوا الله ما استطعتم (1)
سؤال: كنا مجموعة من الأصدقاء نجتمع للنقاش والحوار حول أمور الدين والدنيا، وإذا بأحد الحضور يلقي سؤالا يقول فيه: هل يستطيع المرء المسلم أن يعيش حياته مسلما بنسبة 100% مع استمرار تعايشه وتعامله مع مجتمعه بما في ذلك من إيجابيات وسلبيات ومؤثرات، أي بمعنى إن أراد البعد عن كل ما حرم الله والتمتع بكل ما أحله في كتابه الكريم وكذلك العمل بسنة نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام بما تبيحه والبعد عما تنهى عنه؟
واختلفت الإجابات وإن كان الكل قد أجاب بنعم ولكن اختلفت الإجابات حول النسب ففريق قائل بقدرة المرء على ذلك أي أن يحيى المرء مسلما بنسبة 100%، وفريق آخر لم يوافق على قدرة المرء على أن يحيى حياة مسلم بنسبة 100%، ووجهة نظر الفريق الآخر الذي لم يوافق على نسبة المائة بالمائة أن قوة المجتمع ومؤثراته متعددة وأن من الممكن أن تكون هناك أمور كثيرة غير صحيحة ولكن المجتمع مع هذا يقرها، وضرب هذا الفريق مثلا بكرة القدم ومحاولة الدولة [أي دولة] تشجيع هذه اللعبة رغم عدم فائدتها للشباب بالقدر الذي لو تدرب الشباب على الفروسية والسباحة والرماية مثلا. .
ومثل آخر. . التصوير والصور المجسمة، ومثل آخر يتعلق بغذاء الإنسان وهي ما تستورده الدولة من لحوم من الخارج، ومثال آخر فوائد البنوك. وأمثلة أخرى عديدة ضربت. .
ولما طال النقاش وامتد واتفقنا في نقاط واختلفنا في أخرى رأينا أن نرسل بسؤالنا عسانا أن نجد الجواب الشافي لديكم؟
الجواب: المسلم غير معصوم، «وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين
__________
(1) كتاب الدعوة ج1 ص 28.(4/417)
التوابون (1) » كما جاء بذلك الحديث الشريف، لكن في الإمكان أن يعيش المسلم في مجتمع إسلامي محافظا على دينه حسب طاقته عملا بقول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) ولا يخدش في دينه ما قد يقع منه من الأخطاء التي لم يتعمدها أو ظنها جائزة باجتهاده وما لديه من معلومات، أو بسؤاله بعض أهل العلم فأفتاه في ذلك ولم تكن فتواه مطابقة للشرع المطهر، والخلاصة أن الواجب على المسلم أن يتقي الله ما استطاع وأن يحرم ما حرم الله عليه وأن يجتهد فيما فرض الله عليه، وإذا وقعت منه زلة وجب عليه المبادرة بالتوبة النصوح.
__________
(1) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2499) ، سنن ابن ماجه الزهد (4251) ، مسند أحمد بن حنبل (3/198) ، سنن الدارمي الرقاق (2727) .
(2) سورة التغابن الآية 16(4/418)
لا تعارض بين الآيتين (1)
القارئ عبد الرحمن الشثري من الرياض يسأل فيقول: كيف نجمع بين هاتين الآيتين: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) وقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (3) وهل بينهما تعارض؟
الجواب: ليس بينهما تعارض، فالآية الأولى في حق من مات على الشرك ولم يتب فإنه لا يغفر له ومأواه النار كما قال الله سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (4) وقال عز وجل: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (5) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
أما الآية الثانية وهي قوله سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (6) فهي في حق التائبين، وهكذا قوله سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (7) أجمع العلماء على أن هذه الآية في التائبين. والله ولي التوفيق.
__________
(1) مجلة الدعوة العدد 983 في 27\ 6\ 1405 هـ
(2) سورة النساء الآية 48
(3) سورة طه الآية 82
(4) سورة المائدة الآية 72
(5) سورة الأنعام الآية 88
(6) سورة طه الآية 82
(7) سورة الزمر الآية 53(4/419)
بداية الثلث الأخير من الليل ونهايته (1)
السؤال: ورد في الحديث «ينزل الله سبحانه وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل (2) » . الحديث، متى يبدأ الثلث الأخير ومتى ينتهي؟
الجواب: قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإثبات النزول وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له (3) » .
وقد أجمع أهل السنة والجماعة على إثبات صفة النزول على الوجه الذي يليق بالله سبحانه لا يشابه خلقه في شيء من صفاته كما قال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (4) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (5) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (6) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (7) وقال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (8) فالواجب عند أهل السنة والجماعة إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل مع الإيمان بها واعتقاد أن ما دلت عليه حق ليس في شيء منها تشبيه لله بخلقه ولا تكييف لصفته بل القول عندهم في الصفات كالقول في الذات، فيما يثبت أهل السنة والجماعة ذاته سبحانه بلا كيف ولا تمثيل فهكذا صفاته يجب إثباتها بلا كيف ولا تمثيل، والنزول في كل بلاد بحسبها لأن نزول الله سبحانه لا يشبه نزول خلقه وهو سبحانه يوصف بالنزول في الثلث الأخير من الليل في جميع أنحاء العالم على الوجه الذي يليق بجلاله سبحانه ولا يعلم كيفية
__________
(1) مجلة الدعوة العدد 1138 في 2 \9 \ 1408 هـ.
(2) صحيح البخاري الدعوات (6321) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (758) ، سنن الترمذي الصلاة (446) ، سنن أبو داود الصلاة (1315) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) ، مسند أحمد بن حنبل (2/433) ، موطأ مالك النداء للصلاة (496) ، سنن الدارمي الصلاة (1484) .
(3) صحيح البخاري الجمعة (1145) ، صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها (758) ، سنن الترمذي كتاب الدعوات (3498) ، سنن أبو داود الصلاة (1315) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) ، مسند أحمد بن حنبل (2/265) ، موطأ مالك النداء للصلاة (496) ، سنن الدارمي كتاب الصلاة (1479) .
(4) سورة الإخلاص الآية 1
(5) سورة الإخلاص الآية 2
(6) سورة الإخلاص الآية 3
(7) سورة الإخلاص الآية 4
(8) سورة الشورى الآية 11(4/420)
نزوله إلا هو كما لا يعلم كيفية ذاته إلا هو عز وجل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) وقال عز وجل: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2)
وأول الثلث وآخره يعرف في كل زمان بحسبه فإذا كان الليل تسع ساعات كان أول وقت النزول أول الساعة السابعة إلى طلوع الفجر، وإذا كان الليل اثنتي عشرة ساعة كان أول الثلث الأخير أول الساعة التاسعة إلى طلوع الفجر وهكذا بحسب طول الليل وقصره في كل مكان. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة النحل الآية 74(4/421)
التوبة النصوح يمحو الله بها الذنوب (1)
السؤال: لي بعض من الصور عند أصدقائي وطلبت منهم هذه الصور لكي أمزقها خوفا من عذاب الله، بعضهم أعطاني والبعض رفضوا بحجة أن الإثم عليهم وليس علي شيء. فهل هذا صحيح أرجو أن تفيدوني؟
الجواب:
جـ: التوبة النصوح من الذنوب يمحو الله بها الذنوب كما قال الله سبحانه {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يهدم ما كان قبله والتوبة تهدم ما كان قبلها (3) » وعليك إتلاف ما لديك من الصور لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته (4) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه، أما صورك التي عند الناس إذا طلبتها منهم وامتنعوا من تسليمها لك فقد برئت منها وتعمها التوبة، والإثم على من اقتناها، أصلح الله الجميع.
__________
(1) مجلة الدعوة العدد 1138 في 2 \ 8 \ 1408 هـ.
(2) سورة النور الآية 31
(3) صحيح مسلم الإيمان (121) .
(4) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/96) .(4/422)
حكم الختان
السؤال: ما حكم الختان؟
الجواب: أما الختان فهو من سنن الفطرة ومن شعار المسلمين لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الفطرة خمس الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط (1) » فبدأ صلى الله عليه وسلم بالختان وأخبر أنه من سنن الفطرة.
والختان الشرعي: هو قطع القلفة الساترة لحشفة الذكر فقط، أما من يسلخ الجلد الذي يحيط بالذكر أو يسلخ الذكر كله كما في بعض البلدان المتوحشة ويزعمون جهلا منهم أن هذا هو الختان المشروع فما هو إلا تشريع من الشيطان زينه للجهال وتعذيب للمختون ومخالفة للسنة المحمدية والشريعة الإسلامية التي جاءت باليسر والسهولة والمحافظة على النفس.
وهو محرم لعدة وجوه منها:
1 - أن السنة وردت بقطع القلفة الساترة لحشفة الذكر فقط.
2 - أن هذا تعذيب للنفس وتمثيل بها، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة وعن صبر البهائم والعبث بها أو تقطيع أطرافها، فالتعذيب لبني آدم من باب أولى وهو أشد إثما.
3 - أن هذا مخالف للإحسان والرفق الذي حث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء (2) » الحديث.
4 - أن هذا قد يؤدي إلى السراية وموت المختون وذلك لا يجوز لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (3) وقوله سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (4) ولهذا نص العلماء على أنه لا يجب الختان الشرعي على الكبير إذا خيف عليه من ذلك.
أما التجمع رجالا ونساء في يوم معلوم
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5889) ، صحيح مسلم الطهارة (257) ، سنن الترمذي الأدب (2756) ، سنن النسائي الزينة (5225) ، سنن أبو داود الترجل (4198) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (292) ، مسند أحمد بن حنبل (2/239) ، موطأ مالك الجامع (1709) .
(2) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4405) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .
(3) سورة البقرة الآية 195
(4) سورة النساء الآية 29(4/423)
لحضور الختان وإيقاف الولد متكشفا أمامهم فهذا حرام لما فيه من كشف العورة التي أمر الدين الإسلامي بسترها ونهى عن كشفها.
وهكذا الاختلاط بين الرجال والنساء بهذه المناسبة لا يجوز لما فيه من الفتنة ومخالفة الشرع المطهر.(4/424)
المثل الأعلى (1)
س1: سائل من الرياض يقول: يرد سؤال يتكرر دائما في المقابلات الصحفية وخلافها وهو: من هو مثلك الأعلى؟ وتختلف الإجابة باختلاف الأشخاص هناك من يقول: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك من يقول: والدي وهكذا. .
ما رأي سماحتكم - حفظكم الله - في هذا السؤال وما علاقته بآية سورة النحل رقم 60 وهي قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2) وكذا آية سورة الروم رقم 27 وهي قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3) ؟ أفيدونا أثابكم الله. .
ج1: المعنى يختلف فيما أشرت إليه فإذا أريد بيان من هو الأحق بالوصف الأعلى فالجواب هو الله وحده؛ لأنه سبحانه هو الذي له المثل الأعلى في كل شيء ومعناه الوصف الأعلى، وهو سبحانه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله لا شبيه له ولا كفو له ولا ند له، وهذا المعنى هو المراد في الآيتين الكريمتين المذكورتين في سؤالك، وقد قال الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (4) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (5) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (6) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا} (7) أحد وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (8) أما إن أريد من هو المثل الأعلى في المنهج والسيرة فإنه يفسر بالرسول صلى الله عليه وسلم فإنه أكمل الناس هديا وسيرة وقولا وعملا وهو المثل الأعلى للمؤمنين في سيرتهم وأعمالهم وجهادهم وصبرهم وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة كما
__________
(1) المجلة العربية في باب '' فاسألوا أهل الذكر ''.
(2) سورة النحل الآية 60
(3) سورة الروم الآية 27
(4) سورة الإخلاص الآية 1
(5) سورة الإخلاص الآية 2
(6) سورة الإخلاص الآية 3
(7) سورة الإخلاص الآية 4
(8) سورة الشورى الآية 11(4/425)
قال الله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1) وقال عز وجل في وصف نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (2) قالت عائشة رضي الله عنها: «كان خلقه القرآن (3) » والمعنى أنه كان عليه الصلاة والسلام يعمل بأوامر القرآن وينتهي عن نواهيه ويتخلق بالأخلاق التي أثنى القرآن على أهلها ويبتعد عن الأخلاق التي ذم القرآن أهلها. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21
(2) سورة القلم الآية 4
(3) سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1601) ، سنن أبو داود الصلاة (1342) ، مسند أحمد بن حنبل (6/91) .(4/426)
كيفية التوكل على الله
السؤال: سائل في مدينة كركوك بالعراق يقول في سؤاله: يحصل عندنا نقاش حول مسألة التوكل هل يكون التوكل مع الأسباب أو بغير الأسباب؛ لأننا نعلم عن توكل بعض الصالحين كتوكل مريم والتي تأتيها فاكهة الصيف في الشتاء والعكس ولم تتخذ الأسباب بل انقطعت للعبادة فأفيدونا عن ذلك بارك الله فيكم؟
الجواب: التوكل يجمع شيئين: أحدهما: الاعتماد على الله والإيمان بأنه مسبب الأسباب وأن قدره نافذ وأنه قدر الأمور وأحصاها وكتبها سبحانه وتعالى.
الثاني: تعاطي الأسباب فليس من التوكل تعطيل الأسباب بل التوكل يجمع بين الأخذ بالأسباب والاعتماد على الله ومن عطلها فقد خالف الشرع والعقل؛ لأن الله عز وجل أمر بالأسباب وحث عليها سبحانه وأمر رسوله بذلك وفطر العباد على الأخذ بها، فلا يجوز للمؤمن أن يعطل الأسباب بل لا يكون متوكلا حقيقة إلا بتعاطي الأسباب، ولهذا شرع النكاح للعفة وحصول الولد وأمر بالجماع، فلو قال أحد من الناس أنا لا أتزوج وانتظر الولد بدون زواج لعد من المجانين، وليس هذا من أمر العقلاء، وكذلك لو جلس في البيت أو في المسجد يتحرى الصدقات لم يكن ذلك مشروعا ولا توكلا بل يجب عليه أن يسعى في طلب الرزق ويعمل ويجتهد مع القدرة على ذلك ومريم رحمة الله عليها لم تدع الأسباب ومن قال ذلك فقد غلط وقد قال الله لها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} (1) الآية، وهذا أمر لها بالأسباب وقد هزت النخلة وتعاطت الأسباب، حتى وقع الرطب فليس في سيرتها ترك الأسباب، أما وجود الرزق
__________
(1) سورة مريم الآية 25(4/427)
عندها وكون الله أكرمها به وأتاح لها بعض الأرزاق فلا يدل على أنها معطلة للأسباب بل هي تتعبد وتأخذ بالأسباب، وإذا ساق الله لبعض أوليائه من أهل الإيمان شيئا من الكرامات فهذا من فضله سبحانه لكن لا يدل على تعطيلهم الأسباب فقد ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن (1) » وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) فشرع لعباده العبادة له والاستعانة به وكلتاهما من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، والآيات الدالة على ذلك كثيرة.
__________
(1) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه المقدمة (79) ، مسند أحمد بن حنبل (2/370) .
(2) سورة الفاتحة الآية 5(4/428)
شرح بعض الأمور التي تهم الدعاة (1) .
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم. وفقه الله. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فقد وصلني كتابكم وعلمت ما تضمنه من الإفادة باستلامكم كتبا مرسلة لكم من الرئاسة وكذلك استفساركم عن بعض الأمور التي تهم الدعاة إلى الله.
وأعلمكم أن الواجب على الداعي إلى الله أن يتبصر فيما يدعو إليه ويتدبر القرآن والسنة وكلام أهل العلم فيما يريد أن يتكلم فيه، فإذا كان الكلام في التوحيد وترك الشرك، تدبر الآيات والأحاديث التي تحث على ذلك، وراجع كلام أهل التفسير كابن كثير وابن جرير والبغوي حتى يكون على بينة لمعرفة حقيقة التوحيد ومعرفة حقيقة الشرك.
ومن أفضل الكتب المعينة على ذلك كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعهم من أهل العلم. ومن الكتب المفيدة في ذلك (زاد المعاد) لابن القيم و (القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة) لشيخ الإسلام ابن تيمية و (العقيدة الواسطية) له أيضا وكتاب (التوحيد) للشيخ محمد بن عبد الوهاب و (فتح المجيد) لحفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن.
وإذا كان الكلام في الصلاة والزكاة أو غيرهما من الفروع تأمل النصوص الواردة في ذلك وأرشد المدعو إلى ما علمه من ذلك مع مراعاة الاختصار والأسلوب الحسن والعبارات الجامعة حتى يتيسر للمدعو فهمها.
أما ما يتعلق بالترجمة ففي إمكان طالب العلم أن يستعين بمن يعلم عنهم حسن العقيدة وجودة العلم مع العلم باللغة الأجنبية التي يريدها
__________
(1) صدرت الإجابة من مكتب سماحته بالرياض في 22 \ 7 \ 1409 هـ برقم 1872 \1.(4/429)
حتى يترجموا له المطلوب. وإليك بعض الكتب الإسلامية باللغتين الإنجليزية والفرنسية مع نسخة من كتابنا (مجموع الفتاوى والمقالات) ج 1، 2. وأسأل الله سبحانه أن يهدينا جميعا إلى سواء السبيل ويوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه إنه سميع قريب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(4/430)
سحر الزوجة للزوج
. (1) .
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة المكرم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: وصلني كتابكم المؤرخ (بدون) وصلكم الله بهداه وما تضمنه من الإفادة عما أصابكم عندما أردت جماع زوجتك الجديدة وعن ذهابك للشيخ وما أفتاك به وعما عملته الزوجة القديمة من العمل الذي كان سببا لمنعك من جماع زوجتك الجديدة وسؤالك عن الحكم في ذلك كان معلوما. .
والجواب: إذا كانت الزوجة القديمة قد أقرت بهذا العمل أو ثبت عليها ذلك بالبينة فقد فعلت منكرا عظيما بل كفرا وضلالا؛ لأن عملها هذا هو السحر المحرم، والساحر كافر كما قال الله سبحانه: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (2) فهذه الآية الكريمة تدل على أن السحر كفر وأن الساحر كافر والسحرة يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم وأن من مقاصدهم التفريق بين المرء وزوجه وأنه لا خلاق لهم عند الله يوم القيامة - يعني لا حظ لهم في النجاة - وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قيل
__________
(1) صدرت الإجابة من مكتب سماحته في 9 \11 \1387.
(2) سورة البقرة الآية 102(4/431)
وما هن يا رسول الله؟ قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (1) » ، أما الشيخ الذي أعطاك الدواء فالظاهر أنه ساحر كالمرأة؛ لأنه لا يطلع على أعمال السحر إلا السحرة وهو أيضا من العرافين والكهنة المعروفين بادعاء الغيب في كثير من الأمور، والواجب على المسلم أن يحذرهم وألا يصدقهم فيما يدعون من الغيب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة (2) » أخرجه مسلم في صحيحه، وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (3) » فالواجب عليك التوبة والندم على ما قد حصل منك وإخبار رئيس الهيئة ورئيس المحكمة بالشيخ المذكور وزوجتك القديمة حتى تعمل المحكمة والهيئة ما يردعهم، وإذا عرض لك مثل هذا الحادث فاسأل علماء الشرع حتى يخبروك بالعلاج الشرعي، وإذا كان الذي أصابك قد زال فالحمد لله وإلا فأخبرنا حتى نخبرك بالعلاج الشرعي رزقنا الله وإياك الفقه في الدين والثبات عليه والسلامة مما يخالفه إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) صحيح البخاري الوصايا (2767) ، صحيح مسلم الإيمان (89) ، سنن النسائي الوصايا (3671) ، سنن أبو داود الوصايا (2874) .
(2) صحيح مسلم السلام (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (4/68) .
(3) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/476) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .(4/432)
العمل في مصانع الخمر (1)
س: من جامبيا يسأل ويقول: ما حكم المسلم الذي يبيع الخمر أو المخدرات، وهل نسميه مسلما أم لا؟ وما حكم المسلم الذي يعمل في مصنع الخمر، وهل يجب عليه ترك عمله إذا لم يجد سواه؟
الجواب: بيع الخمر وسائر المحرمات من المنكرات العظيمة، وهكذا العمل في مصانع الخمر من المحرمات والمنكرات لقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) ولا شك أن بيع الخمر والمخدرات والدخان من التعاون على الإثم والعدوان، وهكذا العمل في مصانع الخمر من الإعانة على الإثم والعدوان وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (4)
وصح «عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لعن الخمر وشاربها وساقيها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها (5) » .
وصح عنه أيضا عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إن على الله عهدا لمن مات وهو يشرب الخمر أن يسقيه من طينة الخبال قيل يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال عصارة أهل النار أو قال عرق أهل النار (6) » .
__________
(1) مجلة الدعوة العدد 1104 وتاريخ 30 \ 12 \ 1407هـ.
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة المائدة الآية 90
(4) سورة المائدة الآية 91
(5) سنن أبو داود الأشربة (3674) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/71) .
(6) صحيح مسلم الأشربة (2002) ، سنن النسائي الأشربة (5709) ، مسند أحمد بن حنبل (3/361) .(4/433)
أما حكمه فهو عاص وفاسق بذلك وناقص الإيمان وهو يوم القيامة تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وعفا عنه وإن شاء عاقبه إذا مات قبل التوبة عند أهل السنة والجماعة لقول الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1)
وهذا الحكم إذا لم يستحلها، أما إن استحلها فإنه يكفر بذلك ولا يغسل ولا يصلى عليه إذا مات على استحلالها عند جميع العلماء؛ لأنه بذلك يكون مكذبا لله عز وجل ولرسوله عليه الصلاة والسلام.
وهكذا الحكم فيمن استحل الزنا أو اللواط أو الربا أو غير ذلك من المحرمات المجمع عليها كعقوق الوالدين وقطيعة الرحم وقتل النفس بغير حق.
أما من فعلها أو شيئا منها وهو يعلم أنها حرام ويعلم أنه عاص لله بذلك فهذا لا يكون كافرا بل هو فاسق تحت مشيئة الله سبحانه في الآخرة إذا لم يتب قبل الموت كما تقدم في حكم شارب الخمر والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة النساء الآية 48(4/434)
أكل ذبائح الكفار واستعمال أوانيهم
س: سؤال من طالب صومالي يدرس في الصين يقول فيه (1) :
إنني طالب صومالي أدرس في الصين وأواجه صعوبات كثيرة في الطعام عامة واللحوم بصفة خاصة والمشاكل هي:.
1 - إنني أسمع قبل مجيئي للصين أن الحيوانات التي ذبحها الملحدون أو بالأحرى قتلوها لا يجوز للمسلم أكلها، وعندنا في الجامعة مطعم صغير للمسلمين وتوجد فيه لحوم غير أنني لست على يقين أنها مذبوحة على الطريقة الإسلامية ومتشكك في ذلك، مع العلم أن زملائي غير متشككين مثلي ويأكلون منها، أهم على حق أم يأكلون حراما؟
2 - بالنسبة لأواني الطعام ليس هناك تمييز بين أواني المسلمين وغيرهم، ماذا ينبغي علي أن أفعل حيال هذه الأمور؟
الجواب: لا يجوز أكل ذبائح الكفار غير أهل الكتاب من اليهود والنصارى سواء كانوا مجوسا أو وثنيين أو شيوعيين أو غيرهم من أنواع الكفار ولا ما خالط ذبائحهم من المرق وغيره؛ لأن الله سبحانه لم يبح لنا من أطعمة الكفار إلا طعام أهل الكتاب في قوله عز وجل: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (2) الآية من سورة المائدة، وطعامهم هو ذبائحهم كما قال ابن عباس وغيره، أما الفواكه ونحوها فلا حرج فيها؛ لأنها غير داخلة في الطعام المحرم، أما طعام المسلمين فهو حل للمسلمين
__________
(1) نشرت في مجلة الدعوة العدد 918 في 24\ 2\ 1404هـ.
(2) سورة المائدة الآية 5(4/435)
وغيرهم إذا كانوا مسلمين حقا لا يعبدون إلا الله ولا يدعون معه غيره من الأنبياء والأولياء وأصحاب القبور وغيرهم مما يعبده الكفرة.
أما الأواني فالواجب على المسلمين أن يكون لهم أوان غير أواني الكفرة التي يستعمل فيها طعامهم وخمرهم ونحو ذلك، فإن لم يجدوا وجب على طباخ المسلمين أن يغسل الأواني التي يستعملها الكفار ثم يضع فيها طعام المسلمين؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه «أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأكل في أواني المشركين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها (1) » . وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.
__________
(1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5478) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1930) ، سنن الترمذي الأطعمة (1797) ، سنن أبو داود الأطعمة (3839) ، سنن ابن ماجه الصيد (3207) ، سنن الدارمي السير (2499) .(4/436)
الحكم الشرعي في فتاة شيعية يمنعها المأذون من عقد القران (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة المكرمة الآنسة ف. ح. ع. وفقها الله لما فيه رضاه ويسر أمرها وأصلح شأنها آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد وصلني كتابك المتضمن الإفادة أنك فتاة تبلغين الثالثة والعشرين من العمر وأنك على مذهب الشيعة أتباع داود بوهراوان ممثل مرجع الطائفة المذكورة المقيم في كينيا وأنه يمنع مأذون مدينة ممباسا من عقد قرانك ورغبتك في بيان الحكم الشرعي في ذلك. .
والجواب: لا ريب أن الواجب على المسئولين في جميع الطوائف المنتسبة للإسلام أن يلتزموا حكم الإسلام في جميع الأمور وأن يحذروا ما يخالف ذلك وقد علم من الشريعة الإسلامية أن الواجب على الأولياء تزويج مولياتهم إذا خطبهن الأكفاء لقول الله سبحانه: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (2)
ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض (3) » خرجه الإمام الترمذي وغيره.
وبناء على ذلك فإذا زوجك الأقرب من أوليائك على أحد أكفائك فليس لممثل طائفة البهرة اعتراض عليك ويكون النكاح بذلك صحيحا إذا توافرت
__________
(1) نشرت بمجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة العدد الثاني السنة الرابعة شوال عام 1391 هـ.
(2) سورة النور الآية 32
(3) سنن الترمذي النكاح (1084) ، سنن ابن ماجه النكاح (1967) .(4/437)
شروطه وينبغي أن يكون ذلك بواسطة المحكمة الشرعية في ممباسا حتى لا يتأتى لممثل طائفة البهرة اعتراض على النكاح، وإذا صدر النكاح على الوجه المذكور فإن أولادك يكونون أولادا شرعيين ليس لطائفة البهرة ولا غيرهم حق في إنكار ذلك. وإذا امتنع أقاربك من تزويجك على الكفء إرضاء لممثل طائفة البهرة فإن ولايتهم تبطل بذلك ويكون للقاضي الشرعي إجراء عقد القران لك على من خطبك من الأكفاء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «السلطان ولي من لا ولي له (1) » .
والقاضي هو نائب السلطان فيقوم مقامه في ذلك. والولي العاضل، حكمه حكم المعدوم.
هذا ونصيحتي لك ولأمثالك ترك الانتساب لمذهب البهرة أو غيره من مذاهب الشيعة لكونها مذاهب مخالفة للطريقة المحمدية الإسلامية من وجوه كثيرة فالواجب تركها والانتقال عنها إلى مذهب أهل السنة والجماعة السائرين على مقتضى الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، وأسأل الله أن يهدي هذه الطائفة وغيرها من الطوائف المنحرفة عن طريق الصواب، وأن يأخذ بأيديهم إلى طريق الحق، وأن يوفقنا وإياك وسائر المسلمين لما فيه النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة إنه ولي ذلك والقادر عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سنن الترمذي النكاح (1102) ، سنن أبو داود النكاح (2083) ، سنن ابن ماجه النكاح (1879) ، مسند أحمد بن حنبل (6/166) ، سنن الدارمي النكاح (2184) .(4/438)
توضيح عن فرقة الشيعة (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم. وفقه الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
فقد تلقيت كتابكم الكريم وفهمت ما تضمنه. وأفيدكم بأن الشيعة فرق كثيرة وكل فرقة لديها أنواع من البدع، وأخطرها فرقة الرافضة الخمينية الاثني عشرية لكثرة الدعاة إليها ولما فيها من الشرك الأكبر كالاستغاثة بأهل البيت واعتقاد أنهم يعلمون الغيب ولا سيما الأئمة الاثني عشر حسب زعمهم ولكونهم يكفرون ويسبون غالب الصحابة كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما نسأل الله السلامة مما هم عليه من الباطل.
وهذا لا يمنع دعوتهم إلى الله وإرشادهم إلى طريق الصواب وتحذيرهم مما وقعوا فيه من الباطل على ضوء الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة.
وأسأل الله لك ولإخوانك من أهل السنة المزيد من التوفيق لما يرضيه مع الإعانة على كل خير، وأوصيكم بالصبر والصدق والإخلاص والتثبت في الأمور والعناية بالحكمة والأسلوب الحسن في ميدان الدعوة والإكثار من تلاوة القرآن الكريم والتدبر في معانيه ومدارسته ومراجعة كتب أهل السنة فيما أشكل من ذلك كتفسير ابن جرير وابن كثير والبغوي، مع العناية بحفظ ما تيسر من السنة كبلوغ المرام للحافظ ابن حجر وعمدة الأحكام في الحديث للحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي، ولا يخفى أنه يجب على الإنسان أن يسأل عما يشكل عليه في أمر دينه كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) وإليكم برفقه بعض الكتب أسأل الله أن ينفعكم بما فيها وأن يعم بنفعكم إخوانكم المسلمين كما أسأله سبحانه أن يثبتنا وإياكم على الحق وأن يجعلنا جميعا من أنصار دينه وحماة شريعته والداعين إليه على بصيرة إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) صدرت الإجابة من مكتب سماحته في 22\ 1\ 1409هـ برقم 136\1.
(2) سورة النحل الآية 43(4/439)
ما حكم الخجل من الإنكار على أهل الغيبة والنميمة (1)
س: أنا فتاة أكره الغيبة والنميمة وأكون أحيانا في وسط جماعة يتحدثون عن أحوال الناس ويدخلون في الغيبة والنميمة وأنا في نفسي أكره هذا وأمقته، ولكوني شديدة الخجل فإنني لا أستطيع أن أنهاهم عن ذلك، وكذلك لا يوجد مكان حتى ابتعد عنهم، ويعلم الله أنني أتمنى أن يخوضوا في حديث غيره، فهل علي إثم في جلوسي معهم؟
وما الذي يتوجب فعله؟ وفقكم الله لما فيه خير الإسلام والمسلمين. .
ج: عليك إثم في ذلك إلا أن تنكري المنكر فإن قبلوا منك فالحمد لله، وإلا وجب عليك مفارقتهم وعدم الجلوس معهم؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (2) وقوله عز وجل: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (3) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (4) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشرت في المجلة العربية في باب '' فاسألوا أهل الذكر ''.
(2) سورة الأنعام الآية 68
(3) سورة النساء الآية 140
(4) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .(4/440)
إجبار الطالب العسكري على حلق لحيته (1)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته بعده يا محب كتابك الكريم المؤرخ في 9\10\1988 م وصل وصلك الله بهداه وما تضمنه من الإفادة بأنك قد التحقت بالكلية الأكاديمية العربية للنقل البحري في جمهورية مصر العربية وأن النظام لديها يجبر الطالب على حلق لحيته.
وطلبك النصيحة والتوجيه حول الموضوع. إلخ كان معلوما، وعليه نشكرك على حسن عنايتك وسؤالك عما يهمك من أمر دينك، ونسأل الله لنا ولك الفقه في دينه والثبات عليه. ونفيدك بأنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين (2) » متفق على صحته من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس (3) » ، وبناء على ذلك أوصيك بترك الكلية المذكورة والانتقال إلى غيرها إذا أجبرت على حلق لحيتك وسوف يجعل الله لك فرجا ومخرجا لقوله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (4) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (5)
وعليك أن تلتزم التقوى والتوبة من حلق لحيتك وألا تعود إلى ذلك ومن تاب تاب الله عليه، لقوله سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (6) ونوصيك أيضا بالالتحاق بإحدى الجامعات السعودية كالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة أو جامعة الملك عبد العزيز في جدة أو جامعة أم القرى بمكة. أو غيرها من الجامعات والكليات الأخرى في المملكة.
__________
(1) صدرت الإجابة من مكتب سماحته في 27\ 3\ 1409هـ برقم 872\1
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .
(3) صحيح مسلم الطهارة (260) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .
(4) سورة الطلاق الآية 2
(5) سورة الطلاق الآية 3
(6) سورة طه الآية 82(4/441)
ونحن مستعدون لمساعدتك في ذلك إذا كتبت إلينا بذلك وأرفقت صورة من مؤهلاتك وتزكية من صاحب الفضيلة رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية بالقاهرة الشيخ محمد علي عبد الرحيم.
هذا ونسأل الله لنا ولك وللمسلمين التوفيق لما يرضيه وحسن العاقبة وصلاح النية والعمل إنه سبحانه خير مسئول.(4/442)
حكم من يساوي لحيته
س: ما حكم من يساوي لحيته يجعلها متساوية مع بعضها البعض؟ .
ج: الواجب إعفاء اللحية وتوفيرها وإرخاؤها وعدم التعرض لها بشيء، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين (1) » متفق على صحته عن ابن عمر رضي الله عنهما، وروى البخاري في صحيحه رحمة الله عليه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قصوا الشوارب ووفروا اللحى خالفوا المشركين (2) » وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس (3) » .
وهذه الأحاديث كلها تدل على وجوب إعفاء اللحى وتوفيرها وإرخائها وعلى وجوب قص الشوارب، هذا هو المشروع وهذا هو الواجب الذي أرشد إليه النبي عليه الصلاة والسلام وأمر به.
وفي ذلك تأس به صلى الله عليه وسلم وبأصحابه رضي الله عنهم ومخالفة للمشركين وابتعادا عن مشابهتهم وعن مشابهة النساء، وأما ما رواه الترمذي رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها (4) » فهو خبر باطل عند أهل العلم لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تشبث به بعض الناس، وهو خبر لا يصح؛ لأن في إسناده عمر بن هارون البلخي وهو متهم بالكذب.
فلا يجوز للمؤمن أن يتعلق بهذا الحديث الباطل ولا أن يترخص بما يقوله بعض أهل العلم فإن السنة حاكمة على الجميع والله يقول جل وعلا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (5) ويقول سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (6)
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .
(3) صحيح مسلم الطهارة (260) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .
(4) سنن الترمذي الأدب (2762) .
(5) سورة النساء الآية 80
(6) سورة النور الآية 54(4/443)
ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة النساء الآية 59(4/444)
صحة الحديث «من رآني فقد رآني حقا (1) »
س: ما مدى صحة الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي معناه «من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي (2) » والحديث الآخر الذي معناه: «من رآني فقد حرمت عليه النار» أرجو إفادتي حول هذين الحديثين. .
جـ: أما الحديث الأول وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «من رآني فقد رآني حقا (3) » فهذا حديث صحيح وله ألفاظ منها قوله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي (4) » ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتمثل بي (5) » في عدة ألفاظ وردت عنه عليه الصلاة والسلام، وقد دلت كلها على أن عدو الله الشيطان قد حيل بينه وبين أن يتمثل في صورة النبي صلى الله عليه وسلم فمن رأى النبي في المنام فقد رأى الحقيقة، وقد رآه عليه الصلاة والسلام، إذا رآه في صورته التي هي معروفة عند أهل العلم وهو عليه الصلاة والسلام ربعة من الرجال حسن الصورة أبيض مشرب بحمرة كث اللحية سوداء وفي آخر حياته حصل فيها شعرات قليلة من الشيب عليه الصلاة والسلام، فمن رآه على صورته الحقيقية فقد رآه فإن الشيطان لا يتمثل به عليه الصلاة والسلام.
وأما الحديث الثاني: «من رآني فقد حرمت عليه النار» فهذا لا أصل له وليس بصحيح.
تم - ولله الحمد - الجزء الرابع
من مجموعة فتاوى ومقالات متنوعة
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن باز.
ويليه - إن شاء الله - الجزء الخامس في التوحيد وما يلحق به
__________
(1) صحيح البخاري التعبير (6994) ، مسند أحمد بن حنبل (3/269) .
(2) صحيح البخاري العلم (110) ، صحيح مسلم الرؤيا (2266) ، سنن الترمذي الرؤيا (2280) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3901) ، مسند أحمد بن حنبل (2/232) .
(3) صحيح البخاري التعبير (6994) ، مسند أحمد بن حنبل (3/269) .
(4) صحيح البخاري العلم (110) ، صحيح مسلم الرؤيا (2266) ، سنن الترمذي الرؤيا (2280) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3901) ، مسند أحمد بن حنبل (2/232) .
(5) صحيح البخاري العلم (110) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3900) ، مسند أحمد بن حنبل (2/261) .(4/445)
صفحة فارغة(5/1)
صفحة فارغة(5/2)
صفحة فارغة(5/3)
صفحة فارغة(5/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
بيان حقيقة العبادة وتوحيدها للخالق سبحانه (1)
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على عبده ورسوله صفوته من خلقه وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله جل وعلا أوجب على عباده أن يعبدوه ويتقوه ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) فنبه سبحانه أنه خلق الثقلين الجن والإنس ليعبدوه وحده، وعبادته هي طاعة أوامره وترك نواهيه عن إيمان به سبحانه وإيمان برسله وعن إخلاص له في العبادة وعن إيمان بكل ما أخبرت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن هذه العبادة التي من أجلها خلق الثقلان أن يعظموا أوامره ونواهيه، وأن يصرفوا العبادة له سبحانه وحده دون كل ما سواه، وأن يطيعوا أوامره وأن ينتهوا عن نواهيه متبعين في ذلك ما دل عليه كتابه وجاءت به سنة نبيه عليه الصلاة والسلام، فقد أمر الله بذلك عباده في آيات كثيرات كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) فبين سبحانه أنه خلقهم ليعبدوه ويتقوه فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (5)
__________
(1) أصل موضوع المحاضرة
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة البقرة الآية 21
(4) سورة البقرة الآية 22
(5) سورة البقرة الآية 21(5/5)
أي وحدوه، كما قال ابن عباس وغيره: كل عبادة في القرآن فمعناها التوحيد، ثم أكد سبحانه ذلك بقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) أي تتقونه جل وعلا بفعل أوامره وترك نواهيه سبحانه وتعالى، ثم بين سبحانه شيئا من الدلائل على استحقاقه للعبادة فقال جل وعلا: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) فهو سبحانه خالق الأرض وما فيها من جبال وأشجار وأنهار وبحار وحيوان وغير ذلك، وجعلها فراشا لعباده ليستعين بذلك عباده على أداء حقه سبحانه وتعالى فهو خلقهم ليعبدوه ويتقوه، وخلق لهم ما في الأرض من النعم وأنزل لهم المطر من السماء ليستعينوا بذلك على طاعته كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (3) فالأرض مهاد، والسماء سقف محفوظ، وأنزل من السماء المطر وهو الماء الذي أخرج به سبحانه أنواع الثمرات وأنواع الخيرات رزقا للعباد ليستعينوا بذلك على أداء حقه وعلى ترك ما نهى عنه وعلى موالاة أوليائه وعلى معاداة أعدائه سبحانه وتعالى. وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (4)
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (5) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (6) {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} (7) الآية
__________
(1) سورة البقرة الآية 21
(2) سورة البقرة الآية 22
(3) سورة البقرة الآية 29
(4) سورة النساء الآية 1
(5) سورة الحج الآية 1
(6) سورة آل عمران الآية 102
(7) سورة آل عمران الآية 103(5/6)
وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (2) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (3)
وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (4) الآية، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه سبحانه ربهم وإلههم ومعبودهم الحق جل وعلا، والدالة على أن المؤمنين به سبحانه هم أولى الناس بأن يعظموه ويتقوه وينقادوا لأمره سبحانه وتعالى وقد أنزل سبحانه الكتب على أيدي الرسل لبيان هذا الحق العظيم الذي من أجله خلقهم وأمرهم بالتقوى والعبادة، فأنزل الله الكتاب العظيم القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بين فيه حقه على عباده وأوضح فيه تفاصيل ما شرع وأمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ببيان ذلك والإرشاد إليه وتفصيل أحكامه كما قال عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (5) فالله أنزل إليه الذكر وهو القرآن ليبين للناس ما أنزل إليهم ويشرح لهم ما قد يشكل عليهم، فقام عليه الصلاة والسلام بالبيان والبلاغ أكمل قيام وأوضح للأمة دينها وشرح لها ما تحتاج إليه، فما من خير إلا دلها عليه، وما من شر إلا حذرها منه، كما صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:
__________
(1) سورة فاطر الآية 5
(2) سورة الحجرات الآية 13
(3) سورة لقمان الآية 33
(4) سورة البينة الآية 5
(5) سورة النحل الآية 44(5/7)
«ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلم لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم (1) » أخرجه مسلم في صحيحه.
فكل الرسل عليهم الصلاة والسلام بعثوا بهذا الأمر ليدلوا الناس على خير ما يعلمون لهم، وينذروهم شر ما يعلمون لهم. ونبينا صلى الله عليه وسلم هو أكمل الأنبياء رسالة، وأكملهم بلاغا، وأعظمهم نصحا، فقد بلغ وأرشد وحذر، ودل على كل خير، وحذر من كل شر عليه الصلاة والسلام ومن ذلك أن الله سبحانه أمر عباده بالاتحاد والتعاون على البر والتقوى وأن يكونوا جسدا واحدا وبناء واحدا ضد أعدائه، وأن يتميزوا عن عدو الله الذي لم ينقد لأمره، ولم يعظم أوامره ونواهيه، ولم يخصه بالعبادة سبحانه وتعالى، حتى يتميز حزب الله من حزب عدوه الشيطان، وحتى يتميز أولياؤه عن أولياء عدوه الشيطان وحتى يتميز المطيعون له سبحانه المتبعون لشرعه المنقادون لأمره والواقفون عند حدوده عن أعدائه الذين خالفوا أمره وتولوا أعداءه وتعدوا حدوده ولم ينقادوا لما جاء به الرسل، فقال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) هكذا وصف سبحانه عباده المؤمنين الذين امتثلوا أمره سبحانه وتعالى وحققوا عبادته التي خلقوا لها فقال عنهم {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (3) بينهم المحبة والموالاة والنصح فيما بينهم ليسوا أعداءه ولكنهم أولياؤه كل واحد يحب لأخيه الخير ويكره له الشر وينصحه ويدعوه إلى الخير ويعينه على البر والتقوى ولا يغتابه ولا ينم عليه ولا يكذب عليه ولا يشهد عليه بالزور ولا يخونه في المعاملة ولا يغشه في ذلك بل هو وليه وحبيبه والناصح
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1844) ، سنن النسائي البيعة (4191) ، سنن ابن ماجه الفتن (3956) ، مسند أحمد بن حنبل (2/191) .
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة التوبة الآية 71(5/8)
له هكذا المؤمنون والمؤمنات بالله سبحانه وتعالى وصفهم سبحانه بأنهم أولياء، فالمؤمن ولي أخيه والمؤمنة ولية أختها في الله والمؤمنون والمؤمنات فيما بينهم جميعا أولياء، رجالا ونساء كلهم أولياء، وهذا يميزهم عن أعدائهم أعظم تمييز لتمسكهم بدينهم وتناصحهم في ذلك وكمال قيامهم بحق مولاهم سبحانه وتعالى كما مدحهم سبحانه في آية أخرى من سورة الأحزاب فقال سبحانه {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (1)
هكذا يصف سبحانه أولياءه من الرجال والنساء بصفات عظيمة وأخلاق كريمة، ويخبر سبحانه أنه أعد لهم مغفرة لذنوبهم وأجرا عظيما منه بدخولهم الجنة ونجاتهم من النار لإسلامهم وإيمانهم وتقواهم وقيامهم بحقه سبحانه وتعالى بخلاف أعدائه سبحانه فقد قال فيهم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (2) وقال سبحانه {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3) {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (4) فأعداؤه بعضهم من بعض وبعضهم أولياء بعض في الباطل والفساد أما
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 35
(2) سورة الأنفال الآية 73
(3) سورة التوبة الآية 67
(4) سورة التوبة الآية 68(5/9)
أولياؤه فهم ممتازون عن أعدائه ومنحازون عنهم وهم فيما بينهم أولياء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا يمنعهم من ذلك قرابة ولا صداقة ولا حظ عاجل، ولا يحملهم ما بينهم من المحبة والولاية أن يسكتوا عن المنكر أو الأمر بالمعروف؛ لأن مقتضى هذه الولاية أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر.
وهكذا النصح لله ولعباده حتى يصلح مجتمعهم وتستقيم أحوالهم وحتى يتميزوا عن أعدائهم، والمعروف ما أمر به الله ورسوله، والمنكر ما نهى عنه الله ورسوله، فالمؤمنون والمؤمنات فيما بينهم هكذا شأنهم متناصحون متحابون في الله يوالي بعضهم بعضا وينصح بعضهم بعضا ويحب كل واحد لأخيه الخير ويكره له الشر، ومع ذلك هم أيضا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فالولاية شأنها عظيم.
ومن جملة ما توجبه الموالاة في الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يرضى من أخيه أن يعمل ما يغضب الله سبحانه عليه ويجره إلى دخوله النار بل يحب له كل خير ويكره له كل شر ويأمر بما يرضي الله ويقربه إليه وينهاه عما يغضب الله عليه ويجره إلى سوء المصير.
ومن صفات المؤمنين والمؤمنات العظيمة أنهم يقيمون الصلاة كما شرع الله يحافظون عليها ويدعون إليها ويؤدونها كما أمر الله عن صدق وإخلاص وعن طمأنينة وخشوع ومداومة عليها وأداء حقها، ليسوا كالمنافقين لا يؤدونها إلا رياء أو لغرض دنيوي. أما المؤمنون والمؤمنات فهم يؤدونها لله يرجون ثوابه ويخشون عقابه ويقيمونها كما أمرهم سبحانه، وهكذا أداؤهم للزكاة كما أمر الله، ويعلمون أن ذلك حق عليهم وأن ذلك من نعم الله عليهم وقد أحسن إليهم ووسع عليهم وأعطاهم المال وأوجب عليهم الشيء اليسير شكرا له سبحانه ومواساة لإخوانهم ثم قال بعد ذلك {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) وهذا تمام الإيمان وكمال الاتباع طاعة الله ورسوله في كل شيء فإن المعاصي تنقص الإيمان وتضعفه، فأهل الإيمان الكامل يطيعون الله ورسوله في كل شيء ويبتعدون عن معصية الله ورسوله في كل شيء، وذلك
__________
(1) سورة التوبة الآية 71(5/10)
من كمال إيمانهم وتقواهم لله سبحانه وتعالى، ومتى زلت القدم وجاءت الغفلة وحصل ما حصل مما يحصل من الإنسان من بعض الزلات بادروا بالتوبة والإصلاح، وكل فرد من المؤمنين والمؤمنات ليس معصوما ما عدا الرسل عليهم الصلاة والسلام، فمتى زلت قدم الإنسان فحصل منه هفوة وزلة من المعاصي بادر بالتوبة والإصلاح بادر بالإنابة إلى الله حتى تزول تلك الهفوة وحتى يزول ذلك الضعف وحتى يعود إلى كمال إيمانه وكمال تقواه لله سبحانه وتعالى.
