وهناك صيغة ثالثة أطول من سابقتها هي [ربنا لك الحمد ملءَ السموات وملءَ الأرض وملءَ ما شئتَ من شئ بعدُ، أهلَ الثَّناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبدُ وكلُّنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيتَ، ولا مُعطيَ لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ] وقد وردت هذه الصيغة عند الدارمي ومسلم وأحمد وابن حِبَّان وابن خُزَيمة، ولكن باختلافات يسيرة في الألفاظ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمدُ ملءَ السموات وملءَ الأرض وملءَ ما شئتَ مِن شئ بعدُ، أهلَ الثَّناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبد وكلُّنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيتَ ولا معطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ» رواه الدارمي. وفي رواية لابن حِبَّان بزيادة الواو «ربنا ولك الحمد» وفي رواية لأحمد بزيادة اللهم «اللهم ربنا لك الحمد» وفي رواية لابن خُزَيمة بزيادة اللهم والواو «اللهم ربنا ولك الحمد» وفي رواية لمسلم بزيادة وملءَ ما بينهما «مِلْءَ السموات ومِلْءَ الأرض ومِلْءَ ما بينهما» والزيادة من الرواة الثقات مقبولة، فتُزاد هذه الزيادات إلى النص الوارد عند الدارمي فتصبح هكذا [اللهم ربنا ولك الحمدُ ملءَ السموات وملءَ الأرض وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شئت من شئ بعدُ، أهلَ الثناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبد وكلُّنا لك عبدٌ، اللهم لا مانع لما أعطيتَ ولا مُعطي لما منعتَ ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ] .(2/249)
وهذه الصيغة الثالثة تشمل الصيغة الثانية الواردة في حديث مسلم المارِّ. فتبقى عندنا صيغتان: الصيغة الطويلة هذه، والصيغة الأولى [ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه] فمن أحب الاقتصار على الصيغة الأولى فله ذلك، ومن أحب الأخذ بالصيغة الطويلة فله ذلك، ومن أحب أن يجمع بينهما فله ذلك. فيقول إذا رفع من الركوع [سمع الله لمن حمده] ويقول إذا اعتدل قائماً [اللهم ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملءَ السموات وملءَ الأرض وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شئت من شئ بعد، أهلَ الثناء والمجدِ أحقُّ ما قال العبدُ وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد] فينال الخير كله. ومعنى ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ: أن صاحب الحظ والغنى لا ينفعه حظه وغناه من أمرك يا رب وقضائك فيه.
السجودُ وهيئته والذّكر فيه
ذكرنا في الفصل الأول أن الصلاة أحب الأعمال إلى الله سبحانه، وذكرنا أن الصلاة لغةً معناها الدعاء، فالصلاة إذن قد استمدَّت فضلها من الدعاء، أو أن الدعاء هو أبرز ما فيها، ولا غرو في ذلك فإن الدعاء هو العبادة، فإذا أدركنا أن السجود هو موطن الدعاء بشكل رئيسي أدركنا فضل السجود في الصلاة، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء» رواه مسلم والنَّسائي وأبو داود وابن حِبَّان. وروى ابن عباس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - « ... ألا وإني نُهيتُ أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظِّموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمنٌ أن يُستجاب لكم» رواه مسلم. ورواه أحمد وابن خُزيمة وأبو داود وابن حِبَّان باختلاف في الألفاظ. فالمسلم في سجوده قريب من ربه، مستجابٌ دعاؤه.(2/250)
وقد عبَّر الله عزَّ وجلَّ عن طاعة المخلوقات له وعبادتها إياه بالسجود فقال {وللهِ يَسْجُدُ مَا في السَّموَاتِ ومَا في الأَرْضِ مِنْ داَبَّةٍ والملائِكَةُ وهُمْ لا يَسْتَكْبِرُوْنَ} الآية 49 من سورة النحل. وقال سبحانه {أَلمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَنْ في السَّمَواتِ ومَنْ في الأَرْضِ والشَّمْسُ والقَمَرُ والنُّجُوْمُ والجِبَالُ والشَّجَرُ والدَّوَابُّ وكَثِيْرٌ مِنَ النَّاس وكَثِيْرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذَابُ ومَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} الآية 18 من سورة الحج.
ومن فضل السجود أن الله سبحانه قد كرَّم مواضع السجود في جسم المسلم بأن حماها من عذاب النار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال « ... إذا أراد الله رحمةَ مَن أراد من أهل النار أمرَ الله الملائكة أن يُخرِجوا مَن كان يعبد الله، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود، وحرَّم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار، فكل ابن آدم تأكله النارُ إلا أثر السجود ... » رواه البخاري. وهو حديث طويل، ووقع عند النَّسائي من طريق عطاء بن يزيد « ... إن النار تأكل كل شئ من ابن آدم إلا موضع السجود» .
ومن فضل السجود أن الله عزَّ وجلَّ قد اختار أعضاء السجود من أجساد المسلمين لتكون السيما التي تميزهم عمن سواهم من الخلائق يوم القيامة، وجعل البياض والنور يشع من جباههم، وإلى هذا أشار الله سبحانه بقوله {مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ والذِيْنَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعَاً سُجَّداً يَبْتَغُوْنَ فَضْلاً مِنَ اللهِ ورِضْوَاناً سِيْمَاهُمْ في وُجُوْهِهِمْ مِنَ أَثَرِ السُّجُوْدِ ... } الآية 29 من سورة الفتح.(2/251)
ومن فضل السجود ما جاء في هذا الحديث الذي رواه مسلم من طريق معدان بن أبي طلحة اليَعْمُري قال «لقيت ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أخبرني بعمل أعمله يُدخلني الله به الجنة، أو قال: قلت بأحب الأعمال إلى الله، فسكت، ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثة فقال: سألتُ عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحطَّ عنك بها خطيئة، قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء فسألته فقال لي مثل ما قال ثوبان» ودلالته واضحة.
أما هيئة السجود فتكون بأن يجعل المسلم قدميه وركبتيه وكفَّيه وجبهته على الأرض بالصفة المعلومة، فيكون قد سجد على سبعة أعضاء لا يجوز السجود إلا عليها مجتمعة، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال «أَمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسجد على سبعة أعضاء، ولا يكفُّ شعراً ولا ثوباً: الجبهة واليدين والركبتين والرِّجلين» رواه البخاري ومسلم. ووقع في روايةٍ أخرى لمسلم من طريق العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «إذا سجد العبد سجد معه سبعة أطراف: وجهُه وكفَّاه وركبتاه وقدماه» . ووقع عند الترمذي وأبي داود وابن حِبَّان وابن خُزَيمة وابن ماجة من طريق العباس رضي الله عنه بلفظ «إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب ... » . ووقع عند أحمد من طريق العباس رضي الله عنه بلفظ «إذا سجد الرجل سجد معه سبعة آراب ... » . قوله الآراب: أي الأعضاء. فهذه الأعضاء السبعة هي أعضاء السجود، لا بد منها في عملية السجود.(2/252)
ويُندب وضعُ القدمين في حالة انتصابٍ مستقبلاً بأطراف الأصابع القِبلة، ويباعد قليلاً بين الركبتين، ويبسط كفَّيه على الأرض ضامَّاً أصابعه، ويسجد على الأنف إضافةً إلى الجبهة، ويضعهما بين كفَّيه إلى الأمام قليلاً، ويُفرِّج بين فخذيه غير حامل بطنه على شئ منهما، ويُنحِّي يديه عن جنبيه، ويرفع مرفقيه وساعديه عن الأرض، ويرفع مقعدته، ويقال له في هذه الحالة مُخَوِّياً - يعني أنَّ ما بين يديه ورجليه يكون خاوياً - ويدع ثيابه تسقط على موضع سجوده، كما يدع شعره إنْ كان مسترسلاً يسقط على موضع سجوده لا يكفُّهما في السجود. وقد مرَّ حديث البخاري ومسلم من طريق ابن عباس رضي الله عنه وفيه « ... ولا يكفُّ شعراً ولا ثوباً ... » . فهذه هي مندوبات السجود.
ويحاذر الرجل أن يبسط ساعديه على الأرض لأن هذا منهيٌّ عنه شرعاً، ولا يحمل بطنه على فخذيه تأسِّياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يتمدَّد في سجوده، ولا يسجد على جبهته فحسب دون أنفه، ولا يخالف ما سبق من المندوبات، فإن هو لم يفعل فلا إثم عليه، وسجوده مجْزئ ومقبول. وفي كل ما سلف وردت الأحاديث الصحيحة والحسنة:
أ- عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا سجدتَ فضَعْ كفيك، وارفع مرفقيك» رواه مسلم وأحمد. ورواه ابن حِبَّان بلفظ «إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مرفقيك وانتصب» .
ب- عن عبد الله بن مالك بن بُحَيْنَةَ رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلَّى فرَّج بين يديه حتى يبدوَ بياضُ إبطيه» رواه مسلم والبخاري. ورواه ابن حِبَّان بلفظ «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد فرَّج بين يديه حتى يبدوَ بياضُ إبطيه» .(2/253)
ج - عن علقمة بن وائل عن أبيه رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ركع فرَّج أصابعه وإذا سجد ضمَّ أصابعه» رواه ابن حِبَّان والطبراني. ورواه ابن خُزَيمة والحاكم بلفظ «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد ضمَّ أصابعه» ولم يذكرا الركوع.
د - عن أبي حميد رضي الله عنه - ووصف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - قال «وإذا سجد فرَّج بين فخذيه غير حاملٍ بطنَه على شئ من فخذيه» رواه أبو داود.
هـ - عن أبي حُمَيد رضي الله عنه قال «أنا كنت أحفظَكُم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رأيته إذا كبَّر جعل يديه حِذاء منكبيه، وإذا ركع أَمكَنَ يديه من ركبتيه ثم هَصَرَ ظهرَه، فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه، فإذا سجد وضع يديه غير مفْترِشٍ ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القِبلة، فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدَّم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته» رواه البخاري.
و عن شعبة قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال «إن مولاك إذا سجد وضع جبهته وذراعيه وصدرَه بالأرض، فقال له ابن عباس: ما يحملك على ما تصنع؟ قال: التواضع، قال: هكذا رِبضةُ الكلب، رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد رُؤي بياضُ إبطيه» رواه أحمد.
ز - عن وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد على أنفه مع جبهته» رواه أحمد.
ح - عن وائل بن حُجْر رضي الله عنه «أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد بين كفَّيه - وفي رواية - ويداه قريبتان من أُذنيه» رواه أحمد ومسلم.
ط - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رُؤي على جبهته وعلى أرنبته أثرُ طينٍ من صلاةٍ صلاها بالناس» رواه أبو داود.(2/254)
ي - عن البراء رضي الله عنه أنه وصف السجود قال «فبسط كفيه ورفع عَجِيزَتَه وخوَّى وقال: هكذا سجد النبي - صلى الله عليه وسلم -» رواه أحمد. قوله العجيزة: أي المقعدة.
ك - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى جَخَّى» رواه ابن خُزَيمة. قوله جخَّى: أي لم يتمدد في ركوعه ولا في سجوده.
ل - عن ابن عباس رضي الله عنه قال «تدبَّرْتُ صلاةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيته مُخوِّياً، فرأيت بياض إبطيه» رواه أحمد. قوله مُخَوِّياً: أي مُجَافِياً بطنه عن الأرض، ومجافياً عضُديه عن جنبيه.
م - عن عمرو بن الحارث رضي الله عنه «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد يُجنِّحُ في سجوده حتى يُرى وضحُ إبطيه» رواه مسلم وأحمد.
ن - عن ميمونة رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد جافى يديه، فلو أن بَهْمةً أرادت أن تمرَّ بين يديه لمرَّت» رواه أبو داود. ورواه ابن خُزَيمة باختلاف يسير في الألفاظ. وفي روايةٍ لمسلم من طريق ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد خَوَّى بيديه يعني جَنَّح حتى يُرى وَضَحُ إبطيه مِن ورائه، وإذا قعد اطمأنَّ على فخذه اليسرى» . قوله وضحُ إبطيه: أي بياضُ إبطيه. وقوله خوَّى وجنَّح: أي جافى وباعد.
س - عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تبسط ذراعيك إذا صليت كبسط السَّبُع، وادَّعِمْ على راحتيك وجافِ عن ضَبْعَيك، فانك إذا فعلتَ ذلك سجد كلُّ عضو منك» رواه ابن حِبَّان. قوله الضَّبعان: أي ما تحت الإبطين.
ع - روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا سجد أحدكم فلْيعتدل، ولا يفترش ذراعيه افتراش السبُع» رواه ابن خُزَيمة. ورواه الترمذي وابن ماجة بلفظ «افتراش الكلب» .(2/255)
ف - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدُكم ذراعيه انبساط الكلب» رواه البخاري ومسلم. ورواه أبو داود وابن حِبَّان بلفظ «اعتدلوا في السجود، ولا يفترش أحدكم ذراعيه افتراشَ الكلب» .
هذه هي هيئة السجود الواجبة ومندوباتها، ومنها أن يجافي المسلم يديه عن جنبيه، ويرفع مرفقيه وساعديه عن الأرض، إلا أنه إن سجد سجوداً طويلاً فثقُل عليه الوضع وأصابه الإعياء والمشقة رُخِّص له في وضع مرفقيه على ركبتيه لما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال «شكا أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه مشقَّةَ السجود عليهم إذا تفرَّجوا، قال: استعينوا بالرُّكَب» رواه أحمد. ورواه ابن حِبَّان والترمذي وأبو داود باختلاف في الألفاظ. قوله إذا تَفَرَّجوا: أي إذا تعبوا. والاستعانة بالركب تكون بأن يضع المصلِّي مرفقيه على ركبتيه إذا طال السجود وتعب منه.
والطمأنينة في السجود فرض لا بد منه وأقلها أن تسكنَ حركةُ الساجد وهو في حالة السجود لما روى أبو هريرة رضي الله عنه - وذكر حديث المسئ صلاته وجاء فيه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال للمسئ صلاته « ... ثم اسجد حتى تطمئنَّ ساجداً ... » رواه البخاري وأحمد. ولما روى رفاعة في الحديث الطويل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل الذي صلى وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعادة الصلاة «ثم إذا أنت سجدت فأَثْبِتْ وجهك ويديك حتى يطمئن كلُّ عظم منك إلى موضعه» رواه ابن خُزَيمة.(2/256)
أما القدر المتوسط للاطمئنان في السجود فهو ما يكفي لقول الذِّكر المأثور، وسنذكره بعد قليل، وهو يقارب قدر الاطمئنان في الركوع، أو قدر الاطمئنان في القيام عقب الركوع، أو قدر الاطمئنان في الجلسة بين السجدتين، لما رُوي أن البراء رضي الله عنه قال «كان ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم - وسجوده وإذا رفع رأسه من الركوع وبين السجدتين قريباً من السواء» رواه البخاري. ورواه مسلم وأحمد قريباً من هذا. وقد مرَّ في بحث [الرفع من الركوع والذِّكر فيه] ولما روى ثابت عن أنس رضي الله عنه أنه قال «إني لا آلو أن أصلِّيَ بكم كما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا، قال ثابت: كان أنس يصنع شيئاً لم أركم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل قد نسي، وبين السجدتين حتى يقول القائل قد نسي» رواه البخاري. ورواه مسلم قريباً منه.
والسجود فرض وركن لا تصح الصلاة بدونه، فمن صلى ولم يسجد السجود المعروف فلا صلاة له، فقد خاطب الله سبحانه الناس بالصلاة، فقال عزَّ وجلَّ {يا أَيُّها الذِيْنَ آمَنُوا ارْكَعُوا واسْجُدُوا واعْبُدُوا ربَّكُمْ وافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ} الآية 77 من سورة الحج. وقد مرَّت في بحث [الركوع وهيئته والذِّكر فيه] وقلنا هناك (ولا يختار سبحانه الركوع والسجود من سائر أفعال الصلاة ليدل عليها بهما إلا لكونهما ركنين من أركانها لا تكون صلاةٌ بدونهما) وعن زيد بن وهب قال «رأى حذيفةُ رجلاً لا يُتم الركوع والسجود قال: ما صلَّيتَ، ولو مُتَّ مُتَّ على غير الفطرة التي فطر الله محمداً - صلى الله عليه وسلم -» رواه البخاري. ورواه أحمد باختلاف في الألفاظ. وقد مرَّ في بحث [الركوع وهيئته والذِّكر فيه] .(2/257)
ويندب وضع الركبتين على الأرض قبل اليدين عند الخرور للسجود، ورفع اليدين قبل الركبتين عند النهوض، لما رُوي أن وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد يضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» رواه الترمذي. ورواه ابن حِبَّان وابن ماجة قريباً منه. وروى أبو داود عن وائل رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - - فذكر حديث الصلاة - قال: فلما سجد وقعتا رُكبتاه إلى الأرض قبل أن تقع كفَّاه» . هكذا وردت الرواية بلفظـ «وقعتا رُكبتاه» بفاعلين لفعلٍ واحد وهي لغة غير مشهورة. وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إذا سجد أحدكم فلْيبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرك كبروك الفحل» رواه ابن أبي شيبة والطحاوي. فهذا الحديث فيه الأمر بالبدء بالركبتين قبل اليدين، وفيه الأمرُ بمخالفة الفحل في بروكه.(2/258)
وأما ما رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك الجمل، ولْيضع يديه ثم ركبتيه» . بتقديم وضع اليدين على الركبتين، فالجواب عليه أن هذا الحديث بهذا اللفظ يخالف أولُه آخرَه، فأولُه يأمرُ بمُخَالَفةِ الجمل في بُروكه، في حين أن آخره يأمر بوضع اليدين قبل الركبتين وهذا تناقض، ذلك أن الجمل عندما يبرك يبدأ بيديه أولاً، ثم يبرك على رجليه بعد ذلك، وهذا معلوم وظاهر، فكيف نُؤمر في هذا الحديث بالبدء باليدين ثم نؤمر بمخالفة الجمل؟ ثم إن حديث أبي هريرة عند ابن أبي شيبة والطحاوي يأمر أيضاً بمخالَفةِ الفحل في بروكه، ولكنه يأمر بالبدء بالركبتين، فهذان الحديثان اتفقا على الأمر بمخالَفةِ الجمل في بروكه، واختلفا على الترتيب لليدين والركبتين. والواقع المُدرَك المحسوس لبروك الجمل يدل على صحة ما جاء به حديث ابن أبي شيبة والطحاوي، وعلى خطأ ما جاء في حديث أحمد وأبي داود والنَّسائي، هذه واحدة.(2/259)
وأما الثانية فهي أن النَّسائي وأبا داود رويا من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يعمدُ أحدُكم في صلاته فيبرك كما يبرك الجمل» . فلم يأت على ذكر اليدين والركبتين، فأتساءل: هل هذا الحديث هو غير الحديث السابق أم هما حديث واحد؟ ولماذا لم تُذكر اليدان والركبتان في هذه الرواية؟ إن الثابت من هذه الأحاديث الثلاثة هو الأمر بمخالَفةِ الجمل في بروكه، وأما ترتيب اليدين والركبتين فاختلفت الأحاديث بشأنه، فيُعمل بالثابت، وهو الأمر بمخالَفةِ الجمل في بروكه، وحيث أن الجمل يبرك بادئاً بيديه فإن المسلم مأمور بالبدء بالركبتين لتتم المخالَفةُ، وهذا موافق لحديث وائل ابن حجر المار، فيُعمل به ويُترك ما يخالفه. قال ابن قيّم الجوزيّة في كتابه ـ زاد المعاد -: إن حديث أبي هريرة مما انقلب على بعض الرواةِ متْنُهُ، وأصله: ولْيَضَعْ رُكْبَتيْهِ قبل يديْهِ. وهو قول وجيهٌ وصائب.
ونأتي إلى الذكر والدعاء في السجود فنقول إنه قد وردت له عدة صيغ أشهرها وأَوْلاها [سبحان ربي الأعلى] ثلاثاً، فيُسن الأخذُ بها وتقديمها على الصيغ الأخرى، ولا مانع من قول هذه الصيغ الأخرى عقب قول [سبحان ربي الأعلى] ثلاثاً، إذ الجمع بين صيغتين أو أكثر هنا جائز، وقد ذكرنا في بحث [الركوع وهيئته والذِّكر فيه] ثلاثة أحاديث في قول [سبحان ربي الأعلى] في السجود فلا نعيد. وهذه الصيغة ورد الأمر بها ولم يَرِد الأمرُ بقول غيرها، وغيرُها إنما وردت من أفعاله عليه الصلاة والسلام فقط، وأوامره - صلى الله عليه وسلم - مقدَّمةٌ على أفعاله.
ونذكر الآن جملة من الصيغ الواردة:
أ-[سبُّوحٌ قُدُّوسٌ ربُّ الملائكة والروح] .
ب-[سبحان ذي الجَبَروتِ والمَلَكُوتِ والكِبرياءِ والعَظَمة] .
ج-[اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك] .(2/260)
د-[اللهم اغفرلي ذنبي كُلَّهُ دِقَّهُ وجِلَّهُ وأوَّلَهُ وآخِرَهُ وعلانيَّتَهُ وسِرَّه] .
هـ-[اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، واجعلْ لي نوراً، وأعْظِمْ لي نوراً] .
و [اللهم لك سجدتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، سجد وجهي للذي خلقه فصوَّره فأحسن صُوَرَه، فشقَّ سمعَه وبصَره، فتبارك الله أحسن الخالقين] .
وهناك أدعية أخرى وردت كان الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - يدعو بها في سجوده، فمن شاء الوقوف عليها فلْيطلُبْها في كتب الحديث.
أما الأدلة على هذه الصيغ الست، فإن الصيغتين الاُوليين (أ، ب) قد ورد دليلُ كلٍّ منهما في بحث [الركوع وهيئته والذِّكر فيه] فلا نعيدهما خشية الإطالة، فليرجع إليهما هناك. ونذكر الآن أدلة الصيغ الأخرى حسب الترتيب المذكور:
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت «فقدتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة في الفراش، فجعلت أطلبه بيدي، فوقعت يدي على باطن قدميه وهما منتصبتان، فسمعته يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سَخَطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصى ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» رواه ابن خُزَيمة وابن حِبَّان والنَّسائي.
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوده «اللهم اغفر لي ذنبي كلَّه دِقَّه وجِلَّه وأولَه وآخِرَه وعلانيته وسِرَّه» رواه أبو داود وابن حِبَّان وابن خُزَيمة.(2/261)
3- عن ابن عباس رضي الله عنه قال «بتُّ في بيت خالتي ميمونة فبَقَيْتُ كيف يصلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وذكر جملة من أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - ثم خرج إلى الصلاة فصلَّى، فجعل يقول في صلاته أو في سجوده: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شِمالي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، واجعل لي نوراً، أو قال: واجعلني نوراً» رواه مسلم. وفي رواية له من طريق ابن عباس رضي الله عنه جاء «وقال أَعْظِمْ لي نوراً» ولم يذكر: «واجعلني نوراً» ففيها زيادة هي [أَعظِمْ لي نوراً] والزيادة مقبولة. وجاء في رواية أخرى لمسلم من طريق ابن عباس رضي الله عنه «اللهم اجعل في قلبي نوراً وفي لساني نوراً ... » ففيها زيادة [وفي لساني نوراً] فتُقبل.
وأُلفت النظر إلى أن الترتيب في هذا الدعاء ليس بلازم، فروايات مسلم لم تلتزم ترتيباً واحداً، ثم إن النَّسائي جاءت روايته هكذا «ثم قام يصلي وكان يقول في سجوده: اللهم اجعل في قلبي نوراً، واجعل في سمعي نوراً، واجعل في بصري نوراً، واجعل من تحتي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، واجعل أمامي نوراً، واجعل خلفي نوراً، وأَعْظِم لي نوراً، ثم نام حتى نفخ، فأتاه بلال فأيقظه للصلاة» . قوله بَقَيْتُ: أي رمقتُ ونظرتُ.
4- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « ... إذا سجد قال: اللهم لك سجدت وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه فصوَّره فأحسن صُوَره، فشق سمعَه وبصرَه، فتبارك الله أحسنُ الخالقين ... » رواه أحمد. والترتيب في هذا الدعاء أيضاً ليس بلازم، فقد رواه النَّسائي بغير الترتيب في رواية أحمد، وهو هكذا «اللهم لك سجدت ولك أسلمت وبك آمنت، سجد وجهي للذي خلقه وصَوَّره فاحسن صورَتَه، وشق سمعه وبصره، تبارك الله احسن الخالقين» .(2/262)
هذه جملة من التسبيحات والأدعية المأثورة.أما قدر تردادها في السجود الواحد فإن أدنى التمام أن تُقال ثلاث مرات، فإن قيلت مرةً واحدة أو مرتين أجزأت مع نقص الفضل، ولا حدَّ لأكثره خاصة بالنسبة للمنفرد، وأما الإمام فيسبح بمقدار ما لا يُثقل ويشق على المأمومين، فإن سبَّح سبع تسبيحات فحسن، وذلك حتى يتمكن المأمومون من التسبيح ثلاثاً على مهل دون استعجال، لا سيما وأن منهم البطئ في النطق ومنهم المريض، فالرفق مطلوب، ولا يزيد على العشر تسبيحات فيشق على الضعفاء منهم، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا ما قام أحدُكم للناس فليخفِّف الصلاة، فإن فيهم الكبير وفيهم الضعيف، وإذا قام وحده فَلْيُطِل صلاته ما شاء» رواه مسلم. وقد مرَّ حديث أنس بن مالك عند أحمد في بحث [الركوع وهيئته والذِّكر فيه] وفيه « ... فحَزَرْنا في الركوع عشر تسبيحات، وفي السجود عشر تسبيحات» .
ولا يُقرأ القرآن في السجود كما لا يُقرأُ في الركوع، لورود النهي عن ذلك، وقد سبقت أحاديث في هذا: اثنان رواهما مالك ومسلم من طريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والثالث رواه أحمد من طريق ابن عباس رضي الله عنه فلا نعيد، وليرجع إليهما في بحث [الركوع وهيئته والذِّكْر فيه] .(2/263)
ونأتي إلى مسألة كشف الجبهة واليدين في السجود فنقول: إن الأصل في السجود أن يسجد المسلم وهو كاشفٌ يديه وجبهته، فهذا ما كان عليه حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحال صحابته رضوان الله عليهم، فإذا خالف أحدهم الأصل نبَّهه - صلى الله عليه وسلم - فعاد إليه، من ذلك ما رُوي عن عياض بن عبد الله أنه قال «رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يسجد على كور العمامة، فأومأ بيده ارفعْ عمامتك» رواه ابن أبي شيبة. وروى صالح بن خيوان السبائي «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسجد إلى جنبه وقد اعتمَّ على جبهته، فحَسَرَ عن جبهته» رواه أبو داود. إلا أنه إن جاء حرٌّ شديد أو برد شديد بحيث كان السجود على الأرض يشق على الناس، فقد أجاز الشرع الحنيف عندئذٍ تغطية الجبهة واليدين، أو إلقاء شئ من الثياب على موضع السجود دفعاً للمشقة وتوسعةً على الناس، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتِّقاءَ الحرِّ» رواه البخاري والنَّسائي. ورواه أبو داود وأحمد بلفظ «كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شدة الحرِّ، فإذا لم يستطع أحدنا أن يُمَكِّن وجهَه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه» . ورواه ابن ماجة وفيه « ... فإذا لم يقدر أحدنا ... » وإذن فإن وجود حائل بين الجبهة واليدين وبين الأرض مرهون بعدم الاستطاعة، أو بعدم القدرة أو بشدَّة الحرِّ، وكذلك هو مرهون بشدة البرد، كمن يصلي في ليلة زمهرير في العراء، أو كمن يسجد على الثلج، لما روى ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في ثوب واحد متوشِّحاً به يتقي بفُضُوله حرَّ الأرض وبردها» رواه أحمد. قوله يتَّقي بفضوله: أي يحمي نفسه من الحر والبرد بما فضل وزاد من ثوبه الذي يلبسه.(2/264)
وهذا حجة على من منع السجود على الثوب الملبوس، وأجاز السجود على الثوب غير الملبوس يلقيه تحته ليكون كالبساط، نعم فهذا حجة عليه، وكذلك ما روى عبد الله ابن عبد الرحمن عن أبيه عن جده - ثابت بن الصامت - رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في بني عبد الأشهل وعليه كساءٌ متلفِّفٌ به، يضع يديه عليه يقيه بَرْدَ الحصى» رواه ابن ماجة. ورواه أحمد بلفظ «جاءنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى بنا في مسجد بني عبد الأشهل، فرأيته واضعاً يديه في ثوبه إذا سجد» .
والمحصِّلة هي أن السجود على طرف العمامة الملبوسة أو طرف الكوفية أو الطاقية، أو السجود بالقفازات في اليدين جائز كله إن كان لعذر الحرِّ والبرد، فإن لم يكن حرٌ ولا بردٌ كُرهت تغطيةُ الجبهة واليدين، ولكن الصلاة تكون مقبولة وصحيحة.
الجلسةُ بين السجدتين(2/265)
يجب على المسلم في هذه القعدة أن يقيم فيها صُلْبه، وأن يطمئن فيها بأن تسكن حركته، ويُسنُّ له تطويلها لتكون نحواً من قدر السجود، ولا يحل له أن تتواصل حركته بين السجدتين، فعن البراء رضي الله عنه قال «كان ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم - وسجوده، وإذا رفع رأسه من الرُّكوع، وبين السجدتين قريباً من السواء» رواه البخاري. وقد مرَّ في بحث [الرفع من الركوع والذِّكر فيه] وفي بحث [السجود وهيئته والذِّكر فيه] . وعن طلق بن علي الحنفي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا ينظر الله عزَّ وجلَّ إلى صلاةِ عبدٍ لا يُقيم فيها صُلْبه بين ركوعها وسجودها» رواه أحمد. وقد مرَّ هو وحديثان مثله في بحث [الرفع من الركوع والذِّكر فيه] وعن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال «إني لا آلو أن أُصلي بكم كما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا، قال ثابت: كان أنس يصنع شيئاً لم أركم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل قد نسي، وبين السجدتين حتى يقول القائل قد نسي» رواه البخاري. ورواه مسلم قريباً منه. وقد مرَّ في بحث [السجود وهيئته والذِّكر فيه] وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ الحمدُ لله رب العالمين ... وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالساً ... » رواه مسلم. وعن أنس رضي الله عنه قال «.. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: سمع الله لمن حمده، قام حتى نقول قد أوهم، ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم» رواه مسلم. وروى أبو هريرة رضي الله عنه حديث المسئ صلاته، إلى أن قال « ... ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» رواه البخاري.(2/266)
ويُسنُّ في هذه الجلسة الإقعاء،أي الجلوس على العقبين، معتمداً على رؤوس أصابع القدمين والركبتان على الأرض، أي ينصب القدمين ويجلس عليهما، لما رُوي عن طاووس أنه قال «قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين في السجود فقال: هي السنَّة، قال قلنا: إنا لنراه جفاءً بالرجل، فقال ابن عباس: هي سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم -» رواه أبو داود، ورواه الترمذي وابن خزيمة ومسلم باختلاف يسير.
أما الإقعاء الذي ورد النهي عنه في عدد من الأحاديث فإنه غير هذا الإقعاء المسنون، وهو أن يُلصق إلْيَيَه بالأرض، وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض يفعل كما يفعل الكلب. هذه أولاً. والثانية هي أنَّ جميع الأحاديث التي ورد فيها النهي عن الإقعاء رويت بأسانيد ضعيفة لا تصلح للاحتجاج.
وقد رُويت أحاديث في الدعاء في هذه الجلسة نذكر منها:
أ- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بين السجدتين في صلاة الليل: رب اغفر لي وارحمني واجْبُرني وارزقني وارفعني» رواه ابن ماجة. ورواه أحمد بلفظ «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال بين السجدتين في صلاة الليل: رب اغفر لي وارحمني وارفعني وارزقني واهدني» . ورواه أبو داود بلفظ «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني» .
ب- عن حذيفة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين السجدتين رب اغفر لي، رب اغفر لي» رواه ابن ماجة والنَّسائي والحاكم وصححه وأقرَّه الذهبي. ورواه ابن خُزَيمة وفيه طول، ومما جاء فيه « ... ثم سجد نحواً مما رفع، ثم رفع فقال: رب اغفر لي، نحواً مما سجد، ثم سجد نحواً مما رفع، ثم قام في الثانية» .(2/267)
الحديث الأخير فيه «رب اغفر لي» وهذا الدعاء داخل في الحديث الأول برواياته الثلاث، وهذه الروايات الثلاث الأولى تضمنت بالجمع بينها [اللهم اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني واجبُرني وارفعني] فيُدعى بهذا الدعاء أخذاً بالخير كله. وإن هو أحب الاختصار والاقتصار على دعاء واحد فلْيقل [رب اغفر لي، رب اغفر لي] يكرِّرها.
جلسةُ الاستراحة
هي الجلسة الخفيفة التي تَعْقُب الفراغ من السجدة الثانية وقبل النهوض إلى الركعة الثانية وإلى الركعة الرابعة، أي إذا فرغ المصلي من الركعة الأولى وأراد أن يقوم للركعة الثانية جلس جلسة قصيرة ثم قام، وإذا فرغ من الركعة الثالثة وأراد أن يقوم للركعة الرابعة جلس جلسة قصيرة ثم قام، وتسمى جلسة الاستراحة. وهذه الجلسة مندوبة مستحبة. فعن أبي قِلابة قال «جاءنا مالك بن الحُويرث فصلى بنا في مسجدنا هذا، فقال: إني لأُصلي بكم وما أريد الصلاة، ولكن أريد أن أُريكم كيف رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، قال أيوب فقلت لأبي قِلابة: وكيف كانت صلاته؟ قال: مثل صلاة شيخنا هذا، يعني عمرو بن سَلِمة، قال أيوب: وكان ذلك الشيخ يُتمُّ التكبير، وإذا رفع رأسه عن السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام» رواه البخاري. وقيَّدها أبو داود في رواية له بقوله « ... كان إذا رفع رأسه من السجدة الآخرة في الركعة الأولى قعد ثم قام» . وكذلك قيَّدها أحمد في رواية له بقوله « ... قال فقعد في الركعة الأولى حين رفع رأسه من السجدة الأخيرة ثم قام» . وقيَّدها أحمد في رواية أخرى بالركعتين الأولى والثالثة بقوله «قال أبو قِلابة: فصلى صلاة كصلاة شيخنا هذا يعني عمرو بن سَلِمة الجَرْمي، وكان يؤمُّ على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال أيوب: فرأيت عمرو بن سَلِمة يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع من السجدتين استوى قاعداً، ثم قام من الركعة الأولى والثالثة» . ولخَّص مالك بن الحويرث رضي الله عنه هذا(2/268)
الموضوع بقوله «إنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فإذا كان في وِترٍ من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً» رواه البخاري والترمذي وأبو داود وابن خُزَيمة. قوله في وترٍ من صلاته: يعني الركعات الفردية غير الزوجية، وهما الركعتان الأولى والثالثة.
وكون هذه الجلسة خفيفة قصيرة لا يعني عدم الاطمئنان فيها وعدم السكون، فقد روى ابن خُزيمة عن أبي حُمَيد الساعدي قال « ... كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائماً، فذكر بعض الحديث وقال ... ثم هوى ساجداً وقال: الله أكبر، ثم ثنى رجله وقعد فاعتدل حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ثم نهض» .
أما أنها سُنة وليست فرضاً فذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يطلبها من المُسئ صلاته عندما علَّمه ما عليه أن يفعل في صلاته، ولو كانت فرضاً لعلَّمه إياها، ثم إن قول أيوب في رواية أحمد «فرأيت عمرو بن سَلِمة يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه» ثم ذكر هذه الجلسة في الركعتين الأولى والثالثة ليدل على أن هذه الجلسة ليست فرضاً، وإلا لما تركها المسلمون في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
أما كيفية الجلوس، ففي رواية ابن خُزَيمة الإجابة عليها «ثنى رجله وقعد فاعتدل، حتى يرجع كل عظم إلى موضعه» . والمقصود بالرِّجل المثنيَّة الرِّجل اليسرى، فالجلسة تكون بأن يثني رجله اليسرى - أي يفرشها - وينصب الرِّجل اليمنى، ثم يقعد على اليسرى، وهي تماثل الجلسة للتَّشهد الأوسط كما سيأتي بعد قليل.
إلا أنه لو أقعى في هذه الجلسة على قدميه المنصوبتين فإني أرجو أن لا يكون في ذلك بأس، وربما كانت هذه الكيفية أسهل في النهوض، فالأمر موسَّع، والله عزَّ وجلَّ أعلم.
التشهُّدُ وهيئةُ الجلوس له
للتشهد في الصلاة عدة صيغ مأثورة أذكر لكم جملة منها:(2/269)
أ-[التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله] .
ب-[التحياتُ الطيباتُ الصلواتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله] .
ج-[التحياتُ المباركاتُ الصلواتُ الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله] .
وقد رتَّبتُ هذه الصيغ حسب الأولوية، فالأَولى أن يأخذ المسلم الصيغة الأولى، وإلا فالصيغة الثانية، وإلا فالصيغة الثالثة، وهذه هي أدلتها حسب ترتيبها:(2/270)
أ- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «كنا إذا صلينا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان، فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أقبل علينا بوجهه فقال: إن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم في الصلاة فلْيقل: التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه إذا قال ذلك أصاب كلَّ عبدٍ صالح في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم ليتخير بعدُ من الكلام ما شاء» رواه البخاري ومسلم. ورواه أحمد والنَّسائي وأبو داود. قوله السلام على فلان - وفي رواية: السلام على فلان وفلان -: يعني من الملائكة. بدلالة ما جاء في رواية ابن ماجة « ... السلام على جبرائيل وميكائيل، وعلى فلان وفلان، يعنون الملائكة ... » . وقوله ليتخير بعدُ من الكلام: الكلام هنا يعني الدعاء. بدلالة رواية النَّسائي وأحمد وأبي داود وابن خُزَيمة وهي « ... ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه ... » .
ب- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال « ... إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا، فبين لنا سُنَّتنا وعلَّمنا صلاتنا فقال ... وإذا كان عند القعدة فليكن مِن أول قول أحدكم: التحياتُ الطيباتُ الصلواتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» رواه مسلم. ورواه النَّسائي وأبو داود وابن ماجة وأحمد.(2/271)
ج- عن ابن عباس رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التَّشهُّد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: التحياتُ المباركاتُ الصلواتُ الطيباتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله» رواه مسلم وأبو داود. ورواه الطحاوي بلفظ «وأن محمداً رسول الله» . ورواه أحمد وابن حِبَّان بلفظ « ... التحياتُ المباركاتُ الصلواتُ الطيباتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلامٌ علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله» بتنكير [سلام] الثانية. ورواه الترمذي وابن خُزَيمة وأحمد في رواية أخرى له بلفظ « ... التحياتُ المبارَكاتُ الصلواتُ الطيباتُ لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلامٌ علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله» بتنكير [سلام] في الموضعين. ورواه ابن ماجة بلفظ « ... التحياتُ المبارَكاتُ الصلواتُ الطيباتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» . فذكر [عبده ورسوله] بدل [رسول الله] . فهذه الصيغة قد اضطربت فيها الروايات كثيراً، فأسقطها الاضطراب عن مستوى سابقتيها فكانت الثالثة في الترتيب. أما الأولى والثانية فلم تضطرب فيها الروايات، ولكون الأولى اتفق عليها الشيخان فقد جعلتها الأُوْلى، وجعلتها الأَوْلى. قال الترمذي (حديث ابن مسعود قد رُوي عنه من غير وجه، وهو أصح حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التَّشهُّد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَن بعدهم من التابعين) . ثم إن روايات ابن مسعود نُقل عنه أنه تلقَّاها عن رسول الله - صلى الله(2/272)
عليه وسلم - تلقيناً، فقد روى البخاري عنه قوله «علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وكفي بين كفيه - التشهد ... » . وروى الطحاوي عنه قوله «أخذتُ التشهُّدَ مِن في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولقَّنِيها كلمةً كلمةً ... » . فهذه زيادةٌ في قوة الصيغة الأولى.
وقد وردت صيغ أخرى للتَّشهُّد غير هذه الصيغ الثلاث لا بأس بإطلاعكم عليها:
أ-[بسم الله وبالله، التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله] وقد وردت هذه الصيغة في رواية للنَّسائي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، كما وردت في رواية لابن ماجة ولكن بزيادة [لله] عقب [والطيبات] ولا يَبْعُد عندي أن جابراً كان يفتتح التَّشهُّد بقوله [بسم الله وبالله] تبرُّكاً، ولم يكن يعتبر ذلك القول من صيغة التَّشهُّد نفسها. وقد ورد في الحديث ذِكْر «أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار» عقب التَّشهُّد مباشرة، فلم أعتبرها جزءاً من صيغة التَّشهُّد، وإنما هي دعاء كان جابر يقوله عقب الفراغ من التشهُّد، يشهد لهذا الفهم ما جاء في حديث رواه ابن ماجة من طريق أبي هريرة رضي الله عنه، وسيأتي بتمامه في بحث [الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة] وجاء فيه « ... قال أتَشَهَّد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار ... » . فجعل هذا القول دعاءً غير داخل في التشهد، فإذا كان ذلك كذلك فإن هذه الصيغة الواردة عن جابر رضي الله عنه هي صيغة ابن مسعود الأولى نفسُها.(2/273)
ب-[التحياتُ لله الصلواتُ الطيباتُ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله] وقد جاءت هذه الصيغة في رواية لأبي داود من طريق ابن عمر رضي الله عنه كما رواها الطحاوي ولكن بدون [وحده لا شريك له] في رواية، وبها في رواية ثانية.
ج-[التحياتُ الطيباتُ الصلواتُ الزاكياتُ لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام عليكم] وهذه الصيغة رواها مالك عن عائشة موقوفةً عليها، وقد جاء فيها التشهد مقدَّماً على السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
د-[التحياتُ لله الزاكياتُ لله الطيباتُ الصلواتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله] وهذه الصيغة رواها مالك والطحاوي موقوفة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وليست في رواية الطحاوي لفظةُ [الطيبات] وهناك صيغ غير هذه للتشهد لم أر ضرورة لإيرادها، فمن أحب الاطلاع عليها فلْيطلبها في مظانِّها.
وباستعراض جميع الروايات الواردة هنا نجد أنها جاءت بلفظ «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» أو «سلامٌ عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» أي أنها كلَّها جاءت بصيغة الخطاب، غير أن عدداًً من الفقهاء يقولون بأن صيغة الخطاب كان معمولاً بها والرسول - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ، وأن هذه الصيغة تحولت إلى صيغة الغَيْبة - السلام على النبي ورحمة الله وبركاته - بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، مستدلين على هذا الرأي بالأحاديث التالية:(2/274)
1- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال «علَّمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التَّشهُّد، كفِّي بين كفَّيه، كما يعلِّمني السورة من القرآن: التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله، وهو بين ظهرانينا، فلما قُبض قلنا: السلام على النبي» رواه ابن أبي شيبة والبخاري والبيهقي.
2- عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يتشهد فيقول «بسم الله، التحياتُ لله، الصلواتُ لله، الزاكياتُ لله، السلام على النبي ورحمة الله وبركاته ... » رواه مالك.
3- عن القاسم بن محمد قال «كانت عائشة تعلمنا التشهد وتشير بيدها تقول: التحياتُ الطيباتُ الصلواتُ الزاكياتُ لله، السلام على النبي ورحمة الله وبركاته ... » رواه البيهقي.
4- عن عطاء قال «سمعت ابن عباس وابن الزبير يقولان في التشهد في الصلاة: التحياتُ المباركاتُ لله، الصلواتُ الطيباتُ لله، السلام على النبي ورحمة الله وبركاته ... » رواه عبد الرزاق.
5- عن عطاء «أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يسلِّمون والنبي - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» رواه عبد الرزاق.
فنجيب هؤلاء بأن تعدُّدَ صيغ التشهد يدل على أنه لا صيغة بذاتها واجبة دون غيرها، وأن هذا التعدد يدل على جواز الأخذ بأية صيغةٍ مأثورةٍ واردةٍ، فالأخذ بأية صيغة من هذه الصيغ جائز شرعاً، ومُسقطٌ للفرض والوجوب، فالأمرُ في ألفاظ التشهد موسَّع. فكما أنه يتسع لهذه الصيغة ولتلك، فهو يتسع كذلك لصيغة الخطاب ولصيغة الغيبة، وهذا الاتساع لا ينفي القول بأولوية صيغة على غيرها، وبأولوية صيغة الخطاب على صيغة الغَيْبة مع جواز الكل طبعاً.(2/275)
فرواية ابن مسعود نُقلت من طرقٍ عديدةٍ زاد رُواتها على العشرين ومع ذلك جاءت كلها بالألفاظ نفسها دون أي اختلاف، فهذا مرجحٌ معتبرٌ لها على ما سواها من الروايات والألفاظ. فالقول بالتخيير لا ينفي القول بتفضيل إحداها على ما سواها. ومما يدعم القول أيضاً بتفضيل صيغة الخطاب على صيغة الغَيْبة ما يلي:
1- أن جميع رواة الأحاديث عبر العصور قد استمروا في رواية صيغة الخطاب دون أن يقيدوها بحياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كانت حياته عليه الصلاة والسلام قيداًً لها لذكروه.
2- أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد ذكر صيغة الخطاب على المنبر أمام الصحابة، وأن ذلك حصل منه بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم ينكر عليه أحدٌ منهم، فقد جاء في الموطأ «عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريِّ أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يعلِّم الناس التشهد، يقول قولوا: التحياتُ لله، الزاكياتُ لله، الطيباتُ الصلواتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» .
3 - لم يُرو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد علَّم المسلمين صيغتين: صيغةً يقولونها وهو حيٌّ، وصيغةً يقولونها بعد موته، وإنما علمهم صيغة واحدة هي صيغة الخطاب، ولم يأمرهم بتركها والأخذ بصيغة الغيبة إذا مات.
لهذه الأسباب فإنَّا نذهب إلى تفضيل صيغة الخطاب على صيغة الغَيْبة، ونرى أن صيغة الغَيْبة ليست إلا اجتهاداًً من عدد من الصحابة يصح أخذه وتقليده كما يصح تركه، وأنا أقول بأولوية تركه.(2/276)
ويجلس للتشهد في آخر الركعة الثانية، وفي آخر الركعة الرابعة في الصلاة الرباعية، أو في آخر الركعة الثالثة في الصلاة الثلاثية، وقد جاء ذكر هاتين الجلستين فيما رواه أحمد من طريق ابن مسعود رضي الله عنه « ... كان يقول إذا جلس في وسط الصلاة وفي آخرها على وَرِكِه اليسرى التحياتُ لله ... » .
والتشهد في وسط الصلاة هو التشهد الأول، والذي في آخرها هو التشهد الأخير، وهذان التشهدان واجبان مفروضان، لا يجوز تركهما أو ترك أحدهما، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال «كنا نقول في الصلاة قبل أن يُفرض التشهدُ: السلام على الله، السلام على جبريل وميكائيل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقولوا هكذا، فإن الله عزَّ وجلَّ هو السلام، ولكن قولوا: التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ ... » رواه النَّسائي وصححه الدارقطني والبيهقي. فقد جاء فيه «قبل أن يُفرَض التشهد» وهذا واضح الدلالة، وهو يشمل التَّشهُّد الأول والتَّشهُّد الأخير، يشهد له ما جاء في روايةٍ عند النَّسائي «فقولوا في كل جلسة» . وروى عبد الله بنُ بُحَيْنةَ الأسدي حليفُ بني عبد المطلب «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتمَّ صلاته سجد سجدتين يكبِّر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلِّم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس» رواه مسلم والبخاري. فقوله «قام في صلاة الظهر وعليه جلوس» يعني الجلوس للتشهد الأول، ويشير إلى أن هذا الجلوس واجب عليه. وأيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد عبد الله، فعلَّمه التَّشهُّد في الصلاة فقال قل: التحياتُ لله ... وأن محمداً عبده ورسوله، قال فإذا قضيت هذا أو قال فإذا فعلت هذا فقد قضيتَ صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد» رواه أحمد. ورواه أبو داود والدارمي قريباً منه. غير أن الحُفْاظَ قد اتفقوا على أن الجملة الأخيرة(2/277)
مُدْرَجةٌ من قول عبد الله بن مسعود نفسه، أعني قولَهُ «فإذا قضيتَ هذا، أو قالَ: فإذا فعلتَ هذا فقدْ قضيتَ صلاتكَ ... » وليست من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون هذا القول إذن قول صحابي، وأقوال الصحابة أحكام شرعية يصح أخذها وتقليدها. وأيضاً رُوي عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعلِّمُنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول تعلَّموها، فإنه لا صلاة إلا بتشهد» رواه البزَّار. ووثَّق الهيثمي رجال سنده. وروى البيهقي عن عبد الله رضي الله عنه قال «التَّشهُّد تمام الصلاة» . وروى عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال «لا تجوز صلاةٌ إلا بتشهُّدٍ» ورواه البيهقي. فانضم قول عمر إلى قول ابن مسعود بوجوب التشهد في الصلاة. فهذه المرويات الأربعة يُؤخذ منها حكم وجوب التشهد في الصلاة.(2/278)
والتَّشهُّد الأول يجلس له المصلي ناصباً رِجله اليمنى مُوَجِّهاً صدرها نحو القِبلة مفترشاً رجله اليسرى جالساً عليها، ويجلس للتشهد الأخير على وَرِكِه اليسرى بأن يُقَدِّم رِجله اليسرى فيضعها بين فخذه وساقه، ويجلس على مقعدته، وفي الجلوسين يضع راحته اليمنى على فخذه اليمنى، وراحته اليسرى على فخذه اليسرى قابضاً على ركبتيه بأصابعه، ويضمُّ أصابع يده اليمنى الخنصر والبنصر والوسطى، ويضع إبهامه على الوسطى، ويمدُّ سبَّابته مداً خفيفاً ضعيفاً - أي يجعلها منحنيةً قليلاً - ويبقيها هكذا في أثناء الدعاء، فهذه هي الهيئة المثلى لجلوس التشهد، فعن وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال «قدمتُ المدينة، قلت: لأنظرنَّ إلى صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما جلس - يعني - للتشهد، افترش رجله اليسرى، ووضع يده اليسرى - يعني على فخذه اليسرى - ونصب رجله اليمنى» رواه التِّرمذي. ورواه النَّسائي ولفظه « ... وإذا جلس في الركعتين أَجنحَ اليسرى ونصب اليمنى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ونصب أُصبعه للدعاء، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ... » . ورواه أحمد ولفظه « ... ثم قعد فافترش رجله اليسرى، فوضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى، وجعل حدَّ مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم قبض بين أصابعه، فحلَّق حلقةً ثم رفع أُصبعه، فرأيته يحرِّكُها يدعو بها» . وجاء في رواية أُخرى لأحمد « ... حلَّق بالوسطى والإبهام، وأشار بالسَّبَّابة» . قوله فرأيته يحركها يدعو بها: أي يحرِّكُها مِن موضعها بين أصابعه لتصبح منصوبة. فهو إذا نصبها ثبَّتها في هيئتها طيلة الدعاء دون أن يُرجِعَها إلى موضعها، أو يُديم تحريكها كما يفعل كثير من الناس. فهذه الحركة المتواصلة للسَّبابة ليست مطلوبة، وليست هي التطبيق الصحيح لما جاء في حديث أحمد، بدلالة ما روى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه «أنه ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يشير بأصبعه إذا دعا ولا(2/279)
يُحرِّكها، قال ابن جُريْج: وزاد عمرو بن دينار قال: أخبرني عامر عن أبيه أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو كذلك» رواه أبو داود والنَّسائي. وروى عبد الرزاق الشطر الأول. وعن أبي حُمَيد السَّاعدي رضي الله عنه قال «أنا كنت أحفظكُم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رأيته إذا كبَّر جعل يديه حِذاء منكبيه ... فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة قدَّم رِجله اليسرى ونصب الأُخرى، وقعد على مقعدته» رواه البخاري. وجاء في رواية لابن خُزَيمة « ... كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كانت الركعة التي تنقضي فيها الصلاة أخَّر رجله اليسرى، وقعد على شِقِّهِ متورِّكاً، ثم سلم» . وعن عبد الله بن الزبير قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه، وفَرَشَ قدمه اليمنى، ووضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأُصبعه» رواه مسلم وأبو داود. وجاء في روايةٍ أخرى لمسلم «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد يدعو، وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى وأشار بأُصبعه السَّبَّابة، ووضع إبهامه على أُصبعه الوسطى، ويُلْقِمُ كفَّه اليسرى ركبتَه» . وعن نمير الخُزاعي رضي الله عنه «أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة واضعاً اليمنى على فخذه اليمنى، رافعاً أُصبعه السَّبابة، قد حناها شيئاً وهو يدعو» رواه ابن حِبَّان وابن خُزَيمة والنَّسائي وأبو داود.(2/280)
فالمسلم يتورَّك في جلسة التشهد الأخير، والتَّورُّكُ هو أن يُلصق إلييه بالأرض، ويمد رجليه في اتجاه واحد جهة اليمين. وهذه الجلسة تشق على كثير من الناس، فمن وجد مشقَّةً فيها فلا بأس بأن يَعْدِل عنها إلى هيئة الجلوس للتَّشهُّد الأول، وتكون بنصب اليمنى وبسط اليسرى والجلوس على بطن اليسرى. فإن وجد مشقة في هذه الجلسة أيضاً فلا بأس من الجلوس متربِّعاً، فإن الدين يُسر، فعن عبد الله بن عبد الله بن عمر أنه أخبره «أنه كان يرى عبد الله بن عمر يتربَّعُ في الصلاة إذا جلس، قال ففعلته وأنا يومئذٍ حديث السن، فنهاني عبد الله وقال: إنما سُنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني رجلك اليسرى، فقلت له: فإنك تفعل ذلك، فقال: إن رجليَّ لا تحملاني» رواه مالك والبخاري. وجاء في رواية أخرى لمالك من طريق المغيرة بن حكيم «إنما أفعل هذا من أجل أني أشتكي» .(2/281)
ويُكره في جلوس التشهد أن يعتمد الرجل على يده أو على يديه، بأن يضعهما على الأرض مستعيناً بهما، كما يكره الجلوس على مقعدته وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض، يُقعي كما يُقعي الكلب والقرد وسائر لسباع، وهو الإقعاء المنهي عنه، وهو المسمى عُقْبَة الشيطان، أو عَقِب الشيطان، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعتمد الرجل على يديه في الصلاة» رواه ابن خُزَيمة. ورواه أحمد ولفظه «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس الرجل في الصلاة وهو يعتمد على يديه» . ووقع في رواية عند أبي داود «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمدٌ على يده» . وروى أحمد من طريق ابن عمر رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً ساقطاً يده في الصلاة فقال: لا تجلس هكذا، إنما هذه جلسة الذين يعذَّبون» . قوله ساقطاً يده: أي واضعاً يده بجانبه معتمداً عليها. وروى أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنه «أنه رأى رجلاً يتكئ على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة - وقال هرون بن زيد ساقطاً على شِقِّه الأيسر - فقال له: لا تجلس هكذا، فإن هكذا يجلس الذين يعذَّبون» . وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ الحمدُ لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يُشْخص رأسه ولم يصوِّبه، ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالساً، وكان يقول في كلِّ ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عُقْبَةِ الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم» رواه مسلم. ورواه أحمد وأبو داود. ووقع في رواية أُخرى لمسلم «وكان ينهى عن عَقِب الشيطان» . وكذلك جاء في رواية أبي داود وفي رواية أحمد.(2/282)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «أوصاني خليلي بثلاث ونهاني عن ثلاث: أوصاني بالوتر قبل النوم، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، قال: ونهاني عن الالتفات، وإقعاءٍ كإقعاء القِرد، ونَقْرٍ كنقر الديك» رواه أحمد. ووقع في رواية أُخرى له « ... ونهاني عن نَقْرةٍ كنَقْرةِ الديك، وإِقعاءٍ كاقعاءِ الكلب، والتفاتٍ كالتفات الثعلب» .
والسنة في التشهد - الأول والأخير - أن يكون بالإسرار وعدم الجهر، سواء في الصلاة السرية أو الصلاة الجهرية، للإمام وللمأموم وللمنفرد، فقد روى ابن خُزَيمة أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «مِن السُّنة أن تُخْفِيَ التَّشهُّدَ» . ورواه أبو داود بلفظ «من السُّنة أن يَخْفَى التَّشهُّدُ» . والمعنى واحد.
ويسن في التشهد أن لا يجاوز البصر الفخذين والسَّبَّابة، فعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس في التشهد وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بالسَّبَّابة ولم يجاوز بصرُهُ إشارتَه» رواه أحمد. ورواه النَّسائي بلفظ فيه اختلاف، وجاء فيه «وأشار بالسَّبَّابة لا يجاوز بصرُهُ إشارتَه» . ورواه ابن خُزَيمة.
الصلاةُ على رسول الله في الصلاة(2/283)
يندب للمسلم أن يصلي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته، فعن أبي مسعود عقبة بن عامر رضي الله عنه قال «أقبل رجل حتى جلس بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده فقال: يا رسول الله، أمَّا السلام فقد عرفناه فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا صلَّى الله عليك؟ قال فصَمَتَ حتى أحببنا أن الرجل لم يسأله، ثم قال: إذا أنتم صليتم عليَّ فقولوا: اللهم صلِّ على محمد النبي الأُمي وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأُمي وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» رواه ابن خُزَيمة. ورواه أحمد والحاكم قريباً منه. قوله أما السلام فقد عرفناه: يعني ما جاء في التشهد من القول (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) . أما قوله (كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا) فإنه يدل على مشروعية الصلاة هذه في الصلاة، دون تقييدها بموضع من مواضع الصلاة، إذ ليس في النصوص نص واحد صحيح أو حسنٌ يدل على تحديد مكانٍ أو موضعٍ في الصلاة للصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(2/284)
أما ما رواه البيهقي والحاكم من طريق ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إذا تشهَّد أحدكم في الصلاة فليقل: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمداً وآل محمد، كما صليت وباركت وترحَّمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» . فهو وإن حوى تحديداً لموضعِ الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن ذلك إنما هو عقب التشهد، إلا أن هذا الحديث في إسناده مجهول - رجلٌ من بني الحارث - فهو إذن حديث ضعيف لا يُعتدُّ به. وأما ما رواه الحاكم من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «يتشهد الرجل ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يدعو لنفسه» . فإنه وإن حوى أيضاً تحديداً لمكان الصلاة الإبراهيمية في الصلاة إلا أنه قول صحابي، وقول الصحابي ليس دليلاً على الأحكام الشرعية، وإنما هو حكم شرعي اجتهادي يجوز تقليده. وإذن فإنه ليس بين أيدينا نصٌّ واحد معتبرٌ يحدد موضع الصلاة الإبراهيمية في الصلاة. أما ما درج عليه المسلمون من قول هذه الصلاة عقب التشهد الأخير، وأنَّ كلمتهم قد اتفقت على ذلك، فإنه أمرٌ نُقل إلينا عملياً جيلاً عن جيلٍ، فكان ذلك متواتراً.(2/285)
وليست للصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صيغة معينة يجب الالتزام بها، ذلك أنه رُويت عدة صيغ لهذه الصلاة من عدة طرق صحيحة وحسنة، كل صيغة منها تُجزئ وتكفي، فقد وردت عدة صيغ منسوبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طرقٍ عدَّةٍ عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل وردت عدة صيغ من طريق الصحابي الواحد من هؤلاء، فقد رويت من طريق كعب بن عُجرة رضي الله عنه أكثر من ثلاث صيغ، ومثل ذلك من طريق أبي حُمَيد الساعدي رضي الله عنه، وأكثر من ذلك من طريق أبي مسعود الأنصاري عقبة بن عامر رضي الله عنه، وكل هذه الطرق صحيحة وحسنة صالحة للاستدلال. فالمسلم بالخيار بين أيٍّ من هذه الصيغ. والدليل على ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «مَن سَرَّه أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل: اللهم صلِّ على محمد النبي وأزواجِه أُمهاتِ المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» رواه أبو داود. فقوله «من سرَّه أن يكتال بالمكيال الأوفى» هو دليل على وجود تفاوت بين الصيغ، ولولا ذلك، أو لولا أن الصلاة هذه تُؤدَّى بعدة صيغ لما كان هذا القول. وجميع هذه الصيغِ مرويةٌ ومنسوبةٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مما يجعلنا نطمئن إلى مشروعية تعدد الصيغ، وهذا لا يمنع من الأخذ بأقوى هذه الصيغ من حيث الإسناد. وإن أقوى هذه الصيغ من حيث الإسناد هي بلا شك ما اتفق على روايتها الشيخان البخاري ومسلم، وقد اتفق الشيخان على صيغتين من هذه الصيغ العديدة هما:
أ-[اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد] .(2/286)
ب-[اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد] .
فالأَولى اختيار واحدة من هاتين الصيغتين.
أما الصيغة الأولى فقد رُويت عن كعب بن عُجرة رضي الله عنه أنه قال «سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهلَ البيت، فإن الله قد علَّمنا كيف نسلِّم عليكم؟ قال قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» رواه البخاري ومسلم. ورواه أحمد بذكر «آل إبراهيم» في الموضعين فحسب، ولم يذكر فيهما إبراهيم.
وأما الصيغة الثانية فقد رُويت عن أبي حُمَيد الساعدي رضي الله عنه أنه قال «إنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولوا: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» رواه البخاري ومسلم ومالك والنَّسائي وأبو داود.
وهذه جملة من الصيغ المأثورة الأخرى:(2/287)
1-[اللهم صلِّ على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد] وقد وردت في حديث رواه ابن خُزَيمة من طريق أبي مسعود عقبة ابن عامر رضي الله عنه قال «أقبل رجلٌ حتى جلس بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده فقال: يا رسول الله، أمَّا السلامُ فقد عرفناه فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا صلى الله عليك؟ قال فصَمَتَ حتى أحببنا أنَّ الرجل لم يسأله، ثم قال: إذا أنتم صليتم عليَّ فقولوا: اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأُمي وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» . وقد مرَّ قبل قليل. ورواه الحاكم وأحمد قريباً منه.
2-[اللهم صلِّ على محمد عبدِك ورسولِك، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم] وقد وردت في حديث رواه أحمد من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «قلنا يا رسول الله، هذا السلام عليك قد علمناه فكيف الصلاة عليك؟ فقال قولوا: اللهم صلِّ على محمد عبدِك ورسولِك كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم» .
3-[اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد] وقد وردت في حديث رواه أحمد من طريق طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال «قلت: يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال قل: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد» .
وإليكم أشملَ وأطولَ صيغةٍ من صيغ الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(2/288)
4-[اللهم صلِّ على محمد وعلى أهل بيته، وعلى أزواجه وذريته كما باركتَ على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى أهل بيته، وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد] وقد وردت هذه الصيغة فيما رواه أحمد من طريق رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول «اللهم صلِّ على محمد وعلى أهل بيته، وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى أهل بيته وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» . وجهالة الصحابي لا تضرُّ لأنهم جميعاً عدول، قال الهيثمي (رجال أحمد رجال الصحيح) .
هذه ستُّ صيغ أقواها إسناداً الصيغتان الأُوليان، وأشملها الصيغة الأخيرة، فمن اختار صيغةً من هذه الصيغ وأخذ بها كفته وأجزأته، فالأمر في ذلك موسَّع.
قد درج على ألسِنة المسلمين اليوم قولهم (في العالمين) قبل (إنك حميد مجيد) أي بزيادة (في العالمين) ، وقد وردت هذه اللفظة فيما رواه أحمد والنَّسائي وأبو داود، وفيما رواه مسلم من طريق أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، ولفظه « ... اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد ... » . وهي صيغة سابعة تُضمُّ إلى سابقاتها. كما وردت هذه اللفظة في حديث رواه الدارمي من طريق أبي مسعود، وفي حديث رواه ابن ماجة من طريق أبي حميد الساعدي.(2/289)
أما ما درج عليه كثيرون من قول (اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ... وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ... ) بزيادة (سيدنا) ، فإن هذا لا أصلَ له مُعْتَبراً، إذ هو لم يُنقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أية رواية صحيحة أو حسنة، لهذا فإني أنصح بتركها والاقتصار على المأثور لأنه أفضل، فإن أبوا إلا الاستمرار على قولها فلا بأس، لأن الأمر موسَّع كما أسلفت. وقد أضاف هذه الزيادة عدد من الفقهاء بدعوى أن ذلك من حُسن التأدُّب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد جانبهم الصواب فيما قالوا، ذلك أن التأدب معه يكون بطاعته فيما شرعه لنا والاقتصار عليه.
قلت في بدء البحث إن الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مندوبة، ولم أَقُلْ بوجوبها كما قال عدد من الفقهاء، ذلك أن ورود الأمر بها فحسب لا يكفي لإيجابها، لأن الأمر بالشئ لا يفيد الوجوب إلا بقرينة كما قال بذلك عدد من الأصوليين، وهو الصحيح، فالأمر يفيد مجرد الطلب، والقرينة هي التي تجعله يفيد الوجوب أو الندب أو الإباحة، وهنا لا توجد قرينة تصرف هذا الأمر إلى الوجوب، وإنما القرينة الموجودة تصرفه إلى الندب، وإليكم البيان:
أ- حديث الدارمي من طريق علقمة أن عبد الله رضي الله عنه أخذ بيده «وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد عبد الله، فعلَّمه التشهد في الصلاة: التحياتُ لله ... الصالحين، قال زهير: أراه قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أيضاً - شك في هاتين الكلمتين - إذا فعلت هذا أو قضيتَ فقد قضيتَ صلاتك إن شئتَ أن تقوم فقم، وإن شئتَ أن تقعد فاقعد» . وقد مرَّ في بحث [التَّشهُّد وهيئة الجلوس له] فلو كانت الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفروضة واجبة لما جاز هذا القول «إذا فعلت هذا أو قضيت فقد قضيت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم» عقب التشهد. والحديث واضح الدلالة تماماً.(2/290)
ب- حديث ابن ماجة من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل «ما تقول في الصلاة؟ قال: أتشهَّد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، أمَا والله ما أُحْسِنُ دندنتَك ولا دندنة معاذ، فقال: حولها ندندن» . فهذا رجل يسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يقول في الصلاة فيجيبه «أتشهد ثم أسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار» وليس في جوابه إشارة إلى الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، فلم ينكر عليه - صلى الله عليه وسلم - قراءته، والسكوت منه - صلى الله عليه وسلم - في معرض الحاجة بيان وتشريع، فلو كانت الصلاة عليه واجبة لوجب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُبيِّنَها لهذا الرجل، فلما لم يفعل فقد دل ذلك على عدم وجوب هذه الصلاة.(2/291)
ج - حديث أبي داود من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخِر فليتعوَّذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرِّ المسيح الدجال» . فلو كانت الصلاة المخصوصة مفروضةً لقال عليه الصلاة والسلام مثلاً (إذا فرغ أحدكم من الصلاة عليَّ فلْيتعوذ بالله من أربع) ، فلما لم يذكرها، ولما جعل الدعاء عقب التشهد، فقد دل على أن هذه الصلاة ليست من المفروضات على المسلمين. ومثل هذا الحديث في الدلالة ما رواه ابن ماجة من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلِّمنا التشهد كما يعلِّمنا السورة من القرآن: بسم الله وبالله، التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ له، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار» . - وقد أشرت إلى هذا الحديث في بحث [التشهد وهيئة الجلوس له]- فقد جعل الدعاء يعقُبُ التشهد مباشرة دون فاصل من الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
د - الحديث المار وفيه الطلب من المسلمين أن يُصلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة - وهو الحديث الذي رواه ابن خُزَيمة والحاكم وأحمد - إن كَوْنَ هذا الطلب قد جاء بفعلٍ فيه قُربة إلى الله سبحانه، وإن كَوْنَ هذه القُربة قد ثبت بالقرائن أنها ليست مفروضة، فلم يبق إلا أن تكون مندوبةً ومستحبَّةً.
أما ما رُوي عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه أنه قال «لو صليت صلاة لا أُصلي فيها على محمد وعلى آل محمد ما رأيت أنها تتم» فقد رواه البيهقي وقال (تفرَّد به جابر الجُعفي وهو ضعيف) . وكذَّبه أبو حنيفة وغيره، فالحديث لا يصلح للاستدلال، إضافة إلى أنه قولُ صحابي، وقول الصحابي ليس دليلاً شرعياً.(2/292)
وأما ما رواه عبد المهيمن بن عباس بن سهل الساعدي قال «سمعت أبي يحدِّث عن جدِّي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر الله عليه، ولا صلاة لمن لم يصلِّ على نبي الله في صلاته» رواه الحاكم والبيهقي. دالاً على وجوب الصلاة على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، فإن هذا الحديث ضعيف لا يُحتج برواياته كما قال البيهقي، وإن عبد المهيمن واهٍ كما قال الذهبي، فيُطْرح ولا يُلتفت إليه. وعليه فإن الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة مندوبة وليست واجبة.
الدعاءُ والتَعوُّذ في آخر الصلاة(2/293)
إذا فرغ المصلي من التشهد في جلسته الأخيرة قبل أن يسلِّم نُدب إليه أن يصلي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما نُدب إليه أن يدعو بما يشاء، وأن يتعوذ بالله عزَّ وجلَّ، فهذه الجلسة فيها متَّسعٌ للدعاء وللذكر، فلْيتخير لها من الأدعية والتَّعوُّذاتِ ما يعجبه، وأفضلها ما أُثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال» رواه البخاري ومسلم. ورواه أحمد وأبو داود. ورواه ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فلْيتعوَّذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدَّجال» . ووقع في رواية أحمد وأبي داود ومسلم وروايةٍ للنَّسائي والدارمي لفظ « ... ومن شرِّ المسيح الدجال» . وهذا وذاك جائزان مأثوران بأيهما دعوتَ واستعذتَ أصبتَ. وعن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في الصلاة «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمَغْرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المَغْرم، فقال: إن الرجل إذا غرم حدَّث فكذب ووعد فأخلف» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي بزيادة التعوذ من المأثم والمغرم، إلا أنه سقط التعوُّذ من عذاب النار.(2/294)
وقد جمع ابن حِبَّان الجميع في رواية له من طريق عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمَغْرم، قالت: فقال قائل: يا رسول الله ما أكثر ما تستعيذ من المَغْرم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الرجل إذا غرم حدَّث فكذب ووعد فأخلف» . فهذه أكمل صيغ التعوُّذ فتُؤخذ وتُقدَّم على سابقاتها.
أما الأدعية المأثورة عقب التشهد وقبل التسليم فكثيرة أذكر منها دعاءً قصيراً وآخر طويلاً:
أ-[اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم] .(2/295)
ب-[اللهم بعلمك الغيب وقدرتِك على الخَلْق أَحيني ما علمتَ الحياة خيراً لي، وتوفَّني إذا علمت الوفاة خيراً لي، اللهم وأسألك خشيتَك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمةَ الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قُرَّةَ عينٍ لا تنقطع، وأسألك الرضاء بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوقَ إلى لقائك، في غير ضرَّاءَ مُضِرَّةٍ ولا فتنةٍ مُضِلَّة، اللهم زيِّنَّا بزينة الإيمان واجعلنا هُداةً مهديين] . فعن أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - «علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال قل: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم» رواه البخاري والنَّسائي وأحمد والترمذي. وعن السائب قال «صلى بنا عمار بن ياسر صلاةً فأوجز فيها، فقال له بعض القوم: لقد خفَّفتَ أو أوجزتَ الصلاة، فقال: أمَّا على ذلك فقد دعوتُ فيها بدعوات سمعتهنَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قام تبعه رجل من القوم هو أُبيٌّ غير أنه كنى عن نفسه، فسأله عن الدعاء، ثم جاء فأخبر به القوم: اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أَحْيِني ... واجعلنا هُداةً مهديين» رواه النَّسائي. ورواه أحمد ولكن سقطت منه عدة ألفاظ. أما من أحب الاطلاع على أدعية أخرى فدونه كتب الحديث فهي طافحة بها.(2/296)
ويمكن للمسلم أن يدعو من غير الأدعية المأثورة بما يحتاج إليه من أمور، كأن يدعو لنفسه بالشفاء من مرضٍ أصابه، أو بالنجاة من كُربة ألمَّت به، أو أن يعينه ربُّه على حمل الدعوة، أو على القيام بما فيه نفعٌ وخيرٌ له وللمسلمين، أو أن يدعو ربه لإعادة الخلافة الراشدة، أو أن يدعو ربه ليرزقه الشهادة في سبيله، أو أي دعاء يحقق فيه خيراً لنفسه ولأهله ولجيرانه ولأصحابه ولعموم المسلمين، وكلما عمَّم الدعاء كان أفضل.
التسليمُ في الصلاة
إذا فرغ المصلي من التشهد وجوباً، ومن الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتَّعوُّذ والدعاء ندباً واستحباباً خرج من صلاته بالتسليم عن يمينه وجوباً، وعن يساره ندباً واستحباباً، فعن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مفتاحُ الصلاة الطُّهور، وتحريمُها التكبير، وتحليلُها التسليم» رواه أحمد والترمذي وأبو داود. وقد مرَّ في بحث [حكم تكبيرة الإحرام] . قوله تحريمها التكبير: أي أن كل فعل أو قول عدا أفعال الصلاة وما يقال فيها يصبح محرَّماً بمجرد التكبير. وقوله تحليلها التسليم: أي أن كل ما حرم فعله أو قوله في أثناء الصلاة يعود حلالاً بمجرد التسليم. هذا المعنى نفسه يُشكل قرينة على وجوب التسليم، ولم أقف على حديث واحد ولا أثرٍ واحد يذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أحد صحابته قد خرج من صلاته دون أن يختمها بالتسليم، فالتسليم فرضٌ واجب، ولا تُختم الصلاة إلا به، ولا يحل تركه.(2/297)
والتسليم تسليمتان اثنتان: إحداهما عن اليمين، والأخرى عن اليسار. ويقول فيهما [السلام عليكم ورحمة الله] فعن سعد رضي الله عنه قال «كنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلِّم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده» رواه مسلم وابن أبي شيبة وأحمد. وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلِّم عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، حتى يُرى أو نرى بياض خدَّيه» رواه أحمد. وروى الترمذي وابن حِبَّان وأبو داود وابن ماجة وابن أبي شيبة هذا الحديث بتفاوت في الألفاظ. ورواه النَّسائي بلفظ «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في كل خفضٍ ورفعٍ وقيامٍ وقعودٍ، ويسلم عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله، حتى يُرى بياض خده، ورأيت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يفعلان ذلك» . وروى ابن أبي شيبة من طريق البراء رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلِّم عن يمينه وعن شِماله (ويقول) السلام عليكم ورحمة الله حتى يُرى بياضُ خدِّه» . وروى النَّسائي «سُئل عبد الله بن عمر عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: الله أكبر كلما وضَع، الله أكبر كلما رَفَع، ثم يقول: السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه، السلام عليكم ورحمة الله عن يساره» . فهذه نصوص تدل بوضوح على مشروعية التسليم عن اليمين وعن الشمال، كما تدل على أن التسليم يكون بصيغة: السلام عليكم ورحمة الله، يميناً وشمالاً.(2/298)
أما الوجوب فهو للتسليم عن اليمين، ويكون التسليم عن اليسار مندوباً مستحباً فحسب، والدليل على ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت « ... ثم يجلس فيتشهد ويدعو، ثم يسلم تسليمة واحدة: السلام عليكم، يرفع بها صوته حتى يوقظنا ... » رواه أحمد. وما رُوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يفتتحون القراءة بـ الحمدُ لله رب العالمين ويسلمون تسليمة» رواه البزَّار وقال الهيثمي (رجاله رجال الصحيح) . وما رواه أنس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلَّم تسليمة» رواه ابن أبي شيبة. فكونه - صلى الله عليه وسلم - قد خرج من الصلاة متحلِّلاً بتسليمة واحدة دون التسليمة الثانية عن اليسار يدل دلالة واضحة على عدم وجوب التسليمة الثانية عن اليسار، إذ لو كان تحليل الصلاة لا يتم إلا بتسليمتين اثنتين لما اكتفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخروج من الصلاة بتسليمة واحدة فحسب.
ونضيف إلى ما سبق القول إنه ما دامت التسليمة الثانية غير واجبة، وما دام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته لا يكادون يتركونها فلم يبق لنا إلا أن نقول باستحبابها، وقصر الوجوب على التسليمة الأولى عن اليمين.(2/299)
وقد وردت عدة صيغ للتسليم أكثرها روايةً وأصحُّها إسناداً هي [السلام عليكم ورحمة الله] فأرى الأخذ بها والعمل بها وترك ما سواها وذلك لما سبق من أدلة، ووردت صيغة [السلام عليكم ورحمة الله وبركاته] مرة في التسليمة الأولى، ومرة أخرى في التسليمة الثانية، فعن وائل رضي الله عنه قال «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يسلِّم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله» رواه أبو داود. فهذا في التسليمة الأولى. وروى عبد الله رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلِّم عن يمينه وعن يساره حتى يُرى بياض خدِّه: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» رواه ابن حِبَّان. فهذا في التسليمة الثانية، إلا أنَّ إسناد هذين الحديثين دون إسناد الأحاديث السابقة من حيث الصحة والقوة.(2/300)
كما وردت صيغة [السلام عليكم] فقط دون [ورحمة الله] ودون [وبركاته] فقد مرَّ قبل قليل حديث عائشة رضي الله عنها عند أحمد وجاء فيه «ثم يسلم تسليمة واحدة: السلام عليكم» . وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «كنا نقول خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلَّمنا: السلام عليكم، يشير أحدُنا بيده عن يمينه وعن شماله ... » رواه أحمد. ورواه النَّسائي وأبو داود بألفاظ متقاربة. ولكن هذه الروايات قابلتها روايةٌ لمسلم جاء فيها «كنا إذا صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين ... » . وستأتي بتمامها بعد قليل إن شاء الله. فقد ذكر مسلم هنا الصيغة الأولى [السلام عليكم ورحمة الله] مما يضعف صيغة [السلام عليكم] الواردة في هذه الروايات. ولا يبعد عندي أن الذي روى صيغة السلام عليكم في هذه الروايات كان اهتمامه مُنْصبَّاً على موضوع الإشارة بالأيدي عند التسليم، وليس مُنْصبَّاً على موضوع صيغة التسليم، فاكتفى بذكر: السلام عليكم، هكذا بإيجاز. لهذا أعود وأقول إن الأفضل والأَولى أن يكون التسليم عن اليمين وعن الشمال بصيغة [السلام عليكم ورحمة الله] ويبقى الأمر موسَّعاً على المسلمين، بأية صيغة سلَّموا أجزأتهم.
ويسن عند التسليم المبالغةُ في الالتفات يمنةً ويسرةً بحيث تظهر صفحة خده لمن يجلس خلفه، ويكون ذلك بأن يبلغ نظرُه أقصى اليمين وأقصى اليسار دون أن يتجاوز ذلك إلى النظر إلى الخلف، كما يفعل فئام من الناس، فهذا لا لزوم له ولا أصل له، فقد مرَّ قبل قليل القول «حتى أرى بياض خده» ، «حتى يُرى أو نرى بياض خديه» ، «حتى يُرى بياض خده» . وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلِّم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره مثل ذلك حتى تبدو لهم صفحتُه» رواه الطبراني. قوله صفحته: أي جانب وجهه.(2/301)
والسنة في التسليم السرعة فيه وتخفيفه دون مدٍّ أو إطالةٍ خلافاً لما يفعله كثير من الأئمة والمصلين، لما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال «حذف السلام سُنَّةٌ» رواه الترمذي هكذا موقوفاً على أبي هريرة. ورواه أحمد وأبو داود مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الموقوف أصح، ذلك أن أبا داود بعد أن روى الحديث قال (سمعت أبا عمير عيسى بن يونس الفاخوري الرملي قال: لما رجع الفريابي من مكة ترك رفع هذا الحديث وقال: نهاه أحمد بن حنبل عن رفعه) . والفريابي هو أحد رواة حديث أبي داود وأحمد، فالحديث موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه. ولكن قول الصحابي أَنَّ فِعْلَ كذا سُنَّةٌ يأخذ حكم الرفع.(2/302)
ولا تُشرع حركة الأيدي عند التسليم، لا بالتلويح بها مع كل تسليمة، ولا بالإشارة بها، ولا بالرمي بها، فعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال «كنا إذا صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: علام تُومِئُون بأيديكم كأنها أذنابٌ خيلٍ شُمْسٍ؟ إنما يكفي أحدَكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلِّم على أخيه مِن على يمينه وشماله» رواه مسلم. ورواه النَّسائي بلفظ «ما بال هؤلاء الذين يرمون بأيديهم كأنها أذناب الخيل الشُمْس؟ أما يكفي أن يضع يده على فخذه، ثم يسلِّم على أخيه عن يمينه وعن شماله؟» . وفي رواية أخرى لمسلم وأبي داود بلفظ «عن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيلٍ شُمْسٍ؟ اسكُنوا في الصلاة ... » . ورواه أحمد بلفظ جاء فيه «ما بال أقوامٍ يرمون بأيديهم كأنها أذنابُ الخيل الشُمْسِ، أَلاَ يسكن أحدُكم ويشير بيده على فخذه ثم يسلم على صاحبه عن يمينه وعن شماله؟» . قوله الشُمْس: أي الخيل التي لا تستقرُّ ولا تهدأ، بل تُحرِّك أذنابها وأرجلها باستمرار. فالإشارة باليدين والإيماء باليدين والرمي باليدين كل ذلك منهيٌّ عنه عند التسليم، وقد سبق في بحث [رفع اليدين في الصلاة] ما وقع عند أحمد من طريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه بلفظ جاء فيه «ولا يرفع يديه في شئ من صلاته وهو قاعد» . وإذن فإن الإشارة والإيماء والرمي والرفع للأيدي كل ذلك غير مشروع ومنهيٌّ عنه في التسليم وفي غيره ما دام المصلي قاعداً. ويكفي لجمع كل المنهيات قوله عليه الصلاة والسلام «اسكُنُوا في الصلاة» ، «ألا يسكُن أحدكم؟» . فالسكون هو المطلوب والمشروع وخلافُ ذلك محظور منهي عنه. ولا يستثنى من ذلك سوى تحريك السَّبَّابة في أثناء جلسة التشهد والدعاء في حالة وضع(2/303)
اليدين على الفخذين، وقد مرَّ تفصيل ذلك في بحث [التشهد وهيئة الجلوس له] .
والتسليم كما هو واجب على الإمام وعلى المنفرد فهو واجب على المأمومين، لا يكفيهم تسليم الإمام ولا يغني تسليمه عن تسليمهم، فعن عِتْبان رضي الله عنه قال «صلينا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلَّمنا حين سلَّم» رواه البخاري. ورواه النسائي ولفظه « ... فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصففنا خلفه، ثم سلَّم وسلَّمنا حين سلَّم» .