فإن الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وبذكر الله وينقص بالمعاصي والغفلة عن ذكر الله. ومن كمال أولياء الله المؤمنين ومقتضى إيمانهم الموالاة في الله والمعاداة في الله، وهم يتحرزون غاية التحرز من الاختلاط بأعداء الله ويحذرون مغبة ذلك، فإن الاختلاط بأعداء الله وهم الكفار من اليهود والنصارى والشيوعيين والوثنيين وسائر المعتقدات وغيرهم من سائر فرق الكفر خطير جدا وقد حصل بسبب ذلك بلاء عظيم وشر مستطير في العصور المتأخرة على المسلمين إلا من عصمهم الله ورحمهم فسلمهم سبحانه وتعالى من شرهم بسبب إيمانهم وتقواهم، وحذرهم من موالاة أعداء الله والركون إليهم فالخلطة تجر شرا كثيرا وفسادا عظيما وخاصة عند قلة العلم وقلة الغيرة وضعف الإيمان وكثرة المغريات وقلة الناصحين والموجهين فإن المخالط في الغالب يجره عدو الله إلى ما يحصل به له سخط الله وبعده عن أسباب رحمته وإيقاعه له فيما يبعده من دينه؛ فتارة بتزيين الشرك له والكفر بالله حتى يسلخه من دينه، وتارة بتزيين المعاصي والمخالفات حتى يقع فيما ينقص دينه ويضعف إيمانه.
والمعاصي كما قال أهل العلم بريد الكفر ووسيلة لسوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك فأعداء الله لا يفترون عن أسباب تزيين الباطل لأهل الإيمان ودعوتهم إليه وتشكيكهم في دينهم وإدخال الشبهة عليهم حتى يتزعزع إيمانهم وإسلامهم ويبقوا حيارى أو ينتقلوا من(5/11)
دين الحق إلى دين الباطل كما قال عز وجل في سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (1) {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (2) {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (3)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، ومن ذلك قول الله جل وعلا {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} (4) يعني بالإقامة بين المشركين {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} (5) أي قالت لهم الملائكة. . . {فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (6) {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (7) {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (8)
فبين في هذه الآية العظيمة خطر المشاركة والإقامة بين المشركين والمخالطة لهم وأن المخالطة تؤدي إلى خطر عظيم، وهذه نزلت في قوم من المسلمين كانوا بمكة فخرجوا مع أعداء الله في بدر وقتل منهم من قتل مع المشركين، والمشهور أنهم كانوا مكرهين ولو خرجوا مقاتلين طائعين كانوا مرتدتين ولكن بسبب
__________
(1) سورة آل عمران الآية 118
(2) سورة آل عمران الآية 119
(3) سورة آل عمران الآية 120
(4) سورة النساء الآية 97
(5) سورة النساء الآية 97
(6) سورة النساء الآية 97
(7) سورة النساء الآية 98
(8) سورة النساء الآية 99(5/12)
إقامتهم بين المشركين اجترءوا عليهم وساقوهم إلى ما ساقوهم إليه من المشاركة في قتال المسلمين.
وقال بعض السلف: إنهم كفروا بذلك لأنهم ظاهروا المشركين وساعدوهم فصاروا بذلك مثلهم؛ لأن من ظاهر المشركين وساعدهم على المسلمين صار مرتدا عن دينه لقوله تعالى {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1) فهم بين أمرين: من كان مواليا لهم مساعدا لهم موافقا لهم على قتال أولياء الله كفر، ومن كان مكرها لم يرض بذلك وإنما أكره عليه فقد أساء بإقامته بينهم وعدم بداره بالهجرة فكانت إقامته وسيلة وذريعة إلى أن خرج مقاتلا ومساعدا لأعداء الله، وبهذا يتبين خطر الإقامة بين المشركين والمخالطة لأعداء الله، فهو إن ساعدهم وظاهرهم على المسلمين ارتد عن دينه وكفر بذلك، وإن سلم من ذلك صارت إقامته وسيلة إلى أن يوافقهم في بعض الباطل أو على ترك بعض الحق، وربما خرج عن دينه بتشكيكهم له ودعوتهم له إلى الباطل وأنواع الكفر، فوجب على المسلم أن يحذر المخالطة لأعداء الله ويتميز عنهم ويبتعد عن مكائدهم حذرا من شرهم، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} (2) الآية قال ما نصه: " كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنا من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع " انتهى كلام الحافظ رحمه الله.
لأن المخالطة لهم والإقامة بينهم من المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة في حق من لا يظهر دينه، ولهذا قال الحافظ رحمه الله: ارتكب محرما بالإجماع؛ لأن بقاءه بينهم وسيلة إلى ما لا تحمد عقباه من كفره بالله وموافقته
__________
(1) سورة المائدة الآية 51
(2) سورة النساء الآية 97(5/13)
لهم على باطلهم. وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد جيد عن جرير بن عبد الله البجلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين (1) » وما ذلك إلا لأن إقامته بينهم وسيلة إلى كفره بالله أو إلى نقص دينه وضعف قيامه بحق مولاه سبحانه وتعالى.
وخرج النسائي رحمه الله بإسناد صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا يقبل الله من مشرك عملا بعد ما أسلم أو يفارق المشركين (2) » والمعنى: حتى يفارق المشركين.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، لكن من رزق الإيمان والعلم والبصيرة وخالطهم للدعوة إلى الله وبيان الحق والإرشاد إليه وإنكار الباطل فهذا لا شيء عليه لإظهاره دينه بدعوته لهم إلى الحق والهدى كما دعا الرسل وأولياء الله صنوف الكفار إلى الحق والهدى، فإذا خالطهم لهذا الأمر عن علم وعن بصيرة وعن قصد لإنقاذهم من الباطل وإخراجهم من الظلمات إلى النور فهذا له أجر عظيم لأنه دعا إلى الله وأظهر دينه وتميز عن أعداء الله بانضمامه إلى أولياء الله ودعوته إلى حزب الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، فالدعاة إلى الله الذين تأهلوا لذلك وحصلوا من العلم على ما يعينهم على ذلك وتميزوا عن أعداء الله بإظهار الحق والدعوة إليه لهم أجر عظيم؛ لأنهم إنما خالطوهم للدعوة إلى الله وبيان الحق لهم، فهولاء على خير عظيم وعلى هدى من الله عز وجل كما فعلت الرسل ومن نصرهم من أولياء الله.
وأما من خالطهم من غير علم ولا توجيه فهو على خطر عظيم من وجوه كثيرة:
خطر من جهة ولايتهم عليه، وخطر من جهة عدم إنكاره الباطل عليهم وخطر من جهة قلة علمه، فقد يظل بسبب ما يلقون عليه من الشبه التي تحيره في دينه أو تسلخه من دينه ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالواجب على كل مسلم
__________
(1) سنن الترمذي السير (1604) ، سنن أبو داود الجهاد (2645) .
(2) سنن النسائي الزكاة (2568) .(5/14)
أن يحذر خلطتهم والتساهل في القرب منهم وأكثر من ذلك وأكبر أن يسافر إلى بلادهم فإن السفر إلى بلادهم مع قلة العلم وقلة البصيرة فيه ضرر كبير وخطر عظيم فإن الشرك بالله بينهم ظاهر والمعاصي بينهم ظاهرة من الزنا وشرب الخمور وغير ذلك، فالسفر إلى بلادهم ولا سيما مع قلة العلم وقلة الرقيب من أعظم الأسباب في الوقوع في الباطل واتباع ما يدعو إليه الشيطان من الشبهات الباطلة والشهوات المحرمة.
وقد سافر كثير إليهم من أجل الدراسة أو السياحة أو العمل أو غير ذلك فرجعوا بشر عظيم وانحراف شديد وربما رجع بعضهم بغير دينه إلا من سلمه الله ورحمه وهم القليل، فالواجب على المسلمين أن يكون عندهم نفور من أعداء الله وحذر من مكائدهم أينما كانوا وأن لا يقربوهم إلا دعاة إلى الحق وموجهين إلى الخير وناصحين حتى يتميز هؤلاء عن هؤلاء وحتى يحذر المؤمن شرهم وشبههم وما يدعون إليه من الباطل، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم في مكة مع ضعفهم وخوفهم ومع أذى الكفار لهم يقومون بهذا الأمر ويدعون إلى الله ويوجهون إليه، ومنهم من خاف واستتر بإيمانه حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا.
ولا يخفى ما قد حصل في هذا العصر من الاختلاط الكثير، فالواجب على المؤمن أن يهتم بهذا الأمر وأن يحذر ما وقع فيه كثير من الناس من مخالطة أعداء الله والأنس بهم، وأن تكون المخالطة للبيان والإيضاح والدعوة إلى الحق والتوجيه والنصح لا للمودة والصداقة والتساهل بأمر الله عز وجل، فإن هذا فيه شر عظيم وعواقب وخيمة والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وجميع المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته ويخذل أعداءه، وأن يوفق المسلمين في كل مكان للفقه في دين الله والاستقامة عليه وموالاة أوليائه ومعادات أعدائه وأن يوفق قادة المسلمين في كل مكان لما فيه رضاه(5/15)
وصلاحهم وصلاح شعوبهم وأن ينصر بهم الحق وأن يوفقهم لتحكيم شريعة الله والدعوة إليها والحذر مما يخالفها، وأن يوفق ولاة أمرنا وأن يعينهم على ما فيه رضاه وأن يصلح لهم البطانة وينصر بهم الحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.(5/16)
بسم الله الرحمن الرحيم
من جوابي لفضيلة الشيخ: أبي الأعلى المودودي
فيما يتعلق بالفرق بين العبادة والطاعة
كان أبو الأعلى المودودي قد بعث إلي برسالة رقمها 1526 وتاريخ 2\4\1392 هـ شرح فيها حاله وحال الأستاذ طفيل الذي خلف فضيلته في إمرة الجماعة الإسلامية، وقد أجبته برسالة عندما كنت رئيسا للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في نفس العام. . ومنها:
قال لي بعض الإخوان المقيمين في البلاد من أهل مليبار عن فضيلتكم إنكم ترون أن العبادة تفسر بالطاعة وأن كل من أطاع أحدا فقد عبده، كما تفسر بالرق والتأله. وكتب إلي الشيخ عمر بن أحمد المليباري، أي صاحب مجلة السلسبيل في هذا الموضوع جازما بما ذكر عن فضيلتكم وعن الجماعة وأرسل إلي نسخة من استفتاء تعميمي في هذه المسألة أرسل إليكم نسخة منه.
وقد استغربت هذا الأمر وعزمت على الكتابة إليكم فيه من قبل مجيء كتابكم المجاب للاستفسار منكم عن صحة ما نسب إليكم. وبهذه المناسبة فإني أرجو من فضيلتكم الإفادة عما لديكم في هذا الموضوع، والذي يظهر لأخيكم أن الطاعة أوسع من العبادة، فكل عبادة لله موافقة لشريعته تسمى طاعة وليس كل طاعة بالنسبة إلى غير الله تسمى عبادة، بل في ذلك تفصيل؛ أما بالنسبة إلى الله سبحانه فهي عبادة له لمن أراد بها وجهه، لكن قد تكون صحيحة وقد تكون فاسدة على حسب اشتمالها على الشروط المرعية في العبادة وتخلف بعض الشروط عنها.
فأرجو من فضيلتكم الإفادة المفصلة عما ترونه في هذه المسألة ومما يزيد الأمر وضوحا أن من أطاع الله في بعض الأمور وهو متلبس بالشرك(5/17)
يستحق أن تنفي عنه العبادة. كما قال الله سبحانه في حق المشركين {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (1) فنفى عنهم العبادة من أجل شركهم، ومعلوم أنهم يعبدون الله في الشدة بالتوحيد وبالحج والعمرة وبالصدقات في بعض الأحيان ونحو ذلك.
ولكن لما كانت هذه العبادة مشوبة بالشرك في الرخاء وعدم الإيمان بالآخرة إلى غير ذلك من أنواع الكفر جاز أن تنفى عن أصحابها. ومما يزيد الأمر بيانا أيضا أن من أطاع الأمراء وغيرهم في معاصي الله لا يسمى عابدا لهم إذا لم يعتقد جواز طاعتهم فيما يخالف شرع الله وإنما أطاعهم خوفا من شرهم أو اتباعا للهوى، وهو يعلم أنه عاص لله في ذلك فإن مثل هذا يعتبر عاصيا بهذه الطاعة ولا يعتبر مشركا إذا كانت الطاعة في غير الأمور الشركية، كما لو أطاعهم في ضرب أحد بغير حق أو قتل أحد بغير حق أو أخذ مال بغير حق ونحو ذلك، والأمثلة في هذا الباب كثيرة، وما أظن هذا الأمر يخفى على من دونكم من أهل العلم، لكن لما كان هذا الأمر قد أشاعه عنكم من أشاعه، وجب علي أن أسألكم عنه وأطلب من فضيلتكم تفصيل القول فيه حتى ننفي عنكم ما يجب نفيه، وندافع عنكم على بصيرة ونوضح الحق لطالبه فيما يتعلق بالجماعة الإسلامية
وإن كان ما نسب عنكم هو كما نسب تذاكرنا فيه وبحثناه من جميع وجوهه وناقشنا مواضيع الإشكال بالأدلة، والحق هو ضالة الجميع.
فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه والثبات عليه وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا وأن يجعل الحق ضالتنا أينما كنا إنه جواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
__________
(1) سورة الكافرون الآية 3(5/18)
عمل المسلم (1)
__________
(1) محاضرة ألقيت بالمؤسسة العامة للصناعات الحربية في حدودعام 1404 هـ(5/18)
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وصفوته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد، فإنني أحمد الله على ما يسره عز وجل من هذا اللقاء من إخوة في الله كرام وأبناء أعزاء في سبيل التعاون على البر والتقوى والتناصح في الحق والدعوة إلى الخير، وأسأله عز وجل أن يجعله لقاء مباركا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يعيذنا من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته ويخذل الأعداء.
ثم أشكر القائمين على هذه المؤسسة وعلى رأسهم سمو الأمير محمد بن فهد بن فيصل آل سعود على هذه الدعوة وأسأل الله أن يجعل دعوته إلى هذا اللقاء مباركة كما أسأله سبحانه أن يبارك في جهود الجميع وأن يصلح أعمالهم وأقوالهم وأن يمنحهم الفقه في الدين والصدق والصبر والمصابرة والاستقامة على الحق وأن ينفع بجهودهم وأن يعينهم على كل ما فيه صلاح المسلمين وسعادتهم في العاجل والآجل إنه خير مسئول.
أيها الإخوة في الله: أيها الأبناء الكرام: إن الله عز وجل قد بين في كتابه العظيم صفات المسلمين وأخلاق المؤمنين في مواضع كثيرة وحث عليها ورغب(5/19)
فيها وأمر بها في مواضع وأثنى على أهلها في مواضع ووعدهم على ذلك الخير الكثير والعاقبة الحميدة والفوز بالجنة والكرامة.
ومن ذلك قوله تعالى في آخر سورة آل عمران {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (1) {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (2) الآيات.
هذه الآيات العظيمات كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقرؤها إذا أستيقظ من نومه عليه الصلاة والسلام إلى آخر السورة ويمسح النوم عن وجهه بعدها، ويرتل هذه الآيات ويرفع بصره إلى السماء وهو يقرأ هذه الآيات {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (3) والآيات بعدها. وأولوا الألباب هم أولوا العقول الصحيحة، والألباب جمع لب وهو العقل الصحيح النير وهم لصلاح عقولهم وسلامتها وصحتها وصفهم الله بهذه الصفات، وهي أنهم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى وجنوبهم ويتفكرون في هذه الآيات التي أوجدها سبحانه.
ومنها خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، فإن آيات الله كثيرة ومن جملتها خلق هذه السماوات في ارتفاعها وسعتها وخلق هذه الأرض في انبساطها وسعتها واستقرارها وما فيهما من الآيات العظيمات الكثيرات.
وهكذا اختلاف الليل والنهار من جملة آياته العظيمة سبحانه وتعالى، فلذا أخبر أن في ذلك آيات لأولي الألباب، ثم ذكر بعض أعمالهم من ذكر الله قائمين وقاعدين وعلى جنوبهم بالقلب واللسان والعمل، فيذكرون الله في قلوبهم محبة وتعظيما وخوفا ورجاء وخشية له سبحانه، وبألسنتهم بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والقراءة والدعاء والاستغفار وغير ذلك.
ومن أعمالهم الصلاة ليلا ونهارا والتهجد بالليل والصدقات والأمر
__________
(1) سورة آل عمران الآية 190
(2) سورة آل عمران الآية 191
(3) سورة آل عمران الآية 190(5/20)
بالمعروف والنهي عن المنكر وغير هذا من أعمالهم الصالحة.
ثم ذكر أنهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض وما فيها من العجائب والغرائب والآيات العظيمة قائلين: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} (1) بل لحكمة عظيمة وغايات حميدة ثم يقولون {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (2) فأقروا أن الله سبحانه خلق هذا لحكمة أرادها وليس ذلك باطلا ولا عبثا، ثم سألوه أن يقيهم عذاب النار ونزهوه عما لا يليق به سبحانه وتعالى.
وقال جل وعلا في آيات أخرى من أول سورة الأنفال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (3) {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (4) {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (5) هذه من صفات أهل الإيمان الكمل الخلص. وفي آيات أخرى في سورة التوبة يقول عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (6) وهذه صفات المؤمنين الصادقين من جنود الإسلام وغيرهم.
فالمؤمنون والمؤمنات حقا هذه صفاتهم وهذه أخلاقهم فالواجب على جنود الإسلام أن يهتموا بهذه الصفات ويتخلقوا بها لأنهم قدوة لغيرهم ولأنها من أعظم أسباب النصر على الأعداء ولأنهم معدون للجهاد في سبيل الله والرباط في ثغور البلاد فهم أولى الناس بأن يتخلقوا بهذه الصفات ويستقيموا عليها.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 191
(2) سورة آل عمران الآية 191
(3) سورة الأنفال الآية 2
(4) سورة الأنفال الآية 3
(5) سورة الأنفال الآية 4
(6) سورة التوبة الآية 71(5/21)
وبذلك يحققون نسبتهم إلى الإسلام على خير وجه.
والإسلام هو دين الله الذي بعث به جميع الرسل كما قال عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (2) وقال سبحانه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3) سمى سبحانه وتعالى دينه إسلاما لما فيه من الاستسلام لله والخضوع لأمره ونهيه والالتزام بطاعته والوقوف عند حدوده.
يقال في اللغة العربية: أسلم فلان لفلان إذا انقاد له، وأسلم العبد لله إذا انقاد لأمره وخضع لطاعته، فالإسلام خضوع لله وانقياد لأوامره وترك لنواهيه ووقوف عند حدوده سبحانه وتعالى.
وسمي إيمانا؛ لأن المسلم يفعل ذلك عن إيمانه بالله ورسوله لا عن رياء ولا عن سمعة ولا عن نفاق ولكنه يخضع لله ويسلم لله وينقاد لأوامره سبحانه ويقف عند حدوده عن إيمان وتصديق وطمأنينة، وعلم فيعلم أن الله واحد لا شريك له وهو رب السماوات والأرض وهو الخلاق العليم وهو مخلص لله معظم لحرمات الله مؤمن به سبحانه ربا وإلها وخالقا ورازقا ومعبودا بالحق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان (4) » .
فديننا يسمى إسلاما لما فيه من الانقياد لله والإخلاص له والذل له
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19
(2) سورة آل عمران الآية 85
(3) سورة المائدة الآية 3
(4) صحيح مسلم الإيمان (35) ، سنن الترمذي الإيمان (2614) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5005) ، سنن أبو داود السنة (4676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (57) ، مسند أحمد بن حنبل (2/414) .(5/22)
والتعظيم، ويسمى إيمانا لما يشتمل عليه من التصديق بأخبار الله ووحدانيته وأنه الإله الحق سبحانه وتعالى وأنه المستحق للعبادة دون كل ما سواه مع الإيمان بما أمر به ونهى عنه وما شرع لعباده وما أباح لهم وما حرم عليهم، كل ذلك داخل في مسمى الإيمان وفي مسمى الإسلام، فيسمى إسلاما للانقياد لله وطاعة أوامره والوقوف عند حدوده، ويسمى إيمانا لما يشتمل عليه قلب المؤمن من التصديق المتضمن الانقياد للعمل الصالح والقول السديد.
ولهذا لما سأل جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان قال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إلى ذلك سبيلا (1) » ثم قال عن الإيمان: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره (2) » فذكر له أصول الإيمان التي ينبثق منها الإسلام والدين، وذكر له أصول الإسلام الظاهرة التي بني عليها وهي أركانه الخمسة المذكورة آنفا.
فالإسلام أركانه الظاهرة هذه الخمسة: الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج، وهذه أركانه الظاهرة.
أما أركانه الباطنة فهي أصول الإيمان الستة التي ينبني عليها الإسلام في الباطن، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره "؛ فلا إسلام لمن لا إيمان له ولا إيمان لمن لا إسلام له، فلا بد من هذا وهذا.
لا بد من الإيمان الذي ينبثق عنه الإسلام والانقياد لله وأداء حقه، ولا بد من الإسلام الذي هو تصديق بالأعمال ويدل على الإيمان المستقر في القلب ويشهد له بالصحة حتى يخرج بذلك عن صفات المنافقين وأعمال المنافقين الذين يقولون بالأفواه ما ليس في القلوب ويعملون بالظواهر خلاف ما في القلوب، كما قال عنهم سبحانه في كتابه العظيم في سورة النساء {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (3) {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (4)
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/52) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/28) .
(3) سورة النساء الآية 142
(4) سورة النساء الآية 143(5/23)
فليس لهم ثبات بل هم مذبذبون حائرون تارة مع المؤمنين وتارة مع الكافرين والعياذ بالله.
وقال عنهم جل وعلا في أول سورة البقرة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (1) {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (2) {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (3) والمعنى: أنهم يقولون باللسان ويعملون في الظاهر ما ليس في القلوب فصاروا كاذبين. وقرئ {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (4) من التكذيب لأنهم يقرون في الظاهر بشعائر الإسلام ولكنهم في الباطن لا يقرون بذلك بل يكذبون الرسول عليه الصلاة والسلام ويكذبون ما جاء به، فلهذا أخبر الله عنهم أنهم تحت الكفار في النار يوم القيامة، فقال تعالى عنهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (5) فأهل الإيمان الصادق والإسلام الصادق هم المؤمنون حقا وهم الذين جمعوا بين الخضوع لله والذل له سبحانه والإسلام له والجهاد في سبيله والإخلاص له مع الإيمان الصادق في القلوب الذي ينتج عنه ويتفرع عنه الأقوال الصادقة والأعمال الصالحة وأعمال القلوب من خوف ورجاء وإخلاص ومحبة وشوق إلى الله وإلى جنته وحذرا من عقابه سبحانه وتعالى.
فالمؤمن الصادق هو المذكور في قوله تعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (6) وفي قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (7) والآية بعدها.
__________
(1) سورة البقرة الآية 8
(2) سورة البقرة الآية 9
(3) سورة البقرة الآية 10
(4) سورة البقرة الآية 10
(5) سورة النساء الآية 145
(6) سورة التوبة الآية 71
(7) سورة الأنفال الآية 2(5/24)
فجدير بنا أيها الإخوة أن نحقق هذه الصفات العظيمة وأن نتخلق بها وعلى رأسها الإخلاص لله، فإن شهادة أن لا إله إلا الله توجب إخلاص العبادة لله وحده، وصرف العبادة له وحده دون كل ما سواه، وأن يكون القلب معمورا بمحبته والإخلاص له والشوق إليه والأنس بمناجاته والذكر له تعالى كما قال عز وجل {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (1) وقال عز وجل {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (2) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (3) وقال سبحانه وتعالى {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (4) وقال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (5)
هذا الإخلاص أساس كلمة التوحيد لا إله إلا الله، أي: لا معبود حق إلا الله، فهي تنفي وتثبت، تنفي العبادة وهي الألوهية عن غير الله وتثبتها له وحده دون ما سواه فلا يستقيم دين ولا يصح ولا يثبت ولا يسمى المرء مسلما ولا مؤمنا إلا بالإخلاص لله عز وجل وتخصيصه بالعبادة سبحانه وتعالى ثم بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم والشهادة بأنه رسول الله حقا إلى جميع الثقلين الجن والإنس، وهذه الشهادة لا بد لها من ثمرة ونتيجة، وهي متابعة شرعه والاستقامة على دينه والوقوف عند حدوده التي جاء بها عليه الصلاة والسلام.
وهاتان
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سورة الزمر الآية 2
(3) سورة الزمر الآية 3
(4) سورة غافر الآية 14
(5) سورة الحج الآية 62(5/25)
الشهادتان هما أصل الدين وهما أساس الملة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ومتى صدق فيهما العبد وأدى حقهما فإنه يؤدي ما أوجب الله من الأقوال والأعمال وينتهي عما حرم الله من القول والعمل ويقف عند حدود الله ومتى فرط في شيء من ذلك صار نقصا في إيمانه وتوحيده وضعفا في إيمانه وتوحيده، فعلم من ذلك أن هاتين الشهادتين لهما حقوق وهي أداء فرائض الله، وترك محارم الله، والوقوف عند حدود الله كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها (1) » ، وقد احتج أبو بكر رضي الله عنه بهذا الحديث على قتال مانعي الزكاة، وقال: (إن الزكاة من حق لا إله إلا الله) ، فسلم له الصحابة رضي الله عنهم وتابعوه في جهادهم.
وفي آية براءة بيان تلك الحقوق وهي قوله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) وهؤلاء المؤمنون والمؤمنات هم المصدقون بالله والموحدون له الذين أقروا له بالتوحيد والإخلاص له وحده وصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم بعضهم أولياء بعض، فهم فيما بينهم أولياء متحابون في الله متناصحون فيه متواصون بالحق والصبر عليه متعاونون على البر والتقوى.
فهذه أوصاف المؤمنين والمؤمنات وهذه أخلاقهم العظيمة لا غل ولا حقد ولا حسد ولا غش ولا خيانة ولا شهادة بالزور ولا كذب فيما بينهم، لا يحسد بعضهم بعضا ولا يغش بعضهم بعضا ولا يشهدون بالزور ولا يظلمون أحدا ولا يخذلون أخاهم في الله ولا يخونون الأمانة بل هم إخوة في الله
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2946) ، صحيح مسلم الإيمان (21) ، سنن الترمذي الإيمان (2606) ، سنن النسائي تحريم الدم (3971) ، سنن أبو داود الجهاد (2640) ، سنن ابن ماجه الفتن (3928) ، مسند أحمد بن حنبل (1/11) .
(2) سورة التوبة الآية 71(5/26)
صادقون. هكذا المؤمنون. والمؤمنات الذين عمرت قلوبهم بالإيمان واستقر حب الله في قلوبهم.
فإذا رأيت من نفسك خيانة لأخيك أو رأت المرأة المؤمنة في نفسها خيانة لأختها في الله أو لأخيها في الله فذلك نقص في الإيمان، ومن ضعف الإيمان ومن ضعف الإخلاص لله عز وجل، إذ لو كان الإيمان كاملا لما وقع هذا النقص الذي هو خيانة أو ظلم أو غير ذلك مما حرم الله عز وجل، فالحسد والخيانة والغش في المعاملة والشهادة بالزور والظلم للعباد كل ذلك نقص في الإيمان وضعف في الإخلاص والإسلام.
وهكذا ما سوى ذلك من سائر المعاصي، وقد يفضي ذلك إلى زوال الإيمان بالكلية كترك الصلاة فإنها كفر أكبر وردة عن الإسلام وإن لم يجحد التارك وجوبها في أصح قولي العلماء، وأما في جحد وجوبها فإنه يكفر بالإجماع من العلماء.
وهكذا لو جحد وجوب الزكاة أو جحد وجوب صيام رمضان أو جحد وجوب الحج إلى بيت الله الحرام مع الاستطاعة أو جحد مشروعية الجهاد في سبيل الله أو جحد شيئا من الأمور الظاهرة الإسلامية المعلومة من الدين بالضرورة فإنه يكون بذلك كافرا ومرتدا بإجماع المسلمين.
وهكذا لو جحد بعض ما حرم الله من المحرمات المعروفة من الدين بالضرورة؛ كأن يقول إن الزنا حلال أو الخمر حلال أو عقوق الوالدين حلال أو الربا حلال فإن هذا وأمثاله كفر وردة عن الإسلام والعياذ بالله من ذلك.
وبذلك يعلم أن المعاصي والمخالفات منها ما يزيل الإيمان بالكلية ويكون صاحبها مرتدا مفارقا للإسلام كما سمعتم في الأمثلة؛ وقد بين ذلك أهل العلم في كل مذهب من المذاهب الأربعة وعقدوا لذلك بابا خاصا سموه باب حكم المرتد وهو باب عظيم تنبغي مراجعته والعناية به.
ومنها ما يضعف الإيمان ويجعل(5/27)
صاحبه ناقص الإيمان كتعاطي بعض المحرمات من المسكر وعقوق الوالدين أو أحدهما وتعاطي الربا أو الغيبة والنميمة أو الحسد والبغي والظلم من دون استحلال لذلك. فكل ذلك نقص في الإيمان وضعف في الدين. والإيمان يزيد وينقص عند أهل السنة والجماعة يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي.
والضعف يختلف فيعظم بكثرة المعاصي ويقل بقلتها.
ومن ذلك تعاطي ما حرم الله من الإسبال في الملابس وحلق اللحية، وغير ذلك مما حرم الله وكثير من الناس يتهاون بهذه الأمور ولا يبالي بملابسه ولا بلحيته بل يحلقها أو يقصها ويسبل ثيابه وكل ذلك من المنكرات التي تضعف الإيمان وتنقص الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين (1) » متفق على صحته، وقال عليه الصلاة والسلام: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس (2) » رواه مسلم في صحيحه، والأحاديث في النهي عن التشبه بالكفار والأمر بمخالفتهم كثيرة.
والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم بين كل خير ودعا إلى كل خير وحذر من كل شر، وقال عليه السلام: «ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار (3) » خرجه البخاري في صحيحه. فالإزار والسراويل والقميص والبشت كلها يجب ألا تنزل عن الكعبين فما نزل عن ذلك ففيه الوعيد المذكور في حق الرجال. أما النساء فعليهن أن يرخين الملابس حتى تستر أقدامهن؛ لأنهن عورة؛ فلا يجوز للرجل أن يتشبه بالنساء في إرخاء الثياب ولا في غير ذلك.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .
(2) صحيح مسلم الطهارة (260) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .
(3) صحيح البخاري اللباس (5787) ، سنن النسائي الزينة (5331) ، مسند أحمد بن حنبل (2/461) .(5/28)
ومما يجب التنبيه عليه أن كثيرا من الناس قد يتساهل بالصلاة وهي عمود الإسلام وأهم الفرائض بعد الشهادتين.
فالواجب العناية بها والمحافظة عليها في أوقاتها وأداء الرجال لها مع إخوانهم في بيوت الله. وكثيرا من الناس قد يصلي في البيت، وربما صلى وقتا دون وقت، وهذا خطأ عظيم ومنكر خطير، وقد قال(5/28)
عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح عن بريدة بن الحصين رضي الله عنه وقال عليه الصلاة والسلام: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (2) » أخرجه مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه. وقد هم عليه الصلاة والسلام أن يحرق على من تخلف عن الصلاة في الجماعة بيوتهم، فقال عليه الصلاة والسلام: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق علهم بيوتهم (3) » متفق عليه.
وهذا يدل على تعين أداء الصلاة بالجماعة في بيوت الله عز وجل وأن من تخلف عنها يستحق العقوبة، ويقول عليه الصلاة والسلام: «من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر (4) » أخرجه ابن ماجه والدارقطني والحاكم بإسناد على شرط مسلم.
وسئل ابن عباس عن العذر فقال: خوف أو مرض. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رجلا أعمى قال: يا رسول الله ليس لي قائد يلائمني إلى المسجد فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل تسمع النداء للصلاة؟ قال: نعم. قال: فأجب (5) » ؛ فكيف يجوز بعد هذا لمن يخاف الله ويرجوه أن يصلي في بيته ويتشبه بأهل النفاق الذين قال فيهم {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (6) وقال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا (7) » متفق على صحته. . وقال
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/370) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (651) ، سنن الترمذي الصلاة (217) ، سنن النسائي الإمامة (848) ، سنن أبو داود الصلاة (548) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (791) ، مسند أحمد بن حنبل (2/531) .
(4) سنن أبو داود الصلاة (551) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (793) .
(5) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (653) ، سنن النسائي الإمامة (850) .
(6) سورة النساء الآية 142
(7) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (651) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (797) ، مسند أحمد بن حنبل (2/531) ، سنن الدارمي الصلاة (1273) .(5/29)
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لقد رأيتنا وما يتخلف عنها - يعني الصلاة في الجماعة - إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يعني من الصحابة يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف أخرجه مسلم في صحيحه.
وقد قال الله عز وجل {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) ويقول سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (2) ويقول عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (3)
ومن أهم الأمور في الصلاة الخشوع فيها والإقبال عليها بالقلب والقالب حتى يؤديها المصلي خاشعا مطمئنا خاضعا لربه محضرا قلبه بين يديه سبحانه وتعالى يرجو رحمته ويخشى عقابه، لا ينقرها كالمنافقين ولا يذهب قلبه ها هنا وها هنا بل يجمع قلبه على الصلاة حتى يفرغ منها ويستحضر أنه بين يدي الله عز وجل يرجو رحمته ويخشى عقابه. يقول الله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (4) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (5) ثم ذكر صفات جليلة للمؤمنين ثم قال في آخرها {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (6) {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} (7) {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (8) ولا يجوز للمسلم ولا للمسلمة التشبه بأعداء الله المنافقين في التساهل
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة البقرة الآية 238
(3) سورة البقرة الآية 43
(4) سورة المؤمنون الآية 1
(5) سورة المؤمنون الآية 2
(6) سورة المؤمنون الآية 9
(7) سورة المؤمنون الآية 10
(8) سورة المؤمنون الآية 11(5/30)
بالصلاة والتثاقل عنها وعدم الطمأنينة فيها، بل الواجب العناية بها والمحافظة عليها في الجماعة في أوقاتها كما شرع الله وكما أوجب سبحانه وتأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه الكرام والتابعين لهم بإحسان.
أما زكاة المال فهي من أعظم الفرائض وهي الركن الثالث من أركان الإسلام. فالواجب العناية بأدائها وصرفها في أهلها المستحقين لها.
وهكذا صوم رمضان تجب العناية به في وقته والمحافظة عليه وهو الركن الرابع من أركان الإسلام الخمسة، وتجب صيانة الصيام عن ما حرم الله حتى يؤديه العبد كما شرع الله، وحتى تكفر به خطاياه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (1) » متفق على صحته.
وهكذا الحج لمن استطاع السبيل إليه. فالواجب على كل مسلم ومسلمة البدار بحج بيت الله الحرام مرة في العمر مع الاستطاعة لقول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (2) الآية. وهو من أسباب المغفرة وتكفير الذنوب دخول الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (3) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (4) » متفق على صحتهما.
ومن أهم الفرائض بعد أركان الإسلام الخمسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من صفات المؤمنين والمؤمنات وأعمالهم العظيمة كما في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} (5) الآية. . وقدم سبحانه الأمر بالمعروف والنهي
__________
(1) صحيح البخاري صلاة التراويح (2014) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (760) ، سنن الترمذي الصوم (683) ، سنن النسائي الصيام (2202) ، مسند أحمد بن حنبل (2/241) .
(2) سورة آل عمران الآية 97
(3) صحيح البخاري الحج (1773) ، صحيح مسلم الحج (1349) ، سنن الترمذي الحج (933) ، سنن النسائي مناسك الحج (2629) ، سنن ابن ماجه المناسك (2888) ، مسند أحمد بن حنبل (2/462) ، موطأ مالك الحج (776) .
(4) صحيح البخاري الحج (1521) ، صحيح مسلم الحج (1350) ، سنن النسائي مناسك الحج (2627) ، سنن ابن ماجه المناسك (2889) ، مسند أحمد بن حنبل (2/248) ، سنن الدارمي المناسك (1796) .
(5) سورة التوبة الآية 71(5/31)
عن المنكر على الصلاة في هذه الآية لعظم شأنه وكونه من المصلحة الهامة للمسلمين، كما قدم ذكره على الإيمان في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1)
فالواجب على جميع المؤمنين والمؤمنات التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر والتواصي بالحق والصبر عليه؛ عملا بهذه الآيات الكريمات وما جاء في معناها من الآيات والأحاديث وعملا بقوله عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) فالواجب على مسلم رأى من أخيه تقصيرا في الصلاة أو ارتكابا لبعض المحرمات أن ينصحه بالرفق والأسلوب الحسن كما قال الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (5) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله (6) » وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالرفق فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (7) » فإذا رأيت من أخيك تكاسلا وتثاقلا عن الصلاة في الجماعة فانصح له باللين وبالرفق وبالحكمة. وإذا رأيته سيء الخلق مع إخوانه فانصح له حتى يتواضع ويحسن خلقه مع إخوانه، وإذا رأيته يعق والديه أو أحدها أو علمت ذلك من طريق الثقات فانصحه وأمره بتقوى الله وببر والديه، أو رأيته يسيء إلى أقاربه أو إلى زوجته وأهل بيته فانصح له وقل: يا أخي اتق الله خيركم خيركم لأهله، ووضح له أن الواجب النصيحة للأهل وإكرامهم وعدم إيذائهم بالكلام السيئ أو الفعل السيئ وعليه أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالحكمة
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) سورة النحل الآية 125
(6) صحيح البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6927) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2701) ، سنن الدارمي الرقاق (2794) .
(7) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود كتاب الجهاد (2478) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .(5/32)
والكلام الطيب والأسلوب الحسن كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (1) وقال سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (2)
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الواجبات ومن أعظم الفرائض في حق الرجال والنساء جميعا، لما دل عليه كتاب الله العزيز وسنة رسوله الكريم مثل قوله سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (4) » رواه مسلم في صحيحه. فهذا هو الواجب بين المؤمنين والمؤمنات.
وإذا تركوا هذا الواجب فشا بينهم المنكر وخشي عليهم من حلول العقوبات العامة ولا حول ولا قوة إلا بالله، لقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده (5) » خرجه الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ويقول الله عز وجل في كتابه العظيم عن بني إسرائيل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (6) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (7) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما تلا هذه الآية قال: «كلا والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه وفي رواية
__________
(1) سورة التحريم الآية 6
(2) سورة طه الآية 132
(3) سورة التوبة الآية 71
(4) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .
(5) سنن الترمذي الفتن (2168) ، سنن ابن ماجه الفتن (4005) .
(6) سورة المائدة الآية 78
(7) سورة المائدة الآية 79(5/33)
الظالم - ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم (1) » أخرجه أبو داود فنسأل الله السلامة والعافية من كل شر وفتنة. ولا شك أن الأمر عظيم وجدير بالعناية من المسلمين؛ لأن التناصح بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات العظيمة ومن أسباب صلاح العامة والخاصة.
وقد قال الله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) فبين سبحانه أن هذه الصفات الأربع هي أخلاق الرابحين وهي صفات المؤمنين الناجين من عذاب الله في الدنيا والآخرة. وقد حكم ربنا سبحانه أن غيرهم في خسران وأقسم على هذا بقوله {وَالْعَصْرِ} (5) وهو الصادق سبحانه وإن لم يقسم جل وعلا، ولكنه سبحانه أقسم بالعصر لتأكيد المقام والتحذير من أسباب الخسران، والعصر هو الزمان؛ الليل والنهار، ويقال لهما: العصران، ويقال لآخر النهار: العصر،. والمراد هذا الليل والنهار لأنهما محل أعمال العباد، وهو سبحانه يقسم بما شاء من خلقه كما أقسم بالسماء والطارق وبالسماء ذات البروج وبالشمس وضحاها وبالضحى وبالتين إلى غير ذلك، فهو يقسم سبحانه بما شاء من مخلوقاته الدالة على عظمته وكبريائه واستحقاقه للعبادة سبحانه وتعالى، أما العباد فليس لهم أن يحلفوا إلا بالله وحده سبحانه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (6) » وقال عليه الصلاة والسلام: «من حلف بغير الله فقد أشرك (7) » فليس لأحد أن يحلف إلا بالله وحده سبحانه وتعالى.
ولا يجوز الحلف بغير الله لا بالأنبياء ولا بالصالحين ولا بالملائكة ولا بالأمانة ولا بغير ذلك بل يجب أن يكون القسم بالله سبحانه وتعالى، أما هو سبحانه فله أن يقسم بما شاء لكونه الحكم العدل المالك لكل
__________
(1) سنن أبو داود الملاحم (4336) .
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) سورة العصر الآية 1
(6) صحيح البخاري الشهادات (2679) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(7) صحيح البخاري الأدب (6108) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .(5/34)
شيء المتصرف في خلقه كيف يشاء ولا أحد يحجر عليه في ملكه، ولأن في إقسامه بما أقسم به من مخلوقاته دلائل على عظمته واستحقاق للعبادة دون كل ما سواه.
وقد أقسم سبحانه بالعصر أن الإنسان لفي خسر، فجميع الناس في خسارة ونقص وعواقب وخيمة {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (1) فهؤلاء هم الرابحون والسعداء. فجدير بنا أيها الإخوة أن نتخلق بهذه الأخلاق الإيمانية الصادقة وأن نتواصى بها ونصبر عليها حتى يستقر حبها والإيمان بها في القلوب.
ومعلوم أن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. ولأهل السنة عبارة أخرى في هذا الباب وهي أن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وكلتا العبارتين صحيحة، فهو قول وعمل، يعني قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح وهو قول وعمل واعتقاد؛ قول باللسان وعمل بالجوارح واعتقاد بالقلب، فالجهاد في سبيل الله والصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الأعمال المشروعة كلها أعمال خيرية، وهي من شعب الإيمان التي يزيد بها الإيمان وينقص بنقصها عند أهل السنة والجماعة؛ وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإلاحسان.
فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد في سبيل الله وسائر الأعمال المشروعة كلها من شعب الإيمان التي يزيد بها الإيمان وينقص بنقصها. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان (2) » متفق على صحته.
فلا يربح الناس ولا يسعدون ولا تحصل لهم النجاة في الدنيا والآخرة
__________
(1) سورة العصر الآية 3
(2) صحيح مسلم الإيمان (35) ، سنن الترمذي الإيمان (2614) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5005) ، سنن أبو داود السنة (4676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (57) ، مسند أحمد بن حنبل (2/414) .(5/35)
إلا بهذه الصفات الأربع: الإيمان الصادق والعمل الصالح وهو من الإيمان وإنما عطفه عليه لمزيد التأكيد والإيضاح ولأنه نتيجته وثمرته، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر وكلاهما أيضا من الإيمان، وإنما نبه عليهما سبحانه لعظم شأنهما ولشدة الحاجة إليها، فالرابحون هم الذين آمنوا بالله ورسوله إيمانا صادقا وآمنوا بأن الله معبودهم الحق وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبجميع المرسلين وآمنوا بكتب الله وملائكته ورسله وآمنوا باليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وآمنوا بكل ما أخبر الله به ورسوله.
هؤلاء هم الناجون والرابحون، ثم قال بعد هذا وتواصوا بالحق وهذه صفة ثالثة وهي من جملة العمل الصالح ومن جملة الإيمان ولكن الله سبحانه نبه عليه لعظم شأنه؛ لأن التواصي معناه التناصح والتعاون على الخير والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كل هذا من جملة التناصح والتواصي كما قال عليه الصلاة والسلام: «الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » .
ثم ذكر سبحانه الخصلة الرابعة وهي التواصي بالصبر لشدة الحاجة إليه. فهكذا المؤمنون والرابحون والسعداء من الرجال والنساء يؤمنون بالله وباليوم الآخر إيمانا صادقا مستقرا في القلوب، وقد أخلصوا لله في أعمالهم ووحدوه سبحانه وآمنوا به وبما أخبر به في كتابه وبما أخبر به رسوله عليه الصلاة والسلام وحققوا هذا الإيمان بالعمل الصالح.
فأدوا الصلاة وأدوا الزكاة وصاموا وحجوا واجتهدوا وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إلى غير هذا من أعمال الإيمان. ومن جملة ذلك الخصلة الثالثة التواصي بالحق وهو عمل من أعمال الإيمان، لكنه لما كان له شأن عظيم خصه بالذكر كما تقدم ليتناصح الناس وليتآمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر ويتعاونوا على البر والتقوى ويدعوا إلى الله ويرشدوا إليه، وهكذا الخصلة الرابعة
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .(5/36)
وهي التواصي بالصبر نبه عليها سبحانه لعظم شأنها وشدة الضرورة إليها؛ لأن الأمور كلها لا تحصل إلا بالله سبحانه ثم بالصبر.
فالواجب على أهل الإيمان الصبر على أداء الحق والكف عن الباطل والاستعانة بالله في ذلك وبذلك يفوزون بالربح العظيم والعاقبة الحميدة والفلاح في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فالعباد في أشد الحاجة والضرورة إلى الضراعة إلى الله وسؤاله الهداية. فإنه الهادي الموفق سبحانه وتعالى، فمن يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فالمؤمن والمؤمنة يضرعان إلى الله ويسألانه الهداية والتوفيق ويعملان بإيمان صادق وإخلاص تام وتواص بالحق وتواص بالصبر، كما قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (3) وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (4) فالمؤمن يتضرع إلى الله والمؤمنة تتضرع إلى الله ويسألانه سبحانه أن يوفقهما وأن يعينهما حتى يؤديا ما أوجب الله عليهما من الحقوق له سبحانه ولعباده.
__________
(1) سورة هود الآية 49
(2) سورة آل عمران الآية 200
(3) سورة غافر الآية 60
(4) سورة البقرة الآية 186(5/37)
فالإيمان كما تقدم بضع وسبعون شعبة أعلاها وأفضلها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق كحجر أو شوك أو نحوهما. والحياء من الإيمان وهو خلق كريم يقوم بالقلب يمنع من سفاسف الأخلاق وسيئ الأعمال ويدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال كما قال صلى الله عليه وسلم: «الحياء لا يأتي إلا بخير (1) » وفي لفظ آخر «الحياء خير كله (2) » خرجهما مسلم في صحيحه. أما ما يدعو إلى الجبن والضعف عن القيام بأمر الله والغيرة لدينه والنصح لعباده فإنه ليس بحياء ولكنه خور وضعف لا يليق بالمؤمن التخلق به.
هذا وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح وأن يرزقنا وإياكم الفقه في دينه والثبات عليه وأن يجعلنا وإياكم من المسارعين إلى مراضيه والمستقيمين على أمره والمتحابين في جلاله والمتواصين بالحق والصبر عليه، كما أسأله سبحانه أن ينصر دينه وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان وأن يمنحهم الفقه في الدين وأن يولي عليهم خيارهم ويعيذهم من شرارهم، كما أسأله عز وجل أن يوفق حكومتنا لكل خير وأن يعينها على كل خير ويصلح لها البطانة وأن يجعلها موفقة في كل أعمالها وأقوالها وسيرتها وأن ينفع بها البلاد والعباد، وأن يكثر أعوانها في الخير، كما أسأله عز وجل أن يبارك في هذه المؤسسة وينفع بها المسلمين وأن يعين القائمين عليها على كل خير وأن ينفع بهم الأمة إنه جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6117) ، صحيح مسلم الإيمان (37) ، مسند أحمد بن حنبل (4/427) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (37) ، سنن أبو داود الأدب (4796) ، مسند أحمد بن حنبل (4/440) .(5/38)
أسئلة وأجوبة بعد محاضرة عمل المسلم
س1: بعض الموظفين والعاملين لا يعطون عملهم الحماسة اللازمة، فتجد بعضهم يمر عليه عام فأكثر وهو لا يأمر بخير ولا ينهي عن شر ويتأخر عن العمل ويقول: أنا مأذون من رئيسي فلا علي شيء. فمن كانت هذه حاله فهل عليه شيء في دينه ما دام على هذه الحال؟ أفتونا جزاكم الله خيرا.
جـ1: أولا المشروع لكل مسلم ومسلمة التبليغ عن الله سبحانه وتعالى لما سمع من الخير كما دل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها (1) » وقال عليه الصلاة والسلام: «بلغوا عني ولو آية (2) » وكان إذ خطب الناس وذكرهم يقول: «فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع (3) » فأنا أوصيكم جميعا أن تبلغوا ما سمعتم من الخير عن بصيرة وتثبت. فكل من سمع علما وحفظه يبلغ أهل بيته وإخوانه ومجالسيه ما يرى فيه الخير من ذلك مع العناية بضبط ذلك وعدم التكلم بشيء لم يحفظه حتى يكون من المتواصين بالحق ومن الدعاة إلى الخير.
أما الموظفون الذين لا يؤدون أعمالهم أو لا ينصحون فيها فقد سمعتم أن من خصال الإيمان أداء الأمانة ورعايتها كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (4) فالأمانة من أعظم خصال الإيمان والخيانة من أعظم خصال النفاق، كما قال الله سبحانه في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (5) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6)
__________
(1) سنن ابن ماجه كتاب المناسك (3056) ، مسند أحمد بن حنبل (4/80) ، سنن الدارمي المقدمة (227) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461) ، سنن الترمذي العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (2/159) ، سنن الدارمي المقدمة (542) .
(3) صحيح البخاري الحج (1741) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، سنن ابن ماجه المقدمة (233) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .
(4) سورة النساء الآية 58
(5) سورة المؤمنون الآية 8
(6) سورة الأنفال الآية 27(5/39)
فالواجب على الموظف أن يؤدي الأمانة بصدق وإخلاص وعناية، وحفظا للوقت حتى تبرأ الذمة ويطيب الكسب ويرضي ربه وينصح لدولته في هذا الأمر أو للشركة التي هو فيها أو لأي جهة يعمل فيها، هذا هو الواجب على الموظف أن يتقي الله وأن يؤدي الأمانة بغاية الإتقان وغاية النصح، يرجو ثواب الله ويخشى عقابه ويعمل بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (1)
ومن خصال أهل النفاق الخيانة في الأمانات كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان (2) » متفق عليه، فلا يجوز للمسلم أن يتشبه بأهل النفاق بل يجب عليه أن يبتعد عن صفاتهم وأن يحافظ على أمانته وأن يؤدي عمله بغاية العناية ويحفظ وقته ولو تساهل رئيسه ولو لم يأمره رئيسه فلا يقعد عن العمل أو يتساهل فيه بل ينبغي أن يجتهد حتى يكون خيرا من رئيسه في أداء العمل والنصح في الأمانة وحتى يكون قدوة حسنة لغيره.
__________
(1) سورة النساء الآية 58
(2) صحيح البخاري الإيمان (33) ، صحيح مسلم الإيمان (59) ، سنن الترمذي الإيمان (2631) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5021) ، مسند أحمد بن حنبل (2/357) .(5/40)
س2: ما حكم الاختلاط، والاختلاط بالخادمات العاملات في كثير من بيوت المسلمين اليوم، وهل يجوز استقدام خادمة كافرة؟
جـ2: الخادمات خطرهن عظيم والبلية بهن كبيرة. فلا يجوز للمسلم أن يخلو بالأجنبية سواء كانت خادمة أو غيرها كزوجة أخيه وزوجة عمه وأخت زوجته وزوجة خاله وغير ذلك، ولا يخلو بامرأة من جيرانه ولا غيرهن من أجنبيات.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يخلون رجل بامرأة(5/40)
فإن الشيطان ثالثهما (1) » فليس له أن يخلو بامرأة أجنبية لا خادمة ولا غيرها وليس له أن يستقدم خدما كفارا ولا عمالا كفارا ولا خادمات كافرات في هذه الجزيرة.
فهذه الجزيرة لا يستقدم لها إلا المسلمون من الرجال والنساء لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإخراح الكفار منها وأوصى عند موته بذلك. وأن لا يبقى فيها إلا الإسلام فقط. فهي معقل الإسلام وهي منبع الإسلام فلا يجوز أن يستقدم إليها الكفار، فالجزيرة العربية على طولها وعرضها لا يجوز أن يستقدم إليها الكفرة ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بالناس فيما يفعلون من استقدام الكفرة؛ لأن أكثر الخلق لا يتقيدون بحكم الشرع كما قال الله سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (2) إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك كحاجة المسلمين إلى طبيب اضطروا إليه أو عامل اضطروا إليه يرى ولي الأمر استقدامه لمصلحة المسلمين بصفة مؤقتة فلا حرج في ذلك، كما استخدم النبي صلى الله عليه وسلم اليهود في خيبر للضرورة إليهم ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه لما استغنى عنهم.
وكذلك إذا قدموا لمصلحة المسلمين بغير إقامة كالوافدين لبيع البضائع ثم يرجعون لمدة معلومة وأيام معدودة، وخلاصة القول: أنه لا يجوز استخدام غير المسلمين إلا عند الضرورة القصوى التي يراها ولي الأمر.
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2165) ، مسند أحمد بن حنبل (1/18) .
(2) سورة الأنعام الآية 116(5/41)
س3: بعض المسلمين يسافرون للدراسة وغيرها إلى الخارج، فهل يجوز له أن يتزوج بنية الطلاق؟ وما الفرق بينه وبين زواج المتعة؟ أرجو توضيح هذا الأمر وفقكم الله.
جـ3: الزواج في الخارج فيه ضرر عظيم وخطر كبير، فلا يجوز السفر للخارج إلا بشروط مهمة؛ لأن السفر للخارج يعرضه للكفر بالله ويعرضه(5/41)
للمعاصي من شرب الخمر وتعاطي الزنا وغير هذا من الشرور. ولهذا نص العلماء على تحريم السفر إلى بلاد الكفار عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين (1) » فالإقامة بينهم خطيرة جدا سواء كانت للسياحة أو للدراسة أو للتجارة أو غير ذلك. فهؤلاء المسافرون من الطلبة من الثانوي والمتوسط أو للدراسة الجامعية على خطر عظيم والواجب على الدولة - وفقها الله - أن تؤمن لهم الدراسة في الداخل وليس لها أن تسمح لهم بالسفر إلى الخارج لما فيه من الخطر العظيم.
وقد نشأ عن ذلك شر كثير من الردة والتساهل بالمعاصي من الزنا وشرب الخمور وأعظم من ذلك ترك الصلوات، كما هو معلوم عند من سبر أحوال من يسافر للخارج إلا من رحم الله منهم وهم القليل. فالواجب منعهم من ذلك وأن لا يسافر إلا الرجال المعروفون بالدين والإيمان والعلم والفضل إذا كان ذلك للدعوة إلى الله أو التخصص لأمور تحتاجها الدولة الإسلامية.
وعلى المسافر المعروف بالعلم والفضل والإيمان واجب الاستقامة حتى يدعو إلى الله على بصيرة ويتعلم ما بعث من أجله، وقد يستثنى من ذلك ما يضطر إليه من العلوم وليس له من يدرسه ولا يتيسر استقدام من يدرسه، وأن يكون المبتعث ممن عرف بالدين والإيمان والعلم والفضل كما ذكرنا آنفا.
أما الزواج بنية الطلاق ففيه خلاف بين العلماء، منهم من كره ذلك كالأوزاعي رحمه الله وجماعة وقالوا إنه يشبه المتعة فليس له أن يتزوج بنية الطلاق عندهم. وذهب الأكثرون من أهل العلم كما قال الموفق ابن قدامة رحمه الله في المغني إلى جواز ذلك إذا كانت النية بينه وبين ربه فقط وليس بشرط، كأن يسافر للدارسة أو أعمال أخرى وخاف على نفسه فله أن يتزوج ولو نوى طلاقها إذا انتهت مهمته، وهذا هو الأرجح إذا كان ذلك بينه وبين ربه فقط من دون مشارطة ولا إعلام للزوجة ولا وليها بل بينه وبين الله.
فجمهور أهل العلم يقولون لا بأس بذلك كما تقدم وليس من المتعة في شيء؛ لأنه بينه وبين الله، ليس في ذلك مشارطة.
__________
(1) سنن الترمذي السير (1604) ، سنن أبو داود الجهاد (2645) .(5/42)
أما المتعة ففيها المشارطة شهرا أو شهرين أو سنة أو سنتين بينه وبين أهل الزوجة أو بينه وبين الزوجة. وهذا النكاح يقال له نكاح متعة وهو حرام بالإجماع ولم يتساهل فيه إلا الرافضة.
وكان مباحا في أول الإسلام ثم نسخ وحرمه الله إلى يوم القيامة كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما أن يتزوج في بلاد سافر إليها للدراسة أو لكونه سفيرا أو لأسباب أخرى تسوغ له السفر إلى بلاد الكفار فإنه يجوز له النكاح بنية الطلاق إذا أراد أن يرجع كما تقدم إذا احتاج إلى الزواج خوفا على نفسه. ولكن ترك هذه النية أولى احتياطا للدين وخروجا من خلاف العلماء، ولأنه ليس هناك حاجة إلى هذه النية؛ لأن الزوج ليس ممنوعا من الطلاق إذا رأى المصلحة في ذلك ولو لم ينوه عند النكاح.(5/43)
س4: ما رأيكم في المجلات التي تباع في الأسواق وعليها صور النساء متبرجات فاتنات؟ وهل يجوز بيعها؟
جـ4: جميع المجلات والصحف يجب أن تمنع إذا كانت تشتمل على صور النساء؛ لأنها فتنة. ووافقت الدولة والحمد لله على ذلك وكذا وزير الإعلام قد صدر منه الأمر بمنع ذلك. فالواجب على الجميع التعاون لحماية المسلمين من هذه المجلات والصحافة التي تنشر الرذائل والصور الخليعة سواء كانت داخلية أو خارجية؛ لأن ذلك منكر يجب القضاء عليه بواسطة المسئولين عن ذلك.
والواجب على وزارة الإعلام والمراقبة الدينية متابعة ذلك وعمل ما يلزم للقضاء عليه. سدد الله خطاهم ووفقهم لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد إنه سميع قريب.(5/43)
س5: توجد امرأة مريضة بمرض نفسي، وقال لها الناس إن المريض إذا أصابه مرض صعب تقرأ سورة الزلزلة في قراية أما شفي أو مات.
وطلبت من يقرأ لها وشربت من القراءة، وبعد فترة حملت وشربت من القراءة فولد الطفل سليما. وبعد فطامه حملت بآخر. وفي الشهر التاسع جاءها المرض مرة أخرى وشربت من القراءة ولكن في نفس اليوم ولدت طفلا ميتا. وبعد فترة حملت بواحد آخر؛ وعاودها المرض وشربت من نفس القراءة، وفي الشهر الثامن شربت من القراءة وولد الولد ميتا.
وبعد فترة حملت، في شهرها السابع أحست بمرض وشربت منها وفي الليلة التي بعدها ولدت طفلة حية. وقد سمعت من الناس أن سورة الزلزلة تسقط الأطفال وفي القراءة حبة سوداء أو الحبة السوداء تسقط الطفل وهي لا تعلم هذا. فهل يلحقها شيء من الأطفال الذين ماتوا؟
جـ5: أولا: ما يقول الناس عن سورة الزلزلة أنها تشفي المريض أو يموت وما قالوه أنها تسقط الولد كله لا أصل له بل هو من خرافات العامة الباطلة.
ثانيا: ليس على المرأة المذكورة فدية ولا كفارة؛ لأن عملها ليس سببا لموتهما.(5/44)
س6:
ما هي الأشياء التي تستطيع المرأة المسلمة كشفها أمام المرأة الكافرة كالبوذية مثلا وهل صحيح أنه لا يجوز لها إلا كشف وجهها؟
ج6: الصحيح أن المرأة تكشف للمرأة سواء كانت مسلمة أو كافرة ما فوق السرة وتحت الركبة. أما ما بين السرة والركبة فهو عورة في حق الجميع لا تراه المرأة من المرأة سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة قريبة أو بعيدة كالعورة للرجل مع الرجل.
فللمرأة أن ترى من المرأة صدرها ورأسها(5/44)
وساقها ونحو ذلك كالرجل يرى من الرجل صدره وساقه ورأسه. وأما قول بعض أهل العلم أن المرأة الكافرة لا تكشف لها المؤمنة فهو قول مرجوح في أصح قولي العلماء لأن اليهوديات كن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا الوثنيات يدخلن على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لحاجتهن ولم يحفظ أنهن كن يتحجبن منهن وهن أتقي النساء وأفضلهن.(5/45)
س7: من تجب تغطية الوجه عنه؟
جـ7: تجب تغطية الوجه عن الرجل الأجنبي وهو من ليس محرما للمرأة في أصح قولي العلماء سواء كان الأجنبي ابن عم وابن خال أو من الجيران أو من غيرهم لقوله تعالى يخاطب المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يأتي بعدهم: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (1)
وهذا يعم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من المؤمنات كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} (2) والجلباب ما يوضع على الرأس والبدن فوق الثياب وهو الذي تغطي به النساء الرأس والوجه والبدن كله وما يوضع على الرأس يقال له خمار. فالمرأة تغطي بالجلباب رأسها ووجهها وجميع بدنها فوق الثياب كما تقدم، وقال الله جل وعلا: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} (3) الآية، فقوله {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (4) فسره ابن مسعود رضي الله عنه
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) سورة الأحزاب الآية 59
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة النور الآية 31(5/45)
وجماعة بالملابس الظاهرة وفسره قوم بالوجه والكفين، والأول أصح لأنه هو الموافق للأدلة الشرعية وللآيتين السابقتين وحمل بعضهم قول من فسره بالوجه والكفين إن هذا كان قبل وجوب الحجاب؛ لأن المرأة كانت في أول الإسلام تبدي وجهها وكفيها للرجال ثم نزلت آية الحجاب فمنعن من ذلك ووجب عليهن ستر الوجه والكفين في جميع الأحوال ثم قال سبحانه: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (1) والخمر جمع خمار وهو ما يستر به الرأس وما حوله، سمي خمارا لأنه يستر ما تحته، كما سميت الخمر خمرا لأنها تستر العقول وتغيرها.
والجيب: الشق الذي يخرج منه الرأس، فإذا ألقت الخمار على وجهها ورأسها فقد سترت الجيب وإذا كان هناك شيء من الصدر سترته أيضا ثم قال تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (2) إلى آخر الآية، والزينة تشمل الوجه والرأس وبقية البدن فيجب على المرأة أن تغطي هذه الزينة حتى لا تفتن ولا تفتن، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما سمعت صوت صفوان بن معطل فخمرت وجهي وكان قد رآني قبل الحجاب فعلم بذلك أن النساء بعد نزول آية الحجاب مأمورات بستر الوجه وأنه من الحجاب المراد في الآية الكريمة وهي قوله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (3) الآية.
وأما ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن أسماء «إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه (4) » فهو حديث ضعيف لا يجوز الاحتجاج به لعلل منها:
انقطاعه بين عائشة والراوي عنها، ومنها: ضعف بعض رواته وهو سعيد بن بشير، ومنها: تدليس قتادة رحمه الله وقد عنعن، ومنها: مخالفته للأدلة الشرعية من الآيات والأحاديث الدالة على وجوب تحجب المرأة في وجهها وكفيها وسائر بدنها، ومنها: أنه لو صح وجب حمله على أن ذلك قبل نزول آية الحجاب جميعا بين الأدلة. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة الأحزاب الآية 53
(4) سنن أبو داود اللباس (4104) .(5/46)
س8: ما حكم ما أعلن في مؤتمر عقد في أمريكا ومن ضمن توصياته التنبيه على بعض المنتجات لأنها تحوي لحم الخنزير. ومن تلكم المنتجات صابون ومعجون وجبن. . إلخ مع رجاء التوجيه. وهل لديكم علم عن هذا المؤتمر، وعن تلكم المنتجات؟
جـ8: قد وجه إلينا أسئلة عن هذه الأشياء التي ذكرها السائل من المنتجات وما حصل في هذا المؤتمر وأحيل إلى الجهات المختصة هنا في المملكة فذكرت أنه لم يرد إلى المملكة شيء من ذلك ولم يثبت لدينا شيء في ذلك يخالف ما ذكرته الجهات المختصة في المملكة مما يدعى أنه من لحم الخنزير أو من شحمه فيما يرد إلى هذه المملكة من طعام أهل الكتاب. والأصل الحل حتى يثبت ما يخالف ذلك لقول الله عز جل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (1) والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 172(5/47)
تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1)
__________
(1) سورة فاطر الآية 28(5/47)
س: نرجو تفسير قوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1)
جـ: هذه الآية آية عظيمة وهي تدل على أن العلماء بالله وبدينه وبكتابه العظيم وسنة رسوله الكريم هم أشد الناس خشية لله وأكملهم خوفا منه سبحانه، فالمعنى: إنما يخشى الله الخشية الكاملة هم العلماء بالله الذين عرفوا ربهم بأسمائه وصفاته وعظيم حقه وتبصروا في شريعته وعرفوا ما عنده من النعيم لمن اتقاه والعذاب لمن خالفه وعصاه، فهم لكمال علمهم بالله هم أشد الناس خشية لله وأكمل الناس خوفا من الله وعلى رأسهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهم أكمل الناس خشية لله سبحانه وتعظيما له ثم خلفاؤهم العلماء بالله وبدينه. وهم على مراتب في ذلك متفاوتة، وليس معنى الآية أن غيرهم لا يخشى الله فكل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة يخشى الله عز وجل لكن خشية الله فيهم متفاوتة فكلما كان المؤمن أبصر بالله وأعلم به وبدينه كان خوفه لله أكثر كلما قل العلم وقلت البصيرة قل الخوف من الله وقلت الخشية منه سبحانه، فالناس متفاوتون في هذا الباب تفاوتا عظيما حتى العلماء متفاوتون في خشيتهم لله كما تقدم، فكلما زاد العلم زادت الخشية لله وكلما نقص العلم نقصت الخشية لله ولهذا يقول عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (2) {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (3) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (4)
__________
(1) سورة فاطر الآية 28
(2) سورة البينة الآية 7
(3) سورة البينة الآية 8
(4) سورة الملك الآية 12(5/48)
والآيات في هذا المعنى كثيرة وبالله التوفيق.(5/49)
شرح معنى قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (1)
س: لقد قال الله تعالى في كتابه العزيز {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (2) ما المقصود بالمنافقين والنفاق في هذه الآية الكريمة وأرجو أن تتفضلوا بإيضاح المعنى.
جـ: المراد بالمنافقين هم الذين يتظاهرون بالإسلام وهم على غير الإسلام يدعون أنهم مسلمون وهم في الباطن يكفرون بالله ويكذبون الرسول عليه الصلاة والسلام، هؤلاء هم المنافقون سموا منافقين؛ لأنهم أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر كما في قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (3) {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (4) {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} (5) (أي شك وريب) {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (6) والآيات بعدها من سورة البقرة.
هؤلاء هم المنافقون وهم يكفرون بالله ويكذبون رسله في قوله جل وعلا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (7) {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (8)
__________
(1) سورة النساء الآية 145
(2) سورة النساء الآية 145
(3) سورة البقرة الآية 8
(4) سورة البقرة الآية 9
(5) سورة البقرة الآية 10
(6) سورة البقرة الآية 10
(7) سورة النساء الآية 142
(8) سورة النساء الآية 143(5/49)
والمعنى أنهم مترددون بين الكفار والمسلمين تارة مع الكفار إذا ظهر الكفار وانتصروا، وتارة مع المؤمنين إن ظهروا وانتصروا، فليس عندهم ثبات ولا دين مستقيم ولا إيمان ثابت بل هم مذبذبون بين الكفر والإيمان وبين الكفار والمسلمين، وقد صرح الله بكفرهم في قوله تعالى {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} (1) {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (2) هؤلاء هم المنافقون. نسأل الله العافية والسلامة.
__________
(1) سورة التوبة الآية 54
(2) سورة التوبة الآية 55(5/50)
إثبات اليد والقدرة جميعا لله سبحانه وتعالى(5/50)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم الشيخ ع. أ. م وفقه الله آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بعده:
اطلعت على ما ذكرتم في الرسالة المرفقة من جهة كلام الحافظ ابن حجر على قول عبد الله بن مسعود؛ والذي نفسي بيده. . إلخ؛ وأن المراد باليد القدرة وفهمته. ولا شك أنه كلام ناقص مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة. والصواب: أن ما ورد في هذا من الأحاديث والآثار يراد به إثبات اليد والقدرة جميعا فهي تدل على أن بيده كل شيء سبحانه وله القدرة الكاملة، كما تدل على إثبات اليد له سبحانه على الوجه اللائق به من غير أن يشابه خلقه في شيء من صفاته. وقد دل على هذا المعنى قوله تعالى في سورة المائدة {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (1) الآية، وقوله سبحانه في سورة (ص) : {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (2) وقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل (3) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع ثم يأخذهن بشماله ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ (4) » والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
2 - وأما السؤال عن قول الحافظ في الرد على من قال إن حرف (لا) في قوله، (لا أقسم) أنها زائدة، وتعقب بأنها لا تزاد إلا في أثناء الكلام، وأجيب
__________
(1) سورة المائدة الآية 64
(2) سورة ص الآية 75
(3) صحيح مسلم التوبة (2759) ، مسند أحمد بن حنبل (4/404) .
(4) صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2788) ، سنن ابن ماجه الزهد (4275) .(5/51)
بأن القرآن كله كالكلام الواحد.
والجواب: أني لا أعلم بأسا في مثل هذا الكلام من جهة أن القرآن كله كلام الله وكله محترم ومعظم وكله يفسر بعضه بعضا ويدل بعضه على بعض، لكن ليس هذا الجواب بسديد، والصواب أنها تزاد حيث وضح المعنى ولو كان ذلك في أول الكلام، كما في قوله تعالى في آخر سورة الحديد {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} (1) الآية، وقوله تعالى في سورة الأنعام، {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (2) وما أشبه ذلك وهكذا قوله سبحانه {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (3) و {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} (4) المراد بذلك في هاتين الآيتين وأمثالهما نفي ما يقوله المشركون من التعلق على غير الله والتقرب إلى آلهتهم بأنواع العبادة ليشفعوا لهم عند الله وإنكارهم المعاد. ثم أثبت بعد ذلك إقسامه سبحانه بما أقسم به من يوم القيامة والنفس اللوامة في السورة الأولى وبالبلد الأمين وما بعده في السورة الثانية على ما ذكره سبحانه بعد ذلك في السورتين، ويجوز أن يقال: إن هذا الحرف جيء به للافتتاح لا لنفي شيء كما في الحروف المقطعة الأخرى في أول السور نحو (ألم) و (ألر) و (حم) وأشباه ذلك. وهذا هو معنى ما ذكره الإمام ابن جرير والحافظ ابن كثير.
3 - وأما ما رواه الحافظ عمر بن شبة في تاريخ المدينة من قول عمر رضي الله عنه أنه وجد من عبد الله بن عمر ريح شراب. . إلخ
فالصواب: أنه عبيد الله وليس عبد الله المشهور، ولكن وقع في اسمه تصحيف كما يدل على ذلك
__________
(1) سورة الحديد الآية 29
(2) سورة الأنعام الآية 151
(3) سورة القيامة الآية 1
(4) سورة البلد الآية 1(5/52)
روايات أخرى بينت أنه عبيد الله المصغر، وهو تابعي وليس بصحابي غفر الله للجميع.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/53)
إثبات المجيء والنزول لله سبحانه وتعالى(5/53)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ س. خ وفقه الله لما فيه رضاه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد.
فقد وصلني كتابكم الكريم الذي ذكرتهم فيه أنكم أثناء تحقيقكم لكتاب (فضائل الأوقات) للبيهقي مر عليكم هذا النص: سمعت أبا عبد الله الحافظ يقول: سمعت أبا محمد أحمد بن عبد الله المزي يقول: حديث النزول قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه صحيحة، وورد في النزول ما يصدقه وهو قوله {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (1) والنزول والمجيء صفتان منفيتان عن الله من طريق الحركة والانتقال من حال إلى حال، بل هما صفتان من صفات الله بلا تشبيه جل عما يقول المعطلة لصفاته والمشبهة بها علوا كبيرا. أهـ.
ولا شك أن هذا القول باطل مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة، فإن الله سبحانه قد أثبت لنفسه المجيء وكما أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم بالنزول ولم يبين لنا سبحانه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم كيفية النزول ولا كيفية المجيء فوجب الكف عن ذلك. كما وسع السلف الصالح رضي الله عنهم ذلك، ولم يزيدوا على ما جاء في النصوص.
فالواجب السير على منهاجهم ولزوم طريقهم في إثبات الصفات الواردة في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة بلا كيف. مع الإيمان بأنه سبحانه لا كفو له ولا شبيه له ولا مثيل له كما قال عز وجل {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (2)
__________
(1) سورة الفجر الآية 22
(2) سورة الإخلاص الآية 4(5/54)
{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} (1) ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) ومعلوم أن نفي الحركة والانتقال دخول في التكييف بغير علم ونحن ممنوعون من ذلك لعدم علمنا بكيفية صفاته سبحانه، لأنه عز وجل لم يخبرنا بذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل به والثبات على الحق والسلامة من مضلات الفتن إنه سميع قريب. .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. .
__________
(1) سورة النحل الآية 74
(2) سورة الشورى الآية 11(5/55)
حكم الاحتفال بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بمناسبة المولد النبوي(5/55)
س: هل يحل للمسلمين أن يحتفلوا في المسجد ليتذكروا السيرة النبوية الشريفة في ليلة 12 ربيع الأول بمناسبة المولد النبوي الشريف بدون أن يعطلوا نهاره كالعيد؟ واختلفنا فيه، قيل: بدعة حسنة، وقيل: بدعة غير حسنة؟
جـ: ليس للمسلمين أن يقيموا احتفالا بمولد النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة 12 من ربيع الأول ولا في غيرها، كما أنه ليس لهم أن يقيموا أي احتفال بمولد غيره عليه الصلاة والسلام؛ لأن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بمولده في حياته صلى الله عليه وسلم وهو المبلغ للدين والمشرع للشرائع عن ربه سبحانه وتعالى ولا أمر بذلك ولم يفعله خلفاؤه الراشدون ولا أصحابه جميعا ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، فعلم أنه بدعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق على صحته، وفي رواية مسلم وعلقها البخاري جازما بها «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » .
والاحتفال بالموالد ليس عليه أمره صلى الله عليه وسلم بل هو مما أحدثه الناس في دينه في القرون المتأخرة فيكون مردودا، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (3) » رواه مسلم في صحيحه، وأخرجه النسائي بإسناد جيد وزاد: «وكل ضلالة في النار (4) »
ويغني عن الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم تدريس سيرته عليه الصلاة والسلام وتاريخ حياته في الجاهلية والإسلام في المدارس والمساجد وغير ذلك، ويدخل في ذلك بيان ما يتعلق بمولده صلى الله عليه وسلم وتاريخ وفاته من غير حاجة إلى إحداث احتفال لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يقم عليه دليل شرعي. .
والله المستعان ونسأل الله تعالى لجميع المسلمين الهداية والتوفيق للاكتفاء بالسنة والحذر من البدعة.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(4) سنن النسائي صلاة العيدين (1578) .(5/56)
من أكثر من ذكر الله اطمأن قلبه وارتاح ضميره (1)
__________
(1) نشر في الدعوة عدد 1318في 2\5 \1410 هـ.(5/56)
س: عندما كنت في سن المراهقة كنت مرهقا لنفسي بالمعاصي ولكني لم أكن أترك واجبات الإسلام كالصلاة، وأنا الآن تائب إلى الله من جميع المعاصي بشكل عام ولكني فاقد لحلاوة الإيمان وأعيش في حيرة وقلق، فحينما أتشهد أحس أن الشهادة لا تصل إلى قلبي، وأنا خائف من أن الله أن يختم على قلبي وأرجو إرشادي أثابكم الله.
م. ع. ك. الرياض
جـ: نوصيك بحمد الله كثيرا على ما من به عليك من التوبة، وأكثر من الأعمال الصالحات وأحسن ظنك بربك، وأكثر من ذكر الله وقراءة القرآن بالتدبر واصحب الأخيار وابتعد عن الأشرار وأبشر بالخير وحسن العاقبة وستجد إن شاء الله بعد العمل بما ذكرته لك حلاوة الإيمان ولذة الشهادتين وثمرة التوبة النصوح. قال الله عز وجل {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (1) وقال سبحانه {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم «الإسلام يهدم ما كان قبله والتوبة تهدم ما كان قبلها (3) » وقال عليه الصلاة والسلام «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (4) » .
فمن أكثر من ذكر الله وصدق في التوبة حصل له الفلاح والطمأنينة وراحة الضمير ومحيت عنه سيئاته. ثبتك الله على الهدى ومنحك الاستقامة إنه خير مسئول.
__________
(1) سورة الرعد الآية 28
(2) سورة النور الآية 31
(3) صحيح مسلم الإيمان (121) .
(4) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .(5/57)
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1)
__________
(1) أصل الموضرع محاضرة(5/57)
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. . أما بعد:
فإن من أهم المهمات وأفضل القربات التناصح والتوجيه إلى الخير والتواصي بالحق والصبر عليه، والتحذير مما يخالفه ويغضب الله عز وجل، ويباعد من رحمته، وأسأله عز وجل أن يصلح قلوبنا وأعمالنا وسائر المسلمين، وأن يمنحنا الفقه في دينه، والثبات عليه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح جميع ولاة أمور المسلمين، ويوفقهم لكل خير، ويصلح لهم البطانة، ويعينهم على كل ما فيه صلاح العباد والبلاد، ويمنحهم الفقه في الدين، ويشرح صدورهم لتحكيم شريعته، والاستقامة عليها إنه ولي ذلك، والقادر عليه.
أيها المسلمون: إن موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موضوع عظيم، جدير بالعناية؛ لأن في تحقيقه مصلحة الأمة ونجاتها، وفي إهماله الخطر العظيم والفساد الكبير، واختفاء الفضائل، وظهور الرذائل، وقد أوضح الله جل وعلا في كتابه العظيم منزلته في الإسلام، وبين سبحانه أن منزلته عظيمة، حتى إنه سبحانه في بعض الآيا ت قدمه على الإيمان، الذي هو أصل الدين وأساس الإسلام، كما في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) ولا نعلم السر في هذا
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110(5/58)
التقديم، إلا عظم شأن هذا الواجب، وما يترتب عليه من المصالح العظيمة العامة، ولا سيما في هذا العصر، فإن حاجة المسلمين وضرورتهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شديدة؛ لظهور المعاصي، وانتشار الشرك والبدع في غالب المعمورة،
وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه وفي عهد السلف الصالح يعظمون هذا الواجب، ويقومون به خير قيام، فالضرورة إليه بعد ذلك أشد وأعظم، لكثرة الجهل وقلة العلم وغفلة الكثير من الناس عن هذا الواجب العظيم.
وفي عصرنا هذا صار الأمر أشد، والخطر أعظم، لانتشار الشرور والفساد، وكثرة دعاة الباطل، وقلة دعاة الخير في غالب البلاد كما تقدم، ومن أجل هذا أمر الله سبحانه وتعالى به، ورغب فيه، وقدمه في آية آل عمران على الإيمان، وهي قوله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (1) الآية، يعني أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فهي خير الأمم وأفضلها عند الله، كما في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل (2) » .
والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر موجود في الأمم السابقة، بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب.
وأصل المعروف توحيد الله، والإخلاص له، وأصل المنكر الشرك بالله، وعبادة غيره.
وجميع الرسل بعثوا يدعون الناس إلى توحيد الله، الذي هو أعظم المعروف، وينهون الناس عن الشرك بالله، الذي هو أعظم المنكر.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سنن الترمذي تفسير القرآن (3001) ، سنن ابن ماجه الزهد (4288) ، سنن الدارمي الرقاق (2760) .(5/59)
ولما فرط بنو إسرائيل في ذلك وأضاعوه، قال الله جل وعلا في حقهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1) ثم فسر هذا العصيان فقال سبحانه {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2) فجعل هذا من أكبر عصيانهم واعتدائهم، وجعله التفسير لهذه الآية {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (3) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (4) وما ذلك إلا لعظم الخطر في ترك هذا الواجب.
وأثنى الله جل وعلا على أمة منهم في ذلك فقال سبحانه في سورة آل عمران: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (5) {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (6) {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (7) هذه طائفة من أهل الكتاب لم يصبها ما أصاب الذين ضيعوه، فأثنى الله عليهم سبحانه وتعالى في ذلك، وفي آية أخرى من كتاب الله عز وجل في سورة التوبة قدم سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وما ذلك إلا لعظم شأنه.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، ومع ذلك قدمه في هذه الآية على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (8)
__________
(1) سورة المائدة الآية 78
(2) سورة المائدة الآية 79
(3) سورة المائدة الآية 78
(4) سورة المائدة الآية 79
(5) سورة آل عمران الآية 113
(6) سورة آل عمران الآية 114
(7) سورة آل عمران الآية 115
(8) سورة التوبة الآية 71(5/60)
فقدم هنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقام الصلاة، مع أن الصلاة عمود الإسلام، وهي أعظم الأركان بعد الشهادتين، فلأي معنى قدم هذا الواجب؟
لا شك أنه قدم لعظم الحاجة إليه وشدة الضرورة إلى القيام به، ولأن بتحقيقه تصلح الأمة، ويكثر فيها الخير وتظهر فيها الفضائل وتختفي منها الرذائل، ويتعاون أفرادها على الخير، ويتناصحون ويجاهدون في سبيل الله، ويأتون كل خير ويذرون كل شر، وبإضاعته والغفلة عنه تكون الكوارث العظيمة، والشرور الكثيرة، وتفترق الأمة، وتقسو القلوب أو تموت، وتظهر الرذائل وتنتشر، وتختفي الفضائل ويهضم الحق، ويظهر صوت الباطل، وهذا أمر واقع في كل مكان وكل دولة وكل بلد وكل قرية لا يؤمر فيها بالمعروف ولا ينهى فيها عن المنكر، فإنه تنتشر فيها الرذائل وتظهر فيها المنكرات ويسود فيها الفساد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبين سبحانه أن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمقيمين للصلاة والمؤتين للزكاة والمطيعين لله ولرسوله هم أهل الرحمة، فقال سبحانه وتعالى: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (1) فدل ذلك على أن الرحمة، إنما تنال بطاعة الله واتباع شريعته، ومن أخص ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تنال الرحمة بالأماني ولا بالأنساب؛ ككونه من قريش أو من بني هاشم أو من بني فلان، ولا بالوظائف؛ ككونه ملكا، أو رئيس جمهورية، أو وزيرا أو غير ذلك من الوظائف، ولا تنال أيضا بالأموال والتجارات، ولا بوجود كثرة المصانع، ولا بغير هذا من شئون الناس، وإنما تنال الرحمة بطاعة الله ورسوله
__________
(1) سورة التوبة الآية 71(5/61)
واتباع شريعته.
ومن أعظم ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله في كل شيء، فهؤلاء هم أهل الرحمة، وهم الذين في الحقيقة يرجون رحمة الله، وهم الذين في الحقيقة يخافون الله ويعظمونه، فما أظلم من أضاع أمره وارتكب نهيه، وإن زعم أنه يخافه ويرجوه، وإنما الذي يعظم الله حقا، ويخافه ويرجوه حقا، من أقام أمره واتبع شريعته، وجاهد في سبيله، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
قال سبحانه في سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} (1) فجعلهم سبحانه راجين رحمة الله، لما آمنوا وجاهدوا وهاجروا لإيمانهم وهجرتهم وجهادهم، ما قال: إن الذين بنو القصور، أو الذين عظمت تجاراتهم، أو تنوعت أعمالهم، أو الذين ارتفعت أنسابهم هم الذين يرجون رحمة الله، بل قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2)
فرجاءالرحمة وخوف العذاب، يكونان بطاعة الله ورسوله، ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي آية أخرى حصر سبحانه الفلاح في الدعاة إلى الخير، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فقال عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) فأبان سبحانه أن هؤلاء الذين هذه صفاتهم وهي: الدعوة إلى الخير، والأمر
__________
(1) سورة البقرة الآية 218
(2) سورة البقرة الآية 218
(3) سورة آل عمران الآية 104(5/62)
بالمعروف والنهي عن المنكر - هم المفلحون، والمعنى أنهم هم المفلحون على الكمال والتمام، وإن كان غيرهم من المؤمنين مفلحا، إذا تخلى عن بعض هذه الصفات لعذر شرعي، لكن المفلحون على الكمال والتمام هم هؤلاء الذين دعوا إلى الخير، وأمروا بالمعروف وبادروا إليه، ونهوا عن المنكر وابتعدوا عنه.
أما الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لأغراض أخرى: كرياء وسمعة، أو حظ عاجل أو أسباب أخرى، أو يتخلفون عن فعل المعروف، ويرتكبون المنكر، فهؤلاء من أخبث الناس، ومن أسوئهم عاقبة.
وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه - أي أمعاؤه - فيدور في النار كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون مالك يا فلان؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال فيقول لهم: بلى؛ ولكني كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه (1) » .
هذه حال من خالف قوله فعله - نعوذ بالله - تسعر به النار، ويفضح على رءوس الأشهاد، يتفرج عليه أهل النار، ويتعجبون كيف يلقى في النار.
هذا ويدور في النار كما يدور الحمار بالرحى، وتندلق أقتاب بطنه، يسحبها، لماذا؟! . لأنه كان يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه، فعلم بذلك أن المقصود الأمر بالمعروف مع فعله، والنهي عن المنكر مع تركه.
وهذا هو الواجب على كل مسلم، وهذا الواجب العظيم أوضح الله شأنه في كتابه الكريم، ورغب فيه، وحذر من تركه، ولعن من تركه.
__________
(1) صحيح البخاري كتاب بدء الخلق (3267) ، صحيح مسلم الزهد والرقائق (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (5/207) .(5/63)
فالواجب على أهل الإسلام أن يعظموه، وأن يبادروا إليه، وأن يلتزموا به طاعة لربهم عز وجل، وامتثالا لأمره، وحذرا من عقابه سبحانه وتعالى.
وقد جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤيد هذا الأمر، وتبين ذلك أعظم بيان وتشرحه، فيقول المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
فبين صلى الله عليه وسلم مراتب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الثلاث: -
المرتبة الأولى: الإنكار باليد مع القدرة، وذلك بإراقة أواني الخمر، وكسر آلات اللهو، ومنع من أراد الشر بالناس وظلمهم من تنفيذ مراده إن استطاع ذلك كالسلطان ونحوه من أهل القدرة، وكإلزام الناس بالصلاة، وبحكم الله الواجب اتباعه ممن يقدر على ذلك، إلى غير هذا مما أوجب الله.
وهكذا المؤمن مع أهله وولده، يلزمهم بأمر الله ويمنعهم مما حرم الله باليد إذا لم ينفع فيهم الكلام.
وهكذا من له ولاية من أمير أو محتسب، أو شيخ قبيلة أو غيرهم ممن له ولاية من جهة ولي الأمر، أو من جهة جماعته، حيث ولوه عليهم، عند فقد الولاية العامة يقوم بهذا الواجب حسب طاقته، فإن عجز انتقل إلى:
المرتبة الثانية: وهي اللسان، يأمرهم باللسان وينهاهم كأن يقول: يا قوم اتقوا الله، يا إخواني اتقوا الله، صلوا وأدوا الزكاة، اتركوا هذا المنكر، افعلوا كذا، دعوا ما حرم الله، بروا والديكم، صلوا أرحامكم، إلى غير هذا، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر باللسان، ويعظهم ويذكرهم، ويتحرى الأشياء التي يفعلونها، حتى ينبههم عليها، ويعاملهم بالأسلوب الحسن، مع الرفق، يقول
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .(5/64)
عليه الصلاة والسلام: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله (1) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (2) » .
«وجاء جماعة من اليهود، فدخلوا عليه صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا محمد - يعنون الموت - وليس مرادهم السلام. . فسمعتهم عائشة رضي الله عنها، فقالت: (عليكم السام واللعنة) . وفي لفظ آخر: (ولعنكم الله، وغضب عليكم) ، فقال صلى الله عليه وسلم: مهلا يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، قالت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: ألم تسمعي ما قلت لهم؟ قلت لهم: وعليكم فإنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا (3) » هذا وهم يهود رفق بهم صلى الله عليه وسلم، لعلهم يهتدون، ولعلهم ينقادون للحق، ولعلهم يستجيبون لداعي الإيمان.
فهكذا الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الموفق، يتحرى الرفق والعبارات المناسبة، والألفاظ الطيبة عندما يمر على من قصر في ذلك، في المجلس أو في الطريق أو في أي مكان يدعوهم بالرفق والكلام الطيب، حتى ولو جادلوه في شيء خفي عليهم، أو كابروا فيه يجادلهم بالتي هي أحسن، كما قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (4) وقال سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (5)
من هم أهل الكتاب؟ هم اليهود والنصارى، وهم كفار، ومع ذلك يقول الله عنهم: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (6) والمعنى أن من ظلم منهم وتعدى وأساء الكلام فإنه ينتقل معه
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6024) ، صحيح مسلم السلام (2165) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2701) ، سنن الدارمي الرقاق (2794) .
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .
(3) صحيح البخاري الاستئذان (6256) ، صحيح مسلم السلام (2165) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2701) .
(4) سورة النحل الآية 125
(5) سورة العنكبوت الآية 46
(6) سورة العنكبوت الآية 46(5/65)
إلى علاج آخر غير الجدال بالتي هي أحسن، كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (1) الآية وقال سبحانه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (2) الآية.
لكن ما دام المقام مقام تعليم ودعوة وإيضاح للحق، فإنه يكون بالتي هي أحسن لأن هذا أقرب إلى الخير، قال سفيان الثوري رحمه الله: ينبغي للآمر والناهي أن يكون رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهي عنه، عدلا فيما يأمر به، عدلا فيما ينهي عنه، عالما بما يأمر به، عالما بما ينهي عنه.
وهذا معنى كلام السلف رحمهم الله، تحري الرفق مع العلم والحلم والبصيرة، لا يأمر ولا ينهي إلا عن علم، لا عن جهل. ويكون مع ذلك رفيقا عاملا بما يدعوه إليه تاركا ما ينهي عنه، حتى يقتدى به.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (3) » .
وهذا الحديث مثل حديث أبي سعيد السابق المتضمن الإنكار باليد، ثم اللسان ثم القلب.
__________
(1) سورة الشورى الآية 40
(2) سورة البقرة الآية 194
(3) صحيح مسلم الإيمان (50) ، مسند أحمد بن حنبل (1/458) .(5/66)
فالخلوف التي تخلف بعد الأنبياء هذا حكمهم في أممهم، فيؤمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويعلمون أحكام الله، ويجاهدون في ذلك باليد ثم اللسان ثم القلب.
وهكذا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم يجب على علمائهم وأمرائهم وأعيانهم وفقهائهم أن يتعهدوهم بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال، وإقامة الحدود والتعزيرات الشرعية، حتى يستقيم الناس، ويلزموا الحق، ويقيموا عليهم الحدود الشرعية، ويمنعوهم من ارتكاب ما حرم الله حتى لا يتعدى بعضهم على بعض، أو ينتهكوا محارم الله.
وقد ثبت " عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، الخليفة الراشد أنه قال: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " ويروي عن عمر رضي الله عنه أيضا.
وهذا صحيح، كثير من الناس لو جئته بكل آية، لم يمتثل، لكن إذا جاءه وازع السلطان بالضرب والسجن ونحو ذلك أذعن، وترك باطله. . لماذا؟! . لأن قلبه مريض، ولأنه ضعيف الإيمان أو معدوم الإيمان. . فلهذا لا يتأثر بالآيات والأحاديث. . لكن إذا خاف من السلطان ارتدع ووقف عند حده، ووازع السلطان له شأن عظيم، ولهذا شرع الله لعباده القصاص والحدود والتعزيرات لأنها تردع عن الباطل، وأنواع الظلم، ولأن الله يقيم بها الحق، فوجب على ولاة الأمور أن يقيموها، وأن يعينوا من يقيمها، وأن يلاحظوا الناس، ويلزموهم بالحق، ويوقفوهم عند حدهم حتى لا يهلكوا، وينقادوا مع تيار الباطل، ويكونوا عونا للشيطان وجنده علينا.
فإذا عجز المؤمن عن الإنكار باليد واللسان انتهي إلى القلب، يكره المنكر بقلبه، ويبغضه ولا يكون جليسا لأهله.(5/67)
وروي " عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال له بعض الناس: هلكت إن لم آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر. . فقال له رضي الله عنه: (هلكت إن لم يعرف قلبك المعروف وينكرالمنكر) ".
فلا بد يا أخي أن تعرف المعروف بالتعلم والتفقه في الدين، ولا بد أن تعرف المنكر بذلك، ثم تقوم بالواجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالتبصر والتفقه في الدين من علامات السعادة ودلائل أن الله أراد بالعبد خيرا، كما في الصحيحين عن معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » .
فإذا رأيت الرجل يتبع حلقات العلم، ويسأل عن العلم، ويتفقه ويتبصر فيه، فذلك من علامات أن الله أراد به خيرا فليلزم ذلك، وليجتهد ولا يمل ولا يضعف، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (2) » رواه الإمام مسلم في صحيحه.