سجودُ السَّهو
حكمُهُ وأسبابُه
سجود السهو فرض واجب عند ترك فرض واجب في الصلاة، مكتوبةً كانت أو تطوعاً، ومندوب عند ترك مندوب. أما إن تُرك ركنٌ فالصلاة تبطل، ولا تُجْبَر بسجود السهو وتجب إعادتها. هذا هو الرأي الراجح في هذه المسألة، وذلك أن سجود السهو يُجبَر به نقصٌ في أمر، أو تُعالَج به زيادةٌ في أمرٍ بنسيان في هذا أو ذاك، فإن كان النقص في فرض، أو كانت الزيادة في فرض عمداً فإن سجود السهو لا محل له هنا في الحالتين، ويلحق صاحبه الإثم.(2/304)
فسجود السهو لا ينفع ولا يُشرع إلا عند النقص أو الزيادة بالنسيان فقط، ولهذا سُمي سجود السهو، والسهو والنسيان باب واحد، فالزيادة في فرض، أو النقص في فرض هما ما شُرع لهما سجود السهو عند حصولهما بسبب النسيان، وهذا ما قرره الشرع واعتبر سجود السهو مزيلاً للإثم صارفاً للحرام. فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدرِ كم صلَّى ثلاثاً أم أربعاً، فلْيطرح الشك ولْيبنِ على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلِّم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربعٍ كانتا ترغيماً للشيطان» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والحاكم وابن حِبَّان. وعن عبد الله بن بُحَيْنة الأسدي حليف بني عبد المطلب «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبِّر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلِّم، وسجدها الناس معه مكان ما نسي من الجلوس» رواه مسلم والبخاري والنَّسائي وابن حِبَّان.
في الحديث الأول يعيد سجود السهو في حالة الصلاة الرباعية خمساً يعيد هذه الصلاة شفعاً، وهذا الفعل من سجود السهو وهو إعادة الصلاة إلى أصلها أمرٌ لازم لا بد منه، إذ لولاه لبقيت الصلاة الرباعية خمساً وتراً، وبسجود السهو انتفى الخلل وتمَّ تصويبُ الصلاة، وكل ذلك واجب لا شك فيه.
والحديث الثاني يقول «سجد سجدتين ... مكان ما نسي من الجلوس» والجلوس هنا هو الجلوس الأوسط، وهذا الجلوس واجب في الصلاة الثلاثية والرباعية كما بيَّناه في فصل [صفة الصلاة] بحث [التشهد وهيئة الجلوس له] وهنا اعتبر الحديث سجود السهو حالاً محل الجلوس الأوسط الواجب، بمعنى أنه أسقط الإثم الناتج عن ترك الواجب.(2/305)
ومن هذين الحديثين نفهم وجوب سجود السهو عند ترك فرض واجب، كما يمكننا أن نفهم أن سجود السهو عند ترك مندوب مندوب، لأن الذي يحل محل الفرض فرض، والذي يحل محل المندوب مندوب. ولا يقال إن ترك فرضٍ بالنسيان ليس حراماً ولا يترتب عليه إثم، فكيف رتَّبتم هذه الحقيقة على هذا القول؟ فالجواب أن الذي ترك فرضاً بالنسيان لم يأثم ولم يرتكب حراماً ما كان ناسياً، ولكنه بعد أن يتذكر ولم يعد ناسياً فإنه آنذاك يأثم إن هو لم يتدارك ما نسيه. فالناسي فرضاً في الصلاة لا يأثم ما دام ساهياً ولا يجب عليه سجود السهو إلا إن هو تذكر فحسب. فمن ترك فرضاً بالنسيان فإنه لا يأثم، ثم إن هو تذكَّر لحقه الإثم آنذاك إن هو لم يأت به ولم يسجد له سجود السهو. وهذا أمر بالغ الوضوح لا يحتاج إلى أكثر من هذا.
وسجود السهو يُشرع عند حصول زيادة في عدد الركعات أو نقص فيها أو شكٍّ في عدد ما أتى منها، وعند ترك فرضٍ واجبٍ في الصلاة كما بدأنا أول هذا البحث به كترك التشهد الأوسط مثلاً، ويكون في هذه الحالات واجباً لا بد من الإتيان به.
ويستحب سجود السهو عند ترك مندوب كما أسلفنا عند بدء البحث هذا كترك الذكر في الركوع والسجود، وترك القنوت في الوتر، وترك التكبيرات سوى تكبيرة الإحرام، وترك الصلاة الإبراهيمية وسائر مندوبات الصلاة.(2/306)
وقد مرَّ قبل قليل حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند مسلم وغيره وفيه «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدْرِ كَمْ صلى، ثلاثاً أم أربعاً ... ثم يسجد سجدتين قبل أن يُسَلِّم ... » . فهذا دليل السجود لحصول الشك في عدد ركعات الصلاة، كما مرَّ قبل قليل حديث عبد الله بن بُحَيْنة رضي الله عنه عند مسلم وفيه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتمَّ صلاته سجد سجدتين ... » . فهذا دليل سجود السهو عند ترك واجب في الصلاة كالجلوس للتشهُّد الأوسط، وعن عبد الله رضي الله عنه قال «صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر خمساً، فقالوا: أَزِيد في الصلاة؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت خمساً، فثنى رجليه وسجد سجدتين» رواه البخاري ومسلم. ورواه أحمد وزاد في رواية «وسلَّم» . وفي رواية ثالثة لأحمد «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر أو العصر خمساً، ثم سجد سجدتي السهو، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هاتان السجدتان لمن ظن منكم أنه زاد أو نقص» . وعن عمران بن حصين رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلَّم في ثلاث ركعات من العصر ثم قام فدخل (وفي رواية عند مسلم فدخل الحجرة) فقام إليه رجل يقال له الخِرْباق، وكان في يده طول فقال: يا رسول الله، فخرج إليه فذكر له صنيعه، فجاء فقال: أَصدق هذا؟ قالوا: نعم، فصلى الركعة التي ترك ثم سلَّم، ثم سجد سجدتين ثم سلم» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة. فهذه أدلة على مشروعية سجود السهو عند الزيادة وعند النقصان.
كيفيةُ سجود السَّهو(2/307)
سجود السَّهو سجدتان اثنتان متتاليتان عاديتان، فيهما ذِكرٌ كحالهما في الصلاة وبينهما جلوس، ولهما تكبير عند الخفض وعند الرفع كالحال في الصلاة، يعقبهما جلوس يسير، ثم تسليم عن اليمين وعن الشمال دون تشهُّدٍ، ويُؤتى بهما قبل التسليم من الصلاة فهذا هو الأصل، ويجوز أن يُؤتى بهما بعد التسليم. وفي كل ذلك وردت النصوص، نأخذ منها ما يلي:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إنَّ أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلَبَس عليه حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدُكم فلْيسجد سجدتين وهو جالس» رواه مسلم وأحمد والنَّسائي والترمذي.
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العَشِيِّ إما الظهر وإما العصر، فسلَّم في ركعتين، ثم أتى جذعاً في قِبْلة المسجد فاستند إليها مُغْضَباً، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يتكلما، وخرج سُرْعانُ الناس: قُصِرت الصلاةُ، فقام ذو اليدين فقال: يا رسول الله أقُصرت الصلاة أم نسيتَ؟ فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - يميناً وشمالاً فقال: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق، لم تصلِّ إلا ركعتين، فصلى ركعتين وسلم، ثم كبَّر ثم سجد، ثم كبَّر فرفع، ثم كبَّر وسجد، ثم كبَّر ورفع، قال: وأُخبرت عن عمران بن حصين أنه قال: وسلَّم» رواه مسلم والبخاري وأحمد والنَّسائي والترمذي. ورواه أبو داود بلفظ « ... فصلى الركعتين الباقيتين، ثم سلَّم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع وكبَّر ثم كبَّر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع وكبَّر ... » .
3- عن عبد الله بن بُحَيْنة رضي الله عنه قال «صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمَه كبَّر فسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم، ثم سلَّم» رواه مسلم والبخاري وأحمد وأبو داود والنَّسائي.(2/308)
4- عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدْرِ كم صلى ثلاثاً أم أربعاً، فلْيطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلِّم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربعٍ كانتا ترغيماً للشيطان» رواه مسلم وأحمد والبيهقي وابن حِبَّان. وقد مرَّ قبل قليل.
الحديث الرابع جاء الأمر فيه بالسجود قبل التسليم، والحديث الثالث جاء فيه الفعل منه - صلى الله عليه وسلم - كذلك، وهذان الحديثان يدلاَّن على أن سجود السهو إنما يكون قبل التسليم، هذه واحدة. أما الثانية فهي أن سجود السهو هو في حقيقته جزءٌ من الصلاة وتتمَّةٌ لها، وليس هو صلاة منفردة مستقلة بذاتها، فهو من ضمن الصلاة وليس خارجاً عنها، وما دام أنه من الصلاة وجزء منها فإنَّ الأصل إذن أن يقع قبل التسليم، مثله مثل سائر أجزاء الصلاة، ولهذا قلنا إن الأصل في سجود السهو هو أن يكون قبل التسليم. والذي دعانا إلى هذا القول والوقوف عنده هو أن الرأي الآخر القائل بأن سجود السهو يكون بعد التسليم لديه أدلته القوية الصحيحة، وهو رأي وجيه معتبَر بلا شك، ولولاه لذهبنا إلى القول إنه الرأي الصواب وحده دون سواه، ولهذا اكتفينا بالقول إن الأصل في سجود السهو أن يكون قبل التسليم، ويجوز أن يكون بعده. أما أدلة من ذهبوا إلى القول بأن سجود السهو إنما يكون بعد التسليم فهي:
أ- عن عبد الله رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد سجدتي السهو بعد السلام أو الكلام» رواه مسلم.(2/309)
ب- عن عبد الله رضي الله عنه قال «صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - - قال إبراهيم لا أدري زاد أو نقص - فلما سلَّم قيل له: يا رسول الله أَحَدَث في الصلاة شئ؟ قال وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجليه واستقبل القِبلة، وسجد سجدتين ثم سلَّم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: إنه لو حدث في الصلاة شئ لنبَّأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلُكم أنسى كما تنْسَون، فإذا نسيت فذكِّروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فلْيتحرى الصواب فلْيُتِمَّ عليه، ثم ليسلِّم ثم يسجد سجدتين» رواه البخاري وأحمد وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة. ورواه مسلم بلفظ « ... وإذا شك أحدكم في صلاته فلْيتحرَّ الصواب، فلْيُتِمَّ عليه ثم ليسجد سجدتين» ، بحذف [ثم ليسلم] الواردة في رواية البخاري.
ج - الحديث رقم 2 أعلاه، وفيه «فصلى ركعتين، وسلَّم ثم كبَّر ... » .
فأدلة هؤلاء موازية ومعادلة للأدلة على الرأي الذي رجَّحْتُه، ولولا أن سجود السهو جزء من الصلاة ومتمِّمٌ لها في حقيقته لقلت بالتخيير بين الرأي هذا والرأي ذاك، ولهذا قلت إن الأصل هو أن يكون السجود قبل التسليم، ويجوز أن يكون بعده، بمعنى أن الأفضل الإتيان بالسجود قبل التسليم.
وقد ذهب الفقهاء مذاهب شتى في هذا الموضوع، فمِن قائلٍ إن سجود السهو يجب أن يكون قبل التسليم فقط، إلى قائل إنه يجب أن يكون بعد التسليم فقط، إلى قائل إنه يكون قبل التسليم عند حصول نقص في الصلاة، ويكون بعد التسليم عند حصول زيادة، إلى قائل إنَّ كل حديث من الأحاديث يستعمل فيما جاء فيه، إلى غير ذلك من الآراء والأقوال، والقليل القليل من هؤلاء من قال بالتخيير بين السجود قبل التسليم وبين السجود بعده، مع أن المتمعن في النصوص يجد نفسه يأخذ بهذا الرأي الأخير.(2/310)
ذلك أن الأحاديث كلها صحيحة وليس فيها نسخ، ودلالاتها واضحة لا تحتمل التأويل، ولولا ما قلته من جُزْئية سجود السهو للصلاة مما جعلني أقول بأفضلية السجود قبل التسليم لأخذت بهذا الرأي، وعلى أية حال فالرأيان متقاربان.
ونأتي الآن إلى مسألة التشهد في سجود السهو. قال ناس بوجوب التشهُّد عقب سجدتي السهو، مستدلين بأحاديث أظهرها وأقواها سنداً ما رواه عمران بن حصين رضي الله عن «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم فسها، فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلَّم» رواه أبو داود والترمذي والحاكم وابن حِبَّان. وما سوى هذا الحديث فأحاديث ضعيفة لا يُعتدُّ بها. وهذا الحديث وإن صححه ناس فقد ضعفه ناس آخرون منهم البيهقي وابن عبد البَرِّ وابن حجر، فلا أراه يصلح للاستدلال. وتبقى النصوص القائلة بسجود السهو خالية من ذكر التشهد. ثم إن سجود السهو في حقيقته هو جزء من الصلاة، والصلاة أية صلاة تختم بتشهُّدٍ واحد، فلا تحتاج هذه الصلاة إلى تشهدٍ ثانٍ، إلا أن تأتي النصوص الصحيحة بذلك، ولم ترد نصوص صحيحة بذلك.
وأخيراً أقول ما يلي: إذا نسي المصلي أن يجلس للتشهد، فأمكنه أن يأتي به قبل أن يقوم ويعتدل واقفاً فليفعل، أما إن قام واعتدل واقفاً فلا يصح له أن يعود للجلوس، بل يكمل صلاته ويسجد في نهايتها سجود السهو، وذلك لما رُوي عن عبد الرحمن بن شِماسة أنه قال «صلى بنا عقبة بن عامر، فقام وعليه جلوس، فقال الناس وراءه: سبحان الله فلم يجلس، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين وهو جالس فقال: أني سمعتكم تقولون: سبحان الله، كيما أجلس، وليس ذلك سنة، إنما السنة الذي صنعته» رواه ابن حِبَّان والحاكم والبيهقي.
العملُ عند حصول الشك في عدد الركعات(2/311)
عند حصول الشك في أثناء الصلاة في عدد الركعات المُؤدَّاة منها، يجب على الشَّاكِّ أن يتحرى الصواب واليقين، فإن وصل إليهما بنى عليهما وأتمَّ صلاته ثم سجد سجدتي السهو، وإن هو لم يتوصل إلى الصواب واليقين وبقي الشك قائماً هل صلَّى ثنتين أم ثلاثاً، أو هل صلى ثلاثاً أم أربعاً أخذ بالأقل منهما، أي أخذ بالثنتين وطرح الثالثة، أو أخذ بالثلاث وطرح الرابعة، ثم بنى على ذلك وأتم صلاته، ثم سجد أيضاً سجدتي السهو، فقد مرَّ الحديث عند البخاري وغيره من طريق عبد الله رضي الله عنه وجاء فيه « ... وإذا شك أحدكم في صلاته فلْيتحرى الصواب فلْيُتِمَّ عليه ... » . كما مرَّ الحديث عند مسلم وغيره من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وجاء فيه «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يَدْرِ كم صلى ثلاثاً أم أربعاً فلْيطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين ... » .
وهذا الشك وخفاء الصواب إنما هو من فعل الشيطان ووسوسته كما جاء في الحديث المارِّ قبل قليل عن أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم وغيره وجاء فيه «إن أحدكم إذا قام يصلي، جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى ... » . فحتى يتخلص المسلم من هذا الشيطان أذكر لكم ما رُوي عن عثمان بن أبي العاص أنه قال «يا رسول الله حال الشيطان بيني وبين صلاتي وبين قراءتي، قال: ذاك شيطان يقال له خَنْزَب، فإذا أنت حسسته فتعوَّذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثاً، قال، ففعلتُ ذاك فأَذهبَ الله عزَّ وجلَّ عني» رواه أحمد.
الفصل السابع
القنوتُ والخشوع في الصلاة
تمهيدٌ(2/312)
بحثنا في الفصل السابق تحت عنوان [صفة الصلاة] مُكوِّنات الصلاة من أقوال وأفعال، فذكرنا الأقوال والأفعال التي تشكل بمجموعها الصلاة، ونريد أن نبحث في هذا الفصل تحت عنوان [القنوت والخشوع في الصلاة] معاني هاتين اللفظتين وما تدلان عليه، ونبين أن القنوت في هذا الفصل يعني الامتناع عن الأقوال غير المشروعة، وأن الخشوع يعني الامتناع عن الأفعال غير المشروعة في الصلاة، ونبدأ بالكلام على القنوت وما يدل عليه، ثم نتكلم على الخشوع وما يدل عليه.
1ــ القُنُوتُ في الصلاة
أصل القنوت في اللغة الدوام على الشئ، ومن هذا المعنى تفرعت معانٍ عدة. وأما في الشرع فهو دوام الطاعة لله عزَّ وجلَّ، ومنه قوله عزَّ وجلَّ {ومَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صَالِحَاً نُؤْتِهَا أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقَاً كَرِيْمَاً} الآية 31 من سورة الأحزاب. وقوله تعالى {إنَّ إبراهِيْمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتَاً للهِ حَنِيْفَاً ولَمْ يَكُ مِن المُشْرِكِيْنَ} الآية 120 من سورة النحل. وقوله سبحانه {وقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدَاً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} الآية 116 من سورة البقرة. وكثير غيرها، وكلها تعني دوام الطاعة لله عزَّ وجلَّ وما تستلزمه الطاعة من تذلل وخضوع.(2/313)
إلا أن هذه اللفظة قد استُعملت لمعانٍ أخرى في الشرع، فربما أُطلقت وأُريد بها الدعاء، ومنه ما رُوي عن البراء بن عازب رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت في صلاة الصبح والمغرب» رواه الترمذي. وما رُوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً بعد الركوع يدعو على أحياءٍ من العرب ثم تركه» رواه ابن حِبَّان. وما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال «قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دُبُر كلِّ صلاة ... » رواه ابن خُزَيمة. ومِن ذلك يقال دعاء القنوت.
وربما أُطلقت وأُريد بها طول القيام، ومنه ما ورد عن جابر رضي الله عنه أنه قال «سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت» رواه أحمد والترمذي وابن حِبَّان وابن ماجة. قوله طول القنوت: أي طول القيام.
وتطلق لفظة القنوت ويُراد بها السكوت والامتناع عن الكلام، ومنه ما ورد عن زيد ابن أرقم رضي الله عنه أنه قال «كنا نتكلم في الصلاة، يُكلِّم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: وقوموا لله قانتين، فأُمِرنا بالسكوت ونُهينا عن الكلام» رواه مسلم وأبو داود والترمذي. فكلمة قانتين في هذه الآية تعني ساكتين مُمْسِكين عن كلام الناس. هذا هو المعنى المقصود من القنوت في هذه الآية الكريمة أخذاً من سبب النزول، وهذا المعنى هو مدار البحث هنا. ولكننا ونحن نأخذ هذا المعنى لا ننسى المعنى العام للقنوت وهو دوام الطاعة لله عزَّ وجلَّ.(2/314)
فالقنوت مدار البحث إذن هو الامتناع عن الكلام مع الناس وعدم مخاطبة الآدميين، والاقتصار في الصلاة على مخاطبة الله سبحانه دون سواه، لتبقى الصلاة كلُّها لله، ولتبقى الطاعة كلها له، ولتبقى العبادة كلها خالصة لله رب العالمين. فأيُّ كلام مع غير الله هو قطعٌ لطاعة الله، وهو وقفٌ للقنوت، وبالتالي هو إنقاص للصلاة، فعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «إن الرجل لينصرف وما كُتِب له إلا عُشْرُ صلاته تُسُعُها ثُمُنُها سُبُعُها سُدُسُها خُمُسُها رُبُعُها ثُلُثُها نِصْفُها» رواه أبو داود. ورواه ابن حِبَّان ولفظه «إن الرجل ليصلي الصلاة ولعله لا يكون له منها إلا عُشْرُها أو تُسُعُها أو ثُمُنُها أو سُبُعها أو سُدُسُها حتى أتى على العدد» .
فإذا صلى المسلم فأدى واجبات الصلاة كلَّها ولم يرتكب حراماً حصَّل صلاة تامة، وإن انتقص من واجباتها شيئاً أو ارتكب حراماً حصَّل صلاة ناقصة بقدر ما انتقص من واجباتها أو فعل فيها من حرام، حتى يصلي فلا يحصِّل إلا عُشْر صلاةٍ أو ربعَ صلاة أو نصفَ صلاة، فمن تكلم مع غيره وهو في الصلاة فقد قطع بكلامه طاعته لله فانتقص بذلك من صلاته بقدر ما تكلم، وما ينبغي له أن يفعل ذلك، لأنه مأمور بدوام الطاعة مشغولٌ بها عما سواها من الأقوال، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «كنا نسلِّم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلَّمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا: يا رسول الله كنا نسلِّم عليك في الصلاة فترد علينا، فقال: إن في الصلاة لشُغلاً» رواه مسلم وأبو داود وابن أبي شيبة وأحمد.(2/315)
نعم إنَّ مَن صلى كان في شغل بمخاطبة ربه عزَّ وجلَّ عن مخاطبة غيره. ويزيد الأمرَ وضوحاً ما جاء من طريق عبد الله رضي الله عنه قال «كنا نسلِّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ كنا بمكة قبل أن نأتي أرض الحبشة، فلما قَدِمنا من أرض الحبشة أتيناه فسلمنا عليه فلم يردَّ، فأخذني ما قَرُب وما بَعُدَ حتى قضَوا الصلاة فسألته فقال: إن الله عزَّ وجلَّ يُحْدِث في أمره ما يشاء، وإنه قد أحدث من أمره أن لا نتكلم في الصلاة» رواه أحمد. ورواه أبو داود وابن حِبَّان والنَّسائي وابن أبي شيبة باختلاف في الألفاظ. ورواه أبو يعلى وعبد بن حميد وفيه « ... وإذا كنتم في الصلاة فاقْنُتُوا ولا تَكَلَّموا» . قوله فاقنتوا ولا تكلَّموا صريحُ الدلالة على أن القنوت يعني السكوت والامتناع عن الكلام.(2/316)
فالقانت هو الذي لا يتكلم في صلاته إلا الكلام المشروع من قراءةٍ وذكرٍ لله عزَّ وجلَّ، فعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال «بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عطس رجلٌ من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثُكْلَ أُمِّتاه، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكنِّي سكتُّ، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبأبي وأُمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كَهَرَني ولا ضربني ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه مسلم وأحمد والدارمي والنَّسائي. ورواه أبو داود وجاء فيه «إن هذه الصلاة لا يحلُّ فيها شئ من كلام الناس هذا، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» . قوله في الحديث «فلما رأيتهم يصمتونني لكني صمتُّ» يبدو فيه حذفٌ ومن ثَمَّ لَبسٌ، وقد جاء في رواية ابن حِبَّان لفظ يزيل اللبس «فلما رأيتهم يصمتوني لكي أسكت سكتُّ» ووقع عند الطحاوي لفظ «فلما رأيتهم يسكتونني سكتُّ» .(2/317)
فالصلاة عبادة، والعبادة كلها لله سبحانه، فأقوالها قراءةٌ وذِكرٌ ودعاءٌ وتسبيحٌ وتحميدٌ، وكله لله عزَّ وجلَّ، وما سواه مما لم يُشْرع في الصلاة، ومما هو موجَّه لغير الله فغير صالحٍ في الصلاة بدلالة الرواية الأولى، وحرام لا يحلُّ بدلالة الرواية الثانية، وكلاهما يدلان على وجوب القنوت. ومن هنا فإن تشميت العاطس والتسليم على الناس والحديث مع الناس في مختلف الشؤون حرام لا يجوز في أثناء الصلاة. ويكفي أن نتذكر الحديث الذي مرَّ في بحث [حكم تكبيرة الإحرام] وهو ما رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمُها التكبير، وتحليلُها التسليم» رواه أحمد والترمذي. فإن فيه (وتحريمها التكبير) ومعناه أن الدخول في الصلاة بالتكبير يجعل كل كلام غير كلام الصلاة محرَّماً، وهذا الحكم عام يشمل المكتوبة كما يشمل النافلة، ويشمل الإمام كما يشمل المنفرد، كما يشمل المأموم.(2/318)
والكلام في الصلاة صنفان: صنف مشروع متعين كقراءة الفاتحة والتكبير والتسبيح والتشهد، وصنف مشروع غير متعيِّن كالأدعية في الركوع والسجود والجلوس، وكذِكر الله تعالى مما ندب إليه واستُحب. أما الصنف الأول فهو من الأقوال التي تتشكل الصلاة منها، وأما الصنف الثاني فهو من الأقوال والكلام المأذون به في الصلاة، وهو دون الأقوال التي تتشكل الصلاة منها، بمعنى أنه لو قالها أو لم يقلها أو أكثر منها أو قلَّل، فالصلاة باقية على حالها وشكلها. وقد مرَّ في الفصل السابق الدعاء والتعوُّذ والذِّكر المأذون به في الصلاة بل والمستحب أيضاً فلا نعيد. ونضيف هنا إلى ما سبق أن من المأذون به من الكلام والدعاء هو ما يصاحب قراءة القرآن، فالمصلي إذا قرأ القرآن في الصلاة وقف عند آيات الله يدعو ويتعوَّذ بما يتناسب مع ما يقرأ، فعن حذيفة رضي الله عنه قال «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، ما مرَّ بآيةِ رحمة إلا وقف عندها فسأل، ولا مرَّ بآية عذاب إلا وقف عندها فتعوَّذ» رواه ابن خُزَيمة. وعن حُذيفة رضي الله عنه قال «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسِّلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذ تعوَّذ ثم ركع ... » رواه مسلم. وقد مرَّ في بحث [قراءة ما زاد على الفاتحة من القرآن في الصلاة] .(2/319)
فهذه الأدعية والتعُّوُّذات تندرج تحت ذكر الله سبحانه، فقد جاء في رواية لأبي داود من طريق معاوية بن الحَكَم السلمي قوله - صلى الله عليه وسلم - «إنما الصلاة لقراءة القرآن وذكرِ الله عزَّ وجلَّ، فإذا كنتَ فيها فليكن ذلك شأنك» . فقوله (إنما) يفيد الحصر، فيحصر الكلام بقراءة القرآن وذكر الله عزَّ وجلَّ، ولا يزاد عليهما مما يخاطب به الناس. وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مُنع من كلام الناس في الصلاة فنحن ممنوعون منه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منطلق إلى بني المُصْطَلق، فأتيته وهو يصلي على بعيره فكلمته، فقال لي بيده هكذا - وأومأ زهير بيده، ثم كلمته فقال لي هكذا - فأومأ زهير أيضاً بيده نحو الأرض، وأنا أسمعه يقرأ يومئ برأسه، فلما فرغ قال: ما فعلتَ في الذي أرسلتك له؟ فإنه لم يمنعني أن أُكلمك إلا أني كنت أُصلي ... » رواه مسلم وأحمد وأبو داود. فهذا دليل قطعي الدلالة على أن الكلام مع الناس ممنوع في أثناء الصلاة.(2/320)
أما الكلام مع النفس فلا بأس به شرطَ أن يكون مِن ذكر الله سبحانه، فلو عطس المصلي في صلاته فلا بأس بأن يقول (الحمد لله، أو الحمد لله على كل حال) ، ولو سمع صوت الرعد وهو يصلي فلا بأس بأن يقول (اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تُهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك) ، ولو سمع صوت الريح الشديدة وهو في الصلاة فلا بأس بأن يقول (اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً) وهكذا مما يدخل تحت الدعاء وذكر الله سبحانه، فعن رفاعة رضي الله عنه قال «صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعطستُ فقلتُ: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه مباركاً عليه كما يحبُّ ربنا ويرضى، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف فقال: مَن المتكلم في الصلاة؟ فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثانية: مَن المتكلم في الصلاة؟ فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثالثة: مَن المتكلم في الصلاة؟ فقال رفاعة بن رافع بن عفراء: أنا يا رسول الله، قال: كيف قلت؟ قال قلت: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه مباركاً عليه كما يحبُّ ربنا ويرضى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضعةٌ وثلاثون مَلَكاً أيهم يصعد بها» رواه الترمذي. ورواه النَّسائي باختلاف يسير.
وهناك حالتان اثنتان يجوز فيهما الكلام الموجَّه للآخرين وردت بهما أحاديث شريفة تستثنيهما من وجوب القنوت والسكوت فيُقتَصر عليهما ولا يجوز تعدِّيهما أو القياس عليهما، ومع ذلك وجب أن يكون الكلام مما يصلح للصلاة من القرآن والذِّكر لا غير، وهاتان الحالتان هما: حالة الفتح على الإمام، وحالة احتياج المصلي لتنبيه غيره إلى خطأ أو نائبةٍ من النوائب.(2/321)
أما الإمام فإنَّه إن صلى بالناس صلاة جهرية فأخطأ في قراءة القرآن، أو لم يُسعفه حفظُه فوقف عن القراءة، فإن للمصلين أن يُسْعِفُوه بقراءة الآية أو الآيات التي أخطأ بقراءتها أو نسيها فلم يذكرها، ولا يزيدون على القراءة شيئاً. وأما إن أخطأ الإمام في فعلٍ من أفعال الصلاة كأَن جلس في آخر الركعة الأولى، أو أراد النهوض من الركعة الثانية دون جلوس فإن المصلين يسبحون بالقول (سبحان الله) إن كانوا رجالاً، ويصفقن بأكُفِّهِنَّ فحسب إن كنَّ نساء.
وكذلك يسبحون إن نابتهم نائبة في أثناء صلاتهم. والدليل على جواز الكلام مع الغير في الحالة الأولى ما رواه المُسَوَّر بن يزيد المالكي قال «شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصلاة، فترك شيئاً لم يقرأه، فقال له رجل: يا رسول الله تركتَ آيةَ كذا وكذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هلا أذْكَرْتَنيها؟» رواه أبو داود وابن حِبَّان. وفي رواية أخرى لابن حِبَّان من طريق المُسَوَّر بن يزيد «قال فهلا أذكَرْتَنيها؟ قال: ظننت أنها قد نُسخت، قال: فإنها لم تُنسَخ» . وما رواه عبد الله ابن عمر رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاةً فالتبس عليه، فلما فرغ قال لأُبيٍّ: أشهدت معنا؟ قال: نعم، قال: فما منعك أن تفتحها عليَّ؟» رواه ابن حِبَّان. ورواه أبو داود إلا أنه لم يورد (أن تفتحها عليَّ) وما رواه الحاكم بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه أنه قال «كنا نفتح على الأئمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» .(2/322)
والدليل على جواز الكلام مع الغير في الحالة الثانية هو ما رواه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «مَن نابه شئ في صلاته فليقل: سبحان الله، إنما التصفيق للنساء والتسبيح للرجال» رواه أحمد والطحاوي. وروى ابن حِبَّان من طريق سهل بن سعد رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليُصلح بينهم وحانت الصلاة، فجاء بلال إلى أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه فقال: أتصلي للناس فأُقم؟ قال: نعم، فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس في الصلاة فتخلَّص حتى وقف في الصف فصفَّق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناسُ التصفيقَ التفت أبو بكر فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أثبُتْ مكانك، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله تعالى على ما أمره به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، وتقدَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى، فلما انصرف قال: يا أبا بكر ما منعك أن تلبث إذ أمرتُك؟ فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قُحافة أن يصلي بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ مَن نابه شئ في صلاته فليسبِّح، فإنه إن سبِّح التُفِتَ إليه، وإنما التصفيق للنساء» . وفي رواية أخرى لابن حِبَّان من طريق سهل بن سعد « ... ثم قال للناس: إذا نابكم في صلاتكم شئ فلْيسبح الرجال ولْتصفِّق النساء» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «التسبيح للرجال والتصفيق للنساء» رواه مسلم وأحمد وابن ماجة وابن حِبَّان والطَّحاوي. وفي رواية أخرى لمسلم والنَّسائي بزيادة «في الصلاة» في آخرها.(2/323)
وأُكرِّر القول إن الكلام مع الغير في هاتين الحالتين إنما يكون بكلامٍ من جنس كلام الصلاة المشروع أو المأذون فيه، أي من الكلام المخاطَب به ربُّ العالمين، وليس من الكلام المخاطَب به البشر، فلا يزيد الرجل إن احتاج لمخاطبة الغير على أن يسبِّح، والتسبيح من جنس كلام الصلاة، ولا يزيد الرجل إن احتاج للفتح على الإمام على أن يقرأ الآيات التي سها عنها إمامُه أو أخطأ في تلاوتها دون أيةِ إضافةٍ أخرى من كلام الناس في الحالتين، وما سوى ذلك فالقنوت واجب الالتزام، وهو يعني السكوت والامتناع عن كلام الناس.
والمسكوت عنه هو الكلام، والكلام يعني الألفاظ ذوات الحروف، فما لا حروف فيه فليس بكلام، ومِن ثَمَّ فليس بمحظور، ولا يتنافى مع القنوت، فالبكاء وإن كان بصوت مسموع فإنه ليس كلاماً ومِن ثّمَّ فليس بمحظور، فهذا مُطرِّف بن عبد الله قد روى عن أبيه أنه قال «انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، ولِصدره أَزيزٌ كأزيز المِرْجل من البكاء» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي. وإن علياً رضي الله عنه قال «ما كان فينا فارسٌ يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتُنا وما فينا قائمٌ إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح» رواه ابن حِبَّان وأحمد. والأدلة على جواز البكاء في الصلاة كثيرة ومعروفة.(2/324)
والنفخُ وإن كان بصوت مسموع فإنه غير محظور، لأنه ليس كلاماً حتى ولو خرج بحروف، قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يصف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في كسوف الشمس «وجعل ينفخ في الأرض ويبكي وهو ساجد في الركعة الثانية وجعل يقول: ربِّ لِمَ تعذبهم وأنا فيهم؟ ربِّ لِمَ تعذبنا ونحن نستغفرك؟ فرفع رأسه وقد تجلَّت الشمس ... » رواه أحمد. ورواه أبو داود وجاء فيه « ... ثم نفخ في آخر سجوده فقال: أف أف، ثم قال: رب ألم تَعِدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم؟ ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟ ففرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلاته وقد أَمْحَصَت الشمسُ» . قوله أَمْحَصت: أي ظهرت وانجلت. فهذان دليلان على جواز النفخ في الصلاة، دليلٌ على مطلق النفح، وآخر على النفخ بحرفين اثنين، فماذا يقول أصحاب القول بحرمة إخراج أي صوت بحرفين، الذين يعدُّون ذلك كلاماً؟.
نعم نحن نقول بحرمة الكلام بحرفين، بل ونقول بحرمة الكلام بحرف واحد مثل فعل الأمر: قِ أو فِ أو عِ، من وقى ووفى ووعى، ما دام الحرف قد خرج على أنه كلام، أما إن خرج صوتٌ من غير جنس الكلام فما دليلهم على تحريمه؟ فهذا صوت قد خرج بحرفين [أف أف] وخرج مكرَّراً، أي خرج بأربعة حروف، أخرجه رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -، فهل يبقى لهم عذر بعد ذلك؟.(2/325)
والنحنحة وإن كانت بصوت مسموع، وإن خرجت بحرف أو بحرفين أو حتى بثلاثة (إِ حِ مْ) ، فهي ليست كلاماً، ومن ثَمَّ فإنها ليست محظورة، وهذا كافٍ وحده، ومع ذلك فإن عندنا ما يدل على جوازها من النصوص، فعن علي رضي الله عنه قال «كان لي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساعةٌ آتيه فيها، فإذا أتيتُه أستأذنت إن وجدته يصلي فتنحنح دخلتُ، وإن وجدته فارغاً أَذِن لي» رواه النَّسائي. ومثل النفخِ والنحنحةِ والبكاءِ: الأنينُ والتَّوجُّعُ والحشرجةُ، لأن الدليل قد قام على تحريم الكلام، والكلام هو المعهود والمعروف، وما سواه فغير داخل في هذا الدليل.
والكلام مع الناس في الصلاة، هل هو من مبطلاتها وما يترتب على ذلك من وجوب الإعادة، أم هو حرام فحسب يأثم صاحبه وينقص من صلاته ولا يترتب عليه إعادة الصلاة؟ قال ابن المنذر (أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامداً وهو لا يريد إصلاح صلاته أن صلاته فاسدة، واختلفوا في كلام الساهي والجاهل) . وقال الترمذي (العملُ عليه عند أكثر أهل العلم قالوا: إذا تكلم الرجل عامداً في الصلاة أو ناسياً أعاد الصلاة) . وقال قوم: إذا تكلم الرجل عامداً في الصلاة أعادها، وإذا تكلم ناسياً أو جاهلاً صحَّت صلاته. وعزاه النووي إلى الجمهور.
وقد استدل من قال ببطلان صلاة المتكلم بقوله عليه الصلاة والسلام «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس» وهو طرفٌ من حديث رواه مسلم وغيره من طريق معاوية بن الحكم وقد مرَّ قبل قليل. فقالوا إنَّ كون الكلام لا يصلح في الصلاة معناه أنه يُفسد الصلاة، فإذا أفسدها أبطلها ووجبت إعادتها. وأخذ قوم من هؤلاء بقاعدة أنَّ ما يحرم في الصلاة يبطلها.(2/326)
فنقول لهؤلاء: إننا نسلِّم بأن الكلام في الصلاة لا يصلح فيها وأنه حرام لا يجوز، ولكننا ونحن نقول بهذا إنما نقف عند دلالات النصوص ولا نتعداها إلى افتراضات أو استنتاجات لا تحتملها هذه النصوص، فمن أين لهم أن كل محرَّم في الصلاة يبطلها؟ ومن أين لهم أنَّ ما لا يَصلح في الصلاة يبطلها؟.
أما أخذُهم بقاعدة أن ما يحرم في الصلاة، أو أن ترك واجبٍ في الصلاة يبطلها فهو أيضاً خطأ، والصحيح هو أنه لا يبطل الصلاة إلا ترك شرط من شروطها، أو ترك ركن من أركانها، وما سوى ذلك لا يبطل الصلاة ولا يفسدها. ولا أُريد الدخول في أبحاث علم الأصول أكثر من ذلك لأن مكانه ليس هنا، وإنما أردُّ عليهم بما رواه معاوية بن الحكم وقد مرَّ قبل قليل «إذ عطس رجلٌ من القوم فقلت: يرحمك الله ... قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس» . فهذا معاوية قد تكلم، فأعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الكلام في الصلاة لا يصلح، وجاء في رواية أبي داود «إن هذه الصلاة لا يحلُّ فيها شئ من كلام الناس هذا» . أي أعلمه بحرمة ما قام به ولم يزد على ذلك، فلم يطالبه بالإعادة، فدل ذلك على أن صلاته لم تبطل بفعل الحرام. ولا يصح تأويل هذا النص بالقول إنه وإن لم يذكر الطلب من معاوية بالإعادة فإن ذلك لا يمنع من أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد طلب منه الإعادة، فنقول لهؤلاء: حتى يثبت قولكم هذا نقول له. فهذا دليل واضح على أن الكلام حرام، وعلى أن الحرام في الصلاة لا يبطلها ولا يفسدها، وهو ردٌّ كافٍ على أحد الاستدلالين.(2/327)
أما استدلالهم الأول وهو أن القول «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس» يدل على فساد صلاة المتكلم، فمنقوض هو الآخر بحديث معاوية بن الحكم نفسه، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع كلام معاوية في الصلاة، وأفهمه أنه فعل حراماً، وأنه فعل ما لا يصلح في الصلاة، واكتفى بهذا البيان ولم يزد عليه أمراً بوجوب الإعادة. فالقول إذن بوجوب الإعادة هو تقوُّلٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو لا يجوز.
وأما قولهم إن الكلام جهلاً لا يبطل الصلاة، وإن معاوية هذا تكلم جاهلاً والجاهل معذور، فالرد عليهم هو أن ما يُبطِل الصلاة من ترك شرط أو ترك ركن لا يجعل فاعلَه جهلاً ناجياً من بطلان صلاته ووجوب إعادتها، ذلك أنَّ من صلى دون وضوء جهلاً أو نسياناً، أو من صلى قبل دخول الوقت جهلاً أو نسياناً، أو من صلى فترك الركوع جهلاً أو نسياناً فصلاته باطلة، وتجب عليه إعادتها، ولا ينفعه جهله ولا سهوه هنا، وبناء على هذا فإنا نقول إنَّ معاوية بن الحكم لو فعل ما يبطل الصلاة، سواء كان ذلك جهلاً أو نسياناً، فإن صلاته تصبح باطلة، وعندئذٍ يأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة، فلما وجدنا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بإعادتها، فقد دل ذلك على أن الكلام ليس من مبطلات الصلاة.
وأيضاً قد روى أبو هريرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم في الصلاة ناسياً، فبنى على ما صلى» رواه الطبراني. فقوله «فبنى على ما صلى» بعد أن تكلم ناسياً، يدل بما لا لبس فيه على أن الكلام نسياناً لا يُبطل الصلاة، وأن هذا الحديث يعضد الفهم الذي ذهبنا إليه من أن معاوية بن الحكم لم يُؤمر بالإعادة.(2/328)
وأيضاً عندنا حديث ذي اليدين وهو من الأحاديث الصحيحة المشهورة، وهذا الحديث رواه مسلم وأبو داود وابن حِبَّان وابن ماجة من طريق أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه مسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجة من طريق عمران بن الحصين، ورواه ابن ماجة من طريق ابن عمر، ورواه مسلم والترمذي من طريق أبي هريرة بلفظ غير ما سبق، ونكتفي بإيراد الرواية الأخيرة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العصر، فسلَّم في ركعتين، فقام ذو اليدين فقال: أقُصِرت الصلاةُ يا رسول الله أم نسيتَ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل ذلك لم يكن، فقال: قد كان بعضُ ذلك يا رسول الله، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس فقال: أصدق ذو اليدين؟ فقالوا: نعم يا رسول الله، فأتمَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بقي من الصلاة، ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم» رواه مسلم والترمذي. فهنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تكلم بعد التسليم من ركعتين لصلاة العصر، وتكلم المسلمون، ثم قام بعدئذٍ بإِتمام ما بقي من صلاته واصلاً الركعتين الأُوليين بركعتين أُخريين، ولم نره يستأنف صلاته معلناً بطلانها. ولمن شاء أن يقول إنه تكلم ناسياً، ولمن شاء أن يقول إنه تكلم جاهلاً نقول: إنه لو كان الكلام من مبطلات الصلاة لعلَّمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصحابته بدرس عمليٍّ فأعاد الصلاة بهم، فلما رأيناه لم يفعل ذلك، وإنما بنى على ما صلى وأتم صلاته، فقد دل ذلك دلالة بالغة الوضوح على أن الكلام ليس من مبطلات الصلاة.(2/329)
وأيضاً عندنا حديث المسئ صلاته وهو أيضاً من الأحاديث الصحيحة المشهورة، وقد رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود وغيرهم من طريق أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد، فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلَّم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فردَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه السلام فقال: ارجع فصلِّ فإنك لم تُصَلِّ، ثلاثاً، فقال: والذي بعثك بالحق ما أُحسنُ غيره فعلِّمني، قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» . فانظر كيف أرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل ثلاث مرات قائلاً له إنه لم يُصلِّ، بمعنى أن صلاته كانت باطلة، فلماذا أرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الرجل ثلاث مرات ولم يُرجع معاوية بن الحكم مرة واحدة؟ إنه ما كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسكت عن معاوية بن الحكم فلا يأمره بالإعادة لو كان قد صلى صلاة باطلة، فلما رأيناه قد سكت عنه فقد دل ذلك على صحة صلاة معاوية، وكونه عليه الصلاة والسلام قد أعلم معاوية بأنه ارتكب حراماً في صلاته فقط، فإن ذلك يدل دلالة مؤكدة على أن فعل الحرام في الصلاة لا يبطلها.(2/330)
ما يراه هذا الفريق من أن الكلام الذي يحصل جهلاً لا يبطل الصلاة، وأن الكلام المتعمَّد هو المُبطل فحسب، فالرد عليهم بأن الذي يبطل الصلاة يبطلها في حالتي العمد والجهل بدلالة حديث المسئ صلاته، فإنه صلى ثلاث مرات جهلاً بمبطلات الصلاة فلم ينفعه جهله وبطلت صلاته، مما يدل دلالة مؤكدة على أن مبطلات الصلاة تبقى مبطلات في حالتي العلم والجهل على السواء. ولهذا فلو كان الكلام من المبطلات لكان أبطل صلاة معاوية بن الحكم، لأن الجهل لا يغني شيئاً بخصوص المبطلات كما أثبتنا، فلما عَلِمنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أبطل صلاة المسئ صلاته رغم أنه صلى جاهلاً، وعلمنا أنه عليه الصلاة والسلام لم يبطل صلاة معاوية بن الحكم الذي تكلم جاهلاً، أدركنا أن ما فعله المسئ صلاته مغايرٌ ومختلفٌ عما فعله معاوية بن الحكم بلا شك، وهذا الاختلاف لا يدلُّ إلا على أنَّ المُسئ صلاتَه قد فعل ما يبطل الصلاة، وأنَّ معاوية ابن الحكم لم يفعل إلا حراماً دون أن يصل ذلك إلى درجة المبطلات، وهذا يعني أن الكلام ليس من مبطلات الصلاة، وأن فعل الحرام في الصلاة لا يبطلها.
وبذلك يتضح أن الاستدلالات التي استدل بها هذا الفريق غير صحيحة، وأن الرأي الذي يقولون به من أن الكلام يبطل الصلاة، هو رأي غير صحيح. فلم يبق لنا إلا أن نقول إن الكلام هو من المُحرَّمات فحسب في الصلاة، وأن فعل الحرام في الصلاة ينقصها فحسب ولا يبطلها.
2ــ الخشوعُ في الصلاة(2/331)
الخشوع معناه السكون في ذلَّةٍ وخضوع، قال عزَّ وجلَّ {وتَرَاهُمْ يُعْرَضُوْنَ عَلَيْهَا خَاشِعِيْنَ مِن الذُّلِّ يَنْظُرُوْنَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ... } الآية 45 من سورة الشورى. وقال سبحانه {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وقَدْ كَانُوْا يُدْعَوْنَ إلى السُّجُوْدِ وهُمْ سَالِمُوْنَ} الآية 43 من سورة القلم. وروى النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «.. إن الله عزَّ وجلَّ إذا بدا لشئ من خلقه خشع له..» رواه النَّسائي.
إن الصلاة أقوال وأفعال وإنها كلها لله رب العالمين، فينبغي أن لا يُقال فيها إلا ما هو مشروع وموجَّهٌ إليه سبحانه. كما أنه ينبغي أن لا يُفعل فيها إلا ما هو مشروع من أفعال الصلاة إلا ما جاءت النصوص باستثنائه فيباح، وما سوى ذلك فهو حرام، ويدخل تحت قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمُها التكبير، وتحليلها التسليم» رواه أحمد والترمذي. وقد مرَّ في بحث [حكم تكبيرة الإحرام] وبحث [القنوت في الصلاة] فالتكبير للصلاة يجعل كل قولٍ وكلَّ فعلٍ غير مشروع في الصلاة حراماً.(2/332)
وقد حث الشرع على الخشوع في الصلاة ورغَّب فيه وبيَّن فضله في العديد من النصوص نذكر منها قوله عزَّ وجلَّ {قَدْ أَفْلَحَ المؤْمِنُوْنَ. الذِيْنَ هُمْ في صَلاتِهِمْ خَاشِعُوْنَ} الآيتان 1، 2 من سورة المؤمنون. وقوله تعالى {واسْتَعِيْنُوْا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ وإنَّهَا لَكَبِيْرَةٌ إلا عَلَى الخَاشِعِيْنَ. الذِيْنَ يَظُنُّوْنَ أَنَّهُمْ مُلاقُوْ رَبِّهِمْ وأَنَّهُمْ إلَيْهِ رَاجِعُوْن} الآيتان 45، 46 من سورة البقرة. وعن عثمان رضي الله عنه « ... فدعا بوَضُوءٍ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من امرئ مسلمٍ تحضُره صلاةٌ مكتوبةٌ فيُحسن وضوءَها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارةً لِما قبلها من الذنوب ما لم يُؤت كبيرة، وذلك الدهرَ كلَّه» رواه مسلم. وعن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أشهدُ سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «خمس صلوات افترضهن اللهُ على عباده، مَنْ أحسن وضوءَهن وصلاَّهن لوقتهن، فأتمَّ ركوعهن وسجودهن وخشوعهن كان له عند الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له عند الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذَّبه» رواه أحمد وأبو داود.
وقد اختلف الفقهاء في حكم الخشوع في الصلاة، فاختار أكثرهم الندب والاستحباب، واختار الآخرون الوجوب وهو الصحيح. وحتى نتبين وجه الصواب في هذه المسألة لننظر في النصوص المتعلقة بذلك:
أ - عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت: الذين هم في صلاتهم خاشعون، فطأطأ رأسه» رواه الحاكم. وقد مرَّ في بحث [النظر في الصلاة] .(2/333)
ب - قوله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ المؤْمِنُوْنَ. الذِيْنَ هُمْ في صَلاتِهِمْ خَاشِعُوْنَ. والذِيْنَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُوْنَ. والذِيْنَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُوْنَ. والذِيْنَ هُمْ لِفُرُوْجِهِمْ حَافِظُوْنَ. إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلُوْمِيْنَ. فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُم العَادُوْنَ. وَالذِيْنَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وعَهْدِِهِمْ رَاعُوْنَ. والذِيْنَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُوْنَ. أُولَئِكَ هُم الوَارِثُوْنَ. الذِين يَرِثُوْنَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيْهَا خَالِدُوْنَ} الآيات من 1-11 من سورة المؤمنون.
ج - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «كنا إذا صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: علامَ تُومِئُون بأيديكم كأنها أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ؟ ... » رواه مسلم. وقد مرَّ بتمامه في بحث [القنوت في الصلاة] ولمسلم حديثٌ ثانٍ عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال «خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ؟ اسكُنوا في الصلاة ... » . وقد مرَّ في بحث [القنوت في الصلاة] .(2/334)
الدليل الأول يدل على وجوب الخشوع، فقد مرَّ معنا في بحث [النظر في الصلاة] حُرمةُ النظر إلى السماء بما يغني عن إعادته هنا، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى السماء في صلاته فنزل قوله تعالى {الذِيْنَ هُمْ في صَلاتِهِمْ خَاشِعُوْنَ} الآية 2 من سورة المؤمنون. ففهم عليه الصلاة والسلام من هذه الآية أن الخشوع يقتضي عدم رفع النظر فطأطأ رأسه، وهذا كله يدل على أن الخشوع يتعارض مع رفع البصر، وأن رفع البصر يتعارض مع الخشوع، وما دام أن رفع البصر حرام، فالخشوع بخفض البصر إذن واجب.
والدليل الثاني يدل هو الآخر على وجوب الخشوع، فالله سبحانه وتعالى وصف المؤمنين إن هم فعلوا كذا وكذا وكذا، وفعلوا الخشوع وصفهم بالفلاح، وبشَّرهم بوراثة الفردوس، وهذا يعني أن من أراد الفوز بالفلاح ودخول أعلى درجات الجنة فلْيخشع في صلاته، ولْيُعْرِض عن اللغو ولْيُزَكِّ، ولْيَحْفظ فرجه، ولْيُراعِ الأمانة والعهد، ولْيُحافظ على الصلاة، فإن ترك فعلاً من هذه الأفعال لم يستحق الفلاح ودخول الفردوس، بمعنى أن من لا يخشع لا يضمن الفلاح ودخول الفردوس، فهل يستطيع بعد ذلك أن يدَّعيَ مُدَّعٍ أن الخشوع غير واجب؟ إن الفلاح ودخول الفردوس هما الفوز الأكبر، وإن الفوز الأكبر بحاجة إلى الثمن الأكبر والثمن الأكبر لا يكون من صنف المندوبات، وإنما هو من الواجبات، ولهذا نجد أن جميع المذكورات في هؤلاء الآيات المباركات هي من الواجبات، فالخشوع واجب.(2/335)
وأما الدليل الثالث فإنه يعضد الرأي القائل بوجوب الخشوع ويتَّسق معه، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قد نهى المسلمين عن تحريك الأيدي عند التسليم والخروج من الصلاة نهياً قاسياً، فقد سألهم سؤالاً استنكارياً، وشبَّه أيديهم بأذناب الخيل، ثم نهاهم باللفظ الصريح [اسكُنُوا] ويبعد أن يقول كل ذلك لمجرد رؤية أمرٍ مكروهٍ فحسب، فلم يبق إلا أنه نهى عن فعلٍ محرَّم مضادٍّ للخشوع. وبذلك يثبت للخشوع حكم الوجوب، فالخشوع واجب في الصلاة.
العمل القليل في الصلاة
إن الشرع الشريف وإن هو أوجب الخشوع إلا أنه توسَّع في الإذن بالقيام بأعمال مختلفة في الصلاة على أن تكون خفيفة، دون أن يعتبرها قادحة في الخشوع ولا منافية له، ونذكر جملة من هذه الأعمال:
1) المشي لحاجةٍ تَعْرِضُ للمصلي:(2/336)
يجوز للمصلي إن عَرض له عارضٌ فاحتاج إلى أن يتقدم قليلاً إلى الأمام أو إلى أن يتأخر قليلاً، أو إلى أن يخطو قليلاً يمنة أو يسرة أن يفعل ذلك بأناة وهدوء وسكينة ويمضي في صلاته، ويبقى في كل أوضاعه مستقبلاً القِبلة، فعن أبي حازم قال «سألوا سهل بن سعد: مِن أي شئ المنبر؟ فقال: ما بقي من الناس أعلم مني، هو من أَثلِ الغابة، عَمِلَه فلان مولى فلانة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عُمل ووُضع، فاستقبل القِبلة، كبَّر وقام الناس خلفه، فقرأ وركع وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه، ثم رجع القَهقَرى فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم ركع ثم رفع رأسه، ثم رجع القَهقَرى حتى سجد بالأرض، فهذا شأنه» رواه البخاري. فقد اعتلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر وصلى عليه، إلا أنه كان إذا أراد السجود رجع إلى الوراء، فنزل إلى الأرض فسجد عليها، ثم تقدم فاعتلى المنبر، يفعل ذلك في كل ركعة. وقد فعل ذلك من أجل تعليم الناس الصلاة، يدل عليه ما رواه البخاري ومسلم من طريق سهل ابن سعد الأنصاري رضي الله عنه، فقد جاء فيه « ... فسجد في أصل المنبر ثم عاد، فلما فرغ أقبل على الناس فقال: أيها الناس إنما صنعتُ هذا لتأتمُّوا ولتعَلَّموا صلاتي» . وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في البيت والباب عليه مغلق، فجئت فمشى حتى فتح لي ثم رجع إلى مقامه، ووصفَتْ أنَّ الباب في القِبلة» رواه أحمد وأبو داود والبيهقي. ورواه النَّسائي وفيه أنه كان يصلي تطوعاً. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «استفتحتُ الباب ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمٌ يصلي، فمشى في القِبلة إما عن يمينه وإما عن يساره حتى فتح لي، ثم رجع إلى مُصلاه» رواه أحمد. ورواه الترمذي والطيالسي والبيهقي باختلافٍ في الألفاظ، ورواه النسائي بلفظ «استفتحتُ الباب ورسول الله - صلى الله عليه وسلم(2/337)
- يصلي تطوعاً، والباب على القِبلة، فمشى عن يمينه أو عن يساره ففتح الباب، ثم رجع إلى مُصلاه» . ورواه الدارقطني بلفظ «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فإذا استفتح إنسان الباب فتح له ما كان في قِبلته، أو عن يمينه أو عن يساره، ولا يستدبر القِبلة» .
2) الإِشارةُ باليدين وتحريكهما:
يجوز للمصلي أن يرد التحية إشارةً بيده أو بإصبعه أو برأسه، وأن يتناول بيديه ما يحتاج إلى تناوله، وأن يحرك بهما ما يحتاج إلى تحريك، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قُباء يصلي فيه، قال: فجاءته الأنصار فسلَّموا عليه وهو يصلي، قال فقلت لبلال: كيف رأيتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال يقول هكذا، وبسط كفَّه، وبسط جعفر بن عون كفه، وجعل بطنه أسفلَ وظهره إلى فوق» رواه أبو داود والبيهقي. وعن ابن عمر قال «دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مسجد بني عمرو بن عوف - يعني مسجد قُباء - فدخل رجال من الأنصار يسلمون عليه، قال ابن عمر: فسألتُ صُهيباً وكان معه: كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل إذا كان يُسلَّمُ عليه وهو يصلي؟ فقال: كان يشير بيده» رواه ابن حِبَّان وابن خُزَيمة وابن ماجة والدارمي والنَّسائي. وعن نافع «أن ابن عمر مرَّ على رجل وهو يصلي فسلَّم عليه، فرد الرجل كلاماً، فرجع إليه عبد الله بن عمر فقال له: إذا سُلِّم على أحدكم وهو يصلي فلا يتكلم، ولْيُشِر بيده» رواه مالك. وعن أبي هريرة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «لما قدمتُ من الحبشة أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فسلَّمتُ عليه فأومأ برأسه» رواه البيهقي. وعن صهيب رضي الله عنه قال «مررتُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فسلَّمتُ عليه فردَّ إشارةً، قال ولا أعلمه إلا قال: إشارةً بإصبعه» رواه أبو داود وأحمد وابن حِبَّان. وعن عبد(2/338)
الله بن عباس رضي الله عنه قال «انخسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام قياماً طويلاً - وذكر الحديث إلى أن قال - ثم انصرف وقد تجلَّت الشمسُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله، قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك ثم رأيناك كَعْكَعْتَ، قال - صلى الله عليه وسلم -: إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقوداً، ولو أصبتُهُ لأكلتم منه ما بقيت الدنيا ... » رواه البخاري. قوله كعكعتَ: أي رجعتَ إلى الوراء. وعن جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه قال «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر، فجعل يَهوي بيده، فسأله القوم حين انصرف فقال: إن الشيطان هو كان يُلْقِي عليَّ شررَ النار ليفتنني عن صلاتي فتناولته، فلو أخذتُه ما أنفلت مني حتى يُناط إلى سارية من سواري المسجد، ينظر إليه وِلْدانُ أهل المدينة» رواه أحمد. قوله يُناط إلى سارية: أي يُربَط بعمود. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال «نمتُ عند ميمونة والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندها تلك الليلة، فتوضأ ثم قام يصلي، فقمتُ على يساره فأخذني فجعلني عن يمينه، فصلى ثلاث عشرة ركعة، ثم قام حتى نفخ وكان إذا نام نفخ، ثم أتاه المؤذن فخرج فصلى ولم يتوضأ» رواه البخاري. وميمونة هي زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخالة ابن عباس. وقد جاء التصريح بذلك فيما رواه ابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنه قال «بِتُّ عند خالتي ميمونة، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل، فقمت عن يساره، فأخذ بيدي فأقامني عن يمينه» . وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته وهو شاكٍ، فصلى جالساً وصلى وراءه قومٌ قياماً، فأشار إليهم أنْ اجلسوا، فلما انصرف قال: إنما(2/339)
جُعل الإمام ليُؤْتمَّ به، فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً» رواه البخاري. ورواه البيهقي قريباً منه. وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت «أتيت عائشةَ زوجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خَسَفَت الشمسُ، فإذا الناس قيام يصلون، وإذا هي قائمة تصلي فقلت: ما للناس؟ فأشارت بيدها إلى السماء وقالت: سبحان الله، فقلت: آية؟ فأشارت أن نعم..» رواه البخاري. وإنَّ فعلَ صحابية كعائشة رضي الله عنها وهي المشهود لها بالفقه لمما يُستأنَسُ به.
3) قتلُ الحية والعقرب:
يجوز لمن كان في صلاة فعَرَضت له حية أو عقرب أو وحش كاسر مؤذٍ أن يقتله ويمضي في صلاته، فعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في البيت، فجاء علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه فدخل، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، قام إلى جانبه يصلي، قال: فجاءت عقرب حتى انتهت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم تركته وأقبلت إلى عليٍّ، فلما رأى ذلك علي ضربها بنعله، فلم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله إياها بأساً» رواه البيهقي والطبراني. وروى أبو هريرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الأَسْودَيْن في الصلاة العقرب والحية» رواه أحمد والترمذي وابن خُزَيمة وابن ماجة. ورواه أبو داود والبيهقي بلفظ «اقتلوا الأَسْودَين ... » .
4) حمل الطفل:(2/340)
يجوز للمصلي أن يحمل طفلاً أو طفلة على ظهره أو كتفيه، أو يحمله بين يديه وهو في الصلاة، فقد روى أبو قتادة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهو حاملٌ أُمامةَ بنتَ زينب بنتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأبي العاص بن ربيعة، فإذا قام حملها، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها» رواه البخاري. وعن شدَّاد الليثي رضي الله عنه قال «خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إحدى صلاتَي العشي الظهر أو العصر وهو حاملُ حسنٍ أو حسينٍ، فتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضعه، ثم كبَّر للصلاة فصلى، فسجد بين ظهري صلاته سجدةً أطالها، قال: إني رفعت رأسي، فإذا الصبي على ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد، فرجعت في سجودي، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة قال الناس: يا رسول الله إنك سجدت بين ظهري الصلاة سجدةً أطلتَها، حتى ظننَّا أنه قد حدث أمرٌ، أو أنه يُوحَى إليك، قال: كلُّ ذلك لم يكن، ولكنَّ ابني ارتحلني فكرهت أن أُعجله حتى يقضي حاجته» رواه أحمد. ورواه النَّسائي والحاكم.
5) الالتفات:
مرَّ معنا في فصل [صفة الصلاة] بحث [النظر في الصلاة] حديث الحاكم وابن خُزَيمة بلفظ «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلتفت في صلاته يميناً وشمالاً، ولا يلوي عنقه خلف ظهره» . ورواه أيضاً أحمد وابن حِبَّان.
6) دفعُ المارّ بين يدي المصلي:(2/341)
ومن ذلك دفع المارِّ بين يدي المصلي إنساناً كان أو حيواناً فقد مرَّ معنا في فصل [القِبلة والسُّترة] حديث مسلم بلفظ «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا كان أحدكم يصلي، فلا يدع أحداً يمر بين يديه، ولْيدرأه ما استطاع، فإن أبى فلْيقاتله فإنما هو شيطان» . وحديث البخاري بلفظ «إذا صلى أحدكم إلى شئ يستره من الناس، فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه فلْيدفعه فإن أبى فلْيقاتله فإنما هو شيطان» . فهذا بحق الإنسان، ومرَّ معنا في بحث [سُترة الإمام] فصل [القِبلة والسُّترة] حديث أبي داود بلفظ «هبطنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثَنِيَّةِ أَذاخِر، فحضرت الصلاة - يعني فصلى إلى جدار - فاتخذه قِبلة ونحن خلفه، فجاءت بهيمة تمرُّ بين يديه، فما زال يُدَارِئُها حتى لصق بطنه بالجدار ومرت من ورائه، أو كما قال مسدد» .
7) تسوية موضع السجود:
من ذلك تسوية موضع السجود وتهيئته للسجود، فقد روى معيقيب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تمسح وأنت تصلي، فإن كنت لا بدَّ فاعلاً فواحدة، تسويةَ الحصا» رواه أبو داود. ورواه أحمد والترمذي وابن خُزَيمة وابن حِبَّان ومسلم بلفظ «إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الرجل يسوِّي التراب حيث يسجد قال: إن كنت فاعلاً فواحدة» . وفي رواية أخرى لمسلم «ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسح في المسجد، يعني الحصى، قال: إن كنت لا بدَّ فاعلاً فواحدة» . فالمسح مرَّةً واحدة جائز لا شئ فيه.
8) التبسُّم:
ومن ذلك التبسُّم، دون أن يصل إلى حدِّ القهقهة أو القرقرة، فعن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «التبسُّمُ لا يقطع الصلاة ولكنْ القَرقَرة» رواه البيهقي وابن أبي شيبة. ورواه الطبراني بلفظ «لا يقطع الصلاة الكَشَرُ، ولكنْ تقطعها القهقهة» والقرقرة: هي الضحك العالي. والكشر هو إبداء الأسنان بالتبسم.
9) البُصاق والتَّنَخُّم:(2/342)
ومن ذلك البصاق والتنخُّم على أن يكون ذلك عن اليسار أو تحت القدم اليسرى فحسب، فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى نُخامةً في قِبلة المسجد فحكَّها بحصاة، ثم نهى أن يبزق الرجل عن يمينه أو أمامه، ولكن يبزق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى» رواه مسلم وابن حِبَّان وابن خُزَيمة والبخاري.
10) إصلاح الثوب:
ومن ذلك إصلاحُ الثوب بحركات قليلة، فعن وائل بن حُجْرٍ رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل في الصلاة رفع يديه، ثم كبَّر ثم التحف، ثم أدخل يديه في ثوبه، ثم أخذ شماله بيمينه، ثم ذكر الحديث» رواه ابن خُزَيمة. ورواه مسلم ولفظه « ... فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب ... » .
11) حملُ المصحف:
ومن ذلك حمل المصحف والقراءة فيه، فقد روى ابن أبي مُلَيكة عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنها كان يؤُمُّها غلامُها ذكوان في المصحف في رمضان» رواه البيهقي وابن أبي شيبة. وذكره البخاري تعليقاً. وروى ابن التيمي عن أبيه «أن عائشة كانت تقرأ في المصحف وهي تصلي» رواه عبد الرزاق. وفي هذا الحديث والذي قبله وإِنْ كان فعلَ صحابي، وفعلُ الصحابي ليس دليلاً، إلا أنه مما يصح تقليده واتِّباعُه والعملُ به كحكمٍ شرعي، ناهيك عن أن عائشة مشهود لها بالفقه، إضافة إلى أنها كانت تفعل هذا في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويبعد جداً أن لا يطَّلع عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقرَّها عليه.
12) الفصل بين المتخاصمين:(2/343)
ومن ذلك الفصل بين المتخاصمين، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال «لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس، فجاءت جاريتان من بني عبد المطلب اقتتلتا، فأخذهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزع إحداهما من الأخرى ... » رواه ابن خُزَيمة وأبو داود وابن حِبَّان. وفي رواية أخرى لابن خُزَيمة من طريق ابن عباس أيضاً « ... وجاءت جاريتان من بني عبد المطلب، فأخذتا بركبتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففرع - أو فرَّق - بينهما ولم ينصرف» . ورواه النَّسائي. قوله ولم ينصرف: أي لم يقطع صلاته وإنما أتمها.
هذه الأعمال الاثنتا عشرة وأمثالها لا تتنافى مع الخشوع ولا تُفسد الصلاة. وينبغي أن يعلم الجميع أن الخشوع لا يعني الجمود، وإنما يعني الاستكانة والتحرك فيما يلزم بقدر ما يلزم، دون عبثٍ أو إكثارٍ يغلب على الصلاة، وبحيث يبقى المصلي في خضوعٍ لأمر ربِّه، فمن التزم بذلك فلْيفعل بعد ذلك أي فعل يحتاجُ إليه، ولْيتحرك أية حركة لازمة.(2/344)
وهذه الاستكانة - وإن شئت قلت السكينة - مطلوبةٌ من المسلم في الصلاة، وفي أثناء المشي إلى المسجد للصلاة، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا ثُوِّب للصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعَوْن، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلُّوا، وما فاتكم فأتمُّوا، فإنَّ أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة» رواه مسلم. ورواه البخاري وأبو داود وابن ماجة بلفظ «إذا أُقيمت الصلاة ... » دون قوله «فإنَّ أحدَكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة» . ولكن الزيادة في الحديث إن كانت مروية من طريق صحيحة فإنها تُقبل. وجاء في رواية أخرى لمسلم من طريق أبي هريرة رضي الله عنه «إذا ثُوِّب بالصلاة فلا يَسْعَ إليها أحدُكم، ولكن ليمشِ وعليه السكينة والوقار، صلِّ ما أدركتَ واقضِ ما سبقك» . فالمشي لا يتنافى مع السكينة مع أنه حركة كثيرة متواصلة، بينما السَّعي - وهو الاستعجال في المشي، ومثله الركض وما يصاحبه من حركات إضافية - يتنافى مع السكينة، فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال «بينما نحن نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ سمع جلبة رجال، فلمَّا صلى قال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلُّوا وما فاتكم فأتمُّوا» رواه البخاري ومسلم. فعندما استعجل الناس أحدثوا جَلَبة، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وأمرهم بالسكينة، رغم أنهم لم يكونوا قد دخلوا في الصلاة بعد.(2/345)
فالمشي إلى الصلاة يكون بخشوع وسكينة، وعدم ركض واستعجال، وما يتبع ذلك من جلبة وحركات إضافية، وكأنه في صلاة، فقد روى كعب بن عُجْرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا توضأ أحدُكم فأحسن وضوءَه، ثم خرج عامداً إلى المسجد فلا يشبكنَّ بين أصابعه، فإنه في صلاة» رواه الترمذي. ورواه ابن حِبَّان وفيه «فلا يشبكنَّ يده» . ورواه أبو داود وفيه «فلا يشبكنَّ يديه» . فإذا كان المشي لا يتناقض مع السكينة فإن الحركات القليلة في الصلاة لا تتناقض مع السكينة هي الأُخرى، وإنما يتناقض معها العبث واللهو والحركات الصاخبة والأعمال غير اللازمة. فالخشوع واجب في الصلاة، ومع وجوبه والالتزام به فإن المصلي يستطيع الإتيان بأعمال قليلة بتأنٍّ وهدوء، وبقدر الحاجة فحسب ولا إثم في ذلك. وهذا كلُّه متعلق بالخشوع في الجوارح.
أما الخشوع في القلب فإن انشغال الذهن في الصلاة بأمر من الأمور، وطروءَ أفكارٍ على ذهنه لا يتنافى مع خشوع القلب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الله عزَّ وجلَّ تجاوز لأمتي عما حدَّثت به أنفُسَها، ما لم تعمل أو تتكلم به» رواه مسلم. ورواه ابن خُزَيمة بلفظ « ... ما لا ينطق به ولا يعمل به» . وعن عقبة رضي الله عنه قال «صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة العصر فسلم، ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلى بعض حُجَر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم فرأى أنهم عجبوا من سُرعته فقال: ذكرتُ شيئاً من تِبْرٍ عندنا، فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسْمتِه» رواه البخاري وأحمد والنَّسائي. قوله من تِبْر: أي من ذهب لم يُصهر بعد. والأمر من الوضوح والبيان بحيث لا يحتاج إلى مزيد أدلة.
الأفعالُ والحالات المنهيُّ عنها في الصلاة(2/346)
هناك أفعال وردت في النصوص، نهى عنها الشرع في الصلاة، منها ما كان النهي عنها نهياً غير جازم، وهي الأفعال المكروهة في الصلاة، ومنها ما كان النهي عنها نهياً جازماً، وهي الأفعال المحرَّمة في الصلاة، كما أنَّ هناك حالاتٍ وردت في النصوص، نهى الشرع فيها عن أداء الصلاة نهياً غير جازم، وهي الحالات التي تُكره فيها الصلاةُ. فأذكر الأفعال المكروهة أولاً، ثم أذكر الحالات التي تُكره فيها الصلاةُ، ثم أذكر الأفعال المحرَّمة، بشئ من التفصيل.
أ. الأفعال المكروهة في الصلاة
مرَّ معنا في أبحاثنا الماضية عدد من الأفعال المكروهة، ونحن نشير إليها هنا دون إعادة بحث، ثم نتحدث عن الأفعال المكروهة المتبقية قاصدين جمع جميع الأفعال المكروهة في موضع واحدٍ تيسيراً لدراستها والإحاطة بها.
أما الأفعال المكروهة التي سبق بحثها فهي:
1- التَّخصُّر: أي وضع اليدين على الخاصرتين. انظر بحث [وضع اليدين في الصلاة] فصل [صفة الصلاة] .
2- اشتمال الصَّمَّاء: أي أن يجلِّل المصلي بدنَه بثوب بحيث لا يرفع منه جانباً، ولا يُبقي منه ما يُخرج يديه منه. انظر بحث [الثوب في الصلاة] فصل [أحوال المُصلي] .
3- التَّلثُّم: أي تغطية الفم بثوبٍ وشبهِه. انظر بحث [الثوب في الصلاة] فصل [أحوال المصلي] .
4- الاعتماد على اليدين: أُنظر بحث [التشهُّد وهيئة الجلوس له] فصل [صفة الصلاة] .
5 - كفُّ الثوب: أي لملمته وجمع أطرافه باليدين للحيلولة دون سقوطه على الأرض عند السجود. انظر بحث [الثوب في الصلاة] فصل [أحوال المصلي] .(2/347)
6- كفُّ الشَّعَر الطويل: أي جعله ضفائر وعقصه وربطه، للحيلولة دون سقوطه على الأرض عند السجود. انظر بحث [الثوب في الصلاة] فصل [أحوال المصلي] . وأُضيف إلى ما سبق إيراده من أدلة ما رواه أبو سعيد المقبري «أنه رأى أبا رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بحسن بن علي، وحسن يصلي قد غرز ضَفْريه في قفاه، فحلَّهُما أبو رافع، فالتفت حسن إليه مُغْضَباً، فقال أبو رافع: أَقْبِل على صلاتك ولا تغضب، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ذاك كِفْلُ الشيطان، يقول مقعد الشيطان - يعني مغرز ضَفْريه» رواه ابن خُزَيمة وأبو داود والترمذي وابن حِبَّان. قوله ضَفريه: أي عقيصتيه، والضَّفْر والعقيصة هما الشَّعر المنسوج أو المجدول. وما رواه كُرَيب مولى ابن عباس «أن عبد الله بن عباس رأى عبد الله بن الحارث يصلي ورأسُه معقوصٌ مِن ورائه، فقام وراءه فجعل يحله، وأقرَّ له الآخَر، فلمَّا انصرف أقبل إلى ابن عباس فقال: ما لك ولرأسي؟ قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف» رواه أبو داود ومسلم وأحمد والنَّسائي وابن حِبَّان.
ونعرض الآن للأفعال المكروهة المتبقية:(2/348)
7- التشبيك بين الأصابع: يُكره للمصلي أن يشبِّكَ بين أصابعه في الصلاة من حين خروجه من بيته إلى أن يفرغ من صلاته، فيُكره له أن يشبِّك بين أصابعه وهو ذاهب إلى المسجد، وكذلك وهو ماكثٌ فيه، سواء كان يصلي أو ينتظر الصلاة، وطبعاً وهو يصلي كذلك، ففي هذه الأحوال الثلاث يكره التشبيك بين الأصابع، فعن أبي أُمامة الخياط «أن كعب بن عُجْرَة أدركه وهو يريد المسجد قال: فوجدني وأنا مشبِّك يديَّ إحداهما بالأخرى، قال: ففتق يديَّ ونهاني عن ذلك وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ أحدكم فأحْسَنَ وضوءَه، ثم خرج عامداً إلى المسجد فلا يشبِّكنَّ يده فإنه في صلاة» رواه ابن حِبَّان. وروى أحمد وابن خُزَيمة الجزء الأخير منه، إلا أنهما ذكرا اسم أبي ثمامة. وعن أبي هريرة أنه قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - «إذا توضأ أحدكم في بيته، ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع فلا يقل هكذا، وشبَّك بين أصابعه» رواه الحاكم وابن خُزَيمة. وقد مرَّ في بحث [أدب المسجد] فصل [المساجد وأماكن الصلاة] فهذان دليلان على كراهية التشبيك في أثناء الذهاب إلى المسجد.
وعن كعب بن عُجْرَة رضي الله عنه قال «دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شبَّكت بين أصابعي فقال لي: يا كعب إذا كنت في المسجد فلا تُشبِّك بين أصابعك، فأنت في صلاةٍ ما انتظرتَ الصلاة» رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا كان أحدكم في المسجد فلا يُشَبِّكنَّ، فإن التَّشبيك من الشيطان، وإنَّ أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه» رواه أحمد. وقد مرَّ هذا الحديث والذي قبله في بحث [أدب المسجد] فصل [المساجد وأماكن الصلاة] . فهذان دليلان على كراهية التشبيك في أثناء المُكث في المسجد.(2/349)
وروى ابن ماجة من طريق كعب بن عُجْرة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً قد شبَّك أصابعه في الصلاة، ففرَّج بين أصابعه» . فهذا دليلٌ على كراهية التشبيك في أثناء الصلاة، إضافةً إلى ما ورد في النصوص السابقة التي تقول إن مَن «أتى المسجد كان في صلاة» ، «إنَّ أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد» ، «إذا كنت في المسجد فلا تشبِّك بين أصابعك، فأنت في صلاة ما انتظرت الصلاة» .
8- مسح موضع السجود أكثرَ من مرة: وذلك أن المسلم إذا صلى في مكان فيه تراب خشنٌ أو حصى أو ما يشبه ذلك وأراد السجود، أُبيح له أن يمسح بيده موضع جبهته مرة واحدة فحسب، وكُره له أن يزيد عن واحدة، فعن مُعيقيب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تمسح وأنت تصلي، فإن كنت فاعلاً فواحدة، تسويةَ الحصا» رواه أبو داود. ورواه أحمد والترمذي وابن خُزَيمة وابن حِبَّان. ورواه مسلم بلفظ «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الرجل يُسوِّي التراب حيث يسجد قال: إن كنت فاعلاً فواحدة» . ولمسلم رواية أخرى بلفظ «ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسح في المسجد - يعني الحصى - قال: إن كنت فاعلاً فواحدة» . وقد مرَّت هذه الروايات كلها في بحث [العمل القليل] المار قبل قليل.(2/350)
9- النظر إلى ما يُلهي المصلي عن صلاته: وذلك أن المسلم مأمور بحضور الذهن والانشغال بصلاته عما سواها لقوله عليه الصلاة والسلام « ... إن في الصلاة لشُغلاً» . هذا طرف من حديث رواه مسلم وأبو داود وابن أبي شيبة وأحمد مرَّ بتمامه في بحث [القنوت في الصلاة] . ولما روى عُقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «ما مِن أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين يُقْبِل بقلبه ووجهه عليهما إلا وجبت له الجنة» رواه أبو داود. فإذا نظر المصلي إلى شئ أو أمرٍ من الأمور فأشغله نظره عن صلاته، صار النظر مكروهاً، فعن عائشة رضي الله عنها قالت «قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في خميصة ذات أعلام، فنظر إلى علمها، فلما قضى صلاته قال: اذهبوا بهذه الخميصة إلى أبي جَهم بن حذيفة، وأْتوني بأَنْبِجانِيَّةٍ، فإنها ألهتني آنفاً في صلاتي» رواه مسلم. وقد مرَّ في بحث [المواضع التي تُكره فيها الصلاة] فصل [المساجد وأماكن الصلاة] وفي أيامنا المعاصرة يُكره للمصلي النظر إلى شاشة التلفاز، كما يكره له الاستماع إلى صوت الإذاعات، لأن النظر إلى التلفاز والاستماع إلى الإذاعات يشغلان الذهن إشغالاً كبيراً.
ب. الحالات التي تُكره فيها الصلاة(2/351)
1- الصلاة بحضرة الطعام مكروهة: إذا أراد المسلم الصلاةَ أيةَ صلاةٍ، ووُضع له طعامُه بدأ بتناول الطعام وأَخذ حاجته منه بأناة، ثم قام لصلاته بعدئذٍ وليس العكس، فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا وُضع العَشاء وأُقيمت الصلاةُ فابدأوا بالعَشاء» رواه البخاري ومسلم وابن خُزَيمة. ورواه أحمد من طريق عائشة رضي الله عنها. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا وُضع عَشاءُ أحدكم وأُقيمت الصلاة فابدأوا بالعَشاء، ولا يَعْجَل حتى يفرغ منه» رواه البخاري ومسلم. ورواه ابن خُزَيمة بلفظ «إذا كان أحدكم على طعام فلا يَعْجَلَنَّ حتى يقضي حاجته منه، وإنْ أُقيمت الصلاة» .(2/352)
2- الصلاة عند مدافعة الأخبثين مكروهة: والأخبثان هنا هما البول والغائط. ويقال لمن يدافع البول حاقناً، ولمن يدافع الغائط أو البراز حاقباً. فالمسلم يندب له أن يقضي حاجته في المرحاض أولاً، ثم يعمد إلى صلاته، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافِعُهُ الأخبثان» رواه مسلم وأحمد وابن خُزَيمة. وعن عبد الله بن الأرقم رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «إذا حضرت الصلاة وحضر الغائط فابدأوا بالغائط» رواه ابن خُزَيمة وابن ماجة. ورواه أحمد بلفظ «إذا أراد أحدكم أن يذهب إلى الخلاء وأُقيمت الصلاة فلْيذهب إلى الخلاء» . وروى ثوبان رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «لا يقوم أحد من المسلمين وهو حاقن حتى يتخفف» رواه ابن ماجة. وروى ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يقوم أحدكم إلى الصلاة وبه أذى» . قوله في حديث عائشة «لا صلاة بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الأخبثان» لا يعني نفي الصلاة أو نفي صحتها بل يعني لا تُصلوا، لأنَّ (لا) هنا ناهية وليست نافية، بدلالة الأحاديث الأخرى الواردة.(2/353)
3- الصلاة عند إجهاد البدن من أعمال شاقَّة وعند الفتور والنعاس مكروهة: يُندب للمسلم أن يصلي وبه نشاط وحيوية، وذلك حتى يستطيع الإتيان بالصلاة على وجه أكمل وأفضل، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلْيرقدْ حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسبُّ نفسه» رواه البخاري ومسلم وأحمد ومالك والترمذي. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا حبلٌ ممدودٌ بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبلٌ لزينب، فإذا فترت تعلَّقت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا، حلُّوه، ليُصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فلْيقعد» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي.
ج. الأفعال المُحرَّمة في الصلاة
مرَّ معنا في أبحاثنا السابقة عدد من الأفعال المحرَّمة في الصلاة، فنحن نُشير إليها هنا دونما حاجة لإعادة بحثها، ثم نبحث الأفعال المحرَّمة المتبقية قاصدين جمع جميع الأفعال المحرَّمة في مكان واحد، وهذه هي الأفعال المحرَّمة التي سبق بحثها:
1- الالتفاتُ في الصلاة: ونعني به لَيَّ العنق والنظر إلى الخلف بحيث يتجاوز نظر المصلي جهةَ القِبلة، انظر بحث [النظر في الصلاة] فصل [صفة الصلاة] .
2- رفع البصر إلى السماء: أُنظر بحث [النظر في الصلاة] [صفة الصلاة] وانظر بحث [الخشوع في الصلاة] فصل [القنوت والخشوع في الصلاة] .
3- العملُ الكثير والعَبَثُ في الصلاة: ونعني بالعمل الكثير ما لا يمكن تصنيفه تحت العمل القليل، وهو الذي يغلب على الصلاة فيسلبها هيئتَها، ويمحو الخشوع منها. ونعني بالعبث الحركات والأعمال التي لا حاجة للمصلي بها، وإنما يقوم بها تسليةً واستهتاراً بسكينة الصلاة ووقارها، وانظر بحث [العمل القليل] بند [الفصل بين المتخاصمين] المار قبل قليل.