فطلب العلم له شأن عظيم، ومن الجهاد في سبيل الله، ومن أسباب النجاة ومن الدلائل على الخير، ويكون بحضور حلقات العلم، ويكون بمراجعة الكتب المفيدة، إذا كان ممن يفهمها، ويكون بسماع الخطب والمواعظ، ويكون بسؤال أهل العلم. . كل ذلك من الطرق المفيدة، ويكون أيضا بحفظ القرآن الكريم، وهو الأصل في العلم، فالقرآن رأس كل علم، وهو الأساس العظيم، وهو حبل الله المتين، وهو أعظم كتاب وأشرف كتاب، وهو أعظم قائد إلى الخير، وأعظم ناه عن الشر.
فوصيتي لكل مؤمن ولكل مؤمنة العناية بالقرآن والإكثار من تلاوته والحرص على حفظه أو ما تيسر منه، مع التدبر والتعقل، ففيه الهدى والنور
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(5/68)
كما قال سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) وقال عز من قائل: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) ويقول تبارك وتعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (3)
فعلينا أن نعنى بكتاب الله، تلاوة وحفظا، وتدبرا وتفقها، وعملا وسؤالا عما أشكل، وهكذا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، هي الوحي الثاني، وهي الأصل الثاني، وهي المفسرة لكتاب الله، والدالة عليه، فعلى طالب العلم، وعلى كل مسلم أن يعنى بذلك حسب طاقته، وحسب علمه بالحفظ والمراجعة، كحفظ الأربعين النووية وتكملتها لابن رجب خمسين حديثا، وهي من أجمع الأحاديث وأنفعها، وهي من جوامع الكلم، فينبغي حفظها للرجل والمرأة، ومثل ذلك عمدة الحديث للحافظ عبد الغني المقدسي، كتاب عظيم جمع أربعمائة حديث وزياده يسيرة من أصح الأحاديث في أبواب العلم. . فإذا تيسر حفظها فذلك من نعم الله العظيمة.
وهكذا بلوغ المرام للحافظ ابن حجر، كتاب عظيم مختصر، ومفيد محرر، فإذا تيسر لطالب العلم حفظه فذلك خير عظيم.
ومما يتعلق بكتب العقيدة: كتابان جليلان للشيخ الإمام محمد عبد الوهاب رحمه الله هما: كتاب التوحيد، وكتاب كشف الشبهات.
ومن كتب العقيدة المهمة كتاب العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة الأنعام الآية 155
(3) سورة محمد الآية 24(5/69)
فهو كتاب جليل مختصر عظيم الفائدة في مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة، وكتاب الإيمان لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب كتاب عظيم، جمع فيه جملة من الأحاديث المتعلقة بالإيمان، فينبغي لطالب العلم وطالبة العلم أن يحفظا ما تيسر من هذه الكتب المفيدة وأشباهها، مع العناية بالقرآن الكريم والإكثار من تلاوته وحفظه، أو ما تيسر منه كما تقدم، ومع العناية بالمذاكرة مع الزملاء وسؤال المدرسين والعلماء الذين يعتقد فيهم الخير والعلم عما أشكل عليه، ويسأل ربه التوفيق والإعانة، ولا يضعف ولا يكسل ويحفظ وقته ويجعله أجزاء: جزء من يومه وليلته لتلاوة القرآن الكريم وتدبره، وجزء لطلب العلم والتفقه في الدين وحفظ المتون ومراجعة ما أشكل عليه، وجزء لحاجته مع أهله، وجزء لصلاته وعبادته، وأنواع الذكر والدعاء.
ومما يفيد طالب العلم وطالبة العلم فائدة عظيمة الاستماع لبرنامج نور على الدرب، فهو برنامج مفيد لطالب العلم وعامة المسلمين وغيرهم؛ لأن فيه أسئلة وأجوبة مهمة لجماعة من المشايخ المعروفين بالخير والعلم، فينبغي العناية بهذا البرنامج، واستماع ما فيه من فائدة، وهو يذاع مرتين في كل ليلة، بين المغرب والعشاء من نداء الإسلام، والساعة التاسعة والنصف من إذاعة القرآن الكريم.
ومما يتعلق بموضوعنا - موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - ما ورد في الحديث أيضا عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: يقول الله عز وجل: «مروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أستجيب لكم، وقبل أن تسألوني فلا أعطيكم، وقبل أن تستنصروني فلا أنصركم (1) » .
وفي لفظ آخر من حديث حذيفة يقول عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (6/159) .(5/70)
عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم (1) » . رواه الإمام أحمد.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المهمات العظيمة كما سبق، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود والترمذي يقول عليه الصلاة والسلام: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم وآكلوهم وشاربوهم فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم ببعض ثم لعنهم على لسان أنبيائهم داود وعيسى ابن مريم (3) » ، وفي لفظ آخر: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تفعل من المعاصي ثم يلقاه في الغد فلا يمنعه ما رآه منه أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم (4) » .
فعلينا أن نحذر من أن يصيبنا ما أصاب أولئك، وقد جاء في بعض الأحاديث أن إهمال هذا الواجب وعدم العناية به - أعني واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - من أسباب رد الدعاء وعدم النصر كما تقدم.
ولا شك أن هذه مصيبة عظيمة، من عقوبات ترك هذا الواجب أن يخذل المسلمون وأن يتفرقوا وأن يسلط عليهم أعداؤهم، وأن لا يستجاب دعاؤهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد يكون هذا الواجب فرض عين على بعض الناس، إذا رأى المنكر، وليس عنده من يزيله غيره، فإنه يجب عليه أن يزيله مع القدرة، لما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2169) .
(2) سنن الترمذي تفسير القرآن (3047) .
(3) سورة البقرة الآية 61 (2) {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
(4) سنن أبو داود الملاحم (4336) ، سنن ابن ماجه الفتن (4006) .(5/71)
لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » خرجه مسلم في الصحيح.
أما إن كانوا جماعة فإنه يكون في حقهم فرض كفاية في البلد أو القرية أو القبيلة، فمن أزاله منهم حصل به المقصود وفاز بالأجر. . وإن تركوه جميعا أثموا كسائر فروض الكفايات. وإذا لم يكن في البلد أو القبيلة إلا عالم واحد وجب عليه عينا أن يعلم الناس، ويدعوهم إلى الله، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر حسب طاقته، لما تقدم من الأحاديث، ولقوله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2)
ومن وفقه الله للصبر والاحتساب من العلماء والدعاة، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والإخلاص لله، نجح ووفق وهدى ونفع الله به، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (4) وقال تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (5) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (6) وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ} (7) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (8) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (9)
فالرابحون الناجون في الدنيا والآخرة هم أهل الإيمان والعمل الصالح
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .
(2) سورة التغابن الآية 16
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 3
(5) سورة الطلاق الآية 4
(6) سورة محمد الآية 7
(7) سورة العصر الآية 1
(8) سورة العصر الآية 2
(9) سورة العصر الآية 3(5/72)
والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
ومعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والتواصي بالصبر من جملة التقوى، ولكن الله سبحانه خصها بالذكر لمزيد من الإيضاح والترغيب.
والمقصود أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ودعا إلى الله وصبر على ذلك فهو من أهل هذه الصفات العظيمة، الفائزين بالربح الكامل والسعادة الأبدية، إذا مات على ذلك.
ومما يؤكد الالتزام بهذه الصفات العظيمة قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1)
وأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن يوفقنا وجميع المسلمين للعلم النافع، والعمل الصالح، وأن يمنحنا الفقه في دينه، والثبات عليه، وأن يرزقنا جميعا القيام بهذا الواجب حسب الطاقة والإمكان، وأن يوفق ولاة أمور المسلمين للقيام بهذا الواجب والصبر عليه، وأن يوفق من أسند إليه هذا الواجب أن يقوم به على خير ما يرام وأن يعين الجميع على أداء حقه والنصح له، ولعباده إنه تعالى جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك على عبده نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(5/73)
أسئلة مهمة وجوابها تتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
س1: سمعت أن بعض العلماء عد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركنا من أركان الإسلام، فهل هذا صحيح؟ .
جـ1: نعم قال بذلك بعض أهل العلم، لكن لم يرد نص واضح في ذلك، وإنما هو من أعظم فرائض الإسلام.
وأركان الإسلام التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة، قال عليه الصلاة والسلام: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت (1) » متفق عليه.
هكذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام ودعائمه، فلا تجوز الزيادة عليها إلا بدليل صحيح. لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامة من الدعائم، وفرض من الفروض، لكنه لا يقال: إنه ركن سادس، لعدم الدليل على ذلك.
كما أن الجهاد في سبيل الله دعامة من الدعائم. . وهكذا ترك المحارم التي حرمها الله على عباده دعامة من الدعائم لا بد منها، ولا يقال: إنهما ركنان من أركان الإسلام لعدم الدليل على ذلك.
مع العلم بأنه يجب علينا أن نستقيم على كل ما أوجب الله، وأن ندع كل ما حرم الله.
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/26) .(5/74)
س2: ما كيفية النهي عن المنكر بالقلب؟
جـ2: هو أن يكره المنكر، ولا يجلس مع أهله؛ لأن جلوسه معهم بغير إنكار يشبه فعل بني إسرائيل، الذي لعنهم الله عليه، في قوله سبحانه(5/74)
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2)
__________
(1) سورة المائدة الآية 78
(2) سورة المائدة الآية 79(5/75)
س3: نلاحظ كثيرا من الشباب المتحمس لإنكار المنكر، ولكنهم لا يحسنون الإنكار. . فما هي نصيحتكم وتوجيهاتكم لهؤلاء. . وما هي الطريقة المثلى في إنكار المنكر؟ .
جـ3: نصيحتي لهم أن يتثبتوا في الأمر، وأن يتعلموا أولا حتى يتيقنوا أن هذا الأمر معروف أو منكر، بالدليل الشرعي، حتى يكون إنكارهم على بصيرة لقول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1)
مع نصيحتي لهم بأن يكون الإنكار بالرفق والكلام الطيب والأسلوب الحسن، حتى يقبل منهم، وحتى يصلحوا أكثر مما يفسدون، لقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وقول الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (3) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (4) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (5) » . . والأحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة.
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة آل عمران الآية 159
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2592) ، سنن أبو داود الأدب (4809) ، سنن ابن ماجه الأدب (3687) ، مسند أحمد بن حنبل (4/366) .
(5) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .(5/75)
ومما ينبغي للداعي إلى الله، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون من أسبق الناس إلى ما يأمر به، ومن أبعد الناس عما ينهي عنه، حتى لا يتشبه بالذين ذمهم الله بقوله سبحانه: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (1) وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2)
وحتى يتأسى به في ذلك، وينتفع الناس بقوله وعمله. . والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 44
(2) سورة الصف الآية 2(5/76)
س4: تعلمون أن الغالب فيما يبث من أجهزة الإعلام كالتلفاز ونحوه، يغلب عليه الفسق والمجون والشر المحض. . إلا في النادر فهل تنطبق القاعدة الشرعية هنا في أن دفع الشرور مقدم على جلب المصالح أثابكم الله؟
جـ4: هذه القاعدة قاعدة عظيمة مستمرة دائما، وهي أن دفع الشرور مقدم على تحصيل المصالح؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. . وهذه الوسائل يجب فيها النصيحة لولاة الأمور من العلماء والأعيان، وعلى العامة أن يتناصحوا بينهم، ويحذروا ما قد يقع لهم من ذلك في هذه البلاد وفي غيرها.
فيجب أن يحذروا المنكر فلا يفعلوه، ولا يستمعوه. . ويفرحوا بالحق ويستمعوه وهكذا في الصحف يأخذوا حسنها ويتركوا قبيحها، فالمؤمن ينتقي ولا يكون حاطب ليل يأخذ الحية والعود. .(5/76)
وهكذا وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، يأخذ ما فيها من الخير، ويدع ما فيها من الشر، وأهل العلم مع ولاة الأمور لا يزالون بحمد الله على النصيحة والتوجيه، نسأل الله أن ينفع بالأسباب، وأن يوفق ولاة الأمور لكل ما فيه صلاح البلاد والعباد إنه خير مسئول.(5/77)
س5: تعلمون ما تقوم به التسجيلات الإسلامية في هذا الوقت من دور هام في توجيه الناس وقد قام أهل الشر بتشويه سمعتهم، وأنهم ماديون. . وغير ذلك. . أرجو من فضيلتكم توضيح الأمر للناس، حتى لا تلتبس الحقيقة على من ليس له بصيرة؟
جـ5: لا شك أن الحرص على تسجيل المقالات النافعة، والمواعظ والأحاديث المفيدة، كل ذلك مفيد للأمة، ومن فعل ذلك لنفع الأمة فهو مأجور، وعليه في ذلك الصبر والاحتساب. ولو قيل فيه ما قيل تأسيا بالرسل عليهم الصلاة والسلام، وبالأخيار قبله. . ولا حرج في بيع الأشرطة المشتملة على ذلك مع تحري الأسعار الخفيفة التي لا تثقل على الناس، يستعين بها على مهمته، وينفع الناس بعمله لما في ذلك من نشر العلم، وتعميم الفائدة.
وأنا أنصح باقتناء الأشرطة الطيبة، وأنصح بشرائها والاستفادة منها، إذا كانت صالحة؛ لأنه ليس كل شريط صالح، وليس كل من تكلم يكون كلامه مفيدا وجديرا بأن يسجل.
فالواجب على طالب العلم أن يختار من الأشرطة ما كان صادرا من أهل العلم المعروفين بالعلم والتحقيق، ليستفيد من ذلك، ويسمعه أهله وإخوانه وزملاءه، وعليه أن يحذر من تسجيل ما يضره ولا ينفعه.(5/77)
س6: سائلة تقول: نحن عائلة كبيرة، ولدينا سائق يقوم بإيصالنا إلى المدارس والأسواق. . والأقارب فما حكم ركوبنا معه داخل المدينة وخارجها. . علما بأنه لا يوجد معنا رجال في السيارة؟
جـ6: لا حرج في ذلك مع السائق إذا كان الموجود ثنتين فأكثر، وليس هناك ريبة، فلا بأس من الخروج معه إلى المدرسة أو غيرها للحاجة على وجه لا ريبة فيه، وإذا تيسر أن يكون معهن رجل فذلك خير وأصلح، ولكن لا يجب ذلك، بل يكفي ما يزيل الخلوة، وهو وجود امرأة ثانية فأكثر. . أو رجل آخر غير السائق مع توافر عدم الريبة؛ لأن وجود المحرم قد لا يتيسر في كل وقت لكل أحد، أما إذا كانت المسافة تعتبر سفرا فلا يجوز سفرها بدون محرم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم (1) » متفق على صحته.
ولا بد من الحجاب والبعد عن أسباب الفتنة حتى لا يقع شر بينها وبينه.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1086) ، صحيح مسلم الحج (1338) ، سنن أبو داود المناسك (1727) ، مسند أحمد بن حنبل (2/143) .(5/78)
س7: لي ولد وقد تجاوز العشرين من عمره، ويدرس في الجامعة ودائما يتخاصم مع والدته بحجة أنها ترفع صوتها على إخوانه في المنزل، فهو الآن لا يسلم عليها، وقد هجرها منذ شهرين، وحتى الآن يدخل البيت ويأكل ويشرب وينام، ولكن لا يسلم عليها أبدا؟ ما موقفي منه باعتباري والده. . علما بأني نصحته ورفض مرارا وتكرارا ولا زال مصرا على عمياه. أفيدونا جزاكم الله خيرا؟ .
جـ7: هذا جاهل مركب، قد ارتكب منكرا عظيما، وعقوق اكبيرا، نسأل الله لنا وله الهداية. . فالواجب تحذيره من ذلك، ومنعه من هذا العقوق ولو بالضرب، أو منعه من البيت بالكلية، أو بغير ذلك من أنواع التأديب المناسبة، إذا كان ما ينفع فيه الكلام، ولا بأس من رفع أمره(5/78)
إلى الهيئة أو إلى المحكمة إذا لم يستطع والده علاج الموضوع أصلحه الله وألهمه رشده وكفاه شر نفسه.(5/79)
س8: ما رأيكم في المؤسسات التي تستقدم العمال من الكفار؟
جـ8: لا يجوز استقدام العمال من الكفرة إلى هذه الجزيرة العربية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بإخراح الكفار منها، وقال: «لا يجتمع فيها دينان (1) » ، وقد نفذ ذلك عمر رضي الله عنه. وقد نبهنا على هذا غير مرة في برنامج نور على الدرب، وفيما نكتب في الصحف، ولولاة الأمور وفقهم الله لكل خير. . لأن هذه الجزيرة لا يجوز أن يقيم فيها المشركون لما ذكرنا آنفا، ولا يجوز السماح لهم بدخولها إلا لحاجة كباعة الحاجات، التي تستورد من بلاد الكفرة إلى هذه الجزيرة، وكالبرد الذين يقدمون من بلاد الكفرة لمقابلة ولي الأمر في هذه الجزيرة، أما أن تكون محل إقامة لهم فلا يجوز ذلك.
وهكذا لا يجوز منحهم الجنسية. . أعني جنسية سكانها لأن ذلك وسيلة إلى الإقامة بها. . لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بإخراج الكفار من هذه الجزيرة كما تقدم، ويجب أن يمنع من كان منهم فيها من إظهار شعائر دينهم.
أما استقدامهم ليكونوا عمالا أو موظفين فيها، وما أشبه ذلك فلا يجوز ذلك، بل يجب الحذر منهم. . وأن يستغنى عنهم بالعمال المسلمين، ويكتفى بهم في العمل بدلا من الكفار، إلا عند الضرورة القصوى التي يراها ولي الأمر لاستقدام بعضهم لأمور لا بد منها، ولا يوجد من يقوم بها من المسلمين، أو صنعة لا يجيدها المسلمون، والحاجة ماسة إليها. . أو نحو ذلك، ثم بعد انتهاء الحاجة منهم يردون إلى بلادهم، كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم اليهود في خيبر للحاجة ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه، لما زالت الحاجة إليهم.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (6/274) .(5/79)
س9: رسالة المسجد ورسالة المنبر في الإسلام رسالة يكتب عنها كثير من الناس: البعض منهم يقول: لقد انحرف الناس بالمنبر عن رسالته، وآخرون يقولون: لقد حرمنا من أعز بقاع الأرض، وأطهرها بيوت الله فلا نستطيع الجلوس فيها ولا المذاكرة ولا الدراسة، وآخرون أيضا يقولون: لقد استخدمت المنابر لغير الدعوة إلى الله، فهي تدعو إلى يوم كذا، وحزب كذا وهلم جرا.
جـ9: لا ريب أن المسجد والمنبر هما آلتان قديمتان في توجيه المسلمين خاصة والناس بصفة عامة إلى الخير وتعليم الناس ما ينفعهم، وتبليغ الناس رسالة ربهم سبحانه وتعالى، وقد بعث الله الرسل عليهم الصلاة والسلام يبلغون الناس رسالات الله، ويعلمونهم شريعة الله هكذا بعث الله الرسل من آدم عليه الصلاة والسلام ثم نوح ومن بعده من الرسل، كلهم بعثوا ليبلغوا رسالات الله من طريق المساجد والمنابر، سواء كانت المنابر في المسجد أو في غير المسجد، وسواء كان المنبر مبنيا، أو غير مبني.
فقد يكون المنبر ناقة، أو فرسا أو غير ذلك من الدواب التي تركب، وقد يكون المنبر محلا مرتفعا تبلغ منه رسالات الله.
فالمقصود أن الله جل وعلا شرع لعباده أن يبلغوا رسالات ربهم، وأن يعلموا الناس ما بعث الله به رسله من كل طريق، ولكن المنبر والمسجد هما أهم طريق في تبليغ الرسالة، ونشر الدعوة، تلك الرسالة العظيمة التي يجب على جميع العلماء ومعلمي الناس الخير أن يعنوا بها، وأن يعيدوها إلى حالتها الأولى، وأن يفقهوا الناس أمور دينهم من طريق المسجد؛ لأنه مجمع المسلمين في الجمع وغيرها.(5/80)
كما إن عليهم بأن يبلغوا الناس ما يجب عليهم في أمور دينهم ودنياهم في الطرق الأخرى كطريق الإذاعة والتلفاز والصحافة، وطريق الخطابة في المجتمعات، وفي الحفلات المناسبة، ومن طريق التأليف، ومن كل طريق يمكن منه تبليغ شرع الله سبحانه ورسالته. .
هكذا يجب على أتباع الرسل، وخلفائهم من أهل العلم والإيمان أن يبلغوا رسالات الله، وأن يعلموا الناس شريعة الله، حتى يتفقه الكبير والصغير، والرجل والمرأة والموافق والمخالف؛ وحتى تقوم الحجة وتنقطع المعذرة.
ولا يجوز لولاة الأمور ولا غيرهم أن يحولوا بين الناس وبين هذه المنابر، إلا من علم أنه يدعو إلى باطل، أو أنه ليس أهلا للدعوة، فإنه يمنع أينما كان.
أما من كان يدعو إلى الحق والهدى، وهو أهل لذلك. . فالواجب أن يشجع وأن يعان على مهمته. وأن تسهل له الوسائل التي يبلغ بها أمر الله وشرعه سبحانه وتعالى، كما قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) وقال عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (5) » رواه مسلم. . والأدلة في هذا المعنى من الكتاب والسنة كثيرة.
وعلى جميع أهل العلم من حملة الكتاب والسنة في كل مكان أن يقوموا بواجب الدعوة والتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حسب الاستطاعة، لقول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (6)
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(6) سورة التغابن الآية 16(5/81)
وعليهم أن يبلغوا رسالة الله أينما كانوا في المسجد وفي البيت وفي الطريق وفي السيارة وفي الطائرة وفي القطار وفي كل مكان، ليس للتبليغ محل مخصوص بل التبليغ مطلوب في كل مكان حسب الاستطاعة، لقول الله عز وجل: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (1)
وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية (3) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع (4) » . وكان إذا خطب عليه الصلاة والسلام يقول: «فليبلغ الشاهد الغائب (5) » ولما خطب الناس في عرفات في حجة الوداع في أعظم جمع، قال لهم في آخر خطبته وهو على راحلته: «فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع، وقال: وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكبها إلى الناس ويقول: اللهم اشهد اللهم اشهد (6) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
ولما بعث عليا إلى خيبر لدعوة اليهود وقتالهم إن لم يقبلوا الدعوة قال له: «ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (7) » متفق على صحته من حديث سهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (8) » . . والآيات
__________
(1) سورة النحل الآية 35
(2) سورة المائدة الآية 67
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461) ، سنن الترمذي العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (2/159) ، سنن الدارمي المقدمة (542) .
(4) سنن ابن ماجه كتاب المقدمة (236) ، مسند أحمد بن حنبل (3/225) .
(5) صحيح البخاري الحج (1741) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، سنن ابن ماجه المقدمة (233) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .
(6) صحيح البخاري الحج (1741) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، سنن ابن ماجه المقدمة (233) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .
(7) صحيح البخاري المناقب (3701) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(8) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .(5/82)
والأحاديث في الدعوة إلى الله سبحانه وإرشاد الناس إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر كثيرة جدا.
فعلى جميع أهل العلم والإيمان من ولاة الأمر وغيرهم في جميع الدول الإسلامية وغيرها أن يبلغوا رسالة الله، وأن يعلموا الناس دينهم، وأن يتحروا الحكمة والرفق في ذلك، والأساليب المناسبة التي ترغب الناس في قبول الحق ولا تنفرهم منه، كما قال الله سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) الآية من سورة النحل، وقال سبحانه وبحمده: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (2) الآية من سورة العنكبوت، وقال عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) وقال سبحانه وتعالى مخاطبا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (4)
وقال عز وجل لما بعث موسى وهارون إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (5) وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (6) » . . وقال عليه الصلاة والسلام: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (7) » . . والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على جميع المسلمين أن يتفقهوا في دينهم، وأن يسألوا أهل العلم
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة العنكبوت الآية 46
(3) سورة فصلت الآية 33
(4) سورة آل عمران الآية 159
(5) سورة طه الآية 44
(6) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .
(7) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2592) ، سنن أبو داود الأدب (4809) ، سنن ابن ماجه الأدب (3687) ، مسند أحمد بن حنبل (4/366) .(5/83)
عما أشكل عليهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » متفق على صحته.
وعلى أهل العلم أن يفقهوا الناس ويعلموهم ويبلغوهم ما أعطاهم الله من العلم، وأن يسابقوا إلى هذا الخير، وأن يسارعوا إليه، وأن يتحملوا هذا الواجب بأمانة وإخلاص وصبر، حتى يبلغوا دين الله لعباد الله، وحتى يعلموا الناس ما أوجب الله عليهم وما حرم عليهم من طريق المساجد وحلقات العلم في المساجد وغيرها، وخطب الجمع والأعياد وغير ذلك من المناسبات؛ لأنه ليس كل أحد يستطيع أن يتعلم في المدارس والمعاهد والجامعات، وليس كل أحد يجد مدرسة تعلمه دين الله وشرعه المطهر، وتعلمه القرآن الكريم كما أنزل والسنة المطهرة كما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فوجب على أهل العلم والإيمان أن يبلغوا الناس من منابر الإذاعة، ومنابر التلفاز ومنابر الصحافة، ومنابر الجمعة، ومنابر العيد، وفي كل مكان، وبالدروس والحلقات العلمية في المساجد وفي غير المساجد.
فكل طالب علم من الله عليه بالفقه في الدين، وكل عالم فتح الله بصيرته عليه أن يستغل ما أعطاه الله من العلم، وأن يستغل كل فرصة تمكنه من الدعوة، حتى يبلغ أمر الله وحتى يعلم الناس شريعة الله، وحتى يأمرهم بالمعروف ويناهم عن المنكر، ويشرح لهم ما قد يخفى عليهم مما أوجبه الله عليهم أو حرمه عليهم.
هذا هو الواجب على جميع أهل العلم، فهم خلفاء الرسل، وهم ورثة الأنبياء، فعليهم أن يبلغوا رسالات الله، وعليهم أن يعلموا عباد الله شريعة الله، وعليهم أن ينصحوا لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأن يصبروا على ذلك، وعلى جميع ولاة الأمور أن يعينوهم ويشجعوهم ويقوموا
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(5/84)
بكل ما يسهل عليهم أداء هذا الواجب؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته (2) » متفق على صحته من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ويقول صلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (3) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. .
وأسأل الله عز وجل لنا ولجميع إخواننا المسلمين وللعلماء بوجه أخص ولطلاب العلم عامة - التوفيق والهداية والإعانة على أداء الحق، إنه جواد كريم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) .
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الأدب (4946) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .(5/85)
وجوب التعاون على البر والتقوى (1) .
__________
(1) محاضرة ألقاها سماحته في مستشفى الملك فيصل بالطائف في محرم عام 1410 هـ.(5/85)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد وآله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد:
فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء لإخوة في الله وأبناء كرام للتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والتناصح في الله عز وجل. ثم أشكر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية على دعوتها لي للمشاركة بهذه المحاضرة. كما أشكر الأخ الكريم الشيخ محمد بن عبد الرزاق الدرويش على دعوته لي لهذا اللقاء، وأسأله عز وجل أن يبارك في جهود الجميع وأن يجعله لقاءا مباركا وأن ينفعنا به جميعا ويجعله عونا لنا على طاعته والتمسك بدينه والنصح له ولعباده إنه خير مسئول.
ثم عنوان الكلمة التي أتحدث إليكم بمضمونها هي كلمة التعاون على البر والتقوى، وإنها كلمة جامعة تجمع الخير كله وأنتم والحمد لله ممن يهتمون ويعملون لتحقيق هذا الهدف، وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالتعاون على البر والتقوى ونهاهم عن التعاون على الإثم والعدوان حيث قال سبحانه وتعالى في سورة المائدة {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1)
فجدير بكل مسلم وكل مسلمة في أنحاء الدنيا أن يحفظوا هذا العمل وأن
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(5/86)
يعنوا به كثيرا؛ لأن ذلك يترتب عليه بتوفيق الله صلاح المجتمع وتعاونه على الخير وابتعاده عن الشر وإحساسه بالمسئولية ووقوفه عند الحد الذي ينبغي أن يقف عنده، وقد جاء في هذا المعنى نصوص كثيرة منها قوله عز وجل: {وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) فهذه السورة العظيمة القصيرة اشتملت على معان عظيمة من جملتها التواصي بالحق وهو التعاون على البر والتقوى - والرابحون السعداء في كل زمان وفي كل مكان هم الذين حققوا هذه الصفات الأربع التي دلت عليها هذه السورة، وهم الناجون من جميع أنواع الخسران.
فينبغي لكل مسلم أن يحققها وأن يلزمها وأن يدعو إليها وهي الإيمان بالله ورسوله إيمانا صادقا يتضمن الإخلاص لله في العبادة وتصديق أخباره سبحانه، ويتضمن الشهادة له بالوحدانية ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة وتصديق أخباره عليه الصلاة والسلام، كما يتضمن العمل الصالح، فإن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية عند أهل السنة والجماعة؛ فالإيمان الصادق يتضمن قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، وعمل القلب بمحبة الله والإخلاص له وخوفه ورجاءه والشوق إليه ومحبة الخير للمسلمين مثل دعائهم إليه كما يتضمن العمل الصالح بالجوارح وهو قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعاصي كما تقدم.
ثم يتضمن أمرا ثالثا وهو التواصي بالحق وهو داخل في العمل الصالح وداخل في الإيمان، ولكن نبه الله عليه فأفرده بالذكر بيانا لعظم شأنه، فإن التواصي له شأن عظيم وهو التعاون على البر والتقوى والتناصح في الله وإرشاد العباد إلى ما ينفعهم ونهيهم عما يضرهم، وكذا يدخل في الإيمان أيضا الأمر الرابع وهو التواصي بالصبر. فاشتملت هذه السورة العظيمة على
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3(5/87)
جميع أنواع الخير وأصوله وأسباب السعادة.
فالتعاون على البر والتقوى معناه التعاون على تحقيق الإيمان قولا وعملا وعقيدة، فالبر والتقوى عند اقترانهما يدلان على أداء الفرائض وترك المحارم، فالبر هو أداء الفرائض واكتساب الخير والمسارعة إليه وتحقيقه، والتقوى ترك المحارم ونبذ الشر، وعند إفراد أحدهما عن الآخر يشمل الدين كله. فالبر عند الإطلاق هو الدين كله والتقوى عند الإطلاق هي الدين كله كما قال عز وجل {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (1) إلى قوله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (2) وقال تعالى في آيه أخرى {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (3)
والتعاون على البر والتقوى هو تعاون على تحقيق ما أمر الله به ورسوله قولا وعملا وعقيدة وعلى ترك ما حرم الله ورسوله قولا وعملا وعقيدة، وكل إنسان محتاج إلى هذا التعاون أيما كان ذكرا كان أو أنثى، حيث تحصل له السعادة العاجلة والآجلة بهذا التعاون والنجاة في الدنيا والآخرة والسلامة من جميع أنواع الهلاك والفساد، وعلى حسب صدق العبد في ذلك وإخلاصه يكون حظه من هذا الربح، وعلى حسب تساهله في ذلك يكون نصيبه من الخسران، فالكل بالكل والحصة بالحصة، فمن لم يقم بهذه الأمور الأربعة علما وعملا فاته الخير كله ونزل به الخسران كله، ومن فاته شيء من ذلك ناله من الخسران بقدر ما فاته من تحقيق هذه الأمور الأربعة.
ولا ريب أن أهل العلم أولى الناس بتحقيق هذه الأمور وذلك بالتعاون على البر والتقوى عن إيمان وصدق وإخلاص وصبر ومصابرة؛ لأن العامة قد لا يستطيعون ذلك لعدم فقههم وعلمهم، ولا يستطيعون إلا الشيء اليسير من
__________
(1) سورة البقرة الآية 177
(2) سورة البقرة الآية 177
(3) سورة البقرة الآية 189(5/88)
ذلك على حسب علمهم، ولكن أهل العلم لهم القدرة على ذلك أكثر من غيرهم وكلما زاد العلم بالله وبرسوله وبدينه زاد الواجب وزادت المسئولية.
وفي هذا المعنى يقول عز وجل {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) الآية، فكون بعضهم أولياء بعض يفتضي التناصح والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه والحذر من كل ما يخالف هذه الولاية ويضعفها. فالمؤمن ولي أخيه وولي أخته في الله والمؤمنة كذلك ولية أختها في الله وولية أخيها في الله، وهذا واجب على الجميع، وعلى كل منهم أن يدل أخاه على الخير وينصح له ويحذره من كل شر وبذلك تتحقق الولاية منك لأخيك بالتعاون معه على البر والتقوى والنصيحة له في كل شيء تعلم أنه من الخير وتكره له كل شيء تعلم أنه من الشر، وتعينه على الخير وعلى ترك الشر وتفرح بحصوله على الخير ويحزنك أن يقع في الشر لأنه أخوك.
ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (2) » متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه، ويقول عليه الصلاة والسلام «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه (3) » . متفق عليه، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام أيضا «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (4) » متفق عليه.
فهذه الأحاديث الثلاثة وما جاء في معناها أصول عظيمة في وجوب محبتك لأخيك كل خير وكراهتك له كل شر ونصيحتك له أينما كان وأنه وليك وأنت وليه كما قال سبحانه {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (5) وفي هذا المعنى أيضا
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) صحيح البخاري الإيمان (13) ، صحيح مسلم الإيمان (45) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2515) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5016) ، سنن ابن ماجه المقدمة (66) ، مسند أحمد بن حنبل (3/272) ، سنن الدارمي الرقاق (2740) .
(3) صحيح البخاري المظالم والغصب (2446) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) .
(4) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(5) سورة التوبة الآية 71(5/89)
ما رواه مسلم في صحيحه من حديث تميم الداري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » وفي هذا الحديث العظيم إخبار النبي عليه الصلاة والسلام أن الدين كله النصيحة، والنصح هو الإخلاص في الشيء وعدم الغش والخيانة فيه.
فالمسلم لعظم ولايته لأخيه ومحبته لأخيه ينصح له ويوجهه إلى كل ما ينفعه ويراه خالصا لا شائبة فيه ولا غش فيه.
ومن ذلك قول العرب: ذهب ناصح يعني سليما من الغش ويقال عسل ناصح، أي: سليم من الغش والشمع. وفي هذا المعنى أيضا ما رواه الشيخان من حديث «جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: " بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (2) » .
فالواجب على العلماء وطلبة العلم إدراك هذا المعنى والعمل به بصفة أخص من غيرهم؛ لعلمهم وفضلهم وكونهم خلفاء الرسل في بيان الحق والدعوة إليه والنصح لله ولعباده فإنه لا يستوي من يعلم ومن لا يعلم كما قال عز وجل {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) وأنصح الناس للناس هم الرسل عليهم الصلاة والسلام والأنبياء ثم بعدهم العلماء، فهم ورثة الأنبياء وهم خلفاؤهم في الخير والنصح والدعوة إلى الله والصبر على الأذى والتحمل.
ومن الولاية والنصح: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا قال الله
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1401) ، سنن الترمذي البر والصلة (1925) ، سنن النسائي البيعة (4174) ، مسند أحمد بن حنبل (4/364) ، سنن الدارمي البيوع (2540) .
(3) سورة الزمر الآية 9(5/90)
عز وجل في الآية السابقة {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) ومن ذلك الدعوة إلى الخير والإرشاد إليه وتعليم الجاهل وإرشاد الضال إلى طريق الصواب كما قال عز وجل {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) فليس هناك أحد أحسن قولا ممن دعا إلى الله وقرن ذلك بالعمل الصالح، ويقول عز وجل {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) وقد بين سبحانه في موضع آخر أنه لا بد من العلم؛ لأن الداعي إلى الله لا بد أن يكون على علم حتى لا يضر نفسه ولا يضر الناس، كما قال سبحانه وتعالى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (4)
فالداعي إلى الله والدال على الخير يجب أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه وفيما ينهي عنه. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الداعي إلى الله له مثل أجور من هداه الله على يديه، وهذا خير عظيم، يقول عليه الصلاة والسلام: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (5) » خرجه مسلم في صحيحه ويقول عليه الصلاة والسلام: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلال كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (6) » رواه مسلم أيضا.
وفي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه لما بعثه إلى خيبر أدعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، ثم قال له: فوالله لأن يهدي بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (7) » وهذا
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2) سورة فصلت الآية 33
(3) سورة النحل الآية 125
(4) سورة يوسف الآية 108
(5) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(6) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(7) صحيح البخاري المناقب (3701) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .(5/91)
خير عظيم، والمعنى أن ذلك خير من الدنيا كلها، لكن لما كانت العرب تعظم الإبل الحمر وتراها أفضل أموالها مثل بها عليه الصلاة والسلام.
فأنتم أيها الإخوة والأبناء في حاجة شديدة إلى الإخلاص في هذا الأمر والنشاط فيه والصبر عليه لهذه النصوص التي سمعتم وغيرها مع الصدق والتحري في الخير والعناية بالأسلوب الحسن والتواضع واستحضار أن العبد على خطر عظيم، فهو يدعو إلى الله وينشر الخير وينصح ويعين على البر والتقوى مع التواضع وعدم التكبر وعدم العجب، ولا يرى نفسه أبدا إلا على خطر ويحثها على كل خير ويراقبها ويحذر من شرها ولا يعجب بعمله ولا يمن به ولا يتكبر بذلك ولا يفخر على الناس، بل يرى أن المنة لله عليه في ذلك، كما قال سبحانه وتعالى {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1)
فالتعاون على البر والتقوى والتناصح يقتضي الدعوة إلى الخير والإعانة عليه، فهو أيضا يقتضي التحذير من الشر وعدم التعاون مع أهل الشر، فلا تعين أخاك على ما يغضب الله عليه، ولا تعينه على أي معصية بل تنصح له في تركها وتحذره من شرورها، وهذا من البر والتقوى. وإذا أعنته على المعصية وسهلت له سبيلها كنت ممن تعاون معه على الإثم والعدوان، سواء كانت المعصية عملية أو قولية كالتهاون بالصلاة أو بالزكاة أو بالصيام أو حج البيت أو بعقوق الوالدين أو أحدهما أو بقطيعة الرحم أو بحلق اللحى أو بإسبال الثياب أو بالكذب والغيبة والنميمة أو السباب واللعن أو بغير هذا من أنواع المعاصي القولية والفعلية، عملا بقول الله سبحانه {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2)
__________
(1) سورة الحجرات الآية 17
(2) سورة المائدة الآية 2(5/92)
ويدخل في الإثم جميع المعاصي.
أما العدوان فهو التعدي لحدود الله والتعدي على الناس أو التعدي على ما فرض الله بالزيادة أوالنقص، والبدعة من العدوان لإنها زيادة على ما شرع الله، فيسمى المبتدع متعديا والظالم للناس متعديا والتارك لما أنزل الله آثما متعديا لأمر الله، فاقتراف المعاصي إثم، والتعدي على ما فرض الله والزيادة على ما فرض الله والظلم لعباد الله عدوان منهي عنه وداخل في الإثم، كما قال تعالى {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) ثم ختم الله الآية بأمره سبحانه وتعالى بالتقوى والتحذير من شدة العقاب، فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) والمعنى احذروا مغبة التعاون على الإثم والعدوان وترك التعاون على البر والتقوى ومن العاقبة في ذلك شدة العقاب لمن خالف أمره وارتكب نهيه وتعدى حدوده.
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين للتعاون على البر والتقوى والصدق في ذلك، وأن نبدأ بأنفسنا؛ لأن الداعي إلى الله قدوة وطالب العلم قدوة، فعليه أن يحاسب نفسه في كل شيء ويجاهدها في عمل كل خير وترك كل شر حتى يكون ذلك أجدى لدعوته وأنفع لنصحه وأكمل في تلقي الناس لنصيحته والانتفاع بدعوته وإرشاده وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.
والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة المائدة الآية 2(5/93)
أسباب سعادة الأمة الإسلامية(5/93)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فيا معشر المسلمين:
مما لا شك فيه لكل ذي عقل سليم أن الأمم لا بد لها من موجه يوجهها، ويدلها على طريق السداد، وأمة محمد هي أفضل الأمم وأخصها بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، مقتدية بإمامها ورسولها محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك من أسباب سعادتها ونجاتها في الدنيا والآخرة. فالواجب على كل مسلم بقدر استطاعته وعلى حسب علمه ومقدرته، أن يشمر عن ساعد الجد في النصح والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تبرأ ذمته ويهتدي به غيره. قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (1)
ولا ريب أن كل مؤمن بل كل إنسان في حاجة شديدة إلى التذكير بحق الله وحق عباده والترغيب في أداء ذلك، وفي حاجة شديدة إلى التواصي بالحق والصبر عليه. وقد أخبر الله سبحانه في كتابه المبين عن صفة الرابحين وأعمالهم الحميدة وعن صفة الخاسرين وأخلاقهم الذميمة، وذلك في آيات كثيرات من القرآن الكريم، وأجمعها ما ذكره الله سبحانه في سورة العصر حيث قال: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4)
__________
(1) سورة الذاريات الآية 55
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(5/94)
فأرشد عباده عز وجل في هذه السورة القصيرة العظيمة إلى أن أسباب الربح تنحصر في أربع صفات:
الأولى: الإيمان بالله ورسوله.
والثانية: العمل الصالح.
والثالثة: التواصي بالحق.
والرابعة: التواصي بالصبر.
فمن كمل هذه المقامات الأربعة فاز بأعظم الربح واستحق من ربه الكرامة والفوز بالنعيم المقيم يوم القيامة ومن حاد عن هذه الصفات ولم يتخلق بها باء بأعظم الخسران، وصار إلى الجحيم دار الهوان، وقد شرح الله سبحانه في كتابه الكريم صفات الرابحين ونوعها وكررها في مواضع كثيرة من كتابه ليعرفها طالب النجاة فيتخلق بها ويدعو إليها، وشرح صفات الخاسرين في آيات كثيرة، ليعرفها المؤمن ويبتعد عنها، ومن تدبر كتاب الله وأكثر من تلاوته عرف صفات الرابحين وصفات الخاسرين على التفصيل، كما قال سبحانه ذلك في آيات كثيرة منها ما تقدم، ومنها قوله جل وعلا: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (1)
وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3)
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (4) » وقال
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة ص الآية 29
(3) سورة الأنعام الآية 155
(4) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .(5/95)
صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع على رءوس الأشهاد يوم عرفة: «إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به كتاب الله (1) » فبين الله سبحانه في هذه الآيات أنه أنزل القرآن ليتدبره العباد ويتذكروا به ويتبعوه ويهتدوا به إلى أسباب السعادة والعزة والنجاة في الدنيا والآخرة، وأرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تعلمه وتعليمه، وبين أن خير الناس هم أهل القرآن الذين يتعلمون القرآن ويعلمونه غيرهم للعمل به واتباعه والوقوف عند حدوده، والحكم به والتحاكم إليه.
وأوضح عليه الصلاة والسلام للناس في المجمع العظيم يوم عرفة أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين بكتاب الله سائرين على تعاليمه. ولما استقام السلف الصالح والصدر الأول من هذه الأمة على تعاليم القرآن وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، أعزهم الله ورفع شأنهم ومكن لهم في الأرض تحقيقا لما وعدهم الله به في قوله سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (2)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3) وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (4) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (5)
فيا معشر المسلمين: تدبروا كتاب ربكم
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) .
(2) سورة النور الآية 55
(3) سورة محمد الآية 7
(4) سورة الحج الآية 40
(5) سورة الحج الآية 41(5/96)
وأكثروا من تلاوته وامتثلوا ما فيه من الأوامر واجتنبوا ما فيه من النواهي واعرفوا الأخلاق والأعمال التي مدحها القرآن فسارعوا إليها، وتخلقوا بها واعرفوا الأخلاق والأعمال التي ذمها القرآن وتوعد أهلها فاحذروها وابتعدوا عنها وتواصوا فيما بينكم بذلك، واصبروا عليه حتى تلقوا ربكم، وبذلك تستحقون الكرامة وتفوزن بالنجاة والسعادة والعزة في الدنيا والآخرة.
ومن أهم الواجبات على المسلمين العناية بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم والتفقه فيها والسير على ضوئها؛ لأنها الوحي الثاني، وهي المفسرة لكتاب الله والمرشدة إلى ما قد يخفى من معانيه، كما قال سبحانه في كتابه الكريم {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) وقال تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (2) وقال تعالى {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3)
وقال سبحانه وتعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (4) وقال تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (5) والآيات الدالة على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيم سنته والتمسك بها والتحذير من مخالفتها أو التهاون بها كثيرة جدا، يعلمها من تدبر القرآن الكريم وتفقه فيما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحة
__________
(1) سورة النحل الآية 44
(2) سورة النحل الآية 89
(3) سورة النحل الآية 64
(4) سورة الأحزاب الآية 21
(5) سورة النور الآية 63(5/97)
ولا صلاح للعباد ولا سعادة ولا عزة ولا كرامة ولا نجاة في الدنيا والآخرة إلا باتباع القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمهما والتواصي بهما في جميع الأحوال والصبر على ذلك كما قال الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (1) وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (3)
فأرشد الله سبحانه العباد في هذه الآيات الكريمات إلى أن الحياة الطيبة والراحة والطمأنينة والعزة الكاملة إنما تحصل لمن استجاب لله ولرسوله واستقام على ذلك قولا وعملا، وأما من أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام واشتغل عنهما بغيرهما فإنه لا يزال في العذاب والشقاء، في الهموم والغموم والمعيشة الضنك، وإن ملك الدنيا بأسرها، ثم ينقل إلى ما هو أشد وأفظع وهو عذاب النار، عياذا بالله من ذلك، كما قال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} (4) {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (5)
__________
(1) سورة الأنفال الآية 24
(2) سورة النحل الآية 97
(3) سورة المنافقون الآية 8
(4) سورة التوبة الآية 54
(5) سورة التوبة الآية 55(5/98)
وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (1) {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (2) وقال عز من قائل: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (3) وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (4) {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (5)
قال بعض المفسرين: إن هذه الآية تعم أحوال الأبرار والفجار في الدنيا والآخرة، فالمؤمن في نعيم في دنياه وقبره وآخرته، وإن أصابه في الدنيا ما أصابه من أنواع المصائب كالفقر والمرض ونحوها، والفاجر في جحيم في دنياه وقبره وآخرته وان أدرك ما أدرك من نعيم الدنيا، وما ذاك إلا لأن النعيم في الحقيقة هو نعيم القلب وراحته وطمأنينته. فالمؤمن - بإيمانه بالله واعتماده عليه واستغنائه به وقيامه بحقه، وتصديقه بوعده - مطمئن القلب منشرح الصدر، مرتاح الضمير. والفاجر - لمرض قلبه وجهله وشكه وإعراضه عن الله، وتشعب قلبه في مطالب الدنيا وشهواتها - في عذاب وقلق وتعب دائم، ولكن سكرة الهوى والشهوات تعمي العقول عن التفكير في ذلك والإحساس به.
فيا معشر المسلمين: انتبهوا لما خلقتم له من عبادة الله وطاعته وتفقهوا في ذلك واستقيموا عليه حتى تلقوا ربكم عز وجل، فتفوزوا بالنعيم المقيم وتسلموا من عذاب الجحيم.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (6) {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (7) {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (8)
__________
(1) سورة طه الآية 123
(2) سورة طه الآية 124
(3) سورة السجدة الآية 21
(4) سورة الانفطار الآية 13
(5) سورة الانفطار الآية 14
(6) سورة فصلت الآية 30
(7) سورة فصلت الآية 31
(8) سورة فصلت الآية 32(5/99)
وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2)
والله المسئول أن يجعلنا وجميع المسلمين منهم، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 13
(2) سورة الأحقاف الآية 14(5/100)
أسباب ضعف المسلمين أمام عدوهم ووسائل العلاج لذلك (1) .
__________
(1) محاضرة ألقاها سماحة الشيخ في ندوة المسجد الجامع الكبير بالرياض في 29\5\1399 هـ.(5/100)
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
فلقد اهتم أرباب الفكر الإسلامي وأصحاب الغيرة الإسلامية وأصحاب التفكير الكثير بحال المسلمين وما آل إليه أمرهم.
لقد شغلهم هذا الأمر كثيرا وفكروا كثيرا في أسباب ضعف المسلمين وفي أسباب تأخرهم أمام عدوهم وفي أسباب تفرقهم واختلافهم، وفي أسباب تسليط العدو عليهم حتى أخذ بعض بلادهم.
ثم بعد أن عرفوا الأسباب - وهي واضحة - اهتموا أيضا بأن يعرفوا العلاج لهذه الأسباب التي أوجبت التأخر والضعف وهي معلومة أيضا، ولكن يجب أن تنشر وأن تبين، فإن وصف الداء ثم الدواء من أعظم أسباب الشفاء والعافية.
فإن المريض متى عرف داءه وعرف دواءه فهو جدير بأن يبادر إلى أخذ الدواء ثم يضعه على الداء.(5/101)
هذه طبيعة الإنسان العاقل الذي يحب الحياة ويحب الخلاص من الأمراض، يهمه أن يعرف الداء وأن يعرف الدواء.
ولكن بعض الناس قد يغلب عليه الداء ويستولي عليه حتى يرضى به ويستلذ وحتى يموت شعوره، فلا يبالي بمن يصف له الدواء لأن الداء صار سجية وطبيعة له يرتاح له ويقنع بالبقاء معه لانحراف مزاجه وضعف بصيرته وغلبة الهوى عليه وعلى عقله وقلبه وتصرفاته كما هو الواقع في أكثر الناس بالنسبة للأدواء الدينية وعلاجها.
فقد استلذ الأكثر وطاب له البقاء على أمراضه وسيئاته التي أضعفته وعطلت حركاته وجعلته لا يحس بالداء في الحقيقة ولا يحس بنتائجه ولا بما يترتب عليه في العاجل والآجل ولا ينشد الدواء ولا يحرص عليه ولو وصف له وبين له ولو كان قريبا منه؛ لأنه لا يهم ذلك، وما ذاك إلا لاستحكام الداء وارتياح النفس له وخفاء ضرره عليه وعدم الهمة العالية لتحصيل المطالب العالية.
وقد بين العلماء وأصحاب الفكر النير وأرباب البصيرة النافذة والخبرة بأحوال الأمم في هذا العصر وقبله بعصور أسباب ضعف المسلمين وتأخرهم، كما بينوا وسائل العلاج الناجع ونتائجه وعاقبته إذا أحسن استعمال الدواء.
وترجع أسباب الضعف والتأخر وتسليط الأعداء إلى سبب نشأت عنه أسباب كثيرة وعامل واحد نشأت عنه عوامل كثيرة، وهذا السبب الواحد والعامل الواحد هو: الجهل؛ الجهل بالله وبدينه وبالعواقب التي استولت على الأكثرية، فصار العلم قليلا والجهل غالبا.
وعن هذا الجهل نشأت أسباب وعوامل منها حب الدنيا وكراهية الموت(5/102)
ومنها إضاعة الصلوات واتباع الشهوات، ومنها عدم الإعداد للعدو والرضى بأخذ حاجاتهم من عدوهم وعدم الهمة العالية في إنتاج حاجاتهم من بلادهم وثرواتهم، ونشأ عن ذلك أيضا التفرق والاختلاف وعدم جمع الكلمة وعدم الاتحاد وعدم التعاون.
فعن هذه الأسباب الخطيرة وثمراتها وموجباتها حصل ما حصل من الضعف أمام العدو والتأخر في كل شيء إلا ما شاء الله والإقبال على الشهوات المحرمة والشغل بما يصد عن سبيل الله وعن الهدى وعدم الإعداد للعدو لا من جهة الصناعة ولا من جهة السلاح الكافي الذي يخيف العدو ويعين على قتاله وجهاده وأخذ الحق منه وعدم إعداد الأبدان للجهاد وعدم صرف الأموال فيما ينبغي لإعداد العدة للعدو والتحرز من شره والدفاع عن الدين والوطن.
ونشأ عن ذلك المرض الحرص على تحصيل الدنيا بكل وسيلة وعلى جمعها بكل سبب وأصبح كل إنسان لا يهمه إلا نفسه وما يتعلق ببلاده وإن ذهب في ذلك دينه أو أكثره.
هذا هو حال الأكثرية وهذا هو الغالب على الدول المنتسبة للإسلام اليوم، بل يصح أن نقول: إن هذا هو الواقع، إلا ما شاء الله جل وعلا، من بعض الإعداد وبعض التحرز على وجه ليس بالأكمل وليس بالمطلوب من كل الوجوه.
ويدل على أن أعظم الأسباب هو الجهل بالله وبدينه وبالحقائق التي يجب التمسك والأخذ بها - هو قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » رواه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين، مع آيات في المعنى وأحاديث كلها تدل على خبث الجهل وخبث عواقبه ونهايته وما يترتب عليه، بل القرآن الكريم مملوء بالتنديد بالجهل وأهله والتحذير منه
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(5/103)
كما قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (1) وقال سبحانه: {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (2) إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على ذم الجهل بالله والجهل بدينه والجهل بالعدو وبما يجب إعداده من الأهبة والاتحاد والتعاون، وعن الجهل نشأت هذه الأشياء التي سبقت من فرقة واختلاف وإقبال على الشهوات وإضاعة لما أوجب الله وعدم إيثار الآخرة وعدم الانتساب إليها بصدق بل لا يهم الأكثرية إلا هذه العاجلة كما جاء في الآية الكريمة من كتاب الله {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} (3) {وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} (4) وكما في قوله جل وعلا {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} (5) {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (6) {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (7) إلخ.
وعن الجهل أيضا نشأت هذه الكوارث وهذه العواقب الرديئة التي هي حب الدنيا وكراهية الموت والإقبال على الشهوات وإضاعة الواجبات والصلوات وإضاعة الإعداد للعدو من كل الوجوه إلا ما شاء الله من ذلك. ومن ذلك التفرق والاختلاف وعدم الاتحاد والتعاون إلى غير ذلك.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (8) » يدل على أن من علامات الخير والسعادة للفرد والشعب والدولة أن يتفقهوا في الدين، فإن الإقبال على التفقه في الدين والتعلم والتبصر بما يجب عليهم في العاجل والآجل من أوجب الواجبات، وفي ذلك علامة على أن الله أراد بهم خيرا.
ومن ذلك - مع إعداد للعدو - تأدية فرائض الله والانتهاء عن محارم
__________
(1) سورة الأنعام الآية 111
(2) سورة المائدة الآية 103
(3) سورة القيامة الآية 20
(4) سورة القيامة الآية 21
(5) سورة النازعات الآية 37
(6) سورة النازعات الآية 38
(7) سورة النازعات الآية 39
(8) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(5/104)
الله والوقوف عند حدود الله.
ومن ذلك أيضا أن يوجد في بلاد المسلمين من الصناعة والإعداد والقوة ما يستطيع كل فرد بكل وسيلة، حتى لا تكون حاجاته عند عدوه، وحتى يعلم عدوه ما لديه من الإعداد والاستعداد فيرهبه وينصفه ويعطيه حقوقه ويقف عند حده، وحتى يحصل إعداد الأبدان وعدم الرفاهية التي تضعف القوى والقلوب عن مفاتلة العدو وحتى تقوى على الجهاد.
والتفقه في الدين أيضا يعطي المعلومات الكافية عن الآخرة وعن الجنة ونعيمها وقصورها وما فيها من خير عظيم، وعن النار وعذابها وأنكالها وأنواع ما فيها من العذاب فيكسب القلوب نشاطا في طلب الآخرة وزهدا في الدنيا وإعدادا للأعداء وحرصا على الجهاد في سبيل الله والاستشهاد في سبيله سبحانه وتعالى.
كما أن التفقه في الدين يعطي الشعب والوالي النشاط الكامل في كل ما يحبه الله ويرضاه وفي البعد عن كل ما يغضب الله سبحانه وتعالى، ويعطي القلوب الرغبة الكاملة في الاتحاد مع بقية المسلمين والتعاون معهم ضد العدو وفي إقامة أمر الله وتحكيم شريعته والوقوف عند حدوده، ويحصل بذلك أيضا التعاون على كل ما يجب لله ولعباده، فإن العلم النافع يدعو إلى العمل والتكاتف والتناصح والتعاون على الخير، ويعطيهم أيضا الحرص الكامل على أداء الفرائض والبعد عن المحارم والشوق إلى الآخرة وعدم كراهية الموت في سبيل الحق وفي الجهاد في سبيل الله وفي قتال العدو وأخذ الحقوق منه.
وبالعلم تكون النفوس والأموال رخيصة في جلب رضا الله وفي سبيل إعلاء كلمة الله وفي سبيل إنقاذ المسلمين من سيطرة عدوهم وتخليصهم مما أصابهم من أنواع البلاء وفي سبيل استنقاذ المستضعفين من أيدي أعدائهم وفي(5/105)
سبيل حفظ كيان المسلمين وحوزتهم وأن لا تنتقص بلادهم وحقوقهم. فإذا كان الجهل فقدت هذه الأشياء وهذه الحقوق وهذه الخيرات وهذه المعلومات وهذا الإيثار وهذا الإرخاص للنفوس والأموال في سبيل الحق، وقد قال الشاعر:
ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه.
فالجهل داء عضال يميت القلوب والشعور ويضعف الأبدان والقوى ويجعل أهله أشبه بالأنعام لا يهمهم إلا شهوات الفروج والبطون، وما زاد على ذلك فهو تابع لذلك من شهوات المساكن والملابس. فالجاهل قد ضعف قلبه وضعف شعوره وقلت بصيرته، فليس وراء شهوته الحاضرة وحاجته العاجلة شيء يطمح إليه ويريد أن ينظر إليه. وقد جاء في الحديث الذي رواه أحمد وغيره بإسناد حسن عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، قيل: يا رسول الله أمن قلة بنا؟ قال: لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل تنزع المهابة من قلوب عدوكم منكم ويوضع في قلوبكم الوهن، قالوا: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت (1) » .
وهذا الوهن الذي ورد في الحديث إنما نشأ عن الجهل الذي صاروا به غثاء كغثاء السيل، ما عندهم بصيرة بما يجب عليهم بسبب هذا الجهل الذي صاروا به بهذه المثابة.
فقد سيطر الوهن عليهم واستقر في قلوبهم ولا يستطيعون الحراك إلى المقامات العالية والجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته؛ لأن حبهم للدنيا وشهواتها من مآكل ومشارب وملابس ومساكن وغير ذلك أقعدهم عن طلب المعالي وعن الجهاد في سبيل الله فيخشون أن تفوتهم هذه الأشياء.
__________
(1) سنن أبو داود الملاحم (4297) ، مسند أحمد بن حنبل (5/278) .(5/106)
وكذلك أوجب لهم البخل حتى لا تصرف الأموال إلا في هذه الشهوات، وأفقدهم هذا الجهل القيادة الصالحة المؤثرة العظيمة التي لا يهمها إلا إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيل الله وسيادة المسلمين وحفظ كيانهم من عدوهم وإعداد العدة بكل طريق وبكل وسيلة لحفظ دين المسلمين وصيانته وإعلائه وحفظ بلاد المسلمين ونفوسهم وذرياتهم عن عدوهم.
فالجهل أضراره عظيمة وعواقبه وخيمة ومن ذلك ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من ذل المسلمين أمام عدوهم ووصفهم بأنهم غثاء كغثاء السيل، وأن أسباب ذلك نزع المهابة من قلوب أعدائهم منهم؛ أي: أن أعداءهم لا يهابونهم ولا يقدرونهم لما عرفوا من جهلهم وتكالبهم على الدنيا والركون إليها.
فالعدو إنما يعظم القوة والنشاط والهمة العالية والتضحية العظيمة في سبيل مبدئه. فإذا رأى العدو أن هذا الخصم المقابل له ليس له هذه الهمة، وإنما هو يهتم لشهواته وحظه العاجل أعطاه من ذلك حتى يوهن قوته أمامه ويصرفه عن التفكير في قتاله لانشغاله بحب الدنيا والانكباب على الشهوات.
فالوهن أصاب القلوب إلا ما شاء الله، واستحكم عليها إلا من رحم ربك، وما أقلهم، فهم في الغالب قد ضعفوا أمام عدوهم ونزعت المهابة من قلوب أعدائهم منهم وصار أعداؤهم لا يهتمون بهم ولا يبالون بهم ولا ينصفونهم؛ لأنهم عرفوا حالهم وعرفوا أنهم لا قوة ولا غيرة عندهم ولا صبر لهم على القتال ولا قوة أيضا تعينهم على القتال ولم يعدوا لهذا المقام عدته، فلذلك احتقرهم العدو ولم يبال بشأنهم وعاملهم معاملة السيد للمسود والرئيس للمرءوس وهم سادرون في حب الدنيا والبعد عن أسباب الموت إلا من رحم ربك حريصون على تحصيل الشهوات المطلوبة بكل وسيلة، حذرون من الموت حريصون على العلاج والدواء عن كل صغيرة وكبيرة من الأدواء خوف الموت(5/107)
وحريصون أيضا ألا يتعاطوا أمرا يسبب الموت والانقطاع عن هذه الشهوات.
ومن أراد الآخرة وأراد إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيل الله لا تكون حاله هكذا، وفيما جرى لسلفنا الصالح في عهد نبينا عليه الصلاة والسلام وعهد صحابته المرضيين ومن سار على طريقهم بعد ذلك فيما فعلوا من الجهاد وفيما أعدوا من العدة وفيما صبروا عليه من التعب والأذى قدوة لنا وذكرى لنا لإعلاء كلمة الله والجهاد في سبيله وإنقاذ بلادنا وقومنا من أيدي أعدائنا صبرا وتحملا وجهادا وإيثارا للآخرة وبذلا للمال والنفس للجهاد في سبيل الله عز وجل، وتدربا على الجهاد والقتال وحرصا على الخشونة والصبر والتحمل، وذكرا للآخرة دائما وعناية بكل ما يعين على جهاد الأعداء وصبرا على ذلك وتعاونا وجمعا للكلمة واتحادا للصف حتى يحصل المراد من إعلاء كلمة الله وإنقاذ المسلمن من كيد عدوهم.
وإذا علمنا الداء وهو بين وواضح، وهو كما علمنا غلبة الجهل وعدم التعلم والتفقه في الدين والإعراض عن العلم الشرعي ورضا بالعلوم الدنيوية التي تؤهل للوظائف فقط غير العلوم التي توجب الاستغناء عن الأعداء والقيام بأمر الله والبعد عن مساخطه سبحانه، وإنما هي علوم قاصرة ضعيفة قصاراها أن تؤهل لعمل عاجل دنيوي في بلاد الفرد ودولته - إذا علم ذلك فإن الواجب علاجه بالعلم الشرعي، إذ قل من يعنى بالعلم النافع الذي جاء به المصطفى عليه الصلاة والسلام وقل من يعنى بالإعداد للأعداء حتى يتمكن ذلك الشعب وتلك الدولة من إيجاد ما يغني عن الأعداء.
فالداء واضح وبين وهو مكون من عدة أدواء نشأت عن الجهل والإعراض والغفلة حتى صار الموت مرهوبا والدنيا مؤثرة ومرغوب فيها وحتى صار الجهاد شبحا مخيفا لا يقبله إلا القليل من الناس وصار الهدف ليس لإعلاء كلمة الله بل إما لقومية وإما لوطنية وإما لأشياء أخرى غير إعلاء كلمة الله(5/108)
وإظهار دينه والقضاء على ما خالف ذلك. فالإعداد ضعيف أو معدوم والأهداف منحرفة إلا ما شاء الله. فطريق النجاح وطريق التقدم ضد الأعداء وعدم الضعف أمامهم وطريق الفلاح والنجاح والحصول على المقامات العالية والمطالب الرفيعة والنصر على الأعداء - طريق كل ذلك هو في الاقبال على العلم النافع والتفقه في الدين وإيثار مرضاة الله على مساخطه والعناية بما أوجب الله وترك ما حرم الله والتوبة إلى الله مما وقع من سالف الذنوب ومن التقصير توبة صادقة والتعاون الكامل بين الدولة والشعب على ما يجب من طاعة الله ورسوله والكف عن محارم الله عز وجل وعلى ما يجب أيضا من إعداد العدة كما قال الله سبحانه وتعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) إلخ.
فلا بد من إعداد العدة البدنية والمادية وسائر أنواع العدة من جميع الوجوه حتى نستغني بما أعطانا الله سبحانه عما عند أعدائنا فإن قتال أعدائنا بما في أيديهم من الصعب جدا الحصول عليه، فإذا منع العدو عنك السلاح فبأي شيء تقاتل؟ مع ضعف البصيرة وقلة العلم.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60(5/109)
فلا بد من إعداد المستطاع، ويكفي المستطاع ما دام المسلمون قاصدين الاستغناء عن عدوهم وجهاد عدوهم واستنقاذ بلادهم قاصدين إقامة أمر الله في بلاد الله قاصدين الآخرة ما استطاعوا لكل ذلك. فإن الله سبحانه وتعالى يقول {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) إلخ، ولم يقل وأعدوا لهم مثل قوتهم؛ لأن هذا قد لا يستطاع.
فإذا صدق المسلمون وتكاتفوا وأعدوا لعدوهم ما استطاعوا من العدة ونصروا دين الله، فالله يعينهم وينصرهم سبحانه وتعالى ويجعلهم أمام العدو وفوق العدو لا تحت العدو، يقول الله وهو الصادق في قوله ووعده:
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60(5/109)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) والله ليس بعاجز ولا في حاجة إلى الناس، ولكنه يبتلي عباده الأخيار بالأشرار ليعلم صدق الصادقين وكذب الكاذبين وليعلم المجاهد من غيره وليعلم الراغب في النجاة من غيره، وإلا فهو القادر على نصر أوليائه وإهلاك أعدائه من دون حرب ومن دون حاجة إلى جهاد وعدة وغير ذلك، كما قال سبحانه {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} (2)
وقال سبحانه في سورة الأنفال في قصة بدر: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} (3) يعني إمدادهم بالمدد من الملائكة، وقال سبحانه {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (4) وفي آية آل عمران كذلك قال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (5) فالنصر من عنده جل وعلا، ولكنه سبحانه جعل المدد بالملائكة، وما يعطي من السلاح والمال وكثرة الجند كل ذلك من أسباب النصر والتبشير والطمأنينة، وليس النصر معلقا بذلك، قال سبحانه {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (6)
وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر، والسلاح قليل والمركوب قليل والمشهور أن الإبل كانت سبعين وكانوا يتعاقبونها وكان السلاح قليلا وليس
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة محمد الآية 4
(3) سورة الأنفال الآية 10
(4) سورة آل عمران الآية 126
(5) سورة آل عمران الآية 126
(6) سورة البقرة الآية 249(5/110)
معهم من الخيل في المشهور سوى فرسين، وكان جيش الكفار حوالي الألف، وعندهم القوة العظمية والسلاح الكثير، ولما أراد الله هزيمتهم هزمهم ولم تنفعهم قوتهم ولا جنودهم، وهزم الله الألف وما عندهم من القوة العظيمة بالثلاثمائة وبضعة عشر وما عندهم من القوة الضعيفة، ولكن بتيسير الله ونصره وتأييده غلبوا ونصروا وأسروا من الكفار سبعين وقتلوا سبعين وهزم الباقون لا يلوى أحد على أحد وكل ذلك من آيات الله ونصره.
وفي يوم الأحزاب غزا الكفار المدينة بعشرة آلاف مقاتل من أصناف العرب من قريش وغيرهم وحاصروا المدينة واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم الخندق، وذلك من أسباب النصر الحسي، ومكثوا مدة وهم يحاصرون المدينة، ثم أزالهم الله بغير قتال، فأنزل في قلوبهم الرعب وسلط عليهم الرياح وجنودا من عنده حتى لم يقر لهم قرار وانصرفوا خائبين إلى بلادهم، وكل هذا من نصره وتأييده سبحانه وتعالى، ثم خذلوا فلم يغزوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، بل غزاهم هو يوم الحديبية وجرى الصلح المعروف، ثم غزاهم في السنة الثامنة في رمضان وفتح الله عليه مكة، ثم دخل الناس أفواجا في دين الله بعد ذلك.
فالمقصود أن النصر بيد الله سبحانه وتعالى، وهو الناصر لعباده، ولكنه سبحانه أمر بالأسباب، وأعظم الأسباب طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن طاعة الله ورسوله التعلم والتفقه في الدين حتى تعرف حكم الله وشريعته لنفسك وفي نفسك وفي غيرك وفي جهاد عدوك وحتى تعد العدة لعدوك وحتى تكف عن محارم الله وحتى تؤدي فرائض الله وحتى تقف عند حدود الله وحتى تتعاون مع إخوانك المسلمين وحتى تقدم الغالي والنفيس من نفسك ومالك في سبيل الله عز وجل وفي سبيل نصر دين الله وإعلاء كلمته لا في سبيل الوطن الفلاني ولا القومية الفلانية.(5/111)
فهذا هو الطريق وهذا هو السبيل للنصر على الأعداء بالتعليم الشرعي والتفقه في دين الله من الولاة والرعايا والكبير والصغير، ثم العمل بمقتضى ذلك وترك ما نحن عليه مما حرم الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) فمن أراد من الله النصر والتأييد وإعلاء الكلمة فعليه بتغيير ما هو عليه من المعاصي والسيئات المخالفة لأمر الله، وربك يقول جل وعلا {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (2) ما قال الله: وعد الله الذين ينتسبون إلى قريش أو العرب أو الذين يبنون القصور ويستخرجون البترول. إلخ، بل علق الحكم بالإيمان الصادق والعمل الصالح سواء كانوا عربا أو عجما.
هذه هي أسباب النصر والاستخلاف في الأرض لا العروبة ولا غير العروبة ولكنه إيمان صادق بالله ورسوله وعمل صالح.
هذا هو السبب وهذا هو الشرط وهذا هو المحور الذي عليه المدار، فمن استقام عليه فله التمكين والاستخلاف في الأرض والنصر على الأعداء، ومن تخلف عن ذلك لم يضمن له النصر ولا السلامة ولا العز، بل قد ينصر كافرا على كافر، وقد ينصر مجرم على مجرم وقد يعان منافق على منافق ولكن النصر المضمون الذي وعد الله به عباده المؤمنين لهم على عدوهم إنما يحصل بالشروط التي بينها سبحانه وبالصفات التي أوضحها جل وعلا وهو الإيمان الصادق
__________
(1) سورة الرعد الآية 11
(2) سورة النور الآية 55(5/112)
والعمل الصالح.
ومن ذلك نصر دين الله قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) هذا هو نصر دين الله فمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فقد نصر دين الله؛ لأن من ضمن ذلك أداء فرائض الله وترك محارم الله. وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (3) وقال سبحانه {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) فأهل الفلاح والنصر والعاقبة الحميدة هم الذين عملوا الصالحات وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ونصروا الله عز وجل. وهم المذكورون في قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (5) فالدواء واضح والعلاج بين، لكن أين من يريد الدواء وأين من يريد العلاج وأين من يستعمله؟! هذا واجب ولاة الأمور والعلماء والأعيان في كل مكان وفي جميع الدول الإسلامية إذا كانوا صادقين في الدعوة إلى الإسلام؛ وذلك بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحفاظ على ذلك والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتفقه في الدين وإصلاح المناهج في المدارس في جميع المراحل والتعاون أيضا في التكاتف ضد الأعداء والاتحاد مع الإخلاص لله في العمل والصدق فيه ونية الآخرة.
وبذلك يستحقون النصر من الله والتأييد منه سبحانه كما كان الأمر
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة الحج الآية 41
(3) سورة آل عمران الآية 110
(4) سورة آل عمران الآية 104
(5) سورة الروم الآية 47(5/113)
كذلك عند سلفنا الصالح مما لا يخفى على أهل العلم. وبالأمس القريب الإمام المجدد لمعالم الإسلام في القرن الثاني عشر لما رأى ما رأى من الجهل العظيم وتعطيل أحكام الشريعة وكثرة الجهل في الجزيرة وغيرها وقلة الدعاة إلى الله عز وجل وانقسام أهل هذه الجزيرة إلى دويلات صغيرة على غير هدى وعلى غير علم.
رأى أن من الواجب عليه أن يقوم بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وأن ينبههم إلى ما وقعوا فيه من الخطر وأن يسعى على جمع كلمتهم على الحق وعلى رئيس واحد يقيم فيهم أمر الله ويجاهدون في سبيل الله، فجد رحمه الله في ذلك ودعا إلى الله واتصل بالأمراء وكتب الرسائل في أمر التوحيد وتحكيم شريعة الله وترك الشرك به، ولم يزل صابرا على ذلك محتسبا بعد ما درس وتفقه في الدين على مشايخ البلاد وغيرهم، ثم جد في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله وجمع الكلمة في حريملاء أولا ثم في العيينة ثم انتقل بعد أمور وشئون إلى الدرعية وبايعه محمد بن سعود رحمه الله على الجهاد في سبيل الله وإقامة أمر الله، فصدقوا جميعا في ذلك وتكاتفوا في ذلك وجاهدوا على ضعفهم حتى نصرهم الله وأيدهم وأعلنوا التوحيد ودعوا الناس إلى الحق والهدى وحكموا شريعة الله في عباد الله وبسبب الصدق والاستعانة بالله وحسن المقصد أيدهم الله وأعانهم، وأخبارهم لا تخفى على كثير ممن له أدنى بصيرة.
ثم جاء بعد ما جرى من الفتور والانقسام جاء الملك عبد العزيز رحمه الله وجد في هذا الأمر وحرص فيه واستعان بالله سبحانه ثم بأهل العلم والإيمان والبصيرة وأعانه الله وأيده وجمع له الله كلمة المسلمين في هذه الجزيرة على كلمة واحدة وعلى تحكيم شريعة الله وعلى الجهاد في سبيل الله حتى استقام أمره وتوحدت هذه الجزيرة (من شمالها إلى جنوبها وشرقها وغربها) على الحق والهدى بأسباب الصدق والجهاد وإعلاء كلمة الله تعالى، فالمقصود أن الأمثلة كثيرة في ذلك.(5/114)
وهكذا صلاح الدين الأيوبي قصته معروفة ومحمود زنكي كذلك. فالمقصود أن سلفنا الصالح الأوائل لما صدقوا في جهادهم في وقت نبيهم وبعده أعزهم الله وأعلى شأنهم واستولوا على المملكتين العظمتين - مملكة الأكاسرة ومملكة الروم في الشام وما حولها - ثم من بعدهم ممن صدق في دين الله نصرهم الله لما عندهم من الصدق والتكاتف في إعلاء كلمة الله. ثم في أوقات متعددة متغايرة يأتي أناس لهم من الصدق والإخلاص ما لهم فيؤيدون وينصرون على عدوهم على قدر إخلاصهم واجتهادهم وبذلهم.
والذي نصر الأولين ونصر الآخرين سبحانه وتعالى هو الله عز وجل وهو ناصر من نصره وخاذل من خذله كما قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} (1) وقال سبحانه {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (2) وقال عز وجل: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (3)
ولكن المصيبة في أنفسنا كما قال عز وجل {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (4) فالمصيبة جاءت من ضعف المسلمين وتكاسلهم وجهلهم وإيثارهم العاجلة وحبهم الدنيا وكراهة الموت وتخلفهم عما أوجب الله وترك الصلوات واتباع الشهوات وإيثار العاجلة والعكوف على المحارم والأغاني الخليعة والفساد للقلوب والأخلاق. إلخ.
__________
(1) سورة الزمر الآية 36
(2) سورة آل عمران الآية 120
(3) سورة البقرة الآية 249
(4) سورة الشورى الآية 30(5/115)
فمن هذا وأشباهه سلط الله على المسلمين عدوهم كما قال جل وعلا {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (1)
نسأل الله عز وجل أن يمن علينا وعلى جميع المسلمين وولاة أمرهم بالتوبة إليه والاستقامة على أمره والتعاون على البر والتقوى وعلى إعداد العدة لأعدائنا والتفقه في الدين والصبر على مراضيه والبعد عن مساخطه سبحانه، كما نسأله سبحانه أن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن ومن أسباب النقم وأن ينصر دينه ويعلي كلمته ويخذل أعداءه وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى وأن يصلح ولاة أمرهم وأن يرزقهم البصيرة إنه سميع قريب. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 16(5/116)
واجب الشباب (1) .
__________
(1) أصل الموضوع محاضرة(5/116)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد: -.
فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوة في الله وأبناء أعزاء، وأسأله عز وجل أن يجعله لقاء مباركا وأن ينفعنا به جميعا وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا إنه جل وعلا جواد كريم. ثم أشكر القائمين على هذا المركز على دعوتهم لي إلى هذا اللقاء وأسأل الله سبحانه أن يضاعف مثوبتهم وأن يجعلنا وإياكم وإياهم من الهداة المهتدين، إنه خير مسئول.
وكلمتي أرجو أن تكون موجزة بعنوان: واجب الشباب.
فمن المعلوم أن الله عز وجل خلق الثقلين ليعبدوه وحده لا شريك له وأرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام لدعوة الناس إلى هذا الواجب وتوضيح هذا الأمر العظيم وتبصيرهم في ذلك وتوجيههم إلى الخير وتحذيرهم عما سواه، قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (2) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (3)
فأبان سبحانه وتعالى أنه خلق الثقلين ليعبدوه وحده لا شريك له وأن الرزق عليه سبحانه وتعالى وليس في حاجة إلى أحد من خلقه جل وعلا، بل هو الرزاق سبحانه وتعالى
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الذاريات الآية 57
(3) سورة الذاريات الآية 58(5/117)
وإنما خلقوا ليعبدوا ربهم، وعبادته تعظيمه والخضوع له سبحانه وتعالى والذل له بفعل أوامره وترك نواهيه عن محبة خاصة وعن صدق وإخلاص وعن رغبة ورهبة، هكذا تكون العبادة، هي طاعة الرب عز وجل وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بفعل الأوامر وترك النواهي عن ذل وخضوع ومحبة لله عز وجل ولرسوله عليه الصلاة والسلام وعن رغبة فيما عند الله من الثواب وعن حذر مما عنده من العقاب جل وعلا.
وهذه العبادة إنما تعرف بالتفصيل من طريق الرسل عليهم الصلاة والسلام وهم الذين يشرحونها للناس ويبينونها بما أنزل الله عليهم من الكتاب وبما يوحي إليهم سبحانه من أنواع الوحي فيما يأمرهم وينهاهم عنه سبحانه وتعالى كما قال عز وجل {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (1) الآية، وقال تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (2) وقال سبحانه {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) وقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (4) فالواجب على جميع الثقلين من الجن والإنس رجالا ونساء شيبا وشبانا أن يعبدوه وحده بطاعته سبحانه فيما أمر به وترك ما نهى عنه على حسب ما جاء به الرسل عليهم الصلاة والسلام.
ومعلوم أن نصيب هذه الأمة من الرسل عليهم الصلاة والسلام محمد عليه السلام، فإن الله أرسله إلى هذه
__________
(1) سورة الحديد الآية 25
(2) سورة النحل الآية 89
(3) سورة النحل الآية 36
(4) سورة الأنبياء الآية 25(5/118)
الأمة عامة وجعله خاتم الأنبياء وكانت الرسل قبله كثيرين وكان كل واحد منهم يرسل إلى قومه خاصة، أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى الناس عامة كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (1) وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2) وقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (3) وتواتر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي (4) » ، وأجمع أهل العلم على أنه خاتم الأنبياء والرسل وأنه ليس بعده نبي ولا رسول.
ولهذا جعل الله رسالته عامة لجميع الأمة عربها وعجمها وجنها وإنسها ذكورها وإناثها أسودها وأبيضها وأحمرها لا فرق في ذلك كما تقدم في قوله عز وجل {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (5) وفي قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (6)
وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة (7) » ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (8) وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (9) نذير للعالمين كلهم.
فالواجب على جميع الثقلين طاعة هذا الرسول عليه السلام والسير على منهاجه والاستقامة على طريقه قولا وعملا وعقيدة ومحبته محبة خاصة صادقة فوق محبة النفس والأهل والأولاد والناس
__________
(1) سورة سبأ الآية 28
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) سورة الأحزاب الآية 40
(4) سنن الترمذي الفتن (2219) ، مسند أحمد بن حنبل (5/278) .
(5) سورة الأعراف الآية 158
(6) سورة سبأ الآية 28
(7) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) .
(8) سورة الأنبياء الآية 107
(9) سورة الفرقان الآية 1(5/119)
أجمعين، فبذلك يفلح العبد غاية الفلاح وينجو في الدنيا والآخرة، وتكون له السعادة والعاقبة الحميدة الأبدية كما قال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) فمن آمن به واتبع طريقه وانقاد لشرعه فهو المفلح وهو السعيد في الدنيا والآخرة وهو الصادق حقا في محبته لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم كما قال عز وجل {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (2) الآية.
وقال تعالى تلك {حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (4) وقال عليه السلام: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (5) » خرجه الإمام البخاري في صحيحه.
فالواجب على جميع المكلفين من الرجال والنساء والذكور والإناث والشباب والشيب والجن والإنس والعرب والعجم أن يعبدوا الله وحده ويخصوه بأنواع العبادة وأن يطيعوه سبحانه وتعالى، ويتبعوا شريعته وذلك بإخلاص العبادة له وحده واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
والعبادة حق الله وحده ليس لأحد فيها شركة كما قال تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (6) وقال سبحانه {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (7) وقال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (8) الآية
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) سورة النساء الآية 13
(4) سورة النساء الآية 14
(5) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، صحيح مسلم الإمارة (1835) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .
(6) سورة الفاتحة الآية 5
(7) سورة الإسراء الآية 23
(8) سورة البينة الآية 5(5/120)
وهذه العبادة هي طاعته واتباع شريعته وتعظيم أمره ونهيه وترك ما نهى عنه عن ذل وخضوع وعن محبة وانقياد وصدق ورهبة ورغبة.
ومن عبد غيره معه فقد أشرك به سبحانه كمن يعبد الشمس أو القمر أو النجوم أو الأصنام أو الجن أو الرسل أو الأنبياء أو الأولياء أو غيرهم من المخلوقين يدعوهم أو يستغيث بهم أو يطلب المدد منهم أو يذبح لهم أو يعتقد فيهم أنهم يتصرفون في الخلق بالنفع أو الضر أو شفاء المرض أو جلب الرزق أو النصر على الأعداء أو نحو ذلك، أو أنهم شركاء لله في ذلك وهذا كله من الشرك الأكبر والكفر البواح الذي يفسد العمل ويحبطه ويوجب دخول النار وتحريم الجنة والمغفرة، كما قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (1) وقال تعالى {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) وقال تعالى {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) وقال تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (4)
فالشرك هو صرف بعض العبادة لغير الله عز وجل؛ جعل بعضها لله وبعضها لغيره سبحانه وتعالى من الجن أو الإنس أو الملائكة أو الأصنام أو الأشجار أو الكواكب أو الأحجار
__________
(1) سورة المائدة الآية 72
(2) سورة الأنعام الآية 88
(3) سورة الزمر الآية 65
(4) سورة النساء الآية 48(5/121)
أو غير ذلك من الخلق يستغيث بهم أو ينذر لهم أو يذبح لهم أو يطلب منهم المدد أو نحو ذلك. فمن فعل ذلك فقد أشرك بالله وعبد معه سواه وأبطل بذلك شهادته أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ لأن لا إله إلا الله هي كلمة التوحيد وهي أساس الدين، قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) وقال تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (2) الآية.
فمن أشرك مع الله غيره نقض هذه الكلمة؛ لأن معناها: لا معبود حق إلا الله، كما قال تعالى في سورة الحج {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (3) ومن زعم أنه يجوز أن يدعى مع الله غيره ويعبد مع الله سواه من صنم أو شجر أو حجر أو نبي أو ملك أو جني أو غير ذلك فقد أشرك بالله وكفر وأعظم على الله الفرية وإن لم يفعله ما دام يعتقد جواز هذا وأنه لا بأس به، وصار بهذا مشركا كافرا ولو لم يفعله فكيف إذا فعل.
وهكذا من جحد ما أوجب الله عليه من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة يكون كافرا مشركا؛ كمن جحد وجوب الصلاة أو الزكاة أو جحد وجوب صوم رمضان أو جحد وجوب الحج مع الاستطاعة أو جحد تحريم الزنا، أو قال: إن الخمر ليس بحرام أو أحل اللواط أو الربا أو عقوق الوالدين أو ما أشبه ذلك مما هو معروف من الدين بالضرورة وجوبه أو تحريمه فإنه يصير بذلك مشركا كافرا مبطلا بذلك قوله لا إله إلا الله؛ لأن دين الله يتضمن إخلاص العبادة لله وحده والإيمان بما شرع الله من واجبات ومحرمات، فعلى المسلم أن ينقاد لذلك ويؤمن به ويستقيم عليه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة محمد الآية 19
(3) سورة الحج الآية 62(5/122)
والشباب لهم شأن؛ لأنهم عصب الأمة وقوتها بعد الله، ويرجى فيهم الخير العظيم والنصر لدين الله في مستقبل الزمان إذا استقاموا وتثقفوا في الدين كما يرجى فيهم النفع للأمة والرفع من شأنها وإعلاء دين الله وجهاد أعدائه. وعلى الشباب واجب كبير في نصر الحق وأهله ومكافحة الباطل والدعاة إليه.
فالواجب على كل شاب مكلف أنه يهتم بدينه وأن يعتني به وأن يتفقه فيه من طريق الكتاب والسنة بواسطة العلماء المعروفين بالعلم والفضل وحسن العقيدة حتى يستقيم على دينه على بصيرة ويدعو إليه على بصيرة وحتى يدع ما حرم الله عليه على بصيرة. وطريق ذلك العناية بالقرآن الكريم حفظا وتدبرا وتعقلا والإكثار من تلاوته؛ لأنه صراط الله المستقيم وحبله المتين وذكره الحكيم، ولأنه الهادي إلى كل الخير كما قال سبحانه {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) وقال تعالى {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (2) وقال جل وعلا: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3)
وعلى الشباب أيضا وغيرهم من المسلمين أن يعتنوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أحاديثه وسيرته ويتفقهوا فيها ويحفظوا ما تيسر منها ويدعوا الناس إلى ذلك؛ لأنها الوحي الثاني والأصل الثاني من أصول الشريعة بإحماع أهل العلم كما قال تعالى {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (4) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (5) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (6) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (7) وقال سبحانه:
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة فصلت الآية 44
(3) سورة ص الآية 29
(4) سورة النجم الآية 1
(5) سورة النجم الآية 2
(6) سورة النجم الآية 3
(7) سورة النجم الآية 4(5/123)
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (1) وقال عز وجل معظما شأن الكتاب والسنة في آخر سورة الشورى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (3) فأخبر سبحانه في هذه الآية الكريمة أن القرآن والسنة روح تحصل به الحياة للعباد ونور تحصل به الهداية لمن شاء الله منهم.
فجدير بأهل العلم من الشباب وغيرهم أن يعضوا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالنواجذ وأن يتفقهوا فيهما وأن يهتدوا بهما إلى صراط الله المستقيم الموصل إليه وإلى دار كرامته وجنته وأن يسيروا على ذلك في المدارس والجامعات وفي الحلقات العلمية وغير ذلك من مجالس العلم مع سؤال علماء الحق عما أشكل عليهم في الأحكام، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (4)
وعلى الشباب أن يعتنوا بالكتب التي يوكل إليهم حفظها ودراستها مع عرضها على الكتاب والسنة حتى يكونوا في ذلك على بينة وبصيرة مما يدل عليه كتاب ربهم عز وجل وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام ومما يوضح لهم أهل العلم في المدرسة والجامعة وحلقات العلم ولا يتم هذا إلا بالله سبحانه وتعالى والاستعانة به والتوجه إليه وسؤاله التوفيق والهداية ثم حفظ الوقت والعناية به حتى لا يصرف إلا فيما ينفع ويفيد ويلتحق بذلك العناية بالدروس
__________
(1) سورة النور الآية 54
(2) سورة الشورى الآية 52
(3) سورة الشورى الآية 53
(4) سورة النحل الآية 43(5/124)
والإقبال عليها وسؤال الأساتذة عما يشكل فيها والمذاكرة مع الزملاء في ذلك حتى يكون الطالب قد حفظ وقته واستعد لما يقوله الأستاذ ويشرح له ولا يجوز له أن يتكبر عن المذاكرة مع زميله والسؤال لأستاذه، كما لا ينبغي أن يستحي في طلب العلم والسؤال عن المشكلات، قال الله تعالى في سورة الأحزاب {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} (1) وقالت أم سليم الأنصارية رضي الله عنها: «يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم إذا هي رأت الماء (2) » متفق عليه. والمراد بالماء: المني، وقال مجاهد بن جبر التابعي الجليل: لا يتعلم العلم مستح ولا مستكبر رواه البخاري في صحيحه معلقا مجزوما به.
ومن الواجب على الشباب وغيرهم العمل بالعلم وذلك بأداء الواجبات والحذر من المحرمات؛ لأن هذا هو المقصود من العلم ومن أسباب رسوخه وثباته في القلوب ومن أسباب رضاء الله عن العبد وتوفيقه له.
ومن المصائب العظيمة أن بعض الناس يتعلم ولكنه لا يعمل، ولا شك أن ذلك مصيبة كبيرة وتشبه بأعداء الله اليهود وأمثالهم من علماء السوء الذين غضب الله عليهم بسبب عدم عملهم بعلمهم.
يقول بعض السلف رضي الله عنهم: " من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم " ويدل على هذا قوله سبحانه {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (3) وقوله عز وجل {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} (4) فمن اهتدى زاده الله هدى وزاده علما وتوفيقا.
قال تعالى في أعظم سورة وهي سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (5) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (6) وهم أهل العلم والعمل من الرسل وأتباعهم بإحسان. فالمنعم
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) صحيح البخاري كتاب الأدب (6091) ، صحيح مسلم الحيض (313) ، سنن الترمذي الطهارة (122) ، موطأ مالك الطهارة (118) .
(3) سورة محمد الآية 17
(4) سورة مريم الآية 76
(5) سورة الفاتحة الآية 6
(6) سورة الفاتحة الآية 7(5/125)
عليهم هم الذين عرفوا الله وعملوا بطاعته وشرعه وتفقهوا في الدين واستقاموا عليه كما قال الله جل وعلا: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (1) هؤلاء هم المنعم عليهم وهم أهل الصراط المستقيم وهم أهل العلم والعمل وأهل البصيرة. ثم حذر سبحانه من المغضوب عليهم والضالين، فقال سبحانه {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (2) فالمغضوب عليهم هم الذين يعلمون ولا يعملون كاليهود وأشباههم والضالين هم النصارى وأشباههم من الجهلة يتعبدون على الجهالة. فالمؤمن يسأل ربه أن يهديه صراط المنعم عليهم من أهل العلم والعمل وأن يجنبه طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين.
فالواجب على الشباب بصفة خاصة وعلى كل مسلم بصفة عامة أن يعتني بهذا الأمر ويكون في دراسته حريصا على العلم والفقه في الدين والعمل بذلك حافظا لوقته معتنيا بالمذاكرة والدراسة والسؤال عما أشكل عليه ناصحا لله ولعباده، يقول صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (3) » ويقول صلى الله عليه وسلم «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (4) » ويقول صلى الله عليه وسلم «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفقه يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه (5) » متفق على صحته.
فالشاب الناشئ في العبادة له شأن عظيم في فقهه وعلمه ونصحه لكونه قد تربى على العلم والفضل والعمل والعبادة والخير فيكون بذلك نافعا لنفسه
__________
(1) سورة النساء الآية 69
(2) سورة الفاتحة الآية 7
(3) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(4) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(5) صحيح البخاري الأذان (660) ، صحيح مسلم الزكاة (1031) ، سنن الترمذي الزهد (2391) ، سنن النسائي آداب القضاة (5380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، موطأ مالك الجامع (1777) .(5/126)
نافعا لعباد الله من أساس شبابه حتى يلقى ربه.
ومن أهم الأمور بل أهم الأمور بعد الشهادتين: الصلوات الخمس والمحافظة عليها، وهي عماد الدين (من حفظها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع) . ووصيتي لكم أيها الأخوة المستمعون ولنفسي ولجميع الشباب ولكل مسلم تقوى الله في كل شيء والعناية بوجه خاص بالصلاة والمحافظة عليها في وقتها في الجماعة في المساجد مع المسلمين، وهذا من أهم واجبات الشباب وواجب كل مسلم ومسلمة، فالصلاة هي عمود الإسلام (من حفظها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع) كما تقدم، وهي أول شيء يسأل عنه العبد يوم القيامة، فإن صحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر.
يقول صلى الله عليه وسلم «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله (1) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت (2) » وهي الركن الثاني من أركان الإسلام، ويقول أيضا عليه الصلاة والسلام: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (3) » . ويقول أيضا صلى الله عليه وسلم «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (4) » .
وهكذا تجب العناية بأداء الزكاة لمن عنده مال يبلغ النصاب.
وهكذا تجب العناية بصوم رمضان في وقته والحفاظ على ذلك. وكذلك يجب حج بيت الله الحرام مع الاستطاعة مرة في العمر.
ومن الواجبات العظيمة بر الوالدين والإحسان إليهما وصلة الرحم وإكرام الضيف وصدق الحديث والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأداء الأمانة والنصح لكل مسلم مع الحذر من جميع ما حرم الله مثل الزنا والسرقة وشرب
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2616) ، سنن ابن ماجه الفتن (3973) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/26) .
(3) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(4) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/370) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .(5/127)
المسكر وأكل الربا وسائر ما حرم الله من الغيبة وشهادة الزور والكذب وغير هذا مما حرم الله. فالواجب على كل مسلم ومسلمة الحذر من ذلك.