ونبحث الآن الأفعال المحرَّمة المتبقية:(2/354)
4- القهقهة أو القرقرة: وهي الضحك بصوت مسموع، هذا الفعل محرَّم في الصلاة ويتنافى مع الخشوع، مثله مثل العمل الكثير والعبث، فهذه الأفعال الثلاثة حرام. وقد رُوي عن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «التبسُّمُ لا يقطع الصلاة ولكن القرقرة» رواه البيهقي وابن أبي شيبة. ورواه الطبراني بلفظ «لا يقطع الصلاة الكَشَرُ ولكن تقطعها القهقهة» . قوله الكَشَر: أي إبداء الأسنان بالتبسُّم. وهذا الحديث رواه عبد الرزاق موقوفاً على جابر، ورجَّح البيهقي وقفه على جابر أيضاً، إلا أن الطبراني قال عند روايته للحديث (لم يروه مرفوعاً عن سفيان إلا ثابت) وإذن فقد أثبت لهذا الحديث رواية مرفوعة فيقبل. وقد مرَّ الحديث في بحث [العمل القليل] بند [التبسم] المار قبل قليل.(2/355)
5- البُصاق والتنخُّم تجاه القِبلة أو عن اليمين: فمن بصق أمامه في الصلاة تجاه قِبلته، أو تنخَّم فلفظ نُخامته تجاه قِبلته، أو فعل ذلك عن يمينه فقد ارتكب خطيئة وفعلَ فِعلاً محرَّماً، ولكن إن بصق أو تنخَّم جهة اليسار أو تحت القدم اليسرى ففعله مباح لا شئ فيه، فقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى بُصاقاً في جدار القِبلة فحكَّه، ثم أقبل على الناس فقال: إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قِبَل وجهه، فإنَّ الله قِبَل وجهه إذا صلى» رواه البخاري ومسلم ومالك. ورواه الدارمي ولفظه «بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، إذ رأى نُخامة في قِبلة المسجد، فتغيَّظ على أهل المسجد، وقال: إن الله قِبَلَ أحدِكم إذا كان في صلاته، فلا يبزقنَّ، أو قال لا يتنخَّمَنَّ، ثم أمر بها فحك مكانها، أو أمر بها فلُطخت بزعفران» . وعن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إن المؤمن إذا كان في الصلاة فإنما يناجي ربه، فلا يبزقَّن بين يديه ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه» رواه البخاري ومسلم. ورواه أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان أحدكم في الصلاة، فإنه مُناجٍ ربَّه، فلا يتفلنَّ أحدٌ منكم عن يمينه، قال ابن جعفر: فلا يتفل أمامه ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدميه» . وروى أبو سهلة السائب بن خلاَّد رضي الله عنه «أن رجلاً أمَّ قوماً فبسق في القِبلة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرغ: لا يصلِّ لكم، فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم فمنعوه، وأخبروه بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: نعم، وحسبت أنه قال: آذيتَ الله عزَّ وجلَّ» رواه أحمد. ورواه أبو داود وفيه «إنك آذيت الله ورسوله» . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله(2/356)
عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب العراجين، ولا يزال في يده منها، فدخل المسجد فرأى نُخامةً في قِبلة المسجد فحكها، ثم أقبل على الناس مُغْضَباً فقال: أيُسَرُّ أحدُكم أن يُبصَق في وجهه؟ إن أحدكم إذا استقبل القِبلة فإنما يستقبل ربه جلَّ وعزّ، والملك عن يمينه، فلا يتفل عن يمينه ولا في قِبلته، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه، فإن عجل به أمرٌ فليقل هكذا، ووصف لنا ابن عجلان ذلك: أن يتفل في ثوبه، ثم يرد بعضه على بعض» رواه أبو داود وابن حِبَّان. قوله العراجين: أي أعواد النخيل. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يُبعَثُ صاحبُ النخامة في القِبلة يوم القيامة وهي في وجهه» رواه ابن خُزَيمة. وروى أيضاً من طريق حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من تفل تجاه القِبلة جاء يوم القيامة وتفلُه بين عينيه» .
الحديث الأول فيه «لا يبصق قِبَل وجهه، فإن الله قِبَل وجهه» والحديث الثاني فيه «إن المؤمن إذا كان في الصلاة فإنما يناجي ربه، فلا يبزقنَّ بين يديه، ولا عن يمينه» والحديث الثالث فيه «فإنه مُناجٍ ربَّه فلا يتفلنَّ أحدٌ منكم عن يمينه ... فلا يتفل أمامه ولا عن يمينه» والحديث الرابع فيه «فبسق في القِبلة ... قال آذيتَ الله عزَّ وجلَّ ... إنك آذيت الله ورسوله» والحديث الخامس فيه «أقبل على الناس مُغْضَباً فقال: أيُسَرُّ أحدكم أن يُبْصَقَ في وجهه؟ إن أحدكم إذا استقبل القِبلة فإنما يستقبل ربه جلَّ وعزَّ، والملك عن يمينه» والحديث السادس فيه «يُبعَثُ صاحبُ النخامة في القِبلة يوم القيامة وهي في وجهه» والحديث السابع فيه «من تفل تجاه القِبلة جاء يوم القيامة وتفلُه بين عينيه» فهل هناك محرَّم في الصلاة ورد فيه تغليظٌ في النهي وجزمٌ فيه أكثر مما ورد في البصاق والنخامة تجاه القِبلة وعن اليمين؟.(2/357)
وهذا كله لمن لا يحمل منديلاً أو أوراقاً صحيَّةً، أما من يحمل منديلاً أو أوراقاً صحية، فإنَّه يبصق أو يتنخم فيها وهو في صلاته، دونما حاجةٍ إلى لَيِّ عنقه عن اليمين أو الأمام.
هذه هي الأفعال المحرَّمة في الصلاة التي وردت في الأحاديث النبوية الشريفة قصرنا بحثنا عليها، ولم نتطرق إلى أفعالٍ رآها الفقهاء مكروهةً أو محرَّمةً دون أن يُورِدوا عليها نصوصاً شرعيَّة معتبرةً مثل: تحريم الأكل والشرب، وكراهة الصلاة في المحراب، وكراهة تغميض العينين، إلخ ...
الفصل الثامن
ما يُفعل ويُقال عقب الصلاة
أولاًـ ما يُفعَل عَقِبَ الصلاةُ
أ. الجلوسُ فترةً عَقِبَ الصلاة(2/358)
يُندب للمصلي إذا خرج من صلاته بالتسليم أن يلبث فترة في مُصلاه لما في هذا اللبث من ثواب، ولا ينقطع ثوابه إلا أن يقوم من مقامه أو ينتقض وضوؤه، وذلك لما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «إذا صلى أحدكم، ثم جلس مجلسه الذي صلى فيه لم تَزَل الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له اللهم ارحمه، ما لم يُحْدِث» رواه ابن خُزَيمة والبخاري. وفي رواية أخرى لابن خُزَيمة «ما لم يُحْدِث أو يقوم» . ولما روى أبو عبد الرحمن واسمه عبد الله بن حبيب بن ربيعة السلمي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «إن العبد إذا جلس في مصلاه بعد الصلاة صلَّت عليه الملائكة، وصلاتهم عليه: اللهم اغفر له اللهم ارحمه، وإن جلس ينتظر الصلاة صلت عليه الملائكة، وصلاتهم عليه: اللهم اغفر له اللهم ارحمه» رواه أحمد. وكفى باستجلاب دعوات ملائكة الله سبحانه بالمغفرة والرحمة فضلاً وخيراً، فلْيُكْثِر المسلم من هذه الدعوات بالإكثار من المكث. ويزداد المكث استحباباً إن كان عقب صلاة الفجر. والمدة المثلى للمكث أن يلبث المصلي في مصلاه إلى أن تطلع الشمس وترتفع قليلاً، فقد سُئل جابر بن سمرة «كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع إذا صلى الصبح؟ قال: كان يقعد في مصلاه إذا صلى الصبح حتى تطلع الشمس» رواه ابن خُزَيمة. ورواه مسلم ولفظه «كان لا يقوم من مُصلاَّهُ الذي صلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام» . وفي رواية أخرى لمسلم من طريق جابر بن سمرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس حَسَناً» . قوله حَسَناً: أي طلوعاً حَسَناً، أي تطلع وترتفع.(2/359)
فلْيُطِل المسلم المكث ما استطاع، إلا أنْ تدعوه حاجةٌ للانصراف، أو كان إماماً للجماعة فينصرف دون طول مكث لا سيما إنْ كان إمامُ الجماعةِ خليفةً المسلمين أو والياً جرت العادة أن لا ينصرف الناس قبل انصرافه، فيعجِّل في الانصراف حتى لا يشق على الناس. وقد كان المسلمون في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينصرفون قبل أن يروه ينصرف احتراماً وتوقيراً، ومثله الخلفاء الراشدون، لهذا كان عليه الصلاة والسلام ربما عجَّل الانصراف لأجل ذلك، وكذلك كان يفعل خلفاؤه، فقد روت أم سلمة رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سلَّم يمكث في مكانه يسيراً» رواه البخاري وأحمد. وعن أنس رضي الله عنه قال «صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان ساعةَ يُسلِّم يقوم، ثم صليت وراء أبي بكر فكان إذا سلم وثب، فكأنما يقوم عن رضفة» رواه عبد الرزاق. قوله يقوم عن رضفة: أي يقوم مسرعاً كأَنَّه كان جالساً على شئ محمَّى بالنار. ويمكن للإمام في هذه الحالة أن ينصرف من مكانه من أجل أن ينصرف الناس، ثم يعود إلى الجلوس ثانية.
ويُندبُ للمُصلي أن لا يغادر مُصلاهُ قبل أن يمكث فترة تكفيه ليقول فيها (استغفر الله) ثلاثاً، و (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام) لما روى ثوبان رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإكرام ... » رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة. ورواه احمد وابن خُزَيمة والنَّسائي بلفظ «يا ذا الجلال والإكرام» . بزيادة [يا] . وكذا رواه الترمذي، إلا أنه أسقط [اللهم] من أوله. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقعد بعد التسليم إلا قدر ما يقول: اللهم أنت السلام ... » رواه ابن حِبَّان.(2/360)
وكما يُشرع للإمام أن يمكث في مكانه عقب الصلاة استجلاباً لأدعية الملائكة بالرحمة والمغفرة ويمكث معه المصلون، يُشرع له ولهم المكوث لسببٍ ثانٍ هو تمكين النساء من مغادرة المصلى قبل انصراف الرجال حفظاً لهن وصوْناً، فعن أم سلمة رضي الله عنها «أن النساء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلَّم من الصلاة المكتوبة قُمْنَ، وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وثبت من صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام الرجال» رواه أحمد والنَّسائي وابن خُزيمة وابن حِبَّان والشافعي. ووقع عند البخاري عن أم سلمة رضي الله عنها «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه، ومكث يسيراً قبل أن يقوم - قال ابن شهاب - فأُرى والله أعلم أن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن مَن انصرف من القوم» . ووقع عند أحمد وأبي داود من طريق أم سلمة رضي الله عنها «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلَّم مكث قليلاً، وكانوا يرون أن ذلك كيما ينفذ النساء قبل الرجال» .
وهذا وذاك مما يتعلق بثواب المكث. أما ثواب الذكر عقب الصلاة فإن الإمام المتعجل لا يُحْرَم بقيامه الفوري منه، إذ يمكنه تحصيل ذلك في مكان ثانٍ يتحول إليه، أو وهو عائد من صلاته إلى بيته أو إلى مكان حاجته، فإنَّ ذِكْرَ الله يُندب في كل حال.(2/361)
وإذا جلس الأمام عقب الصلاة - طال جلوسُه أو قَصُر - استُحِبَّ له أن يستقبل بوجهه الناسَ وأهلَ ميمنته خاصةً، فينحرف بوجهه نحوهم، فعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى أقبل علينا بوجهه» رواه البخاري. وعن البراء رضي الله عنه قال «كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه يُقْبِل علينا بوجهه، قال فسمعته يقول: رب قِني عذابك يوم تبعث أو تجمع عبادك» رواه مسلم. ورواه أبو داود بدون ذكر الدعاء في آخره. وعن يزيد بن الأسود رضي الله عنه قال «صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان إذا انصرف انحرف» رواه أبو داود. ورواه النَّسائي بلفظ «أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح، فلما صلى انحرف» . قوله انصرف: أي خرج من الصلاة. وقوله انحرف: أي غيَّر اتجاهه الذي كان عليه في أثناء الصلاة ليصبح في مواجهة الناس.
ب. الانصرافُ عن اليمين والشمال(2/362)
من قضى صلاته وجلس الفترة التي أراد للذكر والدعاء، ثم نهض للانصراف فإنه بالخيار بين أن ينفتل يمنةً وبين أن ينفتل يسرةً، ولذلك فإن المسلم ينفتل إلى جهة حاجته لا يتقيد بجهة دون جهة، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب قائماً وقاعداً، ويصلي حافياً ومنتعلاً وينصرف عن يمينه وعن شماله» رواه النَّسائي والطبراني. وروى هُلْب رضي الله عنه «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤُمُّنا، فينصرف على جانبيه جميعاً، على يمينه وعلى شماله» رواه الترمذي. ورواه أبو داود وابن حِبَّان بلفظ «وكان ينصرف عن شقَّيه» . قال الترمذي (يُروى عن علي بن أبي طالب أنه قال: إن كانت حاجته عن يمينه أخذ عن يمينه، وإن كانت حاجته عن يساره أخذ عن يساره) . وروى أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «لا يجعل أحدكم نصيباً للشيطان من صلاته أن لا ينصرف إلا عن يمينه، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثرَ ما ينصرف عن شماله، قال عمارة: أتيت المدينة بعدُ، فرأيت منازل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن يساره» . ورواه مسلم بلفظ «لا يجعلنَّ أحدُكم للشيطان من نفسه جزءاً، لا يرى إلا أنَّ حقَّاً عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه، أكثر ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن شماله» . وأنا لا أظن أن عبارة «أكثر ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن شماله» قُصد منها الإحصاء وتغليبُ الانصراف عن الشمال على الانصراف عن اليمين، بقدر ما قُصد منها بيان أن الانصراف لم يكن تُلتَزَمُ فيه جهة اليمين، على ما يقول بذلك عدد من الناس، استدلالاً بقول أنس رضي الله عنه « ... أكثر ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن يمينه» رواه مسلم وابن حِبَّان والنَّسائي. فقد جاءت رواية البخاري - وهو القمة بين المحدِّثين في الالتزام بألفاظ الحديث - هكذا «لا يجعلَنَّ أحدُكم للشيطان(2/363)
شيئاً من صلاته، يرى أن حقاً عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -كثيراً ينصرف عن يساره» . فقد جاء القول هكذا «كثيراً ينصرف عن يساره» وهذا اللفظ أدقُّ من اللفظ الوارد في رواية مسلم وابن حِبَّان والنَّسائي «أكثر ما رأيت ... ينصرف عن شماله» ويمكن التوفيق بين رواية «أكثر ما رأيت ينصرف عن شماله» وبين رواية «أكثر ما رأيت ينصرف عن يمينه» - وإن كان التوفيق بين هاتين الروايتين ليس مهماً - بالقول إن راوي الرواية الأولى ذكر ما شاهده، وإن ذلك كان يحصل في صلواته عليه الصلاة والسلام في مسجده بالمدينة حيث كانت حُجُرات زوجاته واقعة إلى يسار المسجد، فكان ينصرف إلى جهة الشمال، فنقل ابن مسعود مشاهداته لذلك الانصراف، وجاءت الرواية في صحيح ابن حِبَّان واضحة جداً «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامَّة ما ينصرف عن يساره إلى الحُجُرات» . وأما راوي الرواية الثانية فذكر ما شاهده، وأنه رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُكثر من الانصراف عن اليمين، ولا يبعد عندي أن ذلك كان يحصل منه عندما لم يكن يصلي في مسجده بالمدينة، أو لم يكن يريد الانصراف إلى حجراته عقب صلواته، فكان ينصرف عن اليمين، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يحب التيامن في سائر أموره. وعلى أية حال فإن هذا الأمر موسَّع.
ج. الفصلُ بين الصلاة المكتوبة وصلاة التَّطوُّع(2/364)
يُندب للمصلي إذا فرغ من صلاته المكتوبة وأراد الإتيان بسُنَن الصلاة في الظهر والمغرب والعشاء، أو التَّنفُّل بما شاء من نوافل أن لا يصلي هذه الصلوات المندوبة في مصلاه الذي أدى فيه الصلاة المكتوبة، بل يتقدَّم قليلاً أو يتأخَّر قليلاً، أو يبتعد يمنة أو يبتعد يَسرة، لما رُوي عن عبد الرحمن بن سابط أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا صلى أحدكم المكتوبة، فأراد أن يتطوع بشئ فلْيتقدَّم قليلاً أو يتأخر قليلاً، أو عن يمينه أو عن يساره» رواه عبد الرزاق. وإذا أراد أن يؤدِّي هذه الصلوات في مصلاه الذي صلى فيه صلاته المكتوبة فلْيخرج من مصلاه، ثم بعد خروجه منه يعود إليه، أو يتكلم مع غيره قبل أن يستأنف الصلاة، يفصل بذلك بين الصلاة المكتوبة وصلاة التطوع، فعن السائب بن يزيد قال «صليت مع معاوية الجمعة في المقصورة، فلما سلَّم قمت في مقامي فصليت، فلما دخل أرسل إليَّ فقال: لا تَعُدْ لِما فعلتَ، إذا صليت الجمعة فلا تَصِلْها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج، فإنَّ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك، لا تُوصَل صلاةٌ بصلاةٍ حتى تخرج أو تتكلم» رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن خُزَيمة.
ثانياً ــ ما يُقالُ عَقِبَ الصلاة من أذكار(2/365)
للذِّكْر عدة معانٍ، فقد يطلق على القرآن الكريم كما في قوله عزَّ وجلَّ {ذَلِكَ نَتْلُوْهُ عَلَيْكَ مِن الآيَاتِ والذِّكْرِ الحَكِيْمِ} الآية 58 من سورة آل عمران. وكما في قوله سبحانه وتعالى {إنا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُوْنَ} الآية 9 من سورة الحِجْر. وقد يُطلق على كتب الأنبياء السابقين كقوله تعالى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا في الزَّبُوْرِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُوْنَ} الآية 105 من سورة الأنبياء. والذكر هنا يعني التوراة. وكقوله عزَّ وجلَّ {ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلا رِجَالاً نُوْحِيْ إلَيْهِمْ فَاسْأَلُوْا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُوْنَ} الآية 43 من سورة النحل. وقد يطلق على معنى الشرف والرفعة كما في قوله سبحانه {وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وسَوْفَ تُسْأَلُوْنَ} الآية 44 من سورة الزخرف. وقد يطلق ويراد منه الصلاة كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوْا إذَا نُوْدِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللهِ وذَرُوْا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ} الآية 9 من سورة الجمعة. وقد يطلق ويُراد منه الدين كما في قوله عزَّ وجلَّ {ومَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيْشَةً ضَنْكَاً ... } الآية 124 من سورة طه.(2/366)
أما أصلُ الذِّكر فمعناه الاستحضار، فذِكرُ الشئ استحضارُه، ويكون الاستحضار في الذهن، ويكون بالجريان على اللسان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يقول الله عزَّ وجلَّ: أنا عند ظنِّ عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ هم خيرٌ منهم ... » رواه مسلم وأحمد. وهذا المعنى للذكر هو الشائع وهو الأكثر، وقد ورد في كتاب الله كثيراً، قال عزَّ وجلَّ { ... إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَىْ عَن الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ ولَذِكْرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُوْنَ} الآية 45 من سورة العنكبوت. وقال سبحانه { ... وإذَا قَامُوْا إلى الصَّلاةِ قَامُوْا كُسَالَى يُرَاؤُوْنَ النَّاسَ ولا يَذْكُرُوْنَ الله إلا قَلِيْلاً} الآية 142 من سورة النساء. وقال تعالى {فإذَا قَضَيْتُم الصَّلاةَ فَاذْكُرُوْا اللهَ قِيَامَاً وقُعُوْدَاً وعَلَىْ جُنُوْبِكُمْ ... } الآية 103 من سورة النساء. وكثيرٌ غيرها، وهذا المعنى الأخير للذِّكر - الاستحضار - والمعنى الأول له - القرآن الكريم - هما المقصودان من هذا البحث، وهما اللذان يُراد الإتيان بهما عقب الصلاة.(2/367)
لقد حث كتاب الله على ذكر الله، وعلى الإكثار منه في الكثير من آياته، قال تعالى {فَإذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوْا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرَاً ... } الآية 200 من سورة البقرة. وقال تعالى { ... وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيْرَاً وَسَبِّحْ بِالعَشِيِّ والإبْكَارِ} الآية 41 من سورة آل عمران. وقال سبحانه {إلا الذِيْنَ آمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوْا اللهَ كَثِيْرَاً ... } الآية 227 من سورة الشعراء. وقال سبحانه {كَيْ نَسَبِّحَكَ كَثِيْرَاً. وَنَذْكُرَكَ كَثِيْرَاً} الآيتان 33 و 34 من سورة طه. وقال عزَّ وجلَّ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُوْلِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةُ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوْ اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيْرَاً} الآية 21 من سورة الأحزاب. وقال عزَّ وجلَّ {.. والذَّاكِرِيْنَ اللهَ كَثِيْرَاً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وأَجْرَاً عَظِيْمَاً} الآية 35 من سورة الأحزاب. وقال جلَّ جلاله {يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوْا اذْكُرُوْا اللهَ ذِكْرَاً كَثِيْرَاً} الآية 41 من سورة الأحزاب. وقال جلَّ جلاله {فَإذَا قُضِيَت الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوْا في الأَرْضِ وَابْتَغُوْا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوْا اللهَ كَثِيْرَاً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ} الآية 10 من سورة الجمعة.(2/368)
كما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حث على ذكر الله، ونوَّه بفضل الإكثار منه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في طريق مكة، فمرَّ على جبل يُقال له جُمْدان، فقال: سيروا، هذا جُمْدان، سبق المُفَرِّدون، قالوا: وما المُفَرِّدون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات» رواه مسلم. ورواه الترمذي وفيه «قال: المستهترون في ذكر الله، يضعُ الذِّكرُ عنهم أثقالَهم، فيأتون يوم القيامة خفافاً» . ورواه أحمد وفيه «قال: الذين يهتَرون في ذِكر الله» . قوله يهترون: أي يُولَعون أو يُكثِرون جداً.
وللذِّكر منزلة عالية ودرجة رفيعة، وقد مرَّ قوله سبحانه وتعالى { ... إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَىْ عَن الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ... } الآية 45 من سورة العنكبوت. وقد فُسِّر بأن ذِكر الله أكبر في منع الفحشاء والمنكر من الصلاة. وعن أبي الدَّرداء رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «ألا أُنبئُكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والورِق، وخيرٌ لكم من أن تلْقَوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذِكرُ الله» رواه الترمذي وأحمد وابن ماجة والحاكم وصححه، ورواه مالك موقوفاً.
والذِّكر يكون بالاستغفار، ويكون بالاستعاذة، ويكون بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، ويكون بتلاوة آيات من القرآن، ويكون بالدعاء. ونُفْرِدُ لكلٍّ بحثاً منفصلاً.
أـ الاستغفار(2/369)
يُسَنُّ الاستغفار عقب الصلاة، ويُسَنُّ أن يكون ثلاث مرات، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه أن يدعو ثلاثاً، ويستغفر ثلاثاً» رواه أحمد وأبو داود. ويصح الاستغفار بأية صيغة من الصِّيغ، كأن يقول (أستغفرُ الله) يكررها ثلاثاً، أو يقول (أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيُّومَ وأتوبُ إليه) يكررها ثلاثاً، أو يقول (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتَني وأنا عبدُك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفرْ لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) يكررها ثلاثاً. وهذه الصيغة الأخيرة هي خير صيغ الاستغفار وسيِّدتها. فعن ثَوْبان رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً، وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإكرام ... » رواه مسلم. ورواه أحمد وابن خُزَيمة والنَّسائي بلفظ «يا ذا الجلال والإكرام» بزيادة [يا] . وقد مرَّ في بحث [الجلوس فترةً عقب الصلاة] في هذا الفصل. وروى زيد مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «من قال: استغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيُّومَ وأتوب إليه، غُفِر له وإن كان فرَّ من الزحف» رواه أبو داود والترمذي ورواه الحاكم بسند صحيح من طريق ابن مسعود وزاد «ثلاثاً» . وعن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقْتَني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوءُ بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» رواه البخاري وأحمد وابن ماجة.(2/370)
ويُندب أن يقول عقب الاستغفار (اللهم أنت السلامُ ومنك السلامُ تباركتَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ) لحديث ثوبان، ولما روت عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سلَّم من الصلاة قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» رواه أحمد ومسلم.
ب ــ الاستعاذةُ
يُندب للمسلم أن يستعيذ بالله سبحانه من مجموعة من الشرور عقب الصلوات، وإنَّهُ وإنْ كان التعوُّذ بالله مندوباً في كل حين، إلا أنه عقب الصلوات آكدُ في الندب وأدعى إلى الاستجابة، فعن أبي أُمامة رضي الله عنه قال «قيل: يا رسول الله أيُّ الدعاء أسمعُ؟ قال: جوفَ الليل الآخِر ودُبُرَ الصلوات المكتوبات» رواه الترمذي. وقد جاء من صيغ التعوُّذ عقب الصلوات الصيغتان التاليتان:
1-[اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر] .
2-[اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أُردَّ إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر] .
فعن أبي بَكرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دُبُر كل صلاة: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر ... » رواه أحمد وابن خُزَيمة والترمذي والنَّسائي. وعن مصعب بن سعد وعمرو بن ميمون الأزدي قالا «كان سعدٌ يعلِّم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المكتبُ الغلمانَ يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوَّذ بهن دُبُرَ الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أُردَّ إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر» رواه ابن خُزَيمة وأحمد والبخاري والترمذي. قوله كما يعلم المكتبُ الغلمان: أي كما يعلم المعلم الغلمان، كما جاء التصريح بذلك في رواية أخرى.(2/371)
وقد رُويت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة في الاستعاذة بالله من كثير من الشرور مما لم تُقيَّد بأَدبار الصلاة، أذكر منها: الكسل وسوء القضاء ودَرْك الشقاء، وشماتة الأعداء وجَهْد البلاء، والعجز والهرم والمأثم والمغرم، وشر ما خلق الله، وضَلْع الدَّين وغَلَبة الرجال، وشر الغنى والفقر والقلة والذِّلَّة، وزوال النعمة وتحويل العافية، وفُجاءة النِّقمة وجميع سخط الله، والشِّقاق والنفاق وسوء الأخلاق، والجوع والخيانة، وعلماً لا ينفع وقلباً لا يخشع ونفساً لا تشبع ودعاءً لا يُسمع، وشر السمع وشر البصر وشر اللسان وشر القلب وشر المنيِّ، والهدم والتردِّي والغرق والحرق، وتخبُّطَ الشيطان والموت في سبيل الله مدبراً، والموت لديغاً، والبرص والجنون والجُذام وسئ الأسقام، ومنكراتِ الأخلاق والأهواء والأعمال. ولم أُورد الأحاديث النبوية الشريفة التي ذكرت هذه الاستعاذات لأنني اكتفيت بذكر الاستعاذات الواردة في النصوص مقيدةً بأدبار الصلاة فحسب. وأُذكِّر بأنني ذكرت جملة من التعوذات في بحث [الدعاء والتعوُّذ في آخِر الصلاة] فصل [صفة الصلاة] وردت في الصلاة وليس في دُبُرها، ولله الحكمة في اختصاص بعضها بالصلاة وبعضها بأدبار الصلاة، وجاء بعضها مطلقاً. والعبادة توقيفية يؤتَى بها كما وردت. ولا يعني قولي هذا أنه لا يجوز التعوُّذ من سوى ما ورد التعوذ منه في أدبار الصلاة مما جاء مطلقاً، وإنما عنيت أن التعوذ مما ورد التعوذ منه في أَدبار الصلاة يُقدَّم ويفضَّل في أَدبار الصلاة على ما سواه.
ج ــ التسبيحُ والتحميدُ والتكبيرُ والتهليلُ(2/372)
إن مما لا شك فيه أن كلام الله هو خير الكلام، وأن التقرب إلى الله سبحانه بالأذكار مما ليس في كتاب الله لا يعدل التقرب إليه سبحانه بكلامه. ويأتي التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل بعد كلام الله في المنزلة والفضل، فعن سَمُرَة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهي من القرآن لا يضرُّك بأيِّهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» رواه احمد ومسلم والنَّسائي وابن ماجة. وقد خلت رواية مسلم من «وهي من القرآن» . وهذه العبارة تعني أنها ثابتة في القرآن. ومما يدل على فضل هؤلاء الكلمات الأربع أيضاً ما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لأنْ أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس» رواه الترمذي. وقد مرَّ في بحث [صلاة مَن لا يُحْسِن قراءة الفاتحة] فصل [صفة الصلاة] أن هؤلاء الكلمات الأربع وقول لا حول ولا قوة إلا بالله تُجْزِئ عن القرآن، بل تُجْزِئ عن قراءة الفاتحة في الصلاة لمن لا يحفظ من القرآن شيئاً، وهذه فضيلة عظيمة لهؤلاء الكلمات الخمس.
وأيضاً فقد روى أبو سعيد رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير والتحميد والتسبيح ولا حول ولا قوة إلا بالله» رواه أحمد وأبو يعلى. فقد ضم الحوقلة إلى التكبير والتحميد والتسبيح وأسقط التهليل.(2/373)
ومما جاء في فضل التهليل والتحميد ما رُوي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله» رواه الترمذي. ومما جاء في فضل التهليل خاصة ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «خير الدعاء دعاءُ يوم عرفة، وخير ما قلتُ والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير» رواه الترمذي. ورواه مالك من طريق طلحة بن عبيد الله بن كريز، وليس فيه [له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير] .
وقد حثَّت الأحاديث النبوية الشريفة على قول هؤلاء الكلمات عقب الصلوات، وتباينت في مقدار ما يقال منها، فقد ورد قولها عشراً، وورد قولها ثلاثاً وثلاثين، وورد قولها خمساً وعشرين، وورد أقل من ذلك وأكثر، والمسلم يختار ما يشاء من ذلك مما يتسع وقته له ومما يقوى عليه.(2/374)
1- ما ورد من الأحاديث عشراً: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «خَلَّتان لا يُحصيهما رجلٌ مسلم إلا دخل الجنة، وهما يسير ومن يعمل بهما قليل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصلوات الخمس يسبِّح أحدكم في دُبُر كلِّ صلاة عشراً، ويحمد عشراً، ويكبِّر عشراً، فهي خمسون ومائة في اللسان، وألف وخمسمائة في الميزان، وأنا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَعقِدُهُنَّ بيده ... » رواه النَّسائي وابن ماجة وابن حِبَّان والترمذي وأبو داود. وذكر الحديث الخَلَّة الثانية وهي التسبيح والتكبير والتحميد مائة مرة عند النوم. ومعنى قوله «فهي خمسون ومائة في اللسان وألف وخمسمائة في الميزان» : أنَّ كل واحدة من هؤلاء الكلمات الثلاث تقال عشر مرات عقب كل صلاة من الصلوات الخمس، فيكون المجموع خمسين كلمة، وحيث أنها ثلاث كلمات فيصبح مجموعها كلِّها مائة وخمسين كلمة، وفي يوم القيامة يضاعفها الله سبحانه الواحدة بعشرٍ، فتصبح ألفاً وخمسمائة. وعن عليٍّ رضي الله عنه وقد جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وفاطمة يطلبان خادماً من السَّبي يخفف عنهما بعض العمل، فأبى عليهما ذلك فذكر قصة، قال: ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما «أَلاَ أُخبركما بخيرٍ مما سألتماني؟ قالا: بلى، فقال: كلماتٌ علمنيهنَّ جبريل عليه السلام فقال: تُسبِّحان في دُبُر كل صلاة عشراً وتحمدان عشراً وتكبِّران عشراً ... » رواه أحمد والبخاري ومسلم. وذكر الحديث التسبيح ثلاثاً وثلاثين، والتحميد ثلاثاً وثلاثين، والتكبير أربعاً وثلاثين عند النوم، وقد اقتصرنا في إيراد هذا الحديث والذي قبله على ما يتعلق بموضوع بحثنا، وهو الذِّكر عقب الصلاة فحسب. فهذان حديثان في قول التسبيح والتحميد والتكبير عشراً عشراً.(2/375)
أما التهليل عشراً وهو الجملة الرابعة، فجاء فيه ما يلي: عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «مَن قال في دُبُر صلاة الفجر وهو ثانٍ رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير، عشر مرات، كُتب له عشر حسنات، ومُحي عنه عشر سيئات، ورُفع له عشر درجات، وكان يومَه ذلك كلَّه في حرزٍ من كل مكروه، وحُرس من الشيطان، لم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله» رواه الترمذي. وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من قال إذا صلى الصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، عشرَ مرات كنَّ كعدل أربع رقاب، وكتب له بهنَّ عشرُ حسنات، ومُحي عنه بهنَّ عشرُ سيئات، ورُفع له بهنَّ عشرُ درجات، وكنَّ له حرَساً من الشيطان حتى يمسي، وإذا قالها بعد المغرب فمثل ذلك» رواه أحمد وابن حِبَّان. وعن أم سلمة رضي الله عنها «أن فاطمة رضي الله عنها جاءت إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - تشتكي إليه الخدمة فقالت: يا رسول الله والله لقد مَجِلَتْ يدي من الرَّحى، أطحن مرة وأعجن مرة، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنْ يرزقْكِ الله شيئاً يأتك، وسأدلُّكِ على خير من ذلك ... وإذا صليتِ صلاةَ الصبح فقولي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شئ قدير، عشر مرات بعد صلاة الصبح، وعشر مرات بعد صلاة المغرب، فإن كل واحدة منهن كعِتْقِ رقبة من ولَد إسماعيل، ولا يحل لذنب كُسب ذلك اليوم أن يدركه إلا أن يكون الشرك لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو حرسُكِ ما بين أن تقوليه غدوةً إلى أن تقوليه عشيَّة من كل شيطان ومن كل سوء» رواه أحمد. ورواه الطبراني مختصراً. قوله مَجِلت يدي من الرحى: أي يبست يدي وصارت خشنة من كثرة(2/376)
طحن الحبوب بالطاحونة. فهذه الأحاديث نصٌّ في قول التهليل عشر مرات. وينبغي ملاحظةُ أن التهليل عشر مرات إنما ورد تقييده بصلاتي الفجر والمغرب فحسب، فيُندب ذكرُه عشراً عقب هاتين الصلاتين، ثم إن صيغة التهليل وردت متفاوتة في الأحاديث الثلاثة، فالمسلم بالخيار بين أيٍّ من هذه الصيغ.
2- ما ورد من الأحاديث ثلاثاً وثلاثين: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «جاء الفقراء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ذهب أهل الدُّثُور من الأموال بالدَّرجات العلا والنعيم المقيم، يُصلُّون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ولهم فضْلٌ من أموالٍ يحجُّون بها ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدَّقون، قال: ألا أُحدثكم بما إنْ أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحدٌ بعدكم، وكنتم خيرَ مَنْ أنتم بين ظَهْرَانِيْهِم إلا من عمل مثله؟ تسبِّحُون وتحمدون وتكبِّرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، فاختلفنا بيننا فقال بعضنا: نسبح ثلاثاً وثلاثين، ونحمد ثلاثاً وثلاثين، ونكبر أربعاً وثلاثين، فرجعت إليه فقال تقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر، حتى يكون منهن كلهن ثلاثاً وثلاثين» رواه البخاري ومسلم وابن خُزَيمة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «قال أبو ذر: يا رسول الله ذهب أصحاب الدُّثور بالأجر، يُصلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فُضول أموال يتصدَّقون بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا ذر أَلاَ أُعلمك كلمات تدرك بهن مَن سبقك ولا يلحقك من خلفك إلا من أخذ بمثل عملك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: تكبِّر الله دُبُر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتحمده ثلاثاً وثلاثين، وتسبِّحُه ثلاثاً وثلاثين، وتختمها بـ لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير» رواه ابن حِبَّان. ورواه أبو داود وقال في آخره «غُفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر» قوله أصحاب الدُّثور: أي أصحاب الأموال الكثيرة. وعن أبي هريرة رضي(2/377)
الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من سبَّح الله في دُبُر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبَّر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، غُفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» رواه مسلم وأحمد وابن خُزَيمة وابن حِبَّان ومالك. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال «جاء الفقراء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله إن الأغنياء يُصلُّون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ولهم أموال يتصدقون وينفقون، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا صليتم فقولوا: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، ولا إله إلا الله عشراً، فإنكم تدركون بذلك من سبقكم وتسبقون مَنْ بَعدكم» رواه النَّسائي.
وأُلفت النظر إلى أن هذه الأحاديث وإن هي اتفقت في عدد التسبيح والتحميد والتكبير إلا أنها تباينت في عدد التهليل، فالحديث الأول اغفل التهليل كلياً، والحديث الثاني ذكر التهليل مطلقاً دون تحديد، والحديث الثالث ذكر التهليل مرة واحدة، والحديث الرابع ذكر التهليل عشراً، وأنا أميل إلى الأخذ بالحديث الثالث الذي رواه مسلم وفيه التهليل مرة واحدة، فهذا الحديث لا يتعارض مع الحديث الأول، لأن الزيادة تُقبل إنْ رواها ثقة. وكذلك هو لا يتعارض مع الحديث الثاني، بل يعضده ويفسِّره. وأما الحديث الرابع فيُحمل على صلاتي الفجر والمغرب ويُقصر عليهما، والله سبحانه أعلم.(2/378)
3- ما ورد من الأحاديث خمساً وعشرين: عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال «أُمِرنا أن نسبِّحَ في دُبُر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، ونحمد ثلاثاً وثلاثين، ونكبِّر أربعاً وثلاثين، فأُتيَ رجلٌ في منامه فقيل له: إنه أَمَرَكم محمدٌ أن تسبِّحوا في دُبُر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتحمدوا ثلاثاً وثلاثين، وتكبِّروا أربعاً وثلاثين؟ قال نعم، قال: اجعلوها خمساً وعشرين، واجعلوا فيه التهليل، فلما أصبح أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فافعلوه» رواه ابن حِبَّان وابن خُزَيمة وأحمد والنَّسائي. ورواه النَّسائي كذلك من طريق ابن عمر رضي الله عنه، وجاء فيه «.. سبِّحوا خمساً وعشرين، واحمدوا خمساً وعشرين، وكبِّروا خمساً وعشرين، وهلِّلُوا خمساً وعشرين، فتلك مائة ... » .(2/379)
وهناك أحاديث أخرى ذكرت التكبير أربعاً وثلاثين، وأبقت على التسبيح والتحميد ثلاثاً وثلاثين ثلاثاً وثلاثين، منها ما رواه كعب بن عُجْرة رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «مُعَقِّبات لا يخيب قائلُهن أو فاعلُهن دُبُر كل صلاة مكتوبة: ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة» رواه مسلم وابن حِبَّان والنَّسائي. ومنها ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند أحمد والبزَّار والطبراني بمثل ما رواه مسلم من حيث العدد. ويلاحظ من ذلك أن الرقم وصل إلى المائة بزيادة تكبيرة واحدة على التكبيرات الثلاث والثلاثين، في حين أن الرقم وصل إلى المائة بزيادة تهليلة واحدة في حديث مسلم المار في بند (2) «فتلك تسعةٌ وتسعون، وقال تمام المائة لا إله إلا الله ... » كما أنه وصل إلى المائة في حديث النَّسائي المار في بند (3) «سبِّحوا خمساً وعشرين و ... و ... و ... فتلك مائة» . فهذه الأحاديث نَوَّهت بالعدد مائة، فَمَنْ ملك الوقت الكافي والرغبة في مزيد الثواب فلْيوصل هذه الجمل إلى المائة، وليختر الصيغة التي يراها من هذه الصيغ الثلاث، وإذا أتمَّ المائة جملة بتهليلة واحدة فليقل بعدها مباشرة [اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطيَ لِما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ] وذلك لما روى المغيرة بن شعبة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دُبُر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ» رواه البخاري ومسلم والنَّسائي وأحمد وأبو داود.(2/380)
وهناك صيغة رابعة للتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل وللحوقلة كذلك تضاف للصيغ الثلاث السابقة، أندب المصلين إلى الأخذ بها لما لها من فضل، وهي هكذا [سبحان الله عددَ ما خلق في السماء، وسبحان الله عددَ ما خلق في الأرض، وسبحان الله عددَ ما خلق بين ذلك، وسبحان الله عددَ ما هو خالق. والله أكبر عددَ ما خلق في السماء، والله أكبر عددَ ما خلق في الأرض، والله أكبر عددَ ما خلق بين ذلك، والله أكبر عددَ ما هو خالق. والحمد لله عددَ ما خلق في السماء، والحمد لله عددَ ما خلق في الأرض والحمد لله عددَ ما خلق بين ذلك، والحمد لله عددَ ما هو خالق. ولا إله إلا الله عددَ ما خلق في السماء، ولا إله إلا الله عددَ ما خلق في الأرض، ولا إله إلا الله عددَ ما خلق بين ذلك، ولا إله إلا الله عددَ ما هو خالق. ولا حول ولا قوة إلا بالله عددَ ما خلق في السماء، ولا حول ولا قوة إلا بالله عددَ ما خلق في الأرض، ولا حول ولا قوة إلا بالله عددَ ما خلق بين ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله عددَ ما هو خالق] فعن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها رضي الله عنهما «أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبِّح به فقال: أُخبركِ بما هو أيسر عليكِ من هذا أو أفضل، فقال: سبحان الله عددَ ما خلق في السماء، وسبحان الله عددَ ما خلق في الأرض، وسبحان الله عددَ ما خلق بين ذلك، وسبحان الله عددَ ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك» رواه أبو داود والنَّسائي وابن ماجة.(2/381)
أما كيف يحصي المسلم تسبيحاته وأذكاره فيأتي منها بالمقدار الذي يريد؟ فالجواب عليه هو أنه يجوز التسبيح بالمسبحة وبما هو من جنسها كالنوى والحصى والخرز، لكن المستحب في التسبيح والأَذكار العدُّ بالأصابع والأنامل لأنهن مسؤولات يوم القيامة، ويشهدن لصاحبهن بالذِّكر، فعن يسيرة رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهن أن يراعين بالتكبير والتقديس والتهليل، وأن يعقدن بالأنامل، فإنهن مسؤولات مستنطَقَات» رواه أبو داود وأحمد والترمذي. ورواه ابن أبي شيبة عن بُسرة - وليس يسيرة كما في سنن أبي داود - قالت: قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «عليكن بالتسبيح والتهليل والتكبير، واعقدن بالأنامل فإنهن يأتين يوم القيامة مسؤولات مستنطقات، ولا تغفلْن فتنسَين الرحمة» . وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقده بيده، يعني التسبيح» رواه ابن أبي شيبة. ورواه أبو داود ولكنه قال «بيمينه» بدل [بيده] ورواه النَّسائي بدون [بيده] وبدون [بيمينه] هكذا «يعقد التسبيح» .(2/382)
أما من أراد نوال الثواب العظيم في الوقت القصير والجهد القليل ولا يحتاج إلى مسابح ونوى وحصى فليقرأ هذا الحديث وليعمل بما فيه: عن ابن عباس رضي الله عنه عن جُوَيرية رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها بُكرةً حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: ما زلتِ على الحال التي فارقتُكِ ا؟ قالت: نعم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لقد قلتُ بعدك أربعَ كلمات ثلاث مرات، لو وُزنت بما قُلتِ منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عددَ خلقِه ورِضا نفسِه وزِنَةَ عرشِه ومدادَ كلماتِه» رواه مسلم وابن خُزَيمة وأحمد وأبو داود. وفي رواية أخرى لمسلم «أنه قال: سبحان الله عددَ خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنةَ عرشه، سبحان الله مدادَ كلماته» . وفي رواية النَّسائي والترمذي «سبحان الله عددَ خلقه، سبحان الله عددَ خلقه، سبحان الله عددَ خلقه. سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله رضا نفسه. سبحان الله زِنةَ عرشه، سبحان الله زِنةَ عرشه، سبحان الله زِنةَ عرشه. سبحان الله مدادَ كلماته، سبحان الله مدادَ كلماته، سبحان الله مدادَ كلماته» والصيغة الأولى أسهل وأفضل لأن فيها [وبحمده] في حين أن الروايتين الأُخريين قد خلتا منها، والزيادة في الأذكار أفضل.
فهؤلاء أربع كلمات قصار يقولهن المصلي فيحصل على ثواب الساعات الطوال من الأذكار غيرها، ذلك أن جُوَيرية رضي الله عنها قد واظبت على الذكر منذ صلاة الصبح إلى وقت الضحى كما جاء في رواية مسلم، أو إلى أن تعالى النهار كما جاء في رواية ابن خُزَيمة، وهذه المدة تقدَّر بساعتين إلى ثلاث ساعات من ساعاتنا الحالية، فالمسلم يقول هؤلاء الكلمات الأربع في نصف دقيقة فيحصل على ثواب الذكر من غيرهنَّ في ساعتين إلى ثلاث ساعات، فهي فرصة متاحة لحصاد الثواب العظيم.(2/383)
وهناك فرصة أعظم لتحصيل ثوابٍ أكثر ذكرها لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ به وهو يحرِّك شفتيه فقال: ماذا تقول يا أبا أُمامة؟ قال: أذكر ربي، قال أفلا أُخبرك بأكثر - أو أفضل - من ذِكرك الليل مع النهار والنهار مع الليل؟ أن تقول: سبحان الله عددَ ما خلق، وسبحان الله ملءَ ما خلق، وسبحان الله عددَ ما في الأرض والسماء، وسبحان الله ملءَ ما في الأرض والسماء، وسبحان الله عددَ ما أحصى كتابُه، وسبحان الله عددَ كلِّ شئ، وسبحان الله ملءَ كلِّ شئ، وتقول الحمد مثل ذلك» رواه ابن خُزَيمة. فهؤلاء الكلمات القليلات يفْضُلْن الذكرَ الليلَ مع النهار والنهارَ مع الليل، أي يفْضُلْن أربعاً وعشرين ساعة من الأذكار، فهن لا شك أعظم ثواباً من الذكر الوارد في حديث جويرية رضي الله عنها.
د ـــ تلاوةُ آيات من القرآن
قراءة القرآن من أعظم القُرُبات عند الله سبحانه، ولست هنا بصدد بحث هذا الموضوع لأنه خارج عن بحثنا، وهو [ما يقال فحسب عقب الصلاة] ، وإذا كان لا بد من كلمة في هذا الموضوع فهي أن المندوب قراءةُ القرآن كلِّه في شهرٍ، فهي أعدل القرآءات، وإن كان المسلم يريد المزيد وعنده قدرة ونشاط وفراغ فلا يزيد عن ثلاثة أيام بحال، أي لا يقرأ القرآن كله في أقل من ثلاثة أيام. ونأتي لموضوعنا فنقول إن المندوب للمسلم إذا صلى وجلس يذكر الله سبحانه أن يتلو ما يلي:
1- آية الكرسي وهي الآية 255 من سورة البقرة.
2- سورة الفلق.
3- سورة الناس.
4- {سبحان ربِّك ربِّ العزةِ عما يصفون. وسلامٌ على المرسلين. والحمد لله رب العالمين] } الآيات 180، 181، 182 من سورة الصافات.(2/384)
هذا ما وردت به النصوص، ومن أراد الزيادة فالباب مفتوح، وأخصُّ بالذكر سورة الإخلاص، فقد أدخلها بعضهم في المعوِّذات فقالوا بتلاوتها مع المعوِّذتين مستدلين بحديث ضعيف رواه الطبراني يذكرها بالاسم. وأما ما ذكرته أعلاه فقد وردت به الأحاديث التالية:
عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من قرأ آية الكرسي دُبُر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت» رواه الطبراني والنَّسائي وابن حِبَّان. وعن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من قرأ آية الكرسي في دُبُر الصلاة المكتوبة كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى» رواه الطبراني. وعن عُقبة بن عامر رضي الله عنه قال «أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ المعوِّذات دُبُر كل صلاة» رواه النَّسائي وأحمد وأبو داود والطبراني وابن خُزَيمة. ورواه ابن حِبَّان ولفظه «إقرأوا المعوِّذات في دُبُر كلِّ صلاة» وفي رواية للنَّسائي والترمذي «المعوِّذتين» بالتثنية. قوله المعوِّذات - بصيغة الجمع - استدل به بعضهم على الإتيان بسورة الإخلاص وسورة الفلق وسورة الناس، لأن هؤلاء السور ثلاثٌ، ووقف بعضهم على لفظة المعوِّذتين - بالتثنية - فقالوا بتلاوة سورة الفلق وسورة الناس فحسب وهو الصحيح، وذلك أن من أسلوب اللغة العربية أن يُؤتى بصيغة الجمع للمفرد وللمثنى أحياناً، فمثلاً قال امرؤ القيس في معلَّقته يصف الحصان (يُزلُّ الغلامَ الخِفَّ عن صَهَوَاتِه) والحصان ليست له إلا صهوةٌ واحدة، وقال تعالى {فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّيْ في المِحْرَابِ ... } الآية 39 من سورة آل عمران. والمنادي هو جبريل وحده. وقال جلَّ جلاله {الذِيْنَ قَالَ لَهُم النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوْا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ... } الآية 173 من سورة آل عمران. والقائل هو رجل واحد من خزاعة. وعلى هذه القاعدة(2/385)
خرج الحديث، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أطلق لفظة المعوِّذات - بالجمع - على المعوِّذتين - الفلق والناس - فهما المقصودتان فقط. وعلى هذا فإن سورة الإخلاص لا تندرج تحت هذه اللفظة، فهي بالتالي ليست مطلوبة هنا. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة يقول في آخر صلاته عند انصرافه {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُوْنَ. وَسَلامٌ عَلَى المُرْسَلِيْنَ. وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمَيْنَ} » رواه ابن أبي شيبة والترمذي.
هـ ــ الدُّعاءُ(2/386)
إن فضل الدعاء في الإسلام معلوم من الدين بالضرورة، وإلى من فاته الوقوف على النصوص فيه أعرض عليه ما يلي: قال تعالى {قُلْ ما يَعْبَأُ بكم ربي لولا دعاؤُكم فقد كذَّبْتُم فسوفَ يكونُ لِزاماً} الآية 77 من سورة الفرقان. ودلالة الآية واضحة في فضل الدعاء، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من لم يدْعُ اللهَ سبحانه يغضبْ عليه» رواه ابن ماجة وأحمد وابن أبي شيبة والحاكم. ورواه الترمذي بلفظ «إنه مَن لم يسأل الله يغضبْ عليه» . وعن أبي هريرة رضي الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «ليس شئ أكرم على الله سبحانه من الدعاء» رواه ابن ماجة وأحمد والترمذي والحاكم وابن حِبَّان. وكفى بذلك فضلاً. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: وقال ربكم ادعوني استجبْ لكم» رواه ابن ماجة وأحمد والترمذي. وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يزيد في العمر إلا البِرُّ، ولا يردُّ القضاء إلا الدعاء، وإن الرجل لَيُحْرَمُ الرزقَ بخطيئةٍ يعملها» رواه ابن ماجة وأحمد والترمذي. ولو لم يكن عندنا إلا هذا النص الأخير «ولا يردُّ القضاء إلا الدعاء» لكفى الدعاء فضلاً عظيماً، فلندعُ الله سبحانه، ولندعوه بإخلاص، ولنكثر من الدعاء، ولنرجُ من الله الاستجابة.
وقد وردت بضعة أحاديث فيها الأدعية التي تقال عقب الصلاة أذكر منها ما يلي:
1-[اللهم أعنِّي على ذِكْرِك وشكرِك وحُسْنِ عبادتِك] .
2-[اللهم اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أسرفتُ وما أنت أعلمُ به مني، أنت المقدِّم وأنت المُؤخِّر لا إله إلا أنت] .
3-[ربِّ قني عذابك يوم تبعث عبادك] .(2/387)
ووردت أدعية أخرى في أحاديث ليست أسانيدُها قوية، ولهذا اكتفيت بالأدعية الثلاثة المذكورة، وهذه هي أدلتها على الترتيب: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده يوماً ثم قال: يا معاذ إني لأُحِبُّك، فقال له معاذ: بأبي أنت وأُمي يا رسول الله وأنا أُحبك، قال: أُوصيك يا معاذ لا تدعَنَّ في دُبُر كل صلاة أن تقول: اللهم أعنِّي على ذكرِك وشُكرِك وحُسْنِ عبادتِك» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي وابن خُزَيمة وابن حِبَّان. وعن علي رضي الله عنه - في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - قال «فإذا سلَّم من الصلاة قال: اللهم اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أسرفتُ وما أنت أعلمُ به مني، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر لا إله إلا أنت» رواه أحمد وابن خُزَيمة وابن حِبَّان والترمذي. ورواه مسلم إلا أنه ذكر هذا الدعاء بين التَّشهُّد والتسليم وليس بعده. وعن البراء رضي الله عنه قال «كنا إذا صلينا خلفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه يُقبل علينا بوجهه، قال فسمعتُه يقول: ربِّ قِنِي عذابك يوم تبعث أو تجمع عبادك» رواه مسلم. وقد مرَّ في بحث [الجلوس فترة عقب الصلاة] في هذا الفصل.
وقد ورد الدعاء التالي يُدعى به عقب صلاتي الصبح والمغرب خاصة [اللهم أَجِرْني من النار] سبع مرات، فقد روى الحارث بن مسلم التميمي أن أباه حدَّثه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا صليت الصبح فقل قبل أن تُكلِّمَ أحداً: اللهم أجِرْني من النار، سبع مرات، فإنك إن مت من يومك ذلك كتب الله عزَّ وجلَّ لك جِواراً من النار، وإذا صليت المغرب فقل مثل ذلك، فإنك إن مت من ليلتك كتب الله عزَّ وجلَّ لك جِواراً من النار» رواه الطبراني وأحمد وأبو داود والنَّسائي وابن حِبَّان.(2/388)
هذا ما وردت به النصوص من أدعية تقال عقب الصلاة، ولا يعني ذلك أن لا يدعو المسلم بأي دعاء آخر يختاره عقب الصلوات، فإن الدعاء مشروع ومندوب في كل وقت وبأية صيغة، ولكن هذه الأدعية الواردة عقب الصلوات لها ميزةٌ خاصة الله سبحانه أعلم بها، فالأَوْلى والأفضل الإتيان بها وتقديمها على غيرها، ثم هو بالخيار بعد ذلك بين أن يدعو بما يحقق حاجاته في دينه ودنياه وآخرته من كلمات يختارها بنفسه، وبين أن يختار من أدعية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما وردت به النصوص مطلقة.
وإني أُقدِّم العون في هذا المضمار فأذكر جملةً من الأدعية الجامعة المأثورة، لاسيما وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه الجوامع من الدعاء، ويدع ما بين ذلك، كما جاء ذلك في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والحاكم من طريق عائشة رضي الله عنها.
1-[يا مقلِّبَ القلوب ثبِّت قلبي على دينك] .
2-[اللهم إني أسألك فِعلَ الخيرات وتركَ المنكرات وحُبَّ المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردتَ فتنةً في قوم فتوفَّني غير مفتون، وأسألك حبَّك وحبَّ من يحبك وحبَّ عملٍ يقرِّبني إلى حبك] .
3-[اللهم إني أسألك الهدى والتُّقى والعفافَ والغنى] .
4-[اللهم إني أسألك العفوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرة] .
5-[اللهم ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار] .
وللدعاء جملةٌ من الآداب لا بد للمسلم من أن يحيط بها وأن يراعيها، لعل الله سبحانه أن يتقبل منه ويستجيب له، ومن هذه الآداب ما يلي:(2/389)
1- أن يدعو بما يريد تحقيقه وهو متفطِّنٌ له ذاكرٌ له غير غائب عن ذهنه وغير لاهٍ عنه، وإلا فإن دعاءه لا يستجاب له، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إن القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله عزَّ وجلَّ أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب لعبدٍ دعاه عن ظهر قلب» رواه أحمد.
2- أن لا يَعْجَلَ تحقيقَ الدعاء، ولْيستمرَّ في الدعاء ولا ييأس، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «يُستجاب لأَحدكم ما لم يعجل، يقول دعوتُ فلم يُستَجَبْ لي» رواه البخاري وابن ماجة وأحمد وأبو داود ومسلم.
3- أن لا يدعو بدعاء محرَّمٍ وفيه إثم، أو بدعاء فيه قطيعة رحِم، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحِمٍ إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يُعجِّل له دعوتَه، وإما أن يدَّخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذن نُكْثر، قال: الله أكثر» رواه أحمد والبزَّار والحاكم وأبو يعلى.(2/390)
4- أن يستفتح الدعاء بحمد الله تعالى والصلاة على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يدعو بما شاء، فعن فُضالة بن عبيد صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو في صلاته لم يمجِّد الله تعالى ولم يصلِّ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عجَّل هذا، ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلى أحدكم فلْيبدأ بتحميد ربِّه جلَّ وعزَّ والثناء عليه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يدعو بعدُ بما شاء» رواه أبو داود والطبراني والترمذي وأحمد. وإذا استفتح الدعاء بـ[سبحان ربيَ العليِّ الأعلى الوهاب] فحسن، لما رُوي أن سلمة بن الأكوع قال «ما سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتح دعاءً إلا استفتحه بـ سبحان ربيَ العليِّ الأعلى الوهاب» رواه الحاكم وصحَّحه، ووافقه الذهبي.
5- أن يرفع يديه إذا دعاجاعلاً باطن كفيه تجاه وجهه، وأن لا يجاوز بهما وجهه، وإذا فرغ من الدعاء مسح بهما وجهه، لما روى سلمان رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إن ربكم حييٌّ كريمٌ، يستحيي من عبده أن يرفع إليه يديه فيردَّهما صفراً، أو قال خائبتين» رواه ابن ماجة وأبو داود وابن حِبَّان والطبراني. ولما رُوي عن عمير مولى أبي اللحم «أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستسقي عند أحجار الزيت قريباً من الزوراء، قائماً يدعو يستسقي، رافعاً كفيه لا يجاوز بهما رأسه، مقبلاً بباطن كفِّه إلى وجهه» رواه ابن حِبَّان وأحمد وأبو داود. ولما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطَّهما حتى يمسح بهما وجهه، قال محمد بن المثنى في حديثه: لم يردَّهما حتى يمسح بهما وجهه» رواه الترمذي، ورواه الطبراني في كتاب الدعاء.(2/391)
6- أن يكرر الدعاء ثلاثاً، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه أن يدعو ثلاثاً ويستغفر ثلاثاً» رواه أحمد وأبو داود.
7- يقول عقب الدعاء آمين، فقد مرَّ الحديث الذي رواه أبو داود من طريق أبي زهير في بحث [التأمين في الصلاة] فصل [صفة الصلاة] وفيه «فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَوجبَ إنْ خَتَم، فقال رجل من القوم: بأيِّ شئ يختم؟ قال: بآمين، فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب ... » .
وأنا هنا أدعو الله سبحانه أن يتقبَّل مني ما كتبت في كتابي هذا، وأن يجعله في ميزان حسناتي، وأن يلقى من القراء الرضا والقبول، إنه سميع الدعاء آمين.
الفصل التاسع
صلوات مفروضة عدا الصلوات الخمس
1. صلاة العيدين
حكمها ووقتها
إختلفت آراء الفقهاء وتشعَّبت حول حكم صلاة العيدين، فمنهم من أوجبها على الأعيان، ومنهم من اعتبرها سُنَّة مؤكَّدة، ومنهم من اعتبرها فرض كفاية، وهو الصحيح، وذلك لعدة أمور أذكر منها ما يلي:(2/392)
1- إن صلاة العيدين هي من شعائر الإسلام وأَعلامه، ويَبعدُ أن تُبْنى شعائر الإسلام وأعلامه على مندوبات يمكن فعلها كما يمكن تركها، ولا يستقيم الحال إلا باعتبار هذه الشعيرة وهذا الشعار من فروض الدين، وهذه الشعيرة - صلاة العيدين - قد رتَّب الإسلام عليها مناسك لا يُقام بها حتى يُقام بهذه الشعيرة، ففي الحج مناسكُ كثيرةٌ منها ذبح الأضاحي يوم العيد، وهذا المنسك وهو الذبح يتوقف القيام به على القيام بشعيرة صلاة العيد، ولا يُتصور أن تكون صلاة العيد مندوبة، أي فيها قابلية العمل والترك، فتتعطَّل بتركها مناسك الحج، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال «خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأضحى بعد الصلاة، فقال: من صلى صلاتنا ونسك نُسُكنا فقد أصاب النُسُك، ومن نَسَك قبل الصلاة فإنه قبل الصلاة، ولا نُسُك له ... » رواه البخاري. وفي رواية أخرى له من الطريق نفسها «إن أول ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سُنَّتَنا، ومن نحر قبل الصلاة فإنما هو لحم قدَّمه لأهله ليس من النُّسُك في شئ ... » . وقال تعالى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} الآية 2 من سورة الكوثر.(2/393)
2- إن الشرع فرض فروضاً وجعل أداءها واجباً لا بد منه، وجعل الفروض أعلى من المندوبات، فإنْ أمر الشرع بفرضٍ من هذه الفروض، ثم رأيناه يَقْبل بأداء فعلٍ آخر بدله دل ذلك على أن الفعل الآخر هذا فرضٌ هو الآخر، وإلا لما أغنى عن الفرض الأول، لأن المندوب دون الفرض منزلةً، ولا يَحِلُّ المندوب محلَّ الفرض ولا يسدُّ مسدَّه، فلا يسد مسدَّ الفرض إلا فرضٌ مثله، وهذه القاعدة يسهل فهمها وقبولها. وقد فرض الشرع صلاة الظهر، ثم رأيناه يأمر بأداء صلاة الجمعة في يوم الجمعة بدل صلاة الظهر، ففهمنا من ذلك أن صلاة الجمعة فرض، وإلا لما سدَّت مسدَّ صلاة الظهر المفروضة، ثم رأينا الشرع يأمر بأداء صلاة العيدين في يوم الجمعة لتُبطِلَ صلاةُ العيدين فرض صلاة الجمعة في يوم الجمعة، بمعنى أن من صلَّى صلاة العيدين في يوم جمعة فقد سقط عنه فرض الجمعة، ألا يُفهم من هذا أن صلاة العيدين لولا أنها مفروضة لما حلَّت محل صلاة الجمعة، ولما أسقطت فرض صلاة الجمعة؟ وهل تُسقط صلاةٌ مندوبةٌ فرضَ صلاةٍ مفروضةٍ؟ عن وهب بن كيسان قال «شهدت ابن الزبير بمكة وهو أمير، فوافق يومُ فطر أو أضحى يومَ الجمعة، فأخَّر الخروج حتى ارتفع النهار، فخرج وصعد المنبر فخطب وأطال، ثم صلى ركعتين ولم يصلِّ الجمعة، فعاب عليه ناسٌ من بني أمية بن عبد شمس، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: أصاب ابن الزبير السُّنة، وبلغ ابن الزبير فقال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا اجتمع عيدان صنع مثل هذا» رواه ابن خُزيمة والنَّسائي. ورواه أبو داود دون قوله في آخر الحديث (وبلغ ابن الزبير ... ) . وعن إياس بن أبي رملة الشامي قال «سمعت رجلاً سأل زيد بن أرقم: هل شهدتَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيدين في يوم؟ قال: نعم، قال: فكيف كان يصنع؟ قال: صلى العيد ثم رخَّص في الجمعة، ثم قال: من شاء أن يصلي فليصلِّ» رواه ابن ماجة وأبو داود وأحمد. وعن ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله -(2/394)
صلى الله عليه وسلم - أنه قال «اجتمع عيدان في يومكم هذا، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مُجَمِّعون إن شاء الله» رواه ابن ماجة. ورواه ابن ماجة أيضاً وأبو داود والحاكم من طريق أبي هريرة. ودلالة هذه النصوص واضحة.
3- إن الشرع لم يُوجب على النساء الخروج من بيوتهن لأداء الصلوات المكتوبات، وحثهن على أداء هذه الصلوات في بيوتهن، وهذا ينطبق على الصلوات الخمس كما ينطبق على صلاة الجمعة، فأداء النساء في بيوتهن للصلوات المفروضة أفضل من أدائهن لهذه الصلوات في المساجد، وهذا حكمٌ عام لم يُكسر إلا مع صلاة العيدين فحسب، فقد وجدنا الشرع يأمر ويحثُّ ويُلحُّ أيضاً على خروج النساء من بيوتهن لأداء صلاة العيدين، وبلغ من شدة الحث أن الشرع لم يستثن أية امرأة، فقد أمر بخروج الشابات والصغيرات والكبيرات وحتى الحُيَّض منهن، وحتى من لا تملك جلباباً تخرج فيه أن تستعير جلباباً من امرأة أخرى، فعلى ماذا يدل كلُّ هذا؟ هل يُطلب من النساء تركُ أداءِ الصلوات المفروضات وصلاة الجمعة في المساجد وأداؤُها في بيوتهن، ثم عندما رأيناه يَطلب خروج النساء لأداء صلاة العيدين نقول إن صلاة العيدين مندوبة مستحبة فحسب؟ إن هذا بعيد عن الصواب، ولا يُتصور أن يأمر الشرع النساء بأن يؤدِّين الفروض في البيوت، ثم يأمرهنَّ بالخروج لأداء المندوب. إنَّ ذلك كله ليدلُّ على أن صلاة العيدين فرض واجب، فعن أم عطية رضي الله عنها قالت «كنا نُؤمر أن نَخرج يوم العيد، حتى نُخرِج البكر من خِدرها، حتى نُخرج الحُيَّضَ فيكنَّ خلف الناس، فيُكبِّرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطُهْرته» رواه البخاري ومسلم. وفي رواية ثانية للبخاري عن أم عطية قالت «أُمِرنا أن نُخرج العواتق وذوات الخدور» . وروى البخاري عن حفصة رضي الله عنها نحوه، وزاد «قالت العواتق وذوات الخدور ويعتزل الحُيَّض المصلى» . وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم عن أم عطية قالت «أُمِرنا أن(2/395)
نخرج، فنُخرج الحُيَّض والعواتق وذوات الخدور - قال ابن عون أو العواتق ذوات الخدور - فأما الحُيَّض فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم ويعتزلن مصلاهم» . وعن أم عطية رضي الله عنها قالت «أَمَرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نُخرجهنَّ في الفطر والأضحى العواتقَ والحُيَّضَ وذوات الخدور، فأما الحُيَّض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: لِتُلْبسها أُختُها من جلبابها» رواه مسلم وأحمد والبخاري وأبو داود والترمذي. قوله العواتق: أي الشَّابات الصغيرات اللواتي بلغن المحيض. وقوله ذوات الخدور: أي المُخَدَّرات المستورات اللاتي لا يظهرن ولا يغادرن بيوتهن عادة إلا لحاجة وضرورة.
أما أنَّ صلاة العيدين فرضُ كفاية وليست فرض عين، فلأنَّ هذه الصلاة لا يُنادَى لها بأذان ولا إقامة، فربما تمت هذه الصلاة وكثيرٌ من الناس مشغولون عنها لم يُذَكِّرهم بها مؤذن ولا مقيم، ولو كانت مفروضة على الجميع لشُرع لها الأذان والإقامة لجلب الناس لها، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة» رواه مسلم وأبو داود وأحمد والترمذي وابن خُزيمة. وعن عطاء قال أخبرني جابر بن عبد الله الأنصاري «أن لا أذان للصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام ولا بعد ما يخرج، ولا إقامة ولا نداء ولا شئ، لا نداء يومئذٍ ولا إقامة» رواه مسلم. وفي رواية ثانية لمسلم وأحمد وأبي داود والنَّسائي من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه جاء «قال: شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ... » . ولو كانت مفروضة على الأعيان لنُودي بها حتى لا يتخلف عنها أحد.(2/396)
أما وقت صلاة العيدين فهو كوقت صلاة الضحى، يبدأ حين ترتفع الشمس وتبيضُّ، ويستمر حتى زوال الشمس، أي حتى تتوسط الشمس قُبَّة السماء عند الظهيرة. فعن يزيد بن حمير الرحبي قال «خرج عبد الله بن بُسر صاحبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الناس في يوم عيد فطر أو أضحى، فأنكر إبطاء الإمام فقال: إنَّا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح» رواه أبو داود وابن ماجة. قوله وذلك حين التسبيح: أي عند انتهاء وقت كراهة الصلاة، وبدء جواز الصلاة كالضحى ومطلق النوافل.(2/397)
ونقول بعبارة أخرى إن وقت صلاة العيدين يبدأ عند ارتفاع الشمس وتحوُّل لونها إلى البياض في أول النهار، ويستمر الجواز حتى منتصف النهار، فإنْ لم تُؤدَّ صلاة العيدين في هذا الوقت لسبب طارئ، أُدِّيت في الوقت نفسه من الغد، ولا يصح أداؤها بعد منتصف النهار بحال، لما روى أبو عمير بن أنس عن عمومةٍ له من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن ركباً جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا، وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم» رواه أبو داود وأحمد. ورواه النَّسائي ولفظه «إن قوماً رأوا الهلال، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمرهم أن يفطروا بعدما ارتفع النهار، وأن يخرجوا إلى العيد من الغد» . ورواه ابن ماجة وابن أبي شيبة بلفظ «أُغمي علينا هلالُ شوال فأصبحنا صياماً، فجاء ركب من آخر النهار، فشهدوا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفطروا، وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغد» . فلو كانت صلاة العيدين جائزة بعد منتصف النهار لصلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما غُمَّ عليهم الهلال، وعلموا من الركب في اليوم التالي بدء الإفطار في وقت قدوم الركب «بعدما ارتفع النهار» ، «جاء ركبٌ من آخر النهار» ، فالتبليغ كان بين منتصف النهار وآخره ولم تغرب الشمس بعد، ومع ذلك أجَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة عيد الفطر إلى صباح اليوم التالي.
صفة صلاة العيدين(2/398)
صلاة العيدين ركعتان يكبِّر في الركعة الأولى سبع تكبيرات متتاليات منها تكبيرة الإحرام، ثم يقرأ الفاتحة، ثم سورة ق والقرآن المجيد أو سورة سبح اسم ربك الأعلى، وإن قرأ غيرهما فجائز، ثم يكبر تكبيرة الركوع، ثم يكبِّر فيعتدل، ثم يكبر للسجود، ثم يجلس جلسة قصيرة، ثم يكبِّر للسجود، ثم يكبِّر للقيام، ثم يكبِّر خمس تكبيرات متتاليات، ثم يقرأ الفاتحة، ثم سورة اقتربت الساعة أو سورة الغاشية، وإن قرأ غيرهما فجائز، ثم يفعل ما فعل في الركعة الأولى. وهاتان الركعتان تُؤدَّيان جماعةً يَجهر فيهما الإمامُ بالقراءة.
وإنما قلنا سبع تكبيرات متتاليات، وخمس تكبيرات متتاليات، لنبين تتالي التكبيرات لا يفصل بين الواحدة والأخرى فاصلٌ، ولا سكوتٌ يتخلله ذكر، كما يقول بذلك عدد من الفقهاء. وإنما قلنا سبع تكبيرات متتاليات منها تكبيرة الإحرام، لنبين أن تكبيرة الإحرام داخلة في هذه التكبيرات السبع، وليست خارجة عنها كما يقول بذلك عدد من الفقهاء.(2/399)
وهذه التكبيرات سُنة مستحبَّةٌ من تركها لا إثم عليه ولا تبطل صلاته، فعن عمر رضي الله عنه قال «صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، وقد خاب من افترى» رواه ابن خُزَيمة وابن ماجة والبيهقي. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبَّر في عيدٍ ثِنْتي عشرةَ تكبيرةً، سبعاً في الأولى وخمساً في الآخرة، ولم يُصلِّ قبلها ولا بعدها» رواه أحمد والدارقطني والبيهقي. ورواه أبو داود وفيه التكبيرُ في الفطر، سبعٌ في الأولى وخمسٌ في الآخرة، والقراءة بعدهما كلتيهما. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل أبا واقد الليثي «ما كان يقرأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما بـ ق والقرآن المجيد، واقتربت الساعة وانشق القمر» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي ومالك. وعن سَمُرَة ابن جُنْدُب رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العيدين بـ سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية» رواه أحمد والطبراني. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العيدين - وقال مرة في العيد - بـ سبِّح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية، فإن وافق ذلك يوم الجمعة قرأ بهما» رواه ابن خُزَيمة والنَّسائي وابن ماجة وابن حِبَّان.
وبعد أن ينتهي الإمام من الصلاة يقف أمام المصلين، ويُستحب أن يحمل بيده عصاً أو قوساً، ثم يخطب خطبتين كخطبتي الجمعة يعظ فيهما الناس، حاثاً إياهم على التصدُّق في عيد الفطر، ومبيناً لهم حكم الأضحية وحاثاً عليها في عيد الأضحى، ولا بأس بالإكثار من التكبيرات في أثناء الخطبة.(2/400)
وخطبة العيدين سُنَّة، لهذا لا يجب على المصلين الجلوسُ لها والاستماع إليها، بل يُندب ذلك فحسب، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في الأضحى والفطر، ثم يخطب بعد الصلاة» رواه البخاري. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم الفطر، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة» رواه البخاري. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال «شهدت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. وعن ابن مسعود قال «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب الخطبتين وهو قائم، وكان يفصل بينهما بجلوس» رواه ابن خُزَيمة. وعن البراء رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نُووِل يوم العيد قوساً فخطب عليه» رواه أبو داود. وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال «من السُنة أن يكبِّر الإمام على المنبر على العيدين تسعاً قبل الخطبة وسبعاً بعدها» رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق.(2/401)
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال «كنا جلوساً في المُصلَّى يوم أضحى، فأتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسلَّم على الناس ثم قال: إن أول نُسُكِ يومكم هذا، الصلاةُ، قال فتقدم فصلى ركعتين ثم سلم، ثم استقبل الناس بوجهه، وأُعطي قوساً أو عصا فاتَّكأ عليه، فحمد الله وأثنى عليه، وأمرهم ونهاهم وقال: مَن كان منكم عجَّل ذبحاً فإنما هي جَزْرَةٌ أطعمه أهله، إنما الذبح بعد الصلاة ... » رواه أحمد والطبراني. قوله جَزْرَة: أي شاةٌ مذبوحة. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى عند دار كثير بن الصلت ركعتين، ثم خطب لم يذكر أذاناً ولا إقامة» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنَّسائي. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكِّئاً على بلال، فأمر بتقوى الله وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكَّرهم، ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكَّرهن فقال: تصدقن فإن أكثركنَّ حَصَبُ جهنم، فقامت امرأة من سِطةِ النساء سفعاءُ الخدين فقالت: لِمَ يا رسول الله؟ قال: لأنكنُّ تُكْثِرن الشَّكاةَ وتَكْفُرن العشير، قال: فجعلن يتصدَّقن من حُليِّهن، يُلقين في ثوب بلال من أقراطهنَّ وخواتمهن» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. قوله: من سِطة النساء: أي من أوساط النساء حسباً ونسباً. وقوله سفعاءُ الخدين: أي بخدَّيها اسوداد وتغيُّر في اللون. وقوله تُكْثِرن الشَّكاة: أي تُكْثِرن الشكوى والتذمر. وقوله تَكْفُرن العشير: أي تجحدن إحسان الزوج. وقوله أقراطهنَّ: أقراطٌ جمع قُرط وهو ما يُعَلَّق بالآذان للتزيُّن. وعن عبد الله بن السائب رضي الله عنه قال «حضرتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عيد، صلى وقال: قد قضينا الصلاة فمن شاء جلس للخطبة، ومن شاء أن يذهب ذهب» رواه ابن(2/402)
خُزَيمة والبيهقي وأبو داود والنَّسائي.
وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من خطبة الرجال ذهب إلى مُصلَّى النساء، فوعظهن وذكَّرهن وأمرهن بالصدقة، أي أنه كان يخطب في الرجال ثم يذهب يخطب في النساء، كما جاء ذلك واضحاً في حديث مسلم وأحمد وأبي داود والنَّسائي من طريق جابر بن عبد الله المار قبل قليل «ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكَّرهن فقال: تصدَّقْن» . وكما جاء ذلك واضحاً أيضاً في حديث رواه البخاري من طريق ابن عباس رضي الله عنه قال «خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فطر أو أضحى فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء فوعظهن وذكَّرهن وأمرهن بالصدقة» . وكذلك كان الخلفاء يفعلون.
ولما كان الحالُ في السابق لا يمكِّن الإمامَ من أن يُوصل صوته للنساء الجالسات في المؤخرة، أي خلف جموع الرجال الضخمة التي حضرت إلى المصلى من كل صوب، لشدة الحث على صلاة العيدين، كان الإمام ينزل إليهن ويقترب من جمعهن ويخطب فيهن، ولو كان صوته يصل إلى مسامع النساء لما احتاج إلى النزول إليهن. وقد جاء هذا المعنى فيما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال «أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَصلَّى قبل الخطبة، قال ثم خطب، فرأى أنه لم يُسمع النساء، فأتاهن فذكَّرهن ووعظهن وأمرهن بالصدقة، وبلال قائل بثوبه، فجعلت المرأة تلقي الخاتم والخُرص والشئ» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والبيهقي. قوله الخُرص: أي الحلقة من الذهب أو الفضة، أو هو القُرط بحبة واحدة.
لهذا أقول إنه مع وجود مكبِّرات الصوت الآن، فإن الإمام يكفيه أن يوجِّه بعض كلامه إلى النساء دونما حاجة إلى النزول إليهن، أي يخصص الإمام جزءاً من خطبته لهنَّ.(2/403)
إن الأصل في صلاة العيدين أن تُؤدَّى في المُصلَّى، أي في خارج المدينة وليس في مساجدها، فعن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى أو فطرٍ إلى المُصلَّى، فصلى بهم ثم انصرف» رواه ابن خُزَيمة. وعن بكر بن مُبَشِّر الأنصاري رضي الله عنه قال «كنت أغدو مع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المُصلَّى يوم الفطر ويوم الأضحى، فنسلك بطن بطحان حتى نأتي المُصلَّى، فنصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم نرجع من بطن بطحان إلى بيوتنا» رواه أبو داود والحاكم والبغوي. وقد مرت في بحثنا هذا أحاديث تذكر خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المُصلَّى، فيمكن مراجعتها.
أما إن حال دون الصلاة في المصلى حائل ومانع كمطر أو قيظ يضرُّ بالمصلِّين فلا بأس من أدائها في المساجد، فعن أبي يحيى عبيد الله التيمي عن أبي هريرة «أنهم أصابهم مطر في يوم عيد، فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - العيد في المسجد» رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
ويُسنُّ أن يتخذ الإمام في صلاة العيدين سُترة يصلي إليها، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرص على اتخاذ سُترة لصلاة العيدين، فعن ابن عمر رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان تُركَزُ الحربةُ قُدَّامه يوم الفطر والنَّحر ثم يصلي» رواه البخاري. ورواه ابن خُزَيمة وزاد «وكان يخطب بعد الصلاة» . وفي رواية ثانية عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغدو إلى المُصلَّى والعَنَزَةُ بين يديه تُحمَل وتُنْصَب بالمُصلَّى بين يديه فيصلي إليها» رواه البخاري. وقد مرَّ مزيد بحث في موضوع اتخاذ السُّترة في بحث [السُّترة للمُصلِّي] فصل [القِبلة والسُّترة] .
التكبير في العيدين(2/404)
التكبير سُنَّة مستحبَّة مشروعة في أيام التشريق لقوله سبحانه وتعالى {وَاذْكُرُوْا اللهَ في أَيَّامٍ مَعْدُوْدَاتٍ ... } الآية 203 من سورة البقرة، والأيام المعدودات هي أيام التشريق، ذكر ذلك ابن عباس رضي الله عنه فيما رواه عنه الطبري في تفسيره من عدة طرق. ويدخل عيد الأضحى في هذه الأيام لمماثلته لها من حيث تشريق اللحم والأكل والشرب، وعلى ذلك فالتكبير مشروع من صبيحة يوم عيد الأضحى إلى آخر أيام التشريق. ويصح أن يُبدأ به صبيحةَ يوم عرفة لما روى محمد بن أبى بكر الثَّقفي قال «سألت أنساً ونحن غاديان من مِنى إلى عرفات عن التلبية، كيف كنتم تصنعون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: كان يُلبِّي المُلبِّي لا يُنكَر عليه، ويكبِّر المكبِّر فلا يُنكَرُ عليه» رواه البخاري. وروى ابن أبي شيبة والبيهقي والحاكم عن علي رضي الله عنه «أنه كان يكبِّر بعد صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، ويكبِّر بعد العصر» . وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس «أنه كان يكبِّر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، لا يكبِّر في المغرب، يقول: الله أكبر كبيراً، الله أكبر كبيراً، الله أكبر وأجلُّ، الله أكبر ولله الحمد» هذا في عيد الأضحى.
أما في عيد الفطر فيبدأ التكبير من بعد غروب شمس آخر أيام رمضان، ويستمر حتى صلاة العيد من ضحى يوم العيد، لقوله سبحانه وتعالى { ... يُرِيْدُ اللهُ بِكُم اليُسْرَ وَلا يُرِيْدُ بِكُمْ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوْا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوْا اللهََ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوْنَ} الآية 185 من سورة البقرة.
أما صيغة التكبير في العيدين، فإنه لم ترد أية صيغة برواية صحيحة ولا حسنة من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكل ما ورد فيها رواياتٌ عن الصحابة أصحُّها إسناداً وأَوْلاها بالأخذ الصيغة التالية:(2/405)
[الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد] ، وقد رواها ابن أبي شيبة وابن المنذر عن علي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. وهناك صيغة ثانية رواها ابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله عنه هي [الله أكبر كبيراً الله أكبر كبيراً، الله أكبر وأجلُّ، الله أكبر ولله الحمد] ، وقد وردت قبل قليل.وعلى كلٍّ فالأمر في هذا موسَّع.
والتكبير غير مختصٍّ بالصلوات المكتوبات وغير المكتوبات، وإنما هو تكبير مطلق في كل وقت وعلى أية حال، للرجال وللنساء على السواء، لأنه لم يرد أي تقييد معتبر للتكبير في العيدين.
سُنَنُ العيدين الأخرى
1- الأكل في العيد: يُسن الأكل في عيد الفطر قبل الخروج إلى المصلى، وفي عيد الأضحى بعد الصلاة، فيأكل من أُضحيته إن كانت له أُضحية، ويُسنُّ أكلُ التمْرِ في عيد الفطر، وأن يتناول منه حبَّاتٍ وتراً، فعن أنس رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، وفي رواية عنه أضاف: ويأكلهن وِتْراً» رواه البخاري وأحمد وابن حِبَّان والحاكم وابن خُزَيمة. وعن بُرَيدة الأسلمي رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر لا يخرج حتى يَطْعَم، ويوم النحر لا يَطْعَمُ حتى يرجع» رواه أحمد والترمذي وابن ماجة. ورواه ابن خُزَيمة بلفظ «إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يخرج يوم الفطر حتى يَطْعَم، ولا يَطْعَم يوم النحر حتى يذبح» . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفطر يوم الفطر قبل أن يخرج، وكان لا يصلي قبل الصلاة، فإذا قضى صلاته صلَّى ركعتين» رواه أحمد والحاكم. ورواه ابن خُزَيمة وابن ماجة وجاء فيه «فإذا رجع صلى في بيته ركعتين» .(2/406)
وباختصار أقول: إن السُّنة في يوم الفطر أن يأكل المسلم شيئاً من الطعام ثم يخرج إلى المُصلَّى، وإنَّ السُّنة في يوم الأضحى أن يخرج المسلم إلى المصلى أولاً فيصلي، ثم يعود إلى بيته فيأكل من أُضحيته إن كانت له أُضحية، أو يأكل من طعام بيته.