ومن واجب الشباب بصفة خاصة أن ينشأوا على ذلك وأن يوطنوا أنفسهم على الخير وأن يجاهدوها في هذا المقام حتى يؤدوا ما أوجب الله وحتى يبتعدوا عما حرم الله عليهم، ومن ذلك الحذر من المخدرات وسائر المسكرات فإن شرها عظيم وفسادها كبير. فيجب البعد عنها والحذر من مجالسة أهلها؛ لأن المجالسة تجر إلى أخلاق الجليس.
فالواجب صحبة الأخيار والحذر من صحبة الأشرار. وهكذا العناية ببر الوالدين والإحسان إليهما وعدم عقوقهما فإن حقهما عظيم. ومن الأخلاق الكريمة العناية بالزميل والإخوان وعدم التكبر عليهم والعناية بالجار والإحسان إليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوصى بذلك، وهكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله عز وجل {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} (1) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه (2) » إلى غير ذلك من أخلاق المؤمنين. قال صلى الله عليه وسلم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق (3) » .
ومن الأخلاق الكريمة العظيمة العناية بطاعة الله ورسوله في جميع الأوقات والمحافظة على ذلك والحفاظ على الوقت وأن يؤمر بطاعة الله وترك ما نهى عنه والعناية بالأخلاق الكريمة من بر للوالدين وصلة الرحم وإيثار للمسلم وعدم الغيبة والنميمة والحرص على حفظ اللسان عما لا ينبغي والإكثار من ذكر الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير والتحذير من الشر.
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) صحيح البخاري الأدب (6015) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (2/85) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (2/381) .(5/128)
وهكذا المؤمن وهكذا الشاب المتعلم يجب أن يعود نفسه هذه الأخلاق الكريمة، ويجب أن يتعود البعد عما حرمه الله والحذر عما حرم الله، فإن العبد متى نشأ على شيء في الغالب يتشيب عليه ويموت عليه. في سنة الله على عباده أنه سبحانه إذا وفق العبد في شبابه على الخير والاستقامة فإن الله سبحانه يوفقه للثبات عليه والوفاة عليه. فليحرص المؤمن والشاب الصالح على الثبات على الحق والسير عليه ومصاحبة الأخيار الذين يعينونه على الخير والحذر من صحبة الأشرار والزملاء الذين يعينونه على الشر.
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح وأن يسلك بنا جميعا صراطه المستقيم وأن يعيذنا وإياكم وسائر المسلمين من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه والثبات عليه والدعوة إليه على بصيرة إنه جل وعلا جواد كريم كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا إلى كل خير وأن ينصر بهم دينه ويعلي بهم كلمته وأن ييسر لهم البطانة الصالحة وأن يجعلهم هداة مهتدين.
كما أسأله سبحانه أن يوفق جميع ولاة أمر المسلمين وأن يعينهم على تنفيذ الحق والحكم به والحذر ممن يخالفه وأن يصلح الله لهم البطانة وأن يوفقهم لتحكيم شريعة الله في عباده وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان وأن يولي عليهم خيارهم وأن يفقههم في الدين وأن يكثر بينهم دعاة الهدى، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(5/129)
من أهداف الحج توحيد كلمة المسلمين.
الحمد لله الذي جعل البيت مثابة للناس وأمنا، وجعله مباركا وهدى للعالمين، وأمر عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء ووالد الأنبياء من بعد أن يوجه الناس ويؤذن فيهم بالحج بعد ما بوأ له مكان البيت ليأتوا إليه من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين الذي بعث رسله وأنزل كتبه لإقامة الحجة وبيان أنه سبحانه هو الواحد الأحد المستحق أن يعبد والمستحق لأن يجتمع العباد على طاعته واتباع شريعته وترك ما خالف ذلك، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وخليله الذي أرسله سبحانه رحمة للعالمين وحجة على العباد أجمعين. بعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وأمره أن يبلغ الناس مناسكهم ففعل ذلك قولا وعملا عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.
لقد حج عليه الصلاة والسلام حجة الوداع وبلغ الناس مناسكهم قولا وعملا، وقال للناس «خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا (1) » فشرح لهم أعمال الحج وأقوال الحج وجميع مناسكه بقوله وفعله عليه الصلاة والسلام. فقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين من ربه عليه الصلاة والسلام، فسار خلفاؤه الراشدون وصحابته
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .(5/130)
المرضيون رضي الله عنهم جميعا على نهجه القويم وبينوا للناس هذه الرسالة العظيمة بأقوالهم وأعمالهم ونقلوا إلى الناس أقواله وأعماله عليه الصلاة والسلام بغاية الأمانة والصدق رضي الله عنهم وأرضاهم وأحسن مثواهم.
وكان أعظم أهداف هذا الحج توحيد كلمة المسلمين على الحق وإرشادهم إليه حتى يستقيموا على دين الله وحتى يعبدوه وحده وحتى ينقادوا لشرعه، فمن أجل ذلك رأيت أن تكون كلمتي في هذا المقام بهذا العنوان " من أهداف الحج توحيد كلمة المسلمين على الحق " وللحج أهداف كثيرة يأتي بيان كثير منها إن شاء الله.
أما بعد:
فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوة لي في الله في نادي مكة الثقافي الأدبي للتناصح والتعاون على الخير وبيان كثير من أهداف هذا المنسك العظيم وهو حج بيت الله الحرام ليكون حجاج بيت الله الحرام على بصيرة وليستفيدوا مما شرع الله لهم ومما قد يجهله كثير منهم.
ثم أشكر القائمين على هذا النادي وعلى رأسهم الأخ الكريم الدكتور \ راشد الراجح رئيس النادي ومدير جامعة أم القرى على دعوتهم لي لهذا اللقاء، وأسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه وأن يعين القائمين على النادي على كل خير وأن ينفع بجهودهم المسلمين وأن يجعلنا جميعا من الهداة المهتدين ومن أنصار الحق أينما كنا.
أيها الإخوة في الله، إن الله جل وعلا شرع الحج لعباده وجعله الركن الخامس من أركان الإسلام لحكم كثيرة وأسرار عظيمة ومنافع لا تحصى، وقد أشار الله جل وعلا إلى ذلك في كتابه العظيم حيث يقول جل وعلا:(5/131)
{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (2) {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (3)
فبين سبحانه وتعالى أن هذا البيت أول بيت وضع للناس؛ أي في الأرض للعبادة والتقرب إلى الله بما يرضيه، كما ثبت في الصحيحين في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: «قلت يا رسول الله: أخبرني عن أول مسجد وضع في الأرض، قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: وكم بينهما؟ قال: أربعون عاما، قلت: ثم أي؟ قال: ثم حيث أدركتك الصلاة فصل فإنها مسجد (4) » .
فبين عليه الصلاة والسلام أن أول بيت وضع للناس هو المسجد الحرام وهو وضع للعبادة والتقرب إلى الله عز وجل كما قال أهل العلم. وهناك بيوت قبله للسكن ولكن المقصود أنه أول بيت وضع للعبادة والطاعة والتقرب إلى الله عز وجل بما يرضيه من الأقوال والأعمال، ثم بعده المسجد الأقصى بناه حفيد إبراهيم يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، ثم جدده في آخر الزمان بعد ذلك بمدة طويلة نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك كل الأرض مسجد، ثم جاء مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، وهو المسجد الثالث في آخر الزمان على يد نبي الساعة محمد عليه الصلاة والسلام، فبناه بعدما هاجر إلى المدينة هو وأصحابه رضي الله عنهم وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه أفضل المساجد بعد المسجد الحرام. فالمساجد المفضلة ثلاثة: أعظمها وأفضلها المسجد الحرام، ثم مسجد النبي عليه الصلاة والسلام ثم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 95
(2) سورة آل عمران الآية 96
(3) سورة آل عمران الآية 97
(4) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3366) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (520) ، سنن النسائي المساجد (690) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (753) ، مسند أحمد بن حنبل (5/156) .(5/132)
المسجد الأقصى.
والصلاة في هذه المساجد مضاعفة؛ جاء في الحديث الصحيح «أنها في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة (1) » ، وجاء في مسجده عليه الصلاة والسلام أن «الصلاة في مسجده خير من ألف صلاة فيما سواه، (2) » «وجاء في المسجد الأقصى أنها بخمسمائة صلاة» ، وهي المساجد العظيمة المفضلة وهي مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وشرع الله جل وعلا الحج لعباده لما في ذلك من المصالح العظيمة. وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الحج مفروض على العباد المكلفين المستطيعين السبيل إليه كما دل عليه كتاب الله عز وجل في قوله سبحانه {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (3)
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم في الناس فقال: «أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا. فقيل: يا رسول الله أفي كل عام؟ فقال: الحج مرة فمن زاد فهو تطوع (4) » فهو فرض مرة في العمر فما زاد على ذلك فهو تطوع على الرجال والنساء المكلفين المستطيعين السبيل إليه، ثم هو بعد ذلك تطوع وقربة عظيمة، كما قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (5) » وهذا يعم الفرض والنفل من العمرة والحج.
وقال عليه الصلاة والسلام: «من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (6) » ، وفي اللفظ الآخر: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (7) » . وهذا يدل على الفضل العظيم للحج والعمرة وأن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما وأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
فجدير بأهل الإيمان أن يبادروا لحج بيت الله وأن يؤدوا هذا الواجب
__________
(1) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1413) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1190) ، صحيح مسلم الحج (1394) ، سنن الترمذي الصلاة (325) ، سنن النسائي المساجد (694) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1404) ، مسند أحمد بن حنبل (2/278) ، موطأ مالك النداء للصلاة (461) .
(3) سورة آل عمران الآية 97
(4) صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .
(5) صحيح البخاري الحج (1773) ، صحيح مسلم الحج (1349) ، سنن الترمذي الحج (933) ، سنن النسائي مناسك الحج (2629) ، سنن ابن ماجه المناسك (2888) ، مسند أحمد بن حنبل (2/462) ، موطأ مالك الحج (776) .
(6) صحيح مسلم الحج (1350) .
(7) صحيح البخاري الحج (1820) ، سنن النسائي مناسك الحج (2627) ، سنن ابن ماجه المناسك (2889) ، مسند أحمد بن حنبل (2/410) ، سنن الدارمي المناسك (1796) .(5/133)
العظيم أينما كانوا إذا استطاعوا السبيل إلى ذلك. وأما بعد ذلك فهو نافلة وليس بفريضة، ولكن فيه فضل عظيم، كما في الحديث الصحيح: «قيل: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم أي؟ قال: حج مبرور (1) » متفق عليه.
وقد حج عليه الصلاة والسلام حجة الوداع وشرع للناس المنسك بقوله وفعله وخطب بهم في حجة الوداع في يوم عرفة خطبة عظيمة ذكرهم فيها بحقه سبحانه وتوحيده، وأخبرهم فيها أن أمور الجاهلية موضوعة وأن الربا موضوع وأن دماء الجاهلية موضوعة، وأوصاهم فيها بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله والاعتصام بهما وأخبر أنهم لن يضلوا ما اعتصموا بهما، وبين حق الرجل على زوجته وحقها عليه وبين أمورا كثيرة عليه الصلاة والسلام. ثم قال: «وأنتم تسألون عني فما أنت قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكبها إلى الأرض ويقول: اللهم اشهد اللهم اشهد (2) » عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.
ولا شك أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة عليه الصلاة والسلام على خير الوجوه وأكملها، ونشهد له بذلك كما شهد له صحابته رضي الله عنهم وأرضاهم. وقد بين عليه الصلاة والسلام مناسك الحج وأعماله بأقواله وأفعاله. وكان خروجه من المدينة في آخر ذي القعدة من عام عشر، محرما بالحج والعمرة قارنا من ذي الحليفة، وساق الهدي عليه الصلاة والسلام، وأتى مكة في صبيحة اليوم الرابع من ذي الحجة ولم يزل يلبي من الميقات من حين أحرم من ذي الحليفة بتلبيته المشهورة: «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك (3) » بعدما لبى بالحج والعمرة عليه الصلاة والسلام.
وكان قد خير أصحابه في ذي الحليفة بين الأنساك الثلاثة، فمنهم
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (26) ، صحيح مسلم الإيمان (83) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1658) ، سنن النسائي مناسك الحج (2624) ، مسند أحمد بن حنبل (2/287) ، سنن الدارمي الجهاد (2393) .
(2) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(3) صحيح البخاري الحج (1549) ، صحيح مسلم الحج (1184) ، مسند أحمد بن حنبل (2/120) .(5/134)
من لبى بالعمرة ومنهم من لبى بهما، وكان صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالتلبية، وهكذا أصحابه رضي الله عنهم. ولم يزل يلبي حتى وصل إلى بيت الله العتيق، وبين للناس ما يقولونه من الأذكار والدعاء في طوافهم وسعيهم وفي عرفات وفي مزدلفة وفي منى. وبين الله جل وعلا ذلك في كتابه العظيم حيث قال جل وعلا: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} (1) {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) إلى أن قال سبحانه وتعالى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (3) الآية.
فالذكر من جملة المنافع المذكورة في قوله تعالى {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (4) الآية، وعطفه على المنافع من باب عطف الخاص على العام. وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله (5) » .
وشرع للناس كما جاء في كتاب الله ذكر الله عند الذبح وشرع لهم ذكر الله عند رمي الجمار. فكل أنواع مناسك الحج ذكر لله قولا وعملا. فالحج بأعماله وأقواله كله ذكر الله عز وجل وكله دعوة إلى توحيده والاستقامة على دينه والثبات على ما بعث به رسوله محمد عليه الصلاة والسلام. فأعظم أهدافه توجيه الناس إلى توحيد الله والإخلاص له والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما بعث الله به من الحق والهدى في الحج وغيره.
فالتلبية أول ما يأتي به الحاج
__________
(1) سورة البقرة الآية 198
(2) سورة البقرة الآية 199
(3) سورة البقرة الآية 203
(4) سورة الحج الآية 28
(5) سنن الترمذي الحج (902) ، سنن أبو داود المناسك (1888) ، مسند أحمد بن حنبل (6/64) ، سنن الدارمي المناسك (1853) .(5/135)
والمعتمر يقول: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) يعلن توحيده لله وإخلاصه لله وأن الله سبحانه لا شريك له، وهكذا في طوافه لذكر الله ويعظمه ويعبده بالطواف وحده، ويسعى فيعبده بالسعي وحده دون كل من سواه، وهكذا بالتحليق والتقصير وهكذا بذبح الهدايا والضحايا كل ذلك لله وحده، وهكذا بأذكاره التي يقولها في عرفات وفي مزدلفة وفي منى، كلها ذكر الله وتوحيد له ودعوة إلى الحق وإرشاد للعباد وأن الواجب عليهم أن يعبدوا الله وحده وأن يتكاتفوا في ذلك ويتعاونوا وأن يتواصوا بذلك وهم يأتون من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم.
وهذه المنافع كثيرة جدا أجملها الله في الآية وفصلها في مواضع كثيرة، منها الطواف وهو عبادة عظيمة ومن أعظم أسباب تكفير الذنوب وحط الخطايا، وهكذا السعي وما فيهما من ذكر الله عز وجل والدعاء، وهكذا ما في عرفات من ذكر الله والدعاء وما في مزدلفة من ذكر الله والدعاء، وما في ذبح الهدايا من ذكر الله وتكبيره وتعظيمه، وما يقال عند رمي الجمار من تكبير الله عز وجل وتعظيمه، وكل أعمال الحج تذكر بالله وحده وتدعو المسلمين جميعا إلى أن يكونوا جسدا واحدا وبناء واحدا في اتباع الحق والثبات عليه والدعوة إليه والإخلاص لله سبحانه في جميع الأقوال والأعمال، وهم يتلاقون على هذه الأراضي المباركة يريدون التقرب إلى الله وعبادته سبحانه، وطلب غفرانه وعتقه لهم من النار.
ولا شك أن هذا مما يوحد القلوب ويجمعها على طاعة الله والإخلاص له واتباع شريعته وتعظيم أمره ونهيه، ولهذا قال عز وجل {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (1) فأخبر سبحانه أنه مبارك بما يحصل لزواره والحاجين إليه من الخير العظيم من الطواف والسعي وسائر ما شرعه الله من أعمال الحج والعمرة وهو مبارك تحط عنده الخطايا وتضاعف عنده الحسنات وترفع فيه الدرجات، ويرفع الله ذكر أهله المخلصين الصادقين ويغفر لهم ذنوبهم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 96(5/136)
ويدخلهم الجنة فضلا منه وإحسانا إذ أخلصوا له واستقاموا على أمره وتركوا الرفث والفسوق كما قال صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (1) » والرفث هو الجماع قبل التحلل، وما يدعو إلى ذلك من قول وعمل مع النساء كله رفث، والفسوق: جميع المعاصي القولية والفعلية يجب على الحاج تركها والحذر منها، وهكذا الجدال يجب تركه إلا في خير، كما قال جل وعلا: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (2) الحج كله دعوة إلى طاعة الله ورسوله، دعوة إلى تعظيم الله وذكره، دعوة إلى ترك المعاصي والفسوق، دعوة إلى ترك الجدال الذي يجلب الشحناء والعداوة ويفرق بين المسلمين، أما الجدال بالتي هي أحسن فهذا مأمور به في كل زمان ومكان كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) وهذا طريق الدعوة في كل زمان ومكان في البيت العتيق وغيره. يدعو إخوانه بالحكمة وهي العلم؛ قال الله تعالى وقال رسوله، وبالموعظة الحسنة الطيبة اللينة التي ليس فيها عنف ولا إيذاء، ويجادل بالتي هي أحسن عند الحاجة لإزالة الشبهة وإيضاح الحق. فيجادل بالتي هي أحسن بالعبارات الحسنة والأساليب الجيدة المفيدة التي تزيل الشبهة وتوجه إلى الحق دون عنف وشدة.
فالحجاج في أشد الحاجة إلى الدعوة والتوجيه إلى الخير والإعانة على الحق، فإذا التقى مع إخوانه من سائر أقطار الدنيا وتذاكروا فيما يجب عليهم وما شرع الله لهم كان ذلك من أعظم الأسباب في توحيد كلمتهم واستقامتهم على دين الله وتعارفهم وتعاونهم على البر والتقوى. فالحج فيه منافع
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1521) ، صحيح مسلم الحج (1350) ، سنن النسائي مناسك الحج (2627) ، سنن ابن ماجه المناسك (2889) ، مسند أحمد بن حنبل (2/248) ، سنن الدارمي المناسك (1796) .
(2) سورة البقرة الآية 197
(3) سورة النحل الآية 125(5/137)
عظيمة، فيه خيرات كثيرة، فيه دعوة إلى الله وتعليم وإرشاد وتعارف وتعاون على البر والتقوى بالقول والفعل المعنوي والمادي، هكذا يشرع لجميع الحجاج والعمار أن يكونوا متعاونين على البر والتقوى، متناصحين حريصين على طاعة الله ورسوله، مجتهدين فيما يقربهم إلى الله، متباعدين عن كل ما حرم الله.
وأعظم ما أوجبه الله توحيده وإخلاص العبادة له في كل مكان وفي كل زمان ولا سيما في هذه البقعة العظيمة المباركة، فإن من الواجب إخلاص العبادة لله وحده في كل مكان وفي كل زمان، وفي هذا المكان أعظم وأوجب، فيخلص لله عملا وقولا من طواف وسعي ودعاء وغير ذلك، وهكذا بقية الأعمال كلها لله وحده جل وعلا مع الحذر من معاصي الله عز وجل، ومع الحذر من ظلم العباد وإيذائهم بقول وعمل، فالمؤمن يحرص كل الحرص على نفع إخوانه والإحسان إليهم وتوجيههم إلى الخير، وبيان ما قد يجلهون من أمر الله وشرعه مع الحذر من إيذائهم وظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم؛ فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله بل يحب له كل خير ويكره له كل شر أينما كان ولا سيما في بيت الله العتيق وفي حرمه الأمين وفي بلد رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله جعل هذا الحرم آمنا، جعله آمنا من كل ما يخافه الناس، فعلى المسلم أن يحرص على أن يكون مع أخيه في غاية من الأمانة ينصحه ويرشده ولا يغشه ولا يخونه ولا يؤذيه لا بقول ولا بعمل، فقد جعل الله هذا الحرم آمنا كما قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} (1) وقال جل وعلا: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} (2)
__________
(1) سورة البقرة الآية 125
(2) سورة القصص الآية 57(5/138)
فالمؤمن يحرص كل الحرص على تحقيق هذا الأمن، وأن يكون بنفسه حريصا على الإحسان لأخيه وإرشاده إلى ما ينفعه ومساعدته دنيا ودينا على كل ما فيه راحة ضميره وإعانته على أداء المناسك، كما أنه يحرص كل الحرص على البعد عن كل ما حرم الله من سائر المعاصي، ومن جملة ذلك إيذاء العباد فإن ذلك من أكبر المحرمات، وإذا كان مع حجاج بيت الله الحرام ومع العمار صار الظلم أكثر إثما، وأشد عقوبة، وأسوأ عاقبة.
فالحج والعمرة نسكان عظيمان من أعظم العبادة التي يترتب عليها خير عظيم، ومنافع جمة، وعواقب حميدة، لسائر المسلمين في سائر أقطار الدنيا.
فالصلوات الخمس يجتمع فيها العباد في كل بلد يتعارفون ويتناصحون ويتعاونون على البر والتقوى، لكن الحج يجتمع فيه العالم كله من كل مكان، فإذا كانت الصلوات هي من الخير العظيم لاجتماعهم عليها في أوقات خمسة، فهكذا الحج في كل عام فيه خير عظيم والأمر فيه أوجب وأعظم من جهة دعوة الناس إلى الخير لأنهم يأتون من كل فج عميق، وقد لا تلقى أخاك الذي تراه في الحج بعد ذلك، وهكذا المرأة عليها أن تحرص وأن تبذل وسعها في إرشاد أخواتها في الله مما علمها الله.
فالرجل يرشد لإخوانه وأخواته في الله من حجاج بيت الله الحرام وزوار مسجد رسوله صلى الله عليه وسلم، والمرأة كذلك ترشد لإخوانها وأخواتها في الله مما تعلم من الحجاج والعمار، هكذا يكون الحج وهكذا تكون العمرة فيهما التعاون والتواصي بالحق والتناصح والإرشاد إلى الخير وبذل المعروف وكف الأذى أينما كان الحجاج والعمار، في المسجد الحرام وفي خارج المسجد، في الطواف وفي السعي وفي رمي الجمار وفي غير ذلك، يحرص كل واحد على كل ما ينفع أخاه ويدرأ عنه الأذى في جميع أرجاء البلد الكريم، وفي جميع مشاعر الحج يرجو من الله المثوبة ويحذر مغبة الظلم والأذى لإخوانه المسلمين، وهذا كله داخل في قوله سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (1)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 96(5/139)
وإنما كان مباركا وهدى للعالمين لما يحصل لقاصديه من الخير العظيم في هذا البيت العتيق من الطواف والسعي والتلبية والأذكار العظيمة يهتدون بها إلى توحيد الله وطاعته، ويحصل لهم من التعارف والتلاقي والتواصي والتناصح ما يهتدون به إلى الحق، ولهذا سمى الله بيته مباركا وهدى للعالمين لما يحصل فيه من البركة والخير العظيم من تلبية وأذكار وطاعة عظيمة، تبصر العباد بربهم وتوحيده وتذكرهم بما يجب عليهم نحوه سبحانه، ونحو رسوله عليه الصلاة والسلام، وتذكرهم بما يجب عليهم نحو إخوانهم الحجاج والعمار من تناصح وتعاون وتواص بالحق ومواساة للفقير ونصر للمظلوم وردع للظالم وإعانة على كل وجوه الخير.
هكذا ينبغي لحجاج بيت الله الحرام ولعماره أن يوطنوا أنفسهم لهذا الخير العظيم وأن يستعدوا لكل ما ينفع إخوانهم وأن يحرصوا على بذل المعروف وكف الأذى، كل واحد مسئول عما حمله الله حسب طاقته كما قال سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1)
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وجميع المسلمين لما فيه رضاه وصلاح عباده، وأن يوفق حجاج بيته العتيق وعماره لما فيه صلاحهم ونجاتهم ولما فيه قبول حجهم وقبول عمرتهم ولكل ما فيه صلاح أمر دينهم ودنياهم، كما أسأله سبحانه أن يرد جميع الحجاج إلى بلادهم سالمين موفقين مسترشدين مستفيدين من حجهم ما يسبب نجاتهم من النار ودخولهم الجنة واستقامتهم على الحق أينما كانوا.
كما أسأل الله أن يوفق ولاة أمرنا في هذه
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(5/140)
البلاد لكل خير، ولكل ما يعين الحجاج على أداء مناسكهم على الوجه الذي يرضيه سبحانه، وقد فعلت الدولة وفقها الله الشيء الكثير من المشاريع والأعمال التي تساعد الحجاج على أداء مناسكهم، وتؤمنهم في رحاب هذا البيت العتيق، فجزاها الله خيرا وضاعف مثوبتها.
ولا شك أن الواجب على الحجاج أن يبتعدوا عن كل ما يسبب الأذى والتشويش من سائر الأعمال كالمظاهرات والهتافات والدعوات المضللة والمسيرات التي تضائق الحجاج وتؤذيهم، إلى غير ذلك من أنواع الأذى التي يجب أن يحذرها الحجاج.
وسبق أن أوضحنا الواجب على الحاج بأن يكون كل واحد منهم حريصا على نفع أخيه وتيسير أدائه مناسكه، وأن لا يؤذيه لا في طريق ولا في غيره، كما أسأله أن يوفق الحكومة وأن يعينها على كل ما فيه نفع الحجيج وتسهيل أداء مناسكهم، وأن يبارك في جهودها وأعمالها، وأن يوفق القائمين على شئون الحج لكل ما فيه تيسير أمور الحجيج ولكل ما فيه إعانتهم على أداء مناسكهم على خير حال.
كما أسأله عز وجل أن يوفق جميع ولاة أمر المسلمين في كل مكان لما فيه رضاه، وأن يصلح قلوبهم وأعمالهم وأن يصلح لهم البطانة، وأن يعينهم على تحكيم شريعة الله في عباد الله، وأن يعيذنا وإياهم من اتباع الهوى ومن مضلات الفتن، إنه جل وعلا جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(5/141)
حكم التحاكم إلى العادات والأعراف القبلية(5/141)
من عبد العزيز بن باز إلى من يطلع عليه من المسلمين، وفقني الله وإياهم لمعرفة الحق واتباعه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد.
فالداعي لهذا هو الإجابة عن أمور سأل عنها بعض الإخوة الناصحين في المملكة حيث ذكر أنه يوجد في قبيلته، وفي قبائل أخرى عادات قبلية سيئة ما أنزل الله بها من سلطان منها:
ترك التحاكم إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إلى عادات قبلية وأعراف جاهلية.
ومنها كتمان الشهادة، وعدم أدائها حمية وتعصبا، أو الشهادة زورا وبهتانا حمية وعصبية أيضا. إلى غير ذلك من الأسباب التي قد تدعو بعض الناس إلى مخالفة الشرع المطهر.
ولوجوب النصيحة لله ولعباده أقول وبالله التوفيق: يجب على المسلمين أن يتحاكموا إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل شيء لا إلى القوانين الوضعية والأعراف والعادات القبلية. قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (1)
__________
(1) سورة النساء الآية 60(5/142)
وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) فيجب على كل مسلم أن لا يقدم حكم غير الله على حكم الله ورسوله كائنا من كان، فكما أن العبادة لله وحده، فكذلك الحكم له وحده، كما قال سبحانه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (2) فالتحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أعظم المنكرات وأقبح السيئات، وفي كفر صاحبه تفصيل، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3)
فلا إيمان لمن لم يحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في أصول الدين وفروعه، وفي كل الحقوق، فمن تحاكم إلى غير الله ورسوله، فقد تحاكم إلى الطاغوت.
وعلى هذا يجب على مشايخ القبائل، ألا يحكموا بين الناس بالأعراف التي لا أساس لها في الدين، وما أنزل الله بها من سلطان. بل يجب عليهم أن يردوا ما تنازع فيه قبائلهم إلى المحاكم الشرعية، ولا مانع من الإصلاح بين المتنازعين بما لا يخالف الشرع المطهر بشرط الرضا وعدم الإجبار. لقوله صلى الله عليه وسلم: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما (4) » . كما يجب على القبائل جميعا ألا يرضوا إلا بحكم الله ورسوله.
أما الشهادة فيحرم على من علمها أن يكتمها لقوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (5)
__________
(1) سورة المائدة الآية 50
(2) سورة الأنعام الآية 57
(3) سورة النساء الآية 65
(4) سنن الترمذي الأحكام (1352) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2353) .
(5) سورة البقرة الآية 282(5/143)
وقوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (1)
فأداء الشهادة على وجهها إذا احتيج إلى ذلك واجب؛ لأنها وسيلة لإقامة العدل وإحقاق الحق، وكتمها ذنب عظيم، وإثم كبير لما فيه من ضياع الحقوق وإلحاق الضرر بالآخرين، ولما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان.
وكما أن كتمان الشهادة حرام، فكذلك الإتيان بها على غير وجهها الصحيح أو التزوير فيها لأي سبب من الأسباب فهو حرام أيضا، بل ومن الكبائر للذنوب، قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (2) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور (3) » متفق على صحته.
وبهذا يعلم أن كتمان الشهادة حرام، وشهادة الزور حرام أيضا، بل ومن الكبائر، كما دلت على ذلك الآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فليتق الله أولئك الذين تجري بينهم تلك العادات السيئة، ويعتبرونها من العادات الحسنة، وعليهم أن يلتزموا بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يحذروا ما خالف ذلك، وأن يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى، مما سلف منهم من المخالفة لشرع الله، وأن يرفعوا ما تنازعوا فيه إلى المحاكم الشرعية والقضاة في
__________
(1) سورة البقرة الآية 283
(2) سورة الحج الآية 30
(3) صحيح البخاري الأدب (5976) ، صحيح مسلم الإيمان (87) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3019) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) .(5/144)
بلدهم، ليحكموا فيهم بحكم الله، ويلزموهم بما تقتضيه شريعة الإسلام، ولا يعدلوا عنه إلى غيره.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وأعاذنا جميعا من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، إنه سميع قريب. وصلى الله وسلم على نبينا وإمامنا محمد وعلى آله وصحبه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/145)
القبيلي والخضيري(5/145)
س: ما معنى قولهم قبيلي وخضيري؟
ج: هذه مسألة جزئية، وهي معروفة بين الناس. القبيلي هو الذي له قبيلة معروفة ينتمي إليها كقحطاني وسبيعي وتميمي وقرشي وهاشمي وما أشبه ذلك، هذا يسمى قبيلي؛ لأنه ينتمي إلى قبيلة، ويقال قبلي على القاعدة، مثل أن يقال حنفي وربعي وما أشبه ذلك نسبة إلى القبيلة التي ينتمي إليها.
والخضيري في عرف الناس في نجد خاصة - ولا أعرفها إلا في نجد - هو الذي ليس له قبيلة معروفة ينتمي إليها، أي ليس معروفا بأنه قحطاني أو تميمي أو قرشي لكنه عربي ولسانه عربي ومن العرب وعاش بينهم ولو كانت جماعته معروفة.
والمولى في عرف العرب هو: الذي أصله عبد مملوك ثم أعتق. والعجم هم الذين لا ينتسبون للعرب يقال: عجمي، فهم من أصول عجمية وليسوا من أصول عربية، هؤلاء يقال لهم أعاجم.
والحكم في دين الله أنه لا فضل لأحد منهم على أحد إلا بالتقوى سواء سمي قبليا أو خضيريا أو مولى أو أعجميا كلهم على حد سواء. لا فضل لهذا على هذا ولا هذا على هذا إلا بالتقوى؛ كما قال صلى الله عليه وسلم «لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي إلا بالتقوى ولا فضل لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى (1) » ، وكما قال الله سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (2)
لكن من عادة العرب قديما أنهم يزوجون بناتهم
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/411) .
(2) سورة الحجرات الآية 13(5/146)
للقبائل التي يعرفونها ويقف بعضهم عن تزوج من ليس من قبيلة يعرفها، وهذا باق في الناس. وقد يتسامح بعضهم، يزوج الخضيري والمولى والعجمي، كما جرى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام زوج أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنها وهو مولاه وعتيقه زوجه فاطمة بنت قيس رضي الله عنها وهي قرشية، وكذلك أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وهو من قريش زوج مولاه سالما بنت أخيه الوليد بن عتبة ولم يبال لكونه مولى عتيقا.
وهذا جاء في الصحابة رضي الله عنهم وبعدهم كثير، ولكن الناس بعد ذلك خصوصا في نجد وفي بعض الأماكن الأخرى قد يقفون عن هذا ويتشددون فيه على حسب ما ورثوه عن آباء وأسلاف، وربما خاف بعضهم من إيذاء بعض قبيلته إذا قالوا له: لم زوجت فلانا، هذا قد يفضي إلى الإخلال بقبيلتنا وتختلط الأنساب وتضيع إلى غير ذلك، قد يعتذرون ببعض الأعذار التي لها وجهها في بعض الأحيان ولا يضر هذا، وأمره سهل.
المهم اختيار من يصلح للمصاهرة لدينه وخلقه، فإذا حصل هذا فهو الذي ينبغي سواء كان عربيا أو عجميا أو مولى أو خضيريا أو غير ذلك، هذا هو الأساس، وإذا رغب بعض الناس أن لا يزوج إلا من قبيلته فلا نعلم حرجا في ذلك. والله ولي التوفيق.(5/147)
رسالة إلى العلماء المجاهدين في أفغانستان بشأن الفتن التي يثيرها أعداء الله بين صفوف المجاهدين (1) .
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى عموم إخواننا علماء المجاهدين الأفغان، وفقهم الله لكل خير وأقام بهم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد:
فتعلمون وفقني الله وإياكم أن الله تعالى قد أكرمكم بالعلم، وزينكم به، وأعلى به مقامكم، ورفع به درجاتكم، وجعلكم بذلك شهداء على الناس، وبكم يقتدي الناس، ومنكم يعرفون الأحكام والحلال والحرام، وقد أخذ الله تعالى العهد والميثاق على العلماء الذين هم ورثة الأنبياء أن يبينوا الحق للناس ولا يكتمونه، وذلك عهد واجب الوفاء، وميثاق يتحتم أداؤه وعدم نقضه، ومن أخل به أو تهاون في أدائه فقد عرض نفسه للوعيد الأكيد والعذاب الشديد، وبهذه الخصائص تأكدت الفضيلة وتوحد الواجب بين العلماء رغم تباعد ديارهم واختلاف أقطارهم، وجمع بينهم الإيمان والبحث عن الحق القائم على الدليل من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما عليه أئمة الدين من الهدى والخير.
ولا يخفاكم - أعانني الله وإياكم - أن العلماء هم أهل الذكر، وأن عامة الناس متعلقون بذمة العلماء، والعالم يسأل عن نفسه وعن غيره، وهدي
__________
(1) نشرت في مجلة الفرقان العدد السابع السنة الأولى ــ ذو الحجة 1409 هـ تصدر عن دار الفرقان بقبرص(5/148)
العالم هدي لغيره وصلاحه صلاح لغيره، إذ العلماء هم أهل البصيرة والحكمة والخشية من الله تعالى، والناس على آثارهم يقتدون، وبأقوالهم وأفعالهم يهتدون، وقد وفقكم الله تعالى لإقامة فريضة الجهاد في سبيل الله ضد أعداء الله، وكنتم بذلك أهلا للعلم الذي أعطاكم الله، وبرره بالميثاق الذي أخذه الله والوقوف معكم، ونحمد الله الذي أكرمنا بأن أفتينا الناس بوجوب الجهاد معكم ومناصرتكم ضد أعداء الدين والقيام بحق الأخوة الإسلامية، فهب المسلمون ولله الحمد من كل مكان يرجون الأجر والثواب ويطلبون الجنة وينصرون إخوانهم المستضعفين، وبذلك أخذ الجهاد صورته الإسلامية العالمية، وتأكدت في نفوس المسلمين جميعا حقيقة الرابطة الدينية والأخوة الإيمانية فأغاظ ذلك الكافرين على اختلاف مللهم، وأحبط خططهم في تفريق وحدة المسلمين وشتات كلمتهم، وكتب الله هزيمة الكافرين ونصر المجاهدين، فلجأ أعداء الدين إلى وسيلة أخرى لإيقاع الفرقة بين المسلمين عن طريق الخلافات المذهبية الموجودة بين الأمة منذ قديم الزمان، فأشعلوا الفتنة وأثاروا العامة، وأرادوا بذلك إيقاع الفساد بين المجاهدين الأفغان وبين إخوانهم المسلمين، وليس لهذه الفتنة من يدرؤها ويحبطها بعد الله إلا أنتم أيها الإخوة العلماء.
وأنتم تعلمون حفظكم الله أن الخلاف المذهبي في أمور الفروع واقع منذ قديم الزمان، ولم يؤد ذلك إلى البغضاء والتشاحن والشقاق؛ لأن الأمة الإسلامية متفقة في الأصول والقواعد، وقد وجد الخلاف الفقهي بين الأئمة الأربعة ابتداء بالإمام أبي حنيفة رحمه الله، والإمام مالك رحمه الله، ثم الإمام الشافعي رحمه الله، ثم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ولم يحدث بينهم - رغم ذلك - شيء من النفرة والفتنة، بل كانوا رغم اختلافهم في النظر والاجتهاد إخوة متحابين يثني كل واحد منهم على الآخر ويقدمه على نفسه وهذا هو الذي يجب أن يسود بين العلماء وإن اختلفت آراؤهم في مسائل الفروع.(5/149)
وأنتم أيها الإخوة العلماء المجاهدون الأفغان تعلمون أن المسلمين قد نفروا للجهاد معكم من مختلف البلدان، وهم على مذاهب مختلفة فمنهم الحنفي ومنهم المالكي ومنهم الشافعي ومنهم الحنبلي، وأنتم وفقنا الله وإياكم أولى من يبين للعامة ذلك ويحذرهم من خطر الوقوع في حبائل كيد الكافرين بما يشيعونه بين العامة من أن المجاهدين من العرب خاصة جاءوا لهدم المذهب الحنفي، وأنتم تدركون أن هذا من دس الكافرين للتفريق بين المسلمين وبذر الفتنة بينهم، ولا يخفاكم أن أتباع الأئمة المجتهدين لم يكونوا يفسقون من يخالفهم فضلا عن أن يكفروه، ولم يكونوا يروا اتباع إمام غير إمامهم منكرا تجب محاربته، وهذه هي عقيدة علماء المسلمين جميعا، وواجبكم أيها الإخوة أن تحولوا دون وقوع الفتن بين المسلمين، وذلك ببيان الحق وتبصير العامة ودرء المفسدة والاعتصام بالكتاب والسنة، وبيان أن أتباع الأئمة الأربعة كلهم إخوة في الله يصلي بعضهم خلف بعض ويعرف له حقه وفضله، وإن اختلفوا في بعض المسائل الفرعية، وأتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كلهم من الحنابلة ويعترفون بفضل الأئمة الأربعة ويعتبرون أتباع المذاهب الأربعة إخوة لهم في الله، فأرجو إيضاح هذا الأمر للناس حتى لا ينجح العدو فيما أراده من التفرقة بين المجاهدين الأفغان وإخوانهم من العرب وغيرهم من أتباع الأئمة الثلاثة (مالك والشافعي وأحمد) رحمهم الله.
سدد الله رأيكم، وبارك في جهودكم ونصر بكم الحق، وجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين الناصرين لدين الله، والذائدين عن شريعته والدعاة إليه على بصيرة إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/150)
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في لقاء مع " المجاهد " (1) .
__________
(1) المجاهد ـ السنة الأولى ـ عدد 10 شهر صفر 1410 هـ.(5/150)
س1: نرجو من سماحتكم إعطاء كلمة الفصل حول فرضية الجهاد؟
ج1: الجهاد الأفغاني جهاد شرعي لدولة كافرة، فالواجب دعمه ومساعدة القائمين به بجميع أنواع الدعم، وهو على إخواننا الأفغان فرض عين للدفاع عن دينهم وإخوانهم ووطنهم، وعلى غيرهم فرض كفاية، لقول الله عز وجل {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) وقوله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهي تعم إخواننا المجاهدين في أفغانستان وجميع المجاهدين في سبيل الله في فلسطين والفلبين وغيرهم.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (3) » . ونسأل الله أن يوفق إخواننا المجاهدين في سبيله في بلاد الأفغان وغيرها
__________
(1) سورة التوبة الآية 41
(2) سورة المائدة الآية 35
(3) سنن النسائي الجهاد (3096) ، سنن أبو داود الجهاد (2504) ، مسند أحمد بن حنبل (3/251) ، سنن الدارمي الجهاد (2431) .(5/151)
للنصر المؤزر وأن يعينهم على جهاد أعداء الله ويثبت قلوبهم وأقدامهم ويجمع كلمتهم على الحق، وأن يخذل أعداء الله أين ما كانوا ويجعل الدائرة عليهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.(5/152)
س2: هل يتابع سماحتكم أخبار المجاهدين بنفسه، وهل تتصلون بهم شخصيا أم أنكم تكتفون بالتقارير المرسلة إليكم؟
ج2: نفعل هذا وهذا، نتابع أخبار الجهاد حسب الإمكان ونقرأ ما تيسر من التقارير عن جهادهم.(5/152)
س3: ما هو تقويمكم لمدى انتشار مذهب أهل السنة والجماعة في صفوف المسلمين في جميع أنحاء العالم؟ .
ج3: الذي بلغني من طرق كثيرة أن الحركة الإسلامية بحمد الله قوية وواسعة في جميع أنحاء المعمورة، وأن الداخلين في الإسلام في أول هذا القرن وفي آخر القرن الرابع عشر الماضي كثيرون وذلك يبشر بخير والحمد لله.
وقد علمت من طرق كثيرة أن نشاط الدعاة إلى الله عز وجل قد أثمر ثمارا كثيرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا وأوربا وأستراليا، وهذا يبشر بخير والحمد لله، ويوجب مضاعفة الجهود من جميع الدعاة كما يوجب حسن الظن بالله وسؤاله سبحانه العون والتوفيق حتى تكون الفائدة أكثر والعاقبة أحسن.(5/152)
س4: هناك طائفة من المنتسبين للدعوة الإسلامية يرون عدم التحدث عن توحيد الأسماء والصفات بحجة أنه يسبب فرقة بين المسلمين ويشغلهم عن واجبهم وهو الجهاد الإسلامي، ما مدى صحة تلك النظرة؟ .
ج4: هذه النظرة خاطئة، فقد أوضح الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم(5/152)
أسماءه وصفاته ونوه بذلك ليعلمها المؤمنون ويسموه بها ويصفوه بها ويثنوا عليه بها سبحانه وتعالى. قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبه وفي أحاديثه مع أصحابه بذكره لأسماء الله وصفاته وثنائه على الله بها وحثه على ذلك عليه الصلاة والسلام.
فالواجب على أهل العلم والإيمان أن ينشروا أسماءه وصفاته وأن يذكروها في خطبهم ومؤلفاتهم ووعظهم وتذكيرهم؛ لأن الله سبحانه بها يعرف وبها يعبد، فلا تجوز الغفلة عنها ولا الإعراض عن ذكرها بحجة أن بعض العامة قد يلتبس عليه الأمر أو لأن بعض أهل البدع قد يشوش على العامة في ذلك، بل يجب كشف هذه الشبهة وإبطالها وبيان أن الواجب إثبات أسماء الله وصفاته على الوجه اللائق بالله جل وعلا من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل حتى يعلم الجاهل الحكم في ذلك وحتى يقف المبتدع عند حده وتقام عليه الحجة.
وقد بين أهل السنة والجماعة في كتبهم أن الواجب على المسلمين ولا سيما أهل العلم إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت، وعدم تأويلها وعدم تكييف صفات الله عز وجل بل يجب أن تمر كما جاءت مع الإيمان بأنها حق وأنها صفات لله وأسماء له سبحانه وأن معانيها حق موصوف بها ربنا عز وجل على الوجه اللائق به كالرحمن والرحيم والعزيز والحكيم والقدير والسميع والبصير إلى غير ذلك.
فيجب أن تمر كما جاءت مع الإيمان بها واعتقاد أنه سبحانه لا مثيل له ولا شبيه له ولا كفو له سبحانه وتعالى ولكن لا نكيفها؛ لأنه لا يعلم كيفية صفاته إلا هو، فكما أنه سبحانه له ذات لا تشبه الذوات ولا يجوز تكييفها فكذلك له صفات لا تشبه الصفات ولا يجوز تكييفها. فالقول في الصفات كالقول في الذات يحتذى حذوه ويقاس عليه، هكذا(5/153)
قال أهل السنة جميعا من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم رضي الله عنهم جميعا، قال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (5) وقال عز وجل: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (6) وقال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (7) الآية، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2
(3) سورة الإخلاص الآية 3
(4) سورة الإخلاص الآية 4
(5) سورة الشورى الآية 11
(6) سورة النحل الآية 74
(7) سورة الأعراف الآية 180(5/154)
س5: هل يشرع للمجاهد تأخير البيان عن وقت الحاجة عندما يرى بعض المجاهدين يخالفون بعض أنواع التوحيد؟ .
ج5: القاعدة الكلية: أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإذا وجد من يجهل الحق وجب أن يعلم ممن يعلم الحق ولا يجوز تأخيره من أجل مراعاة خاطر فلان.
فإذا سمع المؤمن من يشرك بالله أو رأى بدعة تخالف شرع الله أو معصية ظاهرة وجب الإنكار على أهل البدع والمعاصي بالأسلوب الحسن ووجب بيان الحق المتعلق بتوحيد الله أو بإنكار البدعة أو بإنكار المعصية بالأسلوب الذي يرجو فيه النفع مع مراعاة الرفق والحكمة في ذلك كله.
أما السنن فأمرها أوسع، ولو ترك التنبيه على بعضها إذا كان في ذلك مصلحة شرعية فلا بأس، كالجهر بالتأمين ورفع اليدين في الصلاة وما أشبه ذلك من السنن إذا كان تأخير الكلام عنها إلى وقت(5/154)
آخر أو إلى اجتماع آخر يراه أصلح فالأمر أوسع في ذلك؛ لأنها سنن وليست من الفرائض.(5/155)
س6: فضيلة الشيخ: كثير من الخلاف الذي ينشأ بين العاملين في حقل الدعوة إلى الله والذي يسبب الفشل وذهاب الريح - كثير منه ناشئ بسبب الجهل بأدب الخلاف. فهل لكم من كلمة توجيهية في هذا الموضوع؟ .
ج6: نعم، الذي أوصي به جميع إخواني من أهل العلم والدعوة إلى الله عز وجل هو تحري الأسلوب الحسن والرفق في الدعوة وفي مسائل الخلاف عند المناظرة والمذاكرة في ذلك وأن لا تحمله الغيرة والحدة على أن يقول ما لا ينبغي أن يقول مما يسبب الفرقة والاختلاف والتباغض والتباعد، بل على الداعي إلى الله والمعلم والمرشد أن يتحرى الأساليب النافعة والرفق في كلمته حتى تقبل كلمته وحتى لا تتباعد القلوب عنه، كما قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (1)
وقال سبحانه لموسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (2) والله يقول سبحانه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) ويقول سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (4) الآية.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2) سورة طه الآية 44
(3) سورة النحل الآية 125
(4) سورة العنكبوت الآية 46(5/155)
ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (1) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (2) » .
فعلى الداعي إلى الله والمعلم أن يتحرى الأساليب المفيدة النافعة وأن يحذر الشدة والعنف؛ لأن ذلك قد يفضي إلى رد الحق وإلى شدة الخلاف والفرقة بين الإخوان، والمقصود هو بيان الحق والحرص على قبوله والاستفادة من الدعوة، وليس المقصود إظهار علمك أو إظهار أنك تدعو إلى الله أو أنك تغار لدين الله، فالله يعلم السر وأخفى، وإنما المقصود أن تبلغ دعوة الله وأن ينتفع الناس بكلمتك. فعليك بأسباب قبولها وعليك الحذر من أسباب ردها وعدم قبولها.
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2592) ، سنن أبو داود الأدب (4809) ، سنن ابن ماجه الأدب (3687) ، مسند أحمد بن حنبل (4/366) .(5/156)
س7: من خلال معرفة سماحتكم بتاريخ الرافضة، ما هو موقفكم من مبدأ التقريب بين أهل السنة وبينهم؟ .
ج7: التقريب بين الرافضة وبين أهل السنة غير ممكن؛ لأن العقيدة مختلفة، فعقيدة أهل السنة والجماعة توحيد الله وإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى، وأنه لا يدعى معه أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم الغيب، ومن عقيدة أهل السنة محبة الصحابة رضي الله عنهم جميعا والترضي عنهم والإيمان بأنهم أفضل خلق الله بعد الأنبياء وأن أفضلهم أبو بكر الصديق، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، رضي الله عن الجميع، والرافضة خلاف ذلك فلا يمكن الجمع بينهما، كما أنه لا يمكن الجمع بين اليهود والنصارى والوثنيين وأهل السنة، فكذلك لا يمكن التقريب بين الرافضة وبين أهل السنة لاختلاف العقيدة التي أوضحناها.(5/156)
س8: وهل يمكن التعامل معهم لضرب العدو الخارجي كالشيوعية وغيرها؟ .
ج8: لا أرى ذلك ممكنا، بل يجب على أهل السنة أن يتحدوا وأن يكونوا أمة واحدة وجسدا واحدا وأن يدعوا الرافضة أن يلتزموا بما دل عليه كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم من الحق، فإذا التزموا بذلك صاروا إخواننا وعلينا أن نتعاون معهم، أما ما داموا مصرين على ما هم عليه من بغض الصحابة وسب الصحابة إلا نفرا قليلا وسب الصديق وعمر وعبادة أهل البيت كعلي - رضي الله عنه - وفاطمة والحسن والحسين، واعتقادهم في الأئمة الاثنتي عشرة أنهم معصومون وأنهم يعلمون الغيب؛ كل هذا من أبطل الباطل وكل هذا يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة.(5/157)
س9: ما هو موقف المسلم من الخلافات المذهبية المنتشرة بين الأحزاب والجماعات؟ .
ج9: الواجب عليه أن يلزم الحق الذي يدل عليه كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يوالي على ذلك ويعادي على ذلك، وكل حزب أو مذهب يخالف الحق يجب عليه البراءة منه وعدم الموافقة عليه.
فدين الله واحد، وهو الصراط المستقيم وهو عبادة الله وحده واتباع رسوله محمد عليه الصلاة والسلام.
فالواجب على كل مسلم أن يلزم هذا الحق وأن يستقيم عليه؛ وهو طاعة الله واتباع شريعته التي جاء بها نبيه محمد عليه الصلاة والسلام مع الإخلاص لله في ذلك وعدم صرف شيء من العبادة لغيره سبحانه وتعالى، فكل مذهب يخالف ذلك وكل حزب لا يدين بهذه العقيدة يجب أن يبتعد عنه وأن يتبرأ منه وأن يدعو أهله إلى الحق بالأدلة(5/157)
الشرعية مع الرفق وتحري الأسلوب المفيد ويبصرهم بالحق.(5/158)
س10: ما حكم الأفغانيين المقيمين بين الشيوعيين؟ .
ج10: هذا فيه تفصيل؛ فإن كانت إقامتهم بين الشيوعيين لعجزهم عن الهجرة فهم معذورون؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (2) {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (3)
وعليهم أن يبادروا بالهجرة من حين يقدرون عليها إلى بلاد يظهرون فيها دينهم ويأمنون فيها على أنفسهم. أما إذا قدر أحد على الهجرة وتساهل فهو آثم، وهو على خطر عظيم؛ لأن الهجرة واجبة بإجماع المسلمين مع الاستطاعة، كما نص على ذلك غير واحد من أهل العلم، منهم الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسير الآيات المذكورة، فقد أوضح رحمه الله أن الهجرة واجبة مع القدرة من كل بلد يظهر فيها الكفر، ولا يستطيع المسلم إظهار دينه فيها.
__________
(1) سورة النساء الآية 97
(2) سورة النساء الآية 98
(3) سورة النساء الآية 99(5/158)
س11: يلحظ فضيلتكم وكل أحد، انتشار الصحوة الإسلامية لدى المسلمين وفي صفوف الشباب خاصة. فما رأي فضيلتكم في ترشيد هذه الصحوة، وما هي المحاذير التي تخافونها على هذه الصحوة؟
ج11: تقدم في جواب بعض الأسئلة أن الحركة الإسلامية التي نشطت في(5/158)
أول هذا القرن وفي آخر القرن السابق أنها تبشر بخير وأنها بحمد الله حركة منتشرة في أرجاء المعمورة وأنها - في مزيد وتقدم.
وأن الواجب على المسلمين دعمها ومساندتها والتعاون مع القائمين بها ولا شك أن القائمين بها يجب أن يدعموا ويساعدوا وأن يحذروا من الزيادة والنقص، فإن كل دعوة إسلامية وكل عمل إسلامي، للشيطان فيه نزغتان؛ إما إلى جفا وإما إلى غلو.
فعلى أهل العلم والبصيرة أن يدعموا هذه الدعوة وأن يوجهوا القائمين بها إلى الاعتدال والحذر من الزيادة حتى لا يقعوا في البدعة والغلو، والحذر من النقص، وحتى لا يقعوا في الجفا والتأخر عن حق الله، وأن تكون دعوتهم وحركتهم إسلامية مستقيمة على دين الله، ملتزمة بالصراط المستقيم الذي هو الإخلاص لله والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم من غير غلو ولا جفا، وبذلك تستقيم هذه الحركة وتؤدي ثمارها على خير وجه. وعلى قادتها بوجه أخص أن يهتموا بهذا الأمر وأن يعتنوا به غاية العناية حتى لا تزل الأقدام إلى جفا أو غلو. والله ولي التوفيق.(5/159)
س12: تسمعون عن جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة، فما هي انطباعاتكم نحوها؟ .
ج12: الذي بلغنا عنها هو الخير والاستقامة وأن دعوتها بحمد الله مؤثرة ونافعة ومفيدة، وأنها تسير على منهح السلف الصالح فنسأل الله لها وللقائمين عليها المزيد من الخير.(5/159)
س13: أثبتت مجلة " المجاهد " بعدم إخراجها للصور الفوتوغرافية وغيرها من الأنواع المحرمة - أنه يمكن الإخراج المتميز بدون اللجوء إلى هذه الأمور المحرمة هل لكل من كلمة تحثون فيها المجلات الإسلامية كي تحذو حذوها في هذا الأمر؟ .
ج13: لا ريب أن إخراج المجلات والصحف اليومية وغيرها بدون تصوير هو الواجب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن المصورين وأخبر أنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة، وهذا يعم التصوير الشمسي والتصوير الذي له ظل، ومن فرق فليس عنده دليل على التفرقة. وإذا كان التصوير للنساء صار الأمر أشد حرمة وأسوأ عاقبة وأكثر فسادا، فالواجب منع الجميع، والذي يجب على محرري الصحف والمجلات هو تقوى الله سبحانه وتعالى، والتقيد بشرعه والحذر مما يخالف أمره والحرص على الوقوف عند حدوده.(5/160)
س14: ما هو تقويم سماحتكم للإعلام الإسلامي؟ هل أدى الدور الملقى عليه تجاه القضية الأفغانية؟
ج14: أنا بسبب شغلي الكثير وضيق أوقاتي لست ممن يستمع الأخبار إلا قليلا، فلا أستطيع أن أحكم على وسائل الإعلام في هذا الباب. ولكني أقول إن الواجب على وسائل الإعلام الإسلامية العناية بدور المجاهدين والجهاد في أفغانستان والتشجيع على دعمهم ومساعدتهم والحرص على كل ما من شأنه جمع كلمتهم واستمرارهم في جهاد أعداء الله وأعدائهم.
س15: ختاما هل من كلمة توجهونها لأسرة مجلة "المجاهد"؟
ج15: نعم، نوصي القائمين عليها بالاستمرار في إصدارها والعناية بنشر(5/160)
المقالات المفيدة للمسلمين عموما وللمجاهدين خصوصا، وبيان الحق في مسائل الخلاف التي تنتشر بين المجاهدين بأدلته الشرعية حتى يزول الخلاف ويلتزم الجميع بالحق، وذلك بمراسلة علماء السنة في ذلك ونشر أجوبتهم. وأن يلتزموا بعدم نشر الصور عملا بالأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك، كما قد سارت مشكورة على ذلك في أعدادها السابقة.
وأسأل الله لجميع القائمين عليها وعلى رأسهم أخونا المجاهد صاحب الفضيلة الشيخ جميل الرحمن كل توفيق وتسديد إنه سميع قريب وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(5/161)
دعم المجاهدين والمهاجرين الأفغان من أفضل القربات وأعظم الصدقات (1) .
__________
(1) نشرت في جريدة الرياض يوم الجمعة7\5\1409 هـ.(5/161)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد. فيقول الله تبارك وتعالى {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) الآية.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر (2) » .
ويقول صلى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه (3) » ويقول صلى الله عليه وسلم «من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا (4) » .
فمساعدة المجاهدين والمهاجرين الأفغانيين من أفضل القربات ومن أعظم الأعمال الصالحات من الزكاة وغيرها، ومن حكمة الزكاة في الإسلام والصدقات أن يشعر المسلم برابطة تجذبه نحو أخيه لأنه يشعر بما يؤلمه ويحس بما يقع عليه من كوارث ومصائب فيرق له قلبه ويعطف عليه ليدفع مما آتاه الله بنفس راضية وقلب مطمئن بالإيمان.
والمجاهدون الأفغان والمهاجرون منهم - وفقهم الله جميعا - يعانون مشكلات في حياتهم عظيمة فيصبرون عليها رغم أن عدوهم وعدو الدين الإسلامي يضربهم بقوته وأسلحته وبكل ما يستطيع من صنوف الدمار وهم
__________
(1) سورة البقرة الآية 261
(2) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(3) صحيح البخاري المظالم والغصب (2446) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) .
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2843) ، صحيح مسلم الإمارة (1895) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1628) ، سنن النسائي الجهاد (3180) ، سنن أبو داود الجهاد (2509) .(5/162)
بحمد الله صامدون ومصرون على مواصلة الجهاد في سبيل الله، كما تتحدث عنهم الأخبار والصحف ومن شاركهم في الجهاد من الثقات لم يضعفوا ولم تلن شكيمتهم إلا أن مشكلتهم نتجت من الدمار الذي حل بديارهم والتخريب الذي أحدثته أسلحة الروس وطائراتهم والفاقة التي حلت بأهليهم مما تسبب في هجرة جماعية إلى الباكستان وغيرها، فقد ذكرت الأنباء الأخيرة بأن عدد اللاجئين الأفغان قد وصل إلى أكثر من ثلاثة ملايين في الباكستان وحدها كلهم هربوا من ديارهم وأماكن رزقهم وأصبحوا بدون مأوى ولا مصدر رزق إلا ما يسره الله ممن أفاء الله عليه بنعمه ليجود بما يستطيع.
وإنها لدعوة أوجهها لإخواننا المسلمين في كل مكان بأن يقدموا لإخوانهم الأفغان مما آتاهم الله من الرزق، ومن ذلك الزكاة التي فرضها الله في أموالهم حقا لمن حددهم الله جل وعلا في سورة التوبة وهم ثمانية، قد دخل إخواننا المجاهدين والمهاجرون الأفغان في ضمنهم.
والله تبارك وتعالى عندما فرض الحق في مال الغني لأخيه المسلم في آيات كثيرة من كتابه الكريم كقوله تعالى {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (1) {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (2) وقوله سبحانه {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (3)
فإنه يثيب المسلم على ما يقدم لإخوانه ثوابا عاجلا وثوابا أخرويا يجد جزاءه عنده في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، كما أنه يدفع عنه في الدنيا بعض المصائب التي لولا الله سبحانه ثم الصدقات والإحسان لحلت به أو بماله أو بولده فدفع الله بلاءها بصدقته الطيبة وعمله
__________
(1) سورة المعارج الآية 24
(2) سورة المعارج الآية 25
(3) سورة الحديد الآية 7(5/163)
الصالح، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم «ما نقص مال من صدقة (1) » ويقول صلوات الله وسلامه عليه: «إن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار (2) » . ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «اتقوا النار ولو بشق تمرة (3) » .
وإخوانكم الأفغان أيها المسلمون يقاسون آلام الجوع والغربة والحرب الضروس فهم في أشد الحاجة إلى الكساء والطعام وفي حاجة إلى الدواء، كما أن المجاهدين منهم في أشد الضرورة إلى هذه الأشياء وإلى السلاح الذي يقاتلون به أعداء الله وأعداءهم فجودوا عليهم أيها المسلمون مما أعطاكم الله وأعطفوا عليهم يبارك الله لكم وتأسوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في اهتمامه بمن في مثل حالة المهاجرين الأفغان الذين طردوا من ديارهم وبيوتهم كما جاء في الحديث الصحيح عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه قوم عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال والآية التي في الحشر
تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال: ولو بشق تمرة، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت قال ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده
__________
(1) سنن الترمذي كتاب الزهد (2325) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2616) .
(3) صحيح البخاري الزكاة (1417) ، صحيح مسلم الزكاة (1016) ، سنن النسائي الزكاة (2552) ، مسند أحمد بن حنبل (4/256) .
(4) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) .
(5) سورة النساء الآية 1 (4) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}(5/164)
من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارها شيء (1) » رواه مسلم في صحيحه.
ثم هذه النفقة تؤجرون عليها وتخلف عليكم كما قال الله سبحانه {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (2) وقال سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (3) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل يا ابن آدم أنفق ننفق عليك (4) » .
مع العلم بأن الجهات التي تسلم لها المساعدة هي شركة الراجحي المصرفية للاستثمار ومصرف السبيعي وبنك الرياض والبنك الأهلي.
ونسأل الله عز وجل أن يضاعف أجركم ويتقبل منكم ما تجودون به وأن يعين المجاهدين الأفغان وغيرهم من المجاهدين في سبيله في كل مكان ويثبت أقدامهم في جهادهم وأن ينصرهم على عدو الإسلام وعدوهم إنه سميع قريب. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة الحشر الآية 18 (5) {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}
(2) سورة المزمل الآية 20
(3) سورة سبأ الآية 39
(4) صحيح البخاري النفقات (5352) ، صحيح مسلم الزكاة (993) ، مسند أحمد بن حنبل (2/242) .(5/165)
شكر النعمة حقيقته وعلاماته (1) .
__________
(1) ألقيت المحاضرة بالمسجد الكبير بالرياض في 29 \ صفر \ 1400 هـ.(5/165)
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد.
فمن المعلوم أن الله جل وعلا أسبغ علينا نعما كثيرة، ولم يزل يسبغ على عباده النعم الكثيرة، وهو المستحق لأن يشكر على جميع النعم. والشكر قيد النعم، إذا شكرت النعم اتسعت وبارك الله فيها وعظم الانتفاع بها، ومتى كفرت النعم زالت وربما نزلت العقوبات العاجلة قبل الآجلة.
فالنعم أنواع منوعة: نعمة الصحة في البدن والسمع والبصر والعقل وجميع الأعضاء، وأعظم من ذلك وأكبر: نعمة الدين والثبات عليها والعناية بها والتفقه فيها، قال تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1)
فأعظم النعم نعمة الدين، وقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب حتى أبان لعباده دينه العظيم ووضحه لهم ثم وفقك أيها المسلم وهداك حتى كنت من أهله.
فهذه النعمة العظيمة التي يجب أن نشكر الله عليها غاية الشكر.
وإنما يعرف قدرها وعظمتها من نظر في حال العالم وما نزل بهم من أنواع الكفر والشرك والضلال وما ظهر بين العالم من أنواع الفساد والانحراف وإيثار
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(5/166)
العاجلة والزهد في الآجلة.
وما انتشر أيضا من أضرار الشيوعية والعلمانية وأفكار الدعاة لهما، ومعلوم ما تشتمل عليه هذه الأفكار من الكفر بالله وبجميع الأديان والرسالات والكتب المنزلة من السماء.
وهكذا ما ابتلي به الكثير من الناس من عبادة أصحاب القبور والأوثان والأصنام وصرف خالص حق الله إلى غيره.
وكذلك ما ابتلي به الكثير من البدع والخرافات وأنواع الضلال والمعاصي.
وإنما تعرف النعم وعظم شأنها وما لأهلها من الخير عندما يعرف ضدها في هذه الشرور الكثيرة وما لأهلها من العواقب الوخيمة، فنعمة الإسلام عاقبتها الجنة والكرامة والوصول إلى دار النعيم بجوار الرب الكريم في دار لا يفنى نعيمها، ولا يبلى شباب أهلها، ولا تزول صحتهم ولا أمنهم، بل هم في صحة دائمة وأمن دائم وشباب لا يبلى وخير لا ينفد وجوار للرب الكريم، كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} (1) {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (2) {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} (3) {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (4) {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} (5) {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (6) {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (7) والآيات في هذا المعنى كثيرة. وأما أهل الكفر والضلال فمصيرهم إلى دار الهون. إلى عذاب شديد وإلى جحيم وزقوم في دار دائمة لا ينتهي عذابها ولا يموت أهلها، كما قال الله سبحانه {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (8)
__________
(1) سورة الدخان الآية 51
(2) سورة الدخان الآية 52
(3) سورة الدخان الآية 53
(4) سورة الدخان الآية 54
(5) سورة الدخان الآية 55
(6) سورة الدخان الآية 56
(7) سورة الدخان الآية 57
(8) سورة فاطر الآية 36(5/167)
فمن فكر في هذا الأمر وعرف نعمة الله عليه فإن الواجب عليه أن يشكر هذه النعمة بالثبات عليها، وسؤال الله سبحانه أن يوفقه للاستمرار عليها حتى الموت والحفاظ عليها بطاعة الله وترك معصيته والتعوذ بالله من أسباب الضلال والفتن ومن أسباب زوال النعم.
وعليه أيضا شكر النعم الأخرى غير نعمة الإسلام مما يحصل للعبد من الصحة والعافية وغير ذلك من نعم الله عز وجل الكثيرة كالأمن في الوطن والأهل والمال.
وقد يكون سوقها إليك أيها العبد من أسباب إسلامك وإيمانك بالله، وقد يكون ذلك ابتلاء وامتحانا مع كفرك وضلالك. قد تمتحن بوجودك في محل آمن وصحة وعافية ومال كثير، وأنت مع ذلك منحرف عن الله وعن طاعته فهذا يكون من الابتلاء والامتحان وإقامة الحجة عليك ليزيد في عذابك يوم القيامة إذا مت على هذه الحالة السيئة..
فالشكر حقيقته أن تقابل نعم الله بالإيمان به وبرسله ومحبته عز وجل والاعتراف بإنعامه وشكره على ذلك بالقول الصالح والثناء الحسن والمحبة للمنعم وخوفه ورجائه والشوق إليه والدعوة إلى سبيله والقيام بحقه. ومن الإيمان بالله ورسله الإيمان بأفضلهم وإمامهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والتمسك بشريعته.
فمن شكر الله أن تؤمن بالله إلها ومعبودا حقا وأنه الخلاق والرزاق العليم وأنه المستحق لأن يعبد وحده وتؤمن بأنه رب العالمين وأنه لا إله غيره ولا معبود بحق سواه، وتؤمن بأسمائه وصفاته عز وجل وأنه كامل في ذاته وأسمائه وصفاته لا شريك له ولا شبيه له ولا يقاس بخلقه جل وعلا كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) وقال تعالى:
__________
(1) سورة الشورى الآية 11(5/168)
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4)
ومن الإيمان بالله سبحانه أن تؤمن بأنه هو المستحق للعبادة كما تقدم، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (5) وقال تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (6) إلخ، وقال سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (7) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} (8) إلخ، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (9) إلخ، وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (10) إلخ، فالله هو المستحق لأن يعبد وحده بدعائنا ورجائنا وخوفنا وصلاتنا ونذورنا وذبحنا وغير ذلك من أنواع العبادة.
وبهذا تعلم أن ما يفعله الجهلة حول القبور من الدعاء والخوف والرجاء والذبح والنذر لأهلها - أن هذا هو الشرك الأكبر وأنه يناقضه قول لا إله إلا الله.
وتعرف أيضا أن من أنكر اليوم الآخر والبعث والنشور والجنة والنار فهو من أكفر خلق الله ولم يؤمن بالله سبحانه وتعالى بل كافر بالله ودينه. إلخ.
والشيوعيون الملحدون قد توافرت فيهم أنواع الكفر والضلال كما توافرت فيمن عبد غير الله وأشرك معه غيره من عباد القبور والأوثان وعباد الأنبياء والصالحين وعباد الأصنام والكواكب والشمس والقمر ونحو ذلك، كما قال تعالى:
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2
(3) سورة الإخلاص الآية 3
(4) سورة الإخلاص الآية 4
(5) سورة الإسراء الآية 23
(6) سورة الفاتحة الآية 5
(7) سورة غافر الآية 14
(8) سورة البقرة الآية 21
(9) سورة الذاريات الآية 56
(10) سورة البينة الآية 5(5/169)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} (2) إلخ، وقال تعالى {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (3) {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (4) {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (5)
ومن صرف العبادة لغير الله كمن صرفها للجن أو الملائكة أو للبدوي أو للحسين أو غيرهم من الخلق فقد أشرك بالله غيره وعبد مع الله سواه ونقض بذلك قوله (لا إله إلا الله) وكفر بنعم الله التي أنعم بها عليه بالصحة والعافية وبالرسل وبرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا أعظم كفر للنعم {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (6) إلخ.
وهذه العقيدة الصحيحة هي التي جاءت بها الرسل عليهم الصلاة والسلام وجاء بها أكملهم وإمامهم وأفضلهم ونصيبنا منهم محمد صلى الله عليه وسلم جاء يدعو إلى توحيد الله والإخلاص له.
وأرسل رسله إلى القبائل تدعوهم إلى توحيد الله عز وجل وإلى البلدان، كذلك كما بعث عليا ومعاذا وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهم إلى اليمن. وأقام في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى توحيد الله عز وجل وأقام في المدينة عشر سنين يدعو إلى توحيد الله واتباع شريعته وإنما بدأ بالدعوة إلى التوحيد
__________
(1) سورة البقرة الآية 21
(2) سورة البقرة الآية 22
(3) سورة الأعراف الآية 54
(4) سورة الأعراف الآية 55
(5) سورة الأعراف الآية 56
(6) سورة الحج الآية 62(5/170)
لأنه هو الأساس، فهو أساس الإيمان والدين وأساس الشكر لله المنعم، وبه بدأ الرسل كلهم كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) الآية.
فمن فاته توحيد الله والإخلاص له عز وجل فإن جميع أعمالهم كلها باطلة لا تنفعه بشيء، كما قال تعالى {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) وقال تعالى {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3)
والشكر لله سبحانه على نعمة التوحيد وغيرها من النعم من أعظم الواجبات وأفضل القربات، وهو يكون بقلبك محبة لله وتعظيما له ومحبة فيه وموالاة فيه. شوقا إلى لقائه وجناته، فهو سبحانه العالي فوق خلقه والمستوي على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، وليس المعنى استولى كما تقول المبتدعة من الجهمية وغيرهم، بل هو بمعنى: ارتفع فوق عرشه كما قال السلف رحمهم الله بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه سبحانه وتعالى يعلم كل شيء وليس يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى.
ومما اشتهر في ذلك قول مالك رحمه الله لما سئل عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (4) كيف استوى؟ " فأجاب رحمه الله بقوله: " الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة " وبقوله قال أهل السنة والجماعة رحمهم الله.
والمراد بقوله: " والسؤال عنه بدعة " - يعني الكيف؛ لأنه لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، أما الاستواء فمعلوم، وهو العلو والارتفاع، وروي هذا
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنعام الآية 88
(3) سورة الزمر الآية 65
(4) سورة طه الآية 5(5/171)
المعنى عن أم سلمة رضي الله عنها وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك رحمة الله عليهما.
ومن الشكر بالقلب لله أيضا محبة المؤمنين والمرسلين وتصديقهم فيما جاءوا به ولا سيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1)
ومن الشكر بالقلب أيضا أن تعتقد جازما أن العبادة حق لله وحده ولا يستحقها أحد سواه.
ومن الشكر لله بالقلب الخوف من الله ورجاؤه ومحبته حبا يحملك على أداء حقه وترك معصيته وأن تدعو إلى سبيله وتستقيم على ذلك.
ومن ذلك الإخلاص له والإكثار من التسبيح والتحميد والتكبير.
ومن الشكر أيضا الثناء باللسان وتكرار النطق بنعم الله والتحدث بها والثناء على الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن الشكر يكون باللسان والقلب والعمل.
وهكذا شكر ما شرع الله من الأقوال يكون باللسان.
وهناك نوع ثالث وهو الشكر بالعمل. بعمل الجوارح والقلب؛ ومن عمل الجوارح أداء الفرائض والمحافظة عليها كالصلاة والصيام والزكاة وحج بيت الله الحرام والجهاد في سبيل الله بالنفس والمال كما قال تعالى {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (2) الآية.
ومن الشكر بالقلب الإخلاص لله ومحبته والخوف منه ورجاؤه كما تقدم
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة التوبة الآية 41(5/172)
والشكر لله سبب للمزيد من النعم كما قال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (1) ومعنى تأذن: يعني أعلم عباده بذلك وأخبرهم أنهم إن شكروا زادهم وإن كفروا فعذابه شديد، ومن عذابه أن يسلبهم النعمة، ويعاجلهم بالعقوبة فيجعل بعد الصحة المرض وبعد الخصب الجدب وبعد الأمن الخوف وبعد الإسلام الكفر بالله عز وجل وبعد الطاعة المعصية.
فمن شكر الله عز وجل أن تستقيم على أمره وتحافظ على شكره حتى يزيدك من نعمه، فإذا أبيت إلا كفران نعمه ومعصية أمره فإنك تتعرض بذلك لعذابه وغضبه، وعذابه أنواع؛ بعضه في الدنيا وبعضه في الآخرة.
ومن عذابه في الدنيا: سلب النعم كما قال تعالى {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (2) وتسليط الأعداء وعذاب الآخرة أشد وأعظم كما قال سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} (3) وقال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (4) فأخبر سبحانه أن الشاكرين قليلون وأكثر الناس لا يشكرون.
فأكثر الناس يتمتع بنعم الله ويتقلب فيها ولكنهم لا يشكرونها بل هم ساهون لاهون غافلون كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} (5) فلا يتم الشكر إلا باللسان واليد والقلب جميعا. وبهذا المعنى يقول الشاعر:
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 7
(2) سورة الصف الآية 5
(3) سورة البقرة الآية 152
(4) سورة سبأ الآية 13
(5) سورة محمد الآية 12(5/173)
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
والمؤمن من شأنه أن يكون صبورا شكورا كما قال تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (1)
فالمؤمن صبور على المصائب شكور على النعم، صبور مع أخذه بالأسباب وتعاطيه الأسباب، فإن الصبر لا يمنع الأسباب، فلا يجزع من المرض ولكن لا مانع من الدواء.
فلا يجزع من قلة المزرعة أو ما يصيبها ولكن يعالج المزرعة بما يزيل من أمراضها، فالصبر لازم وواجب، ولكن لا يمنع العلاج والأخذ بالأسباب.
فالمؤمن يصبر على ما أصابه ويعلم أنه بقدر الله وله فيه الحكمة البالغة ويعلم أن الذنوب شرها عظيم وعواقبها وخيمة فيبادر بالتوبة من الذنوب والمعاصي.
فعليك أيها المسلم أن تتوب إلى الله عز وجل حتى يصلح لك ما كان فاسدا ويرد عليك ما كان غائبا.
وقد صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه (2) » فقد يفعل الإنسان ذنبا يحرم به من نعم كثيرة. قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (3) وقال جل وعلا {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (4) الآية، وقال سبحانه {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (5)
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 5
(2) سنن ابن ماجه المقدمة (90) ، مسند أحمد بن حنبل (5/280) .
(3) سورة الشورى الآية 30
(4) سورة النساء الآية 79
(5) سورة الروم الآية 41(5/174)
فالمصائب فيها دعوة للرجوع إلى الله وتنبيه للناس لعلهم يرجعون إليه.
فالعلاج الحقيقي للذنوب يكون بالتوبة إلى الله وترك المعاصي والصدق في ذلك، ومن جملة ذلك العلاج: ما شرع الله من العلاج الحسي فإنه من طاعة الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عباد الله تداووا ولا تتداووا بحرام (1) » .
فالمؤمن صبور عند البلايا في نفسه وأهله وولده شكور عند النعم بالقيام بحقه والتوبة إليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن فإن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له (2) » رواه مسلم في الصحيح من حديث صهيب بن سنان رضي الله عنه.
ومن الشكر لله عز وجل لزوم السنة والحذر من البدع. فإن كثيرا من الناس قد يبتلى بالبدعة تقليدا وتأسيا بغيره، وأسبابها الجهل.
والبدعة نوع من كفران النعم وعدم الشكر لله سبحانه وتعالى. ومن ذلك ما يفعله كثير من الناس في كثير من البلدان من الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول، ويعتقدون أن ذلك مستحب جهلا منهم وتقليدا لغيرهم، وذلك غلط لا أساس له في الشرع المطهر، بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان وقد يقع في هذا الاحتفال أشياء منكرة من شرب الخمور واختلاط النساء بالرجال بل قد يقع فيه قصائد بها شرك أكبر مثل ما قد وقع في البردة للبوصيري وذلك في قوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
وكما وقع في قصيدة البرعي اليمني وما فيها من الشرك الأكبر في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سنن أبو داود الطب (3874) .
(2) صحيح مسلم الزهد والرقائق (2999) ، مسند أحمد بن حنبل (6/16) ، سنن الدارمي الرقاق (2777) .(5/175)
فالاحتفالات بالموالد سواء كان مولد النبي صلى الله عليه وسلم أو الموالد الأخرى كمولد البدوي أو ابن علوان أو الحسين أو علي رضي الله عنهما - كلها بدعة منكرة أحدثها الناس ولم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أصحابه ولا في القرون المفضلة.
وأول من أحدثها هم الشيعة الباطنية وهم بنو عبيد القداح المعروفون بالفاطميين الذين ملكوا مصر والمغرب في المائة الرابعة والخامسة، وأحدثوا احتفالات كثيرة بالموالد، كمولد النبي صلى الله عليه وسلم والحسين وغيرهما، ثم تابعهم غيرهم بعد ذلك، وهذا فيه تشبه بالنصارى واليهود في أعيادهم، وفيه إحياء لاجتماعات فيها كثير من المعاصي والشرك بالله، حتى ولو فعلها كثير من الناس، ذلك لأن الحق لا يعرف بالناس وإنما يعرف الحق بالأدلة الشرعية في الكتاب والسنة. وقد نبه كثير من العلماء على ذلك منهم شيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي وآخرون رحمة الله عليهم، ومن استحسنها من بعض المنتسبين للعلم فقد غلط غلطا بينا لا تجوز متابعته عليه.
فإن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وإظهار فضله وشأنه لا يكون بالبدع بل باتباع شرعه وتعظيم أمره ونهيه والدعوة إلى سنته وتعليمها الناس في المساجد والمدارس والجامعات لا بإقامة احتفالات مبتدعة باسم المولد؛ لما تقدم من الأدلة الشرعية، ولما يقع فيها من الغلو والشرور الكثيرة، وربما صار فيها الاختلاط وشرب الخمور، بل قد يقع فيها ما هو أكثر من ذلك من الشرك الأكبر كما سبق التنبيه على ذلك.
وقد وقع في الناس أيضا تقليد لهؤلاء، فقد احتفل الناس بعيد ميلاد أولادهم أو عيد الزواج، فهذا أيضا من المنكرات وتقليد للكفرة. فليس لنا إلا عيدان عيد الفطر وعيد النحر وأيام التشريق وعرفة والجمعة. فمن اخترع عيدا جديدا فقد تشبه بالنصارى واليهود.
قال صلى الله عليه وسلم «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » وقال: «من أحدث
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(5/176)
في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (2) » . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على أهل الإسلام أن يسلكوا طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأتباعهم من السلف الصالح وأن يتركوا البدع المحدثة بعدهم.
وهذا كله من شكر الله قولا وعملا وعقيدة. وأسأل الله أن يوفقنا جميعا للعلم النافع والعمل الصالح وأن يرزقنا العمل بالسنة والاستقامة عليها وأن يوفقنا لشكر نعمه قولا وعملا وعقيدة مع الثبات على الحق. كما نسأله سبحانه أن يصلح جميع ولاة أمور المسلمين وأن يوفقهم لكل خير وأن يرزقهم البطانة الصالحة وأن يعينهم على إقامة أمر الله في أرض الله وعلى إقامة حدود الله على عباد الله وأن يولي على جميع أمور المسلمين خيارهم وأن يعيذهم من مضلات الفتن إنه سميع قريب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/270) .
(2) سنن أبو داود السنة (4607) .(5/177)
من برنامج نور على الدرب(5/177)
س1: سؤال من السودان: - يقول مرسله: قسم الشيخ النووي رحمه الله في شرحه موضوع البدعة إلى خمسة أقسام:
(1) بدعة واجبة. ومثالها: نظم أدلة المتكلمين على الملاحدة.
(2) المندوبة. ومثالها: تصنيف كتب العلم.
(3) المباحة. مثالها: التبسط في ألوان الطعام.
(4) (5) الحرام والمكروه. وهما واضحان.
والسؤال: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة (1) » أرجو توضيح ذلك مع ما يقصده الشيخ النووي رحمه الله. بارك الله فيكم.
ج1: هذا الذي نقلته عن النووي في تقسيمه البدعة إلى خمسة أقسام قد ذكره جماعة من أهل العلم، وقالوا: إن البدعة تنقسم إلى أقسام خمسة: واجبة ومستحبة، ومباحة، محرمة، مكروهة. وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن البدعة كلها ضلالة وليس فيها تقسيم بل كلها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ضلالة، قال عليه الصلاه والسلام «كل بدعة ضلالة (2) » هكذا جاءت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومنها ما رواه مسلم في الصحيح عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ويقول في خطبته: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (3) » وجاء في هذا المعنى عدة أحاديث من حديث عائشة ومن حديث العرباض بن سارية وأحاديث أخرى.
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) .
(2) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) .
(3) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .(5/178)
وهذا هو الصواب، أنها لا تنقسم إلى هذه الأقسام التي ذكر النووي وغيره بل كلها ضلالة، والبدعة تكون في الدين لا في الأمور المباحة، كالتنوع في الطعام على وجه جديد لا يعرف في الزمن الأول، فهذا لا يسمى بدعة من حيث الشرع المطهر وإن كان بدعة من حيث اللغة، فالبدعة في اللغة هي الشيء المحدث على غير مثال سبق، كما قال عز وجل {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1) يعني مبتدعها وموجدها على غير مثال سابق، لكن لا يقال في شيء أنه في الشرع المطهر بدعة إلا إذا كان محدثا لم يأت في الكتاب والسنة ما يدل على شرعيته، وهذا هو الحق الذي ارتضاه جماعة من أهل العلم وقرروه وردوا على من خالف ذلك.
أما تأليف الكتب وتنظيم الأدلة في الرد على الملحدين وخصوم الإسلام فلا يسمى بدعة؛ لأن ذلك مما أمر به الله ورسوله وليست ذلك بدعة، فالقرآن الكريم جاء بالرد على أعداء الله وكشف شبههم بالآيات الواضحات، وجاءت السنة بذلك أيضا بالرد على خصوم الإسلام، وهكذا المسلمون من عهد الصحابة إلى عهدنا هذا. فهذا كله لا يسمى بدعة بل هو قيام بالواجب وجهاد في سبيل الله وليس ببدعة، وهكذا بناء المدارس والقناطر وغير هذا مما ينفع المسلمين لا يسمى بدعة من حيث الشرع؛ لأن الشرع أمر بالتعليم، فالمدارس تعين على التعليم، وكذلك الربط للفقراء؛ لأن الله أمر بالإحسان إلى الفقراء والمساكن، فإذا بني لهم مساكن وسميت ربطا فهذا مما أمر الله به، وهكذا القناطر على الأنهار، كل هذا مما ينفع الناس وليس ببدعة، بل هو أمر مشروع، وتسميته بدعة إنما يكون من حيث اللغة؛ كما قال عمر رضي الله عنه في التراويح لما جمع الناس على إمام واحد وقال: (نعمت البدعة هذه) ، مع أن التراويح سنة مؤكدة فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وحث عليها ورغب فيها، فليست بدعة بل هي سنة
__________
(1) سورة البقرة الآية 117(5/179)
ولكن سماها عمر بدعة من حيث اللغة؛ لأنها فعلت على غير مثال سابق؛ لأنهم كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده يصلون أوزاعا في المسجد ليسوا على إمام واحد، هذا يصلي مع اثنين وهذا يصلي مع ثلاثة، «وصلى بهم النبي عليه السلام ثلاث ليال ثم ترك وقال: إني أخشى أن تفرض عليكم صلاة الليل (1) » فتركها خوفا على أمته أن تفرض عليهم، فلما توفي صلى الله عليه وسلم أمن ذلك، ولذا أمر بها عمر رضي الله عنه.
فالحاصل أن قيام رمضان سنة مؤكدة وليست بدعة من حيث الشرع. وبذلك يعلم أن كل ما أحدثه الناس في الدين مما لم يشرعه الله فإنه يسمى بدعة وهي بدعة ضلالة، ولا يجوز فعلها، ولا يجوز تقسيم البدع إلى واجب وإلى سنة وإلى مباح. إلخ؛ لأن ذلك خلاف الأدلة الشرعية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق إيضاح ذلك. والله ولي التوفيق.
س2: سؤال من السودان أيضا: يقول السائل: قال الله تعالى في كتابه الكريم {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (2) وقد ورد في بعض الأحاديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن والديه في النار. السؤال: ألم يكونا من أهل الفترة وأن القرآن صريح بأنهم ناجون؟ أفيدونا أفادكم الله.
ج2: أهل الفترة ليس في القرآن ما يدل على أنهم ناجون أو هالكون، إنما قال الله جل وعلا {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (3) فالله جل وعلا من كمال عدله لا يعذب أحدا إلا بعد أن يبعث إليه رسولا، فمن لم تبلغه الدعوة فليس بمعذب حتى تقام عليه الحجة، وقد أخبر سبحانه أنه لا يعذبهم إلا بعد إقامة الحجة، والحجة قد تقوم عليهم يوم القيامة، كما جاءت السنة بأن أهل الفترات يمتحنون ذلك اليوم، فمن أجاب وامتثل نجا
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (924) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (761) ، سنن أبو داود الصلاة (1373) ، موطأ مالك النداء للصلاة (250) .
(2) سورة الإسراء الآية 15
(3) سورة الإسراء الآية 15(5/180)
ومن عصى دخل النار، والنبي صلى الله عليه وسلم قال «إن أبي وأباك في النار لما سأله رجل عن أبيه قال: إن أباك في النار فلما رأى ما في وجهه من التغير قال: إن أبي وأباك في النار (1) » خرجه مسلم في صحيحه.
وإنما قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ليتسلى به ويعلم أن الحكم ليس خاصا بأبيه، ولعل هذين بلغتهما الحجة؛ أعني أبا الرجل وأبا النبي صلى الله عليه وسلم، فلهذا قال النبي عليه السلام: «إن أبي وأباك في النار (2) » قالهما عن علم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، قال الله سبحانه وتعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (3) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (4) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (5) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (6) فلعل عبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم قد قامت عليه الحجة لما قال في حقه النبي ما قال، عليه الصلاة والسلام، وكان علم ذلك مما عرفته قريش من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام فإنها كانت على ملة إبراهيم حتى أحدث ما أحدث عمرو بن لحي الخزاعي حين تولى مكة وسرى في الناس ما أحدثه عمرو المذكور من بث الأصنام والدعوة إلى عبادتها من دون الله، فلعل عبد الله قد بلغه ما يدل على أن هذا باطل وهو ما سارت عليه قريش من عبادة الأصنام فتابعهم في باطله، فلهذا قامت عليه الحجة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار لأنه أول من سيب السوائب وغير دين إبراهيم (7) » ومن هذا ما جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم «استأذن أن يستغفر لأمه فلم يؤذن له فاستأذن أن يزورها فأذن له (8) » . أخرجه مسلم في صحيحه.
فلعله بلغها ما تقوم به الحجة عليها من بطلان دين قريش كما بلغ زوجها عبد الله، فلهذا نهي صلى الله عليه وسلم عن الاستغفار لها، ويمكن أن يقال: إن أهل الجاهلية يعاملون معاملة الكفرة في الدنيا فلا يدعى لهم ولا يستغفر لهم؛ لأنهم يعملون أعمال الكفرة فيعاملون معاملتهم وأمرهم
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (203) ، سنن أبو داود السنة (4718) ، مسند أحمد بن حنبل (3/119) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (203) ، سنن أبو داود السنة (4718) ، مسند أحمد بن حنبل (3/119) .
(3) سورة النجم الآية 1
(4) سورة النجم الآية 2
(5) سورة النجم الآية 3
(6) سورة النجم الآية 4
(7) صحيح البخاري المناقب (3521) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2856) .
(8) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1572) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .(5/181)
إلى الله في الآخرة.
فالذي لم تقم عليه الحجة في الدنيا لا يعذب حتى يمتحن يوم القيامة؛ لأن الله سبحانه قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (1) فكل من كان في فترة لم تبلغهم دعوة نبي فإنهم يمتحنون يوم القيامة، فإن أجابوا صاروا إلى الجنة وإن عصوا صاروا إلى النار، وهكذا الشيخ الهرم الذي ما بلغته الدعوة، والمجانين الذين ما بلغتهم الدعوة وأشباههم كأطفال الكفار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل عنهم قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين (2) » فأولاد الكفار يمتحنون يوم القيامة كأهل الفترة، فإن أجابوا جوابا صحيحا نجوا وإلا صاروا مع الهالكين. وقال جمع من أهل العلم: إن أطفال الكفار من الناجين؛ لكونهم ماتوا على الفطرة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم حين دخل الجنة في روضة مع إبراهيم عليه السلام هم وأطفال المسلمين.
وهذا قول قوي لوضوح دليله. أما أطفال المسلمين فهم من أهل الجنة بإجماع أهل السنة والجماعة. والله أعلم وأحكم.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 15
(2) صحيح البخاري الجنائز (1383) ، صحيح مسلم القدر (2660) ، سنن النسائي الجنائز (1951) ، سنن أبو داود السنة (4711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/358) .(5/182)
س3: له سؤال: وردت الأدلة على حصول الأجر من الله سبحانه في قراءة القرآن الكريم، فهل يحصل الأجر من الله على قراءة الأحاديث النبوية؟
ج3: قراءة القرآن تقربا إلى الله سبحانه فيها أجر عظيم، وهكذا قراءة أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحفظها فيها أجر عظيم؛ لأن ذلك عبادة لله سبحانه وتعالى وطريق لطلب العلم والتفقه في الدين، وقد دلت الأدلة الشرعية على وجوب التعلم والتفقه في الدين حتى يعبد المسلم ربه على بصيرة، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1) » وقوله
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .(5/182)
صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » ، وقال عليه السلام: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده (2) » .
وجاء في قراءة القرآن أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي شفيعا لأصحابه يوم القيامة (3) » رواه مسلم، وقال ذات يوم عليه الصلاة والسلام: «أيحب أحدكم أن يذهب إلى بطحان [وادي في المدينة] فيأتي بناقتين عظيمتين في غير إثم ولا قطيعة رحم؟ فقالوا: كلنا نحب ذلك يا رسول الله. قال: ألا يذهب أحدكم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين عظيمتين وثلاث خير من ثلاث وأربع خير من أربع ومن أعدادهن من الإبل (4) » أو كما قال عليه الصلاة والسلام، أخرجه مسلم في الصحيح. وهذا يدل على فضل قراءة القرآن وتعلمه.
ومن ذلك حديث ابن مسعود المشهور المخرج في جامع الترمذي بإسناد حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ حرفا من القرآن فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها (5) » وهكذا السنة إذا تعلمها المؤمن بقراءة الأحاديث ودراستها وتحفظها ومعرفة الصحيح منها من غيره يكون له بذلك أجر عظيم؛ لأن هذا من تعلم العلم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (6) » كما تقدم.
وهذا يدل على أن قراءة الآيات وتدبرها ودراسة الأحاديث وحفظها والمذاكرة فيها رغبة في العلم والتفقه في الدين والعمل بذلك - من أسباب دخول الجنة والنجاة من النار، وهكذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (7) » المتفق على صحته يدل على فضل العلم وطلبه وأن ذلك من علامات الخير كما سبق. فالتفقه في الدين يكون من طريق الكتاب ويكون من طريق السنة، فالتفقه في السنة من الدلائل على أن الله أراد بالعبد خيرا، كما أن التفقه في القرآن
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(3) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (804) ، مسند أحمد بن حنبل (5/255) .
(4) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (803) ، سنن أبو داود الصلاة (1456) ، مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(5) سنن الترمذي فضائل القرآن (2910) .
(6) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(7) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(5/183)
يدل على ذلك، والأدلة في هذا كثيرة والحمد لله. اهـ.
س4: عندنا من المشايخ الصوفية من يهتمون بعمل القباب على الأضرحة والناس يعتقدون فيهم الصلاح والبركة، فإن كان هذا الأمر غير مشروع فما هي نصيحتكم لهم وهم قدوة في نظر السواد الأعظم من الناس. أفيدونا بارك الله فيكم. اهـ.