2- مخالفة الطريق في العيد: يُسن للإمام وللمأمومين أن يذهبوا إلى المُصلَّى من طريق، ويعودوا منه إلى بيوتهم من طريق أخرى، فعن جابر رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عيد خالف الطريق» رواه البخاري. وعن ابن عمر رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج إلى العيدين من طريق ويرجع من طريق أخرى» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم والبيهقي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج إلى العيدين رجع في غير الطريق الذي خرج فيه» رواه أحمد والترمذي وابن حِبَّان وابن خُزَيمة والبيهقي.(2/407)
3- الغناء في العيد: يسن الغناء والضرب بالدُّفوف والنفخ بالمزامير والرقص بالسلاح في العيد، ويُسن إظهار الفرح والسرور فيه، ولا بأس بأن يصحب الإمامَ وهو خارج إلى المُصلَّى ناسٌ من المُغنين يغنون ويرقصون حول الإمام أو وراءه. فعن عائشة رضي الله عنها قالت «دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث، قالت وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزاميرُ الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا بكر إنَّ لكل قوم عيداً وهذا عيدنا» رواه البخاري ومسلم وأحمد. وعنها رضي الله عنها قالت «جاء حبشٌ يَزْفِنُون في يوم عيد في المسجد، فدعاني النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوضعت يدي على منكبه فجعلت أنظر إلى لَعِبهم حتى كنت أنا التي أنصرف عن النظر إليهم» رواه مسلم وأحمد والنَّسائي. قوله جاء حبش يزفِنون: أي جاء الأحباش وهم جماعة من أصل حبشي يرقصون بالحِراب. وعن قيس بن سعد بن عبادة قال «.. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُقَلَّسُ له يومَ الفطر» رواه أحمد وابن ماجة. ولابن ماجة من طريق عامر قال «شهد عياض الأشعري عيداً بالأنبار فقال: لا أراكم تُقَلِّسُون كما كان يُقَلَّس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» . قوله يُقَلَّس، وتقلِّسون: أي يُضْرَب بالدُّف ويُغنَّى.(2/408)
4- وقوف الإمام للناس عَقِبَ صلاة العيدين: يُستحب للإمام إذا صلى صلاة العيدين أن يتمهَّل في الانصراف حتى ينصرف الناس، فينظر إليهم ويتفقد أحوالهم ويسلِّم عليهم، فعن عبد الرحمن بن عثمان التيمي رضي الله عنه قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً في السوق يوم العيد ينظر والناس يمرُّون» رواه أحمد. ورواه الطبراني ولفظه «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من العيدين أتى وسط المُصلَّى، فقام فنظر إلى الناس كيف ينصرفون وكيف سِمَتُهم، ثم يقف ساعة ثم ينصرف» .(2/409)
5- عدم الصلاة قبل صلاة العيدين وبعدها في المُصلَّى: ليست لصلاة العيدين سُنة قبلية ولا بعدية، وحتى التَّنفُّلُ في المصلى، فإنه غير مُستحَب. أما إن كانت الصلاة في المسجد، فإنَّ الاستحباب يبقى قائماً لأداء تحية المسجد، فالمسجد له تحية عند دخوله، أما العراء والصحراء والمُصلَّى فلا تحية لها. فالمسلم إذا أتى إلى المُصلَّى جلس ولم يُصلِّ، ثم إذا صلى العيدين واستمع إلى الخطبة انصرف دون أن يصلي في المُصلَّى أية ركعة. هذه هي السُّنة في العيدين، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المُصلَّى، فأول شئ يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه أو يأمر بشئ أمر به ثم ينصرف» رواه البخاري. ورواه مسلم وأحمد بنحوه. وعن ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم الفطر ركعتين، لم يصلِّ قبلها ولا بعدها، ثم أتى النساء ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة فجعلن يُلقين، تُلْقي المرأة خُرْصَها وسِخابَها» رواه البخاري ومسلم وأحمد وابن خُزَيمة وأبو داود. قوله خُرصها وسِخابها: الخُرص هو الحلقة الصغيرة من الحلي، والسِّخاب هي القلادة. وعن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه خرج يوم عيد فلم يصلِّ قبلها ولا بعدها، فذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله» رواه أحمد والترمذي والحاكم.
2. صلاة الجنازة
حكم صلاة الجنازة
صلاة الجنازة فرضٌ على الكفاية، وذلك أنها حق من حقوق الأموات على الأحياء، فيجب على الأحياء أداء هذا الحق للأموات كسائر الحقوق في الإسلام. وقد صلَّى الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه الصلاة، وداوم هو عليها إلا في حالات ثلاث:
أ- ألغالِّ أي الخائن لأموال المسلمين.
ب- المدين الذي لم يترك مالاً للسَّداد، ولم يتطوَّع أحدٌ لسداد دَيْنه.(2/410)
ج - قاتل نفسه أي المنتحر.
هؤلاء الثلاثة امتنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عليهم بنفسه، ولكنه أذن للمسلمين بها.
أما عن الأول فقد روى زيد بن خالد الجُهَني رضي الله عنه «أن رجلاً من المسلمين توفي بخيبر، وأنه ذُكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: صلوا على صاحبكم، فتغيَّرت وجوه القوم لذلك، فلما رأى الذي بهم قال: إن صاحبكم غلَّ في سبيل الله، ففتَّشنا متاعه فوجدنا فيه خَرَزاً من خرز اليهود ما يساوي درهمين» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة.
وأما عن الثاني فقد رُوي عن أبي قتادة رضي الله عنه قال «أُتي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بجنازة ليصلي عليها فقال: أعليه دين؟ قالوا: نعم دينارين، قال: ترك لهما وفاء؟ قالوا: لا، قال: فصلُّوا على صاحبكم، قال أبو قتادة: هما إليَّ يا رسول الله، قال فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه ابن حِبَّان والنَّسائي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كان الرجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مات وعليه دين سأل هل له وفاءٌ، فإذا قيل نعم صلى عليه، وإذا قيل لا، قال: صلُّوا على صاحبكم، فلما فتح الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من ترك ديْناً فعليَّ، ومن ترك مالاً فللوارث» رواه ابن حِبَّان والنَّسائي.
وأما عن الثالث فقد رُوي أن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «مات رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله مات فلان، قال: لم يمت، ثم أتاه الثانية ثم الثالثة فأخبره، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: كيف مات؟ قال: نحر نفسه بِمِشْقَصٍ، قال فلم يصل عليه» . وفي رواية قال «إذن لا أُصلِّي عليه» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسائي.(2/411)
هذه هي الحالات الثلاث التي امتنع فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على الأموات وأَذِنَ لغيره من المسلمين بالصلاة عليهم.
وسيأتي بعد قليل حكم الصلاة على شهيد المعركة مع الكفار، وأن ذلك غير واجب وغير مندوب، ولكن هذه الحالة ليست حالة رابعة تضاف إلى الحالات الثلاث السابقة، وإنما هي متميِّزة بأنها الحالة التي يستغني فيها الشهيد عن الصلاة عليه بما نال من أجر ومنزلة عند ربه، وأنه لم يبق له حق على الأحياء بالصلاة عليه لأجل ذلك، فلا يصلي عليه الأحياء لا وجوباً ولا ندباً.
إن المسلمين مأمورون بالصلاة على الميت ما دام مسلماً يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، لما روى أنس بن مالك رصي الله عنه قال «كان شابٌّ يهودي يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فمرض، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده فقال: أفتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال فجعل ينظر إلى أبيه فقال: قل كما يقول لك محمد، قال ثم مات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلوا على صاحبكم» رواه ابن أبي شيبة. وهذه الصلاة هي فرضٌ على الكفاية، وهو قول الجمهور، فلو صلَّى على الميت شخصٌ واحدٌ لكفى، ولَسَقط الإثم عن الآخرين.
حكمُ الصلاة على شهيد المعركة مع الكفار(2/412)
وإنما قلت [على شهيد المعركة مع الكفار] لأُخْرِج من هذا الحكم من يُقتل في حرب البغاة لأنها حرب بين مسلمين والقتيل فيها غير شهيد، وكذلك يخرج من هذا الحكم من يُقتل في غير الجهاد ولو كان القتل بفعل كافر، كأن يَقتل كافرٌ مسلماً في نزاع وشجار بينهما، ويخرج من هذا الحكم أيضاً من خرجوا للجهاد في سبيل الله فماتوا بالطاعون أو بالغرق أو بداء البطن أو بغير ذلك من الحوادث والأمراض، وإن كانوا عند الله شهداء. فيبقى مَن يقتل في المعركة من قبل الكفار فحسب، فهذا هو الشهيد الذي يجري البحث عن حكم الصلاة عليه، ويلحق به طبعاً من يُجرح في المعركة مع الكفار ثم يموت متأثراً بجراحه، ولو تأخَّر موته أياماً أو أسابيع أو شهوراً، لأن واقعه أنه قُتل في المعركة مع الكفار ولكنْ تأخر خروج روحه فترة طالت أو قصرت.
هذا الشهيد لا يُغسَّل ولا يُصلى عليه، بل يُدفن بثيابه وما لُطخت به من الدماء دون صلاة. فالصلاة على الشهيد غير واجبة ولا حتى مندوبة، وهي جائزة فقط، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين من قتلى أُحُد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أُشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللحد وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يُغَسَّلوا ولم يُصلَّ عليهم» . وفي رواية أخرى «ولم يُصلِّ عليهم ولم يُغَسِّلهم» رواه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة. ورواه أحمد بلفظ «إنه قال في قتلى أحد لا تُغسِّلوهم، فإن كل جرح أو كلَّ دم يفوح مسكاً يوم القيامة، ولم يُصلِّ عليهم» .(2/413)
أما الأحاديث المرويَّة عن تغسيل شهداء أُحُد والصلاة عليهم، فكلها لا تخلو من مقال، وفيها علة وضعف، فلا تصمد أمام هذا الحديث الصحيح. فيبقى حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه وهو «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوماً فصلى على أهل أُحُد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فَرَطٌ لكم، وأنا شهيد عليكم ... » رواه البخاري ومسلم. قوله إني فَرَطٌ لكم: مأخوذ من الفرط وهو من يسبق الناس إلى مورد الماء ليُهيِّئ لهم الحياض ويملأها بالماء، وهو هنا بمعنى أني متقدمكم إلى الحوض أو الكوثر في الجنة وستَرِدُون عليَّ. فهذا الحديث صحيح، وفيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صلى على شهداء أحد، إلا أن هذه الصلاة منه عليه الصلاة والسلام ليست للغاية نفسها من صلوات الجنائز، وإنما هي توديع منه لهؤلاء الشهداء قبل أن يموت، فهي أشبه بتحية المودِّع للموتى، فعن عقبة بن عامر الجُهَني قال «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أُحد بعد ثماني سنين كالمودِّع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فَرَط وأنا عليكم شهيد ... » رواه البخاري ومسلم. فهذه الرواية توضح أن صلاته على شهداء أحُد كانت وقفة وداع لهؤلاء الشهداء. فالشهيد لا يُغسَّل ولا يُصلَّى عليه.
الصلاة على الأموات المسلمين(2/414)
إن شهيد المعركة مع الكفار هو الحالة الوحيدة المستثناة من وجوب الصلاة على الأموات المسلمين، فكل مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله يجب على المسلمين أن يُصلُّوا عليه، لا فرق بين التقي والشقي، ولا بين الكبير والصغير، ولا بين العدل والفاسق، وحتى القاتل والمنتحر ومرتكب الكبيرة يجب على الأحياء أن يصلوا عليهم، والسِّقط - وهو الطفل الذي وُلد ميتاً أو مات عقب ولادته مباشرة - تجب الصلاة عليه هو الآخر ما دام إنساناً ذا روح، أي ولد عن أربعة أشهر فما فوق، لأن نفخ روحه يحصل عقب الأشهر الأربعة وهو في بطن أمه، وعند نفخ الروح يصبح إنساناً، فإن مات بعدئذٍ وجبت الصلاة عليه، فعن بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق الصدوق قال «إن أحدكم يُجمع خَلْقُه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مُضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله مَلَكاً فيُؤمر بأربع كلمات، ويُقال له اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح» رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة. وعن المغيرة بن شُعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «السِّقط يُصلَّى عليه ويُدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» رواه أحمد والنَّسائي وابن ماجة وابن حِبَّان والترمذي.
أما ما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «لقد تُوفِّي إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمانية عشر شهراً فلم يُصَلِّ عليه» رواه أحمد والبزَّار وأبو يعلى. فإن هذا الحديث منكر، قاله أحمد، وقال ابن عبد البر: لا يصح. فلا يُستشهد به.(2/415)
وتُشرع الصلاةُ على مَن قُتل في حدٍّ من حدود الله سبحانه، كمن قَتَل نفساً فقُتل، أو زنى وهو مُحصَن فرُجم، فعن عمران بن حصين رضي الله عنه «أن امرأة من جهينة اعترفت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزنا، وقالت أنا حبلى، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - وليها فقال: أَحسنْ إليها، فإذا وضعَتْ فأخبرني، ففعل، فأمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فشُكَّت عليها ثيابُها، ثم أمر برجمها فرُجمت، ثم صلى عليها ... » رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسائي. قوله فشُكَّت: أي فشُدَّت، كي لا تتكشف عند رجمها بالحجارة. وعن جابر رضي الله عنه «أن رجلاً من أسلم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعترف بالزنا، فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى شهد على نفسه أربع مرات، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أبك جنون؟ قال: لا، قال: أُحْصِنْتَ؟ قال: نعم، فأمر به فرُجِم بالمُصلَّى، فلما أذلقته الحجارة فرَّ، فأُدرك فرُجم حتى مات، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - خيراً وصلى عليه» رواه البخاري. قوله أذلقته الحجارة: أي بلغت الحجارة منه الجهد والشدة. وروى ابن أبي شيبة عن النعمان «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على ولد الزنا، وعلى أمه ماتت في نفاسها» .
فصلاة الجنازة مشروعة على جميع أموات المسلمين مهما كانت معاصيهم وأحوالهم، باستثناء شهيد المعركة مع الكفار كما سبق بيانه.
الصلاة على الغائب(2/416)
تُشرع الصلاة على الميت الغائب إطلاقاً، سواء مات من زمن قريب أو من زمن بعيد، وسواء مات في أرض الإسلام ودولة الإسلام أو مات في دار الكفر وبلاد الكفار، وسواء صلى عليه من قبلُ ناسٌ أو لم يصلِّ عليه أحد، وسواء دُفن في قبره أو لم يدفن بعد. فالصلاة مشروعة على الغائب مطلقاً دون تقييدٍ بزمان أو مكان أو حالة. فقد روى حذيفة بن أسيد رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء ذات يوم فقال: صلوا على أخٍ لكم مات بغير أرضكم، قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: صَحْمةُ النجاشي، فقاموا فصلوا عليه» رواه أحمد وابن ماجة وأبو داود الطيالسي. وعن الشعبي قال «أخبرني من مرَّ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبر منبوذٍ، فأمَّهم وصفوا خلفه، فقلت: يا أبا عمرو ومَن حدَّثك؟ قال: ابن عباس» رواه أحمد ومسلم. ورواه البخاري ولفظه «عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أَتى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قبراً فقالوا: هذا دُفن أو دُفنت البارحة، قال ابن عباس رضي الله عنه: فصففنا خلفه، ثم صلى عليها» . ورواه أبو داود بلفظ «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بقبرٍ رطبٍ، فصفُّوا عليه وكبَّر أربعاً» . وعن ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبرٍ بعد شهر» رواه البيهقي والدارقطني. وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن أسود، رجلاً أو امرأة، كان يَقُمُّ المسجد فمات، ولم يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بموته، فذكره ذات يوم فقال: ما فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا رسول الله، قال: أفلا آذنتموني؟ فقالوا: إنه كان كذا وكذا، قصَّته، قال فحقُّروا شأنه، قال: فدلُّوني على قبره، فأتى قبره فصلى عليه» رواه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجة وابن حِبَّان.
فضلُ الصلاة على الجنازة واتباعها(2/417)
من تبع جنازة من بدء سيرها وخروجها من بيت أهلها حتى يُصلَّي عليها نال أجراً يَعِْدل وزن الجبل العظيم، فليحرص المسلم على المشي في الجنائز والصلاة عليها، وإن هو استمرَّ في المشي في الجنازة حتى تُوارى التراب نال أجراً يعدل وزن جبلين عظيمين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من شهد الجنازة حتى يصلِّي عليها فله قيراط، ومن شهد حتى تُدفن كان له قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. وفي رواية أخرى لمسلم بلفظ «عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من صلى على جنازة ولم يَتْبَعْها فله قيراط، فإن تبعها فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: أصغرُهما مثل أُحُد» . وكما يحصل الثواب بالمشي في الجنازة، فإنه يحصل بالركوب في سيارة أو بركوب دابَّة، فالماشي كالراكب في اتِّباع الجنازة.
الصلاة على الميت في المسجد(2/418)
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة من بعده يصلُّون على الميت في المُصلَّى، أي في المكان الذي كانوا يصلُّون فيه صلاة العيدين، وقَلَّما كانوا يصلون على الميت في المسجد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشيَّ في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المُصلَّى فصفَّ بهم، وكبَّر عليه أربع تكبيرات» رواه البخاري ومالك. وروى عباد بن عبد الله بن الزبير «أن عائشة أمرت أن يُمَرَّ بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها، فقالت: ما أسرع ما نسي الناس، ما صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد» رواه مسلم وأبو داود وأحمد والترمذي وابن ماجة. وفي رواية أخرى عند مسلم والبيهقي من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير يحدِّث عن عائشة رضي الله عنها «أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص أرسل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمروا بجنازته في المسجد فيُصَلِّين عليه ففعلوا، فوُقِف به على حُجَرِهن يصلين عليه، أُخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد، فبلغهن أن الناس عابوا ذلك، وقالوا ما كانت الجنائز يُدخل بها المسجد، فبلغ ذلك عائشة فقالت: ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به، عابوا علينا أن يُمَرَّ بجنازة في المسجد، وما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد» .(2/419)
وأما ما روى صالح مولى التوأمة عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من صلى على جنازة في المسجد فليس له شئ» رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي. ورواه ابن أبي شيبة ولفظه «فلا صلاة له» . ورواه أبو داود ولفظه «فلا شئ له» . فإنَّ هذا الحديث مداره على صالح مولى التوأمة، اختلط في آخر عمره، وضعفه أحمد، وقال عنه ابن القطان ومالك والنَّسائي إنه ليس ثقةً، فيطرح حديثه. وعليه فإنا نقول إن الأَولى أن يُصلى على الجنائز في المُصلَّى، وتجوز الصلاة في المساجد دون إثم ودون حرج.
موقفُ الإمام من الرجل ومن المرأة(2/420)
يُشرع أن يقف الإمام في صلاة الجنازة حيال رأس الرجل وأعالي صدره، وحيال وسط المرأة وعند عَجِيزتِها، هذا إن كانت الجنازة واحدة، أما إن تعددت الجنائز فكما يلي: إذا كانوا أمواتاً عدة صُفُّوا بحيث يكون الواحد أمام الآخر، ثم وقف الإمام حذاءَ رأس الأدنى إليه منهم، وصلى عليهم جميعاً صلاة واحدة، فإن كانوا رجلاً وامرأة وطفلاً معاً جُعل الرجل مما يلي الإمام، ثم جُعل الطفل أمام الرجل ثم جُعلت المرأة أمام الطفل مما يلي القِبلة، ثم صلى الإمام عليهم جميعاً صلاة واحدة، فعن سَمُرَة بن جُنْدُب رضي الله عنه قال «صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها» رواه البخاري وأحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي. ورواه مسلم بلفظ «صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصلى على أم كعب ماتت وهي نُفَسَاء، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها وسطها» . وعن أبي غالب - الحفاظ - عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أنه أُتي بجنازةِ رجلٍ، فقام عند رأس السرير، ثم أُتي بجنازة امرأة فقام أسفل من ذلك حذاء السرير، فلما صلى قال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة أهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من الرجل والمرأة نحواً مما رأيتك فعلت؟ قال: نعم، قال فأقبل علينا العلاء بن زياد فقال: احفظوا» رواه أحمد والترمذي وابن ماجة والطحاوي. ورواه أبو داود ولفظه «فقام عند عَجِيزتِها» . ورواه البيهقي ولفظه «فقام أسفلَ من ذلك حذاء السرير يعني وسط المرأة» . قوله عَجِيزتِها: أي مُؤَخَّرتِها، وتعني وسط المرأة. وعن عطاء بن أبى رباح عن عمار - مولى الحارث ابن نوفل - قال «حضرت جنازة صبي وامرأة، فقُدِّم الصبي مما يلي القوم، ووُضعت المرأة وراءه، فصلى عليهما، وفي القوم أبو سعيد الخدري وابن عباس وأبو قتادة وأبو هريرة، فسألتهم عن ذلك فقالوا: السُّنَّة» رواه النَّسائي وأبو داود والبيهقي. قوله وُضعت المرأة(2/421)
وراءه: أي وُضع نعش المرأة وراء نعش الصبي.
وإذا كان الصبي مسجَّى على جنبه الأيمن، فإن المرأة تكون آنذاك أمامه مما يلي القِبلة، يشهد لذلك ما رواه النَّسائي عن نافع «أن ابن عمر صلى على تسع جنائز جميعاً، فجعل الرجال يلون الإمام والنساء يلين القِبلة، فصفَّهن صفاً واحداً، ووُضعت جنازة أم كلثوم بنت علي امرأة عمر بن الخطاب وابن لها يقال له زيد، وُضعا جميعاً، والإمام يومئذ سعيد بن العاص، وفي الناس ابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو قتادة، فوُضع الغلام مما يلي الإمام، فقال رجل: فأنكرتُ ذلك فنظرت إلى ابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي قتادة فقلت: ما هذا؟ قالوا: هي السُّنَّة» .
استحبابُ كثرةِ المصلين وكثرةِ الصفوف(2/422)
يُندب أن يصلي على الجنازة جمعٌ غفير لا يقلون عن أربعين، فإن بلغوا المائة فهو زيادة فضل وخير، كما يندب أن يصطفَّ المصلُّون في ثلاثة صفوف على الأقل، وإن كان المصلون من أهل الصلاح والتقوى كان ذلك أرجى لقبول تشفُّعِهم في الميت، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يُشركون بالله شيئاً إلا شفَّعهم الله فيه» رواه مسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حِبَّان. وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ما من ميت تصلي عليه أمةٌ من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شُفِّعوا فيه» رواه مسلم وأحمد والنَّسائي والترمذي وابن حِبَّان. وعن مالك بن هبيرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما من مؤمن يموت فيصلي عليه أمةٌ من المسلمين بلغوا أن يكونوا ثلاثة صفوف إلا غُفر له» رواه أحمد والترمذي. ورواه ابن ماجة والحاكم والبيهقي. ورواه أبو داود بلفظ «ما مِن مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب، قال: فكان مالك إذا استقلَّ أهلَ الجنازة جزَّأهم ثلاثة صفوف، للحديث» .
صفةُ صلاة الجنازة(2/423)
يقف الإمام والناسُ صفوفٌ خلفه، فيكبِّر رافعاً يديه، ثم يقرأ الفاتحة، ولا بأس بقراءة سورة بعدها، ثم يكبِّر ثانية رافعاً يديه، فيصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأَولى أن يقول الصلاة الإبراهيمية، ثم يكبِّر ثالثة رافعاً يديه، فيدعو للميت بإخلاص طالباً له المغفرة والرحمة، وإن هو دعا بأحد الأدعية المأثورة كان أفضل، ثم يكبِّر التكبيرة الرابعة ثم يسلم عن يمينه، وإن هو سلَّم أيضاً عن شماله كان أفضل، ويُسِرُّ في الصلاة ولا يجهر. هذه هي الصفة الفضلى للصلاة على الجنازة. ويجوز جمع الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الفاتحة والسورة، كما يجوز أيضاً جمع الدعاء إليها لتكون كلها عقب التكبيرة الأولى، ثم يكبر ثلاثاً دون قراءة أو ذكر أو دعاء. فالمشروع الواجب هو قراءة الفاتحة عقب التكبيرة الأولى، ثم ثلاث تكبيرات أخرى، وباقي الترتيب مُوسَّع يختار منه المصلي ما يشاء. والصلاة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - تصحُّ بأية صيغة، ولكن الصلاة الإبراهيمية المشروعة في جلوس التشهد في الصلاة أفضل وأولى. ويجوز أن تكون صلاة الجنازة جهرية، ولكن الإسرار بها أفضل، ويجوز أن يكون التكبير خمساً وستاً وسبعاً. وهذه هي الأدلة على صفة صلاة الجنازة:
أ- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش، فهلُمَّ فصلُّوا عليه، قال: فصففنا، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه ونحن صفوف» رواه البخاري ومسلم.
ب- عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة، فكبَّر عليها أربعاً وسلَّم تسليمة» رواه البيهقي والدارقطني.
ج- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال «خِلالٌ كان يفعلهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تركهنَّ الناس، إحداهنَّ تسليم الإمام في الجنازة مثل تسليمه في الصلاة» رواه الطبراني والبيهقي.(2/424)
د- عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال «صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب قال: ليعلموا أنها سُنَّة» رواه البخاري وأبو داود والشافعي والترمذي وابن حِبَّان. ورواه النَّسائي ولفظه «فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وجهر حتى أسمَعَنا، فلما فرغ أخذت بيده فسألته، فقال سُنَّةٌ وحق» . وفي روايةٍ عند الحاكم بلفظ « ... ثم انصرف فقال: يا أيها الناس، إني لم أقرأ علناً إلا لتعلموا أنها السُّنة» . قوله سُنَّة والسُّنة هنا: أي طريقة الإسلام، وليس بمعنى النافلة أو التطوُّع.
هـ- عن أبي أُمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن السُّنة في الصلاة على الجنازة أن يكبِّر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سراً في نفسه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات، لا يقرأ في شئ منهن، ثم يُسلِّم سراً في نفسه» رواه البيهقي والشافعي وعبد الرزاق وأبو داود الطيالسي. وأخرج نحوه الحاكم من وجه آخر.
و عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه «أنه كان يرفع يديه على كل تكبيرة من تكبير الجنازة، وإذا قام بين الركعتين يعني في المكتوبة» رواه البيهقي والشافعي. ورُوي الرفع عن أنس وعن ابن عباس أيضاً.
ز- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «نعى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه النجاشي، ثم تقدَّم فصفوا خلفه، فكبَّر أربعاً» رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
ح - عن جابر رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على أَصْحمة النجاشي فكبَّر أربعاً» رواه البخاري ومسلم.
ط - عن عبد الأعلى قال «صليت خلف زيد بن أرقم رضي الله عنه على جنازة، فكبَّر خمساً، فقام إليه أبو عيسى عبد الرحمن بن أبى ليلى، فأخذ بيده فقال: نسيت، قال: لا ولكن صليت خلف أبى القاسم خليلي فكبَّر خمساً، فلا أتركها» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسائي.(2/425)
ي - عن أبي وائل قال «كانوا يكبِّرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعاً وخمساً وستاً، أو قال أربعاً، فجمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبر كلُّ رجلٍ بما رأى، فجمعهم عمر رضي الله عنه على أربع تكبيرات كأطول الصلاة» رواه البيهقي.
ك - عن شرحبيل بن سعد قال «حضرت عبد الله بن عباس صلى بنا على جنازة بالأبواء، وكبَّر ثمَّ قرأ بأم القرآن رافعاً صوته بها، ثم صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: اللهم عبدُك وابنُ عبدك وابنُ أمتك يشهد أن لا إله إلا الله وحدك لا شريك لك ويشهد أن محمداً عبدك ورسولك أصبح فقيراً إلى رحمتك وأصبحتَ غنياً عن عذابه، تَخلَّى من الدنيا وأهلها، إن كان زاكياً فزكِّه، وإن كان مخطئاً فاغفر له، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تُضِلَّنا بعده، ثم كبر ثلاث تكبيرات ثم انصرف، فقال: يا أيها الناس إني لم أقرأ علناً إلا لتعلموا أنها السُّنة» رواه الحاكم. وشرحبيل ضعفه ناس ووثَّقه ابن حِبَّان وابن خُزَيمة وابن معين، فيصلح للاستدلال.
الدعاء للميت
يصح الدعاء بأية صيغة فيها طلب الرحمة والمغفرة للميت، والتشفُّع له بإخلاص، إلا أن الدعاء بالمأثور أفضل، وهذه ثلاث صيغٍ للدعاء على الميت مروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
أ- اللهم اغفر له وارحمه، وعافِهِ واْعفُ عنه، وأَكْرِمْ نُزُلَه ووسِّع مُدْخَله، واغسله بالماء والثلج والبَرَد، ونقِّه من الخطايا كما نقَّيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدلْه داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأَعِذْه من عذاب القبر ومن عذاب النار.
ب- اللهم اغفر لحيِّنا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأُنثانا، اللهم من أحييتَه منا فأَحْيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفَّه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تُضِلَّنا بعده.(2/426)
ج- اللهم عبدُك وابنُ عبدِك، كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدك ورسولك، وأنت أعلم به مني، إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فاغفر له، ولا تحرمنا أجره ولا تَفتنَّا بعده.
دليل الدعاء الأول ما رواه عوف بن مالك رضي الله عنه قال «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة، فحفظتُ من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعفُ عنه، وأَكرم نُزُله ووسِّع مُدْخَلَه، واغسله بالماء والثلج والبَرَد، ونقِّه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأَبْدِله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأَعِذْه من عذاب القبر ومن عذاب النار» رواه مسلم والنَّسائي وابن ماجة وأحمد.
ودليل الدعاء الثاني ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة فقال: اللهم اغفر لحيِّنا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأُنثانا، اللهم من أحييتَه منا فأَحْيِه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفَّه على الإيمان، اللهم لا تَحْرمنا أجره ولا تُضلَّنا بعده» رواه ابن ماجة. ورواه أحمد والترمذي إلى «فتوفَّه على الإيمان» ورواه أبو داود وابن حِبَّان بألفاظ مختلفة.
ودليل الدعاء الثالث ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه كان إذا صلى على جنازة يقول: اللهم عبدُك وابنُ عبدِك كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدُك ورسولُك، وأنت أعلم به مني، إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مُسيئاً فاغفر له، ولا تحرمنا أجره ولا تَفتِنَّا بعده» رواه ابن حِبَّان. ورواه مالك موقوفاً على أبي هريرة.(2/427)
وإني أرى أن الدعائين الأول والثالث يُدعى بأحدهما إن كان الميت بالغاً، ذكراً كان أو امرأة، أما إن كان الميت سِقْطاً أو طفلاً دون البلوغ فيُدعى بالدعاء الثاني. ويمكن أن يُدعى بالدعاء التالي أيضاً [اللهم اجعله لنا سَلَفَاً وفَرَطاً وأجْراً] . فعن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه «أنه كان يصلي على المنفوس الذي لم يعمل خطيئة قط، ويقول: اللهم اجعله لنا سَلَفَاً وفَرَطاً وذُخراً» وفي لفظٍ ثانٍ «وأجراً» بدل (وذخراً) رواه البيهقي.
والأصل في الدعاء للميت أن يكون بإخلاص علَّ اللهَ سبحانه وتعالى أن يتقبل الدعاء ويُشفِّع صاحبه في الميت، وبدون الإخلاص في الدعاء لا يكون شئ من ذلك، وقد رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» رواه أبو داود وابن ماجة وابن حِبَّان.
وهذه الأدعية جاءت كلها بصيغة المذكَّر، وهي تصلح للذكور والإناث دون تغيير، فيُدعى بها كما وردت سواء كان الميت ذكراً أو أنثى، ويكون الدعاء على إرادة الشخص المُتوفَّى، وهو يشمل الجنسين.
لا بدَّ لصلاة الجنازة من طهارة كاملة
هناك عدد من الفقهاء يجيزون صلاة الجنازة بدون وضوء معتبرين أنها ليست صلاة، وإنما هي دعاء، أو صيغة وهيئة من صيغ الدعاء وهيئاته، والدعاء لا يلزمه الوضوء ولا الطهارة. فنقول لهؤلاء: لقد ابتعدتم كثيراً عن الحق والصواب، لأن صلاة الجنازة هي فعلاً صلاةٌ كسائر الصلوات، تبتدئ بتكبيرة الإحرام وتنتهي بالتسليم، ويُقْرأ فيها بفاتحة الكتاب، وتُؤدَّى كما تُؤدَّى الصلوات جماعةً وغير جماعة، فإن كانت جماعة فلها إمام ومأمومون يصطفُّون خلفه يقتدون به في صلاته.(2/428)
وقد وردت الأحاديث الكثيرة الناطقة بوصفها صلاة، ويكفي الحديث المروي على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - «صلوا على صاحبكم» . وحديث النجاشي «فصلُّوا عليه فصففنا، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه ونحن صفوف» . ولا حاجة بنا لمزيد بيان، فالقضية هي من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى وِقفةٍ أكثر من هذه.
3. صلاةُ الجُمُعَة
صلاة الجمعة فرض عين على كل مسلمٍ ذكرٍ، وكل من يتخلف عنها ثلاث مرات بدون عذر أو تهاوناً بها يطبع الله سبحانه على قلبه، ويكون عنده من الغافلين ومن المنافقين. وهي ركعتان اثنتان عاديتان تُودَّيان جماعة، يسبقهما قيام الإمام بإلقاء خطبتين بينهما جلسة قصيرة، وتُوديَّان جهراً. ومن صلى ركعتي الجمعة كانتا له كفارة لما بينهما وبين الجمعة السابقة من معاصٍ وآثامٍ سوى الكبائر، وهذه هي أدلة ما سقناه من أحكام:
1- قال تعالى {يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوْا إذَا نُوْدِيَ للصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تعْلَمُوْنَ. فَإذَا قُضِيَت الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوْا في الأَرْضِ وَابْتَغُوْا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوْا اللهَ كَثِيْرَاً لَعَلَّكُمْ تَفْلِحُوْنَ} الآيتان 9 و 10 من سورة الجمعة.
2- عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما، أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على أعواد منبره «لَينتَهِيَنَّ أقوامٌ عن وَدَعِهم الجمعات أو ليختمنَّ الله على قلوبهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين» رواه مسلم والدارمي. ورواه أحمد والنَّسائي وابن حِبَّان من طريق ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما.
3- عن عبد الله - بن مسعود - رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: لقد هممتُ أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أُحَرِّقَ على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم» رواه أحمد ومسلم والحاكم.(2/429)
4- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من ترك الجمعة ثلاث مِرارٍ من غير عذر طبع الله على قلبه» رواه أحمد والنَّسائي وابن خُزَيمة وابن ماجة والحاكم. وروى ابن حِبَّان وأحمد وأبو داود والنّسائي والترمذي من طريق أبي الجعد الضمري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها طبع الله على قلبه» . فجاء في هذه الرواية قوله «تهاوناً» . وروى ابن حِبَّان عن أبي الجعد الضمري أيضاً أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من ترك الجمعة ثلاثاً من غير عذر فهو منافق» .
5- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال «صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمامٌ غير قصرٍ على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -» رواه أحمد والنَّسائي وابن ماجة وابن حِبَّان. وفي سنده انقطاع بين عمر والراوي عنه ابن أبي ليلى، إلا أن البيهقي وصله بأن ذكر بينهما كعب بن عجرة فصار الحديث صالحاً للاستدلال. غير أن البيهقي لم يذكر [على لسان محمد ... ] وإنما روى الحديث موقوفاً على عمر.
6- عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طُهْر، ويدَّهن من دُهنه أو يمسُّ من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرِّق بين اثنين، ثم يصلي ما كُتِب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» رواه البخاري. ورواه مسلم وأحمد باختلافٍ في اللفظ. ولمسلم وأحمد وابن حِبَّان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غُفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مسَّ الحصى فقد لغا» .(2/430)
7- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «الجمعة إلى الجمعة كفارةُ ما بينهما ما لم تُغْشَ الكبائر» رواه ابن ماجة.
8- عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «رَواحُ الجمعة واجب على كل محتلم» رواه النَّسائي.
9- عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خطبتان يجلس بينهما، يقرأ القرآن ويذكِّر الناس» رواه مسلم. فهذه النصوص بمجموعها تدلُّ على الأحكام الواردة، ووجه الاستدلال بها ظاهر، وسيأتي مزيدٌ من الأدلة والتوضيحات على بعض هذه الأحكام في الأبحاث اللاحقة بإذن الله سبحانه.
على من تجب الجمعة
تجب صلاة الجمعة على أهل الأمصار، أي على سكان المدن والقرى والتجمعات السكنية، ولا تجب على الخارجين عنها البعيدين عن سماع الأذان، ويمكن تقدير مسافة البعد عن المِصر بثلاثة أميال، أي بحوالي خمسة كيلومترات تقريباً، فمن ابتعد عن حدود المدينة أو القرية هذه المسافة فإنه لا جُمعة عليه، لأنه لا يسمع الأذان في العادة، والمقصود بالأذان هنا الأذان دون مكبِّرات الصوت أو المُذاع من الإذاعات، وإنما الأذان بالصوت البشري العادي، فقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما الجمعة على من سمع النداء» رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد لا بأس به. وروى عمرو بن شعيب «أن عبد الله بن عمرو بن العاص يكون بالوهط فلا يشهد الجمعة مع الناس بالطائف، وإنما بينه وبين الطائف أربعة أميال أو ثلاثة» رواه عبد الرزاق. وعن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال «لا جُمُعة ولا تشريق إلا في مصرٍ جامعٍ» رواه ابن المنذر وابن أبي شيبة. وقال ابن قدامة ( ... كانت قبائل العرب حول المدينة فلم يقيموا جمعة، ولا أمرهم بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان ذلك لم يَخْفَ ... ) .(2/431)
وتجب الجمعة على كل مسلم: إلا المريض والصبي والمرأة والعبد والمسافر، والمعذور لعذرٍ كالمطر والوحل والبرد الشديد والخوف على النفس أو المال أو الأهل، وكذلك المحبوس. ومن صلى صلاة العيد في يوم جمعة أجزأته عن صلاة الجمعة، ويجوز له أن يصلِّي الصلاتين. وهذا الحكم الأخير ينسحب على المأموم، أما الإمام فأنه يُسنُّ له أن يصلي الجمعة إِضافة لصلاة العيد، وذلك ليشهدها معه من تخلفوا عن صلاة العيد ومن أرادوا أداءها ممن صلوا صلاة العيد.(2/432)
ويجوز للمقيم في المصر أن يسافر في يوم الجمعة قبل حلول وقت صلاة الجمعة، أما في وقت الصلاة فلا يحل له السفر، لأن صلاة الجمعة تكون قد وجبت عليه فلا يحل له تركها، فعن طارق بن شهاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «الجمعة حقٌ واجبٌ على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض» رواه أبو داود مرسلاً ووصله الحاكم. فقد رواه عنده طارق بن شهاب عن أبي موسى رضي الله عنه، فالحديث صحيح. وروى عبد الرزاق في مصنفه عن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ليس على المسافر جمعة» . وهو مرسَل صحابي، ومراسيل الصحابة صالحة للاحتجاج، لأن جميع الصحابة عدول. ومثله الحديث المرسَل الذي رواه ابن أبي شيبة وأبو داود عن ابن أبي ذئب قال «رأيت ابن شهاب - الزُّهري - يريد أن يسافر يوم الجمعة ضَحْوَةً، فقلت له: تسافر يوم الجمعة؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سافر يوم الجمعة» . وروى الشافعي في مسنده «أن عمر بن الخطاب أبصر رجلاً على هيئة السفر، فسمعه يقول: لولا أن اليوم يوم جمعة لخرجتُ، فقال عمر: أُخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر» . وهذا الأثر وإن كان قولاً لعمر إلا أنه يبعد أن يقوله عمر من عند نفسه، وعلى أية حال فإن قول الصحابي حكم شرعي يصح أخذه والعمل به. وعن أبي مليح بن أسامة عن أبيه قال «أصاب الناس في يوم جمعة، يعني مطراً، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة اليوم أو الجمعة اليوم في الرِّحال» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والبيهقي. قوله في الرِّحال: أي في البيوت والمساكن. وقد جاءت روايات تذكر البيوت نصاً، فعن عبد الله بن الحارث ابن عم محمد بن سيرين قال «قال ابن عباس لمؤذِّنه في يوم مطير: إذا قلتَ أشهد أن محمداً رسول الله فلا تقل حيَّ على الصلاة، قل صلوا في بيوتكم، فكأنَّ الناس استنكروا، قال: فعله من هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أُحرجكم فتمشون في(2/433)
الطين والدَّحْض» رواه البخاري ومسلم وأبو داود. قوله الدَّحْض: أي الزلق. فهذا القول والفعل من ابن عباس يدلان على أن المطر والطين من أعذار ترك الجمعة، ويدل قوله «وإني كرهت أن أُحْرِجكم» على العلة لترك الجمعة عند المطر والطين، وهي المشقة وحصول الحرج.
ومن الأعذار أيضاً الريح الشديدة والبرد الشديد لما رواه نافع عن ابن عمر قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي مناديه في الليلة المطيرة أو الليلة الباردة ذات الريح: صلوا في رحالكم» رواه ابن ماجة ومالك. ولا يقال إن هذا الحديث جاء نصاً في الليل فهو قيد، وهو أيضاً في صلاة الجماعة وليس في صلاة الجمعة، لا يقال ذلك، لأن الاستدلال هنا هو في اعتبار البرد والريح والمطر أعذاراً، وما دامت هذه الثلاثة أعذاراً، فإنها تنسحب على صلاة الجمعة لأن العذر عذر، ولا تفريق في النصوص بين عذر الجماعة وعذر الجمعة، ومما يشهد لهذا الفهم ما رواه ابن عباس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر» رواه ابن ماجة. فهنا جاء النداء عاماً، وجاء العذر عاماً، فقصر الأعذار على ترك الجماعة دون الجمعة غير صحيح.
والخوف عذر، والخوف يكون على النفس من عدو أو حيوان كاسر أو سيل جارف أو ... ، ويكون على المال، ويكون على الأهل، فأي خوف وُجد من هذه الأصناف اندرج تحت عذر الخوف المبيح لترك الجمعة، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من سمع المنادي فلم يمنعه من اتِّباعه عذر، قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض، لم تُقبل منه الصلاة التي صلى» رواه أبو داود. والحبس عذر، لأنه يحول دون تمكُّن المحبوس من أن يشهد الجمعة، والأمر ظاهر.(2/434)
أما أنَّ مَن صلى صلاة العيد في يوم جمعة فإن صلاة الجمعة لا تجب عليه، وتجزئ صلاة العيد عنها، فتجدون بحث هذه المسألة في البند 2 من بحث [صلاة العيدين ـ حكمُها ووقتُها] .
وقت صلاة الجمعة
وقتُ صلاة الجمعة وقتُ صلاة الظهر، أي عندما تزول الشمس عن منتصف السماء جهة الغرب، فقد روى إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال «كنا نُجَمِّعُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفئ» رواه مسلم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس» رواه البخاري وأحمد والترمذي.
وكما كان يفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخصوص صلاة الظهر من تأخيرها أيام الحر الشديد وتقديمها أيام البرد فكذلك كان يفعل بخصوص صلاة الجمعة، فقد كان يُعَجِّل الصلاة عند البرد ويؤخرها عند اشتداد الحرِّ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتد البرد بكَّر بالصلاة، وإذا اشتد الحرُّ أبْرَدَ بالصلاة، يعني الجمعة» رواه البخاري وابن خُزَيمة.
النداء لصلاة الجمعة
كان الأذان لصلاة الجمعة واحداً زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر، وكان هذا الأذان يُرفع عند اعتلاء الإمام المنبر، ولم يكن يُرفع أذان آخر غيره، إلى أن جاء عثمان رضي الله عنه وكثر الناس، فزاد أذاناً آخر قبل هذا الأذان لإعلام الناس بقرب موعد صلاة الجمعة، وهذا الأذان إضافةً إلى الأذان الأول لا يزال معمولاً به حتى اليوم. فالأذان زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزمن صاحبيه أبي بكر وعمر هو الأذان الثاني المعمول به حالياً، والأذان الذي زاده عثمان هو الأذان الأول في أيامنا هذه.(2/435)
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل المسجد لصلاة الجمعة ثم يعتلي المنبر، فيقف المؤذن فوراً ويرفع الأذان في المسجد، وكان ذلك عند بدء وقت الصلاة، فوقت صلاة الجمعة يكون عند رفع الأذان والإمام جالسٌ على المنبر، وليس عند رفع الأذان الأول، ولهذا نجد في بعض مناطق المسلمين اليوم من يرفع الأذان الأول قبل زوال الشمس بساعة زمنية فلكية ولم يكن وقت الجمعة قد دخل، ولا يُعتبر الوقت قد دخل إلا عند رفع الأذان الثاني، ولهذا فإنا نقول إن وجوب السعي لصلاة الجمعة يكون عند رفع الأذان الثاني وليس عند الأذان الأول، وهذا الأذان الثاني هو المقصود من قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوْا إذَا نُوْدِيَ للصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُوْا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تعْلَمُوْنَ} الآية 9 من سورة الجمعة. فعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال «إن التأذين الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان حين كثر أهل المسجد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام» رواه البخاري. قوله التأذين الثاني هنا: هو الأذان الأول. وجاء ذكره في بعض الروايات بأنه الأذان الثالث، والمقصود به الثالث بعد الأذان الأول ونداء الإقامة، فعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال «إن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان رضي الله عنه حين كثر أهل المدينة، ولم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - غير واحد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام، يعني على المنبر» رواه البخاري. ورواه أحمد ولفظه «كان الأذان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما أذانين، حتى كان زمن عثمان فكثر الناس، فأمر بالأذان الأول بالزَّوْراء» . والخلط في وصف أذان عثمان آت من جهة الاعتبار، فإن اعتُبرت الإقامة أذاناً قيل زاد عثمان الأذان الثالث، وإن لم تعتبر الإقامة أذاناً قيل زاد عثمان(2/436)
الأذان الثاني، وإن اعتُبر الترتيب في رفع النداء قيل زاد عثمان الأذان الأول.
وقد زاد عثمان رضي الله عنه هذا الأذان لإعلام الناس مسبقاً حتى يتهيأوا للصلاة قبل حلول ميقاتها، وكان يرفعه في سوقٍ بالمدينة يقال لها الزَّوراء لتسمعه جموع الناس، أما الأذان الثاني في الترتيب الزمني فيُرفع في المسجد أو على باب المسجد، هكذا كان، فعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال «كان يُؤذَّنُ بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس على المنبر يوم الجمعة، على باب المسجد، وأبي بكر وعمر» رواه أبو داود. والأمر المهم في هذا الموضوع هو أن الأذان الأول - وهو أذان عثمان - إنما كان يُرفع لتهيئة الناس للصلاة، ويكون قبل دخول وقت الوجوب، وأن الأذان الثاني المرفوع عند جلوس الإمام على المنبر هو الأذان المعتبر لوجوب السعي للصلاة وللإيذان بدخول الوقت. ولكن جمهرة المسلمين في عصرنا الراهن قد غيروا ميقات الأذان الأول، فجعلوه عند دخول وقت الوجوب وليس قبله كما كان الحال زمن عثمان، ولا مانع من ذلك ما دامت الصلاة لا تقام إلا بعد رفع الأذان الثاني كالمعتاد.
أما ما أحدثه الناس في أيامنا هذه من الذكر والدعاء قبل الأذان الأول فليس له أصل والأَوْلى تركه.
العدد الذي تجب فيه الجمعة
الجمعة كالجماعة تصح من اثنين فصاعداً، وكلما كان العدد أكبر كانت الجمعة أفضل، ولكن الاثنين ومن هم أكثر من اثنين حتى تجب عليهم الجمعة لا بُدَّ من أن يكونوا في المدينة أو في القرية أو في التجمُّع السكاني، وليس في البوادي والحقول والعراء، وذلك لأن أهل البوادي والصحراء والمزارع لا تجب عليهم الجمعة ولو كثروا، ولا تجب الجمعة إلا على أهل الأمصار كما ذكرنا من قبل.(2/437)
أما ما اختلف فيه الفقهاء من الأعداد اللازمة لوجوب صلاة الجمعة فكلها اجتهادات فقهية غير مستنبطة من نصوص صالحة للاستدلال على ما ذهبوا إليه، فلم يثبت في عدد الجمعة حديث، إذ لم يثبت في شئ من الأحاديث تعيين عدد مخصوص، أعني اشتراط عددٍ مخصوصٍ لصحّة انعقاد الجمعة، وما ورد في الأحاديث من ذِكر الأعداد فإنه لا يخلو من أن يكون قد وقع اتفاقاً - أي واقعةَ عين - ولم يقع شرطاً، أو يكون قد ورد في روايات ضعيفة لا تصلح للاستدلال، فمثلاً:
1- عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه «كان أسعد أوّل من جمّعَ بنا في المدينة قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هزْمٍ من حَرَّةِ بني بياضة في نقيعٍ يقال له الخَضِمات، قلت: وكم أنتم يومئذٍ؟ قال: أربعون رجلاً» رواه البيهقي والدارقطني. قوله - في هَزْم - الهزم هو ما استوى من الأرض. وقوله - حرّة بني بياضة - الحرّة هي الأرض المغطاة بالحجارة السوداء، وحرّة بني بياضة تقع على بعد ميل واحد من المدينة. والنقيع: البئر الكثيرة الماء.
2- عن جابر «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائماً يوم الجمعة، فجاءت عيرٌ من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبْقَ إلا اثنا عشرَ رجلاً» رواه مسلم والترمذي وأحمد.
فهذان النصَان ورد في أولها عدد الأربعين، وورد في ثانيهما عدد الاثني عشر، وقد ورد هذان العددان في النصين اتفاقاً ولم يردْ أيّ منهما كشرطٍ لوجوب الجمعة، وما يقع اتفاقاً لا يصلح مطلقاً ليكون شرطاً، فلا يؤخذ من هذين النصين أن صلاة الجمعة يشترط لها توفر الأربعين أو توفُّر الاثني عشر كما تقول الشافعية والمالكية والحنابلة. ومثلاً:
1- عن جابر قال «مضت السُّنَّة في كل ثلاثة إماماً وفي كل أربعين فما فوق جمعة وفطر وأضحى، وذلك أنهم جماعة» رواه أحمد والنسائي والدارقطني وابن حِبّان والبيهقي.(2/438)
2- عن أُمِّ عبد الله الدَّوْسِيَّة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الجمعة واجبةٌ على كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربعة» رواه البيهقي.
3- عن أبي أُمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «على الخمسين جمعة ليس فيما دون ذلك» رواه الدارقطني.
فهذه ثلاثة نصوص وردت فيها الأعداد كشرط لصحة الجمعة ولكنها فوق كونها متناقضة هي نصوص ضعيفة الإسناد لا تصلح مطلقاً للاحتجاج فالنص الأول ضعّفه جمهرة الحفّاظ، وقال البيهقي (لا يُحْتَجُّ بمثله) والنص الثاني ضعّفه البيهقي نفسه والنص الثالث ضعّفه الدارقطني نفسه لأن في سنده جعفر بن الزبير قال الدارقطني: متروك. فهي أحاديث ضعيفة لا يحتج بها، ومن ثمّ لا تصلح للاستدلال.
أما ما رُوي عن عمر بن عبد العزيز من أنه اشترط الأربعين في رواية واشترط الخمسين في رواية أخرى فلا يصلح للاستدلال، لأن أقوال التابعين ومَن بعدهم ليست أدلة على الأحكام الشرعية.
وباختصار أقول إن كل ما قيل من اشتراط العدد لا يدل عليه دليل معتبر.
إدراك ركعة من الجمعة لا بد منه لإدراك الجمعة(2/439)
من أدرك ركعة من ركعتي الجمعة فقد أدرك صلاة الجمعة، وعليه أن يُتِمَّ صلاته بالإتيان بركعة ثانية فقط، أما من أدرك أقل من ركعة كأن أدرك الإمام وهو ساجد في الركعة الثانية، أو وهو جالس جلوس التشهد فإنه لا يكون قد أدرك صلاة الجمعة، ولذلك وجب عليه أن يصلي أربعاً هي صلاة الظهر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة» رواه الترمذي وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من أدرك من الجمعة ركعة فلْيصلِّ إليها أُخرى» رواه الحاكم. ولابن خُزَيمة بلفظ «من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة» . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال «من أدرك من الجمعة ركعة فلْيُضِف إليها أُخرى، ومن فاتته الركعتان فلْيصلِّ أربعاً» رواه الطبراني. قال الترمذي (والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، قالوا: من أدرك ركعة من الجمعة صلَّى إليها أُخرى، ومن أدركهم جلوساً صلى أربعاً) .
التبكير في الحضور(2/440)
يُسنُّ التبكير في الذهاب للمسجد لصلاة الجمعة، وأنَّ مَن أتى إليه في الساعة الأولى فكأنما تصدَّق بجمل، ومَن أتى إليه في الساعة الثانية فكأنما تصدق ببقرة، ومَن أتى إليه في الساعة الثالثة فكأنما تصدق بكبش، ومَن أتى إليه في الساعة الرابعة فكأنما تصدَّق بدجاجة، ومَن أتى إليه في الساعة الخامسة فكأنما تصدق ببيضة. وحيث أن الذي يأتي بعد حلول وقت الصلاة عند اعتلاء الإمام المنبر لا يكون مبكِّراً بحال، فإن الواجب القول إن التبكير يكون قبل حلول الوقت، أي قبل الزوال. فالحديث يندب المسلمين للتبكير إلى صلاة الجمعة قبل الزوال، وجعل الوقت مقسَّماً إلى خمسة أقسام أو ساعات، وجاء في بعض الروايات ذِكر ست ساعات، وهذه الساعات ليست هي الساعات التي نستعملها في أيامنا الراهنة، إذ لا يُتصوَّر أن تكون هذه الساعات هي الساعات الفلكية التي نعرفها اليوم، وإلا لوجب القول إن المبكِّر الأول يحضر في وقت شروق الشمس تقريباً، ولم يُرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من صحابته أنهم كانوا يحضرون لصلاة الجمعة عند شروق الشمس، فلم يبق إلا اعتبار هذه الساعات مجرَّد تقسيمات زمنية يُقدِّرُها عُرف الناس بالتبكير، ويقدرها قدوم الناس فعلاً لصلاة الجمعة، فنقول إن الفوج الأول من القادمين كأنما تصدَّقوا بجمل، والفوج الذين يلونهم كأنما تصدقوا ببقرة، وهكذا، ويبدأ العدُّ عند قدوم أول فوج من المصلين، وهذا القدوم يتقدم مرة ويتأخر مرة، فالعبرة بوقوع القدوم وليس بالتعيين الزمني المسبَق. وإني أرى أن لا يُعتدَّ بالقدوم إن كان حصل قبل ارتفاع الشمس عند الضحى، لأن ما قبل ذلك ليس وقت صلاة.(2/441)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من اغتسل يوم الجمعة غُسْل الجنابة ثم راح فكأنما قرَّب بَدَنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرَّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرَّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» رواه البخاري ومسلم وأحمد ومالك وأبو داود. قوله بَدَنةً: أي بعيراً ذكراً كان أو أُنثى. وقوله كبشاً أقرنَ: أي ذا قرنين. فالحديث ذكر ساعات التبكير قبل خروج الإمام أي قبل حصول وجوب السعي، لأن في هذه اللحظة تطوي الملائكة صحفها وتشرع في الاستماع للذكر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول، ومَثَل المُهَجِّر كمثل الذي يُهدي بَدَنة، ثم كالذي يُهدي بقرة، ثم كبشاً، ثم دجاجة، ثم بيضة، فإذا خرج الإمام طَوَوْا صحفهم ويستمعون الذكر» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي والدارمي. ورواه ابن ماجة ولفظه «إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على قدر منازلهم الأول فالأول، فإذا خرج الإمام طَوَوْا الصحف واستمعوا الخطبة، فالمُهجِّر إلى الصلاة كالمُهدي بَدَنة، ثم الذي يليه كمُهدي بقرة، ثم الذي يليه كمُهدي كبش - حتى ذكر الدجاجة والبيضة، زاد سهل في حديثه - فمن جاء بعد ذلك فإنما يجئ بحقٍّ إلى الصلاة» . قوله المُهجِّر: أي الآتي في الهاجرة وهي وقت اشتداد الحر. وقوله خرج الإمام: أي صعد الإمام المنبر للخطبة. فهذا الحديث يدل فوق ما يدل عليه على أمرين اثنين: أن التبكير يكون قبل خروج الإمام، لأن الملائكة لا تكتب عند خروج الإمام، أي أن التبكير ينتهي وقته إذا خرج الإمام، والأمر الثاني هو أن التبكير يبدأ عند اشتداد الحرِّ(2/442)
بدلالة قوله «ومَثَلُ المُهَجِّر» ، «فالمُهَجِّر إلى الصلاة» . والمُهجِّر هو القادم عند اشتداد الحر، وهذا ينفي أن يكون التبكير مبدأُه من شروق الشمس، وينفي بنفيه أن تكون الساعات الواردة في الحديث ساعاتٍ فلكية.
سُنن الجمعة
لصلاة الجمعة جملةٌ من السنن والمندوبات يُندب الإتيان بها وهي:
1- أن يغتسل الرجل قبل خروجه إلى الصلاة، فيذهب إلى الصلاة نظيفاً طيب الرائحة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا جاء أحدكم الجمعة فلْيغتسل» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي. وعن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت «كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في الغبار يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إنسانٌ منهم وهو عندي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أنكم تطهَّرتم ليومكم هذا» رواه البخاري ومسلم. قوله ينتابون، وفي رواية يتناوبون: أي يأتون فوجاً إثر فوج. والعوالي: هي منطقة خارج المدينة فيها المزارع. وعن ابن عباس رضي الله عنهما - وسأله رجل عن الغُسل يوم الجمعة أواجبٌ هو؟ - قال «لا، ومن شاء اغتسل، وسأُحدثكم عن بدء الغسل، كان الناس محتاجين وكانوا يلبسون الصوف، وكانوا يسقون النخل على ظهورهم، وكان مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ضيقاً متقارب السقف، فراح الناس في الصوف فعرقوا، وكان منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قصيراً، إنما هو ثلاث درجات، فعرق الناس في الصوف فثأرت أرواحُهم أرواحُ الصوف، فتأذى بعضهم ببعض حتى بلغت أرواحهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر، فقال: يا أيها الناس إذا جئتم الجمعة فاغتسلوا، ولْيمسَّ أحدكم من أَطيب طيبٍ إن كان عنده» رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم.(2/443)
2- أن يلبس ثياباً حسنة نظيفة، وأن يتطيَّب بما تيسر من الطيب، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «من اغتسل يوم الجمعة ومسَّ من طيب امرأته إن كان لها، ولبس من صالح ثيابه، ثم لم يتخطَّ رقاب الناس، ولم يَلْغُ عند الموعظة كانت كفارة لما بينهما، ومن لغى وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً» رواه أبو داود. وعن ابن سلام رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «ما على أحدكم إن وجَد، أو ما على أحدكم إن وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته» رواه أبو داود. ورواه مالك عن يحيى بن سعيد مرسلاً، ورواه ابن ماجة ولفظه «ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوب مهنته» .
3- أن يذهب إلى الصلاة ماشياً بسكينة وهدوء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «إذا أُقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعَوْن، وائتوها تمشون عليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأَتِمُّوا» رواه البخاري. أمَّا إن كان المسجد بعيداً عنه فلْيركب ولْيدرك مرتبةً من مراتب التبكير فإن ذلك أفضل.
4- أن يصلي ركعتين تحيةَ المسجد قبل أن يجلس، فإن دخل والإمام على المنبر فلْيجعلهما خفيفتين، فعن جابر رضي الله عنه قال «دخل رجل يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال: أصليت؟ قال: لا، قال: فصلِّ ركعتين» رواه البخاري ومسلم والدارمي. وعنه «أن سُليكاً جاء ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجلس، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي ركعتين، ثم أقبل على الناس فقال: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصلِّ ركعتين يتجوَّز فيهما» رواه أحمد ومسلم وأبو داود. قوله يتجَوَّز فيهما: أي يسرع فيهما. ويمكن مراجعة بحث [تحية المسجد] فصل [صلاة التطوع] .(2/444)
5- أن يجلس في أقرب مكان إلى الإمام بدون أن يتخطى رقاب الناس إلا أن يرى فُرجة لا يصل إليها إلا بتخطِّي الرقاب فلا بأس من ذلك، فعن سَمُرة بن جُنْدُب رضي الله عنه أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال «احضُروا الذكر وادنُوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يُؤخَّر في الجنة وإنْ دخلها» رواه الحاكم. وعن عبد الله بن بُسر رضي الله عنه «أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - - زاد في رواية يتخطى رقاب الناس - وهو يخطب يوم الجمعة، فقال: اجلس فقد آذيت وآنيت» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي وابن خُزَيمة والطَّحاوي. ويمكن مراجعة بحث [تحية المسجد] فصل [صلاة التطوع] .
وإن لم يجد المسلم مكاناً يجلس فيه في المسجد فلا يقيم غيره ويجلس مكانه، وإنما يقول: افسحوا أو تفسَّحوا، فعن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا يقيم أحدُكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالفه إلى مقعده، ولكن ليقل: افسحوا» رواه أحمد والبخاري ومسلم.
6- ومن نعس في المسجد يوم الجمعة فلْيتحول من مكانه، وليجلس في مكان آخر، فإنَّ ذلك أدعى لدفع النعاس وغلبة النوم، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا نعس أحدكم في المسجد يوم الجمعة فلْيتحول من مجلسه ذلك إلى غيره» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حِبَّان.
7- يُسنُّ للمُصلِّي أن يجلس قُبالة الإمام متوجِّهاً إليه لسماع خطبته ورؤيته، أما مَن كانوا بعيدين عنه لا يستطيعون رؤيته فإنهم يتوجهون نحو القِبلة، فعن عدي بن ثابت عن أبيه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم» رواه ابن ماجة، وهو مرسَل صحابي، ومراسيل الصحابة صالحة للاحتجاج.(2/445)
8- يُندَب التَّنفُّل بالصلاة قبل الجمعة، وليس للتنفُّلِ قبل الجمعة مقدار معين، فلْيُصلِّ ما شاء من ركعات، وهذه الركعات ليست سُنةً للجمعة، لأن الجمعة لا سنةَ لها قبليةً، إلا أن يدخل المسجد والإمام على المنبر فيقتصر على ركعتي تحية المسجد فحسب، فعن نافع «أن ابن عمر كان يغدو إلى المسجد يوم الجمعة، فيصلي ركعات يطيل فيهن القيام، فإذا انصرف الإمام رجع إلى بيته فصلى ركعتين وقال: هكذا كان يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من اغتسل ثم أتى الجمعة فصلى ما قُدِّر له، ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلي معه غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام» رواه مسلم.
خطبة الجمعة
خطبةُ الجمعة فرضٌ إلقاؤها وفرضٌ سماعها والاستماع إليها، فهي داخلة في المعنى المقصود من ذكر الله الوارد في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوْا إذَا نُوْدِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللهِ وذَرُوْا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تعْلَمُوْنَ} الآية 9 من سورة الجمعة. وهي قسمان يفصل بينهما جلوس قصير، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال «إن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان يخطب يوم الجمعة خطبتين يفصل بينهما بجلسة» رواه البزار وأحمد وأبو يعلى، ورواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائماً، ثم يقعد ثم يقوم كما تفعلون الآن» رواه البخاري ومسلم. وروى أحمد والطبراني عن ابن عباس مثله. وروى مسلم والنَّسائي أيضاً عن جابر عن سمرة مثله. ويُسنُّ أن تتضمن الخطبة ما يلي:(2/446)
أ- ذِكْر الشهادتين، لما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كل خطبة ليس فيها تشهُّدٌ فهي كاليد الجَذْماء» رواه ابن حِبَّان وأحمد. قوله الجذماء: أي القصيرة.
ب- شيئاً من القرآن الكريم، لما رُوي عن جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه قال «كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويُذكِّر الناس» رواه مسلم. وعن أُم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت « ... وما أخذتُ ق والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقرأُها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس» رواه مسلم وأحمد والنَّسائي وأبو داود.
ج- الوقوف حين الخطبة، ولا بأس بالاتِّكاء على قوس أو عصا، لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائماً يوم الجمعة ... » رواه مسلم. وعنه رضي الله عنه قال «ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب في الجمعة إلا قائماً، فمَن حدَّثك أنه جلس فكذِّبه فإنه لم يفعل، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب ثم يقعد ثم يقوم فيخطب، كان يخطب خطبتين يقعد بينهما في الجمعة» رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي سعيد رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب قائماً على رجليه» رواه أحمد.
د- إلقاؤُها بصوت قوي غاضب، لما رُوي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرَّت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه، حتى كأنه منذِرُ جيشٍ، يقول: صبَّحكم ومسَّاكم، ويقول: بُعثتُ أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين أصابعه» رواه مسلم.(2/447)
هـ - أن تكون الخطبة قصيرة موجزة، وذلك من فقه الإمام الخطيب، لما رُوي عن عمار ابن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «إنَّ طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئِنَّةٌ من فقهِه، فأطيلوا الصلاة وأَقصروا الخطبة، فإنَّ من البيان لسِحْراً» رواه أحمد ومسلم. قوله مَئِنَّة: أي علامةٌ ودلالة. ولما رُوي عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «كنت أُصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً» رواه مسلم والنَّسائي والترمذي وابن ماجة والدارمي.
و بدء الخطبة بحمد الله والثناء عليه، فعن جابر رضي الله عنه قال «خطَبَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهل له، ثم قال: أمَّا بعدُ، فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله، وإنَّ أفضلَ الهَدْي هديُ محمدٍ، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها وكلَّ بدعة ضلالة، ثم يرفع صوته وتحمَرُّ وجنتاه، ويشتد غضبه إذا ذكر الساعة كأنه مُنْذِرُ جيشٍ، قال: ثم يقول: أتتكم الساعة» رواه أحمد وابن ماجة.
ز - إذا دعا الخطيب رفع سبَّابَته فقط، ولم يرفع يده كلها كما يفعل الخطباء في زماننا هذا، لما رُوي عن حصين بن عبد الرحمن السلمي رضي الله عنه قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب إذا دعا يقول هكذا، ورفع السَّبَّابَة وحدها» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسائي. ولما رُوي عن عمارة بن رُوَيْبة رضي الله عنه قال «خطب بِشْر بن مروان وهو رافع يديه يدعو، فقال عمارة: قبَّح الله هاتين اليدين، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، وما يقول إلا هكذا، يشير بإصبعه» رواه ابن خُزَيمة ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي.(2/448)
وهذا مثالٌ لافتتاحية خطبة [إنَّ الحمد لله نستعينه ونستغفره ونستهديه ونستنصره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه، من يطع الله ورسوله فقد رَشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون، يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتَّقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يُصلح لكم أعمالكم ويَغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً، أما بعد ... ] . وتجدون أجزاء هذه الافتتاحية مبثوثة فيما رواه الشافعي في مسنده من طريق ابن عباس، وفيما رواه أبو داود من طريق ابن مسعود، وفيما رواه غيرهما.(2/449)
وإذا خطب الإمام سكت الناس وحرم عليهم الكلام، إلا أن يكلِّم أحدُهم الإمام فلا بأس. والكلام في أثناء الخطبة لغوٌ، واللغو يحرم صاحبه ثوابَ صلاةِ الجمعة، فإنَّ من تكلم لغا ومن لغا فلا جمعة له، وتُحتَسَبُ له صلاة ظهر. وإذا سلم أحدهم على جاره ردَّ الآخر السلام في نفسه دون إخراج صوتٍ، وأثِمَ مَن سلَّم. وهذا الإنصات مشروع لمن حضر الخطبة: الداني القريب والنائي البعيد. فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا قلتَ لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال « ... ومن لغى وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً» رواه أبو داود. وقد مرَّ بتمامه في البند 2 من بحث [سنن الجمعة] . وعن علي رضي الله عنه قال « ... ومَن قال يوم الجمعة لصاحبه (صه) فقد لغا ومن لغا فليس له في جمعته تلك شئ، ثم يقول في آخر ذلك: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك» رواه أبو داود. وعن أنس رضي الله عنه قال «بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة إذ قام رجل فقال: يا رسول الله هلك الكُراع وهلك الشاءُ، فادع الله أن يسقينا، فمد يديه ودعا» رواه البخاري. قوله الكُراع: أي الخيل. وقوله فمد يديه ودعا: مدّ اليدين هنا إنما حصل في دعاء الاستسقاء، وهو هنا حالة عرَضية، وهو لا يتعارض مع قولنا إن خطيب الجمعة يرفع سبَّابته ولا يرفع يده كلها، ففي دعاء الاستسقاء يُشرع مد اليدين حتى يظهر بياض الإبطين، فعن أنس بن مالك قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع يديه في شئ من دعائه إلا في الاستسقاء، وأنه يرفع حتى يُرى بياض إبطيه» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. وسيأتي في بحث الاستسقاء.(2/450)
أما الإمام فيجوز له إنْ عَرَضت له حاجة وهو يخطب أن يقطع الخطبة، وله أن ينزل عن المنبر لقضائها، ثم بعد قضاء الحاجة يعود لإتمام خطبته، فعن أبي رفاعة رضي الله عنه قال «انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه، قال: فأقبل إليَّ، فأُتيَ بكرسي فقعد عليه، فجعل يعلمني مما علَّمه الله تعالى، قال: ثم أَتى خطبته فأتمَّ آخرها» رواه أحمد ومسلم والبيهقي. وعن بُريدة الأسلمي رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبنا، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المنبر، فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال: صدق الله ورسوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرتُ إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والبيهقي.
القراءة في صلاة الجمعة(2/451)
قلنا في بحث [قراءة القرآن في الصلوات الخمس] فصل [صفة الصلاة] ما يلي (إنه ليس هناك سُنة ثابتة في اختيار الآيات القرآنية لكل صلاة، لذا فإن المسلم بالخيار بين قراءة هذه السورة أو تلك في هذه الصلاة أو تلك، فليست أية سورة من سور القرآن الكريم بأفضل من أختها لصلاة دون صلاة) . ونضيف هنا: إنْ ورد نصٌ يفيد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قرأ في صلاة كذا بسورة كذا فإنَّ ذلك لا يعني أن قراءة هذه السورة في هذه الصلاة صارت هي المندوبة دون سواها من السُّور، فالعبرة هي بقراءة سورة أو بضع آيات من القرآن، أو حتى بقراءة آية واحدة، وأما قراءة ما قرأه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليست هي المندوبة وحدها، وإنما يتحقق المندوب بقراءة أي شئ من كتاب الله عزَّ وجلَّ. ونذكر هنا جملة من الأحاديث التي وردت في قراءته عليه الصلاة والسلام في صلاة الجمعة للعلم بها وللاطلاع فحسب، وندع مَن يودُّ أن يقرأ كما قرأ عليه الصلاة والسلام يأخذ من هذه الأحاديث مبتغاه:
1- عن ابن أبي رافع قال « ... فصلى لنا أبو هريرة الجمعة، فقرأ بعد سورة الجمعة في الركعة الآخرة إذا جاءك المنافقون، قال: فأدركت أبا هريرة حين انصرف فقلت له: إنك قرأت بسورتين كان علي بن أبي طالب يقرأ بهما بالكوفة، فقال أبو هريرة: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهما يوم الجمعة» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي. وفي رواية ثانية عند مسلم من طريق ابن أبي رافع أيضاً بلفظ «فقرأ بسورة الجمعة في السجدة الأولى، وفي الآخرة إذا جاءك المنافقون» .
2- عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ سبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي.(2/452)
3- عن ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة ألم تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان حين من الدهر، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة، والمنافقين» رواه مسلم وأحمد وأبو داود.
4- عن سَمُرة بن جُنْدُب رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الجمعة بـ سبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية» رواه أحمد وأبو داود والشافعي والنَّسائي والبيهقي.
السُّنّة الراتبة لصلاة الجمعة(2/453)
أخذاً بالقاعدة التي اعتمدناها في فصل [صلاة التطوع] فإنَّا نقول إن لصلاة الجمعة سنة مؤكدة راتبة بعدية هي ركعتان اثنتان فحسب، وإن لها ركعتين أُخريين بعديتين ملحقتين بالسنة المؤكدة الراتبة، فيُسنُّ الإتيان بركعتين اثنتين عقب صلاة الجمعة، وإن أتى بأربع ركعات كان ذلك أفضل. والأفضل أن تُؤدَّى السُّنَّة البعدية في البيت، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فيصلي ركعتين» رواه البخاري. ورواه مسلم ولفظه «كان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين في بيته» . وعنه رضي الله عنه «أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته، ثم قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعاً - وفي رواية - فإن عجل بك شئ فصلِّ ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت» رواه مسلم وأحمد. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا صلى أحدكم الجمعة فلْيُصلِّ بعدها أربعاً» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي.
فضل يوم الجمعة(2/454)
يوم الجمعة أفضل الأيام على الإطلاق، فهو أفضل من يوم الفطر ومن يوم الأضحى ومن يوم عرفة، فالأحاديث التي جعلت يوم عرفة أفضل الأيام هي أدنى مرتبة من أحاديث تفضيل الجمعة على سائر الأيام. ففي يوم الجمعة خلق الله آدم عليه السلام، وفيه أدخله الله الجنة، وفيه أخرجه منها، وفيه توفَّاه الله سبحانه، وفي يوم الجمعة ساعة يُستجاب فيها الدعاء، وفيه تقوم القيامة. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «خيرُ يومٍ طلعت عليه الشمس يومُ الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» رواه مسلم وأحمد والترمذي. وعن أبي لبابة البدري بن عبد المنذر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «سيد الأيام يوم الجمعة وأعظمها عند الله تعالى، وأعظم عند الله عزَّ وجلَّ من يوم الفطر ويوم الأضحى، وفيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفَّى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبدُ فيها شيئاً إلا آتاه الله تبارك وتعالى إياه ما لم يسأل حراماً، وفيه تقوم الساعة، ما من ملَكٍ مقرَّب ولا سماءٍ ولا أرضٍ ولا رياحٍ ولا جبالٍ ولا بحرٍ إلا هن يُشفقن من يوم الجمعة» رواه أحمد. ورواه ابن ماجة والبزَّار والطبراني باختلاف في اللفظ.(2/455)
أما الساعة التي يستجاب فيها الدعاء في يوم الجمعة فهي واقعةٌ ما بين صلاة العصر وغروب الشمس على الرأي الأصحِّ، فلْيجتهد المسلمون في الدعاء في هذه الساعة، وليثقوا باستجابة الله سبحانه لدعائهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر يوم الجمعة فقال: فيه ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلم وهو قائم يصلي، يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه، وأشار بيده يُقلِّلها» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي ومالك. قوله يقللها: أي أنها ساعة قصيرة. وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إن في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلم يسأل الله عزَّ وجلَّ فيها إلا أعطاه إياه وهي بعد العصر» رواه أحمد والبزَّار. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «يوم الجمعة ثِنتا عشرة، يريد ساعة، لا يوجد مسلم يسأل الله عزَّ وجلَّ شيئاً إلا آتاه الله عزَّ وجلَّ، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر» رواه أبو داود والنَّسائي والحاكم.(2/456)
وقد أشكلت على الناس العبارة التي تقول «لا يوافقها عبدٌ مسلم وهو قائم يصلي» ، وذلك لأن آخر ساعة من النهار وبعد صلاة العصر لا صلاة فيها، فكيف يقال «وهو قائم يصلي» ؟ والجواب على هذا الإشكال هو أن من جلس بعد الصلاة، أو جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة، فعن أبي سلمة «قلت لعبد الله بن سلام: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في صلاة وليست بساعة صلاة، قال: أَوَ لم تعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: منتظر الصلاة في صلاة؟ قلت: بلى هي والله هي» رواه أحمد وابن خُزَيمة والحاكم. وعن أبي النضر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سلام قال «قلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس: إنا نجد في كتاب الله في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو في الصلاة فيسأل الله عزَّ وجلَّ شيئاً إلا أعطاه ما سأله، فأشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: بعض ساعة، قال فقلت: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو النضر قال أبو سلمة: سألته: أية ساعة هي؟ قال: آخر ساعات النهار، فقلت: إنها ليست بساعة صلاة، فقال: بلى إنَّ العبد المسلم في صلاة إذا صلى ثم قعد في مصلاه لا يحبسه إلا انتظار الصلاة» رواه أحمد وابن ماجة.(2/457)
فالساعة التي يُستجاب فيها الدعاء واقعة في آخر نهار يوم الجمعة، لأن هذه الساعة هي ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة. أما الحديث الذي رُوي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بلفظ «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تُقضى الصلاة» رواه مسلم وأبو داود والبيهقي. فقد أعلَّه الدارقطني بالانقطاع بين مخرمة راوي الحديث وبين أبيه، ووافقه الحافظ ابن حجر قائلاً (وجود التصريح من مخرمة بأنه لم يسمع من أبيه كافٍ في دعوى الانقطاع) . وقال أحمد نقلاً عن حمَّاد بن خالد: مخرمة بن بكير رواه عن أبيه بكير بن عبد الله بن الأشجِّ وهو لم يسمع من أبيه. وأضاف: إن حمَّاد بن خالد سمعه من مخرمة نفسه. ثم إن الحافظ العراقي قد رمى هذا الحديث بالاضطراب، فالحديث وإن ورد في صحيح مسلم إلا أنه لا يُحتجُّ به.
وفي يوم الجمعة يُندب الإكثار من الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن الصلاة عليه تعرض عليه في هذا اليوم فيُسَرُّ بها، فعن أوس بن أبي أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خُلق آدم وفيه قُبض، وفيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ، فقالوا: يا رسول الله وكيف تُعرض عليك صلاتُنا وقد أَرِمْتَ؟ ـ يعني وقد بَلِيتَ ـ قال: إن الله عزَّ وجلَّ حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء صلوات الله عليهم» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة وابن حِبَّان.
الفصل العاشر
صلاة أهل الأعذار
[الخائف والمسافر والمريض]
1) صلاة الخوف(2/458)
إذا خاف المسلمون عدوَّهم شُرع لهم أداء صلاتهم مقصورةً بأشكال وكيفيات عدة أوصلها بعض الأئمة إلى سبعة أشكال، وأوصلها بعضهم الآخر إلى سبعة عشر شكلاً، والدليل على مشروعية هذه الصلاة قولُه تعالى {وَإذَا ضَرَبْتُمْ في الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوْا مِن الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الذِيْنَ كَفَرُوْا إنَّ الكَافِرِيْنَ كَانُوْا لَكُمْ عَدُوَّاً مُبِيْنَاً} الآية 101 من سورة النساء.
أما قصر صلاة الخوف فعامٌّ يشمل إنقاص عدد ركعات الصلاة، فتُصلَّى الرباعية ركعتين، كما تُصلى ركعةً واحدة، وكذلك الصلاة الثنائية صلاة الصبح، كما يشمل إنقاص حدودها وركوعها وسجودها وهيئاتها، فتُصلَّى إيماءً بلا ركوع ولا سجود ولا وقوف ولا توجُّهٍ نحو القِبلة، أي تُصلَّى كيفما اتفق، والحالة الأخيرة تكون عند اشتداد الخوف وعند الالتحام في القتال، وكل هذه الإنقاصات تدخل تحت قوله تعالى {أَنْ تَقْصُرُوْا مِن الصَّلاةِ} . فالقصر الوارد في الآية الكريمة يعني مطلق الإنقاص وليس هو القصر الوارد في السفر الخاص بإنقاص الركعات الأربع إلى ركعتين فحسب، والدليل على هذا الفهم آت من جهة القرآن ومن جهة الحديث.(2/459)
أما القرآن الكريم فيقول بعد الآية المذكورة أعلاه {وَإذَا كُنْتَ فِيْهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُم الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوْا أَسْلِحَتَهُمْ فَإذَا سَجَدُوْا فَلْيَكُوْنُوْا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىْ لم يُصَلُّوْا فَلْيُصَلُّوْا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوْا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الذِيْنَ كَفَرُوْا لَوْ تَغْفُلُوْنَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيْلُوْنَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ كَانَ بِكُمْ أَذَىً مِن مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَىْ أَنْ تَضَعُوْا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوْا حِذْرَكُمْ إنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِيْنَ عَذَاباً مُهِيْنَاً. فَإذَا قَضَيْتُم الصَّلاةَ فاَذْكُرُوْا اللهَ قِيَامَاً وَقُعُوْدَاً وَعَلَىْ جُنُوْبِكُمْ فَإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيْمُوْا الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَىْ المُؤْمِنِيْنَ كِتَابَاً مَوْقُوْتَاً} الآيتان 102، 103 من سورة النساء. فقد قال سبحانه وتعالى {فَأَقَمْتَ لَهُم الصَّلاةَ} ، وذكر بعده شكلاً من أشكال قصر الصلاة، أي أنه سبحانه وصف صلاة الخائف المقصورة بأنها إقامةٌ للصلاة، بمعنى أن من صلى صلاة الخوف المقصورة إلى ركعتين اعتُبِرَ مقيماً للصلاة، ثم قال في الآية التي تليها {فَإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيْمُوْا الصَّلاةَ} مع بقاء حالة القصر، ما يعني أن الصلاة بغير الاطمئنان لا تُعتبر إقامة لها. وبمعنى آخر فإن أداء الصلاة عند الاطمئنان يوصف بأنه إقامةٌ لها، ومفهومه أن أداء الصلاة في غير حالة الاطمئنان لا يعتبر إقامةً لها، فإذا علمنا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما أُمر أن يصلي صلاة الخوف المقصورة بالمؤمنين خوطِبَ بقوله تعالى {فَأَقَمْتَ لَهُم الصَّلاةَ} أدركنا أن صلاة الخوف المقصورة إلى ركعتين هي إقامةٌ للصلاة، فلم يبق(2/460)
من دلالة قوله تعالى {فَإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيْمُوْا الصَّلاةَ} إلا أنَّ أداءَ الصلاة عند عدم الاطمئنان لا يطلق عليه لفظ إقامة الصلاة، فلم يبق إلا أن يكون أداؤها عند عدم الاطمئنان بإنقاص لا توصف الصلاة معه بأنها مُقامة، وهي إشارة إلى أداء هذه الصلاة بإنقاصٍ آخر غير إنقاصِ عدد الركعات إلى ثنتين، وهو الإيماء أو الاقتصار على ركعة واحدة فحسب.
وأما الحديث فقد ورد منه ما يلي:
أ- عن ابن عباس رضي الله عنه «أنَّ الله عزَّ وجلَّ فرض الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - على المقيم أربعاً، وعلى المسافر ركعتين، وعلى الخائف ركعة» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي والبيهقي.