ج4: النصيحة للعلماء الصوفية ولغيرهم من أهل العلم أن يأخذوا بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يعلموا الناس ذلك وأن يحذروا اتباع من قبلهم فيما يخالف ذلك فليس الدين بتقليد المشايخ ولا غيرهم وإنما الدين ما يؤخذ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه أهل العلم وعن الصحابة رضي الله عنهم، هكذا يؤخذ الدين لا عن تقليد زيد أو عمرو ولا عن مشايخ الصوفية ولا غيرهم. وقد دلت السنة الصحيحة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام على أنه لا يجوز البناء على القبور، ولا اتخاذ المساجد عليها، ولا اتخاذ القباب، ولا أي بناء؛ كل ذلك محرم بنص الرسول عليه الصلاة والسلام ومن ذلك ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » قالت: رضي الله عنها يحذر ما صنعوا.
وفي الصحيحين عن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله تعالى عنهما أنهما «ذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها في أرض الحبشة وما فيها من الصور فقال صلى الله عليه وسلم: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله (2) »
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (529) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (427) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (528) ، سنن النسائي المساجد (704) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) .(5/184)
فأخبر عليه الصلاة والسلام أن الذين يتخذون المساجد على القبور هم شرار الخلق.
وهكذا من يتخذ عليها الصور؛ لأنها دعاية إلى الشرك ووسيلة له؛ لأن العامة إذا رأوا هذا عظموا المدفونين واستغاثوا بهم ودعوهم من دون الله وطلبوهم المدد والعون، وهذا هو الشرك الأكبر وفي حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه المخرج في صحيح مسلم رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا؛ ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (1) » هكذا رواه مسلم في الصحيح.
فدل ذلك على فضل الصديق رضي الله عنه وأنه أفضل الصحابة وخيرهم وأنه لو اتخذ النبي خليلا لاتخذه خليلا رضي الله عنه، ولكن الله جل وعلا منعه من ذلك حتى تتمخض محبته لربه سبحانه وتعالى، وفي الحديث دلالة على تحريم البناء على القبور واتخاذ مساجد عليها وعلى ذم من فعل ذلك من ثلاث جهات: إحداها: ذمه من فعل ذلك، والثانية: قوله: «فلا تتخذوا القبور مساجد (2) » ، والثالثة: قوله: «فإني أنهاكم عن ذلك (3) » . فحذر من البناء على القبور بهذه الجهات الثلاث فوجب على أمته أن يحذروا ما حذرهم منه وأن يبتعدوا عما ذم الله به من قبلهم من اليهود والنصارى ومن تشبه بهم من اتخاذ المساجد على القبور والبناء عليها، وهذه الأحاديث التي ذكرنا صريحة في ذلك.
والحكمة في ذلك كما قال أهل العلم: الذريعة الموصلة إلى الشرك الأكبر. فعبادة أهل القبور بدعائهم والاستغاثة والنذور والذبائح لهم وطلب المدد والعون منهم كما هو واقع الآن في بلدان كثيرة في السودان ومصر وفي الشام وفي العراق وفي بلدان أخرى - كل ذلك من الشرك الأكبر، يأتي الرجل العامي الجاهل فيقف على صاحب القبر المعروف عندهم فيطلبه المدد والعون كما يقع عند قبر البدوي والحسين وزينب
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(5/185)
والست نفيسة، وكما يقع في السودان عند قبور كثيرة وكما يقع في بلدان أخرى، وكما يقع في بعض الحجاج الجهال عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وعند قبور أهل البقيع وقبور أخرى يقع هذا من الجهال، فهم يحتاجون إلى التعليم والبيان والعناية من أهل العلم حتى يعرفوا دينهم على بصيرة.
فالواجب على أهل العلم جميعا الذين من الله عليهم بمعرفة دينهم على بصيرة سواء كانوا من الصوفية أو غيرهم، أن يتقوا الله وأن ينصحوا عباد الله وأن يعلموهم دينهم وأن يحذروهم من البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها والقباب أو غير ذلك من أنواع البناء، وأن يحذروهم من الاستغاثة بالموتى ودعائهم فالدعاء عبادة يجب صرفها لله وحده، كما قال الله سبحانه {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) وقال سبحانه: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (2) يعني من المشركين، وقال عليه الصلاة والسلام: «الدعاء هو العبادة (3) » وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله (4) » فالميت قد انقطع عمله وعلمه بالناس وهو في حاجة أن يدعى له ويستغفر له ويترحم عليه لا أن يدعى من دون الله، يقول النبي عليه السلام: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (5) » فكيف يدعى من دون الله؟ وهكذا الأصنام وهكذا الأشجار والأحجار والقمر والشمس والكواكب كلها لا تدعى من دون الله ولا يستغاث بها وهكذا أصحاب القبور وإن كانوا أنبياء أو صالحين وهكذا الملائكة والجن لا يدعون مع الله فالله سبحانه يقول: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (6) فالله لا يأمر باتخاذ
__________
(1) سورة الجن الآية 18
(2) سورة يونس الآية 106
(3) سنن الترمذي تفسير القرآن (2969) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3828) .
(4) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، مسند أحمد بن حنبل (1/303) .
(5) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .
(6) سورة آل عمران الآية 80(5/186)
الملائكة والنبيين أربابا من دونه؛ لأن ذلك كفر بنص الآية.
وفي حديث جابر عند مسلم في صحيحه يقول رضي الله عنه: «نهى رسول الله عن تجصيص القبور وعن القعود عليها وعن البناء عليها (1) » وما ذاك إلا لأن تجصيصها والبناء عليها وسيلة إلى الشرك بأهلها والغلو فيهم.
أما القعود عليها فهو امتهان لها، فلا يجوز ذلك، كما لا يجوز البول عليها والتغوط عليها، ونحو ذلك من أنواع الإهانة؛ لأن المسلم محترم حيا وميتا لا يجوز أن يداس قبره ولا أن تكسر عظامه ولا أن يقعد على قبره ولا أن يبال عليه ولا أن توضع عليه القمائم. كل هذا ممنوع، فالميت لا يمتهن ولا يعظم بالغلو فيه ودعائه مع الله والطواف بقبره ونحو ذلك من أنواع الغلو، وبذلك يعلم أن الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت بالأمر الوسط بشأن الأموات فلا يغلى فيهم ويعبدون مع الله ولا يمتهنون بالقعود على قبورهم ونحو ذلك وهي وسط في كل الأمور والحمد لله؛ لأنها تشريع من حكيم عليم يضع الأمور في مواضعها كما قال عز وجل: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (2)
ومن هذا ما جاء في الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها (3) » فجمعت الشريعة الكاملة العظيمة بين الأمرين؛ بين تحريم الغلو بدعاء أهل القبور والاستغاثة بهم والصلاة إلى قبورهم وبين النهي عن إيذائهم وامتهانهم والجلوس على قبورهم أو الوطء عليها والاتكاء عليها، كل هذا ممنوع فلا هذا ولا هذه.
وبهذا يعلم المؤمن ويعلم طالب الحق أن الشريعة جاءت بالوسط لا بالشرك ولا بالإيذاء. فالميت المسلم يدعى له ويستغفر له ويسلم عليه عند زيارته، أما أن يدعى من دون الله أو يطاف بقبره أو يصلى إليه فلا، أما الحي الحاضر فلا بأس بالتعاون معه فيما أباح الله؛ لأن له قدرة
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2028) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .
(2) سورة الأنعام الآية 83
(3) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) .(5/187)
على ذلك، فيجوز شرعا التعاون معه بالأسباب الحسية، وهكذا الإنسان مع إخوانه ومع أقاربه يتعاونون في مزارعهم، وفي إصلاح بيوتهم، وفي إصلاح سياراتهم ونحو ذلك، يتعاونون بالأسباب الحسية المباحة المقدور عليها فلا بأس بذلك، وهكذا مع الغائب الحي عن طريق الهاتف أو عن طريق المكاتبة ونحو ذلك كل هذا تعاون حسي لا بأس به في الأمور المقدورة المباحة. كما أن الإنسان القادر الحي يتصرف بالأسباب الحسية فيعينك بيده ويبني معك أو يعطيك مالا، هدية أو قرضا، فالتعاون مع الأحياء شيء جائز بشروطه المعروفة أما الاستغاثة بالأموات أو بالغائبين بغير الأسباب الحسية فشرك أكبر بإجماع أهل العلم ليس فيه نزاع بين الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم والإيمان وأهل البصيرة.
والبناء على القبور واتخاذ المساجد عليها والقباب كذلك منكر معلوم عند أهل العلم، جاءت الشريعة بالنهي عنه لكونه وسيلة إلى الشرك فالواجب على أهل العلم أن يتقوا الله أينما كانوا وأن ينصحوا عباد الله وأن يعلموهم شريعة الله وأن لا يجاملوا زيدا ولا عمرا، فالحق أحق أن يتبع بل عليهم أن يعلموا الأمير والصغير والكبير ويحذر الجميع مما حرم الله عليهم ويرشدوهم إلى ما شرع الله لهم، وهذا هو الواجب على أهل العلم أينما كانوا من طريق الكلام الشفهي ومن طريق الكتابة ومن طريق التأليف أو من طريق الخطابة في الجمعة وغيرها أو من طريق الهاتف أو من أي الطرق التي وجدت الآن والتي تمكن على تبليغ دعوة الله ونصح عباده.
والله ولي التوفيق.(5/188)
حكم الإسلام في عيد الأم والأسرة(5/188)
اطلعت على ما نشرته صحيفة (الندوة) في عددها الصادر بتاريخ 30 \ 11 \ 1384 هـ تحت عنوان: (تكريم الأم. وتكريم الأسرة) فألفيت الكاتب قد حبذ من بعض الوجوه ما ابتدعته الغرب من تخصيص يوم في السنة يحتفل فيه بالأم وأورد عليه شيئا غفل عنه المفكرون في إحداث هذا اليوم وهي ما ينال الأطفال الذين ابتلوا بفقد الأم من الكآبة والحزن حينما يرون زملاءهم يحتفلون بتكريم أمهاتهم، واقترح أن يكون الاحتفال للأسرة كلها واعتذر عن عدم مجيء الإسلام بهذا العيد؛ لأن الشريعة الإسلامية قد أوجبت تكريم الأم وبرها في كل وقت فلم يبق هناك حاجة لتخصيص يوم من العام لتكريم الأم.
ولقد أحسن الكاتب فيما اعتذر به عن الإسلام وفيما أورده من سيئة هذا العيد التي قد غفل عنها من أحدثه، ولكنه لم يشر إلى ما في البدع من مخالفة صريح النصوص الواردة عن رسول الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام ولا إلى ما في ذلك من الأضرار ومشابهة المشركين والكفار فأردت بهذه الكلمة الوجيزة أن أنبه الكاتب وغيره على ما في هذه البدعة وغيرها مما أحدثه أعداء الإسلام والجاهلون به من البدع في الدين حتى شوهوا سمعته ونفروا الناس منه، وحصل بسبب ذلك من اللبس والفرقة ما لا يعلم مدى ضرره وفساده إلا الله سبحانه.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التحذير من المحدثات في الدين وعن مشابهة أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق عليه وفي لفظ لمسلم «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » والمعنى:
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(5/189)
فهو مردود على من أحدثه، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (1) » خرجه مسلم في صحيحه.
ولا ريب أن تخصيص يوم من السنة للاحتفال بتكريم الأم أو الأسرة من محدثات الأمور التي لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته المرضيون فوجب تركه وتحذير الناس منه والاكتفاء بما شرعه الله ورسوله.
وقد سبق أن الكاتب أشار إلى أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتكريم الأم والتحريض على برها كل وقت، وقد صدق في ذلك، فالواجب على المسلمين أن يكتفوا بما شرعه الله لهم من بر الوالدة وتعظيمها والإحسان إليها والسمع لها في المعروف كل وقت وأن يحذروا من محدثات الأمور التي حذرهم الله منها، والتي تفضي بهم إلى مشابهة أعداء الله والسير في ركابهم واستحسان ما استحسنوه من البدع وليس ذلك خاصا بالأم بل قد شرع الله للمسلمين بر الوالدين جميعا وتكريمهما والإحسان إليهما وصلة جميع القرابة، وحذرهم سبحانه من العقوق والقطيعة وخص الأم بمزيد العناية والبر لأن عنايتها بالولد أكبر وما ينالها من المشقة في حمله وإرضاعه وتربيته أكثر، قال الله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (2) وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (3) وقال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (4) {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (5) وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة لقمان الآية 14
(4) سورة محمد الآية 22
(5) سورة محمد الآية 23(5/190)
الوالدين، وكان متكئا فجلس وقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور (1) » .
«وسأله صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله أي الناس أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك ثم الأقرب فالأقرب (2) » وقال عليه الصلاة والسلام «لا يدخل الجنة قاطع (3) » يعني قاطع رحم.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه (4) » والآيات والأحاديث في بر الوالدين وصلة الرحم، وبيان تأكيد حق الأم كثيرة مشهورة وفيما ذكرنا منها كفاية ودلالة على ما سواه وهي تدل من تأملها دلالة ظاهرة على وجوب إكرام الوالدين جميعا واحترامهما والإحسان إليهما، وإلى سائر الأقارب في جميع الأوقات وترشد إلى أن عقوق الوالدين وقطيعة الرحم من أقبح الصفات والكبائر التي توجب النار وغضب الجبار، نسأل الله العافية من ذلك، وهذا أبلغ وأعظم مما أحدثه الغرب من تخصيص الأم بالتكريم في يوم من السنة فقط ثم إهمالها في بقية العام مع الإعراض عن حق الأب وسائر الأقارب.
ولا يخفى على اللبيب ما يترتب على هذا الإجراء من الفساد الكبير مع كونه مخالفا لشرع أحكم الحاكمين، وموجبا للوقوع فيما حذر منه رسوله الأمين.
ويلتحق بهذا التخصيص والابتداع ما يفعله كثير من الناس من الاحتفال بالموالد وذكرى استقلال البلاد أو الاعتلاء على عرش الملك وأشباه ذلك، فإن هذه كلها من المحدثات التي قلد فيها كثير من المسلمين غيرهم من أعداء الله، وغفلوا عما جاء به الشرع المطهر من التحذير من ذلك والنهي عنه، وهذا مصداق الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال فمن (5) » . وفي لفظ آخر: «لتأخذن أمتي
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5976) ، صحيح مسلم الإيمان (87) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3019) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) .
(2) صحيح البخاري الأدب (5971) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2548) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2706) .
(3) صحيح البخاري الأدب (5984) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2556) ، سنن الترمذي البر والصلة (1909) ، سنن أبو داود الزكاة (1696) ، مسند أحمد بن حنبل (4/83) .
(4) صحيح البخاري الأدب (5986) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2557) ، سنن أبو داود الزكاة (1693) ، مسند أحمد بن حنبل (3/247) .
(5) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7320) ، صحيح مسلم العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (3/84) .(5/191)
مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع، قالوا: يا رسول الله فارس والروم؟ قال فمن (1) » والمعنى فمن المراد إلا أولئك.
فقد وقع ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم من متابعة هذه الأمة إلا من شاء الله منها لمن كان قبلهم من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الكفرة في كثير من أخلاقهم وأعمالهم حتى استحكمت غربة الإسلام وصار هدي الكفار وما هم عليه من الأخلاق والأعمال أحسن عند الكثير من الناس مما جاء به الإسلام، وحتى صار المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، عند أكثر الخلق؛ بسبب الجهل والإعراض عما جاء به الإسلام من الأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة المستقيمة فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأل الله أن يوفق المسلمين للفقه في الدين وأن يصلح أحوالهم ويهدي قادتهم وأن يوفق علماءنا وكتابنا لنشر محاسن ديننا والتحذير من البدع والمحدثات التي تشوه سمعته وتنفر منه، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ومن سلك سبيله واتبع سنته إلى يوم الدين.
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7319) ، سنن ابن ماجه الفتن (3994) ، مسند أحمد بن حنبل (2/325) .(5/192)
الإسلام والمسلمون في جنوب شرق آسيا.(5/192)
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه وصفوته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد.
فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء المبارك بإخوان لنا في الدين من حجاج بيت الله الحرام وغيرهم، ونسأله سبحانه أن يجعله اجتماعا مباركا نافعا للمسلمين معينا على طاعة الله عز وجل ومعينا على كفاح الدعوات الهدامة والأفكار المنحرفة. كما أشكره سبحانه على ما من به من شرعيته سبحانه حج بيته الحرام الذي يتضمن لقاء المسلمين من أقطار الدنيا {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (1) وليعبدوه وحده ويخصوه بأنواع القربات ويرفعوا حوائجهم إليه سبحانه عند بيته العتيق وفي المشاعر المقدسة ويقفوا بين يديه ينادونه بعرفات، وفي المشعر الحرام ليغفر لهم ويقبل حجهم ويعتقهم وليطوفوا ببيته العتيق وبين الصفا والمروة يرجون رحمته ويخافون عذابه متأسين برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.
وقد جاءوا من كل فج عميق ليؤدوا هذا الواجب العظيم وليستفيدوا من
__________
(1) سورة الحج الآية 28(5/193)
حجهم أنواعا من طاعة الله عز وجل وتناصحا بينهم وإخوانهم الحجاج والعمار وتعاونا على البر والتقوى ودراسات وافية لكل مشاكلهم وللنظر فيما ينفعهم في الدنيا والآخرة وليتواصوا بالحق ويدعوا إليه.
ولا شك أن منافع الحج لا تحصى. وإن من نعم الله عز وجل أن جعله كل عام ولم يوجبه في العمر إلا مرة واحدة، ولكن الله سبحانه وتعالى شرعه كل عام على سبيل التنفل والتقرب إليه سبحانه وتعالى، أما الوجوب فمرة واحدة في العمر لمن استطاع السبيل إلى ذلك، وجعل هذا المسجد الكريم المسجد الحرام ومسجد نبيه صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة ملتقى أولياء الله والعلماء من عباده وملتقى المسلمين من جميع أقطار الدنيا ليستفيدوا من حجهم ومن زيارتهم مسجد نبيه صلى الله عليه وسلم وليتقربوا إلى ربهم وليعبدوه وحده سبحانه وتعالى وليستفيدوا من العلماء والدعاة إلى الله عز وجل ومن حلقات العلم في المسجدين الشريفين فإن ذلك من نعم الله عز وجل على الحجاج وغيرهم من زائري المسجد الحرام والمسجد النبوي والمقيمين حولهما.
وإن هذه الندوة المباركة تتعلق بالإسلام والمسلمين في جنوب شرق آسيا. ولا شك أن هذه المنطقة من الدنيا في أشد الحاجة إلى النشاط الإسلامي وتكاتف الدعاة إلى الله عز وجل وإنشاء الجمعيات الإسلامية والمراكز الإسلامية والجامعات الإسلامية والمدارس والمعاهد الإسلامية وتوفر النشاطات الإسلامية من منشآت ومستشفيات وغير ذلك مما يعين المسلمين هناك على معرفة دينهم ويساعدهم على كفاح أعدائهم.
وإن هذه المنطقة مبتلاة بأفكار هدامة وجهود مكثفة من أعداء الله من تنصير ومن دعوة إلى النحلة الشيوعية والبوذية وإلى نحل أخرى هدامة خبيثة يدعو إليها جمع غفير من أعداء الله سبحانه.
وإن الواجب على علماء الإسلام في هذه الدول دول جنوب شرق(5/194)
آسيا أشد من الواجب على غيرهم؛ لأنهم يباشرون هذه الحركات الهدامة ويرونها ويسمعونها. فالواجب عليهم الجهاد الصادق بالدعوة والتصدي لهذه الأفكار الهدامة والمذاهب الشيطانية والنحل المنحرفة وبيان بطلانها، وعليهم أن يتكاتفوا ضدها وأن يتعاونوا مخلصين لنشر الإسلام والدعوة إليه وبيان أحكامه ومحاسنه والرد على خصومه، وبيان باطلهم وضلالهم وما ينتهي إليه أمرهم.
وإن على جميع الدول الإسلامية في جميع أقطار الدنيا أن يساعدوا المسلمين في هذه المنطقة التي ابتليت بهذه المذاهب الهدامة من تنصير وشيوعية، وبوذية وإباحية، وغير ذلك. وعلى علماء الإسلام في كل مكان أن يبذلوا الوسع في مساعدة إخوانهم من العلماء والدعاة في هذه المنطقة حتى يكافحوا جميعا هذا الخطر الداهم وحتى يتعاونوا جميعا في محاربته بكل وسيلة من الوسائل الشرعية.
ولا ريب أن تثبيت الإسلام في هذه المنطقة والدعوة إليه ومكافحة خصومه يحتاج إلى جهود عظيمة وعناية مستمرة ونرجو أن يكون له المستقبل فيها وفي غيرها وأن يكلل الله جهود الدعاة إليه والمصلحين والعلماء بكل نجاح وتوفيق.
لكن يجب على العلماء والدعاة إلى الله أينما كانوا أن ينظروا في الأدواء أولا ويجتهدوا في جمع المعلومات عنها في هذه المنطقة التي نحن بصددها وهي منطقة شرق آسيا، على العلماء والدعاة إلى الله المحليين وغيرهم من الدعاة الوافدين إلى هذه الدول أن يعنوا بمعرفة الأدواء ومعرفة أساليب الأعداء في التنصير وغيره حتى يضعوا الدواء على الداء وحتى يتوصلوا إلى العلاج الناجع بإذن الله.
ولا شك أن هذا يحتاج إلى جهود مكثفة وصبر ومصابرة في جميع الدول ولا سيما دولة أندونيسيا فإنها أكبر دولة إسلامية في المنطقة والجهود التنصيرية مكثفة فيها، فالواجب على العلماء في أندونيسيا والواجب على الدعاة إلى الله من أبنائها وغيرهم من الوافدين إليها أن يتكاتفوا ويتعاونوا في وضع الحلول(5/195)
المناسبة ووصف العلاج المناسب لعلاج هذه الأدواء ومكافحة هذه الشرور وهذه الأفكار والمذاهب الخبيثة لعلهم يوفقون وينجحون. ومتى صدقوا في التعاون ومتى أخلصوا لله العمل ومتى تكاتفوا جادين مخلصين فإن الله ينصرهم ويعينهم ويكفيهم شر أعدائهم، وهو القائل سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) وهو القائل عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (2) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (3) وهو القائل عز وجل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (4) وهو القائل سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (5)
فهذا كله يبين لنا أن المسلمين إذا تكاتفوا وتعاونوا وصدقوا فإن الله عز وجل قد وعدهم النصر ووعدهم حسن العاقبة.
فعلينا معشر الدعاة إلى الله ومعشر العلماء ومعشر المسلمين جميعا في كل مكان أن لا نيأس وأن نحسن ظننا بمولانا جل وعلا، وأن نرجوه حسن العاقبة والتوفيق في أعمالنا وجهودنا لكن بعد أن نبذل الوسع وبعد أن نصدق فيما بيننا وبين الله وفيما بيننا وبين أنفسنا. ونتخذ الوسائل التي شرعها الله لنا في الدعوة إلى الله ومكافحة أعدائه بالأسلحة التي يستعملونها، وبما هو خير منها: ثقافية واقتصادية واجتماعية
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة الحج الآية 40
(3) سورة الحج الآية 41
(4) سورة الروم الآية 47
(5) سورة النور الآية 55(5/196)
وسياسية وغير ذلك. فننظر في جهودهم وأعمالهم، وننظر في أساليبهم وأسلحتهم الخبيثة، ونقاومها بضدها مع الصدق والإخلاص لله والتعاون الصادق بيننا جميعا مع سؤال الله عز وجل التوفيق والنجاح في أعمالنا وأقوالنا وسائر أحوالنا، إن أعداءنا لا يفترون وإنهم يتربصون بنا الدوائر.
فعلينا أن نعد العدة دائما وأن نتكاتف ونتعاون في سبيل الحق والدعوة إليه والرد على الباطل وخصومه عملا بقوله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وبقوله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (2) وقوله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) وهناك جماعة من الدعاة في أندونيسيا وماليزيا وفي الفلبين وفي سنغافورا وفي تايلاند.
نسأل الله أن ينفع بهم جميعا وأن يرزقهم الصدق في الدعوة إليه وتوجيه الناس إلى الخير ومكافحة أساليب الأعداء وأفكارهم الهدامة.
ولنا مكتبان للدعوة في أندونيسيا وماليزيا، نسأل الله أن ينفع بهما وأن يبارك في الأسباب التي تنشر بها الدعوة وأن يوفق جميع الدعاة من الرئاسة والرابطة وسائر المسلمين ومن الدعاة المحليين للتعاون الصادق والحرص الكامل على أداء الواجب في الدعوة إليه وتشجيع الدعاة إليه، كما نسأله سبحانه، أن يوفق العاملين هناك من أصحاب الجمعيات الإسلامية والمراكز الإسلامية والمدارس والمعاهد وسائر دور العلم للدعوة إلى الله والتعاون على البر والتقوى.
كما نسأله سبحانه أن يوفق القائمين أيضا على المستشفيات الإسلامية
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة الأنفال الآية 60
(3) سورة النحل الآية 125(5/197)
والمستوصفات الإسلامية للقيام بواجبهم. فإن هذه الطرق وهذه الوسائل كلها من أنجح الوسائل ومن أنجح العوامل للدعوة إلى الحق وإحباط أعمال أعداء الله وخصوم الإسلام، والله يقول: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (1)
فعلى العاملين أن يعملوا وأن يخلصوا لله نيتهم وأن يتكاتفوا صادقين على النهج الإسلامي على ضوء كتاب الله وسنة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، وعليهم أن يستمروا مع حسن الظن بالله وأن لا ييأسوا من نصر الله، بل عليهم أن يصبروا أعظم من صبر أعداء الله في باطلهم ويتكاتفوا أكثر من تكاتف أعداء الله في باطلهم وكفرهم وضلالهم وأن يعلموا أن العاقبة للمتقين والنصر لأوليائه المؤمنين كما قال عز وجل: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (2) وقال عز وجل: {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) وقال سبحانه: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (4)
ثم لا يفوتني في هذا المقام أن أشكر لحكومتنا وفقها الله وعلى رأسها جلالة الملك فهد بن عبد العزيز حفظه الله على ما تقوم به من دعم كبير لهذه الرابطة والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد لجميع قضايا المسلمين في كل مكان وما تبذله من جهود مباركة طيبة في حل مشاكل المسلمين وإصلاح ذات بينهم وما تبذله أيضا في مواساة المسلمين وحل أزماتهم وجبر مصائبهم ونكباتهم.
نسأل الله المزيد من التوفيق والعون على كل خير
__________
(1) سورة التوبة الآية 105
(2) سورة هود الآية 49
(3) سورة المجادلة الآية 22
(4) سورة الصافات الآية 173(5/198)
كما لا يفوتني أن أشكر الرابطة على جهودها وأعمالها الطيبة وأشكر القائمين عليها على جهودهم وأعمالهم في صالح الإسلام وأهله. ومن جملة ذلك هذه الندوة المباركة وما بعدها من الندوات وعلى رأسهم الأخ الفاضل معالي الأمين العام للرابطة الدكتور عبد الله نصيف زاده الله توفيقا وهدى. كما أشكر إخواني الحضور على مشاركتهم في هذه الليلة للاستفادة.
وأسأل الله أن يجعلنا جميعا من الهداة المهتدين ومن الصالحين المصلحين وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. كما أسأله سبحانه أن يوفق جميع المسلمين في كل مكان لما فيه رضاه، وأن يصلح قلوبهم وأعمالهم وأن يولي عليهم خيارهم وأن يكثر بينهم دعاة الهدى.
كما أسأله جل وعلا أن يصلح قادة المسلمين في كل مكان وحكامهم وأن يرزقهم الاستقامة على دينه والتحكيم لشريعته والتحاكم إليها، فإن في تحكيم الشريعة والتحاكم إليها كل النجاح وكل الهدى والصواب وفي تحكيمها والعمل بها السعادة العاجلة والآجلة. وفي ذلك أيضا حل المشاكل والنصر على الأعداء واسترداد كل ما غبر من مجدنا السليب وعزنا الغابر الذي فرطنا فيه بسبب ما وقع منا من تقصير ومعاص. فلا سبيل إلى استرداد الأمجاد السابقة والعز الغابر والانتصار على الأعداء إلا بالله سبحانه. ثم الرجوع إلى الشريعة والاستقامة عليها أعني الشريعة الإسلامية والتحاكم إليها والحكم بها في كل شيء والثبات على ذلك حتى الموت.
نسأل الله للجميع التوفيق والهداية. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(5/199)
واجب العلماء تجاه الأزمات الكثيرة والنكبات التي حلت بالعالم الإسلامي
س1: ما واجب علماء المسلمين تجاه الأزمات والنكبات التي حلت بالعالم الإسلامي.(5/199)
ج1: مما لا شك فيه أن المعاصي والابتعاد عن عقيدة الإسلام الصحيحة قولا وعملا من أهم الأسباب التي حدث بسببها الأزمات والنكبات التي حلت بالمسلمين يقول الله جلت قدرته: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (1) ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (2) فالله جلت قدرته حليم على عباده غفور رحيم يرسل لهم الآيات والنذر لعلهم يرجعون إليه ليتوب عليهم، وإذا تقرب إليه عبده ذراعا تقرب سبحانه إلى عبده باعا لأنه تعالى يحب من عبده التوبة ويفرح بها وهو جل وعلا غني عن عباده، لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين، ولكنه بعباده رءوف رحيم، وهو الموفق لهم لفعل الطاعات وترك المعاصي والأزمات والنكبات ما هي إلا نذر لعباده ليرجعوا إليه، وبلوى يختبرهم بها، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (3) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (4) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (5)
__________
(1) سورة النساء الآية 79
(2) سورة الشورى الآية 30
(3) سورة البقرة الآية 155
(4) سورة البقرة الآية 156
(5) سورة البقرة الآية 157(5/200)
وقال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1) وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (2) وقال سبحانه: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على قادة المسلمين من العلماء والأمراء وغيرهم الاهتمام بكل مصيبة تحل أو نكبة تقع، وتذكير الناس وبيان ما وقعوا فيه وأن يكون ولاة الأمر من العلماء والحكام هم القدوة الصالحة في العمل الصالح والبحث عن مسببات غضب الله ونقمته، وعلاجها بالتوبة والاستغفار وإصلاح الأوضاع، والأمة تبع لهم؛ لأن هداية العالم وحكمة الوالي وصلاحهما من أهم المؤثرات في الرعية «فكلكم راع وكل مسئول عن رعيته (4) » .
وإذا استمرأ المسلمون المعاصي ولم ينكرها من بيده الأمر والحل والعقد، يوشك أن يعم الله الأمة بغضب منه، وإذا وقع غضب الله وحلت نقمته فإن ذلك يشمل المحسن والمسيء، عياذا بالله من ذلك، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (5) الآية.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه (6) » رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي بكر الصديق، وقال الله سبحانه:
__________
(1) سورة الروم الآية 41
(2) سورة الأنبياء الآية 35
(3) سورة الأعراف الآية 168
(4) صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2409) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .
(5) سورة الأنفال الآية 25
(6) سنن الترمذي الفتن (2168) ، سنن ابن ماجه الفتن (4005) .(5/201)
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) وعلى العلماء بالذات مسئولية كبيرة أمام الله في تبصير الناس وإرشادهم وبيان الصواب من الخطأ، والنافع من الضار.
نسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا لطاعة ربهم والتمسك بهدي نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وأن يوفق قادتهم ويبصر علماءهم بطريق الرشاد حتى يسلكوه ويوجهوا الأمة إليه وأن يهدي ضال المسلمين ويصلح أحوالهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
__________
(1) سورة الرعد الآية 11(5/202)
س 2: ما واجب علماء المسلمين حيال كثرة الجمعيات والجماعات في كثير من الدول الإسلامية وغيرها، واختلافها فيما بينها حتى إن كل جماعة تضلل الأخرى. ألا ترون من المناسب التدخل في مثل هذه المسألة بإيضاح وجه الحق في هذه الخلافات، خشية تفاقمها وعواقبها الوخيمة على المسلمين هناك؟ .
جـ 2: إن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بين لنا دربا واحدا يجب على المسلمين أن يسلكوه وهو صراط الله المستقيم ومنهج دينه القويم، يقول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1)
كما نهى رب العزة والجلال أمة محمد صلى الله عليه وسلم عن التفرق واختلاف الكلمة؛ لأن ذلك من أعظم أسباب الفشل وتسلط العدو كما في قوله جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (2) وقوله تعالى:
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) سورة آل عمران الآية 103(5/202)
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (1)
فهذه دعوة إلهية إلى اتحاد الكلمة وتآلف القلوب. والجمعيات إذا كثرت في أي بلد إسلامي من أجل الخير والمساعدات والتعاون على البر والتقوى بين المسلمين دون أن تختلف أهواء أصحابها فهي خير وبركة وفوائدها عظيمة.
أما إن كانت كل واحدة تضلل الأخرى وتنقد أعمالها فإن الضرر بها حينئذ عظيم والعواقب وخيمة. فالواجب على علماء المسلمين توضيح الحقيقة ومناقشة كل جماعة أو جمعية ونصح الجميع بأن يسيروا في الخط الذي رسمه الله لعباده ودعا إليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن تجاوز هذا أو استمر في عناده لمصالح شخصية أو لمقاصد لا يعلمها إلا الله- فإن الواجب التشهير به والتحذير منه ممن عرف الحقيقة، حتى يتجنب الناس طريقهم وحتى لا يدخل معهم من لا يعرف حقيقة أمرهم فيضلوه ويصرفوه عن الطريق المستقيم الذي أمرنا الله باتباعه في قوله جل وعلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2)
ومما لا شك فيه أن كثرة الفرق والجماعات في المجتمع الإسلامي مما يحرص عليه الشيطان أولا، وأعداء الإسلام من الإنس ثانيا؛ لأن اتفاق كلمة المسلمين ووحدتهم وإدراكهم الخطر الذي يهددهم ويستهدف عقيدتهم يجعلهم ينشطون لمكافحة ذلك والعمل في صف واحد من أجل مصلحة المسلمين ودرء الخطر عن دينهم وبلادهم وإخوانهم وهذا مسلك لا يرضاه الأعداء من الإنس والجن، فلذا هم يحرصون على تفريق كلمة المسلمين وتشتيت شملهم وبذر
__________
(1) سورة الشورى الآية 13
(2) سورة الأنعام الآية 153(5/203)
أسباب العداوة بينهم، نسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين على الحق وأن يزيل من مجتمعهم كل فتنة وضلالة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(5/204)
س 3: يحرص أعداء الله على التغلغل في ديار الإسلام بشتى الطرق فما المجهود الذي ترون بذله للوقوف أمام هذا التيار الذي يهدد المجتمعات الإسلامية.
جـ 3: هذا ليس بغريب من الدعاة إلى النصرانية أو اليهودية أو غيرهما من ملل الكفر ومذاهب الهدم؛ لأن الله سبحانه وبحمده قد أخبرنا عن ذلك بقوله في محكم التنزيل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (1) وقوله سبحانه: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (2) الآية.
ولهذا فإنهم يبذلون كل ما يستطيعون للنفوذ في ديار الإسلام ولهم طرقهم المختلفة في هذا منها: التشكيك وزعزعة الأفكار وهم دائبون على ذلك بدون كلل أو ملل تحركهم الكنيسة والحقد والبغضاء بالتوجيه والدفع والبذل.
والجهود التي يجب أن تبذل هي التوعية والتوجيه لأبناء المسلمين من القادة والعلماء ومقابلة جهود أعداء الإسلام بجهود معاكسة. فأمة الإسلام أمة قد حملت أمانة هذا الدين وتبليغه. فإذا حرصنا في المجتمعات الإسلامية على تسليح أبناء وبنات المسلمين بالعلم والمعرفة والتفقه في الدين والتعويد على تطبيق ذلك
__________
(1) سورة البقرة الآية 120
(2) سورة البقرة الآية 217(5/204)
من الصغر فإننا لن نخشى بإذن الله عليهم شيئا ما داموا متمسكين بدين الله معظمين له متبعين شرائعه محاربين لما يخالفه. بل العكس سيخافهم الأعداء لأن الله سبحانه وبحمده يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) ويقول عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة، فأهم عامل للوقوف أمام هذا التيار هو تهيئة جيل عارف بحقيقة الإسلام ويتم هذا بالتوجيه والرعاية في البيت والأسرة والمناهج التعليمية ووسائل الإعلام وتنمية المجتمع.
يضاف إلى هذا دور الرعاية والتوجيه من القيادات الإسلامية والدأب على العمل النافع وتذكير الناس دائما بما ينفعهم وينمي العقيدة في نفوسهم: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (3) ولا ريب أن الغفلة من أسباب نفاذ أعداء الإسلام إلى ديار الإسلام بالثقافة والعلوم التي تباعد المسلمين عن دينهم شيئا فشيئا، وبذلك يكثر الشر بينهم ويتأثرون بأفكار أعدائهم، والله سبحانه وتعالى يأمر الفئة المؤمنة بالصبر والمصابرة والمجاهدة في سبيله بكل وسيلة، في قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) وقوله سبحانه {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (5) وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، أن
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة آل عمران الآية 120
(3) سورة الرعد الآية 28
(4) سورة آل عمران الآية 200
(5) سورة العنكبوت الآية 69(5/205)
يصلح أحوال المسلمين ويفقههم في الدين وأن يجمع كلمة قادتهم على الحق ويصلح لهم البطانة، إنه جواد كريم وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.(5/206)
بيان جملة من المسائل المهمة التي يخفى حكمها على الكثير من الناس (1) .
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
فهذه كلمة موجزة في بيان بعض المسائل التي قد تخفى على كثير من الناس.
فأقول: من المعلوم أن الله جل وعلا خلق الثقلين الجن والإنس لعبادته، وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيانها والدعوة إليها، وليس ذلك خاصا بالذكور دون الإناث ولا بالإناث دون الذكور، بل الدعوة للجميع. أرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان حقه على عباده من الذكور والإناث من الجن والإنس. وهكذا خلقهم لهذا الأمر، خلقهم جميعا ذكورهم وإناثهم جنهم وإنسهم، عربهم وعجمهم أغنياءهم وفقراءهم حكامهم ومحكوميهم خلقوا جميعا ليعبدوا الله وليعملوا بما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب، هذا أمر مشترك بين الذكور والإناث والحكام والمحكومين والرؤساء والمرءوسين والجن والإنس والعرب والعجم والأغنياء والفقراء والبادية والحاضرة، فجميع الشعوب وجميع جنس الجن والإنس، كلهم مأمورون بطاعة الله ورسوله، وكلهم ما خلقوا إلا ليعبدوا الله ويعظموه ويطيعوه.
وهذه مسألة عظية هي أعظم المسائل وأهمها وهي أن نعلم يقينا أن الله خلقنا جميعا لنعبده وحده، ونطيع أمره ونهيه، ونقف عند حدوده، ونحذر
__________
(1) محاضرة ألقاها الشيخ في جمعية فتاة ثقيف بالطائف في 18\11\1404 هـ.(5/207)
ما نهى عنه عز وجل ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، كلنا خلقنا لهذا الأمر، يقول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (2) ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} (3) وهكذا يعم الذكور والإناث ويعم الحاكم والمحكوم ويعم الجن والإنس، ويعم العرب والعجم ويعم الأغنياء والفقراء، كلهم مأمورون بهذا الأمر، يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (4) ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (5)
ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (6) ويقول عز من قائل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (7) ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (8)
في أمثال هذه الآيات التي عم فيها سبحانه جميع الناس بالأوامر، ليعلموا
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة لقمان الآية 33
(5) سورة البقرة الآية 21
(6) سورة النساء الآية 1
(7) سورة الحج الآية 1
(8) سورة الحجرات الآية 13(5/208)
جميعا أنهم مأمورون بأن يعبدوا الله الذي خلقهم ويتقوه، وذلك بفعل الأوامر وترك النواهي، وهذه العبادة هي التقوى وهي الإيمان والهدى والبر، وهي الإسلام الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب، ومعناها أن نعبده وحده ونخصه بطاعاتنا وعباداتنا على الوجه الذي شرعه لنا سبحانه وتعالى لا نعبد معه سواه، ولا جنا ولا إنسا ولا أصناما ولا كواكب ولا غير ذلك، من المخلوقات بل نعبده وحده؟ كما قال سبحانه في سورة الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) وقال جل وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (3) الآية ويقول سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (4) ويقول تبارك وتعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (5) في آيات كثيرة كلها تدل على وجوب إخلاص العبادة لله وحده دون كل ما سواه.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا (6) » ولما سئل عن الإسلام قال عليه الصلاة والسلام: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا (7) » ولما سئل عن الإيمان قال «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره (8) » . ولما سئل عن الإحسان قال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة البقرة الآية 21
(4) سورة الإسراء الآية 23
(5) سورة غافر الآية 14
(6) صحيح البخاري الجهاد والسير (2856) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد بن حنبل (5/238) .
(7) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/52) .
(8) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/27) .(5/209)
تكن تراه فإنه يراك (1) » .
وهذه الأمور مطلوبة من الجميع من الرجال والنساء على السواء عليهم جميعا أن يشهدوا أن لا إله إلا الله صدقا من قلوبهم، ويعتقدوا أنه لا معبود حق إلا الله وحده لا شريك له، سبحانه وتعالى، فيدعوه وحده، ويصلوا له وحده، ويصوموا له وحده، ويخصوه بالعبادات كلها سبحانه وتعالى.
وهكذا " شهادة أن محمدا رسول الله " على الرجل والمرأة أن يشهدا جميعا أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب هو رسول الله حقا، أرسله الله إلى الناس عامة من الجن والإنس والعرب والعجم والذكور والإناث والأغنياء والفقراء والرؤساء والمرؤسين، عليهم جميعا أن يطيعوا هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ويصدقوه، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي العربي المكي ثم المدني عليه الصلاة والسلام، بعثه الله من أشرف قبيلة ومن أشرف بلاد، وهي مكة المكرمة وبأشرف دين، وهو الإسلام فعلى جميع الثقلين أن يؤمنوا به وينقادوا له عليه الصلاة والسلام، ويؤمنوا بأنه خاتم الأنبياء لا نبي بعده، قال تعالى في كتابه العظيم: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2)
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (3) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (4) عليه الصلاة والسلام، فهو رحمة لجميع العالمين ورسول لجميع العالمين من الجن والإنس، فعليهم أن يؤمنوا به ويصدقوه وينقادوا لأوامره ونواهيه، ويعملوا بشرعه عليه الصلاة والسلام ويشهدوا أنه خاتم النبيين كما قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (5)
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4777) ، صحيح مسلم الإيمان (10) ، سنن ابن ماجه المقدمة (64) ، مسند أحمد بن حنبل (2/426) .
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) سورة سبأ الآية 28
(4) سورة الأنبياء الآية 107
(5) سورة الأحزاب الآية 40(5/210)
وهكذا على الجميع أن يقيموا الصلوات الخمس الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر في أوقاتها، رجالا ونساءا عربا وعجما جنا وإنسا، وعليهم أن يؤدوا الزكاة المفروضة في الأموال وأن يصوموا رمضان في كل سنة، وأن يحجوا البيت الحرام مع الاستطاعة مرة في العمر، وأن يؤمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومعناه: الإيمان بالبعث بعد الموت والجزاء والحساب والجنة والنار، وعليهم أن يؤمنوا بالقدر خيره وشره، ومعناه: أن الله سبحانه وتعالى قدر الأشياء وعلمها وأحصاها وكتبها فآجالنا وأرزاقنا وأعمالنا كلها مكتوبة قد علمها الله وكتبها وقدرها سبحانه وتعالى، فعلينا أن نعمل بما شرع الله لنا وأن نترك ما نهانا عنه، وكل ميسر لما خلق له.
وكمال الدين أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذا هو الإحسان، وهو أن تعبد ربك بصلاتك وغير ذلك كأنك تشاهده، حتى تنصح في العمل وحتى تكمل العمل، فإن لم تكن تراه ولم تستحضر ذلك فاعلم أنه يراك، أي فاعبده على أنه يراك وأنه يراقبك ويشاهدك ويعلم حالك سبحانه وتعالى. حتى تؤدي حقه عن إخلاص وعن صدق وعن عناية به على الوجه الأكمل. وهذه جمله يجب أن نعلمها جميعا وأن هذا الدين للجميع للرجال والنساء والجن والإنس والعرب والعجم، عليهم جميعا أن يلتزموا به وأن يعبدوا الله وحده، وأن يستقيموا على هذه الأركان: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا مع الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خير وشره، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما(5/211)
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت (1) » ومما يوضح هذا الأمر ويبين أنه حق على الجميع قول الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2)
فجعلهم جميعا شركاء المؤمنين والمؤمنات في الولاية فيما بينهم والتحاب في الله وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وفي طاعة الله ورسوله في كل شيء، وقال عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) فعم سبحانه الرجال والنساء جميعا ليبين سبحانه أن الأمر عام لهم جميعا وقال سبحانه: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (4) {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (5) فبين سبحانه أن من يعمل سوءا يجز به من الذكور والإناث، ومن يعمل من الصالحات من الذكور والإناث عن إيمان وصدق وإخلاص فإن مصيره إلى الجنة والكرامة والسعادة، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (6)
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/26) .
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة النحل الآية 97
(4) سورة النساء الآية 123
(5) سورة النساء الآية 124
(6) سورة الأحزاب الآية 35(5/212)
فسوى الله سبحانه وتعالى بينهم جميعا رجالا ونساء.
فينبغي أن يعلم هذا عن يقين، وأن يجتهد كل مؤمن وكل مؤمنة في أداء الواجب؛ لأنه مسئول كما قال سبحانه وتعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (1) {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) فكل منا مسئول عن حق الله عليه وعن الحقوق الأخرى التي عليه للآباء والأمهات والأزواج والأولاد والجيران وغير ذلك، فكل منا مسئول عما عليه من الحق لله وللعباد، فعلينا أن نؤدي الواجب ونتفقه في الدين، وأن نتعلم حتى نستفيد ونعلم حكم الله في كل شيء.
وعلينا جميعا أن نتدبر القرآن الكريم لأن القرآن أنزل للجميع، للرجال والنساء والجن والإنس، فعلينا جميعا أن نتدبر القرآن الكريم وأن نعمل به ونتخلق بالأخلاق التي يدعو إليها. ونحذر الأخلاق التي ينهي عنها فهو كتاب الله فيه الهدى والنور أنزله الله علينا لنعمل به ونستقيم على ما فيه، فهو حبل الله المتين وصراطه المستقيم أنزله علينا جل وعلا على يد رسوله صلى الله عليه وسلم للعمل لا لمجرد التلاوة، فالتلاوة وحدها لا تكفي بل لا بد من العمل، قال جل وعلا: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) فجعل الرحمة في اتباع هذا القرآن العظيم، وقال سبحانه وتعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (4) وقال عز وجل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (5) وقال سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (6)
__________
(1) سورة الحجر الآية 92
(2) سورة الحجر الآية 93
(3) سورة الأنعام الآية 155
(4) سورة الأعراف الآية 3
(5) سورة ص الآية 29
(6) سورة الإسراء الآية 9(5/213)