ب - عن ابن عباس رضي الله عنه قال «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف بذي قَرَد - أرضٍ من أرض بني سُليم - فصفَّ الناس خلفه صفَّين، صف موازي العدو وصف خلفه، فصلى بالصف الذي يليه ركعة، ثم نكص هؤلاء إلى مصافِّ هؤلاء وهؤلاء إلى مصافِّ هؤلاء، فصلى بهم ركعة أخرى - زاد في رواية - فكانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ولكل طائفة ركعة» رواه أحمد والنَّسائي والبيهقي والحاكم وابن حِبَّان. وروى أحمد والنَّسائي والبيهقي والطحاوي عن جابر مثله. وروى أحمد وأبو داود والنَّسائي والبيهقي والحاكم عن حذيفة مثله.(2/461)
ج- عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل بين ضَجْنانَ وعُسْفانَ، فقال المشركون: إن لهم صلاةً هي أحبُّ إليهم من آبائهم وأبنائهم وهي العصر، فأَجْمِعوا أمرَكم فميلوا عليهم ميلةً واحدة، وإن جبريل عليه السلام أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يقسم أصحابه شطرين، فيصلي ببعضهم، وتقوم الطائفة الأخرى وراءهم ولْيأخذوا حِذْرَهم وأسلحتهم، ثم تأتي الأخرى فيصلون معه، ويأخذ هؤلاء حِذْرَهم وأسلحتهم، لتكون لهم ركعة ركعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتان» رواه أحمد والنَّسائي والترمذي. وضَجْنان وعُسْفان هما موضعان بين مكة والمدينة. فهذه الأحاديث تدل على أن الصلاة عند الخوف تُخَفَّض أي تنقص إلى ركعة واحدة فقط، وأيضاً:
أ- روى البخاري ومالك وابن ماجة حديثاً طويلاً عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وجاء في آخره قول ابن عمر «فيكون كل واحد من الطائفتين قد صلى ركعتين، فإذا كان خوفٌ هو أشد من ذلك صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم أو ركباناً، مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها» . ورواه مسلم وجاء فيه «فإذا كان خوفٌ أكثر من ذلك فصلِّ راكباً أو قائماً تُومئ إيماءً» .
ب- عن عبد الله بن أنيس قال «بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خالد بن سفيان الهذلي وكان نحو عُرَنة وعرفات، فقال: اذهب فاقتلْه، قال: فرأيته وحضرتْ صلاةُ العصر فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما إنْ أُؤخر الصلاة، فانطلقت أمشي وأنا أُصلي أومئ إيماءً نحوَه، فلما دنوت منه قال لي: مَن أنت؟ قلت: رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك في ذاك، قال: إني لفي ذاك، فمشيت معه ساعة حتى إذا أمكنني علوتُه بسيفي حتى برد» رواه أبو داود. ورواه أحمد والبيهقي مطوَّلاً، وجاء في رواية أحمد «فصليت وأنا أمشي نحوه أُومئ برأسي الركوع والسجود» .(2/462)
ج- عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال لسعيد بن العاص وهو يشرح له كيفية صلاة الخوف «وتأمر أصحابك إنْ هاجهم هَيْجٌ من العدو فقد حلَّ لهم القتال والكلام» رواه أحمد وهذا طرف منه. ورواه أبو داود والنَّسائي والبيهقي والحاكم. فهذه النصوص الثلاثة وإن وردت على ألسنة صحابة فإنه يبعد أن تكون من عند أنفسهم، وكلها تفيد أن صلاة الخوف تكون إيماءً، أو يتخللها القتال والكلام، ما يعني أن الصلاة هنا غير مقامة على هيئتها المعروفة. فالقصر الوارد في قوله سبحانه {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوْا مِن الصَّلاةِ} عام في القصر إلى ركعتين، وفي القصر إلى ركعة، وفي القصر إلى الإيماء.
قلت في بدء البحث إنَّ لصلاة الخوف أشكالاً وكيفيات عدة، وأقول هنا إنَّ أبرز هذه الأشكال ما يلي:
1. الصلاة ركعة واحدة:
يُصلي الإمام بطائفةٍ ركعةً واحدة، ثم يَثْبُتُ قائماً ويتركهم خلفه يسلِّمون وينصرفون، فتأتي الطائفة الثانية فيصطُّفون خلفه، فيصلي بهم ركعته الثانية وركعتَهم الوحيدة ويسلم ويسلمون، ولا تُؤدِّي أيٌّ من هاتين الطائفتين ركعةً أخرى، بل تصلي كل طائفة ركعة واحدة فحسب، بينما يصلي الإمام ركعتين اثنتين، والأدلة على هذا الشكل الأحاديث الثلاثة المارة قبل قليل: عن ابن عباس حديثان وعن أبي هريرة حديث واحد.
2. الصلاة ركعتان اثنتان:(2/463)
أ- يصلي الإمام بطائفة ركعةً واحدة ويَثْبُتُ قائماً، وينتظر حتى يُتِمُّوا لأنفسهم ركعتهم الثانية وينصرفوا، وتأتي الطائفة الثانية فيصطفُّون خلفه فيصلي بهم ركعته الثانية، ويصلون هم معه ركعتهم الأولى، ثم يثبت الإمام جالساً، وينتظرهم حتى يُتمُّوا لأنفسهم الركعة الثانية، ثم يسلم ويسلمون، والدليل على هذا الشكل ما رواه صالح بن خوَّات عمن شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرِّقاع صلى صلاة الخوف «أن طائفة صفَّت معه وطائفة وُجَاهَ العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا، فصفُّوا وُجَاهَ العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالساً وأتمُّوا لأنفسهم، ثم سلم بهم» رواه البخاري ومسلم وأحمد ومالك وأبو داود.
ب - أو يصلي الإمام بطائفة ركعتين اثنتين يُتِمُّونهما معه وينصرفون ويثبت، ثم تأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم الإمام ركعتين اثنتين يتمونهما معه ويسلم ويسلمون، والدليل على هذا الشكل ما رُوي عن جابر رضي الله عنه قال «أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بذات الرِّقاع قال ... قال فنودي بالصلاة، فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، قال فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات وللقوم ركعتان» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والطحاوي والبيهقي.(2/464)
ج - يصلي الإمام بطائفة ركعتين ويسلم ويسلمون ثم ينصرفون، وتأتي الطائفة الأخرى فتصطفُّ خلفه ثم ينوون معاً ويصلون معاً ركعتين ثم يسلم ويسلمون، وهذه أسهل الأشكال كلها، والدليل عليها ما رُوي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال «صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف فصلى ببعض أصحابه ركعتين ثم سلَّم فتأخروا، وجاء آخرون فكانوا في مكانهم فصلى بهم ركعتين ثم سلَّم، فصار للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات وللقوم ركعتان ركعتان» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي وابن حِبَّان والدارقطني. وتكون صلاة الإمام الثانية نافلة. وأنت أخي المسلم بالخيار بين هذه الأشكال وبين غيرها من الأشكال الأخرى الثابتة والمروية كلها بأسانيد صحيحة، وإن كان لي أن أختار لكم فإني أختار الأسهل منها وهو الشكل الثالث الأخير.
أما بخصوص صلاة المغرب فإن الإمام يفعل كما يفعل في الصلاة الثنائية مما جاء في البند 2 سوى أنه يكون بالخيار بين أن يصلي بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الأخرى ركعتين، أو يعكس فيصلي بالطائفة الأولى ركعتين وبالطائفة الأخرى ركعة، فكلا الأمرين جائز.
أما إن دهم العدو المسلمين في ديارهم وأخافهم في بيوتهم فأرادوا أن يصلوا في الحضر صلاة الخوف أربع ركعات تامات، فإن الإمام يفعل مثل فعله في البند 2 سوى أنه يصلي بالطائفة الأولى ركعتين ويثبت قائماً ريثما يُتِمُّون وحدهم صلاتهم الرباعية، أي ريثما يأتون بركعتين إضافيتين ثم ينصرفون، ثم تأتي الطائفة الأخرى ويصطفون خلف الإمام فيصلي بهم ركعتيه المتبقيتين، فيُتِم لنفسه أربع ركعات، ويصلون هم معه ركعتيهم الأوليين، ويثبت الإمام جالساً ريثما يُتمُّون هم ركعتيهم المتبقيتين، وبذلك يتمون لأنفسهم أربع ركعات، ثم يسلم ويسلمون.
الصلاة إيماءً وعلى المركوب وفي غير جهة القِبلة(2/465)
إذا اشتد الخوف واستبدَّ بالناس الذعرُ من الأعداء، ولم يعد يسهل عليهم إقامة صلاة الخوف بأية كيفية من الكيفيات المشروعة ذات القيام والقعود والركوع والسجود، جاز لهم إتيانُ الصلاة إيماءً بحيث يكون السجود أخفض من الركوع، وجازت لهم الصلاة وهم ماشون، وهم راكبون، كما جازت لهم دون أن يستقبلوا القِبلة، فيؤدون الصلاة إيماءً وكيفما اتفق، يصليها هكذا الهاربُ من عدوه، راكباً السيارة أو الطائرة أو الدابة أو السفينة، كما يصليها إيماءً الملتصقُ بحجر أو صخرة أو جدار في حالة اختباء من العدو. فهذه الحالات وأمثالها لا يحتاج فيها المصلي إلى أكثر من القراءة والذكر والإيماء فحسب، ولْيُصلِّ إلى أي اتجاه، ولا عليه عند ذلك، وصلاته صحيحة مقبولة. وقد مرت النصوص الثلاثة الدالَّةُ على ذلك المرويةُ عن حذيفة وعبد الله بن أنيس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين.
2) صلاة المسافر
الأصل في صلاة المسافر القصر، أي ركعتان للظهر وللعصر وللعشاء، وتبقى صلاتا الصبح والمغرب على حالهما دون تغيير، فعن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت «كان أول ما افتُرِض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاةُ ركعتان ركعتان إلا المغرب فإنها كانت ثلاثاً، ثم أتمَّ الله الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً في الحضر، وأقرَّ الصلاة على فرضها الأول في السفر» رواه أحمد وابن حِبَّان وابن خُزَيمة والبيهقي. وعن عمر رضي الله عنه قال «صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان، تمامٌ غير قصر على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، وقد خاب من افترى» رواه ابن خُزَيمة وأحمد والنَّسائي وابن ماجة والبيهقي. وقد مرَّ في بحث [صفة صلاة العيدين] فصل [صلوات مفروضة عدا الصلوات الخمس] .(2/466)
والصلاةُ قصراً ينال صاحبها ثواب الصلاة الرباعية، لذا فلا داعي لأدائها في السفر أربع ركعات، لا سيما وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضوان الله عليهم - وهم أحرص الناس على الثواب - كانوا يقصرون دوماً في السفر، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال « ... إني صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ... » رواه مسلم والبخاري وأحمد.
والقصر في السفر رخصة لا فرق بين السفر الآمن والسفر المَخُوف، فعن يعلى بن أمية قال «قلت لعمر بن الخطاب: ليس عليكم جُناح أن تَقْصُروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا، فقد أمِن الناس، فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» رواه مسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي وابن ماجة. وعن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمِنَى آمَنَ ما كان الناس وأكثره ركعتين» رواه مسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي وابن ماجة. وفي رواية أخرى لمسلم من طريق حارثة رضي الله عنه بلفظ «صليتُ خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمِنى والناس أكثر ما كانوا، فصلى ركعتين في حجة الوداع» .(2/467)
وما دامت الصلاة المقصورة رخصة فإن ترك الصلاة المقصورة والإتيان بالصلاة الرباعية جائز لا حُرمةَ فيه، فقوله تعالى {فلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوْا مِن الصَّلاةِ} جزء من الآية 101 من سورة النساء. وقوله عليه الصلاة والسلام «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» ، يدل كلاهما على أن القصر رخصة وليس عزيمة. وأيضاً قد رُويت أحاديثُ كثيرة تذكر أن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صلوا صلاة رباعية في بعض أسفارهم أذكر منها ما يلي:
أ- عن عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة رضي الله عنها «أنها اعتمرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة، حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأُمي قصرتُ وأتممتُ وأفطرتُ وصمتُ قال: أحسنتِ يا عائشة، وما عاب عليَّ» رواه النَّسائي والبيهقي.
ب - عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها «أنها كانت تصلي في السفر أربعاً، فقلت لها: لو صليتِ ركعتين فقالت: يا ابن أختي إنه لا يشقُّ عليَّ» رواه البيهقي بسند صحيح، ورواه عبد الرزاق بلفظ «أنها كانت تُتِمُّ في السفر» .
ج - عن ابن عمر رضي الله عنه قال «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمِنى ركعتين، وأبو بكر بعده، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان صدراً من خلافته، ثم إن عثمان صلى بعدُ أربعاً، فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً، وإذا صلاها وحده صلى ركعتين» رواه مسلم، ورواه البخاري بلفظ قريب.(2/468)
د - عن حفص عن أنس بن مالك أَنه قال «انطُلِقَ بنا إلى الشام إلى عبد الملك ونحن أربعون رجلاً من الأنصار لِيَفْرِضَ لنا، فلما رجع وكنا بفجِّ الناقة صلى بنا العصر ثم سلم ودخل فسطاطه، وقام الناس يضيفون إلى ركعتيه ركعتين أخريين قال، فقال: قبَّح الله الوجوه، فوالله ما أصابت السُّنَّة ولا قُبلت الرخصة ... » رواه أحمد. وروى أحمد من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير أن معاوية صلى في مكة ركعتين فترة ثم صلى أربعاً.
فعائشة وعثمان وأربعون من الأنصار ومعاوية كلهم صلوا في السفر أربعاً، وطبعاً صلى عثمان وكذلك معاوية أربعاً يأتمُّ بهما ناسٌ من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلو كانت الصلاة الرباعية غير جائزة للمسافر لمَا حصل ما حصل من هؤلاء الصحابة، ولمَا أثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فعل عائشة هذا، فالصحيح أن القصر في السفر رخصة وليس عزيمة كما يقول بذلك عدد من الفقهاء.
مسافة القصر
لقد اختلف الأئمة والفقهاء اختلافاً كبيراً في تقدير المسافة التي لا بدَّ من أن يقطعها المسافر حتى يجوز له أن يقصر الصلاة، حتى إنَّ محمد بن المنذر قد أوصل هذه الآراء إلى العشرين، ونحن نكتفي باستعراض أبرز الآراء هذه، لا سيما وأن معظمها لا دليل معتبراً عليها، ثم نناقشها مع أدلتها وشُبُهاتها بشئ من التفصيل، حتى نقف على الصواب في هذه المسألة بإذن الله تعالى.(2/469)
أ - رأي الأحناف: جاء في كتاب المبسوط لشمس الدين السرخسي، وهو عُمدة كتب الأحناف، ما يلي [ ... والخارج إلى حانوتٍ أو إلى ضيعةٍ لا يسمى مسافراً، فلا بد من إثبات التقدير لتحقيق اسم المسافر، وربما قدَّرنا بثلاثة أيامٍ لحديثين، أحدهما قوله - صلى الله عليه وسلم - «لا تسافر المرأةُ فوق ثلاثةِ أيامٍ ولياليها إلا ومعها زوجها، أو ذو رحمٍ محرمٍ منها» معناه ثلاثةَ أيام، وكلمة فوق صلةٌ في قوله تعالى فاضربوا فوق الأعناق، وهي لا تمنع من الخروج لغيره بدون محرمٍ. وقال - صلى الله عليه وسلم - «يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيامٍ ولياليها» فهو تنصيص على أن مدة السفر لا تنقص عما يمكن استيفاء هذه الرخصة فيها، والمعنى فيه أن التخفيف بسبب الرخصة لما فيه من الحرج والمشقة، ومعنى الحرج والمشقة أن يحتاج إلى أن يحمل رَحلَهُ من غير أهله ويحطه في غير أهله، وذلك لا يتحقق فيما دون الثلاثة ... ] إلى أن قال [ولا معنى للتقدير بالفراسخ، فإن ذلك يختلف باختلاف الطرق في السهول والجبال والبر والبحر، وإنما التقدير بالأيام والمراحل، وذلك معلوم عند الناس فيرجع إليهم عند الاشتباه، فإذا قصد مسيرة ثلاثة أيام قصر الصلاة] وقد شاركهم الرأي هذا سعيد بن جُبَير وسفيان الثوري، ونُسب إلى عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وحذيفة رضي الله عنهم. فالمسافر في رأي الأحناف لا يجوز له أن يقصر الصلاة في أقل من مسيرة ثلاثة أيام، ولا عبرة عندهم بتقدير المسافة بالأميال والفراسخ، وإنما التقدير بالأيام والمراحل.
ب - رأي المالكية: جاء في كتاب المدونة الكبرى للإمام مالك ما يلي:
[قال ابن القاسم: كان مالك يقول قبل اليوم: يقصر الصلاة في مسيرة يوم وليلة، ثم ترك ذلك، وقال مالك: لا يقصر الصلاة إلا في مسيرة ثمانية وأربعين ميلاً كما قال ابن عباس في أربعة بُرُدٍ] .(2/470)
فالمسافر في رأي المالكية لا يجوز له أن يقصر الصلاة في أقل من مسيرة ثمانية وأربعين ميلاً، وهي تعادل ستة عشرَ فرسخاً، أو 88.7 كيلو متراً.
ج - رأي الشافعية: جاء في كتاب الأم للشافعي ما يلي:
[ ... فللمرء عندي أن يقصر فيما كان مسيرة ليلتين قاصدتين، وذلك ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي، ولا يقصر فيما دونها، وأما أنا فأحبُّ أن لا أقصر في أقل من ثلاث احتياطاً على نفسي، وأن ترك القصر مباح لي. فإن قال قائل: فهل في أن يقصر في يومين حجة بخبرٍ متقدم؟ قيل: نعم عن ابن عباس وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أخبرنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس أنه سئل: أتقصر إلى عرفة؟ فقال: لا، ولكن إلى عُسْفان وإلى جدة وإلى الطائف، قال: وأقرب هذا من مكة ستةٌ وأربعون ميلاً بالأميال الهاشمية، وهي مسيرة ليلتين قاصدتين دبيبَ الأقدام وسيرَ الثقل، أخبرنا مالك عن نافع أنه كان يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر الصلاة، أخبرنا مالك عن نافع عن سالم أن ابن عمر ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيرة ذلك، قال مالك: وبين ذات النصب والمدينة أربعة بُرُدٍ، أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه ركب إلى ريم فقصر الصلاة في مسيرة ذلك، قال مالك: وذلك نحوٌ من أربعة بُرُدٍ] .
فالمسافر في رأي الشافعي يصح له أن يقصر في مسيرة ليلتين قاصدتين، وهي تعادل ستة وأربعين ميلاً بالهاشمي، أي مسافة 85 كيلومتراً. ويحتاط الشافعي لنفسه فيقصر في مسيرة ثلاث ليالٍ، وهذه تعادل 127.5 كيلو متراً.
د- رأي الحنابلة: جاء في كتاب المغني لابن قدامة الحنبلي ما يلي:
[وإذا كانت مسافة سفره ستة عشرَ فرسخاً أو ثمانية وأربعين ميلاً بالهاشمي فله أن يقصر. قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله - أي لأحمد بن حنبل - في كم تقصر الصلاة؟ قال: في أربعة بُرُدٍ، قيل له: مسيرة يومٍ تامٍّ؟ قال: لا، أربعةُ بُرُدٍ ستة عشرَ فرسخاً ومسيرة يومين.(2/471)
فمذهب أبي عبد الله أن القصر لا يجوز في أقل من ستةَ عشرَ فرسخاً، والفرسخ ثلاثة أميال، فيكون ثمانية وأربعين ميلاً، قال القاضي: والميل اثنا عشر ألف قدمٍ، وذلك مسيرة يومين قاصدين، وقد قدره ابن عباس فقال: من عُسْفان إلى مكة، ومن الطائف إلى مكة، ومن جدة إلى مكة ... ، فعلى هذا تكون مسافة القصر يومين قاصدين، وهذا قول ابن عباس وابن عمر، وإليه ذهب مالك والليث والشافعي وإسحق] وأضاف ابن قُدامة إلى ما سبق ما يلي [وروي عن ابن عمر أنه يقصر في مسيرة عشرة فراسخ، قال ابن المنذر: ثبت أن ابن عمر كان يقصر إلى أرضٍ له وهي ثلاثون ميلاً، وروي نحو ذلك عن ابن عباس، فإنه قال: يقصر في اليوم ولا يقصر فيما دونه، وإليه ذهب الأوزاعي، وقال عامة العلماء: يقولون مسيرة يومٍ تامٍّ، وبه نأخذ ... ] فالمسافر في رأي أحمد بن حنبل يحتاج لأن يقطع مسافةَ ثمانيةٍ وأربعين ميلاً حتى يجوز له القصر، وهي تعادل 88.7 كيلو متراً، وهو رأي مالك. إلا أن ابن قُدامة لم يلتزم برأي إمامه وإنما أخذ بقول عامة العلماء بتقدير المسافة بمسيرة يومٍ تامِّ، وهي تعادل أربعةً وعشرين ميلاً، أي 44.35 كيلو متراً فقط، دون أن يذكر من هم هؤلاء العلماء.(2/472)
هـ - رأي ابن حزم، وهو من علماء أهل الظاهر: جاء في كتابه المسمى المحلى ما يلي [والسفر هو البروز عن محلة الإقامة، وكذلك الضرب في الأرض، هذا الذي لا يقوم أحدٌ من أهل اللغة - التي بها خوطبنا وبها نزل القرآن - سواه، فلا يجوز أن يخرج عن هذا الحكم إلا ما صحَّ النصُّ بإخراجه، ثم وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خرج إلى البقيع لدفن الموتى، وخرج إلى الفضاء للغائط والناس معه فلم يقصروا ولم يفطروا، ولا أفطر ولا قصر، فخرج هذا عن أن يسمى سفراً، وعن أن يكون له حكم السفر، فلم يَجُزْ لنا أن نُوقِع اسم السفر إلا على من سماه من هو حجة في اللغة سفراً، فلم نجد ذلك في أقلَّ من ميلٍ، فقد روينا عن ابن عمر أنه قال «لو خرجت ميلاً لقصرتُ الصلاةَ» ] . وأضاف ابن حزم ما يلي [وأما نحن فإن ما دون الميل من آخر بيوت قريته له حكم الحضر فلا يقصر فيه ولا يفطر، فإذا بلغ الميل فحينئذ صار في سفره تُقصَر فيه الصلاة ويُفطَر فيه، فمن حينئذ يقصُرُ ويُفطِرُ] .
فالمسافر في رأي ابن حزم يقصر الصلاة في مسيرة ميل واحد خارج بيوت المدينة أو القرية وتعادل 1848 متراً، أي كيلو متراً واحداً وثمانية أعشار الكيلومتر.
وللعلم فقط أذكر لكم آراء أخرى في هذه المسألة قال بها عدد من الفقهاء دونما حاجة منا لمناقشتها، أنقلها لكم من كتاب المحلى لابن حزم وهذه هي [أما من قال بتحديد ما يقصر فيه بالسفر من أُفق إلى أُفق، وحيث يحمَل الزاد والمزاد، وفي ستة وتسعين ميلاً، وفي اثنين وثمانين، وفي اثنين وسبعين ميلاً، وفي ثلاثة وستين ميلاً، أو في واحد وستين ميلاً، أو ثمانية وأربعين ميلاً، أو خمسة وأربعين ميلاً، أو أربعين ميلاً، أو ستة وثلاثين ميلاً] .
ونحن قبل أن نبدأ بالمناقشة التفصيلية نذكر جملة من البنود الأصولية المعتبرة:(2/473)
أ - إن الحكم حتى يكون شرعياً لا بد من أن يؤخذ من الشرع، أي من أدلته المعتبرة، وهي الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس فقط، وما سوى هذه الأدلة الأربعة لا تصلح عندنا للاحتجاج، ولا يكون الحكم المستنبط منها حكماً شرعياً في حقنا نحن.
ب - إن قول الصحابي حتى يكون دليلاً شرعياً لا بد من أن يُجمِعَ الصحابةُ عليه، أما إن قال صحابي أو عشرة من الصحابة أو حتى مائة منهم قولاً، وجاء صحابة آخرون بقولٍ أو أقوالٍ مخالِفة، فإن ذلك يعني أنَّ أياً من هذه الأقوال لا تعتبر دليلاً شرعياً، وكل ما يقال فيها أنها أحكام شرعية اجتهادية بحق من قال بها، ومن قلَّدها أو اتَّبعها فقط.
ج - إن الحقائق الشرعية مقدَّمة على الحقائق اللغوية، ولا يُعمل بالحقائق اللغوية إلا في حالة عدم وجود حقائق شرعية، ولا يجوز العكس مطلقاً تحت أي ظرف من الظروف.
د - إذا جاء قولٌ أو فعلٌ لصحابي، ثم جاء قولٌ أو فعلٌ مغايرٌ لصحابي آخر فإن ذلك يعني أنه قولٌ أو فعلٌ اجتهاديٌّ، وليس قولاً أو فعلاً مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا نُقل عن صحابي واحدٍ قولان أو فعلان مختلفان كان ذلك مَدْعاةً لرفض كلا القولين أو الفعلين وعدم جواز العمل بأيًّ منهما، إلا أن يكون أحدهما قد نُقل بسند ضعيف فيُطرح، ويؤخذُ الآخر إن كان قد نُقل بسند صحيح أو حسنٍ.
هـ - إذا ورد في مسألةٍ نصٌّ من كتاب الله أو من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وورد في المسألة نفسها قول صحابي أُخِذ فقط بالنص من كتاب الله أو من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترك قول الصحابي، إلا أن يكون هذا القول شرحاً أو تفسيراً للنص، فلا بأس بأخذه عندئذٍ.(2/474)
و - إذا ورد نصٌّ في مسألة عولجت المسألةُ بهذا النص وقُصِرَ النصُّ عليها، ولم يَجُزْ علاج أية مسألة أخرى به، إلا أن تكون بين المسألتين علةٌ مشتركةٌ ظاهرةٌ في النص صراحةً أو دلالةً، وإلا فلا قياس مطلقاً لا سيما في العبادات.
بالاتفاق على هذه البنود الأصولية، وبالنظر في آراء الأئمة الأربعة وغيرهم التي استعرضناها آنفاً على ضوء هذه البنود نستطيع بسهولة ويُسرٍ أن نردَّ جميع هذه الآراء، ونُظهر خطأها كلها، ونُثبت أن الصواب قد جانب الجميع فيها، وأنها كلها قد جاءت مخالِفةً للنصوص الشرعية الواردة في هذه المسألة. أما كيف؟ فإليكم البيان:
1 - مناقشة رأي الأحناف: استدلَّ الأحناف على تقدير مسافة القصر بقوله عليه الصلاة والسلام «لا تُسافر المرأةُ فوق ثلاثة أيامٍ ولياليها إلا ومعها زوجها أو ذو رحِمٍ محرمٍ منها» وبقوله - صلى الله عليه وسلم - «يمسح المقيم يوماً وليلةًً والمسافرُ ثلاثة أيامٍ ولياليها» .
فنقول لهؤلاء ما يلي: إن هذين الحديثين لا يدلان على دعواهم بحالٍ من الأحوال، وذلك أن الحديث الأول قد جاء في موضوعٍ خاصٍّ بسفر المرأة فيُقصَرُ عليه ولا يتعداه إلى غيره، والمعلوم فقهياً أن النص إذا جاء مخاطباً النساء قُصِرَ عليهن ولم يدخل فيه الرجال بحال، فلا يشمل هذا الحديث سفر الرجل، فضلاً عن أنه في غير موضوع قصر الصلاة.(2/475)
وأما الحديث الثاني فقد جاء في موضوع المسح في الوضوء فيُقصَرُ عليه، ولا يُنقلُ إلى موضوع قصر الصلاة في السفر. وإذن فإن هذين الحديثين لا يصح أن يؤتى بهما على موضوعنا، فسفر المرأة غير قصر الصلاة، والمسح في الوضوء غير قصر الصلاة، فهذه ثلاثة مواضيع منفصلة متباعدة لا تجمع بينها علةٌ ظاهرةٌ لا صراحةً ولا دلالةً حتى يصح القياس. ولا يقال إن السفر هو علةٌ مشتركة بين هذه المواضيع، لا يقال ذلك لأن السفر هنا ليس علةٍ وإنما هو سبب، والسبب لا يقاس عليه. وعليه، وحيث أن هذين النصين قد جاءا في موضوعين منفصلين تماماً عن موضوع قصر الصلاة، وحيث أنهما لا يشتركان مع قصر الصلاة بأية علة، فإن القياس هنا لا يصح.
ثم إن هؤلاء قد نظروا في لفظ هذين الحديثين فوجدوا فيهما لفظة السفر، ووجدوا هذه اللفظة قد جاءت بصدد السير ثلاثة أيام ولياليها، فقالوا: ما دام السير ثلاثة أيام ولياليها وُصف بأنه سفر، فإنا نقول إن المسافر هو من سار هذه المدة الزمنية أو أكثر منها، وليس أقل منها، وبذلك يصح له دون غيره قصر الصلاة. فنقول لهم ما يلي:
إننا لا نخالفهم في أن السير ثلاثة أيام ولياليها يعتبر سفراً، ولكننا نقول إن الثلاثة أيام ولياليها لم تأت في الحديثين شرطاً ولا تقييداً للسير حتى يعتبر سفراً، وإنما جاءت تقييداً زمنياً لسفر المرأة وللمسح في الوضوء فحسب، ولا أدل على خطأ دعواهم من الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومٍ وليلة ليس معها حرمة» رواه البخاري ومسلم. قوله: حرمة: أي رجل محرم بنسب أو قرابة. فهذا نص صحيح صريح على أن مسيرة يوم وليلة يطلق عليها اسم السفر، وهي ثلث المسيرة التي جعلوها شرطاً وتقييداً للسير حتى يصح إطلاق اسم السفر عليه.(2/476)
بل إن هناك أحاديث صالحةً أطلقت اسم السفر على ما دون هذا وذاك بكثير، فعن اللجلاج قال «كنا نسافر مع عمر بن الخطاب، فنسير ثلاثة أميال فيتجوَّز في الصلاة ويقصر» رواه ابن أبي شيبة. وعن محارب بن دثار قال: سمعت ابن عمر يقول «إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر» رواه ابن أبي شيبة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تسافر امرأةٌ بريداً إلا مع ذي محرم» رواه البيهقي وأبو داود. والبريد أربعة فراسخ، وتقدر بـ 22 كيلو متراً. وهذه المسافة تقطع في نصف يوم تقريباً. فماذا يقول إخواننا الأحناف؟ إن مما لا شك فيه أن الحديثين اللذين استنبطوا منهما القصر لا يفيدانهم، وأن هذين الحديثين لا علاقة لهما من قريب أو بعيدٍ بموضوع مسافة القصر.
2 - مناقشة رأي المالكية: رأي المالكية مأخوذٌ من قول منسوب لابن عباس رضي الله عنه فهو إذن اتباع لابن عباس لا اجتهادٌ منهم في النصوص، فمن أحب أن يقلد، أو يتَّبِع ابن عباس كما فعل مالك فليفعل، ولكننا هنا لسنا بصدد تقليد أو اتباع أحد، وإنما نريد أن نستنبط الحكم الشرعي من النصوص الشرعية، وسنذكر عدداً من النصوص الشرعية لاحقاً تعارض قول ابن عباس هذا، ومن ثَم قول المالكية، مما يُظهرُ خطأ هذا الرأي.
ثم إن أقوال الصحابة - وهي ليست أدلة شرعية - تعتبر غير صالحة للاحتجاج إن هي تعارضت واختلفت، ونحن في مسألتنا هذه نجد أقوال صحابةٍ وأفعالاً لصحابةٍ تخالف قول ابن عباس رضي الله عنه، مما يضطرنا إلى عدم أخذ هذا الرأي، فعن محمد ابن زيد بن خليدة عن ابن عمر قال «يقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال» رواه ابن أبي شيبة. ومر قبل قليل حديث اللجلاج «كنا نسافر مع عمر بن الخطاب، فنسير ثلاثة أميال فيتجوَّز في الصلاة ويقصر» رواه ابن أبي شيبة. فالمسألة ليست مسألة انتقاءِ أقوالٍ من أقوالٍ دون سندٍ شرعي.(2/477)
3 - مناقشة رأي الشافعية: رأي الشافعية اتِّباع هو الآخر لابن عباس وابن عمر فيما نُسبَ إليهما، وليس اجتهاداً في النصوص الشرعية، انظروا في مسند الشافعي يقول ما يلي [أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح قال «قلت لابن عباس: أقصُرُ إلى عرفة؟ قال:لا، ولكن إلى جدة وعُسفان والطائف، وإن قدمتَ على أهلٍ أو ماشيةٍ فأَتم» . (قال) وهذا قول ابن عمر، وبه نأخذ] . فهو قول واضح تماماً أنه اتِّباع لابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما. وأكرر القول إننا هنا لسنا بصدد تقليد أو اتباع أحد، وإنما نريد أن نستنبط الحكم الشرعي من النصوص الشرعية، وهي متوافرة في مسألتنا هذه، وستأتي بإذن الله.
4 - مناقشة رأي الحنابلة: القول فيه هو القول نفسه في رأي الشافعية، فالحنابلة قد اتَّبعوا بعض الصحابة، ولم يستدلوا على تقدير المسافة بالنصوص الشرعية، والغريب أنَّ ابن قُدامة، وهو فقيه الحنابلة المقدَّم، لم يأخذ برأي إمامِه أحمد، ولم يقلد أو يتَّبع صحابةً، ولم يستند إلى نص شرعي، وإنما اتَّبع، كما يقول، عامةَ العلماء، فأخذ بمسيرة يومٍ تامٍّ، وليتهُ ذكر لنا أسماء عامة العلماء هؤلاء، أو عددهم على الأقل، فأخطأ خطأين اثنين: أولهما أنه لم يستدل على رأيه بالنصوص الشرعية، والثاني أنه قلَّد أو قل اتَّبع عامة العلماء كما قال، مع أن علماء المذاهب الأربعة هم عامة العلماء، وهم لا يقولون بهذا القول.
5 - مناقشة رأي ابن حزم: إن ابن حزم بحث المسألة بحثاً لُغوياً، وبنى رأيه على دلالة اللغة، فذكر أن السفر لغةً هو البروز عن محلة الإقامة، وكذلك الضرب في الأرض فأطلق السفر وجعل مطلق السفر يبيح القصر، ولكنه وقد قضى بما قضى به أحبَّ أن يستشهد بقول صحابي على صحة رأيه المبني على دلالة اللغة، فروى قولاً لابن عمر «لو خرجتُ ميلاً لقصرتُ الصلاة» ورواه أيضاً ابن أبي شيبة.(2/478)
ولقد أخطأ ابن حزم خطأين اثنين: أولهما أنه بنى رأيه على دلالة اللغة، في حين أن هناك نصوصاً شرعيةً حددت مسافة القصر لم يأتِ على ذكرها. والثاني أنه استشهد، ولنقل استأنس بقول ابن عمر ولم يستدلَّ به، وحتى لو استدل به فإنه يبقى مخطئاً، فهو لم يأخذ بقول ابن عمر، وإنما أخذ بدلالة اللغة، ثم أورد قول ابن عمر لأنه رآه يؤيد ما توصَّل إليه، هذا إضافة إلى أن ابن عمر قد رويت عنه أفعال ٌ وأقوالٌ تعارض هذا القول المنسوبة إليه مما يجعلنا لا نطمئن إلى هذا الاستشهاد، ولا نقبل الاحتجاج به. فعن محمد بن زيد بن خُلَيدة عن ابن عمر قال «يَقْصُرُ الصلاةَ في مسيرة ثلاثة أميال» رواه ابن أبي شيبة. وعن نافع عن سالم «أن ابن عمر خرج إلى أرضٍ له بذات النصب فقصر وهي ستةَ عشرَ فرسخاً» رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والشافعي.وعن محارب بن دثار قال: سمعت ابن عمر يقول «إني لأُسافر الساعةَ من النهار فأقصر» رواه ابن أبي شيبة. وهذا عبد الرزاق قد ذكر في مصنَّفه عن ابن عمر عدة روايات مختلفة في تقدير مسافة القصر، فروى عنه أن مسافة القصر هي من المدينة إلى خيبر، وهي تعادل ستةً وتسعينَ ميلاً، وأن المسافة هي من المدينة إلى السُّويداء، وهي تعادل اثنين وسبعين ميلاً، وأنها من المدينة إلى ريم، وهي تعادل ثلاثين ميلاً، فكيف يُجيز ابن حزم وغيره ممن ينهج نهجه أن يستدل أو يستشهد على تقدير المسافة بقولٍ لابن عمر أو بفعلٍ له، وقد تعددت أقواله وأفعاله المروية عنه واختلفت؟
إن ابن حزم قد أخطأ بالاستشهاد بقول ابن عمر، وإن الشافعي قد أخطأ في الاستدلال بفعل ابن عمر الدال على أن القصر في أربعة بُرُدٍ، وإن الحنابلةَ قد أخطئوا بتقليد أو اتباع ابن عمر، فكل من استدل أو استشهد أو قلد أو اتبع ابن عمر رضي الله عنه في هذه المسألة فقد جانبه الصواب.(2/479)
إن أقوال الصحابة إن تعارضت لم تقم بها حجة، وإن أقوال الصحابي الواحد إن تعارضت اعتُبرت لا قيمة لها، ولم يصح الاستدلال ولا الاستشهاد بها، وقد جاءت أقوال الصحابة في مسألتنا هذه متعارضةً ومختلفةً كثيراً، مما يدعونا إلى طرحها كلها، وعدم الاحتجاج بها مطلقاً، لا سيما وأن في هذه المسألة عدداً من النصوص الشرعية الصحيحة الكافية لاستنباط حكم هذه المسألة منها. قال ابن قُدامة صاحب المُغني [قال المصنف: ولا أرى لما صار إليه الأئمة حجة، لأن أقوال الصحابة متعارضة مختلفة ولا حجة فيها مع الاختلاف، وقد روي عن ابن عباس وابن عمر خلاف ما احتج به أصحابنا ثم لو لم يوجد ذلك لم يكن في قولهم حجة مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله، وإذا لم تثبت أقوالهم امتنع المصير إلى التقدير الذي ذكروه لوجهين (أحدهما) أنه مخالف لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي رويناها، ... (والثاني) أن التقدير بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، لا سيما وليس له أصل يرد إليه، ولا نظير يقاس عليه ... ] . ولقد أصاب ابن قدامة في قوله هذا وأجاد.
أما النصوص التي جاءت تعالج هذه المسألة فهي:
أ - عن جُبير بن نُفير قال: خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعةَ عشر أو ثمانية عشر ميلاً، فصلى ركعتين، فقلت له، فقال «رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى بذي الحُليفة ركعتين، فقلت له، فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل» رواه مسلم وأحمد والنسائي والبيهقي وابن أبي شيبة. وذو الحليفة: موضع يبعد عن المدينة ستةَ أميالٍ أو سبعة أميالٍ تقريباً.
ب - عن أنس رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بالمدينة أربعاً، وصلى العصر بذي الحُليفة ركعتين» رواه مسلم والبخاري وأبو داود والنسائي والترمذي. ورواه أحمد وزاد في آخره «آمناً لا يخاف في حجة الوداع»(2/480)
ج - عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة، فقال:
«كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ - شُعبةُ الشاكُّ - صلى ركعتين» رواه مسلم وأبو داود وأحمد والبيهقي وابن أبي شيبة.
د - عن أبي هارون عن أبي سعيد «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سافر فرسخاً قصر الصلاة» رواه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور.
الحديث الرابع فيه أبو هارون ضعَّفه القطان وأحمد وابن معين وأبو زُرعة وأبو حاتم الرازي والنسائي، ولم أجد مَن وثقه أو قبله، فيترك الحديث. فتبقى عندنا ثلاثة أحاديث صحيحة.
الحديثان الأول والثاني يذكران أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صلى بذي الحليفة - وهي تبعد عن المدينة ستةَ أميال أو سبعة أميال - ركعتين، وجاء في الحديث الثاني أنها كانت صلاة العصر. وذكر حديث أحمد أن ذلك كان في حجة الوداع، وفي ذلك دلالة على تأخر هذه الحادثة مما ينفي عنها حصول النسخ. فهذان نصان صحيحان يدلان على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قصر الصلاة الرباعية عندما سافر ما بين ستة أميال وسبعة، فلماذا لم يأخذ الأئمة الأربعة بهذين النصين؟ وإنما راح ثلاثة منهم ينظرون في أقوال الصحابة، ويستنبطون منها الأحكام رغم تعارضها واختلافها، أو في أدلة ليست في المسألة كما فعل الأحناف؟!
إن هذين الحديثين يبطلان أقوال الأئمة الأربعة بشكل واضح، فلا مسيرة ثلاثة أيام ولا مسيرة يومين، ولا مسيرة يوم وليلة، ولا مسيرة ميل واحد تصلح لتقدير مسافة القصر، فوجبت العودة عن هذه الأقوال، والتقيد بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -.(2/481)
وقد جاء الحديث الثالث فيصلاً في هذه المسألة، فهو لم يذكر حادثة عين واحدة، وإنما نص على ديمومة هذا الفعل بدلالة قول الحديث (إذا خرج) وهو تشريع صريح بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - شرع للمسلمين القصر إن هم سافروا ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ. والشك هذا من الراوي شعبة، فمن سافر من المسلمين ثلاثة أميال، أو سافر منهم ثلاثة فراسخ جاز له القصر. وحيث أن الفرسخ ثلاثة أميال، فيكون معنى الحديث أن من سافر ثلاثة أميال أو سافر تسعة أميال، قصر الصلاة. فتصبح عندنا ثلاثة أقوال محتملة في هذه المسألة: ثلاثة أميال، وسبعة أميال، وتسعة أميال، ونحن نأخُذُ بالأكثر منها احتياطاً وهو تسعة أميال وتبلغ حوالي سبعة عشر كيلو متراً. فهذه هي المسافة التي قدرتها الأحاديث النبوية الصحيحة، فوجب الأخذُ بها والالتزامُ بها، وردُّ جميع أقوال الصحابة المتعارضة والمخالفة لهذا التقدير الشرعي.(2/482)
وليتهم، غفر الله لهم وعفا عنهم، أخذوا بالبنود الستة التي ذكرناها، وهي بنود صحيحة لا غبار عليها، ليخرجوا بمثل ما خرجنا به من تقديرٍ لمسافة القصر، ولكنهم لم يفعلوا، وبدلاً من أن يأخذوا النص الشرعي، ثم إن وجدوا أقوال صحابة أولوها بما يتفقوا معه أو ردوها، رأيناهم يأخذون أقوال الصحابة كتشريع، ويقومون بتأويل النص الشرعي تأويلاً بعيداً، أي هم قاموا بعكس ما كان يجب عليهم أن يفعلوا، فهذا النص الشرعي، أعني الحديث الثالث، قد أولوه بأن المقصود منه بدء القصر عند السفر الطويل بمعنى أن من نوى السفر ثلاثة مراحل، أو مرحلتين، أو أربعة بُرُد مثلاً، جاز له القصر إن هو قطع ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ، فنقلوا هذا النص من موضوعه، وهو تقدير مسافة القصر إلى آخر هو: متى يبدأ القصر؟ وشتان بين الموضوعين، ولقد أخطئوا عندما لم يتقيدوا بهذا النص في تقدير المسافة، وزاد الخطأ منهم عندما أولوه بقولهم إنه نصٌّ في بدء القصر فحسب. ولبيان هذا الخطأ نقول ما يلي:
1 - إن الإجماع عند الإئمة الأربعة هو أن من أراد أن يسافر فله أن يقصر بمجرد الخروج عن آخر بيت من بيوت المدينة أو القرية، وهذا يعني أن من غادر آخر بيت وابتعد عنه مائة متر فقط، أو حتى أقل من ذلك فإن له أن يقصر عندهم فلماذا يضعون حديث أنس في هذا المقام، وهو ينص على مسيرة ثلاثة أميال على الأقل، قبل بدء القصر عندهم؟ أليس في هذا تناقض؟ إنهم إما أن يبقوا على إجماعهم، وإما أن يأخذوا بهذا النص ويدَعوا الإجماع، لأن النص والإجماع، متعارضان هنا.(2/483)
2 - إن تأويلهم منقوض ومغلوط، وذلك أن هذا النص لم يجئ في موضوع بدء القصر، وإنما جاء في موضوع تقدير مسافة القصر، وأدَعُ ابن حجر العسقلاني، وهو شافعي المذهب، وصاحب كتاب فتح الباري بشرح البخاري يرد عليهم دعواهم، فقد جاء في هذا الكتاب ما يلي [وحكى النووي أن أهل الظاهر ذهبوا إلى أن أقل مسافة القصر ثلاثة أميال، وكأنهم احتجوا في ذلك بما رواه مسلم وأبو داود من حديث أنس قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال - أو فراسخ - قصر الصلاة» وهو أصح حديث ورد في بيان ذلك وأصرحه، وقد حمله من خالفه على أن المراد به المسافة التي يبتدأ منها القصر لا غاية السفر، ولا يخفى بُعْدُ هذا الحمل، مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن يزيد راويه عن أنس قال «سألت أنساً عن قصر الصلاة، وكنت أخرج إلى الكوفة - يعني من البصرة - فأصلي ركعتين ركعتين حتى أرجع، فقال أنس» فذكر الحديث، فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر، لا عن الموضع الذي يبتدأ القصر منه، ثم إن الصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة بل بمجاوزة البلد الذي يخرج منها ... ] وهكذا يظهر بوضوح أن من أراد سفراً يبلغ سبعة عشر كيلومتراً أو أكثر فإن له أن يقصر الصلاة الرباعية. هذا هو الحكم الشرعي الصحيح في هذه المسألة.
أما بدء قصر الصلاة، فإنه يحصل بمجرد الخروج عن آخر بيت من بيوت المدينة أو القرية، أي بمجرد مغادرة المدينة أو القرية التي يسكنها، ويستمر في القصر إلى أن يصل إلى أول بيت من بيوت المدينة أو القرية لدى عودته من سفره. قال البخاري «وخرج علي رضي الله عنه فقصر وهو يرى البيوت، فلما رجع قيل له: هذه الكوفة، قال: لا، حتى ندخلها» . ولا يوجد نص في هذه النقطة، فنستأنس بهذا الأثر.(2/484)
ويصح القصر في أي سفر، سواء كان سفر طاعة، أو سفراً مباحاً، أو سفراً محرَّماً، فما يُطلق عليه وصف السفر، وحُدد بسبعة عشر كيلومتراً فأكثر احتياطاً فإنه يبيح القصر، فالعبرة بالسفر وليس بنوعه أو غايته أو المقصود منه.
المسافر يستمر في القصر
ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد إلى أن المسافر يصبح مقيماً إذا نوى إقامة أربعة أيام مستدلين بنهيه - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين عن إقامةٍ فوق ثلاثٍ في مكة.
وذهب أبو حنيفة إلى أن المسافر يتم صلاته إذا عزم على إقامة خمسة عشر يوماً، واحتج بقول ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: إذا أقمتَ ببلدٍ وأنت مسافرٌ وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يوماً فأكمل الصلاة.
وقال الأوزاعي اثني عشر يوماً. وقال ربيعة يوماً واحداً وليلة.
والذي أراه هو أن هؤلاء جميعاً قد جانبهم الصواب، لأن منهم من استدل بحديث لا يعالج مسألتنا هذه، ومنهم من استدل بأقوال صحابة ولم يستدل بالنصوص الشرعية، وهي متوافرة في مسألتنا هذه، مع ملاحظة أنه قد روي عن الصحابة آراء متعددة مختلفة في هذه المسألة:
والصحيح الذي ينبغي القول به والمصير إليه هو أن المسافر يستمر في قصر الصلاة ما دام ينطبق عليه وصف المسافر طال السفر أو قَصُر، وكل تحديد زمني لسفر القصر هو اجتهاد مرجوح، ومتى نوى المسافر الاستيطان في مكان فقد فَقَدَ وصف المسافر وصار مقيماً يجب عليه الإتمام. فالمسافر يظل مسافراً حتى يعود لوطنه ومدينته ومكان سكناه، أو يتحول ويتَّخذ لنفسه وطناً جديداً ومكانَ إقامةٍ جديداً يقيم فيه إقامة دائمة، ويظل يقصر ما دام مسافراً ولو استمر سفره سنة أو أكثر، ولا يفقد المسافر وصف المسافر إن هو نوى الإقامة المؤقتة أياماً وأسابيع في دار السفر، وحتى لو تزوج المسافر في دار سفره من امرأة مقيمة هناك، فإنه يظلُّ مسافراً يقصر صلاته إلا إن نوى الإقامة الدائمة عندها فيُتمُّ.(2/485)
ولقد أخطأ من قالوا إن المسافر إذا تزوج في دار سفره من امرأةٍ مقيمةٍ فيها وجب عليه أنْ يُتِمَّ صلاته ولم يَجُزْ له قصرها، لأن هؤلاء قد استدلوا بحديث ضعيف جداً على دعواهم لا يصلح مطلقاً للاستدلال، وهو: عن عبد الرحمن بن أبي ذباب «أن عثمان ابن عفان رضي الله عنه صلى بمنى أربع ركعات، فأنكره الناس عليه، فقال يا أيها الناس إني تأهَّلت بمكة منذ قدمتُ، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من تأهَّلَ في بلد فلْيصلِّ صلاة المقيم» رواه أحمد والبيهقي وأبو يعلى.فهذا الحديث منقطع، قاله البيهقي وابن حجر، إضافة إلى أن راويه عكرمة بن إبراهيم، قال الذهبي: مُجْمَعٌ على ضعفه. فالحديث لا يصلح للاستدلال.
والمسافر يقصر ما دام في سفره، ماشياً كان أو راكب دابة أو مركبة: كطائرة أو سفينة أو سيارة، ناله التعب والإعياء أو لم ينله شئ من ذلك، فالعبرة بالسفر - كما سبق وقلنا - دون أية إضافة أخرى، فعن أنس رضي الله عنه قال «خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قلت: أقمتم بمكة شيئاً؟ قال: أقمنا بها عشراً» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي.(2/486)
أما ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال «سافر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقام تسع عشرة يصلي ركعتين ركعتين ... » رواه أحمد والبخاري وابن ماجة. وما رُوي عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنه قال «أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة» رواه أحمد وأبو داود وابن حِبَّان والبيهقي. وأحاديث أخرى مثلها فإن هذه الأحاديث لا تفيد تحديداً زمنياً للقصر في السفر، وإنما تدل على أن هذه الأوقات المذكورة إنما وقعت كحوادث عين، وليست لها دلالة أخرى، فلا تفيد تقييد القصر بهذه الأوقات. وقد فهم ذلك عِدَّةٌ من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكونوا يتقيدون بزمن محدَّد للقصر في السفر، فالبيهقي روى عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال «أريح علينا الثلج ونحن بأذربيجان ستة أشهر في غزاة، قال ابن عمر: وكنا نصلي ركعتين» . وأحمد روى عن ثمامة بن شراحيل قال «خرجت إلى ابن عمر فقلت: ما صلاة المسافر؟ فقال: ركعتين ركعتين إلا صلاة المغرب ثلاثاً ... إلى أن قال ثمامة قال - أي ابن عمر - يا أيها الرجل كنتُ بأذربيجان، لا أدري قال أربعة أشهر أو شهرين، فرأيتهم يصلونها ركعتين ركعتين..» . يقصد بقوله رأيتهم يصلونها: صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وجاء في مصنف ابن أبي شيبة «أنَّ أبا جمرة، نصر بن عمران، قال لابن عباس إنا نطيل القيام بالغزو بخراسان، فكيف ترى؟ فقال: صلِّ ركعتين وإن أقمتَ عشر سنين» .
3) صلاة المريض(2/487)
المرض بلاء من الله سبحانه لعباده يثيب عليه الصابرين وينتقم به من المعاندين، وإنَّ من فضل الله سبحانه على عباده الصابرين أنه يحتسب لهم جميع ما حرمهم المرض من القيام به مما كانوا يعملون في حال الصحة، ومِن ذلك الصلاة على هيئاتها، فمن حرمه المرض من القيام والركوع والسجود والقعود في الصلاة، فصار يصلي مضطجعاً مثلاً أو يصلي إيماءً، فإن له من الثواب ما كان سيحصل عليه لو هو صلى صلاته بهيئاتها المعروفة في حال الصحة، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ما أحدٌ من الناس يُصاب ببلاء في جسده إلا أمر الله عزَّ وجلَّ الملائكة الذين يحفظونه فقال: اكتبوا لعبدي كل يوم وليلة ما كان يعمل من خير ما كان في وَثاقي» رواه أحمد والحاكم. والوَثاق هنا: هو المرض. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا مرض العبد أو سافر كُتب له من الأجر مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً» رواه أحمد والبخاري وأبو داود. وعلى هذا فإن من لا يستطيع أن يصلي قائماً، أو كان ينال من الصلاة قائماً مشقةً صلى قاعداً، فإن تعذَّر عليه السجود على الأرض أو شقَّ عليه جعله أخفض من الركوع دونما حاجة لأن يضع وسادة أو خشبة ليسجد عليها، بل يكفيه في هذه الحالة الإيماءُ وخفضُ السجود، فإن لم يستطيع الجلوس صلى مضطجعاً على جنبه الأيمن ووجهه تِلقاءَ القِبلة، فعن جابر رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد مريضاً، فرآه يصلي على وسادة فرمى بها، فأخذ عوداً يصلي عليه، فرمى به وقال: إن أطقتَ الأرض وإلا فأَومئ إيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك» رواه البزَّار والبيهقي. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من استطاع منكم أن يسجد فلْيسجد ومن لم يستطع فلا يرفع إلى جبهته شيئاً يسجد عليه، ولكن ركوعه وسجوده يومئ إيماءً» رواه الطبراني. وعن عمران بن حصين(2/488)
رضي الله عنه قال «كانت بي بواسير، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فقال: صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جَنْبٍ» رواه البخاري وأبو داود والنَّسائي والترمذي وابن ماجة. وإنما قلنا يصلي على جنبه الأيمن خاصةً، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يحبُّ التيمُّنَ في كل أُموره، فالصلاة على الجنب الأيمن أفضل، وإلا فإن الصلاة على الجنب الأيسر جائزة، وليس في النصوص ما يقيِّد الصلاة بالجنب الأيمن.
أما إن كان إمامُ الجماعة مريضاً واضطر للصلاة جالساً فإن جميع المصلين خلفه يصلون مثله جلوساً ولو كانوا غير مرضى، فهذه حالة خاصة شُرعت فيها صلاة المريض للأصحَّاء، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب فرساً فصُرع عنه، فجُحِش شِقُّه الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد فصلينا وراءه قعوداً، فلما انصرف قال: إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به، فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً ... وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون» رواه البخاري ومالك والنَّسائي وأحمد والبيهقي. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته وهو شاكٍ فصلى جالساً، وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: إنما جُعل الإمام ليُؤتمَّ به، فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجة. وللمزيد يمكنكم مراجعة بحث [الإمام يصلي جالساً] في الفصل الأخير [الإمامة في الصلاة] .(2/489)
نعود لأصل البحث فنقول: لو دخل المريض في صلاته وهو مستطيع قادر فوقف، ثم عجز في أثناء صلاته عن الوقوف ثانية في الركعة التالية، فإن له أن يبني على ما مضى ويجلس في الركعات التالية، وبالعكس لو هو دخل الصلاة وهو غير مستطيعٍ فجلس في أولها، ثم وجد في نفسه هِمَّةً وقوةً وقف في الركعات التالية، وهكذا يفعل ما يستطيع أن يفعله من حركات وأوضاع، وما لا يستطيعه فلا عليه أن لا يأتيه.
وينبغي أن يُعلم أن العذر المبيح لما سبق هو المرض، أو وجود المشقة، أو الخوف من حصول ضرر، أو الخوف من حصول زيادة مرض. وأُلفت النظر إلى أنَّ المرض إن كان خفيفاً كالرشح، أو كان سُعالُ، أو كان صُداعٌ خفيفٌ، أو كان رمدٌ في العين وأمثال ذلك فإن المسلم مأمور بالإتيان بالصلاة على هيئاتها الكاملة لقدرته واستطاعته ذلك. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال « ... وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم» رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة وأحمد. وإنَّ المريض بأمثال هذه الأمراض يستطيع الصلاة بهيئاتها الكاملة بلا شك، فلا تصلح هذه الأمراض لأن تكون أعذاراً.
الجمعُ بين الصلاتين
لا يكون الجمع إلا بين الظهر والعصر، وإلا بين المغرب والعشاء فحسب، فلا يصح الجمع بين الصبح والظهر، ولا بين العصر والمغرب، ولا بين العشاء والصبح، وهذا معلوم من الدين بالضرورة. فعن ابن عباس رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الظهر والعصر إذا كان على ظهر سيرٍ، ويجمع بين المغرب والعشاء» رواه البخاري ومسلم وأحمد. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في السفر» رواه أحمد. والأحاديث في ذلك كثيرة لا حاجة لإيرادها كلها.(2/490)
والجمع بين الصلاتين حالة استثنائية، لأن الأصل في الصلوات أن لكل واحدة منها وقتاً معلوماً لا يصح تجاوزه، وهذه الحالة الاستثنائية شُرعت عند وجود عذر من الأعذار، فإن لم يكن هناك عذر فإن الجمع لا يجوز قطعاً، وقد ذكرنا في فصل [الصلاة حكمها ومواقيتها] مواقيت هذه الصلوات وأنها واجبة الالتزام.
ولقد أخطأ من أباحوا الجمع دون وجود عذر، متذرعين بحديث ابن عباس رضي الله عنه «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً» رواه البخاري ومسلم. ورواه أبو داود بلفظ «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ثمانياً وسبعاً الظهر والعصر، والمغرب والعشاء» . وفي رواية أخرى بلفظ «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر، قال أبو الزبير: فسألت سعيداً: لِمَ فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد أن لا يُحرج أحداً من أمته» رواه مسلم وأبو داود. وفي رواية أخرى عند مسلم بلفظ «جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر، فقيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد أن لا يُحرج أمته» . وفي رواية أخرى من طريق ابن عباس أيضاً بلفظ «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً في غير خوف ولا سفر» رواه مسلم. فاستدل ناسٌ بهذا الحديث بطرقه المتعددة على جواز الجمع مطلقاً، ولم يقيدوه بأي عذر من الأعذار.
والصحيح أن هذا الحديث بطرقه المتعددة لا يدل على ما ذهبوا إليه، وإلا وجب القول بعدم وجوب الالتزام بمواقيت الصلاة، أو وجب القول بأن الالتزام بمواقيت الصلاة مندوب فحسب، وهذا مخالف للحق ومجانب للصواب، والله سبحانه يقول { ... إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِيْنَ كِتَابَاً مَوْقُوْتَاً} الآية 103 من سورة النساء.(2/491)
والصحيح هو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد جمع في المدينة الظهر والعصر، والمغرب والعشاء جمعاً صُورِيَّاً، بمعنى أنه أخَّر صلاة الظهر إلى آخِر وقتها فصلاها، وعجَّل صلاة العصر إلى أول وقتها فصلاها، فظهرت الصلاتان وكأنهما جُمِعتا معاً، ومثل ذلك فعل بصلاتي المغرب والعشاء، والجمع الصُّورِي جائز إطلاقاً دون أعذار طبعاً. ولما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي الصلوات في أوائل أوقاتها، ثم رأَوه يصلي على خلاف عادته سبعاً وثمانياً، وصَفُوا فعله بأنه جمع، وهو جمع فعلاً، ولكنهم ظنوا أنه أخرج صلاة الظهر من وقتها وأدخلها في وقت صلاة العصر، وفعل مثل ذلك بخصوص صلاة المغرب، لأن الجمع هو إخراج إحدى الصلاتين من وقتها وإدخالها في وقت الأخرى، ولم يلتفتوا إلى الجمع الصُورِي، وهو إبقاء كل صلاة في وقتها ولكن بتقريب إحداهما من الأخرى، بأن تُؤدَّى أُولاهما في آخِر وقتها والأخرى في أول وقتها، فيحصل الجمع وهو هنا الجمع الصُّوري، أي أنه يأخذ صورة الجمع. هذا ما ينبغي الذهاب إليه وإلا بطلت المواقيت، أو صارت مندوبة فحسب، وهذا كما قلنا مخالف للحق ومجانب للصواب.(2/492)
وزيادةً في الاطمئنان فإنَّا نورد حديثين اثنين يدلان على هذا، أحدهما ما رُوي عن ابن عباس أنه قال «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً، أخَّر الظهر وعجَّل العصر وأخَّر المغرب وعجَّل العشاء» رواه النَّسائي. والثاني ما رواه جابر بن زيد عن ابن عباس أيضاً قال «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً، قلت: يا أبا الشعثاء أظن أخَّر الظهر وعجَّل العصر وأخَّر المغرب وعجَّل العشاء، قال وأنا أظن ذاك» رواه مسلم وأحمد. فهذا ابن عباس راوي الحديث السابق بطرقه المتعددة يقول «أخَّر الظهر وعجَّل العصر وأخَّر المغرب وعجَّل العشاء» وابن عباس لا يناقض نفسه، وإعمال الدليلين خير من إهمال أحدهما، فبإعمال الدليلين نخرج بالفهم الذي قلنا به، وهو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد جمع الصلاتين هنا جمعاً صُورياً، أي أنه صلى الصلاتين على صورة الجمع، فوجب الذهاب إلى هذا الفهم وترك ما سواه.(2/493)
قلنا في أول هذا البحث إن الجمع بين الصلاتين هو حالة استثنائية وقلنا إن هذه الحالة شُرعت عند وجود عذر من الأعذار، والأعذار المبيحة للجمع هي السفر والمطر والخوف والمرض والهرم وأمثالها مما يشكل عدم الجمع مع وجودها حرجاً ومشقة، والشرع قد رفع الحرج عن المسلمين، فإذا وُجد عذر من هذه الأعذار جاز الجمع بين الصلاتين، أي جاز أن تُجمع صلاة الظهر مع العصر وصلاة المغرب مع العشاء جمع تقديم أو جمع تأخير، فتُصَلَّى الصلاتان في وقت إحداهما، سواء كان الوقت وقت أُولاهما أو كان وقت أُخراهما، فكلا الأمرين جائز، فعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الظهر والعصر في سفره إلى تبوك» رواه مالك. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عجل به السير يجمع بين المغرب والعشاء» رواه مالك ومسلم والبخاري. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلاتين في السفر» رواه البزَّار وأبو يعلى والطبراني. وروى البزَّار مثله من طريق أبي سعيد رضي الله عنه، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال «جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، قال فقلت: ما حمله على ذلك؟ قال فقال: أراد أن لا يُحرج أمته» رواه مسلم وأحمد. وقد مرَّ حديث ابن عباس رضي الله عنه بطرقه المتعددة وفيه «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر» . «جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر» . يريد ابن عباس من ذلك أن يبين أن الخوف والمطر والسفر أعذار للجمع، وقد نفى وجودها آنذاك عند جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، فلولا أن هذه أعذار لما ذكرها في هذا الحديث، ثم إن هذه الأعذار تدخل تحت(2/494)
الحرج والمشقة، والحديث يقول «أراد أن لا يُحرج أحداً من أمته» . ويدخل الهرم في هذا الباب أيضاً، كما يدخل فيه كل ما يسبِّب حرجاً للمصلي إنْ هو صلى بدون جمع: كالريح الباردة الشديدة والوحل والزَّلَق في طريق المسجد وأمثالها، وكذلك رُوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الأولى والعصر، وبين المغرب والعشاء، فقيل له في ذلك فقال: صنعتُ هذا لكي لا تُحرَج أمتي» رواه الطبراني. فالقاعدة في الجمع هي أنه جائز إن وجد عند المصلي عذر يسبب حرجاً له إن هو لم يجمع بين الصلاتين، وهذه قاعدة واسعة بلا شك. وكما تنعقد الصلاة في المسجد فإنها تنعقد في البيت وفي المزرعة وفي المصنع وغيرها، وكما تنعقد الصلاة في جماعة فإنها تنعقد من المنفرد، وهنا نقول ما يلي:
إن الجمع بين الصلاتين يجوز حيث تنعقد الصلاة، فيُجمع في المسجد كما يُجمع في البيت وفي المزرعة وفي المصنع وغيرها، ويُجمع من قِبَل الجماعة كما يجمع من قِبَل المنفرد سواء بسواء دون ملاحظة أي فارق بينها ما دام العذر موجوداً، وهذا العذر إن وُجِدَ جاز الجمع بسببه دون اشتراط وجود المشقة لدى المصلّي، ففي وجود العذر يستوي وجود المشقة وعدم وجودها، كالسفر مثلاً فإنه يبيح الجمع سواء نالت المسافرَ مشقةٌ في سفره أو لم تنله، والمطر مثلاً فإنه يبيح الجمع للمصلّين جماعةً ومنفردين سواء نالتهم مشقةٌ منه أو لم تنلهم، لأن العذر العام أو الحاجة العامة إذا وُجِدَتْ أثبتت الحكم في حقِّ الجميع سواء من نالته مشقّةٌ منه ومن لم تنله، والدليل على عدم وجوب وجود المشقّة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع في المطر في مسجده ولم يكن بين بيته وبين المسجد شئ.(2/495)
ثم إنه يُسن للحاجِّ أن يجمع بين الظهر والعصر جمعَ تقديم في عرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة، وبين المغرب والعشاء جمعَ تأخير في المزدلفة، يستوي في ذلك الحاجُّ من أهل مكة والحاجُّ المسافر إليها. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قد جمع بين الظهر والعصر في عرفة، وبين المغرب والعشاء في المزدلفة وهو إمامٌ لجميع الحجاج من أهل مكة ومن غيرها، فلم يستثن أهل مكة من الجمع، ما يدل على جواز الجمع للجميع، للمسافرين ولغير المسافرين في موسم الحج في عرفة وفي المزدلفة، فعن جعفر بن محمد قال «دخلنا على جابر بن عبد الله ... فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ... إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذَّن في الناس في العاشرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجٌّ ... فأجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضُربت له بنَمِرَة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرُحِلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس ... ثم أذَّن ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصلِّ بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى الموقف ... » من حديث طويل رواه مسلم. ورواه أحمد والنَّسائي. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهى إلى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واقامتين ولم يصلِّ بينهما شيئاً» رواه النَّسائي. وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال «دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة، حتى إذا كان بالشِّعْب نزل فبال، ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء فقلت له: الصلاة، فقال: الصلاة أمامك، فركب، فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أُقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أُقيمت الصلاة فصلاها ولم يصلِّ بينهما شيئاً» رواه أحمد والبخاري ومسلم. قوله في(2/496)
الحديث الأول قد ضُرِبت له بنَمِرة: أي قد ضربت له الخيمة في مكان بجنب عرفات يسمى نَمِرة. وقوله في الحديث الأول بالقصواء: يعني بها ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله في الحديث الثالث فقلت له الصلاة فقال الصلاة أمامك: يعني أن أسامة بن زيد ذكَّر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحلول موعد صلاة المغرب، فأعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة قادمة، ولم يصلها في وقتها لأنه أراد تأخيرها ليصليها في وقت صلاة العشاء جمعاً.
كيفية الجمع بين الصلاتين
لا يحتاج جمع الصلاتين إلى نية مسبقة، فيصحُّ للمسلم وقد صلى الظهر دون نيَّةِ جمعِها مع العصر أن يقوم ويصلي العصر، جامعاً إياها مع الظهر، سواء كان ذلك على الفور أو على التراخي، وسواء فعل بينهما أفعالاً أو لم يفعل شيئاً، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال «دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة، فنزل الشعب فبال ثم توضأ ولم يُسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة، فقال: الصلاة أمامك، فجاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ، ثم أُقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كلُّ إنسان بعيره في منزله، ثم أُقيمت الصلاة فصلى ولم يصلِّ بينهما» رواه البخاري ومالك والنسائي. يدل هذا الحديث على أن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم أجمعين قد صلوا المغرب، ثم انطلقوا إلى رحالهم يتدبرون شؤونهم، فأناخوا جِمالهم في منازلهم، وإذا بهم يسمعون الإقامة لصلاة العشاء فانطلقوا يصلونها جماعةً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا الحديث يدل على عدم وجود نية الجمع عند الصحابة رضوان الله عليهم، وإلا لما انطلقوا إلى جِمالهم وبيوتهم، ثم إن هذا الحديث يدلُّ أيضاً على جواز الجمع بين الصلاتين على التراخي، كما يدل على جواز القيام بأفعالٍ عدة بين الصلاتين.(2/497)
ويُشرع للجمع بين الصلاتين أذانٌ واحدٌ وإقامتان اثنتان، وإن أذَّن مرتين فلا بأس، ولا أرى ما يراه بعضهم من الإقامة مرة واحدة للصلاتين. أما دليل الأول فما جاء في الحديث المار قبل قليل في البحث السابق «ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر» . وما جاء في الحديث المار قبل قليل أيضاً في البحث السابق «فصلى بها المغرب والعشاء بأذان وإقامتين» . وأما الدليل على الأذانين فما رُوي عن عبد الرحمن بن زيد قال «حجَّ عبد الله رضي الله عنه، فأتينا المزدلفة حين الأذان بالعَتَمَة أو قريباً من ذلك، فأمر رجلاً فأذن وأقام، ثم صلى المغرب وصلى بعدها ركعتين، ثم دعا بعشائه فتعشى، ثم أمر أُرى رجلاً فأذن وأقام، قال عمرو: لا أعلم الشك إلا من زهير، ثم صلى العشاء ركعتين، فلما طلع الفجر قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم، قال عبد الله: هما صلاتان تُحَوَّلان عن وقتهما: صلاة المغرب بعدما يأتي الناس المزدلفة، والفجر حين يبزغ الفجر، قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله» رواه البخاري وأحمد والنَّسائي وابن خُزَيمة. والفعل وإن كان من صحابي هو عبد الله بن مسعود إلا أن الصحابة الذين معه قد وافقوه على ما فعل، وهذا إجماع منهم على جواز الأذانين، هذا إضافةً إلى أنَّ عبد الله بن مسعود قال إنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله.(2/498)
أما دليلهم على جواز الإقامة الواحدة للصلاتين فما رواه ابن عمر رضي الله عنه «أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجَمْعٍ بإقامةٍ واحدة» رواه النَّسائي والبخاري وأبو داود ومسلم. ورواه أحمد ولفظه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين المغرب والعشاء بجَمْعٍ، صلى المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين بإقامةٍ واحدة» . قوله بجَمْعٍ: أي بالمزدلفة، وجَمْع اسم من أسمائها. فهذا الحديث وإن كان صحيحاً، إلا أنه يعارض أحاديث أخرى صحيحة أكثر منه تدل على الإقامتين في المزدلفة، وحيث أن الحادثة واحدة، فلا بد من ترجيح إحداهما، وأنا أُرجح الأحاديث التي تقول بالإقامتين، ثم إن ابن عمر نفسه قد رُوي عنه قوله «جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء بجَمْعٍ كل واحدة منهما بإقامة ولم يُسبِّح بينهما، ولا على إثر كل واحدة منهما» رواه البخاري والنَّسائي. فهذه الرواية تخالف الرواية الأولى وتدل على مشروعية الإقامتين.
وإذا أتم المصلي الصلاتين في وقت الأولى منهما ثم زال العذر، كأن صلى لمطرٍ ثم انقشعت السحب وصحا الجو، فصلاته صحيحة، وجمعُه صحيح ولا إعادة عليه، إذ ما دامت صلاته قد تمَّت والعذر موجود فالصلاة صحيحة مقبولة، ولا يضيرها أن يزول العذر بعد ذلك.(2/499)
والسُّنَّة في الجمع لعذر السفر أن المسافر إن حان عليه وقت الظهر قبل أن يستأنف المسير أن يجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم، وقل مثل ذلك بالنسبة للمغرب والعشاء، أما إن هو استأنف المسير فحان وقت صلاة الظهر فالسُّنة أن يستمر في المسير إلى أن يحين وقت العصر فينزل، ويصلي الصلاتين جمع تأخير، وقل مثل ذلك بالنسبة للمغرب والعشاء، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كان في سفر، فزاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر جميعاً، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس جمع بينهما في أول وقت العصر، وكان يفعل ذلك في المغرب والعشاء» رواه الطبراني. ورواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حِبَّان والبيهقي من طريق معاذ بن جبل. وعن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «إذا عجل عليه السفر يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخِّر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق» رواه مسلم.(2/500)
والمسافر يَقْصُر الصلاة ويجمع بين الصلاتين ما دام ينطبق عليه وصف المسافر، سواء نزل في مكان وأقام فيه فترة، أو كان على ظهر دابته أو في سيارته أو في قطاره، وسواء كانت إقامته في طريق سفره طويلة أو قصيرة، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد سافر إلى تبوك وأقام فيها عشرين يوماً يقصر الصلاة، ذكر ذلك أبو داود من قول جابر. وسافر عليه الصلاة والسلام إلى مكة، وأقام فيها تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة، ذكر ذلك البخاري والترمذي من قول ابن عباس. وطبعاً كان إذا قصر جمع، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه «أنهم خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام تبوك، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قال: فأخَّر الصلاة يوماً ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً ... » رواه مالك والبيهقي وأبو داود والنَّسائي وابن خُزَيمة. ووجه الاستدلال بهذا الحديث أنه كان عليه الصلاة والسلام مقيماً نازلاً في تبوك، ولم يكن على ظهر دابته، بل كان في خبائه يدخل فيه ويخرج منه ومع ذلك جمع بين الصلاتين.
الفصل الحادي عشر
صلاة التطوُّع أو صلاة النّفْل
فضل صلاة التطوع وأصنافها(3/1)
مرَّ معنا في بحث [فضل الصلاة] فصل [الصلاة حكمها ومواقيتها] أن الصلاة هي أول ما يُحاسَب به الناس يوم القيامة، وأعني بها صلاة الفريضة، فهذه الصلاة المفروضة إن صلحت وكملت فقد رجا صاحبها الفلاح، وإن هي فسدت بتركٍ أو إخلالٍ بأركانها وشروط صحتها فقد خسر صاحبها وخاب، أما إن نقصت هذه الصلاة فلم يكن صاحبها قد أداها كلها، أو أداها على تقصير منه في واجباتها فإن الله سبحانه يُتِمُّ له نقصَ صلاته من صلاة تطوُّعِه. فصلاة التطوع تَجْبُر النقص الحاصل في صلاة الفريضة يوم القيامة، وهذا فضل لا شك فيه لصلاة التطوع، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «إن أول ما يُحاسب به العبد المسلم يوم القيامة الصلاة المكتوبة، فإن أتمَّها وإلا قيل انظروا هل له من تطوع، فإن كان له تطوع أُكملت الفريضة من تطوعه، ثم يُفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك» رواه ابن ماجة وأبو داود والترمذي وأحمد والنَّسائي. وروى تميم الداري هذا الحديث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن أول ما يُحاسب به العبدُ الصلاةُ، فإن وجد صلاته كاملة كتبت له كاملة، وإن كان فيها نقصان قال الله تعالى للملائكة: انظروا هل لعبدي من تطوع فأكملوا له ما نقص من فريضته، ثم الزكاة، ثم الأعمال» رواه الدارمي وأبو داود وابن ماجة. وإنَّ من فضل صلاة التطوع ما جاء فيما روته أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول «ما من عبدٍ مسلم يصلي لله عزَّ وجلَّ كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلا بُني له بيتٌ في الجنة، أو بنى الله عزَّ وجلَّ له بيتاً في الجنة» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسائي. وكما تُسمى هذه الصلاة صلاة التطوع فإنها تسمى أيضاً صلاة السُّنة، وصلاة النافلة، وهذه الأسماء الثلاثة هي لمسمَّىً واحد.(3/2)
وصلاة التطوع منها ما له وقت معين مخصوص كصلاة السنن الراتبة وصلاة الضحى وصلاة الوتر، ومنها ما ليس له وقت معين مخصوص كصلاة التسابيح وصلاة الاستخارة، كما أن هذه الصلاة منها ما له سببٌ كتحية المسجد وسجود التلاوة وصلاة الكسوف، ومنها ما ليس له سببٌ كقيام الليل وصلاة التسابيح. ونتناول جميع أصناف صلاة التطوع بشئ من التفصيل:
أ. السُّنَنُ الراتبة المؤكدة
ونعني بها الركعات التي واظب عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع صلواته المفروضة قبلها وبعدها، فلم يتركها مطلقاً في حالة الحضر. وهذه الركعات هي: ركعتان قبل صلاة الصبح، وركعتان قبل صلاة الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد صلاة المغرب، وركعتان بعد صلاة العشاء، فهي عشر ركعات في اليوم والليلة، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال «كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي لا يدع ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الصبح» رواه أحمد. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال «حفظتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات كان يصليها بالليل والنهار: ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء الآخرة، قال: وحدَّثتني حفصة أنه كان يصلي قبل الفجر ركعتين» رواه الترمذي. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدتين قبل الظهر وسجدتين بعد الظهر، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء، وسجدتين بعد الجمعة، فأما المغرب والعشاء ففي بيته» رواه البخاري وابن حِبَّان. ورواه مسلم ولفظه « ... فأما المغرب والعشاء والجمعة فصليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته» . ورواه أحمد ولفظه «.. فأما الجمعة والمغرب في بيته، قال: وأخبرتني أختي حفصة أنه كان يصلي سجدتين خفيفتين إذا طلع الفجر، قال: وكانت ساعة لا أدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها» . وعن عبد الله بن(3/3)
شقيق قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت «كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ثنتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الفجر ثنتين» رواه الترمذي. فهذه عشر رَكَعات، وهي السنن الراتبة المؤكدة التي لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي أقل منها. وقد سُمِّيت راتبة ومؤكَّدة لاختصاصها دون غيرها بالثبوت والدوام دون تفريط.
أما سُنَّة الصبح فالسُّنة فيها أن تُؤدَّى خفيفة دون إكثارٍ من القراءة، بل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكاد يقتصر في القراءة فيها على فاتحة الكتاب، فعن حفصة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اعتكف المؤذن للصبح وبدا الصبح صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة» رواه البخاري. ورواه مسلم ولفظه «كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح وبدا الصبح ... » . ورواه أحمد أيضاً. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين خفيفتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح» رواه البخاري ومسلم. وعنها رضي الله عنه قالت «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني لأقول: هل قرأ بأم الكتاب؟» رواه البخاري وابن خُزَيمة. ورواه مسلم وابن حِبَّان مرة «بأم القرآن» ومرة أخرى «بفاتحة الكتاب» . ورواه أحمد «بفاتحة الكتاب» . ورواه أبو داود ومالك «بأم القرآن» . والمعنى واحد.(3/4)
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طلع الفجر يحرص على هاتين الركعتين، ويقتصر عليهما فلا يصلي غيرهما، فعن عائشة رضي الله عنها قالت «لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شئ من النوافل أشدَّ منه تعاهداً على ركعتي الفجر» رواه البخاري وأبو داود. ورواه مسلم وابن خُزَيمة وابن حِبَّان بلفظ «على ركعتين قبل الصبح» . وعن حفصة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين» رواه مسلم والنَّسائي.
ولشدة حرصه عليه الصلاة والسلام على هاتين الركعتين فقد كان يبادر إلى أدائهما فور فراغ المؤذن من الأذان دون تأخير، فعن ابن عمر رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الركعتين قبل صلاة الفجر كأن الأذان في أُذنيه» رواه أحمد وابن ماجة وابن خُزَيمة. وكان عليه الصلاة والسلام يحث كثيراً على هاتين الركعتين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تَدَعُوا ركعتي الفجر وإن طردتكم الخيل» رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والطحاوي.(3/5)
وكان عليه الصلاة والسلام إذا صلى هاتين الركعتين اضطجع على جنبه الأيمن، وكان يأمر المسلمين بذلك، فكان الاضطجاع على الجنب الأيمن عقب أدائهما سنة مستحبة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع ركعتي الفجر اضطجع على شِقِّه الأيمن» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنَّسائي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا صلى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح فلْيضطجع على جنبه الأيمن» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وابن خُزَيمة. ومما يدل على أن أمره عليه الصلاة والسلام هو للندب وليس للوجوب ما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتي الفجر فإنْ كنت نائمة اضطجع، وإن كنت مستيقظة حدثني» رواه أبو داود والبخاري وابن خُزَيمة.
فالمسنون بخصوص هاتين الركعتين - ركعتي الفجر - هو تخفيفهما والتعجيل بأدائهما عقب الأذان مباشرة، والحرص عليهما وعدم التفريط فيهما بأي حال، والاقتصار عليهما فلا يزاد عليهما، والاضطجاع بعدهما على الجنب الأيمن في البيوت، لأن الأصل في هذه السنة وغيرها من السنن أن تُؤدَّى في البيوت، فكذلك الاضطجاع.
أما فضل هاتين الركعتين فقد ورد فيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها» رواه مسلم والترمذي والنَّسائي وابن حِبَّان والحاكم. كما ورد فيه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في شأن الركعتين عند طلوع الفجر «لَهُما أحبُّ إليَّ من الدنيا جميعاً» رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن خُزَيمة.(3/6)
وأما سُنَّة الظهر الراتبة فهي ركعتان تُؤدَّيان قبل الظهر وأُخريان بعده - وقد سلف القول في هذا - ونضيف إلى ما سبق ما رواه الترمذي من طريق ابن عمر رضي الله عنه أنه قال «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها» .
وأما العصر فليست لها سنة راتبة مؤكدة لا قبلها ولا بعدها لما مرَّ من أحاديث في أول البحث، ونضيف إلى ما سبق ما رُوي عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على إثر كل صلاة مكتوبة ركعتين إلا الفجر والعصر» رواه ابن خُزَيمة والبيهقي وأبو داود. وما رواه عمر رضي الله عنه أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس» رواه أبو داود وأحمد. ورواه البخاري ومسلم من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وما رُوي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «صلاتان لا يُصلَّى بعدهما: الصبح حتى تطلع الشمس، والعصر حتى تغرب الشمس» رواه أحمد وابن حِبَّان. فهذه الأحاديث أدلة على عدم وجود سُنَّة بعدية للعصر.
أما ما ورد من أحاديث يُشتَبه في أنها تدل على وجود سُنَّة بعدية لصلاة العصر مثل:
أ- عن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه «أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي ركعتين بعد العصر» رواه أحمد والطبراني.
ب- عن عائشة رضي الله عنها قالت «صلاتان لم يتركهما النبي - صلى الله عليه وسلم - سراً ولا علانية: ركعتين بعد العصر، وركعتين قبل الفجر» رواه أحمد والبخاري ومسلم والطحاوي.
ج- عن شُريحٍ قال «سألت عائشة عن الصلاة بعد العصر، فقالت: صلِّ، إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومَك أهلَ اليمن عن الصلاة إذا طلعت الشمس» رواه أحمد والطحاوي.(3/7)
فإن هذه الأحاديث تُحمل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صلى الركعتين بعد العصر قضاءً لراتبتي الظهر البعديتين عندما شُغِل عنهما مرة فلم يصلهما، فصلاهما عقب صلاة العصر ثم استمر يصليهما عقب صلاة العصر، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى صلاة داوم عليها، وهذا من خصوصياته لا يُقتدى به فيه. وقد رأى عدد من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك، فظنوا أنه من المباحات أو المسنونات اقتداء به، فنقلوا ما شاهدوه وأفتَوا بمشروعيته، ونبسط الحديث في هذا الموضوع كما يلي:
أ- إن عائشة رضي الله عنها كانت ترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين عقب العصر، ولما لم تكن تعلم سببهما فقد ظنتهما سُنَّةً لعموم المسلمين، فكانت تفتي بذلك. أما سبب الركعتين هاتين فقد عَلِمَتْه أم سلمة رضي الله عنها، وهو ما سبق وقلناه من أنه عليه الصلاة والسلام كان قد شُغل عن ركعتي الظهر البعديتين فقضاهما عقب صلاة العصر ثم داوم على أدائهما، وهذا ينفي عنهما أنهما سُنَّة لعموم المسلمين.
ب - لقد نُقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طرق صحيحة أنه كان ينهى عن الصلاة بعد العصر، فلما ثبت لنا ذلك ثم رأيناه عليه الصلاة والسلام يُصلي بعد العصر أدركنا أن ذلك من خصوصياته، وأن هذا المعنى منقول عنه أيضاً.(3/8)
ج- إن الأحاديث التي تبدو متعارضة في هذا الموضوع ليس فيها ناسخ ومنسوخ كما يدَّعي عدد من الفقهاء، إذ ليس صحيحاً الادِّعاءُ بأن الأحاديث الدالة على الصلاة قد نسخت الأحاديث الناهية عنها أو حتى خصَّصتها، فالنسخ لا يكون بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قطعاً، وقد نُقل عن الصحابة امتثالهم للنهي، مما ينفي دعوى النسخ. لهذه الأمور الثلاثة فإن الرأي الراجح هو أنه لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس كما صرحت بذلك الأحاديث، وأن الفترة بين صلاة العصر وبين غروب الشمس هي واحدة من الفترات المنهي عن الصلاة فيها، وأن هذا الحكم مُحْكَم غير منسوخ. ونستدلُّ على ما نقول بجملة من الأحاديث:
1 - عن ربيعة بن درَّاج «أن علي بن أبي طالب سبَّح بعد العصر ركعتين في طريق مكة، فرآه عمر فتغيَّظ عليه ثم قال: أَمَا والله لقد علمتَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنهما» رواه أحمد والطحاوي. فهذا الحديث يدل صراحة على ثبات حكم النهي عن الصلاة بعد العصر وعدم نسخه.(3/9)
2- عن كُرَيب «أن ابن عباس والمِسْوَر بن مَخْرَمة وعبد الرحمن بن أزهر رضي الله عنهم أرسلوه إلى عائشة رضي الله عنها، فقالوا: اقرأ عليها السلام منا جميعاً، وسَلْها عن الركعتين بعد صلاة العصر وقل لها: إنَّا أُخبرنا أنكِ تُصلِّينهما، وقد بلَغَنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنهما، وقال ابن عباس: وكنت أضرب الناس مع عمر بن الخطاب عنهما، فقال كُريب: فدخلت على عائشة رضي الله عنها فبلَّغتها ما أرسلوني فقالت: سَلْ أمَّ سلمة، فخرجت إليهم فأخبرتهم بقولها، فردُّوني إلى أم سلمة بمثل ما أرسلوني به إلى عائشة، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنهما، ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر، ثم دخل وعندي نسوةٌ من بني حَرَام من الأنصار، فأرسلتُ إليه الجارية فقلت: قومي بجنبه فقولي له: تقول لك أم سلمة: يا رسول الله سمعتك تنهى عن هاتين وأراك تصليهما، فإن أشار بيده فاستأخري عنه، ففعلت الجارية فأشار بيده فاستأخرت عنه، فلما انصرف قال: يا بنت أبي أُمية سألتِ عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناسٌ من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان» رواه البخاري ومسلم والدارمي وأبو داود.
3 - عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت «لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بعد العصر قط إلا مرة واحدة، جاءه ناسٌ بعد الظهر فشغلوه في شئ فلم يصلِّ بعد الظهر شيئاً حتى صلى العصر، قالت: فلما صلى العصر دخل بيتي فصلى ركعتين» رواه أحمد والنَّسائي والبيهقي.
4- عن عبد الله بن أبي قيس قال «سألت عائشة عن الركعتين بعد العصر فقالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين بعد الظهر، فشُغل عنهما حتى صلى العصر، فلما فرغ ركعهما في بيتي فما تركهما حتى مات، قال عبد الله بن أبي قيس: فسألت أبا هريرة عنه، قال: قد كنا نفعله ثم تركناه» رواه أحمد والنَّسائي.(3/10)
5- عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال «أجمع أبي على العمرة، فلما حضر خروجُه قال: أيْ بُني لو دخلنا على الأمير فودَّعناه، قلتُ: ما شئتَ، قال: فدخلنا على مروان وعنده نفرٌ فيهم عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فذكروا الركعتين التي يصليهما ابن الزبير بعد العصر، فقال له مروان: ممن أخذتَهما يا ابن الزبير؟ قال أخبرني بهما أبو هريرة عن عائشة، فأرسل مروان إلى عائشة: ما ركعتان يذكرهما ابن الزبير أن أبا هريرة أخبره عنكِ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصليهما بعد العصر؟ فأرسلت إليه: أخبرتني أم سلمة، فأرسل إلى أم سلمة: ما ركعتان زعمت عائشة أنكِ أخبرتِها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصليهما بعد العصر؟ فقالت: يغفر الله لعائشة، لقد وضعَتْ أمري على غير موضعه، صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر وقد أُتي بمالٍ، فقعد يقسمه حتى أتاه المؤذِّن بالعصر فصلى العصر ثم انصرف إليَّ وكان يومي، فركع ركعتين خفيفتين فقلنا: ما هاتان الركعتان يا رسول الله، أمرتَ بهما؟ قال: لا، ولكنهما ركعتان كنت أركعهما بعد الظهر، فشغلني قَسْمُ هذا المال حتى جاءني المؤذن بالعصر فكرهت أن أدعهما، فقال ابن الزبير: الله أكبر أليس قد صلاهما مرة واحدة؟ والله لا أدعهما أبداً، وقالت أم سلمة: ما رأيته صلاهما قبلها ولا بعدها» رواه أحمد. وغفر الله لابن الزبير فقد اجتهد فأخطأ بالاستمرار بأداء هاتين الركعتين بعد أن بان له أنهما صُلِّيتا قضاءً.
6 - عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد العصر وينهى عنها، ويواصل وينهى عن الوصال» رواه أبو داود. والوصال: هو مواصلة الصيام يوماً وليلة دون إفطار.(3/11)
7- عن أبي سلمة «أنه سأل عائشة عن السجدتين اللتين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما بعد العصر فقالت: كان يصليهما قبل العصر، ثم إنَّه شُغل عنهما أو نسيهما، فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها» رواه مسلم والنَّسائي. قوله أثبتهما: أي داوم عليهما.
8- عن عمرو بن عَبْسةَ السُّمَلي قال « ... فقلت: يا نبي الله أخبرني عما علَّمك الله وأجهلُ، أخبرني عن الصلاة، قال: صلِّ صلاة الصبح ثم أَقْصِرْ عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صلِّ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقلَّ الظل بالرمح، ثم أَقْصِر عن الصلاة فإنَّ حينئذ تُسْجَرُ جهنم، فإذا أقبل الفئ فصلِّ، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أَقْصِر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ... » رواه مسلم وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة وأحمد. قوله حتى يستقلَّ الظل بالرمح: أي حتى يكون الظل مقابل الرمح دون أن يميل عنه إلى المغرب أو إلى المشرق، ويكون ذلك عند منتصف النهار.
9 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «سمعت غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم عمر بن الخطاب، وكان أحبَّهم إلىَّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس» رواه مسلم والبخاري وابن خُزَيمة.
10 - عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس» رواه مسلم.
11- عن معاوية بن أبي سفيان قال «إنكم لَتُصلُّون صلاة، لقد صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما رأيناه يصليهما، ولقد نهى عنهما، يعني الركعتين بعد العصر» رواه البخاري.(3/12)
إن القول بالسُّنَّة البعدية لصلاة العصر لم يقل به سوى عائشة وابن الزبير فيما رُوي عنهما من آثار، وقد رأيتم كيف حصل ذلك منهما، ولم يفعلها سوى عليٍّ رضي الله عنه، وقد رأيتم كيف أن عمر رضي الله عنه قد أنكرها عليه، وذكَّره بالنهي عنها.
وأما سُنة المغرب فهي ركعتان راتبتان مؤكدتان تُؤدَّيان عقب صلاة الفريضة كما أسلفنا، ونضيف إلى ما سبق ما رواه أحمد والترمذي من طريق ابن عمر رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين بعد المغرب في بيته» وما رواه ابن ماجة من طريق عائشة رضي الله عنها قالت «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي المغرب، ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين» .
وأما سُنة العشاء فهي ركعتان راتبتان مؤكدتان تُؤدَّيان عقب صلاة الفريضة كما أسلفنا، ونضيف إلى ما سبق ما رواه أحمد والبخاري ومسلم من طريق ابن عمر رضي الله عنهما «أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد العشاء في بيته» . وما رواه أحمد ومسلم والبيهقي من طريق عائشة رضي الله عنها قالت « ... وكان يصلي بهم العشاء، ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين ... » طَرَفٌ من حديث طويل.
ب. السُّنن الملحقة بالسنن الراتبة المؤكَّدة(3/13)
وهي السنن التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم بها أحياناً ويتركها أحياناً أخرى، وهذه السنن هي: ركعتان أُخريان قبل الظهر، فيصلي أربعاً قبل الظهر، وركعتان أُخريان بعد الظهر، فيصلي أربعاً بعد الظهر، وركعتان قبل العصر أو أربع ركعات، وركعتان أُخريان أو أربعٌ بعد العشاء، فيصلي أربعاً أو ستَّاً بعد العشاء. وهؤلاء أربع عشرة ركعة في اليوم والليلة. وفي كلٍّ وردت نصوص، فعن قابوس عن أبيه قال «أرسل أبي امرأةً إلى عائشة يسألها أي الصلاة كانت أحبَّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يواظب عليها؟ قالت: كان يصلي قبل الظهر أربعاً يطيل فيهن القيام ويحسن فيهن الركوع والسجود، فأما ما لم يكن يدع صحيحاً ولا مريضاً ولا غائباً ولا شاهداً فركعتين قبل الفجر» رواه أحمد والبخاري والنَّسائي وأبو داود والبيهقي. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يدعُ أربعاً قبل الظهر، وركعتين قبل الفجر على حال» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والبخاري ومسلم. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها ركعتين» رواه الترمذي وابن ماجة. وهو جزء من حديث طويل، وعن عبد الله بن شقيق قال «سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التطوُّع فقالت: كان يصلي قبل الظهر أربعاً في بيتي، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين، ثم يصلي بهم العشاء، ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر، وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين، ثم يخرج فيصلي بالناس صلاة الفجر» رواه ابن خُزَيمة وأحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي.(3/14)
وقد بلغ من شدة حرصه عليه الصلاة والسلام على هاتين الركعتين الأُخريين قبل صلاة الظهر أنه قلَّما تركهما، حتى إنَّ ابن أبي شيبة روى عن إبراهيم - النخعي - قال «كانوا يَعُدُّون من السُّنَّة أربعاً قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر، قال إبراهيم: وكانوا يستحبون ركعتين قبل العصر إلا أنهم لم يكونوا يَعُدُّونها من السُّنَّة» . فقد ألحق الركعتين هاتين بالسنن الراتبة المؤكدة، لأن هذا هو ما كان يعنيه بقوله (يعُدُّون من السُّنَّة) .
وكما قلنا إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان شديد الحرص من السنن الراتبة المؤكدة على ركعتي الفجر، فإنا نقول كذلك إنه عليه الصلاة والسلام كان شديد الحرص من السنن الملحقة على ركعتي الظهر هاتين، ولولا أنه ثبت بالنصوص التي أوردناها سابقاً أنه عليه الصلاة والسلام حصل منه أنْ صلى قبل الظهر ركعتين اثنتين فقط لأدخلنا هاتين الركعتين في السنن الراتبة المؤكدة.(3/15)
وقد ذكرت النصوص أن لهاتين الركعتين فضلاً عظيماً لا ينازعهما فيه أية سُنة أخرى من السنن الملحقة، فعن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من صلى في يومٍ وليلةٍ ثِنتي عشرةَ ركعةً بُنِي له بيتٌ في الجنة: أربعاً قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر صلاة الغداة» رواه الترمذي. وروى ابن حِبَّان وابن خُزيمة والحاكم عنها رضي الله عنها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من صلى ثِنتي عشرةَ ركعةً في اليوم بنى الله له بيتاً في الجنة: أربع ركعات قبل الظهر وركعتين بعد الظهر، وركعتين قبل العصر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين قبل الصبح» . ورواه النَّسائي وقيَّده بقوله «سوى المكتوبة» . وجاء هذا القيد صريحاً فيما رواه مسلم وأحمد وأبو داود وابن خُزَيمة وابن حِبَّان بلفظ «ما من عبدٍ مسلم يصلي لله كل يوم ثِنتي عشرةَ ركعةً تطوعاً غير فريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة، أو إلا بُنِي له بيتٌ في الجنة» . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من ثابر على ثِنتي عشرةَ ركعةً من السُّنة بُني له بيت في الجنة: أربعٍ قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر» رواه ابن ماجة والنَّسائي وابن أبي شيبة. فإذا علمنا أن السنن الراتبة عشرٌ، وأن بناء بيت في الجنة يكون بالمثابرة على اثنتي عشرة ركعة من السنن، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أكمل السنن الراتبة العشر بركعتي الظهر هاتين دون سواهما من السُّنن الملحقة، أدركنا ما لهاتين الركعتين من فضل.(3/16)
وأما الركعتان الأُخريان بعد الظهر فقد ورد فيهما قول أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن حبيبها أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - أخبرها قال: ما من عبدٍ مؤمنٍ يصلي أربع ركعات بعد الظهر فتمسَّ وجهَه النارُ أبداً إن شاء الله عزَّ وجلَّ» رواه النَّسائي. وورد فيهما وفي الركعتين الأُخريين قبل الظهر قول أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من صلى أربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها حرَّم الله لحمه على النار» رواه أحمد وابن ماجة والنَّسائي وابن أبي شيبة. وجاء في رواية عند أبي داود والترمذي وابن خُزَيمة من طريق أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - لفظ «من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربعٍ بعدها حُرِّم على النار» . وحتى يُفهم النَّصَّان جيداً أقول: إن السُّنة الراتبة للظهر هي ركعتان اثنتان قبلها، وركعتان أُخريان بعدها، فعندما تقول الأحاديث: أربعاً قبل الظهر، فإن معنى ذلك أن ركعتين أُخريين قد جُمِعتا مع الراتبتين فصار العدد أربعاً، وقل مثل ذلك بخصوص السُنَّة البعدية للظهر، فعندما تذكر الأحاديث فضل الركعات الأربع فإن معنى ذلك أن الفضل يشمل الركعتين الأُخريين، بل إن الفضل ما كان ليكون لولاهما.
أما هؤلاء الركعات الأربع القبلية منها والبعدية، فإنها تُصلى مَثنى مَثنى، أي ركعتين ركعتين، فقد روى ابن عمر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «صلاة الليل والنهار مَثنى مَثنى» رواه ابن خُزَيمة وأبو داود والدارمي وابن حِبَّان. وأشار إليه البخاري في صحيحه. وسيأتي بعد قليل حديث يفيد أن الركعات الأربع التي تُصلَّى قبل العصر يفصل بينهن تسليم، فهؤلاء كأولئك.(3/17)
وأما سُنَّة العصر الملحقة بالرواتب المؤكدة فهي ركعتان أو أربع، فمن شاء صلى ركعتين، ومن شاء صلى أربعاً، وتُؤدَّى هذه السُّنة قبل صلاة العصر وليس بعدها، فعن عبد الله بن شقيق قال «سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: كان يصلي أربعاً قبل الظهر وثنتين بعدها، وثنتين قبل العصر، وثنتين بعد المغرب، وثنتين بعد العشاء، ثم يصلي من الليل تسعاً ... » رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والبيهقي. وعن علي رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل العصر ركعتين» رواه أبوداود. وروى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن خُزَيمة وابن حِبَّان. وعن علي رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل العصر أربعاً، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم ... » رواه أحمد. وهو من حديث طويل. ورواه النَّسائي وابن ماجة. ورواه الترمذي ولفظه «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقرَّبين، ومَن تبعهم من المسلمين والمؤمنين» .
وقد أشكل هذا الحديث الذي يذكر التسليم على العديد من الفقهاء، فقال ناسٌ منهم إن التسليم المذكور في الحديث يعني التسليم الوارد في التَّشهُّد ولا يعني تسليم التَّحلُّل من الصلاة. وقال الآخرون بل هو التسليم الذي يتحلل به المصلي من صلاته. وهو الصحيح، يشهد له قوله عليه الصلاة والسلام «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى» . وقد مرَّ قبل قليل.(3/18)
أما الحديث الذي رواه أبو أيوب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «أربعٌ قبل الظهر ليس فيهن تسليم تُفتَح لهن أبواب السماء» رواه أبو داود وأحمد - وهو يدل على أنَّ الأربع ركعات لا يفصل بينهن تسليم - فإن هذا الحديث في سنده عبيدة، قال أبو داود (عبيدة ضعيف) . فيردُّ ولا يصلح للاستدلال. وكما سبق وقلت فقد وردت للعصر سُنَّة قبلية ملحقة بالسنن الراتبة المؤكدة، هي ركعتان أو أربع ركعات، وأنت بالخيار بين الاثنتين والأربع.(3/19)
وأما سُنَّة المغرب فهي ركعتان قبل الصلاة المفروضة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «كان المؤذِّن إذا أذَّن قام ناسٌ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري، حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم كذلك، يصلُّون الركعتين قبل المغرب، ولم يكن بين الأذان والإقامة شئ» رواه البخاري ومسلم والنَّسائي وابن حِبَّان. ورواه أحمد ولفظه «.. ولم يكن بين الأذان - صلى الله عليه وسلم -والإقامة إلا قريب» أي فترة قصيرة. وعن مختار بن فلفل قال «سألت أنس بن مالك عن التطوُّعِ بعد العصر فقال: كان عمر يضرب الأيدي على صلاةٍ بعد العصر، وكنا نصلي على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، فقلت له: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاهما؟ قال: كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا» رواه مسلم وأبو داود. وعن عبد الله المُزَني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «صلوا قبل صلاة المغرب، قال في الثالثة: لمن شاء، كراهية أن يتخذها الناس سُنَّة» رواه البخاري وأبو داود. ورواه أحمد ولفظه «صلوا قبل المغرب ركعتين ثم قال: صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال عند الثالثة: لمن شاء، كراهية أن يتخذها الناس سُنَّة» . وهذه السُّنَّة لم يُعرف أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاها يوماً، لذا فإنها تصنَّف في أدنى الدرجات بالنسبة للسنن الملحقة بالرواتب المؤكدة.(3/20)
وأما سُنَّة العشاء الملحقة بالرواتب فهي ركعتان اثنتان، أو رَكَعاتٌ أربعٌ تضاف إلى ركعتي العشاء البعديتين الراتبتين المُؤَكَّدتين، فعن شُريح بن هاني قال «سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: لم تكن صلاةٌ أخرى أن يؤخِّرها إذا كان على حديث من صلاة العشاء الآخرة، وما صلاها قط فدخل عليَّ إلا صلى بعدها أربعاً أو ستاً ... » رواه أحمد والنَّسائي وأبو داود. قوله أربعاً أو ستاً: أي يشمل الراتبتين والسُّنة الملحقة.
هذه هي السُّنن الملحقة بالسنن الراتبة المؤكدة، أعلاها وأولاها بالالتزام ركعتان قبل الظهر، فيصلي المسلم أربع ركعات قبلية للظهر، وأدناها ركعتان قبل المغرب، ومجموعها أربع عشرة ركعة في اليوم والليلة.
قضاءُ السنن الراتبة والسنن الملحقة بها(3/21)
يُشرع قضاء السنن الراتبة والسنن الملحقة بها إن هي فاتت بنوم أو نسيان أو انشغال فلم تُصلَّ في أوقاتها، وقد وردت عدة نصوص في هذا الباب، وباستعراض هذه النصوص نجد جملة من الأحاديث الشريفة تنص على وقائع عدة من قضاء السنن هذه، وهذه الوقائع ليست للحصر وإنما هي لمجرد التنصيص على أفرادٍ منها فحسب، فينسحب الحكم المستنبط منها على جميع هذه السنن، ولا يُوقف الحكم هذا على الأفراد المنصوص عليها فحسب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من لم يصلِّ ركعتي الفجر فلْيُصَلِّهما بعدما تطلع الشمس» رواه الترمذي وابن حِبَّان. وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام عن ركعتي الفجر فصلاها بعدما طلعت الشمس» رواه ابن حِبَّان. وعن ابن أبي مريم رضي الله عنه قال «كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأسرينا ليلة، فلما كان في وجه الصبح نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنام ونام الناس، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت علينا، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤذن فأذن، ثم صلى الركعتين قبل الفجر، ثم أمره فأقام، فصلى بالناس» رواه النَّسائي. وفي رواية للنَّسائي من طريق نافع بن جبير عن أبيه بلفظ «.. فضُرب على آذانهم حتى أيقظهم حرُّ الشمس فقاموا، فقال: توضأوا، ثم أذن بلال فصلى ركعتين، وصلوا ركعتي الفجر ثم صلوا الفجر» . فهذه نصوص في قضاء سُنَّة الفجر الراتبة.
وعن عائشة رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا لم يصل أربعاً قبل الظهر صلاهن بعدها» رواه الترمذي. وعنها رضي الله عنها أنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فاتته الأربع قبل الظهر صلاها بعد الركعتين بعد الظهر» رواه ابن ماجة وابن أبي شيبة. فهذان نصَّان في قضاء سنة الظهر القبلية الراتبة منها والملحقة، لأن الراتبة ركعتان والملحقة ركعتان، فهما أربع ركعات.(3/22)
وقد مرَّ معنا في بحث [السنن الراتبة المؤكدة] في هذا الفصل حديث كُرَيب عند البخاري ومسلم والدارمي وأبي داود وجاء فيه «وإنه أتاني ناسٌ من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان» . كما مرَّ في البحث نفسه حديث عبد الله بن أبي قيس عند أحمد والنَّسائي وجاء فيه «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين بعد الظهر فشُغِل عنهما حتى صلى العصر، فلما فرغ ركعهما في بيتي» . كما مرٌَّ في البحث نفسه حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عند أحمد وجاء فيه «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر وقد أُتِيَ بمالٍ، فقعد يقسمه حتى أتاه المؤذن بالعصر، فصلى العصر ثم انصرف إلىَّ وكان يَومي، فركع ركعتين خفيفتين، فقلنا: ما هاتان الركعتان يا رسول الله، أمرت بهما؟ قال: لا، ولكنهما ركعتان كنتُ أركعهما بعد الظهر، فشغلني قَسْمُ هذا المال حتى جاءني المؤذن بالعصر فكرهتُ أن أدعهما» . فهذه نصوص ثلاثة في قضاء سُنَّة الظهر الراتبة البعدية.
وقد مرَّ في بحث [السنن الراتبة المؤكدة] في هذا الفصل حديث أبي سلمة - بن عبد الرحمن - عند مسلم والنَّسائي وجاء فيه «كان يصليهما قبل العصر، ثم إنه شُغِل عنهما أو نسيهما فصلاهما بعد العصر» . فهذا نصٌ في قضاء سُنَّة العصر القبلية. وكما سبق وقلنا فإن النصوص قد ذكرت وقائع من قضاء السنن الراتبة والملحقة، وهي ليست للحصر، وإنما تدل على مشروعية قضاء السنن الراتبة كلها، والسنن الملحقة بها كلها.(3/23)
أما متى تُقضى هذه السنن، فإن جميع الأوقات تصلح لقضاء السنن، لا فرق بين أوقات الكراهة وغيرها، فقد مرَّ قبل قليل حديث كُرَيب، وحديث عبد الله بن أبي قيس، وحديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وكلها تدل على قضاء سنة الظهر البعدية بعد صلاة العصر، وكذلك حديث أبي سلمة، فإنه يدل على قضاء السنة قبل العصر بعد صلاة العصر، والصلاة بعد العصر منهيٌّ عنها للأحاديث التي أوردناها في بحث [السنن الراتبة المؤكدة] في هذا الفصل عند الحديث على سُنَّة العصر الراتبة. وروى قيس - بن عمرو - رضي الله عنه «أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبح، ثم قام يصلي ركعتين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما هاتان الركعتان؟ فقال: يا رسول الله ركعتا الفجر لم أكن صليتهما فَهُما هاتان، قال، فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -» رواه ابن خُزَيمة والحاكم والبيهقي. ورواه ابن حِبَّان بلفظ «.. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليه فلم ينكر ذلك عليه» . فهذا الحديث يدل على جواز قضاء سُنَّة الفجر في وقت الكراهة، وهو الوقت الذي يعقب صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وترتفع. فالصلاة عقب صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وترتفع منهيٌّ عنها للأحاديث الواردة في بحث [السنن الراتبة المؤكدة] في هذا الفصل عند الحديث على سُنَّة العصر الراتبة، ولكن الكراهية في أداء الصلاة في أوقات النهي إنما هي خاصة بصلاة التطوع المطلقة غير المقيدة بوقت أو بسبب أو بغرض خاصٍّ، أما قضاء السنن الراتبة والملحقة بها، وأداء الصلوات ذوات الأسباب والأغراض الخاصَّة، كتحية المسجد وصلاة الكسوف وصلاة الجنازة، وكصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة وصلاة الاستسقاء، فكلُّ ذلك جائز في أوقات النهي هذه.(3/24)
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «مَن نسي ركعتي الفجر فَلْيُصلِّهما إذا طلعت الشمس» رواه ابن خُزَيمة وابن ماجة. ورواه الترمذي بلفظ «مَن لم يُصَلِّ ركعتي الفجر فلْيُصلِّهما بعدما تطلع الشمس» . فإنه لا يتعارض مع حديث قيس عند ابن خُزَيمة المارِّ آنفاً، فقوله ليصلهما إذا طلعت الشمس لا يعني عدم جواز صلاتهما قبل طلوع الشمس، فالأمر بالشئ ليس نهياً عن غيره، هذا أولاً.
وثانياً إن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقضاء صلاة سُنَّة الفجر بعد طلوع الشمس يدل على الاستحباب، وأما سكوته عليه الصلاة والسلام على قضاء صلاة سُنَّة الفجر قبل طلوع الشمس فيدل على الإباحة والجواز، فالمسلم يندب له أن يختار لقضاء سُنَّة الفجر الوقت الذي يعقب طلوع الشمس بل وارتفاعها، فإنْ هو تعجَّل فلم ينتظر طلوع الشمس وارتفاعها، وصلاها قبل ذلك أجزأت عنه وجازت له، فلا تعارض بين الحديثين.(3/25)
وأما الشبهة التي أثارها حديث أم سلمة عند الطحاوي وأحمد والبيهقي وابن حِبَّان الذي سنورده الآن، وهي عدم مشروعة قضاء السنن والنوافل في أوقات النهي، فهي شبهة ضعيفة لا تصمد أمام الأحاديث الكثيرة القاضية بجواز قضاء السنن والنوافل في أوقات النهي، فالحديث يقول: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر ثم دخل بيتي فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول الله صليتَ صلاة لم تكن تصليها، قال: قدم عليَّ مال فشغلني عن ركعتين كنت أُصليهما بعد الظهر فصليتهما الآن، قلت: يا رسول الله أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا» رواه الطحاوي وأحمد والبيهقي. ورواه ابن حِبَّان ولفظه « ... شغلني عن ركعتين كنت أركعهما قبل العصر ... » . فأولاً: هذه الرواية ضعَّفها البيهقي فلا تصمد أمام الأحاديث الصحيحة والحسنة القائلة بمشروعية قضاء السنن، ولا تقوى على معارضتها. وثانياً: على فرض قبول هذه الرواية من حيث السند فإن قوله «أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا» يُفسَّر بنفي الأمر بالقضاء، فكأن أم سلمة رضي الله عنها سألت الرسول - صلى الله عليه وسلم -: هل تأمرنا بالقضاء؟ فقال: لا. ولا يفيد هذا النص نفي مشروعية القضاء. يشهد لهذا الفهم ما أخرجه الطحاوي نفسه «أن معاوية أرسل إلى أم سلمة يسألها عن الركعتين اللتين ركعهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر، فقالت: نعم، صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندي ركعتين بعد العصر، فقلتُ: أمرتَ بهما؟ قال: لا، ولكني كنت أُصليهما بعد الظهر فشُغلتُ عنهما فصليتهما الآن» . والأحاديث يفسر بعضها بعضاً، وهذا الحديث يفسر الحديث الذي قبله لا سيما وأنهما في موضوع واحد ومن قِبَلِ راو واحدٍ هو أم سلمة رضي الله عنها.(3/26)
والفرق بين الأمر بالقضاء وبين السكوت عن القضاء أن الأمر بالقضاء يجعله من السُّنَّة، في حين أن السكوت عن فعل القضاء يجعله في دائرة التخيير. وهذا المعنى يتضمنه الحديث الذي رواه البخاري وأبو داود من طريق عبد الله المُزَني رضي الله عنه، وجاء فيه «صلوا قبل صلاة المغرب قال في الثالثة: لمن شاء، كراهية أن يتخذها الناس سُنَّة» . وقد مر في بحث [السنن الملحقة بالسنن الراتبة المؤكدة] في هذا الفصل. فلو بقي أمره عليه الصلاة والسلام «صلوا قبل صلاة المغرب» دون قوله «لمن شاء» لاعتُبرت الركعتان قبل صلاة المغرب من السُّنة، ولثابر المسلمون عليهما، فلما قال «لمن شاء» فقد انتفت عن الركعتين السُّنِّيَّةُ ودخلتا في دائرة التخيير، فكذلك قضاء هاتين الركعتين بعد صلاة العصر، فهو في دائرة التخيير وليس في دائرة السُّنة، فمن شاء صلاهما ومن شاء تركهما، ويُستثنى من قضاء السنن سُنَّةُ الفجر فقط، فهي داخلة في دائرة السُّنِّيَّة وليس في دائرة التخيير. فركعتا الفجر من السُّنَّة قضاؤهما، لأن أمره عليه الصلاة والسلام قد تعلق به بقوله «من نسي ركعتي الفجر فَلْيُصلِّهما إذا طلعت الشمس» . فقد صدر في قضاء ركعتي الفجر أمرٌ نبوي فصار من السُّنَّة، وهذا لم يحصل في قضاء أية سُنة أخرى من السنن الراتبة والملحقة بها، فلْيحرص المسلمون على ركعتي الفجر، ولْيصلوهما في وقتهما قبل صلاة الفجر، أو بعد صلاة الفجر إن هما فاتتا.
صلاة الرواتب في السفر(3/27)
إن القاعدة التي وضعناها للتفريق بين السنن الراتبة والسنن الملحقة بها هي أن السنن الراتبة هي تلك التي لم يُصلِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقل منها ولم يتركها بحال مطلقاً، فهذان شرطان يتوجب وجودهما في السنن الراتبة، فإن نقص أحدهما أو زالا معاً لم تعُد سُنناً راتبة، وعندها يمكن اعتبارها سنناً ملحقة بالسنن الراتبة، وهذه القاعدة تصلح في الحضر كما تصلح في السفر. وباستعراض النصوص المتعلقة بصلاة التطوع في السفر نجد أن هذين الشرطين لم يتوفرا معاً في أية سُنَّة من سنن الصلوات المكتوبات، فقد جاءت النصوص بترك جميع السنن الراتبة في السفر أحياناً إن لم نقل غالباً، فهذا الترك للسنن الراتبة في السفر ولو مرة واحدة يخرجها عن كونها سُنناً راتبة في السفر، إذ لو كانت سُنَناً راتبة فيه لأُتيَ بها فيه بشكل دائم. وعلى هذا فإنا نقول إن الشرع الحنيف لم يسنَّ أية سُنة راتبة في السفر مطلقاً، وإنما شرع للمسلمين أن يصلوا صلاة تطوُّعٍ مطلق غير مقيد، لا يصح أن يقال عنها إنها من السنن الراتبة، فعن عيسى بن حفص بن عاصم عن أبيه قال «خرجنا مع ابن عمر فصلينا الفريضة، فرأى بعض ولده يتطوع فقال ابن عمر: صليتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان في السفر فلم يصلوا قبلها ولا بعدها، قال ابن عمر: ولو تطوَّعتُ لأتممت» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنَّسائي. وفي رواية عند أحمد بلفظ «صحبتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قبض، فكان لا يزيد على ركعتين، وأبا بكر رضي الله عنه حتى قبض، فكان لا يزيد عليها» . فهذا نص قطعي الدلالة على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان لم يصلوا في السفر السنن الراتبة ولا الملحقة بها، وهذا يعني أنه لا توجد سنن راتبة في السفر، لأنه كما قلنا لا تُترك السُّنن الراتبة لأن شرطها الدوام.(3/28)
ولقد عجبتُ ممن يقول بالسنن الراتبة في السفر استدلالاً بالأحاديث التالية:
أ - عن ابن عمر رضي الله عنه قال «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحضر والسفر، فصلى الظهر في الحضر أربعاً وبعدها ركعتين، وصلى العصر أربعاً وليس بعدها شئ، وصلى المغرب ثلاثاً وبعدها ركعتين، وصلى العشاء أربعاً، وصلى في السفر الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، والعصر ركعتين وليس بعدها شئ، والمغرب ثلاثاً وبعدها ركعتين، والعشاء ركعتين وبعدها ركعتين» رواه أحمد والترمذي.
ب - عن ابن عباس رضي الله عنه قال «فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الحضر والسفر، فكما تصلِّي في الحضر قبلها وبعدها فصلِّ في السفر قبلها وبعدها» رواه أحمد والبيهقي.
ج - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال «سافرت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر سفراً، فلم أره ترك الركعتين قبل الظهر» رواه أحمد.(3/29)
فأقول لهؤلاء: أمَّا الحديث الأول فهو مرويٌّ عن ابن عمر، ولقد روى ابن عمر الحديث السابق الصحيح الذي يقول فيه «.. فلم يُصلُّوا قبلها ولا بعدها..» فهما متعارضان، ومع التعارض فإن الحديث الصحيح السابق يُرَجَّح على الحديث هذا، فيُعمل بالأول ويُترك الثاني. هذا أولاً. وثانياً فإن هذا الحديث عندما تحدث عن صلاة الحضر وأتى على ذكر السنن الراتبة ذكر للظهر ركعتين بعديتين فقط ولم يذكر للظهر سُنَّة قبلية، وهذا مخالف لجميع الأحاديث في هذا الموضوع، فدل ذلك على ضعف الحديث متناً وشذوذه، فيطرح ويعمل بالحديث الصحيح السابق. وثالثاً رُبَّ قائلٍ يقول إن هذا الحديث لا يتعارض مع الحديث السابق وإن الجمع بينهما ممكن، وذلك أن الحديث الأول يفيد غالب الأحوال، وأن الحديث الثاني يفيد أحوالاً أخرى لبيان الجواز كما يقولون، بمعنى أن غالب أحواله عليه الصلاة والسلام عدم صلاة هذه الركعات في السفر، وأنه فعلها أحياناً لبيان الجواز، فأقول إن هذا القول لا يصحُّ، إذ لا يصح أن توصف هذه الركعات بأنها سنن راتبة مع الاعتراف بأنه عليه الصلاة والسلام قد فعلها أحياناً وتركها أحياناً أُخرى. فكيف تبقى سنناً راتبة عندئذ؟ أما الحديث الثاني فهو حديث ضعيف لا يصلح للاستدلال، فقد ضعَّفه ابن القطَّان، كما ضعَّفه أحمد راوي هذا الحديث فهو إذن لا يسعفهم. وأما الحديث الثالث فإنه لا يدل على وجود سنة راتبة مؤكدة قبلية لصلاة الظهر في السفر، فقد روى الترمذي وأبو داود هذا الحديث بلفظ «صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر سفراً، فما رأيته ترك الركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر» . فهاتان الركعتان ليستا هما السُّنة الراتبة للظهر كما يتوهمون، وإنما هما ركعتان تُصليان عندما تزيغ الشمس قبل موعد صلاة الظهر، فهما من النوافل.(3/30)
وهكذا يظهر أن هذه الأحاديث الثلاثة لا يُستدلُّ بها على وجود السنن الراتبة المؤكَّدة في السفر. وبناء على ما سبق فإنا نقول إنه لا سنن راتبة في حالة السفر، وإنما نوافل وسنن غير راتبة، أظهرها ركعتان قبل صلاة الصبح، فقد كثرت الأحاديث التي تذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصليهما في السفر، ولولا أنه عليه الصلاة والسلام قد روي عنه في الحديث الصحيح السابق أنه ترك السنن الراتبة كلها، ومنها هاتان الركعتان، لأثبتناهما في السفر كما هما في الحضر، ولكنَّ تركَه عليه الصلاة والسلام للسنن الراتبة كلها ومنها ركعتا الفجر في السفر يحول دون اعتبار هاتين الركعتين سنة راتبة مؤكدة، فلا مناص من تعميم الحكم بنفي جميع السنن الراتبة في السفر، واعتبار أن كل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نوافل أداها في السفر على الراحلة أو على الأرض إنما هي نوافل مطلقة وتطوُّعٌ غير مقيد.
ج. تحيَّة المسجد
يُندب للمسلم إذا ذهب إلى المسجد أن يصلي لله تعالى ركعتين عند دخول المسجد وقبل أن يجلس، ولا يزيد عن ذلك إلا أن يصلي غير تحية المسجد، فتحيَّة المسجد ركعتان اثنتان فحسب، فقد روى أبو قتادة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا دخل أحدكم المسجد فلْيركع ركعتين قبل أن يجلس» رواه البخاري ومسلم وأحمد. وفي رواية عند البخاري من طريق أبي قتادة أيضاً بلفظ «إذا دخل أحدُكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» . ورواه ابن حِبَّان بلفظ «إذا دخل أحدُكم المسجد فلا يجلس فيه حتى يركع ركعتين» . وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «كان لي على النبي - صلى الله عليه وسلم - دَيْن فقضاني وزادني، ودخلت عليه المسجد فقال لي: صلِّ ركعتين» رواه مسلم وابن حِبَّان، ورواه البخاري بتقديمٍ وتأخير.(3/31)
وتُسنُّ تحية المسجد في كل وقت يدخل فيه المسلم المسجد، لا فرق بين أوقات الكراهة وغيرها، ولا بين النهار والليل، فمتى دخل المسجد صلى ركعتين، وحتى في يوم الجمعة وفي أثناء خطبة الجمعة فإن حكم الندب باق ومستمر، فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب فقال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فلْيصلِّ ركعتين» رواه مسلم. ورواه البخاري بلفظ «إذا جاء أحدكم والإمام يخطب أو قد خرج فلْيصلِّ ركعتين» . وفي هذه الحالة - أعني في أثناء خطبة الجمعة - فإنه يشرع تخفيف هاتين الركعتين والتجوُّز فيهما وعدم إطالتهما، لما رُوي عن جابر رضي الله عنه أنه قال «دخل رجلٌ المسجد والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة فقال له: صلِّ ركعتين خفيفتين قبل أن تجلس» رواه ابن حِبَّان.(3/32)
نعم إن الأصل هو أن تُصلَّى الركعتان قبل الجلوس، وهذا لا يعني أن مَن دخل المسجد فجلس لسبب أو لآخر لا يُشرعُ له أداء هاتين الركعتين بعد ذلك، فالركعتان هاتان الأصلُ في أدائهما أن يكون قبل الجلوس، ولكنَّ أداءَهما يظلُّ مشروعاً أيضاً عَقِبَ الجلوس، فقد رُوي عن جابر رضي الله عنه أنه قال «جاء سُلَيْكٌ الغَطَفَاني يوم الجمعة ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قاعدٌ على المنبر، فقعد سُليك قبل أن يصلي فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أركعتَ ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فاركعهما» رواه مسلم والطحاوي. وفي رواية عند مسلم وأبي داود بلفظ «عن جابر بن عبد الله قال: جاء سُلَيك الغطَفاني يوم الجمعة ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فجلس فقال له: يا سُليك قم فاركع ركعتين وتجوَّز فيهما، ثم قال: إذا جاء أحدكم يومَ الجمعة والإمامُ يخطب فليركع ركعتين ولْيتجوَّز فيهما» . وعنه رضي الله عنه قال «دخل رجل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة فقال: أصليت؟ قال: لا، قال: قم فصلِّ الركعتين» رواه مسلم والبخاري وأبو داود. قوله قم فصلِّ الركعتين يدل على أن الرجل كان قد جلس قبل أن يؤدي تحية المسجد، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصليهما، أي بعدما كان قد جلس.(3/33)
قلنا من قبل إن تحية المسجد سُنَّة مندوبة وليست فرضاً خلافاً لما توهمه بعضُهم من النصوص التي تحث كثيراً وتشدد على أدائها، فالطحاوي وأبو داود قد أخرجا حديثاً من طريق عبد الله بن بُسر رضي الله عنه قال «جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجلس فقد آذيتَ وآنيتَ» . قوله آنيتَ: أي تأخرتَ في المجئ. وقد قيد أبو داود قدوم الرجل بأنه كان في أثناء خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله «فجاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: اجلس فقد آذيت» . بدون قوله (آنيت) ، فلو كانت تحية المسجد واجبة لأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأدائها ولم يأمره بالجلوس.
وقلنا من قبل إن تحية المسجد تُسَنُّ في كل وقت يدخل فيه المسلم المسجد، لا فرق بين أوقات الكراهة وغيرها، ولا بين الليل والنهار، ونقول هنا باستثناء حالة جاءت بها النصوص هي حالةُ ما إذا دخل المسلم المسجد، فوجد الصلاة المكتوبة قائمة، فعندها لا تُشرع تحية المسجد، ويدخل المسلم في الصلاة المكتوبة فوراً، وذلك لما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاةَ إلا المكتوبة» رواه ابن حِبَّان ومسلم وابن خُزَيمة، ورواه أصحاب السنن.
أما بخصوص صلاة العيدين، وما جاء من عدم التَّنفُّل قبلها، فإن ذلك خاص بما إذا صُلِّيت صلاةُ العيدين في المصلى، أي خارج البيوت والمدن، لأن المُصَلَّى ليس مسجداً، فلا تحيةَ له، أما إن صُلِّيت صلاةُ العيدين في المسجد فلْيصلِّ المسلم تحية المسجد، لأن حكمها عام يشمل العيدين وغيرهما.
د. الوتر(3/34)
الوتر هو الصنف الرابع من أصناف صلاة التطوع، بمعنى أن الوتر مندوب مستحب فحسب، وليس فرضاً ولا واجباً، فقد روى ابن محيريز «أن رجلاً من بني كِنانة يدعى المُخْدِجِيَّ سمع رجلاً بالشام يُدعى أبا محمد يقول إن الوتر واجب، قال المُخْدِجِيُّ: فَرُحت إلى عُبادة بن الصامت فأخبرتُه، فقال عُبادة: كذب أبو محمد، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: خمسُ صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن لم يضيِّع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة» رواه أبو داود وأحمد والنَّسائي وابن ماجة ومالك. وقد مرَّ طرف منه في بحث [حكم الصلاة المكتوبة] فصل [الصلاة: حكمها ومواقيتها] . وعن عليٍّ رضي الله عنه قال «الوتر ليس بحَتْمٍ كهيئة الصلاة المكتوبة، ولكنْ سُنة سنَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه الترمذي وأحمد والنَّسائي والحاكم. وعن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه قال «الوتر أمرٌ حسنٌ عمل به النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون من بعده وليس بواجب» رواه الحاكم والبيهقي. ودلالة هذه الأحاديث واضحة، وأيضاً عن ابن عمر رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به، يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته» رواه البخاري. ورواه مسلم والنسائي وأبو داود وابن خُزيمة بلفظ «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسبِّح على الراحلة قِبَل أي وجه توجَّه، ويوتِر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة» . فلولا أن الوتر مندوب وليس فرضاً لما أوتر عليه الصلاة والسلام على راحلته، وعن ابن عباس رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن قال: إنك تقْدَم على قومٍ أهلِ كتاب، فليكن أولَ ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله(3/35)
فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم ... » رواه البخاري ومسلم. ورواه ابن حِبَّان وقال عقب ذلك (.. كان بعث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل إلى اليمن قبل خروجه من الدنيا بأيام يسيرة، وأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، ولو كان الوتر فرضاً أو شيئاً زاده الله جلَّ وعلا للناس على صلواتهم كما زعم من جهل صناعة الحديث ولم يميِّز بين صحيحها وسقيمها، لأمر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل أن يخبرهم أن الله جلَّ وعلا فرض عليهم ستَ صلوات لا خمساً، ففيما وصفنا أبين البيان بأن الوتر ليس بفرض، وبالله التوفيق) .
ولكن هناك أحاديث تُوهم بوجوب صلاة الوتر، نذكرها أولاً ثم نناقشها:
أ - عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قاضي إفريقية «أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قدم الشام وأهل الشام لا يُوترون، فقال لمعاوية: ما لي أرى أهل الشام لا يوترون؟ فقال معاوية: وواجبٌ ذلك عليهم؟ قال: نعم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: زادني ربي عزَّ وجلَّ صلاة وهي الوتر، ووقتها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» رواه أحمد.
ب - عن نافع «سأل رجلٌ ابن عمر عن الوتر أواجب هو؟ فقال: أوتَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون» . ومن طريق ثانية «قال رجل لابن عمر: أرأيت الوتر أسنَّة هو؟ قال: ما سُنَّة؟ أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوتر المسلمون، قال: لا أسنَّةٌ هو؟ قال: مَهْ أتعقل؟ أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوتر المسلمون» رواهما أحمد وابن عبد البَر.
ج - عن بُرَيدة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا، قالها ثلاثاً» رواه أحمد وأبو داود والحاكم.(3/36)
د - عن أبي أيوب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «الوتر حق، فمن أحبَّ أن يوتر بخمس فليوتر، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليوتر، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليوتر، ومن شقَّ عليه ذلك فليُومئ إيماء» رواه ابن حِبَّان والبيهقي، ورواه أبو داود باختلاف في اللفظ.
هـ- عن ابن عباس قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «ثلاثٌ هنَّ عليَّ فرائض وهنَّ لكم تطوُّعٌ: الوتر والنحر وصلاة الضحى» رواه أحمد والبيهقي والحاكم والدارقطني.(3/37)
الحديث الأول في سنده عبيد الله بن زحر ضعيف، ضعفه الهيثمي وابن معين وابن المديني والدارقطني، وقال ابن حِبَّان: يروي الموضوعات عن الأثبات. وقال الهيثمي (ومعاوية لم يتأمَّر في زمن معاذ) . فالحديث لا يصلح للاحتجاج. والحديث الثاني لا يفيد وجوب الوتر، فامتناع ابن عمر عن إجابة السائل واكتفاؤه بتكرار فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين لا يدل على الوجوب، ويبدو لي أن ابن عمر خشي إن هو قال إن الوتر سنة أن يؤدي ذلك إلى تفريط الناس به، فاكتفى بترديد فِعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين علَّ السامع يقتدي بفعلهم، وهذا على فرض أن الحديث صالح للاحتجاج، وإلا فإن العراقي قد ذكر الحديث هذا ضمن الأحاديث الضعيفة، وقل مثل ذلك بخصوص الحديث الثالث، فهو أيضاً ضعيف عند العراقي، وعلى فرض صلاحه للاحتجاج فإن لفظَهُ «الوتر حق» وارد في الحديث الرابع. فأقول: إن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - «الوتر حق» لا يفيد الوجوب الشرعي بالضرورة، فكما أن الواجب حق، فإن المندوب أو السنّة أيضاً حق، فكلمة حق هنا تعني أنه ثابت مشروع، وهذا اللفظ لا يعدو كونه يفيد الحث على صلاة الوتر، ولا يفيد أكثر من ذلك. أما الحديث الخامس ففي سنده أبو جناب الكلبي - يحيى بن أبي حية - ضعيف، ضعَّفه يحيى القطان والعِجلي والجوزجاني وأبو حاتم والنَّسائي والدارقطني والذَّهبي، فلا يصلح للاحتجاج. وهكذا يتبين أنه لا يوجد دليل أو نصٌّ واضح الدلالة على وجوب صلاة الوتر.(3/38)
وقد حكى الخطابي الإجماع على عدم وجوب الوتر، ويبدو أنه نسي أو كان يجهل رأي أبي حنيفة القائل بوجوب الوتر. قال الشوكاني (وقد ذهب الجمهور إلى أن الوتر غير واجب بل سُنَّة، وخالفهم أبو حنيفة فقال إنه واجب) . وقال ابن المنذر ( ... وهو قول عوام أهل العلم غير النعمان، فإنه خالفهم وزعم أن الوتر فرض) . قول ابن المنذر عوام أهل العلم غير النعمان: يعني عموم أو عامة أهل العلم باستثناء أبي حنيفة.
وقد حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيراً على صلاة الوتر، مما يجعل هذه الصلاة تتمتع بفضل عظيم، ويكاد الوتر يعدل في الفضل ركعتي الفجر، أي سُنَّة الصبح، فالحديث الثالث - حديث بُريدة الأسلمي المار قبل قليل - يدل على ما للوتر من فضل. وأيضاً، عن عليٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يا أهل القرآن أوتروا فإن الله عزَّ وجلَّ وِترٌ يحب الوتر» رواه أحمد وأبو داود. ورواه ابن خُزَيمة وابن ماجة، كلاهما بلفظ «قال علي بن أبي طالب: إن الوتر ليس بحتم ولا كصلاتكم المكتوبة، ولكنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوتر، ثم قال: يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر» . وعن خارجة ابن حُذافة العَدَوي رضي الله عنه قال «خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن الله قد أمدَّكم بصلاة لهي خيرٌ لكم من حُمر النَّعَم، جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر» رواه ابن ماجة والبيهقي والحاكم. قوله حُمر النَّعَم: أي الطائفة من الإبل.
أما وقت الوتر فهو وقت موسَّع، يمتدُّ من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، فقد مرَّ قبل لحظات حديث ابن ماجة والبيهقي وفيه « ... جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر» . وروى أبو بصرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إن الله زادكم صلاة وهي الوتر، فصلوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر ... » رواه أحمد والطبراني.(3/39)
وتأخير الوتر إلى آخر الليل أفضل لمن قوي على ذلك، فعن مسروق قال «سألتُ عائشة عن وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: مِن كلِّ الليل قد أوتر، مِن أوله وأوسطه، وانتهى وتره حين مات في السَّحَر» رواه ابن ماجة وأحمد ومسلم. ورواه البخاري ولفظه «كلَّ الليل أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانتهى وتره إلى السَّحَر» . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر أول الليل، ثم أوتر في وسطه ثم أثبت الوتر في هذه الساعة، قال: وذلك عند طلوع الفجر» رواه أحمد. وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من خاف أن لا يقوم من آخِر الليل فليوتر أوَّله، ومن طمع أن يقوم آخِرَه فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخِر الليل مشهودة، وذلك أفضل» رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجة. وعن جابر من طريق ثانية عند مسلم «أيكم خاف أن لا يقوم من آخِر الليل فليوتر ثم ليرقد، ومن وثق بقيامٍ من الليل فلْيوتر من آخره، فإن قراءة آخِر الليل محضورة، وذلك أفضل» . وعن أبي قتادة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: متى توتر؟ قال: أوتر من أول الليل، وقال لعمر: متى توتر؟ قال: آخِرَ الليل، فقال لأبي بكر: أخذ هذا بالحزم، وقال لعمر: أخذ هذا بالقوة» رواه أبو داود والبيهقي والحاكم. وفي رواية وجدها عبد الله بن أحمد بن حنبل بخط أبيه من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر متى توتر؟ قال: أول الليل بعد العَتَمة، قال: فأنت يا عمر؟ قال: آخِر الليل، قال: أما أنت يا أبا بكر فأخذت بالثِّقة، وأما أنت يا عمر فأخذت بالقوة» . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الوتر ركعة من آخر الليل» رواه مسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم(3/40)
- عن الوتر فقال: أوتروا قبل الصبح» رواه أحمد ومسلم والترمذي والنَّسائي وابن ماجة.
أما عدد ركعات الوتر فأقلها ركعة واحدة، وأكثرها - مما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - تسعُ ركعات. فالوتر ركعة واحدة، أو ثلاث ركعات، أو خمس ركعات، أو سبع ركعات، أو تسع ركعات. فقد مرَّ قبل قليل حديث مسلم من طريق عبد الله بن عمر رضي الله عنه وفيه «الوتر ركعة من آخر الليل» . وعن أبي مِجْلز قال «سألت ابن عباس رضي الله عنه عن الوتر فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ركعة من آخِر الليل، وسألت ابن عمر رضي الله عنه فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ركعة من آخر الليل» رواه أحمد ومسلم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسلِّم من كل ثِنتين ويوتر بواحدة» رواه ابن ماجة. قوله يسلم من كل ثِنتين: أي أن صلاة الليل ركعتان ركعتان. وعنها رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بواحدة» رواه ابن حِبَّان وابن أبي شيبة. وروى ابن عمر رضي الله عنه «أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاةُ الليل مَثْنى مَثْنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتِر له ما قد صلى» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي. فهذه أدلة على أن الوتر ركعة واحدة.(3/41)
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثماني ركعات، ويوتِر بثلاث ويصلي ركعتين - وفي رواية: ويصلي ركعتي الفجر - فلما كبر صار إلى تسع، ستٍّ وثلاثٍ» رواه أحمد والنَّسائي وأبو داود. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً ... » رواه مسلم. وعن علي رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بثلاث» رواه أحمد. ورواه الترمذي ولفظه «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتِر بثلاث، يقرأ فيهن بتسع سور من المُفَصَّل، يقرأ في كل ركعة بثلاث سور، آخرُهن قل هو الله أحد» . وعن ابن عباس رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوتر بثلاث، بـ سبِّح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد» رواه أحمد والنَّسائي وابن ماجة والترمذي. فهذه أدلة على أن الوتر يكون ثلاث ركعات.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شئ منهن إلا في آخرهن، فإذا أذن المؤذن قام فصلى ركعتين خفيفتين» رواه الترمذي وأحمد وأبو داود والنَّسائي. ورواه مسلم ولفظه «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شئ إلا في آخرها» . وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بسبعٍ وبخمسٍ، لا يفصل بينهن بسلام ولا بكلام» رواه أحمد والنَّسائي وابن ماجة. فهذه أدلة على أن الوتر يكون خمس ركعات.(3/42)
وعن أبي أُمامة رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بتسع، حتى إذا بدَّن وكثر لحمه أوتر بسبع، وصلى ركعتين وهو جالس، فقرأ بـ إذا زلزلت وقل يا أيها الكافرون» رواه أحمد والطبراني. وعن سعد بن هشام بن عامر قال « ... قلت يا أم المؤمنين - يقصد عائشة - أنبئيني عن وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: كنا نُعدُّ له سواكَه وطَهورَه، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل فيتسَّوك ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلِّم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليماً يُسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما أسنَّ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذ اللحم أوتر بسبعٍ، وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول، فتلك تسعٌ يا بُني ... » رواه مسلم وأحمد. ورواه النَّسائي ولفظه «.. فلما كبر وضعُف أوتر بسبع ركعات لا يقعد إلا في السادسة، ثم ينهض ولا يسلم فيصلي السابعة ثم يُسلِّم تسليمة ... » فهذه أدلة على أن الوتر يكون سبع ركعات ويكون تسع ركعات.
ثم إن هذه الأدلة الدالة على أن الوتر يكون ركعة، ويكون ثلاثاً، ويكون خمساً، ويكون سبعاً، ويكون تسعاً، تدلُّ أيضاً على أن الوتر مندوب وليس فرضاً، إذ لو كان فرضاً لكان ثابت العدد، فلما جاءت الأدلة بالتخيير في العدد دل ذلك على أنه ليس فرضاً. ثم إن أبا أيوب رضي الله عنه قد روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «الوتر حق، فمن شاء فليوتر بخمسٍ، ومن شاء فليوتر بثلاث، ومن شاء فليوتر بواحدة» رواه ابن حِبَّان والنًّسائي والدارقطني، ورواه الحاكم وصححه. وهذا تخيير واضح في العدد دالٌّ على عدم الوجوب.(3/43)
أما كيفية صلاة الوتر على اختلاف ركعاته من حيث العدد فهي كما يلي: إنْ كان الوتر ركعة واحدة فالكيفية ظاهرة. وإن كان الوتر ثلاث ركعات صلاها متصلة بتكبيرة إحرام واحدة وقعودٍ واحدٍ في آخرها، يتشهد فيه ويسلِّم، ولا يقعد غيره، فلا يقعد بعد الركعتين. وإن كان الوتر خمس ركعات فكذلك، أي صلاها متصلة بتكبيرة إحرامٍ واحدةٍ وقعودٍ واحدٍ في آخرها يتشهد فيه ويسلم، ولا يقعد غيره، فلا يقعد بعد الركعتين ولا بعد الأربع، أي لا يقعد إلا في آخر الركعة الخامسة فحسب. وإن كان الوتر سبع ركعات صلاَّها متصلة بتكبيرة إحرامٍ واحدة وتشهُّدٍ أول يقعد له في آخر الركعة السادسة، ثم ينهض ليأتي بالسابعة، ثم يقعد في آخرها فيتشهد التشهد الثاني ويسلِّم. وإن كان الوتر تسع ركعات صلاَّها متصلة بتكبيرة إحرامٍ واحدة وتشهُّدٍ أول يقعد له في آخر الثامنة، ثم ينهض ليأتي بالتاسعة، ثم يقعد في آخرها فيتشهد التشهد الثاني ويسلم. فعن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى العشاء دخل المنزل ثم صلى ركعتين، ثم صلى بعدهما ركعتين أطول منهما، ثم أوتر بثلاث لا يفصل فيهن ... » رواه أحمد ومسلم. قوله لا يفصل فيهن: يعني أن تُصلى الركعات الثلاث متصلة دون تشهد وتسليم من الركعتين الأوليين. يشهد لهذا ما روته عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يسلِّم في ركعتي الوتر» رواه النَّسائي والبيهقي والحاكم. وما رواه أبيُّ بنُ كعب رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الوتر بـ سبح اسم ربك الأعلى، وفي الركعة الثانية بـ قل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة بـ قل هو الله أحد، ولا يسلِّم إلا في آخرهن، ويقول يعني بعد التسليم: سبحان الملك القدوس ثلاثاً» رواه النَّسائي وابن حِبَّان.(3/44)
أما إن سلَّم من الركعتين الأوليين ثم صلى ركعة واحدة، فإن الركعتين الأوليين لا تُحتسبان من الوتر، وإنما تُحتسبان من صلاة الليل التي تسبق الوتر، ويكون قد صلى ركعة واحدة من الوتر فحسب، إذ ما دام أن الوتر صلاة، فإن هذه الصلاة لا تُقطع بتسليم، ولا تُؤدَّى إلا بتكبيرة إحرامٍ واحدة وتسليمةٍ واحدة، وإلا لما كانت صلاة واحدة، فعن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدها سبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون، ويقرأ في الوتر بـ قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ بربِّ الناس» رواه ابن حِبَّان والحاكم. لاحظ قول عائشة «الركعتين اللتين يوتر بعدها» فهو يدل صراحة على أن الركعتين ليستا من الوتر، وعلى هذا جاء قولها «ويقرأ في الوتر بـ قل هو الله أحد» . فالركعتان إنْ فُصلتا عن الثالثة لم تعودا تُحتسبان من صلاة الوتر، وعلى هذا الفهم تُحمل الأحاديث المروية التي تذكر «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفصل بين الشفع والوتر» رواه ابن حِبَّان وأحمد والطبراني من طريق ابن عمر رضي الله عنه. فالشفع هو من صلاة الليل، والوتر يأتي بعدها مفصولاً عنها.
وأيضاً فإن المُصلِّي لا يقعد بعد الركعتين ولا يتشهد التشهد الأول، أي لا يفعل في صلاة الوتر الثلاثية ما يفعل في صلاة المغرب المفروضة، وإنما يجعل صلاة الوتر مختلفة عن صلاة المغرب، وهو ما أمر به الشرع الحنيف، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «لا توتروا بثلاث، أوتروا بخمس أو بسبع، ولا تَشَبَّهوا بصلاة المغرب» رواه ابن حِبَّان والدارقطني. ورواه البيهقي والحاكم وفيه تقديم وتأخير.(3/45)
وقد جمع ابن حجر بين الأحاديث المُصَرِّحة بثلاث وهذا الحديث الناهي عن الثلاث بأَنْ حَمَل أحاديث النهي على الإيتار بثلاث بتشهُّدين، لمشابهة ذلك لصلاة المغرب، وأحاديث الجواز على الإيتار بثلاث متَّصلةٍ بتشهُّدٍ واحدٍ في آخرها، وقد أحسن بهذا الجمع، فحتى لا يتشابه الوتر والمغرب فإنه لا يجلس في الوتر عقب الركعتين، وإنما يجلس فقط ويتشهد في آخر الثلاث. هذا بخصوص كيفية صلاة الوتر ثلاث ركعات.
وأما بخصوص كيفية صلاة الوتر خمس ركعات، فقد رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شئ إلا في آخرها» رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنَّسائي وأحمد. ورواه ابن حِبَّان ولفظه «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر منها بخمسٍ لا يجلس في شئ من الخمس إلا في آخرهن، يجلس ثم يُسلِّم» . وقد مرَّ حديث مسلم قبل قليل. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلامٍ ولا بكلامٍ» رواه أحمد والنسائي وابن ماجة. وقد مرَّ قبل قليل.(3/46)
وأما بخصوص كيفية صلاة الوتر سبع ركعات، فقد رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «لما أسنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذ اللحم، صلى سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن ... » رواه النَّسائي. ورواه ابن حِبَّان بلفظ «كنا نُعِدُّ له سواكه وطَهوره، فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ ثم يصلي سبع ركعات، ولا يجلس فيهن إلا عند السادسة، فيجلس ويذكر الله ويدعو» . ووقع عند النَّسائي لفظ «فلما كبِر وضعُف أوتر بسبع ركعات لا يقعد إلا في السادسة، ثم ينهض ولا يُسلِّم، فيصلي السابعة ثم يسلِّم تسليمة ... » . وقد مرَّ قبل قليل، وقد مرَّ أعلاه قبل بضعة أسطر حديث أم سلمة رضي الله عنها عند أحمد والنَّسائي وابن ماجة وفيه «يوتر بسبعٍ وبخمسٍ لا يفصل بينهن بسلام ولا بكلام» .
وأما بخصوص كيفية صلاة الوتر تسع ركعات، فقد روت عائشة رضي الله عنها « ... ويُصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلِّم تسليماً يُسْمعُنا ... » من حديث مرَّ قبل قليل رواه مسلم وأحمد والنَّسائي. وعنها رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوتر بتسع ركعات لم يقعد إلا في الثامنة، فيحمد الله ويذكره ويدعو، ثم ينهض ولا يسلِّم، ثم يصلي التاسعة ويذكر الله ويدعو، ثم يسلم تسليمة يُسمعناه ... » رواه ابن حِبَّان.(3/47)
وأما القراءة في ركعات الوتر، ففي الركعة الأولى سبِّح اسمَ ربك الأعلى، وفي الركعة الثانية قل يا أيها الكافرون، وفي الركعة الثالثة قل هو الله أحد، وما زاد على ذلك فلْيقرأ ما يشاء من السور، هذا لمن أراد أن يتقيد بقراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد مرَّ قبل قليل حديث أبيِّ بن كعب رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الوتر بـ سبح اسم ربك الأعلى، وفي الركعة الثانية بـ قل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة بـ قل هو الله أحد، ولا يسلِّم إلا في آخرهن، ويقول، يعني بعد التسليم: سبحان المَلِك القُدُّوس، ثلاثاً» رواه النَّسائي وابن حِبَّان. وعن عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر بـ سبِّح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد، وإذا أراد أن ينصرف من الوتر قال: سُبْحان الملِكِ القُدُّوس، ثلاث مرات، ثم يرفع صوته في الثالثة» رواه أحمد والنَّسائي. ولهما عنه من طريق ثانية «..وكان إذا سلَّم قال: سبحان المَلِك القُدُّوس، يطوِّلها، ثلاثاً» .
فهذه الأحاديث تبين أن القراءة في ركعة الوتر الأولى تكون بـ سبح اسم ربك الأعلى، وفي الركعة الثانية بـ قل يا أيها الكافرون، وفي الركعة الثالثة بـ قل هو الله أحد، وإن زاد فيها المعوذتين فلا بأس، لما رُوي عن عبد العزيز بن جُرَيْج أنه قال «سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: بأي شئ كان يوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: كان يقرأ في الركعة الأولى بـ سبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية بـ قل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة بـ قل هو الله أحد والمعوذتين» رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارقطني.(3/48)
كما تُبين هذه الأحاديث أن من الهَدْي النبوي أن يقول من يفرغ من صلاة الوتر (سبحان المَلِكِ القُدُّوس، سبحان المَلِكِ القُدُّوس، سبحان المَلِكِ القُدُّوس) يرفع صوته في الثالثة ويمدها مدَّاً.
مرٌَّ معنا في هذا البحث أن وقت الوتر موسَّع، فهو يمتد من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وأن الأفضل للوتر أن يكون آخر صلاة الليل عند السَّحَر، ونضيف هنا أن الوتر يُصلَّى مرَّة واحدة في الليلة الواحدة، ولا يُشرع أن يُصلَّى وتران أو أكثر في ليلة واحدة. وللمسلم أن يصلي في الليل شفعاً شفعاً، أي مَثْنى مَثْنى، حتى إذا فرغ من صلاة الليل ختمها بالوتر، وله أن يوتر مبكراً، ثم إن هو أراد التنفُّل بعد ذلك فإن له أن يصلي من النوافل- أعني صلاة الليل - ما يشاء شفعاً شفعاً، أي مَثْنى مَثْنى، ولا يصلي الوتر مرة ثانية عقب ذلك.(3/49)
أما ما يقوله بعضهم من الإتيان في الحالة الثانية بركعة يشفع بها وتره، ثم يتنفل شفعاً شفعاً، ثم يختم صلاته بالوتر فرأي مرجوح، لأنه في هذه الحالة يكون قد صلى وترين في ليلة واحدة، إضافةً إلى أن إضافةَ ركعةٍ جديدةٍ إلى ركعة سابقة بينهما تسليم وفاصل زمني كبير ليس له دليل من شرع الله يُعتد به، فلا ينبغي القول به. فعن طلق بن علي رضي الله عنه قال: سمعت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «لا وتران في ليلة» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي وابن حِبَّان. وأما ما رواه نافع عن ابن عمر رضي الله عنه «أنه كان إذا سُئِل عن الوتر قال: أما أنا فلو أوترت قبل أن أنام، ثم أردت أن أصلي بالليل شفعتُ بواحدة ما مضى من وتري، ثم صليت مثنى مثنى، فإذا قضيت صلاتي أوترت بواحدة، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يجعل آخر صلاة الليل الوتر» رواه أحمد. فهو اجتهاد من ابن عمر في أمره عليه الصلاة والسلام أن يجعل آخر صلاة الليل الوتر، وفعل الصحابي أو اجتهاده ليس دليلاً شرعياً وإن كان حكماً شرعياً يجوز تقليده واتِّباعه. وقد خطَّأ ابن عباس ابن عمر رضي الله عنهما في اجتهاده هذا، فقد روى عبد الرزاق عن سالم «عن ابن عمر أنه كان إذا نام على وتر، ثم قام يصلي من الليل صلى ركعة إلى وتره فيشفع له، ثم أوتر بعدُ في آخر صلاته، قال الزهري: فبلغ ذلك ابن عباس فلم يعجبه فقال: إنَّ ابن عمر ليوتر في الليلة ثلاث مرات» . يقصد وتره قبل أن ينام، ثم وتره الثاني الذي يشفع به وتره الأول، ثم وتره الثالث الأخير عقب الفراغ من صلاة الليل، ولا شك في أنه رضي الله عنه قد أخطأ في اجتهاده هذا. وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قد خطَّأت هي الأخرى هذا الرأي، فقد روى عبد الرزاق «عن أبي عطية عن عائشة قال: ذُكر لها الرجل يوتر ثم يستيقظ فيشفع بركعة، قالت: ذلك يلعب بوتره» .(3/50)
أما أمره عليه الصلاة والسلام أن يجعل آخر صلاة الليل الوتر، فإنه يعني أن من يصلي صلاة الليل لا يقدِّم الوتر على صلاته ولا يجعله بين صلاته، وإنما يجعله في آخرها، فمن فعل ذلك ونام فقد امتثل للأمر النبوي الكريم، ثم إن هو استيقظ من ليلته تلك وبدا له أن يصلي تطوُّعاً فلْيُصلِّ ما شاء دون محظور ولا ينقض ما صلاه من قبل، ولا يكون بفعله هذا قد خالف الأمر النبوي، لأنه سبق له أن امتثل للأمر، وامتثاله للأمر لا يعني حرمانه من التنفل فيما لو استيقظ من ليلته وأراد الصلاة.
وكما أضفنا قبل قليل من أن الوتر يُصلَّى مرة واحدة في الليلة الواحدة، فإننا نضيف هنا أن الوتر هو من النوافل التي داوم على فعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحث المسلمين على القيام بها، فيأخذ الوتر حكم السنن التي داوم عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث مشروعية قضائها إنْ هي فاتت وخرج وقتها، فمن نام دون أن يصلي الوتر ثم استيقظ وقد طلع الفجر فإن له أن يصلي الوتر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا أصبح أحدكم ولم يوتر فليوتر» رواه الحاكم والبيهقي. وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من نام عن وتره أو نسيه فلْيصلِّه إذا أصبح أو ذكره» رواه البيهقي والدارقطني والحاكم. ورواه أبو داود إلا أنه لم يذكر - إذا أصبح -. ورواه الترمذي بلفظ «من نام عن وِتره فلْيُصلِّ إذا أصبح» . وعن الأغرِّ المُزَني «أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله إني أصبحت ولم أُوتر، قال: فأوتر» رواه الطبراني.
القنوت في الوتر وفي الصلاة المكتوبة(3/51)
ونبدأ بالقنوت في الوتر فنقول: يُسنُّ القنوت في صلاة الوتر في الركعة الأخيرة منه، ويُفعل طيلة العام، ويتأكد في النصف الأخير من رمضان، ويُؤتى به عقب الركوع، ولكن إن قنت قبل الركوع جاز له ذلك، فالأمر موسَّع، ولكن القنوت عقب الركوع أحبُّ إليَّ، قال البيهقي (رُواةُ القنوت بعد الركوع أكثر وأحفظ وعليه درج الخلفاء الراشدون) . وقال أحمد: لم يَروِ عن أنسٍ القنوتَ قبل الركوع سوى عاصم الأحول فحسب.
ويُندب أن يُدعى بالدعاء التالي في الوتر [اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتَولَّني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقِني شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يَذِلُّ من واليت، ولا يَعِزُّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت] . أو بالدعاء التالي [اللهم إني أعوذ برضاك من سَخَطِك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك] . ولا يعني هذا وذاك أنه لا يصح الدعاء إلا بهما، فَلْيدعُ المسلمُ ربه في حاجته بهذا الدعاء أو بذاك أو بسواهما، أو يجمع بين الدعاء المأثور والدعاء في حاجته. فعن علي رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سَخَطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصي ثَناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك» رواه أحمد والحاكم وأبو داود والترمذي والنَّسائي. فالحديث يقول «كان يقول في آخر وتره» أي في الركعة الأخيرة منه. وما جاء في هذا الحديث من دعاء هو الدعاء الثاني الذي ذكرته قبل قليل. وعن الحسن بن علي رضي الله عنه قال «علَّمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلماتٍ أقولهن في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولَّني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقِني شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت» رواه أحمد والترمذي(3/52)
والنَّسائي وابن خُزَيمة وأبو داود. ورواه البيهقي والطبراني بزيادة «ولا يعزُّ من عاديت» عقب «إنه لا يَذِلُّ من واليت» . وهي زيادة صحيحة فتُقبل وتضاف إلى الدعاء.
وروى أبو داود «أن عمر بن الخطاب جمع الناس على أُبيِّ بن كعب، فكان يصلي لهم عشرين ليلة، ولا يقنت بهم إلا في النصف الباقي» . يعني النصف الأخير من رمضان، لأن الحديث يتحدث عن صلاة التراويح، وهي لا تكون إلا في رمضان، بدلالة حديث ثان رواه أبو داود بلفظ «أنَّ أُبيَّ بن كعب أمَّهم - يعني في رمضان - وكان يقنت في النصف الآخر من رمضان» . وستأتي الأدلة على جواز القنوت قبل الركوع وبعده تالياً.(3/53)
أما القنوت في الصلوات الخمس المكتوبة فإنه مشروع في النوازل والكوارث فحسب، فإن وقعت النوازل والكوارث فالقنوت مشروع في جميع الصلوات الخمس، ولا يُشرَع اتخاذُ صلاةٍ بعينها للقنوت، بمعنى ألا تختص بالقنوت صلاةٌ دون صلاة. أما إن عدمت النوازل والكوارث فلا قنوت في الصلوات الخمس، ولا قنوت آنئذٍ إلا في الوتر فحسب، فعن أبي مالك الأشجعي قال «قلت لأبي: يا أبتِ إنك قد صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ههنا بالكوفة قريباً من خمس سنين أكانوا يقنتون؟ قال: أَيْ بُنيَّ مُحْدَث» رواه أحمد والنَّسائي وابن ماجة والترمذي وابن أبي شيبة. ورواه ابن حِبَّان ولفظه «صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يقنت، وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت، وصليت خلف عمر فلم يقنت، وصليت خلف عثمان فلم يقنت، وصليت خلف علي فلم يقنت، ثم قال: يا بُني إنها بدعة» . ولا أعني بالنوازل والكوارث ما كان منها عاماً فقط كالحروب والزلازل والبراكين والطوفان، وإنما أعني أيضاً ما يصيب المرء من نكباتٍ ومصائب، فقد يُسجَن الشخص، أو يطلبه سلطان متسلِّط، أو يضل السبيل في سفره، أو يمرض مرضاً شديداً، ففي هذه النوازل الفردية أيضاً يقنت المصلِّي في أية صلاة مكتوبة، والدليل على القنوت في النوازل ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال «قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دُبُر كل صلاة، إذا قال سمع الله لمن حمده في الركعة الأخيرة، يدعو على حيٍّ من بني سُلَيم على رِعْلٍ وذَكْوانَ وعُصَيَّة، ويُؤَمِّن مَنْ خلفَه، قال: أرسل إليهم يدعوهم إلى الإسلام فقتلوهم» . قال عكرمة: هذا مفتاح القنوت. رواه ابن خُزَيمة وأحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم.(3/54)
ويستمر المسلم يقنت ما دامت النازلة واقعة، فإذا انتهت النازلة توقف عن القنوت، أو قنت فيها ما شاء ثم توقف، ولا يُديم القنوت بعد انقضائها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً بعد الركوع، يدعو على رِعْلٍ وذَكْوَانَ وقال: عُصَيَّةُ عصت الله ورسوله» رواه أحمد والنَّسائي والبخاري. ورواه مسلم مقيَّداً بصلاة الصبح. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً يدعو بعد الركوع على حيٍّ من أحياء العرب ثم تركه» رواه أحمد ومسلم وابن حِبَّان والنَّسائي وأبو داود. وعن عاصم الأحول عن أنس قال «سألته عن القنوت أَقَبْلَ الركوع أو بعد الركوع؟ فقال: قبل الركوع، قال قلت: فإنهم يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قنت بعد الركوع؟ فقال: كذبوا، إنما قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً يدعو على ناس قَتَلوا أناساً من أصحابه يقال لهم القُرَّاء» رواه أحمد ومسلم. ورواه البخاري ولفظه «عن عاصم قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت فقال: قد كان القنوت، قلت: قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله، قلت: فإن فلاناً أخبرني عنك أنك قلت بعد الركوع، فقال: كذب، إنما قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع شهراً، أراه كان بعث قوماً يقال لهم القُرَّاء زُهاء سبعين رجلاً إلى قوم من المشركين دون أولئك، وكان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد، فقنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً يدعو عليهم» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة العَتَمَة شهراً يقول في قنوته: اللهم أَنْجِ الوليد بن الوليد، اللهم نَجِّ سَلَمة بن هشام، اللهم نجِّ عيَّاش بن أبي ربيعة، اللهم نجِّ المستضعفين من المؤمنين، اللهم أشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسِنِي يوسف، قال أبو هريرة: وأصبح رسول الله - صلى(3/55)
الله عليه وسلم - ذات يوم فلم يدع لهم، فذكرت ذلك له فقال - صلى الله عليه وسلم -: أما تراهم قد قدموا؟» رواه ابن حِبَّان وأبو داود وابن خُزَيمة. ورواه مسلم بلفظ «عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت بعد الركعة في صلاةٍ شهراً، إذا قال سمع الله لمن حَمِده يقول في قنوته.. - مثل رواية ابن حِبَّان.. قال أبو هريرة رضي الله عنه: ثم رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الدعاء بعد، قلت: أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ترك الدعاء لهم، قال فقيل: وما تراهم قد قدموا» .
فقد دلت هذه الأحاديث على أن القنوت يُشرع في النوازل بقدرها وينتهي بانتهائها ولا يستمر، وقد قال ابن حِبَّان عقب رواية الحديث الأخير (في هذا الخبر بيان واضح أن القنوت إنما يُقنت في الصلوات عند حدوث حادثة مثل ظهور أعداء الله على المسلمين، أو ظلم ظالم ظُلم المرء به أو تعدَّى عليه، أو أقوام أحب أن يدعو لهم، أو أسرى من المسلمين في أيدي المشركين وأحب الدعاء لهم بالخلاص من أيديهم، أو ما يشبه هذه الأحوال. فإذا كان بعض ما وصفنا موجوداً قنت المرء في صلاة واحدة أو الصلوات كلها أو بعضها دون بعض، بعد رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من صلاته، يدعو على من شاء باسمه ويدعو لمن أحب باسمه، فإذا عدم مثل هذه الأحوال لم يقنت حينئذ في شئ من صلاته، إذ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يقنت على المشركين ويدعو للمسلمين بالنجاة، فلما أصبح يوماً من الأيام ترك القنوت، فذكر ذلك أبو هريرة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أما تراهم قد قدموا، ففي هذا أبين البيان على صحة ما أصَّلْناه) . ولقد أصاب ابن حِبَّان فيما ذهب إليه فيما أرى.(3/56)
إلا أن هناك من يقولون إن القنوت إنما يكون في صلاة الفجر فحسب، وهؤلاء قسمان: قسم يقول: يُقْنَت في صلاة الفجر طيلة العام، والقسم الآخر يقول: يُقْنَت عند النوازل في صلاة الفجر فحسب، وقد استدلوا بجملة من الأحاديث أذكر منها ما يلي:
أ - عن أنس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت شهراً يدعو عليهم، ثم تركه، وأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا» رواه الدارقطني والبيهقي والحاكم. وروى أحمد الشطر الثاني منه.
ب - عن ابن سيرين قال «سُئل أنس بن مالك: هل قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم بعد الركوع، ثم سُئل بعد ذلك مرة أخرى: هل قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الصبح؟ قال: بعد الركوع يسيراً» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي والطحاوي. ورواه البخاري بلفظ «عن محمد بن سيرين قال: سُئل أنس: أقنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصبح؟ قال: نعم، فقيل له: أَوَقنت قبل الركوع؟ قال: بعد الركوع يسيراً» .
ج - عن أنس بن مالك قال «سُئِل عن القنوت في صلاة الصبح، فقال: كنا نقنت قبل الركوع وبعده» رواه ابن ماجة.
د - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سرية يقال لهم القُرَّاءُ فأصيبوا، فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وَجَدَ على شئ ما وَجَدَ عليهم، فقنت شهراً في صلاة الفجر، ويقول: إن عُصَيَّةَ عَصَوا الله ورسوله» رواه البخاري ومسلم.(3/57)
هـ - عن خُفاف بن إيماءٍ بن رَحْضَةَ الغِفاري قال «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح ونحن معه، فلما رفع رأسه من الركعة الأخيرة قال: لعن الله لِحْيان ورِعْلاً وذَكْوان، وعُصَيَّة عَصَوْا الله ورسوله، أسلم سالمها الله، وغِفار غفر الله لها، ثم وقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجداً، فلما انصرف قرأ على الناس: يا أيها الناس إني أنا لستُ قلتُه ولكن الله عزَّ وجلَّ قاله» رواه أحمد وابن حِبَّان ومسلم.
فنقول لهؤلاء: أما الحديثان الخامس والرابع فيدلان على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قنت في صلاة الصبح وأن القنوت إنما كان لأجل حادثة القراء الذين قُتلوا، وهذان الحديثان لا يفيدان حصر القنوت في صلاة الفجر، وإنما يذكران واقعة عينٍ حصلت رآها الراوي فنقلها، فنقْلُ وقوع القنوتِ في صلاة الفجر لا ينفي وقوعه في غير صلاة الفجر كما هو ظاهر، بل إن عندنا أحاديث تذكر وقوع القنوت في صلاة الصبح وفي غير صلاة الصبح عند حادثة القراء هؤلاء، ما ينفي حصر وقوع القنوت في صلاة الفجر فحسب، فقد مرَّ حديث ابن عباس رضي الله عنه عند ابن خُزَيمة وأحمد وأبي داود والبيهقي والحاكم قبل قليل وفيه «قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، في دبر كل صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده في الركعة الأخيرة، يدعو على حيٍّ من بني سُلَيم على رِعْلٍ وذَكْوان وعُصَيَّة ... » .(3/58)
وثبت أيضاً أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان عند النوازل يقنت في الصبح وفي غير الصبح، مما ينفي اختصاص الصبح بالقنوت، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة من صلاة العشاء الآخرة قنت وقال: اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج سَلَمة بن هشام، اللهم أنج عيَّاش بن أبي ربيعة، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدُدْ وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسِنِي يوسف عليه السلام» رواه أحمد ومسلم وابن خُزَيمة وأبو داود وابن حِبَّان. وقد مرَّ الحديث قبل قليل بلفظ ابن حِبَّان. فهذا حديث في القنوت في صلاة العشاء، وأيضاً روى أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «والله لأُقَرِّبنَّ لكم صلاةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الآخرة من صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح، قال أبو عامر في حديثه العشاء الآخرة وصلاة الصبح بعدما يقول سمع الله لمن حمده، ويدعو للمؤمنين ويلعن الكفار، قال أبو عامر: ويلعن الكافرين» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي. فهذا حديث في القنوت في صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح. وروى البراء بن عازب رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت في الصبح والمغرب» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي. فهذا حديث في القنوت في صلاة الصبح وصلاة المغرب، ومثله ما رُوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال «كان القنوت في المغرب والفجر» رواه البخاري. فهل بقيت حجة لهؤلاء لحصر القنوت بصلاة الصبح عند النوازل؟.(3/59)
أما الحديثان الثالث والثاني فيدلان على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قنت في صلاة الصبح، وأن ذلك كان جواب سؤال، فالسائل سأل عن القنوت في صلاة الصبح فأجيب بالإيجاب، ولم يسأل السائل عن القنوت في غير الصبح لنرى هل يكون إثباتٌ أو نفيٌ، فلا دلالة في هذين الحديثين على حصر القنوت في صلاة الصبح، فلم يبق لهؤلاء من دليل يصلح لحصر القنوت في صلاة الصبح سوى الحديث الأول فقط وهو قوله «وأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا» . ونرد عليهم بما يلي:
أ - إن هذا الحديث يعارض الحديث السابق المار قبل قليل، وفيه «صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يقنت ... » رواه ابن حِبَّان والنَّسائي وابن ماجة والترمذي وابن أبي شيبة من طريق أبي مالك الاشجعي. ورواه أحمد بلفظ «قلت لأبي: يا أبتِ إنك قد صلي خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ههنا بالكوفة قريباً من خمس سنين أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني مُحْدثٌ» . فكيف نوفق بين هذين الحديثين المتعارضين؟ إنه لا بد من ردِّ أحدهما أو أن نلجأ إلى التأويل.
ب - إنه قد ثبت عندنا أن القنوت إنما كان مقيداً في الصلوات المفروضة بحلول النوازل، فقد مرَّت الأحاديث الدالة على ذلك فلا نعيد، فهذه الأحاديث أيضاً تتعارض مع هذا الحديث، فإما أن نرد هذا الحديث، وإما أن نلجأ إلى التأويل، ومما يدل أيضاً على ما نقول ما رواه أنس رضي الله عنه «أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم» رواه ابن خُزَيمة. وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يقنت إلا أن يدعو لأحد أو يدعو على أحد، وكان إذا قال سمع الله لمن حمده قال ربنا ولك الحمد، اللهم أنج..» رواه ابن خُزَيمة. ومثله روى ابن حِبَّان، فماذا يقول هؤلاء؟.(3/60)
ج - هذا الحديث مطعون فيه، إذ رواه أبو جعفر الرازي التميمي، وهذا الراوي قال فيه أحمد: ليس بقوي في الحديث. وقال علي بن المديني: إنه يَخْلِط. وقال أبو زُرْعة: إنه شيخ يَهِمُ كثيراً. وقال ابن معين: إنه يُكتب حديثه ولكنه يخطئ. وقال ابن حِبَّان (كان ينفرد عن المشاهير بالمناكير، لا يعجبني الاحتجاج بحديثه إلا فيما وافق الثقات) . فالحديث ضعيف لا يُحتج به ولا يصمد أمام الأحاديث الكثيرة الصحيحة والحسنة المعارضة له.
د - عندنا أحاديث صحيحة تُلقي الضوء على أن القنوت في صلاة الصبح إنما كان مؤقتاً بمدة شهر واحد فحسب، وأنه حصل عند وقوع نازلة القراء، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه «قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً بعد الركوع في صلاة الصبح يدعو على رِعْلٍ وذَكْوانَ ويقول: عُصَيَّةُ عصت الله ورسوله» رواه مسلم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قنت شهراً بعد الركوع في صلاة الفجر يدعو على بني عُصَيَّة» رواه مسلم. فكيف يروي أبو جعفر الرازي عن أنس رضي الله عنه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما زال يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا؟.(3/61)
هـ - إن هذا الحديث لا شك في أنه مُعارِضٌ لأحاديث صحيحة كثيرة، ومع التعارض يُترك هذا الحديث ويُعمَل بالأحاديث الصحيحة الكثيرة، وهذا القول لا بد منه إن نحن أخذنا بظاهر الحديث دون تأويل، ولكن يمكن أن نلجأ إلى التأويل رحمةً بمن صح عندهم هذا الحديث، وحاروا في التوفيق بينه وبين الأحاديث الكثيرة الصحيحة، فنقول: إن هذا الحديث يُحْمَل على أنه يعني بالقنوت طول القيام ولا يعني الدعاء المعروف، بمعنى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقف في صلاة الفجر أطولَ من وقوفه في غير هذه الصلاة، فهذا هو المعنى المقصود لهذا الحديث، وليس أنه عليه الصلاة والسلام كان يقنت بمعنى أنه كان يدعو، وأن وقوفه الطويل كان من أجل الإطالة في ذكر الله سبحانه، فهذا التأويل يَلجأُ إليه من أعمل الدليلين ولم يطرح أحدهما، يشهد له ما رواه محمد بن سيرين قال «حدَّثني مَن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الغداة، فلما رفع رأسه من الركعة الثانية قام هُنَيَّة» رواه أبو داود والدارقطني. ورواه النَّسائي بلفظ «حدثني بعض من صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح فلما قال: سمع الله لمن حمده، من الركعة الثانية قام هُنَيْهَةً» . وعلى كلا الوجهين أخذاً بظاهر الحديث أو أخذاً بالتأويل فإنه لا يُشرع القنوت الدائم في صلاة الصبح، ولا في أية صلاة مفروضة.(3/62)
ونقول أخيراً إن دعاء القنوت سواء ما كان منه في صلاة الفجر أو في غيرها من الصلوات المفروضة عند نزول الكوارث، أو ما كان منه في صلاة الوتر بشكل دائم، يكون بصوت مسموع يُجهَر به حتى يسمعه المُؤتمُّون خلفه فيُؤمِّنون معه، فقد مرَّ قبل قليل حديث ابن عباس الذي رواه ابن خُزَيمة وأحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وجاء فيه «قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، في دبر كل صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده في الركعة الأخيرة، يدعو على حيٍّ من بني سُلَيمٍ على رِعْلٍ وذَكْوانَ وعُصيَّة، ويُؤَمِّنُ مَن خلفه ... » .
لاحظ قوله «في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح» وقوله «ويُؤَمِّن مَن خلفه» ما يدل على مشروعية الجهر بالقنوت في الصلوات كلها الجهرية منها والسرية. وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع، فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد: أللهم أنج الوليد بن الوليد وسَلَمة بن هشام وعيَّاش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مُضَر، واجعلها سنين كسِنِي يوسف، قال يَجهَر بذلك ويقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: اللهم العن فلاناً وفلاناً، حيَّين من العرب، حتى أنزل الله عزَّ وجلَّ {لَيْسَ لَكَ مِن الأَمْرِ شَئ أَوْ يَتُوْبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يَعَذِّبَهُمْ فَإنَّهُمْ ظَالِمُوْنَ..} » رواه أحمد. فقد جاء فيه «يجهر بذلك» .
هـ. صلاة التراويح
سُميت صلاة التراويح بهذا الاسم لأن المصلين يستريحون فيها بعد كل أربع ركعات، فينالون ترويحةً والجمع تراويح. وهذه الصلاة هي من قيام الليل، ولكنها خاصة بشهر رمضان، فهي تعني قيام الليل في رمضان.(3/63)
أما حكم هذه الصلاة فهو الندب والاستحباب، ومَن صلاَّها إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُرغِّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة، فيقول: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه» رواه مسلم وأحمد ومالك وأبو داود والنَّسائي. قوله «مِن غير أن يأمرهم فيه بعزيمة» واضح الدلالة على الندب وعدم الوجوب. وأيضاً فقد روت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أصبح قال: قد رأيتُ الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلاَّ أني خشيت أن تُفْرض عليكم، وذلك في رمضان» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود ومالك. فقوله «إلاَّ أني خشيت أن تُفْرض عليكم» يدل قطعاً على عدم الوجوب، فلم يبق إلا الندب.(3/64)
وهذه الصلاة يجوز أن تُصلَّى جماعة ويجوز طبعاً أن تُصلَّى فرادى وهو الأصل في صلاة التطوع عامة، وإذا صُلِّيت جماعةً في البيوت كانت الفُضلى، تليها في الفضل الصلاة جماعة في المسجد، ثم الصلاة فُرادى في البيوت، وآخرها في الفضل الصلاة فُرادى في المسجد، فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال «احتجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُجَيرةً بخَصَفَةٍ أو حصيرٍ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيها، قال: فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته، قال ثم جاءوا ليلة فحضروا، وأبطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم، قال فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحَصَبُوا الباب، فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُغْضَباً، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما زال بكم صنيعكم حتى ظننتُ أنه سيُكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة» رواه مسلم والبخاري. ورواه النسائي ولفظه «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حجرة في المسجد من حصير، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها ليالي حتى اجتمع إليه الناس، ثم فقدوا صوته ليلةً فظنوا أنه نائم، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، فقال: ما زال بكم الذي رأيت من صُنعِكم حتى خشيت أن يُكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة» . قوله: احتجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُجَيرة بخَصَفَةٍ أو حصيرٍ: أي اتخذ له حجرة صغيرة من حصير، فالخَصَفة والحصير بمعنى واحد. يدل هذا الحديث على أن صلاة التراويح إن هي أُدِّيت في البيوت كانت أفضل من أدائها في المسجد. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال «صُمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمضان، فلم يَقُم بنا شيئاً من الشهر حتى بقي سبعٌ، فقام بنا حتى ذهب ثُلث الليل، فلما كانت السادسة لم يَقُم بنا، فلما(3/65)
كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلت: يا رسول الله لو نفلتَنا قيامَ هذه الليلة، قال فقال: إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسِب له قيامُ ليلة، قال فلما كانت الرابعة لم يقم، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، قال قلت: ما الفلاح؟ قال السحور، ثم لم يقم بنا بقية الشهر» رواه أبو داود وأحمد والنَّسائي والترمذي وابن خُزَيمة. قوله حتى بقي سبع: يعني ليلة الثالث والعشرين. وقوله فلما كانت السادسة لم يقم بنا: يعني ليلة الرابع والعشرين لم يقم فيها. وقوله فلما كانت الخامسة قام بنا: معناه ليلة الخامس والعشرين قام بها. وقوله فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا: معناه أنه قام بكل هؤلاء ليلة السابع والعشرين من رمضان. ويبدو أنها أفضل لياليه.
يفسر هذا الحديثَ ما رواه نعيم بن زياد أنه سمع النعمان بن بشير رضي الله عنه يقول على منبر حمص «قمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة ثلاث وعشرين في شهر رمضان إلى ثلث الليل الأول، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قام بنا ليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح، قال: وكنا ندعو السَّحور الفلاح ... » رواه أحمد والنَّسائي وابن خُزَيمة.(3/66)
يدل هذا الحديث على أفضلية صلاة التراويح جماعة في المسجد، إذ في ليالي رمضان الفردية من الشطر الأخير منه، أي في الليالي التي تُلتَمَس فيها ليلة القدر، صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمسلمين جماعة، وصلاها في المسجد. فهنا نصان يُظن أنهما متعارضان: الأول يدلُّ على أفضلية صلاة التراويح في البيوت، والثاني يدلُّ على أفضليةِ أدائها جماعةً في المسجد، فنقول مستعينين بالله المُعين: إن قوله - صلى الله عليه وسلم - في النص الأول «فصلُّوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة» يُؤخذ منه أن من أراد التطوع - والأصلُ في التطوع أداؤُه فردياً - فإن عليه أن يصلي في البيت، لأن الصلاة في البيت أفضل من الصلاة في المسجد، هذه هي القاعدة وهي الأصل في هذا الأمر. فمن أراد أن يصلي صلاة التراويح فإنَّ أداءه لها في البيت أفضل له من أدائه لها في المسجد، وهذا أمر غير مختلف عليه بين الفقهاء، وما دام هذا هو الأصل، فإننا نبني عليه القول إن الصلاة جماعةً في البيت هي الأفضل بلا شك، لأن الصلاة جماعةً الأصل فيها أنها أفضل من الصلاة الفردية، وهذا أمر غير مختَلَف عليه، فيكون من صلى التراويح جماعة في البيت قد جمع بين الأصلين وبين الأفضَلَين، أما من صلى فردياً في البيت فإنه يَعمل بأصل واحد فحسب، ومن صلى جماعةً في المسجد فإنه يعمل بأصل واحد فحسب أيضاً، وهنا لا بد من ترجيح أحد الأصلين على الآخر، وقد وجدنا حديث أبي ذر القائل «فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا» . فجَمْعُهُ أهلَه ونساءَه في صلاة التراويح جماعةً في المسجد ليلة السابع والعشرين - وهي على الأغلب ليلة القدر - وعدم تركه إياهم يصلون التراويح في البيت النبوي الكريم فردياً، يدل على أفضلية الصلاة جماعة في المسجد على الصلاة الفردية في البيوت، إذ لو كان العكس لما جمع أهله ونساءه في تلك الصلاة، فدل ذلك على أن(3/67)
الأخذ بالأصل الثاني - وأعني به الصلاة جماعةً في المسجد - أفضل من الأخذ بالأصل الأول وهو الصلاة الفردية في البيوت، فصارت الصلاة جماعةً في المسجد تأتي في المرتبة الثانية بعد الصلاة جماعة في البيوت.
فتبقى الصلاة الفردية في البيوت والصلاة الفردية في المسجد، وهنا لا تردد في تفضيل الأولى على الثانية، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد حسم هذه المسألة، حين لم يُصلِّ بالمسلمين في المسجد، وصار لا مفر لهم من الصلاة فردياً، قائلاً لهم «إن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» أي أشار عليهم بالعودة إلى بيوتهم وأداء صلاة التراويح فيها، لا أن يصلوها فردياً في المسجد.
وهنا قد يقال: ولماذا نفترض أنهم كانوا سيصلونها فردياً في المسجد ولن يصلوها جماعة فيه؟ فنقول: إنهم ما كان لهم أن يصلوا جماعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاضر لا يصلي معهم، ولا يأمرهم بصلاتها جماعةً بإمامةِ إمامٍ يعيِّنه من بينهم، وهذا ما حصل فعلاً، فقد عادوا إلى بيوتهم، وصلوها في بيوتهم في الليالي التي لم يخرج فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة بهم، ولم يُنْقَل أي نص بأنهم عقدوها جماعة في المسجد حينذاك.
وقد يقال ما دامت الصلاة جماعة في المسجد أفضل من الصلاة في البيوت فردياً فلماذا أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذهاب لأدائها في بيوتهم فردياً؟ أي لماذا فضَّل المفضول على الأفضل؟ فالجواب على ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام «خشيت أن يُكتب عليكم ولو كُتب عليكم ما قمتم به» فخشيته - صلى الله عليه وسلم - من فرض صلاة التراويح على المسلمين إن هو داوم عليها جماعة في المسجد هو الذي منعه من أدائها جماعة في المسجد بشكل دائم، ولولا ذلك لربما كان منه الأمر مختلفاً.(3/68)
أما عدد ركعات صلاة التراويح، فإن الشرع لم يحدِّد عدداً معيناً يُلتَزَم به، ولكنَّ أفضل ما تُصلى به من الركعات ثمانٍ تعقبها ثلاث ركعات من الوتر، لأن هذا العدد هو ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من فعله، فعن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة رضي الله عنها «كيف كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان؟ فقالت: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تَسَلْ عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تَسَلْ عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً ... » رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود. قول عائشة ثم يصلي ثلاثاً: يعني صلاة الوتر. وعنها رضي الله عنها قالت «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة منها الوتر وركعتا الفجر» رواه البخاري. وعنها رضي الله عنها قالت «كان - أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمانَ رَكَعات ثم يوتر ... » رواه مسلم. فصلاته عليه الصلاة والسلام بالليل كانت ثماني ركعات عدا الوتر، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: جاء أُبيُّ بن كعب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال «يا رسول الله إنه كان مني الليلةَ شئ - يعني في رمضان - قال: وما ذاك يا أُبيُّ، قال: نسوةٌ في داري قُلن: إنَّا لا نقرأ القرآن فنصلي بصلاتك قال: فصليت بهن ثماني ركعات ثم أوترت، قال فكان شبه الرضا، ولم يقل شيئاً» رواه ابن حِبَّان. ورواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط، وحسَّن الهيثمي إسناده.(3/69)
ولكن تجوز زيادة صلاة التراويح إلى أن تبلغ عشرين ركعة يعقبها الوتر ركعة واحدة، أو ثلاث ركعات، رُوي ذلك عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلو كانت الركعات الثماني مُلْزِمةً لما تجاوزها صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما حصل منهم تجاوزُها دل ذلك على عدم وجوب الالتزام بالركعات الثماني، لا سيما وأنهم لم يتجاوزوها فردياً أو في بيوتهم، وإنما حصل ذلك منهم في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينكر ذلك أحدٌ منهم فكان إجماعَ صحابة، وإجماعُ الصحابة دليل شرعي، فعن السائب بن يزيد قال «كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة، قال وكانوا يقرأون بالمئين، وكانوا يتوكأون على عِصِيِّهم في عهد عثمان رضي الله عنه من شدة القيام» رواه البيهقي. قوله يقرأون بالمئين: أي يقرأون السور الطويلة التي آياتها بالمئات. الحديث ذكر صلاة التراويح فحسب وأنها عشرون ركعة، وعن عبد الرحمن بن عبدٍ القارِّيُّ قال «خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاعٌ متفرِّقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبيِّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نِعْمت البدعةُ هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يعني آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله» رواه البخاري ومالك. قول عمر نِعْمَت البدعةُ هذه: تفسَّر بمقتضى اللغة، ومعناها العمل البديع الجيد، ولا تفسَّر بالمعنى المستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام «كل مُحْدَثَةٍ بدعة وكلُّ بدعة ضلالة» رواه أبو داود من طريق العرباض. وذلك لأن فعل عمر هذا لم يكن أمراً مُحْدَثاً، ولم يكن من ثمَّ بدعةً محرَّمة، لأنَّا روينا قبل قليل أنه عليه الصلاة والسلام قد صلى عدداً من ليالي رمضان في المسجد صلاة(3/70)
التراويح جماعةً «فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا» رواه أبو داود وغيره من طريق أبي ذرٍّ رضي الله عنه. فعمر رضي الله عنه لم يُحْدِث أمراً جديداً بجمع الناس على أُبيِّ بن كعب، وبالتالي فليس فعله بدعةً تندرج تحت قوله عليه الصلاة والسلام «كل مُحْدَثةٍ بدعة وكل بدعة ضلالة» .
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يكتفي بثماني ركعات، وصحابته رضوان الله عليهم زادوها في عهد عمر رضي الله عنه إلى عشرين ركعة، وكان يؤُمُّهم أبيُّ بن كعب الذي روينا عنه آنفاً أنه صلاَّها في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثماني ركعات إماماً للنسوة اللاتي كن في بيته، فدل كل ذلك على الجواز. ولا يعجبني قول من يقول بزيادتها إلى أن يبلغ بها الأربعين ركعة، فنحن أمامَنا فعلُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعل صحابته، وليس بعد هذين الفعلين من فضلٍ يُلتَمَس أو خيرٍ يُطلَب.
أما القراءة في صلاة التراويح فلم يرد فيها اختصاصٌ بسورٍ معينة، فلْيقرأ المسلم ما شاء من كتاب الله سبحانه، ولْيطوِّل ما وسعه التطويل، خاصةً إن هو صلاَّها منفرداً.
أما ما يفعله ناسٌ في زماننا هذا من قراءة آية قصيرة واحدة في الركعة الواحدة، وربما كانت لا تفيد معنى قائماً بنفسها مِن مثل {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} أو {وَتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِيْنَ} أو {مُدْهَامَّتَان} فهو دالٌّ على جهلٍ وعزوف منهم عن ثواب الله سبحانه، وعلى إساءة في أداء هذه الصلاة التي يقال فيها إنها قيام الليل في رمضان، وما يعنيه قيام الليل هذا من الإطالة والاستغراق.
و. قيام الليل(3/71)
ويقال أيضاً صلاة الليل، كما يقال التهجد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ. قُم الليْلَ إلا قَلِيْلاً} الآيتان 1، 2 من سورة المزمل، وقال سبحانه {ومِن الليْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَىْ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامَاً مَحْمُوْدَاً} الآية 79 من سورة الإسراء. وقد مرَّ في بحث [الوتر] حديث ابن عمر رضي الله عنه «أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاةُ الليل مَثْنى مَثْنى..» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي.
ونحن لسنا في حاجة لإطلاق التهجُّدِ على صلاة الليل إن كانت بعد نومٍ كما يرى ذلك عدد من الفقهاء، مستدلين على ذلك بأن التهجد والهُجود لغةً يعني النوم، من هجد يهجد إذا نام، ولهذا قالوا: التهجد لا يكون إلا بعد نومٍ من الليل، فإذا صلى بعد العشاء قبل أن ينام فإن صلاته لا تكون تهجداً. نعم نحن لسنا في حاجة لهذا التقييد، أولاً لأن حُكم التهجد هو حُكم صلاة الليل نفسه دون فارق بينهما، وثانياً لأن كلمة هجد يهجد كما أنها تعني نام ينام، فإنها تعني أيضاً سهر يسهر، فهي من الأضداد، وبذلك يصح إطلاق التهجد على الصلاة قبل النوم كما يصح إطلاقه عليها بعد النوم.
أما فضل قيام الليل فهو عظيم لا يفوقه سوى فضل الصلوات المكتوبة فحسب، فقيام الليل أفضل صلوات التطوع بما فيها السنن الرواتب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرَّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» رواه الترمذي. وفي رواية من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال «سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: الصلاة في جوف الليل، قيل: أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: شهر الله الذي تدعونه المحرَّم» رواه أحمد ومسلم والنَّسائي.(3/72)
وقد وردت عدة نصوص تحث على قيام الليل أذكر منها ما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «رحم الله رجلاً قام من الليل فصلَّى وأيقظ امرأته فصلَّت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلَّت وأيقظت زوجها فصلَّى، فإن أبى نضحت في وجهه بالماء» رواه أحمد وابن حِبَّان وأبو داود والترمذي والنَّسائي. وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ثلاثة يضحك الله إليهم: الرجل إذا قام من الليل يصلي، والقوم إذا صَفُّوا للصلاة، والقوم إذا صفُّوا للقتال» رواه أحمد وأبو يعلى. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل» رواه البخاري ومسلم. وروى أبو أُمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قُربة لكم إلى ربكم، ومُكَفِّرةٌ للسيئات، ومَنْهاةٌ عن الإثم» رواه الترمذي وابن خُزَيمة والطبراني والحاكم.(3/73)
وقد كان قيام الليل مفروضاً وواجباً طيلة عام كامل منذ أن نزل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلْ. قُم الليْلَ إلا قَلِيْلاً} الآيتان 1، 2 من سورة المزَّمِّل. ثم إنَّ حُكم الوجوب قد نُسخ ليصبح قيام الليل مندوباً مستحباً فحسب بقوله سبحانه {إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُوْمُ أَدْنَىْ مِنْ ثُلُثَي الليْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِن الذِيْنَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ الليْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ ألَّنْ تُحْصُوْهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوْا مَا تَيَسَّرَ مِن القُرْآنِ ... } الآية 20 من سورة المزمل. قوله علم ألَّنْ تُحْصُوه: أي علم أن لن تطيقوه ولن تستطيعوه. فعن سعد بن هشام بن عامر «أنه جاء إلى عائشة رضي الله عنها يسألها ... أنبئيني عن قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: ألستَ تقرأ يا أيها المزمل؟ قلت: بلى قالت: فإن الله عزَّ وجلَّ افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حولاً، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة ... » من حديث طويل رواه مسلم والنَّسائي. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال في المزَّمِّل « {قُم الليْلَ إلا قَلِيْلاً نِصْفَهُ} نسختها الآية التي فيها {عَلِمَ ألَّنْ تُحْصُوْهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوْا مَا تَيَسَّرَ مِن القُرْآنِ} ... » رواه أبو داود.(3/74)
أما وقت قيام الليل فهو موسَّع تماماً كوقت الوتر وكوقت صلاة التراويح، يمتد من بعد صلاة العشاء إلى أذان الفجر، أي طلوع الفجر، وأفضلُه آخِرَ الليل لما رُوي أن عمرو بن عبسة قال «قلت: يا رسول الله أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الآخِر، فصلِّ ما شئت» رواه أبو داود والحاكم والترمذي. فمن أحبَّ أن ينال الفضيلة التامة لقيام الليل فلْيصلِّه في آخر الليل، وكلما اقترب بصلاته من آخر الليل تحقَّق من نوال الفضيلة التامة، فعن مسروق قال «سألت عائشة عن عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: كان يحب الدائم، قال قلت: أي حين كان يصلي؟ فقالت: كان إذا سمع الصارخ قام فصلى» رواه مسلم والنَّسائي وأبو داود والبخاري وأحمد. قوله الصارخ: أي الديك وهو يصرخ في آخِر الليل قبيل طلوع الفجر. وهذا كله إن كان المرء يريد أن يصلي قليلاً من قيام الليل.(3/75)
أما إن أراد أن يصلي مقدار ثلث الليل، فلْيجعل صلاته في الثلث الأخير، وإن هو أراد أن يصلي مقدار نصف الليل، فليبدأ بمنتصف الليل وينتهي في آخره، وإن هو أراد الزيادة فلْيبدأ عقب ثلث الليل الأوَّل، ولا يُفَضَّل أن يُزاد على ذلك، بل لا بد للمرء من أخذ قسط من النوم فلا يصلي الليل كله، وفي كلٍّ وردت أحاديث أذكر منها ما يلي: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من خاف أن لا يقوم من آخِر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخِره فليوتر آخِر الليل، فإن صلاة آخِر الليل مشهودة وذلك أفضل» رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجة. وفي رواية أخرى لمسلم من طريق جابر «أيُّكم خاف أن لا يقوم من آخر الليل فلْيوتر ثم ليرقد، ومن وثق بقيامٍ من الليل فلْيوتر من آخِره، فإن قراءة آخِر الليل محضورة وذلك أفضل» . وقد مرَّت الروايتان في بحث [الوِتر] . وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «ينزل ربنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: مَن يدعوني فأستجيب له، مَن يسألني فأعطيه، مَن يستغفرني فأغفر له» رواه البخاري ومسلم وابن ماجة وأبو داود. وفي روايةٍ لمسلم من طريق أبي هريرة بلفظ «إذا قُضي شطرُ الليل أو ثلثاه ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا ... » . فتردد بين شطر الليل وثلث الليل الأخير، ومثله ما جاء في رواية ثالثة عند مسلم من طريق أبي هريرة بلفظ «ينزل الله في السماء الدنيا لشطر الليل أو لثلث الليل الآخِر» . فهذه الروايات الثلاث صرَّحت بذكر الثلث الآخِر من الليل، وترددت روايتان منها بين شطر الليل والثلث الآخِر من الليل، وجاءت رواية رابعة رواها مسلم من الطريق نفسها بلفظ «ينزل الله إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول» . وبمثلها جاءت روايات عند أحمد وأبي داود والنَّسائي والترمذي وابن ماجة من طريق أبي(3/76)
هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما. فهذه الروايات تذكر ثلث الليل الأول وليس الآخِر، فهي معارِضة للروايات الأولى وخاصة الروايةَ الصحيحة القوية التي رواها البخاري ومسلم وابن ماجة وأبو داود. وقد رجَّح جمهرة علماء الحديث رواية البخاري ومسلم وابن ماجة وأبي داود على رواية مسلم الرابعة، فالعمل برواية البخاري ومسلم وابن ماجة وأبي داود أولى، ويشهد لهذه الرواية الصحيحة القوية ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: أَحَبُّ الصلاة إلى الله صلاةُ داود عليه السلام، وأَحَبُّ الصيام إلى الله صيامُ داود، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سُدُسه، ويصوم يوماً ويفطر يوماً» رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة وأحمد.
فلو افترضنا أن الليل هنا اثنتا عشرة ساعة عصرية، فإن الثلث الآخِر يكون آخر أربع ساعات من الليل، ويكون الشطر ست ساعات، فلما نام داود عليه السلام نصف الليل الأول وقام ثلثه فإنه يكون قد صلى ساعتين من الساعات الأولى للثلث الآخِر من الليل ونام ساعتين منه أي نام سدس الليل، أي أنه صلى في ثلث الليل الآخر، فنال الفضيلة التامة. وهذا الحديث يشهد أيضاً للروايتين اللتين ترددتا بين شطر الليل وثلثه الأخير، فالفضيلة التامة يمكن أن تُنال بالبدء في الصلاة عند منتصف الليل، فداود عليه السلام كان ينام نصف الليل، أي ينام الساعات الست الأولى من الليل، ويقوم عند منتصف الليل، فيصلي ثُلُثاً من الليل بادئاً بمنتصف الليل، وبذلك يصلي ساعتين قبل ثلث الليل الآخر، ثم يصلي ساعتين أخريين من ثلث الليل الآخِر، وبذلك فإنه يصلي أربع ساعات، وهي تعادل ثلث الليل كما يقول الحديث «ويقوم ثلثه» . فهذا الثلث يجمع بين ساعتين قبل ثلث الليل الأخير وساعتين من ثلث الليل الأخير، فهو يجمع بين العمل بنصف الليل والعمل بثلث الليل الآخر.(3/77)
ولكني أعود فأُذكِّر بأنّ وقت صلاة الليل موسَّع، يبدأ عقب صلاة العشاء، وإنما أحببت فقط أن أنوِّه بوقت الفضيلة التامة، وأنها تتردد بين نصف الليل الثاني وثلث الليل الآخِر.
أما قوله سبحانه في سورة المُزَّمِّل {قُم الليْلَ إلا قَلِيْلاً. نِصْفَهُ أَو انْقُصْ مِنْهُ قَلِيْلاً. أو زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّل القُرْآنَ تَرْتِيْلاً} الآيات 2، 3، 4 من السورة. وقوله سبحانه في السورة نفسها {إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُوْمُ أَدْنَىْ مِنْ ثُلُثَي الليْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِن الذِيْنَ مَعَكَ ... } الآية 20 من السورة. فإن هذا القول وذاك ليس في موضوع وقت الفضيلة التامة، وإنما هو متعلق بقدر قيام الليل، فلا يتعارض هذا مع الأحاديث النبوية التي حدَّدت وقت الفضيلة التامة بنصف الليل الثاني، وبثلث الليل الآخِر، وإنما معنى ما جاء في كتاب الله سبحانه أن قيام الليل لمن شاء التطويل هو بقدر نصف الليل، وعندها يبدأ بالصلاة عند منتصف الليل، وهذا يشمل الثلث الآخر من الليل. ويكون بقدر ثلث الليل، وهذا ظاهر. ويكون بقدر ثلثي الليل، وعندها يبدأ بالصلاة عقب انصرام ثلث الليل الأول، ويستمر إلى آخر الليل، فيشمل هو الآخر ثلث الليل الآخِر. ومثله {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} فهو أيضاً يبدأ قبل منتصف الليل ويستمر حتى آخره فيدخل فيه ثلث الليل الآخِر. وهكذا فإن ثلث الليل الآخر يدخل في جميع أحواله - صلى الله عليه وسلم -، في الصلاة التي ذكرت في المزَّمِّل في الموضعين منها.(3/78)
وهذا كله متعلق بحق من يقوم الليل وحده في بيته، أما إن كان قيام الليل جماعةً في مسجد، ويكون بصلاة التراويح، فلْيكن ذلك في أول الليل عقب صلاة العشاء، لأن هذا هو ما كان عليه حال صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد مرَّ في بحث [صلاة التراويح] ما رواه البخاري ومالك «فقال عمر: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل مِن التي يقومون، يعني آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله» .
أمَّا كم ركعات قيام الليل؟ فما قلته في صلاة التراويح أُعيد قوله هنا وهو أن الشرع لم يحدد لها عدداً معيناً يُلْتَزَم به، ولكنَّ أفضل ما تُصلى به من الركعات ثمان تعقبها ثلاث ركعات من الوتر، لأن هذا العدد هو ما رُوي عنه من فعله - صلى الله عليه وسلم -، فصلاة التراويح هي قيام الليل، وإنما خُصّت بهذا الاسم في شهر رمضان دون غيره من أشهر السنة. وقد مرَّ في بحث [صلاة التراويح] حديث أبي سَلَمة بن عبد الرحمن «أنه سأل عائشة رضي الله عنها: كيف كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان؟ فقالت: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسل عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسل عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً ... » رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود وابن خُزَيمة. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمسٍ، لا يجلس في شئ إلا في آخرها» رواه مسلم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر وركعتا الفجر» رواه البخاري. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال «كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة ركعة، يعني بالليل» رواه البخاري وابن حِبَّان. وعن عائشة أُم المؤمنين رضي الله عنها وقد سألها أبو سلمة عن صلاة رسول الله -(3/79)
صلى الله عليه وسلم - فقالت «كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمانَ ركعات ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع، ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح» رواه مسلم. وعن عامر الشعبي قال «سألت عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل فقالا: ثلاث عشرة ركعة منها ثمانٍ، ويوتر بثلاث، وركعتين بعد الفجر» رواه ابن ماجة.
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل ثماني ركعات، ثم يصلي الوتر، فربما صلى الوتر ثلاثاً وهو الأشهر والأغلب، وربما صلاه خمساً، وربما صلاه أكثر من ذلك أو أقل. والذي يهمُّنا هنا هو صلاة الليل، ففي الحديث الأول جاء أنه صلى أربعاً وأربعاً، أي صلى ثماني ركعات عدا الثلاث التي هي صلاة الوتر هنا، وجاء في الحديث الثاني أنه صلى ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس، أي أنه صلى هنا ثماني ركعات أيضاً، وجاء في الحديث الثالث أنه كان يصلي ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر، أي أنه كان يصلي ثماني ركعات، ثم ثلاثاً الوتر، ثم ركعتين سنة الفجر، وجاء في الحديث الرابع أنه صلى ثلاث عشرة ركعة، هكذا مجملةً دون تفصيل، وهي روايةٌ عن ابن عباس، وجاء في الحديث السادس المروي عن ابن عباس وابن عمر تفصيل هذا المجمل «ثلاث عشرة ركعة منها ثمانٍ، ويوتر بثلاث، وركعتين بعد الفجر» . فهو أيضاً يدل على أنه صلى ثماني ركعات، وجاء في الحديث الخامس أنه كان يصلي ثماني ركعات ثم يوتر. وهكذا فإن جميع هذه الأحاديث تدل صراحة أو دلالة على أن صلاة الليل ثماني ركعات.(3/80)
ولكن جاءت أحاديث أخرى أقلُّ عدداً تذكر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى أكثر من ذلك تارة، وأقل من ذلك تارة أخرى، فمثلاً روى عبد الله بن قيس بن مَخْرمة عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال «لأرْمُقَنَّ صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة» رواه مسلم ومالك وابن ماجة. فهذا الحديث ذكر عشر ركعات لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدا الوتر، والركعتين الخفيفتين في بدء صلاته، وروى البخاري مثل ذلك عن ابن عباس.(3/81)
وفي المقابل روى مسروق «أنه دخل على عائشة فسألها عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل؟ فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة من الليل، ثم إنه صلى إحدى عشرة ركعة ترك ركعتين، ثم قُبض - صلى الله عليه وسلم - حين قُبض وهو يصلي من الليل تسع ركعات، آخر صلاته من الليل والوتر ثم ربما جاء إلى فراشي هذا، فيأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة» رواه ابن حِبَّان. فهنا تذكر عائشة رضي الله عنها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد ترك ركعتين، أي أنه أنقص من عدد ركعات صلاة الليل ثِنتين، فلما عُلِم أنها أسهبت رضي الله عنها في نقل الركعات الثماني حين كانت تذكر مجمل صلاته ثلاث عشرة ركعة، عُلِم أنها إنما قصدت من قولها هذا «أنَّه صلى إحدى عشرة ركعة، ترك ركعتين» ، أنه صار يصلي في آخر عهده ست ركعات من صلاة الليل عدا الثلاث من الوتر، فيكون المجموع تسع ركعات كما جاء في الحديث. أما قولها إنه صلى إحدى عشرة ركعة فيُحمل على أنها أضافت ركعتي الفجر، أو الركعتين الخفيفتين، ولم تحتسبهما من صلاة الليل، فصار العدد كله إحدى عشرة ركعة. وربما كانت الزيادة منه - صلى الله عليه وسلم - مرة، والنقص منه مرة أخرى في عدد ركعات صلاة الليل لأجل بيان الجواز وعدم وجوب الاقتصار على ثماني ركعات. فصلاة الليل كصلاة التراويح ثماني ركعات مع جواز الزيادة عليها والنقص منها.
والسُّنة في قيام الليل أن تُفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين كما جاء ذلك في الحديث المار أعلاه، حديثِ زيد بن خالد الجهني «فصلى ركعتين خفيفتين» . وكذلك روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين» رواه مسلم وأحمد. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل ليصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين» رواه مسلم والبخاري وأحمد وأبو داود.(3/82)
ومن السُّنَّة كذلك أن يقوم المرء بتنظيف أسنانه بالسواك أو بالفرشاة قبل الدخول في الصلاة، فقد روى حذيفة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام للتهجُّد من الليل يَشُوص فاه بالسِّواك» رواه البخاري ومسلم والنَّسائي وابن حِبَّان.
ومن السُّنة أيضاً أن يدعو المسلم بما تيسر له من أدعية مأثورة قبل القيام بالصلاة. وقد اخترت لكم هذا الدعاء والذكر الذي رواه ابن عباس رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يتهجَّد قال: اللهم لك الحمد، أنت قَيِّم السموات والأرض ومَن فيهن، ولك الحمد، لك مُلْكُ السموات والأرض ومَن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومَن فيهن، ولك الحمد أنت مَلِكُ السموات والأرض، ولك الحمد أنت الحقُّ ووعدُك الحقُّ ولقاؤُك حقٌّ وقولُك حقٌّ، والجنة حق والنار حق، والنبيون حق، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمتُ وبك آمنت، وعليك توكلت وإليك أنبت، وبك خاصمت وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت - أو - لا إله غيرك» رواه البخاري. ورواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي باختلاف في الألفاظ.
ولمن شاء دعاءً أخفَّ وأسهل في الحفظ، فلْيقل ما رواه عُبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا استُجيب له، فإن توضأ قُبلت صلاته» رواه البخاري وابن حِبَّان. ورواه ابن ماجة بزيادة [العليِّ العظيم] لتصبح «ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» .(3/83)
ويجوز في صلاة الليل الجهر كما يجوز الإسرار، ويجوز رفع الصوت كما يجوز الخفض، هذا إن كان المسلم يصلي منفرداً دون أن يصلي إلى جواره أحد، فإن صلى في مسجد أو مكان فيه آخرون يصلون، فلْيخفض صوته كي لا يشوِّش على مَن عنده من المصلين فعن عبد الله بن أبي قيس قال «سألت عائشة ... كيف كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل أيجهر أم يُسِرُّ؟ قالت: كلَّ ذلك قد كان يفعل، وربما جهر وربما أسرَّ» رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل يرفع طوراً ويخفض طوراً» رواه أبو داود. ورواه ابن ماجة قريباً من ذلك، وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال «اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: ألا إنَّ كلَّكم مناجٍ ربه فلا يُؤذيَنَّ بعضُكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعضٍ في القراءة، أو قال، في الصلاة» رواه أبو داود وابن خُزَيمة.(3/84)
وكما تُقضى السنن الرواتب فإن من واظب على قيام الليل فأخذته نَوْمة، أو مَرِضَ من ليلته، أو شُغل عنه قضاه في نهاره المقبل، وقضاه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، فقد روى سعد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره صلى من النهار ثِنتي عشرة ركعة» رواه مسلم والنَّسائي. وفي رواية أخرى عند مسلم من طريق سعد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عمل عملاً أثبته، وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثِنْتَي عشرة ركعة ... » . وعن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من نام عن حزبه أو عن شئ منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنما قرأه من الليل» رواه مسلم والنَّسائي وابن ماجة وأبو داود وابن خُزَيمة.(3/85)
وكما في كل عبادة فإن المسلم يقوم بما في وسعه وبما يطيق وبما لا يشق عليه، لأن الله سبحانه لا يَملُّ حتى يَملَّ عبدُه، فكذلك في صلاة قيام الليل، فعن عائشة رضي الله عنها قالت «دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي امرأة فقال: مَن هذه؟ فقلت: امرأةٌ لا تنامُ تصلي، قال: عليكم من العمل ما تطيقون، فوالله لا يملُّ الله حتى تملُّوا ... » رواه مسلم. ورواه أحمد وابن حِبَّان بلفظ «إن الحولاء بنت تويت مرت على عائشة وعندها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت فقلت: يا رسول الله هذه الحولاء زعموا أنها لا تنام الليل، فقال: لا تنام الليل! خذوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا» . فلْيجهد المسلم في الإطالة ما وسعه ذلك، حتى إذا حصلت لديه مشقَّةٌ بالغة، وصار لا يطيق الاستمرار توقف عن الصلاة ونام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآنُ على لسانه فلم يدر ما يقول فليضطجع» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي.
ز. صلاة الضُّحى(3/86)
وهذه الصلاة تسمَّى صلاة الأوَّابين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أوَّاب قال: وهي صلاة الأوَّابين» رواه ابن خُزَيمة والحاكم. قوله الأوَّاب: أي كثير الرجوع بالتوبة إلى الله عزَّ وجلَّ. ولصلاة الضحى فضل عظيم وثواب كبير، فمن فضلها أن من صلى ثِنتي عشرة ركعة من هذه الصلاة بنى الله له قصراً في الجنة، وهو الفضل الذي يحصل عليه مَن صلى ثنتي عشرة ركعة من السنن الراتبة في اليوم، وقد مرَّ في بحث [السنن الملحقة بالسنن الراتبة المؤكدة] . فكأن الركعة من صلاة الضحى تعدل الركعة من السنن الراتبة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «مَن صلى الضحى ثِنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً من ذهب في الجنة» رواه ابن ماجة والترمذي.
ومن فضل هذه الصلاة أن ركعتين منها تُجزئان وتعدلان ثلاثمائة وستين صدقة، فأكْرِم به من فضل. فعن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «في الإنسان ثلاثُمائةٍ وستون مِفْصلاً، فعليه أن يتصدق عن كل مِفْصل صدقة، قال: ومن يطيق ذلك يا نبي الله؟ قال: النُّخامة في المسجد تدفنها، أو الشئ تُنَحِّيه عن الطريق، فإن لم تقدر فركعتا الضحى تُجْزِئك» رواه ابن خُزَيمة وابن حِبَّان. وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «يُصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمرٌ بمعروفٍ صدقة، ونهيٌ عن منكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي وابن خُزَيمة.(3/87)
ومن فضل هذه الصلاة أن الله سبحانه وتعالى يتكفَّل لصاحبها بأن يكفيه يومه الذي يصليها فيه، وجاءت الكفاية عامة لتشمل الحفظ من الشيطان، وتوفير الرزق الحلال وردَّ الشر والمكروه، وما إلى ذلك، فقد روى نُعيم بن هَمَّار الغَطَفَاني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن ربه تبارك وتعالى أنه قال «يا ابن آدم صلِّ لي أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره» رواه ابن حِبَّان والنَّسائي وأبو داود وأحمد.
وإلى من كثرت خطاياه وتعاظمت ذنوبه ورغب في التوبة ومغفرة هذه الذنوب مهما بلغت، فلْيستمع إلى هذا الحديث ولْيعمل بمقتضاه: عن معاذ بن أنس الجُهَني رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يُسبِّح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيراً، غُفِر له خطاياه وإن كانت أكثر من زبد البحر» رواه أبو داود والبيهقي. فإذا علمنا أن صلاة الصبح تسبق طلوع الشمس بحوالي ساعة إلى ساعة ونصف من ساعاتنا، وأن صلاة الضحى تكون عند ارتفاع الشمس من جهة المشرق كارتفاعها من جهة المغرب عند صلاة العصر، ويقدر ذلك بساعتين ونصف إلى ثلاث ساعات، علمنا أن الوقت الذي يحتاج إليه الراغب في التوبة ومغفرة الله سبحانه لذنوبه يُقَدَّر بحوالي أربع ساعات من ساعاتنا يُمضيها في مصلاه الذي صلى فيه صلاة الصبح، يذكر الله سبحانه فيها ويدعوه، ويقرأ القرآن، ثم يقوم في آخرها بأداء ركعتين اثنتين، فهذا بابٌ للتائبين عظيم.(3/88)
أما وقت صلاة الضحى فيبدأ حين ترتفع الشمس وتبيضُّ، ولزيادة الدقة نقول: إن وقتها يبدأ عند ارتفاع الشمس من جهة المشرق كارتفاعها من جهة المغرب عند صلاة العصر، فهي تقابل العصر، العصر في آخِر النهار والضحى في أوَّلِه، ويستمر وقتها إلى منتصف النهار، فعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل قُباء وهم يصلون الضحى فقال: صلاة الأوَّابين إذا رمضت الفِصال من الضحى» رواه أحمد وابن خُزَيمة وابن أبي شيبة والطبراني. ورأى زيد بن أرقم رضي الله عنه قوماً يصلون من الضحى فقال «أما لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صلاة الأوَّابين حين ترمض الفِصال» رواه مسلم وابن حِبَّان والبيهقي. قوله إذا رمضت الفِصال في الحديث الأول، وقوله حين ترمض الفصال في الحديث الثاني: يعني إذا احترقت أَخفاف صغار الإبل، أي إذا اشتد الحر فسخن الرمل فلم تستطع الجمال الصغيرة المشي فوقه. وقد قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهالي قُباء عندما رآهم يصلون الضحى في أول النهار، فبيَّن لهم أن وقت صلاة الضحى يبدأ عند ارتفاع الشمس وسخونة الأرض وليس في أول النهار، وهذا المعنى قد رُوي عن عليٍّ رضي الله عنه، فقد روى أبو رملة عن عليٍّ رضي الله عنه «أنه رآهم يصلون الضحى عند طلوع الشمس فقال: هلاَّ تركوها حتى إذا كانت الشمس قدر رمح أو رمحين صلُّوها، فتلك صلاة الأوَّابين» رواه ابن أبي شيبة. وعنه رضي الله عنه قال «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الضحى حين كانت الشمس مِن المشرق من مكانها من المغرب من صلاة العصر» رواه أحمد والنَّسائي والترمذي وابن ماجة.(3/89)
أما عدد ركعات صلاة الضحى فأقله ثِنتان، ولا حدَّ لأكثره، وكان الغالب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة ما بين أربع ركعات إلى ثمانٍ، وهي تُصلى ثِنتين ثِنتين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت، صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر» رواه البخاري ومسلم وأحمد. ورواه ابن حِبَّان ولفظه «وصلاة الضحى ركعتين» . وفي لفظ للبيهقي ومسلم «وركعتي الضحى» . ورواه ابن خُزَيمة بلفظ « ... وأن لا أدع ركعتي الضحى فإنها صلاة الأوَّابين» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «أوصاني خليلي بركعتي الضحى» رواه ابن أبي شيبة. وقد مرَّ قبل قليل حديثُ معاذ بن أنس الجُهَني وفيه «يسبح ركعتي الضحى» . وحديثُ أبي ذرٍّ وفيه «ركعتان يركعهما من الضحى» . وحديثُ بريدة وفيه «فركعتا الضحى تُجزئك» . فهذه نصوص على أن صلاة الضحى تكون ركعتين اثنتين.
وعن معاذة «أنها سألت عائشة: كم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الضحى؟ قالت: أربع ركعات، ويزيد ما شاء الله» رواه مسلم وأحمد وابن ماجة والنَّسائي والترمذي. ومرَّ قبل قليل حديث نُعيم بن هَمَّار وفيه «يا ابن آدم صلِّ لي أربع ركعات في أول النهار ... » . فهذان نصَّان يدلان على أن صلاة الضحى تكون أربع ركعات.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرض عليه بعيراً لي، فرأيته صلى الضحى ست ركعات» رواه الطبراني. فهذا نصٌّ يدلُّ على أن صلاة الضحى تكون ست ركعات.(3/90)
وعن حذيفة رضي الله عنه قال «خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حَرَّةِ بني معاوية، فصلى الضحى ثمان ركعات طوَّل فيهنَّ» رواه ابن أبي شيبة. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيتي، فصلى الضحى ثمانَ ركعات» رواه ابن حِبَّان. وعن أم هانئ رضي الله عنها قالت «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل بيتها يوم فتح مكة، فاغتسل وصلى ثماني ركعات، فلم أر صلاة قطُّ أخفَّ منها، غير أنه يتم الركوع والسجود» رواه البخاري ومسلم وابن خُزَيمة وأحمد والدارمي. ورواه ابن حِبَّان وابن أبي شيبة بلفظ «فصلى الضحى ثمان ركعات» . وفي رواية لمسلم ومالك بلفظ «قالت أم هانئ: وذلك ضحى» . فهذه نصوص تدلُّ على أن صلاة الضحى تكون ثماني ركعات.
وقد مرَّ في هذا البحث حديث أنس بن مالك وفيه «مَن صلى الضحى ثِنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً من ذهب في الجنة» . وهذا نصٌّ على أن الضحى تكون ثِنتي عشرة ركعة.
والمُحصِّلة هي أن صلاة الضحى أقلُّها ثِنتان، ولا حدَّ لأكثرها، فلْيصلِّ المرء ما شاء منها، ولْيَجْنِ ما أكرمه الله به من ثواب وجزاء.
وهذه الصلاة تُؤدَّى انفرادياً وتؤدَّى جماعةً، فقد روى عِتبان بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في بيته سُبحة الضحى، فقاموا وراءه فصلوا بصلاته» رواه أحمد والبخاري ومسلم وابن خُزَيمة.
إلا أن هناك عدداً من الأحاديث تذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يصلِّ صلاة الضحى قط، وأحاديث أخرى تذكر أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يصلي صلاة الضحى إلا إن هو رجع من سفر ومغيبة، أذكر منها:(3/91)
1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت «ما رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي سُبحة الضحى قط ... » رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى للبخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت « ... وما سبَّح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُبحة الضحى قط، وإني لأُسَبِّحها» .
2 - عن مورِّق أنه قال «قلت لابن عمر رضي الله عنهما: أتصلي الضحى؟ قال: لا، قلت فعمر؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر؟ قال: لا، قلت: فالنبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا إخاله» رواه البخاري.
3 - عن عبد الله بن شقيق أنه قال «قلت لعائشة: هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجئ من مغيبة» رواه البخاري ومسلم. فأقول:
أـ إن حديث عائشة الثالث يخالف حديثها الأول، فالثالث يُثبتُ صلاة الضحى مقيَّدةً بعودته - صلى الله عليه وسلم - من السفر، في حين أن الحديث الأول بروايتيه ينفي نفياً باتاً هذه الصلاة بشكل عام ومطلق.
ب ـ إن عائشة التي رُوي عنها الحديث الأول بروايتيه قد رُوي عنها حديث يعارض هذا الحديث ويناقضه، فعن يزيد الرِّشك «حدثتني معاذة أنها سألت عائشة: كم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الضحى؟ قالت: أربع ركعات ويزيد ما شاء» رواه مسلم. وروى مسلم رواية أخرى مماثلة من طريق أبي سعيد قال: حدثنا قتادة أن مُعاذة العدوية حدثتهم عن عائشة قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله» . وإذن فإن الروايات المنقولة عن عائشة رضي الله عنها جاءت متعارضة ومتناقضة.
ج ـ أما حديث ابن عمر الثاني الذي يؤخذ منه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصلي الضحى، مِن لفظة «لا إخاله» فالرد عليه من وجوه:
1 - إن هذه اللفظة «لا إخاله» تنبئ عن الشك والظن وعدم التثبت، وبذلك يصبح الخبر محتملاً، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال.(3/92)
2 - إن البخاري ذكر الحديث تحت عنوان [باب صلاة الضحى في السفر] ، وهذا يعني أن البخاري قد فهم من الحديث، أو قل قد علم أنَّ ابن عمر حين نفى صلاة الضحى إنما نفاها في حالة السفر وليس بشكل مطلق، ولا بدَّ من أنَّ البخاري قد استند في وضع الحديث في باب السفر إلى أَمرٍ ثبت عنده، وهو المشهود له بالدقة البالغة في رواية الأحاديث.
3 - إن ابن عمر نفسه قد رُوي عنه ما يعارض هذا الحديث إن هو اعتُبر نافياً لمطلق الصلاة في السفر والحضر، فعن نافع «أن ابن عمر رضي الله عنهما كان لا يصلي من الضحى إلا في يومين، يوم يقدَم مكة فإنه كان يقدَمها ضحى، ... ويوم يأتي مسجد قُباء ... » رواه البخاري. وإذن فإن الروايات المنقولة عن ابن عمر جاءت متعارضة هي الأخرى.
وبذلك يترجح لدينا الرأي القائل بمشروعية صلاة الضحى للروايات العديدة الصحيحة التي تثبتها. إذ الصحيح الثابت أن صلاة الضحى مشروعة ومندوبة، ولكنها ليست من السنن الراتبة التي حافظ عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها» رواه أحمد والترمذي.
ح. صلاة الكسوف
وهي الصلاة المسنونة المشروعة عند حصول كسوفٍ للشمس أو للقمر. والكسوف يطلق على ذهاب الضوء، وعلى الاسوداد. وكما يطلق الكسوف على اسوداد الشمس فإنه يطلق كذلك على اسوداد القمر، وإن شئنا التمييز بينهما قلنا كسوف الشمس وخسوف القمر، وكلاهما جائز لغة وشرعاً.(3/93)
أما وقت صلاة الكسوف فيبدأ عند بدء كسوف الشمس ويستمر إلى أن ينجلي الكسوف ويذهب، ويعود ضوء الشمس كاملاً، كما أنه يبدأ عند بدء خسوف القمر، ويستمر إلى أن ينجلي الخسوف ويذهب، ويعود نور القمر كاملاً. وصلاة الكسوف كصلاة الخسوف تماماً تُؤدَّى عند ذهاب ضوء الشمس أو ذهاب نور القمر كلياً أو جزئياً دون اعتبارٍ لأوقات النهي، فلو حصل كسوف الشمس عقب صلاة العصر فإن صلاة الكسوف تُؤدَّى عندئذ دون كراهة على الرأي الصحيح، لأن هذا الوقت هو وقتها.
والأصل في صلاة الكسوف أن تستغرق كامل وقتها، فيبدأ المسلم بالصلاة مع بدء الكسوف وينتهي منها مع انتهائه، فعن المغيرة بن شعبة قال «كَسَفَت الشمسُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات إبراهيم فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم فصلُّوا وادعوا الله» رواه البخاري وأحمد والبيهقي وابن خُزَيمة والبزَّار. ورواه مسلم وجاء فيه « ... فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينكشف» . وعن أبي بَكْرة قال «خَسَفَت الشمسُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج يجرُّ رداءه حتى انتهى إلى المسجد وثاب الناس إليه، فصلى بهم ركعتين، فانجلت الشمس فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا يخسفان لموت أحد، وإذا كان ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم، وذلك أن ابناً للنبي - صلى الله عليه وسلم - مات يقال له إبراهيم، فقال الناس في ذلك» رواه البخاري وابن حِبَّان وأحمد والنَّسائي. قوله في الحديث الأول: فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينكشف، وقوله في الحديث الثاني: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا يخسفان لموت أحد، وإذا كان ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم: يدلان على جملة أحكام منها:
أ - إن صلاة الكسوف هي صلاة الخسوف نفسها.(3/94)
ب - إن البدء في الصلاة يكون عند بدء الكسوف أو الخسوف.
ج - إن الصلاة تستغرق كامل وقتها، بمعنى أن يبدأ في الصلاة عند بدء الكسوف ويستمر بها إلى انكشافه وذهابه مهما طال زمنه، سواء استمر ساعة أو أكثر أو أقل.
وأُلفت النظر هنا إلى أن صلاة الكسوف لا ينبغي أن تُشغل عن الصلاة المكتوبة، فإما أن تُصلَّى المكتوبة أولاً - ويكون ذلك إن كان وقتها قد ضاق - ثم تُصلَّى صلاة الكسوف، وإما أن تُصلَّى صلاة الكسوف أولاً ويُفرغ منها قبل انتهاء وقت المكتوبة لتبقى للمكتوبة فترة كافية.
ويُسن أداء هذه الصلاة جماعةً في المساجد، ولا يُؤذَّن لها ولا يُقام، وإنما يُكتفى بدعوة المصلين بالقول [الصلاةُ جامعة] فعن أبي بَكرة قال «كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانكسفت الشمس، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجر رداءه حتى دخل المسجد، فصلى بنا ركعتين حتى انجلت الشمس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، فإذا رأيتموها فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم» رواه البخاري وغيره. فهذا دليل على مشروعية صلاة الكسوف جماعةً في المساجد. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال «لما كَسَفَت الشمسُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نودي: إن الصلاة جامعة، فركع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين في سجدة، ثم قام فركع ركعتين في سجدة ثم جلس، ثم جُلِّي عن الشمس، قال، وقالت عائشة رضي الله عنها: ما سجدت سجوداً قطُّ كان أطول منها» رواه البخاري ومسلم وابن خُزَيمة والنَّسائي. وعن عائشة رضي الله عنها «أن الشمس خَسَفَت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبعث منادياً: الصلاةُ جامعةٌ، فاجتمعوا وتقدَّم فكبَّر، وصلَّى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات» رواه مسلم. فهذان دليلان على أن النداء لصلاة الكسوف إنما يكون بالقول [الصلاةُ جامعة] .(3/95)
ومن المندوب في حالة حصول الكسوف أو الخسوف عدا الصلاة الإكثارُ من الدعاء والتصدُّق، خاصة إن فرغ المصلُّون من صلاتهم والكسوفُ أو الخسوفُ لا زالت منهما بقية، فيمكن إشغال بقية الوقت بذكر الله ودعائه. وبمعنى آخر أقول إذا حصل الكسوف صلى المسلمون صلاة طويلة محاولين أن يقضوا كامل وقت الكسوف بالصلاة، فإن هم أتموا صلاتهم قبل انقضاء الكسوف أمضَوا ما تبقى من وقت الكسوف بالدعاء والذكر. أما إن انتهى الكسوف وهم في الصلاة أتمُّوها خفيفة، فقد مرَّ حديث المغيرة بن شعبة عند البخاري وغيره قبل قليل وفيه «فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله» . ومثله حديث أبي بَكْرة عند البخاري وغيره المار قبل قليل وفيه «وإذا كان ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم» . وعن أبي موسى رضي الله عنه قال «خَسَفت الشمس فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فَزِعاً يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد فصلَّى بأطول قيام وركوع وسجود رأيته قط يفعله، وقال: هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوِّف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره» رواه البخاري وابن حِبَّان. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «خَسَفَت الشمسُ في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - فذكرت الحديث إلى أن قالت - فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبِّروا، وصلُّوا وتصدقوا ... » رواه البخاري ومسلم وأحمد ومالك والنَّسائي. وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت «خَسَفَت الشمسُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - فذكرت الحديث إلى أن قالت - ثم رَقِيَ المنبر فقال: أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يَخْسَفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وإلى الصدقة وإلى ذِكر الله ... » رواه أحمد.(3/96)
أما صفة صلاة الكسوف فهي ركعتان اثنتان، كل ركعة منها بركوعين اثنين، وما سوى ذلك فرأي مرجوح، وتُؤدَّى كالتالي: يُحْرِم الإمام بالتكبير، ويقرأ الفاتحة جهراً وسورة طويلة، ثم يركع ركوعاً طويلاً قريباً من القيام، ثم يقوم قائلاً: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة، ولكن دون قراءة القيام الأول، ثم يركع ركوعاً طويلاً دون الركوع الأول، ثم يرفع قائلاً: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم يسجد سجوداً طويلاً، ثم يجلس جلسة طويلة، ثم يسجد سجوداً طويلاً دون السجود الأول، ثم يقوم، ويفعل في الركعة الثانية ما فعله في الركعة الأولى، ولكن بإطالةٍ أقلَّ مما في الركعة الأولى، وينصرف من الصلاة بالتسليم، محاولاً أن لا يفرغ من الصلاة حتى ينجلي الكسوف. هذه هي الكيفية الصحيحة الواردة في الأحاديث الصحيحة، ونستدل على كل تفاصيلها بالأدلة التالية:(3/97)
أ - عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن يهودية جاءت تسألها فقالت لها: أعاذكِ الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيعذَّب الناس في قبورهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائذاً بالله من ذلك، ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة مركباً، فخَسَفَت الشمسُ فرجع ضحى، فمرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين ظهراني الحُجَر، ثم قام يصلي وقام الناس وراءه، فقام قياماً طويلاً ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فسجد، ثم قام فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم قام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فسجد، وانصرف فقال ما شاء الله أن يقول، ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر» رواه البخاري ومسلم ومالك والنَّسائي وأحمد.
ب - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى يوم خَسَفَت الشمسُ، فقام فكبر فقرأ قراءة طويلة، ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده، وقام كما هو، ثم قرأ قراءة طويلة وهي أدنى من القراءة الأولى، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهي أدنى من الركعة الأولى، ثم سجد سجوداً طويلاً، ثم فعل في الركعة الآخرة مثل ذلك، ثم سلَّم وقد انجلت الشمس، فخطب الناس فقال في كسوف الشمس والقمر: إنهما آيتان من آيات الله لا يَخْسَفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة» رواه البخاري.(3/98)
ج - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال «كَسَفَت الشمسُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام وقمنا معه، فأطال القيام حتى ظننا أنه ليس براكع، ثم ركع فلم يكد يرفع رأسه، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع رأسه، ثم جلس فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع رأسه، ثم فعل في الركعة الثانية كما فعل في الأولى، وجعل ينفخ في الأرض ويبكي وهو ساجد في الركعة الثانية، وجعل يقول: ربِّ لِمَ تعذبهم وأنا فيهم، ربِّ لِمَ تعذبنا ونحن نستغفر؟ فرفع رأسه وقد تجلَّت الشمس وقضى صلاته فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عزَّ وجلَّ، فإذا كَسَفَ أحدُهما فافزعوا إلى المساجد ... » رواه أحمد والنَّسائي وابن خُزَيمة.
د - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «خَسَفَت الشمسُ على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - المصلَّى، فكَّبر وكبَّر الناس، ثم قرأ فجهر بالقراءة وأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده، ثم قام فقرأ فأطال القراءة، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه ثم سجد، ثم قام ففعل في الثانية مثل ذلك ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عزَّ وجلَّ لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة» رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي.
هـ - عن جابر قال «انكسفت الشمس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... - وجاء فيه - ... فكبًّر ثم قرأ فأطال القراءة، ثم ركع نحواً مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع، فقرأ قراءة دون القراءة الأولى، ثم ركع نحواً مما قام ... » رواه مسلم وأحمد وأبو داود والبيهقي.(3/99)
و عن عائشة رضي الله عنها «جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخسوف بقراءته، فإذا فرغ من قراءته كبَّر فركع، وإذا رفع من الركعة قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم يعاود القراءة في صلاة الكسوف أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات» رواه البخاري وابن حِبَّان ومسلم.
وإذا فرغ من الصلاة استُحِبَّ للإمام أن يخطب المُصلِّين بما يناسب المقام، والدليل على أن لصلاة الكسوف خطبةً الحديثُ (ب) الذي روته عائشة رضي الله عنها عند البخاري، فقد جاء فيه «فخطب الناس فقال ... » . والحديث (ج) الذي رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عند أحمد وغيره، فقد جاء فيه «وقضى صلاته فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ... » . وكذلك الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها قالت «خَسَفَت الشمسُ في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس، فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول، ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأولى، ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا، ثم قال: يا أمة محمد، ما من أحدٍ أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» رواه البخاري ومسلم وأحمد ومالك والنَّسائي. وكذلك الحديث المروي عن أسماء رضي الله عنها قالت «فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد تجلَّت الشمس، فخطب فحمد الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد» رواه البخاري. وغير هذه الأحاديث كثير، وكلها تذكر أنه عليه الصلاة والسلام بعد أن يفرغ من صلاته يقف فيخطب الناس.(3/100)
وأُلفت النظر إلى أن الفقهاء والأئمة قد اختلفوا في صفة صلاة الكسوف اختلافاً كبيراً، فمنهم من قال إن صلاة الكسوف ركعتان اثنتان عاديتان كركعتي الفجر مستدلين بأحاديث مروية، ومنهم من قال إنها ركعتان في كل ركعة ركوعان اثنان، وهو ما أخذنا به وأثبتناه بالأحاديث الكثيرة الصحيحة السابقة، ومنهم من قال إنها ركعتان في كل ركعة ثلاثة ركوعات، مستدلين بأحاديث مروية، ومنهم من قال إنها ركعتان في كل ركعة أربعة ركوعات، مستدلين بأحاديث مروية، ومنهم من قال إنها ركعتان في كل ركعة خمسة ركوعات، مستدلين بأحاديث مروية، ومنهم من قال إنها ركعتان ثم ركعتان ثم ركعتان، وكلها عادية مثل صلاة الفجر إلى أن ينتهي الكسوف، مستدلين هم كذلك بأحاديث مروية، ولم أجد ضرورة لذكر كل هذه الأحاديث.
وحسبي أن أقول ما يلي: نعم إن جابر بن عبد الله قد رُوي عنه حديث الثلاثة ركوعات عند أحمد ومسلم، وكذلك رُوي عن عائشة رضي الله عنها عند أحمد ومسلم، وروي عن عليَّ ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قد صلاَّها أربعة ركوعات في الركعة الواحدة عند أحمد والبيهقي، وأن ابن عباس رضي الله عنه قد رُوي عنه الركوعات الأربعة في الركعة الواحدة عند أحمد ومسلم، وأن أُبيَّ بن كعب رضي الله عنه قد رُوي عنه حديث الركوعات الخمسة عند أحمد وأبي داود والحاكم، وأن محمود بن لبيد والنعمان بن بشير وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم قد رُويت عنهم أحاديث بأن صلاة الكسوف ركعتان اثنتان عاديتان، وأن النعمان ابن بشير رضي الله عنه قد رُوي عنه حديثٌ بالصلاة ركعتين ركعتين عند أحمد وأبي داود والنَّسائي وابن ماجة والحاكم.(3/101)
ولا يُنكَر أن عدداً من هذه الأحاديث صحيحة الإسناد تصلح للاحتجاج، وكان يمكن الأخذ بجميع هذه الأحاديث والقول بجواز صلاة الكسوف على صفات وكيفيات عدة لو كان قد رُوي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل كل ذلك في أوقات مختلفة وكسوفات عدة. أمَّا وأنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صلى صلاةَ كسوفٍ واحدة، وأنه عليه الصلاة والسلام قد صلَّى هذه الصلاة في السنة العاشرة للهجرة، وأنه صلاَّها يوم مات ولده إبراهيم، وأنه عليه الصلاة والسلام قد مات بعد موت إبراهيم بحوالي أربعة أشهر ونصف، ولا يُحتَمل في هذه المدة اليسيرة حصول كسوفين، وأنه قد رُوي أن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يجهلون كيفية هذه الصلاة قبل أن يصليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آنذاك، مما يدل على أنه لم يُصلِّها معهم قبل ذلك، وأن أبا شُريحٍ الخُزاعي قال «كَسَفَت الشمسُ في عهد عثمان ابن عفان رضي الله عنه وبالمدينة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: فخرج عثمان فصلَّى بالناس تلك الصلاة ركعتين وسجدتين في كل ركعة، قال: ثم انصرف عثمان فدخل داره ... » رواه أحمد والبيهقي والطبراني والبزَّار. وقال الهيثمي (رواته مُوثَّقون) ما يدل دلالة واضحة على أن صلاة الكسوف إنما تكون بركعتين وسجدتين في كل ركعة من ركعتيها، وأن هذا هو الثابت عند صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلا لما صلاَّها عثمان بالصحابة دون إنكار، فلما عُلِم كلُّ ذلك علمنا أن القصة متحدة، وأنه لم تكن صلواتُ كسوفٍ عدةٌ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل صلاة كسوف واحدة يوم مات إبراهيم قبل وفاته عليه الصلاة والسلام بأقلَّ من خمسة أشهر. وإذن فإن احتمال وجود عدة كيفيات لهذه الصلاة غير وارد، فلم يبق إلا الترجيح بين هذه الروايات المتعارضة.(3/102)
وعند الترجيح تُرجَّح الروايات التي تذكر لصلاة الكسوف ركوعين في كل ركعة، لأنها أكثر مما سواها وأقوى منها إسناداً، فقد اتفق عليها البخاري ومسلم إماما الحديث، وما اتفق عليه هذان الإمامان الجليلان يعتبر في القمة من حيث القوة والصحة. ولهذا نقول إن كل الكيفيات عدا كيفية الركوعين في كل ركعة هي مرجوحة.
ولا بأس بأن أُضيف أنه عليه الصلاة والسلام لم يُرْوَ عنه حديث واحد صحيح أو حسن بأنه قد صلَّى هذه الصلاة عند خسوف القمر في أية ليلة من الليالي، وأن مشروعية صلاة الكسوف عند خسوف القمر لم تأت من فعله عليه الصلاة والسلام وإنما من قوله الذي تعدد نقلُه وهو أن تُصلَّى هذه الصلاة إن كَسَفَت الشمسُ أو خَسَف القمرُ مما سبق إيراده، وهذا أيضاً يدعم قولنا باتحاد القصة وعدم التعدد، ويدعم بالتالي وجوب الترجيح بين الروايات المتعارضة، لأنه لا يمكن الجمع بينها لكونها كلها قد ذكرت حادثة واحدة، مما يمنع من قبول جميع هذه الروايات إلا رواية واحدة فحسب هي التي أشرنا إليها.
ط. صلاة الاستسقاء(3/103)
الاستسقاء في اللغة هو طلبُ الشخصِ سقيَ الماءِ لنفسه أو طلبُه لغيره. وفي الشرع هو طلبُ الشخصِ سقيَ الماءِ من الله سبحانه عند انحباس المطر وحصول القحط على وجهٍ مخصوصٍ من العبادة. وقد ورد ذكر الاستسقاء في كتاب الله عزَّ وجلَّ، قال تعالى {وإذْ اسْتَسْقَىْ مُوْسَىْ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنَاً ... } الآية 60 من سورة البقرة. وقال سبحانه {.. وَأَوْحَيْنَا إلى مُوْسَىْ إذ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَن اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنَاً ... } الآية 160 من سورة الأعراف. ونزول الماء رحمة وانحباسه كثيراً عذاب يعذِّب الله به عباداً خرجوا على الطريقة، أو عصَوْا ولم يتقوا الله سبحانه، قال تعالى {وَأَنْ لَو اسْتَقَامُوْا عَلَى الطَّرِيْقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} الآية 16 من سورة الجن. وقال عزَّ وجلَّ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَىْ آمَنُوْا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِن السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ... } الآية 96 من سورة الأعراف.
وقد جاء في الحديث النبوي الشريف أنه ما من قوم يمنعون الزكاة إلا مُنِعوا القَطْرَ من السماء، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال «أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا معشر المهاجرين، خمسُ إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ... ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطَروا ... » رواه ابن ماجة. وقد اتفقت كلمة العلماء والفقهاء على أن صلاة الاستسقاء سنة مستحبة، لا أعلم فقيهاً قال بوجوبها.(3/104)
والأصل في مشروعيتها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صلاَّها، وصلاَّها معه صحابته رضوان الله عليهم، فعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى المُصلَّى، فاستسقى فاستقبل القِبلة وقلب رداءه وصلى ركعتين» رواه البخاري ومسلم وابن ماجة والنَّسائي وابن خُزَيمة. وعن عبَّاد بن تميم عن عمه قال «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خرج يستسقي، قال: فحوَّل إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة يدعو، ثم حوَّل رداءه، ثم صلَّى لنا ركعتين جهر فيهما بالقراءة» رواه البخاري ومسلم وأحمد.
وقد شُرعت الجماعةُ في صلاة الاستسقاء، وأن تُصلَّى بدون أذان ولا إقامة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً يستسقي، وصلَّى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا ودعا الله، وحوَّل وجهه نحو القِبلة رافعاً يده، ثم قلب رداءه، فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن» رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي والأثرم وابن خُزَيمة.(3/105)
أما وقت هذه الصلاة، فأي وقت عدا أوقات النهى هو وقتها، ولكن الأفضل تأديتُها في أول النهار كما تُؤدَّى صلاةُ العيدين، فعن عائشة رضي الله عنها قالت «شكا الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبَّر - صلى الله عليه وسلم -، وحمد الله عزَّ وجلَّ ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبَّان زمانه عنكم، وقد أمركم الله عزَّ وجلَّ أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. ملك يوم الدين. لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أَنْزِل علينا الغيث واجعل ما أنزلتَ لنا قوةً وبلاغاً إلى حين، ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حوَّل إلى الناس ظهره، وقلب - أو حوَّل - رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين ... » رواه أبو داود وابن حِبَّان والحاكم. قوله حين بدا حاجب الشمس: أي حين طلعت الشمس. وهذا هو وقت صلاة العيدين.(3/106)
أما صفة صلاة الاستسقاء فهي ركعتان اثنتان مماثلتان لركعتي الجمعة من حيث التكبير والجهر، فقد مرَّ حديث عبد الله بن زيد عند البخاري وغيره وفيه « ... وصلى ركعتين» . وكذلك مرَّ حديث عبَّاد بن تميم عن عمه آنفاً عند البخاري وغيره وفيه «ثم صلى لنا ركعتين جهر فيهما بالقراءة» . وعن أبي إسحق «خرج عبد الله بن يزيد الأنصاري وخرج معه البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنهم فاستسقى، فقام بهم على رجليه على غير منبر فاستغفر، ثم صلَّى ركعتين يجهر بالقراءة، ولم يؤذن ولم يُقِم، قال أبو إسحق: وروى عبد الله بن يزيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -» رواه البخاري. وللعلم فإن عبد الله بن يزيد هو غير عبد الله بن زيد المار ذكره قبل قليل.(3/107)
وهناك جماعة من الفقهاء يرون أن صلاة الاستسقاء تماثل تماماً صلاة العيدين، وأن فيها سبع تكبيرات في الركعة الأولى وخمساً في الثانية، مستدلين بما رواه ابن عباس رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج مُتَخَشعاً مُتَضَرِّعاً مُتواضِعاً مُتَبذِّلاً مُتَرسِّلاً، فصلى بالناس ركعتين كما يصلي في العيد، لم يخطب كخطبتكم هذه» رواه أحمد والحاكم والدارقطني وأبو داود والترمذي. قوله متبذِّلاً: أي يلبس لباس العمل. وقوله مترسِّلاً: أي متمهِّلاً غير مستعجل. فقالوا إن قول ابن عباس «كما يصلي في العيد» يفيد أن لصلاة الاستسقاء تكبيرات كتكبيرات العيد، واستدلوا بما رواه طلحة قال «أرسلني مروان إلى ابن عباس أسأله عن سُنة الاستسقاء فقال: سُنَّة الاستسقاء سُنَّة الصلاة في العيدين، إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلب رداءه، فجعل يمينه على يساره ويساره على يمينه، وصلى ركعتين، وكبَّر في الأولى سبع تكبيرات وقرأ سبح اسم ربك الأعلى، وقرأ في الثانية هل أتاك حديث الغاشية، وكبَّر فيها خمس تكبيرات» رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي. فنقول لهؤلاء: أما حديث الدارقطني ففيه محمد ابن عبد العزيز قال فيه البخاري: منكر الحديث. وقال النَّسائي: متروك الحديث. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. فالحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج فيطرح. وأما حديث أحمد فغير واضح الدلالة على ما ذهبوا إليه، فلا يصلح لتقييد الأحاديث الكثيرة الصحيحة التي أطلقت القول بالركعتين، ويحمل هذا القول من ابن عباس على أنه أراد أن يقول إن صلاة الاستسقاء كصلاة العيد ركعتان اثنتان، يشهد لهذا الفهم ما جاء في روايةٍ لعبد الرزاق « ... فدعا وصلَّى كما يصلي في العيد ركعتين» . فصلاة الاستسقاء ركعتان اثنتان عاديتان يُجهر فيهما بالقراءة.(3/108)
يقف الإمام أمام المصلين مستقبل القِبلة مُولِّياً ظهره إلى الناس، ويُحوِّل ثوبه بحيث يجعل الظاهر باطناً والباطن ظاهراً، والأيمن من الثوب على يساره، والأيسر منه على يمينه، ويحوِّل المصلون ثيابهم، ثم يدعو بما يشاء، ويُكثر من الاستغفار بشكل خاص، وله أن يقتصر عليه، ثم يصلي بالناس ركعتين جهراً دون تكبيرات سوى تكبيرة الإحرام، حتى إذا سلَّم وقضى صلاته صعد المنبر وخطب الناس خطبة مناسبة ثم نزل، وإذا دعا رفع يديه كثيراً، وأشار بظهر كفيه إلى السماء، وجعل البطون مما يلي الأرض.
ومن السُّنَّة أن تُؤدَّى هذه الصلاة في المُصلَّى، أي خارج بيوت البلد، وأن يُؤتَى لها بمنبر يقف عليه الإمام في أثناء الخطبة، وأن يخرج المصلُّون إلى المُصلَّى بخشوع وهدوء وتضرُّعٍ غير متجمِّلين باللباس، وفي كل ذلك وردت أحاديث نذكر منها ما يلي:
1- عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسقى وعليه خميصةٌ له سوداءُ، فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فثقُلت عليه، فقلبها عليه الأيمنَ على الأيسر والأيسرَ على الأيمن» رواه أحمد وأبو داود والبيهقي. قوله خميصة: أي كساءٌ أسودُ ثخين.
2- عن عبَّاد بن تميم عن عمِّه عبد الله بن زيد قال «خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي وحوَّل رداءه» رواه البخاري. وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم من الطريق نفسها بلفظ «فقلب رداءه» .
3- عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال «قد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استسقى لنا أطال الدعاء وأكثرَ المسألة، قال: ثم تحوَّل إلى القِبلة وحوَّل رداءه، فقلبه ظهراً لبطن، وتحوَّل الناس معه» رواه أحمد.(3/109)
4- وقد مرَّ قبل قليل حديث ابن عباس رضي الله عنه عند أحمد وغيره وفيه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج مُتخشِّعاً مُتضرِّعاً متواضعاً مُتَبَذِّلاً مُتَرَسِّلاً ... » . وجاء في رواية النَّسائي «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبذِّلاً متواضعاً متضرِّعاً، فجلس على المنبر ... » .
5- ومرَّ حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود وغيره « ... فأمر بمنبرٍ فوُضع له في المُصلَّى ... » .
6- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع يديه في شئ من دعائه إلا في الاستسقاء، وأنه يرفع حتى يُرى بياضُ إبطيه» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي.
7- وعنه رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسقى، فأشار بظهر كفيه إلى السماء» رواه أحمد ومسلم والبيهقي.
8- وعنه رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستسقي هكذا، يعني ومدَّ يديه، وجعل بطونهما مما يلي الأرض، حتى رأيت بياض إبطيه» رواه أبو داود.
9- عن عبَّاد بن تميم عن عمه رضي الله عنه قال «خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي، فتوجه إلى القِبلة يدعو، وحوَّل رداءه، ثم صلَّى ركعتين جهر فيهما بالقراءة» رواه البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي.
10- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً يستسقي، وصلَّى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا ودعا الله، وحوَّل وجهه نحو القِبلة رافعاً يده، ثم قلب رداءه فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن» رواه أحمد وغيره. وقد مرَّ قبل قليل.
11- عن عبد الله بن زيد المازني رضي الله عنه قال «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المُصلَّى واستسقى، وحوَّل رداءه حين استقبل، قال إسحق في حديثه: وبدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم استقبل القِبلة فدعا» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي والبيهقي.(3/110)
12- عن الشعبي قال «خرج عمر بن الخطاب يستسقي بالناس، فما زاد على الاستغفار حتى رجع، فقالوا: يا أمير المؤمنين ما رأيناك استسقيت، قال: لقد طلبتُ المطر بمجاديح السماء التي تستنزل بها المطر {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوْا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارَاً. يُرْسِل السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارَاً. وَيُمْدِدِْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِيْنَ} {اسْتَغْفِرُوْا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوْبُوْا إليهِ يُرْسِل السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارَاً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} » رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور. قوله مجاديح السماء: أي الأنواء الدالة على المطر، شبه الاستغفار بها.
والاستسقاء الذي معناه طلب سقي الماء من الله سبحانه، كما يكون بالصلاة المخصوصة، فإنه يكون بالدعاء فقط دون صلاةٍ خاصة به، فقد يُقتصَر في الاستسقاء على مجرد الدعاء والاستغفار فحسب، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه «فما زاد على الاستغفار حتى رجع» . بمعنى أن عمر اقتصر في الاستسقاء على الاستغفار ولم يصلِّ، بدلالة رواية أخرى عند عبد الرزاق بلفظ «أن عمر بن الخطاب خرج بالناس إلى المُصلَّى، ودعا واستغفر ثم نزل، فانقلب ولم يُصلِّ» . وستأتي بعد قليل أحاديث تذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو يستسقي دون صلاة.(3/111)
وقد يستسقي الإمام بالدعاء فحسب في أثناء خطبة الجمعة دون صلاة استسقاء، فعن أنس رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة، فقام الناس فصاحوا فقالوا: يا رسول الله قحط المطر واحمرَّت الشجر وهلكت البهائم، فادع الله أن يسقينا، فقال: اللهم اسقنا، مرتين، وايمُ اللهِ ما نرى في السماء قَزَعَةً من سحاب، فنشأت سحابةٌ فأمطرت، ونزل عن المنبر فصلى، فلما انصرف لم تزل تمطر إلى الجمعة التي تليها، فلما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، صاحوا إليه: تهدمت البيوت وانقطعت السبل فأدع الله يحبسها عنا، فتبسَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، فكَشَطَت المدينةُ، فجعلت تمطر حولها ولا تمطر بالمدينة قطرة، فنظرتُ إلى المدينة، وإنها لفي مثل الإكليل» رواه البخاري ومسلم وابن خُزَيمة وابن حِبَّان والنَّسائي. وفي رواية أخرى عند البخاري من طريق أنس رضي الله عنه « ... فادع الله أن يُغيثنا، قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه فقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا ... » . وستأتي. وفي رواية ثالثة عند البخاري بلفظ «اللهم أغِثْنا ... » . ويجوز طبعاً أن يكون الدعاء عقب الصلوات المفروضات، لأن ذلك أرجى للاستجابة.
ومن الأدعية المأثورة في الاستسقاء ما يلي:
أ- اللهم اسقِ عبادَك وبهائمَك وانشرْ رحمتَك وأَحْيِ بلدَك الميت.
ب- اللهم اسقنا غيثاً مُغيثاً مَريئاً طَبَقَاً مُريعاً غَدَقاً عاجلاً غير رائث.
ج- اللهم اسقنا غيثاً مُغيثاً مَريئاً مُريعاً نافعاً غير ضارٍّ عاجلاً غير آجل.
1- فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استسقى قال: اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك وأَحْيِ بلدك الميت» رواه أبو داود. ورواه مالك وعبد الرزاق دون أن يذكرا في السند عن أبيه عن جده.(3/112)
2- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال «جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله لقد جئتك من عند قوم ما يتزود لهم راع، ولا يَخْطِرُ لهم فحلٌ، فصعد المنبر فحمد الله ثم قال: اللهم اسقنا غيثاً مُغيثاً مَريئاً طَبَقاً مُريعاً غَدَقاً عاجلاً غير رائث، ثم نزل، فما يأتيه أحدٌ من وجه من الوجوه إلا قالوا: قد أُحْيِينا» . قوله مَريئاً: أي طيباً. وقوله طَبَقاً: أي مُغطِّياً الأرض كثيراً. وقوله مريعاً - بضم أوله وفتحه - أي يجلب الخصب والنَّماء. وقوله غَدَقاً: أي غزيراً كبير القطرات. وقوله رائث: أي آجل. وقوله ما يتزود لهم راعٍ: أي لا يخرج لهم راعٍ لرعي المواشي لعدم وجود مراع ذات أعشاب من انحباس المطر. وقوله لا يَخْطِر لهم فحل: أي لا يحرِّك لهم ذَكَرُ الجِمال ذنبَه يمنة ويسرة لشدة ضعفه من الجوع.
3- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «أتت النبيَّ بواكي فقال: اللهم اسقنا غيثاً مُغيثاً مَريئاً مُريعاً نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، قال: فأطبقت عليهم السماء» رواه أبو داود وابن خُزَيمة. قوله بواكي: أي نساء يبكين من شدة الجدب.
فإذا أنعم الله سبحانه على المسلمين بالغيث ونزل المطر، استُحِبَّ لهم أن يقولوا [اللهم صَيِّباً نافعاً] فعن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزل المطر قال: اللهم صيِّباً نافعاً» رواه البخاري وأحمد والنَّسائي. قوله صيِّباً: أي مطراً أو غيثاً.(3/113)
فإذا اشتد نزول المطر حتى يتأذى منه الناس استُحِبَّ أن يقولوا [اللهم حوالينا ولا علينا] أو يقولوه ويزيدوا عليه [اللهم على الآكام والجبال والآجام والظِّراب والأودية ومنابت الشجر] . وليست هذه الألفاظ بلازمةٍ في الدعاء، فللمسلم أن يقول مثلاً [اللهم على التلال والجبال والمزارع والأودية والمراعي ... ] إلخ. فقد مرَّ حديث أنس رضي الله عنه عند البخاري ومسلم وغيرهما وجاء فيه « ... صاحوا إليه: تهدَّمت البيوت وانقطعت السبل فادع الله يحبسها عنا، فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، فكَشَطَت المدينةُ فجعلت تمطر حولها ولا تمطر بالمدينة قطرة ... » . وعن أنس رضي الله عنه «أن رجلاً دخل يوم الجمعة من بابٍ كان وُجاه المنبر، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب، فاستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً فقال: يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه فقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قَزَعَة ولا شيئاً، وما بيننا وبين سَلْعٍ من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال: والله ما رأينا الشمس ستاً، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب، فاستقبله قائماً فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يُمْسِكَها، قال فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والجبال والآجام والظِّراب والأودية ومنابت الشجر، قال فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس» رواه البخاري. قوله وجاه المنبر - بضم أوله وكسره - أي قُبالة المنبر. وقوله في المرة الأولى [وانقطعت السبل] وفي رواية [تقطَّعت السبل] يعني أن الإبل(3/114)
ضعفت من شدة الجوع فلم تعد تَعْمُر السبل فصارت السبل مهجورة. وقوله في المرة الثانية [وانقطعت السبل] يعني أن الأمطار داهمتها والسيول غمرتها فتعطل السير عليها. وقوله ولا قَزَعة: أي ولا قطعة من السحاب. وسَلْع: هو جبل غربي المدينة المنورة أي جهة قدوم السحب. والآكام: هي التلال أو الجبال الصغيرة. والآجام: هي الغابات. والظِّراب: هي الروابي الصغيرة.
ويجوز للمسلمين أن يقدِّموا مَن يتوسمون فيه الفضل والصلاح يستسقون به، وقد قدَّم عمر بن الخطاب رضي الله عنه العباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى أنس رضي الله عنه «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانوا إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسَّل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال فَيُسْقَوْن» رواه البخاري وابن حِبَّان وابن خُزَيمة.
وإتماماً للفائدة أُقدِّم هذين الحديثين الشريفين:
1- عن أنس رضي الله عنه قال «أصابنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطر، قال، فحسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبه حتى أصابه من المطر فقلنا: يا رسول الله لِمَ صنعتَ هذا؟ قال: لأنه حديث عهدٍ بربِّه تعالى» رواه مسلم وأحمد وأبو داود.
2- عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم الريح والغيم عُرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سُرَّ به وذهب عنه ذلك، قالت عائشة: فسألته فقال: إني خشيت أن يكون عذاباً سُلِّط على أمتي، ويقول إذا رأى المطر: رحمة» رواه مسلم. قوله عُرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر: يعني أن الخوف من العذاب كان يَظهَر على وجهه فلا يهدأ بل يظل يتحرك.
ي. صلاة التسابيح(3/115)
حكم هذه الصلاة سُنَّة مستحبة، فهي من صلاة التطوُّع لم يختلف في هذا اثنان من العلماء. وهذه الصلاة لا وقت لها، بل تُؤدَّى في أي وقت من الليل أو النهار عدا أوقات النهي، وهي تُؤدَّى في كل يوم مرة، وإلا ففي كل أسبوع مرة، وإلا ففي كل شهر مرة، وإلا ففي كل سنة مرة، وإلا ففي العمر كله مرة، ويكفي هذه الصلاة فضلاً أنها تغفر جميع الذنوب على اختلاف أنواعها.
وصلاة التسابيح أو صلاة التسبيح يمكن تأديتها منفرداً، أو في جماعة، في البيت أو في المسجد أو في أي مكان، لأنه لم يرد في ذلك أي تقييد، فيبقى الأمر على إطلاقه.(3/116)
أما كيفية هذه الصلاة فهي كالتالي: تُصلِّي هذه الصلاة أربع ركعات تقرأ في الركعة الأولى الفاتحة وسورة أو بعض سورة، ثم تقول وأنت واقف [سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر] خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقول وأنت راكع الذِّكرَ نفسَه ولكن عشر مرات، ثم تعتدل قائماً فتقوله عشر مرات، ثم تسجد فتقوله وأنت ساجد عشر مرات، ثم تعتدل في الجلوس فتقوله عشر مرات، ثم تسجد ثانية فتقوله وأنت ساجد عشر مرات، ثم تعتدل ثانية في الجلوس فتقوله عشر مرات، ثم تنهض للركعة الثانية فتفعل فيها ما فعلت في الركعة الأولى، ثم تفعل في الركعة الثالثة وفي الركعة الرابعة ما فعلته في الركعة الأولى وفي الثانية، ثم تسلِّم. وبذلك تكون قد قلت هذا الذكر ثلاثمائة مرة، خمساً وسبعين مرة في كل ركعة، فعن ابن عباس رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للعباس بن عبد المطلب «يا عباس يا عمَّاه ألا أُعطيك، ألا أمنحك، ألا أَحْبوك، ألا أفعل بك عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غَفَر الله لك ذنبك أوله وآخره قديمَه وحديثَه، خطأه وعمده صغيره وكبيره، سرَّه وعلانيته، عشر خصال؟ أن تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم قلت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، خمس عشرة مرة ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشراً، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشراً، ثم تهوي ساجداً فتقولها وأنت ساجد عشراً، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً، ثم تسجد فتقولها عشراً، ثم ترفع رأسك فتقولها عشراً، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك في أربع ركعات، إن استطعت أن تصلِّيها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة» رواه أبو داود والحاكم وابن خُزَيمة وابن ماجة والبيهقي. قوله أحبوك: أي أُعطيك(3/117)
وأُوثِرك. وقوله عشر خصال: هي التسبيحات التي تتكرر عشراً عشراً ما عدا حالة القيام، فذكر الأعمَّ الأغلب. وخرَّج هذا الحديث ابن ماجة والترمذي من طريق أبي رافع أيضاً وفي سنده موسى بن عبيدة مختلف عليه، منهم من وثَّقه ومنهم من ضعَّفه، وجاء فيه «فصلِّ أربع ركعات تقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، فإذا انقضت القراءة فقل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، خمس عشرة مرة قبل أن تركع، ثم اركع فقلها عشراً ثم ارفع رأسك فقلها عشراً، ثم اسجد فقلها عشراً، ثم ارفع رأسك فقلها عشراً، ثم اسجد فقلها عشراً، ثم ارفع رأسك فقلها عشراً قبل أن تقوم، فتلك خمس وسبعون في كل ركعة، وهي ثلاثُمائة في أربع ركعات، فلو كانت ذنوبك مثل رملِ عالجٍ غفرها الله لك ... » . وعالج: هو اسم موضع.
ك. صلاة الاستخارة
الاستخارة مصدر استخار بمعنى طلب الخِيرة، وهو هنا طلب الخِيرة في الأمر واستعلام ما عند الله سبحانه فيه. والاستخارة دعاء، ولكنه دعاء شُرع أن يُؤدَّى بصلاة مشروعة كالاستسقاء. وكما قلنا في بحث صلاة الاستسقاء (كما يكون بالصلاة المخصوصة، فإنه يكون بمجرد الدعاء دون صلاة خاصة به) ، فإنا نقول هنا إنه يجوز أن يستخير المسلم ربَّه مقتصراً في ذلك على الدعاء فحسب، ولا يصلِّي له صلاة خاصة، فيقول مثلاً: ربِّ خِرْ لي في مسألة كذا وكذا، أو اللهم إني أستخيرك في الموضوع الفلاني، ويكتفي بذلك، ولكنه إن أداه بصلاة خاصة به فهو أفضل وأرجى للاستجابة.
وصلاة الاستخارة مسنونة مندوبة، وهي ركعتان اثنتان، ويجوز أن تكون أكثر من ذلك، فلا بأس بأن يصلي المستخير ركعتين ثم ركعتين مثلاً قبل أن يدعو دعاء الاستخارة. ولا يُبنى دعاءُ الاستخارة على صلاة مفروضة ولا نافلة غير مقصودة منها الاستخارة، بل لا بد لها من صلاة خاصة بها حتى تكون صلاةَ استخارةٍ فعلاً.(3/118)
أما صفة الاستخارة فكما يلي: تصلِّي لله سبحانه ركعتين بنية الاستخارة، وبعد التسليم تدعو بما يلي [اللهم إني أستخيرُك بعلمِك وأستقدرُك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علاَّم الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أنَّ هذا الأمر - وتذكره هنا - خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - ولك أن تقول بدل وعاقبة أمري: وعاجل أمري وآجله - فاقْدُرْه لي ويسِّره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر - ويمكنك أن تذكره هنا مرة ثانية - شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - ولك أن تقول بدل وعاقبة أمري: وعاجل أمري وآجلِه - فاصرفه عني واصرفني عنه، واْقْدُرْ لي الخيرَ حيث كان ثم أرضني به] . فلو أراد مثلا أن يستخير ربه في اختيار فتاة اسمها فاطمة زوجةً له، فإنه يقول هكذا [اللهم إن كنت تعلم أن زواجي من فاطمة خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو يقول: اللهم إن كنت تعلم أن زواجي من فاطمة خير لي في ديني ومعاشي وعاجل أمري وآجله - فاْقْدُرْهُ لي ويسِّرْه لي ثم باركْ لي فيه، وإن كنت تعلم أن زواجي من فاطمة شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو يقول: وإن كنت تعلم أن زواجي من فاطمة شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاجلِ أمري وآجلِه - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقْدُر لي الخيرَ حيث كان، ثم أرْضِني به] .(3/119)
وبعد أن يصلي الركعتين ويدعو بهذا الدعاء يترك ميله السابق للأمر الذي استخار الله سبحانه فيه، وينتظر ما يُوقعه الله سبحانه في قلبه من ميل له أو ميل عنه، فإن هو لم يُحسَّ بهذا الميل من أول صلاة كرر الصلاة مرة ومرتين وثلاثاً و ... حتى يحصل الميل، فيتصرف حسبه سلباً أو إيجاباً، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: إذا همَّ أحدُكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علاَّم الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال عاجلِ أمري وآجلِه - فاقْدُرْهُ لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجلِه - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقْدُرْ ليَ الخيرَ حيث كان ثم أَرضني به. قال، ويسمِّي حاجته» رواه البخاري وأحمد والترمذي. ورواه ابن ماجة وفيه «..اللهم إن كنت تعلم هذا الأمر - فيسمِّيه ما كان من شئ - خيراً لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري - أو خيراً لي في عاجل أمري وآجلِه - فاقدُره لي ويسِّره لي وبارك لي فيه، وإن كنت تعلم - يقول مثل ما قال في المرة الأولى - وإن كان شراً لي فاصرفه عني واصرفني عنه واقدُر لي الخير حيثما كان ثم رضِّني به» . وروى الحديث أبو يَعْلَى من طريق أبي سعيد رضي الله عنه وزاد في آخره «لا حول ولا قوة إلا بالله» . فمن أحب زيادتها فلا بأس. قوله أستقدرك: أي أطلب منك أن تجعل لي قدرةً عليه. وروى أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «أُكْتُم الخِطبة، ثم توضأ فأحسن وضوءك، ثم صلِّ ما كتب الله لك، ثم احمد ربك ومجِّده ثم قل: اللهم إنك تقدر(3/120)
ولا أقدِر، وتعلم ولا أعلم وأنت علاَّم الغيوب، فإن رأيت لي فلانة، تسميها باسمها، خيراً لي في ديني ودنياي وآخرتي فاقْدُرْها لي، وإن كان غيرها خيراً لي منها في ديني ودنياي وآخرتي فاقض لي بها أو قال فاقْدُرْها لي» رواه الحاكم وأحمد. قوله ثم صلِّ ما كتب الله لك: يفيد جواز الزيادة على الركعتين. ويلاحظ في الحديثين أن ألفاظهما اختلفت، فهذا الاختلاف يدل على أن القصد من الدعاء هو المعنى وليس ذات اللفظ، وإن كان لفظ البخاري أفضل وأولى بالأخذ.
ولم يرد في النصوص ما يفيد تحديد سور القرآن وآياته عند قراءة ما تيسَّر منها في صلاة الاستخارة، فليقرأ المسلم ما شاء من سور القرآن وآياته.
وقد حث الشرع الحنيف على الاستخارة، وجعلها مشروعة في كل الأمور صغيرِها وكبيرِها، ففي رواية البخاري «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلِّمنا الاستخارةَ في الأمور كلها» . فلا يستنكف المسلم عن استخارة الله سبحانه في أي أمر خفيَ عليه فيه وجهُ الحق والصواب كبيراً كان أو صغيراً، جليلاً كان أو حقيراً، وله في كل ذلك ثواب.
أما الأمور التي يظهر فيها الحق والصواب فلا تشرع فيها الاستخارة، فإقدامه على الجهاد، أو على الإنفاق على أهله، أو على أداء العمرة، أو على زرع الأرض، أو على نهيه فلاناً عن شرب الخمر، كل هذه الأمور وأمثالها لا استخارة فيها لظهور الحق فيها والصواب.
وبالاستخارة تُنال السعادة وبتركها يُنال الشقاء، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من سعادة ابن آدم استخارته الله، ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله، ومن شِقْوة ابن آدم تركه استخارة الله، ومن شِقْوة ابن آدم سخطه بما قضاه الله عزَّ وجلَّ» رواه أحمد والحاكم والبزَّار والترمذي.(3/121)
وأخيراً أقول إن كثيراً من الناس يعمدون بعد الاستخارة إلى النوم وينتظرون أن يريهم الله سبحانه مناماً فيه الجواب على استخاراتهم، لذا فهم يؤخِّرون صلاة الاستخارة إلى ما بعد صلاة العشاء، وقبل أن يناموا يُصلُّون صلاة الاستخارة، ثم ينامون منتطرين من الله سبحانه أن يُريهم في منامهم ما استخاروه فيه، فهذه الكيفية ـ وتسمى التبييت ـ لا أصل لها في الشرع، فالأفضل ترك التبييت في الاستخارة، والوقوف عند ما دلت عليه النصوص.
ل. سجدة التلاوة
في القرآن الكريم عدد من المواضع إذا مرَّ بها القارئ استُحبَّ له أن يسجد لله سبحانه سجدة واحدة هي سجدة التلاوة، أو سجود التلاوة. فقد حث الشرع على السجود عند المرور بهذه المواضع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله أُمِر بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمرت بالسجود فعصيت فلي النار» رواه أحمد ومسلم وابن ماجة وابن حِبَّان والبيهقي. قوله السجدة: يعني الآية التي فيها سجدة.(3/122)
أما أن حكم هذه السجدة الندب وليس الوجوب فلأنه عليه الصلاة والسلام سجد مرات، وترك السجود مرات أخرى مما يجعل الأمر بالسجود محمولاً على الندب وليس على الوجوب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ النجم فسجد وسجد الناس معه إلا رجلين أرادا الشهرة» رواه أحمد والطبراني وابن أبي شيبة. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم بمكة فسجد فيها، وسجد من معه غيرَ شيخٍ أخذ كفَّاً من حصى أو تراب، فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا، فرأيته بعد ذلك قُتل كافراً» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي وأبو داود. وقد قيل إن الشيخ المذكور في هذا الحديث هو أمية بن خلف. وعن عطاء بن يسار أنه «سأل زيد بن ثابت رضي الله عنه، فزعم أنه قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - والنجم فلم يسجد فيها» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي وأبو داود.
وكذلك كان صحابته رضوان الله عليهم يفعلون، فقد كانوا يسجدون مرة، ولا يسجدون مرة أخرى، فعن ربيعة بن عبد الله «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاءت السجدة قال: يا أيها الناس إنَّا نمرُّ بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر رضي الله عنه» . وفي رواية أخرى عن ابن عمر قوله - «إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء» رواه البخاري والبيهقي.(3/123)
أما المواضع التي يُستحب عندها السجود، فهناك مواضع متفق عليها، وهناك مواضع مختلف عليها. أما المواضع المتفق عليها فهي في السور التالية: الأعراف، الرعد، النحل، الإسراء، مريم، الحج، الفرقان، النمل، ألم تنزيل، وحم السجدة، وعددها عشر. وأما المواضع المختلف عليها فهي في السور التالية: السجدة الثانية في سورة الحج فقد أثبتها أحمد والشافعي، سورة ص فقد أثبتها أبو حنيفة وأحمد ومالك، سور المُفَصَّل الثلاث: النجم والانشقاق والعلق، فقد أثبتها أبو حنيفة والشافعي وأحمد، ونعني بالمُفَصَّل ما يبدأ بسورة الحُجُرات وينتهي بسورة الناس، ومجموع هذه السجدات خمسٌ، فيكون مجموع السجدات المتفق عليها والمختلف عليها خمس عشرة سجدة لم يثبتها كلها إلا الإمام أحمد.(3/124)
والذي أراه وأذهب إليه هو أن جميع السجدات الخمس عشرة يُسن فيها السجود ويُستحب، باستثناء سجدة (ص) ، فإني أرى أن السجود فيها على الإباحة والتخيير، فمن شاء سجد بها ومن شاء تركها. قال ابن عباس رضي الله عنه «ص ليست من عزائم السجود، وقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها» رواه البخاري وأحمد وأبو داود والدارمي والترمذي. فقوله رضي الله عنه «ص ليست من عزائم السجود» واضح الدلالة. وعن أبي سعيد الخُدري قال «قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر ص، فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يومٌ آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تَشَزَّن الناسُ للسجود، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تشزَّنتم للسجود، فنزل فسجد وسجدوا» رواه أبو داود والدارمي وابن حِبَّان والحاكم والدارقطني. قوله تَشَزَّنَ الناسُ: أي تهيأوا.فقد وصفها - صلى الله عليه وسلم - بأنها توبة نبي - يعني نبي الله داود عليه السلام - ولولا أنه رأى تهيؤ الناس للسجود لما سجد، ووقع في روايةٍ للنَّسائي من طريق ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في ص وقال: سجدها داود توبة ونسجدها شكراً» . فمن شاء سجد في (ص) ، ومن شاء تركها.(3/125)
أما سجدة الحج الثانية فهي ثابتة فلا ينبغي إسقاطها، إذ وردت فيها آثار كثيرة عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه «أنه سجد في الحج سجدتين ثم قال: إن هذه السورة فُضِّلت على سائر السور بسجدتين» . وروى مالك مثل هذا الأثر. وروى ابن أبي شيبة أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه قال «في سورة الحج سجدتان» . وروى عبد الرزاق من طريق عبد الله بن دينار قال «رأيت ابن عمر يسجد في الحج سجدتين» . كما رُويت آثارٌ أخرى عن عدد من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يسجدون في سورة الحج سجدتين.
وهذه النصوص وإنْ كانت آثاراً إلا أنها تدلُّ على المطلوب، لأن مثل هذه الأُمور لا يفعلها صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عند أنفسهم.(3/126)
وأما سَجَدات المُفَصَّل الثلاث - النجم والانشقاق والعلق - فقد استدل ناس على عدم السجود فيها بأحاديث، منها ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في شئ من المُفَصَّل منذ تحوَّل إلى المدينة» رواه أبو داود. وما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال «قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم فلم يسجد» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. فنقول لهؤلاء أما الحديث الأول ففي إسناده أبو قُدامة واسمه الحارث بن عبيد، قال عنه أحمد: مضطرب الحديث. وقال عنه أبو حاتم: لا يُحتجُّ به. وهذا الحديث ضعفه يحيى بن معين والنووي، فهو غير صالح للاحتجاج. أما الحديث الثاني فإن عدم سجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند قراءة موضع سجدة لا يعني أن الموضع ليس موضع سجدة، إذ يحتمل أن يكون امتناعه عن السجود لبيان عدم الوجوب فحسب، فإذا علمنا أن هناك عدداً من الأحاديث تذكر سجوده - صلى الله عليه وسلم - عند هذا الموضع، أدركنا فعلاً أن امتناعه عن السجود إنما كان لبيان عدم الوجوب. فقد مرَّ قبل قليل حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عند البخاري وغيره وفيه «قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم بمكة، فسجد فيها وسجد من معه ... » . ومرَّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ النجم فسجد، وسجد الناس معه ... » رواه أحمد وغيره. فامتناعه - صلى الله عليه وسلم - عن السجود مرة عند قراءة النجم يُحمل على أنه أراد بيان عدم الوجوب، ولا يدل على أن هذه السورة ليس فيها سجود.(3/127)
وأما سجدتا الانشقاق والعلق فقد وردت فيهما أحاديث تثبتهما، منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «سجدنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في - إذا السماء انشقَّت، واقرأ باسم ربك -» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنَّسائي. وعن أبي رافع قال «صليت مع أبي هريرة العَتَمَة فقرأ - إذا السماء انشقَّت - فسجد، فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -، فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. وقد مرَّ في بحث [قراءة القرآن في الصلوات الخمس] فصل [صفة الصلاة] . فالمستحب السجود عند هذه المواضع الأربع عشرة، ولا بأس بالسجود عند سجدة ص.
وكما أن السجود للقارئ مستحبٌّ، فكذلك السجود لمن حضر التلاوة من سامع ومستمع مُستحبٌ أيضاً، ولكنَّ سجود السامع والمستمع رهنٌ بسجود القارئ، فإن لم يسجد القارئ لم يسجد مَن عنده، فالقارئ إمامُ من حضر التلاوة، وبدون الإمام هذا لا سجود للحاضرين، فقد مرت الأحاديث «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ النجم فسجد، وسجد الناس معه ... » . «قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم بمكة فسجد فيها، وسجد من معه ... » . «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس ... » . «قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر ص فلما بلغ السجدة نزل فسجد، وسجد الناس معه ... » . «سجدنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في - إذا السماء انشقَّت، واقرأ باسم ربك -» . «سجدتُ بها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -» . فهذا في السجود خلف القارئ إن هو سجد.(3/128)
أما الدليل على أن الحاضرين لا يسجدون إن لم يسجد القارئ فما روى زيد بن أسلم «أن غلاماً قرأ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - السجدة، فانتظر الغلامُ النبيَ - صلى الله عليه وسلم - أن يسجد، فلما لم يسجد قال: يا رسول الله أليس في هذه السورة سجدة؟ قال: بلى ولكنك كنت إمامَنا فيها، فلو سجدتَ لسجدنا» رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق. ورواه البيهقي والشافعي من طريق عطاء بن يسار. وهذا الحديث وإن كان مرسلاً، فإنه يصلح للاستدلال، لأن سقوط اسم الصحابي لا يضعف الحديث، فالصحابة كلهم عدول.
ويستحب سجود التلاوة في الصلاة كاستحبابه خارجها، ويُستحب في صلاة الفريضة والنافلة على السواء، فقد مرَّ حديث أبي رافع قبل قليل عند البخاري وغيره وفيه «صليت مع أبي هريرة العَتَمَةَ فقرأ - إذا السماء انشقَّت - فسجد ... » . والعَتَمَة هي صلاة العشاء.
أما صفة سجدة التلاوة فكالتالي: يكبر ويسجد ويقول [سبحان ربي الأعلى] ثلاثاً، ويضيف إن شاء ما يلي [سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره وشقَّ سمعَه وبصرَه بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الخالقين] ويضيف إن شاء [اللهم احْطُطْ عني بها وِزْراً، واكتب لي بها أجراً، واجعلها لي عندك ذُخْراً، وتقبَّلْها مني كما تقبَّلْتَها من عبدك داود] . ويمكنه أن يكرر هذين الدعاءين ثلاثاً، ثم يرفع ويسلِّم عن يمينه وعن يساره ولا يتشهد.
أما عن التكبير فقد روى نافع عن ابن عمر قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا القرآن، فإذا مرَّ بالسجدة كبَّر وسجد وسجدنا» رواه أبو داود والبيهقي وعبد الرزاق. وعن عبد الله ابن مسلم قال «كان أُبيٌّ إذا قرأ السجدة قال الله أكبر ثم سجد» رواه ابن أبي شيبة. ولم يُرو عن صحابي أنه ترك التكبير أو أمر بتركه عند سجود التلاوة.
أما عن تسبيحة [سبحان ربي الأعلى] فقد مرت ثلاثة أحاديث في ذلك، أعني ذكر [سبحان ربي الأعلى] في السجود هي:(3/129)
أ - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال « ... فلما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال: اجعلوها في سجودكم» رواه أحمد وابن ماجة وابن حِبَّان.
ب - عن أبي بَكْرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسبح في ركوعه سبحان ربي العظيم، ثلاثاً، وفي سجوده سبحان ربي الأعلى» رواه البزَّار.
ج - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه « ... وإذا سجد قال سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات» رواه ابن ماجة. وتجدونها كاملة في بحث [الركوع وهيئته والذِّكر فيه] فصل [صفة الصلاة] . وحيث أن سجدة التلاوة هي سجود، فإنَّ السُّنَّة أن يقال فيها [سبحان ربي الأعلى] ثلاثاً.
أما عن الذكر الثاني [سجد وجهي ... ] إلخ، فقد ورد فيه عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في سجود القرآن: سجد وجهي للذي خلقه وشقَّ سمعه وبصره بحوله وقوته» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي. ورواه الترمذي والحاكم وزادا «فتبارك الله أحسن الخالقين» . كما رواه البيهقي وابن أبي شيبة وزادا «وصوَّره» بعد قوله «خَلَقَه» . ورواه ابن السكن وقال في آخره «ثلاثاً» .
وأما عن الذكر الثالث، فقد ورد فيه عن ابن عباس رضي الله عنه قال «كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه رجل فقال: إني رأيت البارحة فيما يرى النائم كأني أُصلي إلى أصل شجرة، فقرأت السجدة فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها تقول: اللهم احْطُطْ عني بها وِزْراً، واكتب لي بها أجراً، واجعلها لي عندك ذخراً، قال ابن عباس: فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ السجدة فسجد، فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة» رواه ابن ماجة. ورواه الترمذي وابن حِبَّان وزادا «وتقبلها مني كما تقبَّلتَها من عبدك داود» .(3/130)
أما عن التسليم، فقد ذكر ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن عدد من التابعين أنهم كانوا إذا فرغوا من سجدة التلاوة سلَّموا، ولم أقف على حديثٍ مرويٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من صحابته عن شئ من هذا، لا نفياً ولا إثباتاً، ولكن حيث أن سجدة التلاوة هي صلاة، ولها تكبيرة الإحرام، فإن الأصل أن يكون لها تحليلٌ من الإحرام بالتسليم، وقد مرَّ حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» رواه أحمد والترمذي. أُنظروا بحث [حكم تكبيرة الإحرام] فصل [صفة الصلاة] . ومما يدل كذلك على أن سجدة التلاوة صلاة وأنها بالتالي تأخذ حكم الصلاة في التسليم ما مرَّ قبل قليل عن زيد بن أسلم « ... ولكنك كنت إمامنا فيها، فلو سجدت لسجدنا» رواه ابن أبي شيبة وغيره. فقارئ القرآن إذا سجد ائتمَّ به الحاضرون، واتخذوه إماماً فسجدوا معه، ولا يكون ذلك لولا أن سجدة التلاوة صلاة.
ويترتَّب على هذا أن هذه السجدة يلزمها الوضوء والطهارة الكاملة في البدن والثوب والموضع كسائر الصلوات، كما يلزمها استقبال القِبلة لأنها صلاة، إلا أن يكون راكباً فلا بأس بعدم الاستقبال، كسائر صلوات التطوُّع إن هي أُدِّيت على الدابة، أو في السيارة أو في السفينة، أو في الطائرة أو في غير ذلك.
أما في أوقات النهي فإن سجدة التلاوة جائزة لأنها صلاة لها سبب، ويكون وقت هذه السجدة عند القراءة حيثما حصلت، مثلها مثل تحية المسجد وصلاة الكسوف مثلاً.
م. سجدة الشكر وصلاة الشكر(3/131)
يُستحب للمسلم عند حصول نعمة أو زوال مضرَّة أن يسجد لله سبحانه سجدة، وهذه السجدة - وتسمى سجدة الشكر - مماثلة لسجدة التلاوة من حيث التكبير والسجود والذكر فيها، والرفع والتكبير والتسليم، كما أنه يجب لهذه السجدة ما يجب لسجدة التلاوة وأية صلاة أخرى من وضوء وستر عورة وطهارة ثوب وطهارة موضع واستقبال القِبلة ووجود نية وهكذا، فعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتبعته حتى دخل نخلاً، فسجد فأطال السجود حتى خفت أو خشيت أن يكون الله قد توفاه أو قبضه، قال فجئت أنظر، فرفع رأسه فقال: ما لك يا عبد الرحمن؟ قال: فذكرت ذلك له فقال: إن جبريل عليه السلام قال لي: ألا أبشرك؟ إن الله عزَّ وجلَّ يقول لك: من صلى عليك صليتُ عليه، ومن سلَّم عليك سلَّمتُ عليه» رواه أحمد والحاكم والبيهقي. ومن طريق ثانية لأحمد والبيهقي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بلفظ « ... فقال: إن جبريل عليه السلام أتاني فبشَّرني فقال: إن الله عزَّ وجلَّ يقول: من صلى عليك صليتُ عليه، ومن سلَّم عليك سلمتُ عليه، فسجدت لله عزَّ وجلَّ شكراً» . وعن البراء رضي الله عنه قال «بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث علي بن أبي طالب وأمره أن يُقفل خالداً ومَن كان معه، إلا رجل ممن كان مع خالد أحب أن يعقب مع علي رضي الله عنه فلْيعقب معه، قال البراء: فكنت ممن عقب معه، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا فصلى بنا علي رضي الله عنه، وصفَّنا صفاً واحداً، ثم تقدم بين أيدينا فقرأ عليهم كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلمت همدان جميعاً، فكتب علي رضي الله عنه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامهم، فما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب خر ساجداً، ثم رفع رأسه فقال: السلام على همدان، السلام على(3/132)
همدان» رواه البيهقي. وعن أبي بَكرةَ رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتاه أمرٌ يَسُرُّه أو يُسَرُّ به خرَّ ساجداً شكراً لله تبارك وتعالى» رواه ابن ماجة والحاكم والدارقطني وأبو داود والترمذي. وعنه رضي الله عنه «أنه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه بشير يبشرِّه بظفرِ جندٍ له على عدوهم، ورأسه في حِجْر عائشة رضي الله عنها، فقام فخر ساجداً ... » رواه أحمد. فهذه أدلة على مشروعية سجدة الشكر.
وعن عبد الله بن أبي أوفى «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى يوم بُشِّر برأس أبي جهل ركعتين» رواه ابن ماجة. ورواه البزَّار ولفظه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين حين بُشِّر بالفتح، وحين بُشِّر برأس أبي جهل» . فهذا دليل على مشروعية صلاة الشكر، وأنها ركعتان اثنتان، فمن شاء سجد سجدة واحدة، ومن شاء صلى ركعتين، وكل ذلك خير.
ن. الصلاة بعد الفراغ من الطواف عند المقام
يُسن لمن دخل البيت الحرام وطاف حول الكعبة سبعة أشواط أن يصلي ركعتين خلف مَقام إبراهيم عليه السلام جاعلاً المَقام بينه وبين الكعبة، وتسمى هاتان الركعتان ركعتي الطواف، قال الله عزَّ وجلَّ {وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنَّاسِ وَأَمْنَاً وَاتَّخِذُوْا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيْمَ مُصَلَّىْ وَعَهِدْنَا إلى إبْرَاهِيْمَ وَإسْمَاعِيْلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتيَ للطَّائِفِيْنَ والعَاكِفِيْنَ وَالرُّكَّعِ السُّجُوْدِ} الآية 125 من سورة البقرة. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله لو اتخذت المقام مُصلَّى، فأنزل الله: وَاتَّخِذُوْا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيْمَ مُصَلَّىْ» رواه الطبري في تفسيره.(3/133)
والسنة أن يصلي ركعتين، ويقرأ في الأولى منهما قل هو الله أحد، وفي الثانية قل يا أيها الكافرون، إنْ هو أراد الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قراءته، فعن جعفر عن أبيه قال «أتينا جابر بن عبد الله فسألناه عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث بطوله وقال: إذا فرغ - يريد من الطواف - عمد إلى مَقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وتلا - وَاتَّخِذُوْا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيْمَ مُصَلَّىْ - قال: أي يقرأ فيهما بالتوحيد وقل يا أيها الكافرون» رواه ابن خُزيمة. ورواه مسلم من طريق جابر مطولاً في صفة حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجاء فيه « ... حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: واتَّخِذوا من مَقام إبراهيم مُصلَّى، فجعل المَقام بينه وبين البيت، فكان أبي يقول: ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان يقرأ في الركعتين: قل هو الله أحد، وقل يا أيها الكافرون ... » رواه أحمد. ورواه أبو داود وابن ماجة والترمذي قريباً منه. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال « ... وسمعته - يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - يقول: من طاف أُسبوعاً يُحصيه، وصلى ركعتين كان له كعدل رقبة ... » رواه أحمد. قوله أُسبوعاً يُحصيه: أي سبعة أشواط يَعُدُّها. وهذه السُّنَّة - أعني صلاة ركعتين خلف المَقام ومثلها الطواف حول الكعبة من قِبَلِ مَن يدخلُ المسجد الحرام - يؤدَّيان في كل وقت من ليل أو نهار دون كراهة، وهذه ميزة ميَّز الله سبحانه بها بيته الحرام دون سواه من بقاع الأرض، فليس في البيت الحرام وقت نهي كراهة ونهي تحريم لأية صلاة كانت، فريضة أو تطوعاً، فقد روى جبير بن مطعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلَّى أيةَ ساعةٍ شاء من ليلٍ أو نهار» رواه الترمذي وأحمد وأبو داود(3/134)
والنَّسائي وابن ماجة. ومَقام إبراهيم هو المكان الذي كان يقف فيه إبراهيم عليه السلام على حَجَرٍ حين كان يبني الكعبة مع ولده إسماعيل عليه السلام.
س. الصلاةُ عَقِبَ الأذان
تُندب الصلاةُ عقب الأذان وقبل الإقامة للصلوات المفروضة، فعن عبد الله بن مغفَّل رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، ثم قال في الثالثة: لمن يشاء» رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد. ويقصد بالأذانين الأذان والإقامة. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «كان المؤذن إذا أذن قام ناسٌ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري، حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم كذلك، يُصلُّون الركعتين قبل المغرب، لم يكن بين الأذان والإقامة شئ» رواه البخاري ومسلم والنَّسائي وابن حِبَّان وأحمد. وقد مرَّ في بحث [السنن الملحقة بالسنن الراتبة المؤكدة] .
ع. الصلاةُ عَقِبَ الوضوء(3/135)
يُسن للمسلم إذا هو توضأ أن يصلي ركعتين، لما روى حُمْران مولى عثمان رضي الله عنه «أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء، فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاث مِرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مِرار إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يُحَدِّث فيهما نفسه غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه» رواه البخاري ومسلم وأبو داود. ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال عند صلاة الفجر: يا بلال حدِّثني بأرجى عمل عملتَه في الإسلام، فإني سمعت دُفَّ نعليك بين يديَّ في الجنة؟ قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أنِّي لم أتطهر طُهوراً في ساعةِ ليلٍ أو نهار إلا صليت بذلك الطُّهور ما كُتب لي أن أُصلي» رواه البخاري ومسلم وأحمد. ولما رُوي عن عقبة بن عامر أنه قال «كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي فروَّحتُها بعَشيٍّ، فأدركتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً يحدِّث الناس، فأدركت من قوله: ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبلٌ عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة ... » رواه مسلم وأبو داود وابن خُزَيمة والنَّسائي.
الأوقاتُ المنهيُّ عن الصلاة فيها
إنما وضعتُ هذا البحث في فصل [صلاة التطوع] لأن أكثره يتعلق بصلاة التطوع وليس بصلاة الفريضة، وهذه الأوقات خمسة منها ثلاثة متعلقة بحركة الشمس فحسب، هي:
أ - عند بدء بزوغ الشمس حتى ترتفع فوق الأفق الشرقي وتبيَضَّ.
ب - عند استواء الشمس في قُبَّة السماء بحيث يسقط ظلُّ كلِّ شئٍ خلفه، لا يميل إلى جهة المشرق ولا إلى جهة المغرب.
ج - عند اصفرار الشمس وتَدَلِّيها جهة المغرب حتى تختفي تماماً وراء الأفق الغربي.
ومنها وقتان اثنان يتدخل فِعلُ المصلِّي في تحديدهما، هما:(3/136)
أ - ما بعدَ أن يصلي المسلم فريضة الصبح حتى بزوغ الشمس.
ب - ما بعد أن يصلي المسلم فريضة العصر حتى اصفرار الشمس وتَدَلِّيها جهة المغرب.
وقد وردت هذه الأوقات الخمسة متفرقة في الأحاديث التالية:
1 - عن عقبة بن عامر الجُهَني رضي الله عنه قال «ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تَضَيَّفُ الشمس للغروب حتى تغرب» رواه مسلم وأبو داود وأحمد والترمذي والنَّسائي. قوله حين يقوم قائم الظهيرة: أي حال استواء الشمس وحين لا يبقى للشئ الواقف ظلٌ في المشرق ولا في المغرب. وقوله تَضيَّف: أي تميل.
2 - عن أبي عبد الله الصُّنابِحِي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الشمس تطلع بين قَرْني شيطان، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا كانت في وسط السماء قارَنَها، فإذا دَلكَت أو قال زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها، فلا تُصلُّوا هذه الثلاث ساعات» رواه أحمد ومالك والنَّسائي وابن ماجة. قوله دلكت أو قال زالت: أي مالت عن كبد السماء ووسطه.(3/137)
3 - عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها» رواه البخاري ومالك وابن خُزَيمة ومسلم. وفي رواية ثانية لمسلم «إذا بدا حاجب الشمس فأَخِّروا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فأخِّروا الصلاة حتى تغيب» . وروى أحمد والنَّسائي ومسلم من طريق ابن عمر رضي الله عنه أيضاً بلفظ «لا تتحَرَّوْا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فإنها تطلع بين قرني شيطان، فإذا طلع حاجب الشمس فلا تُصلُّوا حتى يبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فلا تُصلُّوا حتى تغيب» . قوله إذا بدا حاجب الشمس: أي إذا ظهر طرف الشمس العلوي. وقوله إذا غاب حاجب الشمس: أي إذا اختفى طرفُ الشمس السفلي وراء الأُفق.
4 - عن سَمُرَة بن جُنْدُب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تُصلُّوا حين تطلع الشمس ولا حين تسقط، فإنها تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان» رواه أحمد. قوله تطلع ... وتغرب بين قرني شيطان: يعني أن الشيطان يستشرفها ليُغوي بها الناس آنذاك.
الحديثان الأول والثاني ذكرا الأوقات الثلاثة المتعلقة بحركة الشمس فحسب، والحديثان الثالث والرابع ذكراً وقتين اثنين فقط من هذه الأوقات الثلاثة نفسها.
وإليكم جملةً من الأحاديث التي ذكرت الوقتين اللذين يتدخل فِعْل المصلي في تحديدهما، أو قولوا في تحديد طرفٍ واحدٍ لكل منهما:
1 - عن عمر رضي الله عنه أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا صلاةَ بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاةَ بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس» رواه أبو داود وأحمد.
2 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «صلاتان لا يُصلَّى بعدهما، الصبح حتى تطلع الشمس، والعصر حتى تغرب الشمس» رواه أحمد وابن حِبَّان وأبو يعلى.(3/138)
3 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس» رواه البخاري ومسلم. وقد مرَّ الحديثان الأولان بتمامهما، والحديث الثالث بالإشارة إليه في بحث [السنن الراتبة المؤكدة] من هذا الفصل [صلاة التطوع] .
4 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاتين: بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس» رواه البخاري.
ذكرت هذه الأحاديث الأربعة الوقتين اللذين يتدخل فِعْلُ المصلي في تحديد طرف كل واحد منهما، وهو الطرف الأول من كل منهما، ونعني بذلك أن وقت النهي الأول يبدأ عقب فراغ المصلي من صلاته هو للصبح، فإنْ هو تقدَّم في صلاة الصبح أو تأخر فإن الوقت يعقب صلاته في الحالتين، فيكون وقت النهي طويلاً في الحالة الأولى، ويكون قصيراً في الحالة الثانية، وهذا الطول وهذا القصر لوقت النهي إنما كان بفعل المُصلِّي نفسه، وقل مثل ذلك بخصوص وقت النهي الثاني، فإنه يبدأ عقب فراغ المصلي من صلاته هو للعصر، فإن هو تقدم في صلاة العصر أو تأخر فإن الوقت يعقب صلاته في الحالتين، فيطول ويقصر تبعاً لذلك، فالمصلي يحدِّد الطرف الأول من طرفي الوقتين.(3/139)
وإليكم هذا الحديث الذي ذكر هذين الوقتين إضافةً إلى أوقات النهي المتعلقة بحركة الشمس فحسب، أي أن هذا الحديث قد جمع أوقات النهي كلها: عن عمرو بن عبسة السُّلَمِي رضي الله عنه قال « ... فقلت: يا نبي الله أخبرني عما علَّمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة، قال: صلِّ صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صلِّ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة فإنَّ حينئذ تُسْجَرُ جهنم، فإذا أقبل الفئ فصلِّ، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار ... » رواه مسلم وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة وأحمد. وقد مرَّ في بحث [السنن الراتبة المؤكدة] من هذا الفصل [صلاة التطوع] . وروى أحمد وابن ماجة هذا الحديث من طريق صفوان بن المعطّل باختلاف في الألفاظ.
ولتوضيح الموضوع أكثر أقول إن هذه الأوقات الخمسة تحصل في اليوم والليلة كالتالي:
1 - من بعد أن يصلي المسلم صلاة الصبح حتى يظهر طرف الشمس العلوي عند البزوغ، وهذا مما يتدخل المصلي في تحديد أحد طرفيه، وهو الطرف الأول.
2 - من بعد أن يبدأ بزوغ الشمس حتى ترتفع وتبيضَّ، وهذا من الأوقات الثلاثة المتعلقة بحركة الشمس فحسب.
3 - عندما تبلغ الشمس منتصف السماء، وهو وقت قصير، وهذا من الأوقات الثلاثة المتعلقة بحركة الشمس فحسب.
4 - بعدما يصلي المسلم صلاة العصر يبدأ الوقت الثاني الذي يتدخل المصلي في تحديد طرفه الأول.
5 - عند اصفرار الشمس يبدأ الوقت الثالث من الأوقات التي تتعلق بحركة الشمس فحسب، وينتهي بغياب طرف الشمس العلوي وراء الأفق الغربي.
وإن نحن أحببنا دمج الوقتين في الأوقات الثلاثة قلنا ما يلي:(3/140)
1 - الوقت الأول يبدأ من بعد أن يصلي المصلي صلاة الصبح، ويمتد إلى ارتفاع الشمس وابيضاضها.
2 - الوقت الثاني يبدأ من توسط الشمس في منتصف السماء، وينتهي بميل الشمس نحو المغرب ولو قليلاً.
3 - الوقت الثالث يبدأ من بعد أن يصلي المصلي صلاة العصر، ويمتد إلى أن يغيب قرص الشمس كله خلف الأفق الغربي، وهذا الترتيب أسهل وأوضح، ولكننا نُبقي على الترتيب الأول لاختلاف الأحكام المتعلقة به.
والذي أراه وأرجِّحه أن الصلاة في أوقات النهي الثلاثة المتعلقة بحركة الشمس فحسب حرام وليست مكروهة فحسب، وأن الصلاة في الوقتين الآخرين مكروهة وليست حراماً. أي أن الصلاة في الأوقات 2، 3، 5 من الترتيب الأول حرام، وأن الصلاة في الوقتين الباقيين 1، 4 مكروهة، فالصلاة من بعد الفراغ من صلاة الصبح حتى بدء بزوغ الشمس مكروهة، وكذلك الصلاة من بعد الفراغ من صلاة العصر حتى اصفرار الشمس فهي أيضاً مكروهة.(3/141)
أما الأوقات الثلاثة الأخرى فالصلاة فيها حرام، أعني عند بدء البزوغ حتى ترتفع الشمس وتبيضَّ، وعند استواء الشمس في وسط السماء، وعند اصفرار الشمس وتدلِّيها للغروب حتى تغرب، فالصلاة في هذه الأوقات حرام لا تجوز. أما لماذا هذا وذاك، فلأنَّ النصوص التي ذكرت الوقتين اقتصرت على مجرد النهي دون أية قرينة تصرف النهي إلى التحريم «لا صلاة بعد صلاة الصبح ... ولا صلاة بعد صلاة العصر» . «صلاتان لا يُصلَّى بعدهما، الصبح حتى تطلع الشمس، والعصر حتى تغرب الشمس» . «لا صلاة بعد الصبح ... ولا صلاة بعد العصر» . «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاتين بعد الفجر ... وبعد العصر ... » . فالنهي عن الصلاة في هذين الوقتين لا توجد معه قرينة تصرفه إلى الوجوب، فيظل نهياً دون قرينة وجوب، فلا تبقى إلا الكراهة، وأيضاً هناك نص في الصلاة بعد صلاة العصر، فعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يُصلَّى بعد العصر إلا أن تكون الشمس بيضاء مرتفعة» رواه ابن خُزَيمة والنَّسائي. ورواه البيهقي ولفظه «لا تصلُّوا بعد العصر إلا أن تصلُّوا والشمس نقية» . وفي رواية ثانية لابن خُزَيمة وأبي داود وأحمد بلفظ «لا تصلُّوا بعد العصر إلا أن تصلُّوا والشمس مرتفعة» . فهي قرينة صالحة لصرف النهي عن الوجوب، ومما يشهد لهذا الفهم ما رواه ربيعة بن دراج «أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سبح بعد العصر ركعتين في طريق مكة، فرآه عمر فتغيَّظ عليه، ثم قال: أَمَا والله لقد علمتَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنهما» رواه أحمد والطحاوي. فقد دل هذا الحديث على اجتهاد علي رضي الله عنه بعدم حرمة الصلاة بعد العصر، لا سيما وأنه فَعَل ذلك عالماً بالنهي، ولو فهم علي من النهي التحريم لما فعل ما فعل. هذا بالنسبة للصلاة عقب صلاة العصر.(3/142)
وأما بالنسبة للصلاة عقب صلاة الصبح فإن مما يشهد لفهمنا ما رواه محمد بن حي بن يعلى بن أمية عن أبيه رضي الله عنه قال «رأيت يعلى يصلي قبل أن تطلع الشمس، فقال له رجل أو قيل له: أنت رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصلي قبل أن تطلع الشمس، قال يعلى: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، قال له يعلى: فأن تطلع الشمس وأنت في أمر الله خيرٌ من أن تطلع وأنت لاهٍ» رواه أحمد. ويبعد أن يكون يعلى هنا صلَّى صلاة الصبح، وإنما صلى هنا تطوعاً وإلا لما قال ما قال، فقد اجتهد رضي الله عنه كما اجتهد علي رضي الله عنه في أن النهي عن الصلاة في وقتي النهي هو نهي غير جازم.(3/143)
هذا بالنسبة لكراهة الصلاة عقب صلاة الصبح، وعقب صلاة العصر، في حين أننا نجد الأمر مختلفاً عند النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة التي لها تعلُّق بحركة الشمس فحسب. فبالرجوع إلى ما أوردناه من نصوص بهذا الخصوص نجد ما يلي «ثلاثُ ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر موتانا ... » . «إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا كانت في وسط السماء قارنها، فإذا دَلَكَت أو قال زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها ... » . «لا تتحرَّوْا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني شيطان ... » . «لا تصلُّوا حين تطلع الشمس ولا حين تسقط، فإنها تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان» . « ... ثم أَقْصِر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ... حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أَقْصِر عن الصلاة، فإن حينئذٍ تُسْجَر جهنم، ... ثم أَقْصِر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ... » . ألا تلاحظون معي كيف أخذ النهي عن الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة منحىً آخر؟ فقد جاء النهي مقترناً بقرائن وأمارات دالَّةٍ على الجزم، ففي الحديث الأول قال «أو أن نقبر موتانا» ، رغم أن قبر الميت فرض، والإسراع في قبره فرض كذلك، ولولا وجود مانع جازم لوجب قبر الموتى في ذلك الوقت وبسرعة، فلما طلب تأخير الدفن دل ذلك على أن النهي للوجوب. وفي الحديث الثاني نلاحظ ذِكْرَ اقتران قرني الشيطان بهذه الأوقات الثلاثة، وفي الحديث الثالث - وقد ذَكَر وقتين من هذه الأوقات الثلاثة - ذَكَر أيضاً اقترانهما بقرني الشيطان، وكذلك فعل الحديث الرابع. أما في الحديث الخامس فقد ذُكِر اقتران قرني الشيطان بوقتين، وذُكِر في الوقت الثالث سجرُ جهنَّم والعياذ بالله، فهذه قرائن وأمارات واضحة على أن النهي نهي(3/144)
جازم في هذه الأوقات الثلاثة.
وأضيف إلى ما سبق ما رُوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنَّسائي. ولأحمد ومالك من طريق أنس رضي الله عنه أيضاً بلفظ «تلك صلاة المنافقين، ثلاث مرات، يجلس أحدهم حتى إذا اصفرَّت الشمس وكانت بين قرني شيطان قام نقر أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً» . ولأحمد رواية ثالثة من طريق أنس بلفظ «ألا أخبركم بصلاة المنافق؟ يَدَعُ الصلاة حتى إذا كانت بين قرني شيطان، أو على قرني الشيطان قام فنقرها نقرات الديك، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً» . قوله نقرها نقرات الديك: أي أسرع في الصلاة بسبب تأخره.
ففي هذه الروايات جاءت قرينة جديدة مضافة إلى ما سبق هي في الرواية الأولى «تلك صلاة المنافق» وفي الرواية الثانية «تلك صلاة المنافقين، ثلاث مرات» . وقد ذكرها مالك في روايته هكذا «تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين» . وفي الرواية الثالثة «ألا أخبركم بصلاة المنافق؟» . فأي وصف أبلغ في الذم من هذا الوصف؟(3/145)
نخلص مما سبق إلى أن النهي عن الصلاة عقب الفراغ من صلاة الصبح حتى تبدأ الشمس بالشروق، وعن الصلاة بعد الفراغ من صلاة العصر حتى تصفرَّ الشمس هو نهي غير جازم، وتكون الصلاة في هذين الوقتين مكروهة فقط، وإلى أن النهي عن الصلاة عند شروق الشمس حتى ترتفع وتبيض، وعند استوائها حتى تميل عن قبة السماء، وعند تدلِّيها للغروب حتى تغيب هو نهي جازم، وتكون الصلاة في هذه الأوقات حراماً لا تجوز، ففي أوقات النهي الجازم، أي في أوقات تحريم الصلاة لا يجوز للمسلم أن يصلي أية نافلة، لا ذات سبب ولا ما ليس لها سبب، فتحية المسجد وسجدة التلاوة كصلاة الاستخارة وصلاة الاستسقاء لا يجوز أداؤها في هذه الأوقات الثلاثة، لأن أداءها مندوب والصلاة في هذه الأوقات الثلاثة حرام، لهذا لا يصح الإتيان هنا بالمندوب بارتكاب الحرام، أما في وقتي النهي غير الجازم، أي في وقتي كراهة الصلاة فإن هذه النوافل إن كانت ذوات أسباب، كتحية المسجد وصلاة الكسوف وسجدة التلاوة، فإنها تُؤدَّى ولا كراهة، لأن أوقاتها قد حلَّت بهذين الوقتين، وهي مندوبة، والوقتان وقتا كراهة، وإني لأرجو أن يتغلب المندوب على المكروه ويثاب فاعله إن شاء الله. ومثلُ النوافلِ ذواتِ الأسبابِ قضاءُ الفوائت من الصلوات المفروضة، وحتى السنن الراتبة، ففي هذين الوقتين يجوز ذلك ولا كراهة.(3/146)
أما الصلوات المفروضة، فإنه مما لا شك فيه أن تأخير صلاة الصبح حتى يبدأ قرص الشمس بالظهور حرام، وكذلك تأخير صلاة العصر إلى اصفرار الشمس وتضيُّفِها للغروب عمداً فيه تقصير يحاسب عليه العبد، وإلى غيابها حرام قطعاً، ولكنْ إن بدأ المصلي بصلاة الصبح وطلعت الشمس وهو لا زال في صلاته فلا إثم، وكذلك إن هو بدأ بصلاة العصر ثم اصفرَّت الشمس وغابت وهو لا زال يصلي فلا إثم، وتقُبلُ صلاته في الحالتين إن كان قد صلى ركعة من كل صلاة من الصلاتين قبل الطلوع وقبل الغروب، ويمكن مراجعة هذه المسألة في بحثي [وقت صلاة العصر] و [وقت صلاة الفجر] فصل [الصلاة: حكمها ومواقيتها] .
أحكامٌ عامة لصلاة التطوُّع(3/147)
1- في صلاة الفريضة لا يجوز الجلوس ولا الاضطجاع إلا من ضرورة كمرض أو عجز، وأما في صلاة التطوع فيجوز الجلوس ويجوز الاضطجاع، سواء كانت هناك ضرورة أو لم تكن، إلا أن المتطوِّع جالساً له نصف أجر القائم، والمتطوع مضطجعاً أو نائماً له نصف أجر الجالس أو ربع أجر القائم، ولهذا فإن الأصل في صلاة التطوع أن تُؤدَّى كصلاة الفريضة بالقيام لمن قدر عليه، لأن المصلي إنما يبتغي الثواب فلا يحرم نفسه نصف الأجر أو ثلاثة أرباعه بصلاته جالساً أو نائماً. وإنَّ لنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القُدوةَ الحسنة، فهو عليه الصلاة والسلام كان يحرص دائماً على صلاة التطوع قائماً، ولم يصلِّها جالساً إلا عندما كبر وضعف جسمه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت «لما بدَّن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وثقُل كان أكثر صلاته جالساً» رواه مسلم. وعن حفصة رضي الله عنها قالت «ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في سُبْحته قاعداً حتى كان قبل وفاته بعام، فكان يصلي في سُبْحته قاعداً، وكان يقرأ بالسورة فيرتِّلها حتى تكون أطولَ من أطولَ منها» رواه مسلم وأحمد والنَّسائي والترمذي ومالك. قوله سُبْحته: أي تطوُّعه. قوله حتى تكون أطول من أطول منها: أي أنه كان يقرأ ويرتِّل ويمدُّ في قراءته حتى تغدو السورة المقروءة أطول من سورة أطول منها بقراءة غيره.(3/148)
وقد بلغ من حرصه عليه الصلاة والسلام على التطوع قائماً وهو في حالة ضعف أنه كان مع صلاته جالساً يصلي مرات أخرى قائماً يتحامل على نفسه، فعن عبد الله بن شقيق قال «سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تطوُّعه، فقالت: ... وكان يصلي ليلاً طويلاً قائماً وليلاً طويلاً قاعداً، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعداً ركع وسجد وهو قاعد..» رواه مسلم وأبو داود وأحمد والترمذي وابن ماجة. وهذه الحالة المذكورة هنا في الحديث غير مُطَّرِدة، أعني بها أنه إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعداً ركع وسجد وهو قاعد، فقد حصل منه عليه الصلاة والسلام غير ذلك مرات، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها «أنها لم تر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الليل قاعداً قط حتى أسنَّ، فكان يقرأ قاعداً، حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحواً من ثلاثين آية أو أربعين آية ثم ركع» رواه مالك والبخاري ومسلم. ورواه البخاري ومسلم ومالك بلفظٍ ثانٍ عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي جالساً فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته نحوٌ من ثلاثين آية أو أربعين آية قام فقرأها وهو قائم، ثم ركع ثم سجد، يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك» . فالمسلم بالخيار بين أن يصلي الركعة كلها جالساً، وبين أن يصليها جالساً وقائماً، كلا الفعلين نُقلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(3/149)
أما جواز صلاة التطوع جالساً ونائماً، ونقصان أجرهما عن الصلاة قائماً، فلما رُوي عن عمران بن الحُصين رضي الله عنه أنه قال «سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الرجل قاعداً، فقال: إن صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد» رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنَّسائي وابن ماجة. وعن عائشة رضي الله عنها عند النَّسائي بنحوه. ويُحمل هذا الحديث على صلاة النافلة والتطوع، كما يُحمل هذا الحديث على المسلم القويِّ المعافى، وذلك لأن المريض إن عجز عن القيام سواء في صلاة الفريضة أو التطوع فصلى جالساً أو نائماً، فإن له الأجر كاملاً وتجدون بحث هذه المسألة مع الدليل في بحث [صلاة المريض] .
وإذا صلى المسلم جالساً صلى متربعاً لا مفترشاً ولا متورِّكاً- والافتراش هو أن يجلس على رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى. أما التورُّك فهو أن يقدم رجله اليسرى فيضعها بين فخذه وساقه ويجلس على إليته -، لما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي متربعاً» رواه الدارقطني والنَّسائي وابن حِبَّان والحاكم. وقال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو هكذا، ووضع يديه على ركبتيه وهو متربعٌ جالس» رواه البيهقي. إلا أنه إن صلى مفترشاً أو متورِّكاً جاز، ولكن المستحب الجلوس متربعاً.(3/150)
2 - إذا كان المسلم في المسجد فأقيمت الصلاة المفروضة، كُره له أن يشرع في صلاة التطوع، ولكن إن كان قد بدأ بصلاة التطوع قبل أن تقام الصلاة المفروضة، ثم أقيمت المفروضة فلْيتمَّها خفيفة، ثم يدخل مع المصلين في صلاة الفريضة دون تأخير، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» رواه أحمد ومسلم والدارمي وأبو داود والترمذي. وعن مالك بن بُحَينة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاث به الناس، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصبح أربعاً، الصبح أربعاً؟» رواه البخاري وأحمد ومسلم والنَّسائي. قوله لاث به الناس: أي أحاطوا به.
وإنما قلنا بالكراهة ولم نقل بالتحريم فلأنَّ صلاةَ الجماعة ليست فرضاً على الصحيح وإنما هي مندوبة مستحبة، فالدخول في صلاة الجماعة مندوب، وترك المندوب ليس حراماً، وثانياً قد رُوي عن عبد الله بن سَرْجس أنه قال «أقيمت الصلاة صلاة الصبح، فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي ركعتي الفجر فقال له: بأي صلاتك احتسبت، بصلاتك وحدك أو صلاتك التي صليت معنا؟» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة. فقد احتسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك الرجل صلاتين، إحداهما التي صلاها وحده، وهي سُنَّة صلاة الصبح عند إقامة صلاة الفريضة، فلو كانت صلاته هذه غير مقبولة وغير جائزة لما احتسبها ولأمره بإعادتها، فلما لم يفعل دل ذلك على أن الصلاة قد قُبلت. وألفت النظر إلى أن القول في الحديث الأول «فلا صلاة إلا المكتوبة» لا هنا هي الناهية وليست هي النافية، فيكون معنى هذا القول: لا تُصلوا إلا المكتوبة، وليس معناه: لا تنعقد صلاة إلا المكتوبة.(3/151)
3 - الصلاة المكتوبة الأصل فيها أن تُؤدَّى في المساجد جماعة، ولكن صلاة التطوع الأصل فيها أن تُؤدَّى في البيوت وليس في المساجد، لأن أداءها في البيوت أفضل وأعظم ثواباً، وهذا كله خاص بالرجال. أما النساء فإن صلاتهن في البيوت أفضل، المكتوبة والتطوع سواء، لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خيرٌ لهن» رواه أحمد وأبو داود وابن خُزَيمة والبيهقي والطبراني. فصلاة النساء في بيوتهن أفضل من صلاتهن في المسجد حتى لو كان المسجدُ مسجدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما رُوي عن أم حُمَيْدٍ امرأة أبي حُمَيْدٍ الساعدي رضي الله عنها «أنها جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك، قال: قد علمتُ أنكِ تحبين الصلاة معي، وصلاتُك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتُك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتُك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتُك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي» رواه أحمد والطبراني وابن خُزَيمة وابن حِبَّان. والحجرة هنا هي الساحة الواقعة أمام البيت. والبيت هو مكان المبيت، أي غرفة النوم. ومحصِّلة هذا القول الوارد في الحديث أن صلاة المرأة في مخدعها - أي في مكان نومها - أفضل من الصلاة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رغم أن الصلاة فيه تعدل ألف صلاة فيما سواه إلا في المسجد الحرام.(3/152)
نعود إلى أول البحث فنقول: إن صلاة التطوع للرجال الأصل فيها أن تُؤدَّى في البيوت وليس في المساجد، وإن الصلاة في البيوت أفضل وأجزل ثواباً، وكي لا تكون البيوت مقفرة من الصلاة كالقبور، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، فإن الله جاعلٌ في بيته من صلاته خيراً» رواه مسلم وأحمد. وروى زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال « ... عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» رواه مسلم وأبو داود. ورواه البخاري ولفظه «.. فصلُّوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة صلاةُ المرء في بيته إلا المكتوبة» . وعن زيد بن خالد الجُهَني رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «صلُّوا في بيوتكم ولا تتَّخذوها قبوراً» رواه أحمد والطبراني والبزَّار. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً» رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد. فصلاةُ النافلة تؤدَّى في البيوت، فذلك أفضل من أدائها في المساجد ولو في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما رُوي عن عبد الله بن سعد رضي الله عنه أنه قال «سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيُّما أفضل، الصلاةُ في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ قال: ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد، فَلأَن أُصلي في بيتي أحب اليَّ من أن أُصلِّي في المسجد، إلا أن تكون صلاة مكتوبة» رواه ابن ماجة وأحمد وأبو داود والترمذي.(3/153)
4 - وكما يجوز أن تصلَّى النافلةُ انفرادياً فإنه يجوز أن تصلَّى جماعةً، لا فرق بين نافلة وأخرى، فعن عِتْبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه قال «كنت أُصلِّي لقومي ببني سالم، وكان يحول بيني وبينهم وادٍ إذا جاءت الأمطار، فيشق عليَّ اجتيازه قِبَلَ مسجدهم، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت له: إني أنكرت بصري، وإن الوادي الذي بيني وبين قومي يسيل إذا جاءت الأمطار، فيشقُّ عليَّ اجتيازه، فوددت أنك تأتي فتصلي من بيتي مكاناً أتخذه مُصلَّى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سأفعل، فغدا عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رضي الله عنه بعدما اشتد النهار، فاستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذنت له، فلم يجلس حتى قال: أين تحب أن أصلي من بيتك؟ فأشرت له إلى المكان الذي أحبُّ أن أُصلي فيه، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكبَّر وصففنا وراءه، فصلى ركعتين ثم سلم، وسلَّمنا حين سلَّم» رواه البخاري والنَّسائي وابن ماجة وأحمد. وعن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت أمِّ حَرَام، فأقامني عن يمينه وأم حَرَامٍ خلفنا» رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وأم حرام هي خالة أنس. وعن ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام من الليل يصلي، فقمت فتوضأت فقمت عن يساره، فجذبني فجرَّني فأقامني عن يمينه، فصلى ثلاث عشرة ركعة، قيامُه فيهن سواء» رواه أحمد والبخاري ومسلم.
الفصل الثاني عشر
صلاة الجماعة
حكم صلاة الجماعة وفضلها
صلاة الجماعة سنة مستحبة، وتتأكد أكثر إن كانت في المسجد، وهي ليست فرض عين ولا فرض كفاية كما يقول بذلك جماعات من الفقهاء، مستدلين على رأيهم بالأحاديث التالية:(3/154)
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «ليس صلاةٌ أثقلَ على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتَوْهما ولو حَبْواً، لقد هممتُ أن آمر المؤذن فيقيم، ثم آمر رجلاً يؤم الناس، ثم آخذَ شُعَلاً من نار فأُحَرِّقَ على من لا يخرج إلى الصلاة بعد» رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن أبي شيبة.
2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ أعمى فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُرخِّص له فيصلي في بيته، فرخَّص له، فلما ولى دعاه فقال: هل تسمع النداء؟ فقال: نعم، قال: فأجب» رواه مسلم والنَّسائي.
3 - عن ابن أم مكتوم «أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني رجلٌ ضريرُ البصر شاسعُ الدار، ولي قائد لا يلائمني، فهل لي رخصة أن أُصلي في بيتي؟ قال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم قال: لا أجد لك رخصة» رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد.
4 - عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من سمع النداء فلم يُجب فلا صلاة له إلا مِن عذر» رواه ابن حِبَّان والحاكم والبيهقي.(3/155)
فنقول لهؤلاء إن هذه الأحاديث تُحمَل على التشديد على حضور صلاة الجماعة، وأنها وردت مورد الزَّجر، وأنَّ حقيقتُه غيرُ مرادة، وقد جاء التشديد بصيغٍ مختلفة. ثم إنَّ الحديث الأول جاء في المنافقين ولم يأت عامَّاً في المسلمين، فقوله في أول الحديث «ليس صلاةٌ أثقلَ على المنافقين» واضح الدلالة على ما نقول. ويزيد الأمرَ وضوحاً ما قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «لقد رأيتُنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد عُلم نفاقه أو مريض، إن كان المريض لَيمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة ... » رواه مسلم وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة وأحمد من حديث طويل. وما رواه أبو عمير ابن أنس قال «حدثني عمومتي من الأنصار قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يشهدهما منافق، يعني العشاء والفجر» رواه ابن أبي شيبة. فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يهدد المنافقين الذين لم يكونوا يشهدون الصلاة معه بقوله ذاك.
وأما الحديث الثاني فهو كالحديث الثالث، موضوعهما واحد، فما ينطبق على أحدهما ينطبق على الآخر. هذا الحديث يذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّص للأعمى أولاً بعدم حضور صلاة الجماعة، ثم عدل عن ذلك وأوقف الترخيص له، فلو كانت صلاة الجماعة واجبة لما رخَّص عليه الصلاة والسلام للأعمى بصلاة المنفرد وتَرْكِ صلاة الجماعة. أما لماذا عدل بعد ذلك عن الترخيص له، فإنه يُحمل على أنه آثر صاحبَه الأعمى هذا بفضيلة حضور صلاة الجماعة فشدد عليه في حضورها، وذلك لأن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يتسابقون إلى الثواب والمندوبات، فلو رُخِّص لهذا الأعمى بترك صلاة الجماعة فلربما فُهم من ذلك أن صلاة الجماعة كصلاة المنفرد ولا ميزة لها، لهذا أمر عليه الصلاة والسلام هذا الصحابي بالتمسك بحضور صلاة الجماعة وشدَّد عليه في ذلك.(3/156)
وأما الحديث الرابع فيُحمَل على أنَّ المراد منه لا صلاة كاملة، وليس نفي الصلاة بالكلية. والمعلوم في علم أصول الفقه أن إعمال الدليلين خير من إهمال أحدهما، وأن القول بعدم تعارض الأدلة أولى من القول بتعارضها. ذلك أن عندنا جملة من الأحاديث تدل على ما ذهبنا إليه من عدم وجوب صلاة الجماعة، فإذا فهمنا الأحاديث الثلاثة هذه على أنها دالة على فرضية صلاة الجماعة، فإننا سنضطر للقول بتعارض الأدلة والقول بإهمال قسم منها، وهذا ما لا يصح اللجوء إليه إلا عند عدم إمكانية الجمع والتوفيق بينها، والإمكانية هنا ممكنة ومتوفرة بما سبق ذكرُه، وهذه الأحاديث هي:
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءاً» رواه أحمد والبخاري ومسلم.
2 - عن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً الصبح فقال: أشاهدٌ فلانٌ؟ قالوا: لا، قال: أشاهدٌ فلان؟ قالوا: لا، قال: إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على الركب، وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه، وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى» رواه أبو داود وأحمد والنَّسائي.
3 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثم ينام» رواه البخاري ومسلم.(3/157)
4 - عن يزيد بن الأسود رضي الله عنه قال «حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع، قال: فصلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح أو الفجر، قال: ثم انحرف جالساً أو استقبل الناس بوجهه، فإذا هو برجلين من وراء الناس لم يصليا مع الناس فقال: ائتوني بهذين الرجلين، قال: فأُتيَ بهما ترعد فرائصُهما، فقال: ما منعكما أن تصليا مع الناس؟ قالا: يا رسول الله إنَّا قد كنا صلينا في الرحال، قال: فلا تفعلا، إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الصلاة مع الإمام فليصلها معه، فإنها له نافلة» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي والدارمي.
الحديث الأول جعل صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد بخمس وعشرين مرة، فلو كانت صلاة المنفرد غير مقبولة ولا جائزة لما قيل ما قيل، وهذا واضح الدلالة على صحة صلاة المنفرد. والحديث الثاني يقول «إن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده» ولا يقال هذا القول لو كانت صلاة المنفرد غير جائزة، وهذا أيضاً واضح الدلالة على صحة صلاة المنفرد. والحديث الثالث يقول «الذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثم ينام» فاعتبر صلاة الجماعة أعظم أجراً من صلاة المنفرد، وهذا يعني اشتراكهما في الأجر، وإلا لما كانت هذه المفاضلة. أما الحديث الرابع فقوله «إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الصلاة مع الإمام فلْيصلها معه فإنها له نافلة» . فقوله «إذا صلى أحدكم في رحله» وقوله «فلْيصلِّها معه فإنها له نافلة» يدلان على أنَّ صلاة المنفرد قد قُبِلت، فإن صلاها بعدئذٍ في المسجد مع الإمام جماعة فإن صلاة الجماعة تكون نافلة، وهذا من أوضح الدلالات على صحة صلاة المنفرد، إذ لو كانت صلاة الجماعة واجبة عليه وصلاةُ المنفرد غيرَ مقبولةٍ لاعتُبِرت صلاة المسجد هي الصلاة المفروضة المؤداة وليس الصلاة في الرحل، وهذا ظاهرٌ جداً.(3/158)
لكل ما سبق أقول: إنَّ القول بعدم التعارض بين الأدلة هنا أولى من القول بوجود التعارض، وعلى هذا تُحْمَلُ الأحاديث الأربعة الأولى على أنها تعني مطلق الحث، ولا تفيد وجوباً ولا فرضاً.
أما فضل صلاة الجماعة فإن أحاديث كثيرة قد جعلتها تَفْضُل صلاة المنفرد بخمس وعشرين درجةً أو جزءاً أو صلاةً، على اختلاف في الروايات، أذكر منها ما يلي:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: تَفْضُل صلاة الجميع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءاً، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر، ثم يقول أبو هريرة: فاقرأوا إن شئتم: إنَّ قرآن الفجرِ كان مشهوداً» رواه البخاري ومسلم وابن ماجة والنَّسائي وأحمد.
2- وعنه رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه خمساً وعشرين درجة..» رواه البخاري ومسلم وابن ماجة.
3- عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «فضلت صلاة الجماعة على صلاة الفذِّ خمساً وعشرين» رواه أحمد والنَّسائي. قوله صلاة الفذِّ: أي صلاة المنفرد.
4- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما من رجل يتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يأتي مسجداً من المساجد، فيخطو خطوة إلا رُفع بها درجة أو حُطَّ بها عنه خطيئة، وكتبت له بها حسنة، حتى إن كنا لنقاربُ بين الخُطا، وإنَّ فضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته وحده بخمس وعشرين درجة» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة.
5- وعنه رضي الله عنه قال: إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال «صلاة الجمع تَفْضُلُ على صلاة الرجل وحده خمساً وعشرين ضعفاً، كلها مثل صلاته» رواه أحمد والبزَّار والطبراني.(3/159)
وانفرد ابن عمر رضي الله عنه برواية السبع والعشرين، فعنه رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «صلاة الجماعة تَفْضُلُ صلاةَ الفذِّ بسبع وعشرين درجة» رواه البخاري ومسلم وأحمد ومالك والنَّسائي. ولم تُرو عن صحابي غيره هذه الرواية إلا ما نُسب لأبي هريرة عند أحمد في رواية، فإنه ذكر السبع والعشرين، وفي سندها شريك القاضي، وفي حفظه ضعف، إضافةً إلى أنَّ هذه الرواية مخالفة لجميع الروايات الصحيحة المنقولة عن أبي هريرة القائلة بالخمس والعشرين. فالروايات القائلة بالخمس والعشرين أكثر، فهي أولى بالأخذ. قال الترمذي (عامَّةُ مَن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قالوا «خمس وعشرين» إلا ابن عمر فإنه قال بـ «سبع وعشرين» ) .
وإنَّ من فضل صلاة الجماعة أن ثوابها يفضل ثواب التَّصدق بشاتين اثنتين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لو أن أحدكم يعلم أنه إذا شهد الصلاة معي كانت له أعظم من شاة سمينة أو شاتين لفعل، فما يصيب من الأجر أفضل» رواه أحمد.
وإن فضل الجماعة فضل كبير وثواب عظيم خاصة صلاتي الفجر والعشاء، فمن صلى العشاء جماعةً فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى العشاء والفجر جماعةً فكأنما قام الليل كله، فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله» رواه مسلم والبخاري والترمذي والدارمي وأحمد.(3/160)
وصلاة الجماعة في الفلاة أو العراء أعظم أجراً، فهي تبلغ خمسين درجة أي الضعف، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته وحده خمساً وعشرين درجة، وإن صلاها بأرض فلاةٍ فأتمَّ وضوءها وركوعها وسجودها بلغت صلاته خمسين درجة» رواه ابن أبي شيبة وابن حِبَّان. ورواه الحاكم وأبو داود بلفظ «الصلاة في الجماعة تعدل خمساً وعشرين صلاة، فإذا صلاها في الفلاة فأتمَّ ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة» .(3/161)
والصلاة في المسجد البعيد أعظم ثواباً من الصلاة في المسجد القريب، وذلك أن الثواب يزداد بزيادة الخطى، فكل خطوة من يمينه ترفعه درجة، وكل خطوة من يساره تحط عنه خطيئة، فقد مر قبل قليل حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عند أحمد ومسلم وأبي داود والنَّسائي وابن ماجة وجاء فيه « ... ثم يأتي مسجداً من المساجد فيخطو خطوة إلا رُفع بها درجة، أو حُطَّ بها عنه خطيئة، وكُتبت له بها حسنة حتى إنْ كنا لنقارب بين الخطا ... » . وعن سعيد بن المسيِّب قال «حضر رجلاً من الأنصار الموتُ فقال: إني مُحدِّثكم حديثاً ما أحدثكموه إلا احتساباً، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى الصلاة لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله عزَّ وجلَّ له حسنة، ولم يضع قدمه اليسرى إلا حطَّ الله عزَّ وجلَّ عنه سيئة، فلْيُقَرِّب أحدكم أو ليبعد، فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن أتى المسجد وقد صلوا بعضاً وبقي بعض صلى ما أدرك، وأتم ما بقي كان كذلك، فإن أتى المسجد وقد صلوا فأتمَّ الصلاة كان كذلك» رواه أبو داود. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «الأبعدُ فالأبعدُ من المسجد أعظمُ أجراً» رواه أبو داود وأحمد وابن ماجة والحاكم. وقد مرَّ حديث أبي موسى قبل قليل عند البخاري ومسلم وفيه «أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى ... » . وهذه الخطوات التي تزيد الحسنات وتمحو السيئات تُحتسب في الذهاب وفي الإياب من المسجد وليس في الذهاب فحسب، فعن عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من راح إلى مسجد الجماعة، فخطوة تمحو سيئة وخطوة تكتب حسنة ذاهباً وراجعاً» رواه أحمد وابن حِبَّان والطبراني.(3/162)
وصلاة الجماعة مع الرجل الواحد خير من الصلاة وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل الواحد، وكلما كان عدد المصلين أكثر فهو أفضل لهم، فقد مرَّ قبل قليل حديث أبي بن كعب رضي الله عنه عند أبي داود وأحمد والنَّسائي، وجاء فيه « ... وإنَّ صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى» .
صلاة النساء
يجوز للنساء الخروج من بيوتهن للصلاة في المساجد، وعلى الأزواج وأولياء الأمور عدم منعهن من ذلك، إلا أَنَّ صلاتهن في بيوتهن ودورهن خير لهن من صلاتهن في المساجد، وإذا خرجت النساء للصلاة بعد أخذ الإذن من الأزواج وأولياء الأمور فلا يحل لهن أن يكنَّ متطيباتٍ متعطِّرات، وليخرجن دون طيب ودون بخور، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتُهن خيرٌ لهن» رواه أبو داود وأحمد وابن خُزَيمة والبيهقي والطبراني. وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا استأذنكم نساؤكم إلى المساجد فأذنوا لهن» رواه مسلم والبخاري وأحمد وابن حِبَّان. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهنَّ تَفِلات» رواه أبو داود وأحمد وابن خُزَيمة والدارمي والبيهقي. قوله تَفِلات: أي غير متطيبات. وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قالت: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمسَّ طيباً» رواه مسلم وابن حِبَّان. ورواه أحمد إلا أنه قال «العشاء» بدل «المسجد» .(3/163)
فالمرأة عِرضٌ يجب أن يُصان، وكلما كانت المرأة في مكان بعيد عن الأنظار كان ذلك أفضل لها، فالدُّور أخفى من المساجد فهي أفضل لِمُكثهن، والغرف في الدور أخفى من الساحات، فهي أفضل لِمُكثهن والصلاة فيها، وكلما ابتعدت النساء عن أماكن الظهور كان ذلك خيراً لهن، فعن أم حُمَيْدٍ امرأة أبي حُمَيْدٍ الساعدي رضي الله عنها، أنها جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت «يا رسول الله إني أُحِبُّ الصلاة معك، قال: قد علمتُ أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتُك في بيتك خيرٌ من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي، قال، فأَمرتْ فبُنِي لها مسجدٌ في أقصى شئ من بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه، حتى لقيت الله عزَّ وجلَّ» رواه أحمد والطبراني وابن خُزَيمة وابن حِبَّان. وقد مر في بحث [أحكام عامة لصلاة التطوع] قوله صلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك: البيت هنا يطلق على غرفة النوم، والحجرة هنا تطلق على الساحة الواقعة أمام الغرفة.
الإمام يصلي صلاة خفيفة(3/164)
يُندب للإمام التخفيف في صلاة الجماعة مراعاةً لأحوال المصلين، لأن فيهم المريض والضعيف، والكبير الهرم والصغير وذا الحاجة، فيصلي بهم صلاة خفيفة لا تشقُّ عليهم، ولا يعني قولي هذا أن ينقُر صلاته نقر الغراب ولا يتمها على وجهها. وإنَّ من التخفيف أن لا يزيد الإمام مثلاً في ركوعه وسجوده على ثلاث تسبيحات، وإذا أحسَّ الإمام بأن في المأمومين من حصل له ما يدعوه إلى الإسراع في صلاته نُدب له أن يتجوَّز فيها ويخففها، كأن يسمع بكاء صبي فيشفق على أمه التي تصلي خلفه فيخفف، فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال «قال رجل: يا رسول الله لا أكاد أدرك الصلاة مما يطوِّل بنا فلان، فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في موعظة أشدَّ غضباً من يومِئذ، فقال: أيها الناس إن منكم منفِّرين، فمن صلى بالناس فليخفِّف، فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي والترمذي. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «ما صليت وراء إمام قطُّ أخفَّ صلاة ولا أتمَّ من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان ليسمعُ بكاء الصبي فيخفِّف مخافة أن تُفتن أمه» رواه البخاري ومسلم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوَّز في صلاتي مما أعلم من شدة وَجْدِ أمه من بكائه» رواه البخاري ومسلم. وعنه أيضاً «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مِن أخف الناس صلاة في تمام» رواه مسلم والترمذي وأحمد والبيهقي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا أمَّ أحدكم الناس فليخفف، فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض، فإذا صلى وحده فليصلِّ كيف شاء» رواه مسلم والبخاري وأحمد وأبو داود والنَّسائي.(3/165)
إلا أنه يُشرع للإمام أن يطيل الركعة الأولى قليلاً ليدركها المتأخرون، وإذا كان الإمام راكعاً وأحسَّ بداخلٍ إلى المسجد أطال ركوعه قليلاً ليدركه الداخل، على أن لا يشق ذلك على المصلين خلفه، فعن أبي قتادة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأمِّ الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب ويُسمعنا الآية، ويطوِّل في الركعة الأولى ما لا يطوِّل في الركعة الثانية، وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح» رواه البخاري ومسلم وأحمد. ورواه أبو داود وزاد «فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى» . وقد مرَّ الحديث في بحث [قراءة ما زاد على الفاتحة من القرآن في الصلاة] فصل [صفة الصلاة] .
متابعة المأموم للإمام(3/166)
يجب على المأموم أن يتابع إمامه في كل حركات الصلاة، ولا يحل له أن يسبقه في ذلك مطلقاً، فلا يسبقه في ركوعٍ ولا سجودٍ، ولا رفعٍ ولا تسليمٍ، إلا أنه مع إثمه بذلك فإنَّ صلاته مقبولة غير باطلة - ذلك أنَّ فعل المحرَّم في الصلاة لا يعني أنه يبطلها، أُنظر بحث [النظر في الصلاة] فصل [صفة الصلاة] ، وانظر بحث [الخشوع في الصلاة] فصل [القنوت والخشوع في الصلاة]- فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إنما جُعل الإمام لِيُؤتمَّ به فلا تختلفوا عليه، وإذا كبَّر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربَّنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جلوساً فصلوا جلوساً أجمعين» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. وعن البراء بن عازب قال «كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا قال: سمع الله لمن حمده لم يَحْنِ أحدٌ منا ظهره حتى يضع النبي - صلى الله عليه وسلم - جبهته على الأرض» رواه البخاري ومسلم وأبو داود. ورواه الترمذي ولفظه «كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع رأسه من الركوع لم يَحْنِ رجل منا ظهره حتى يسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنسجد» . وعن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تبادروني بالركوع ولا بالسجود، فمهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني به إذا رفعت، ومهما أسبقكم به إذا سجدت تدركوني به إذا رفعت، إني قد بدَّنتُ» رواه ابن ماجة وأحمد وابن خُزيمة وابن حِبَّان. - قوله بدنت: قُرئت بتشديد الدال: بدَّنت، ومعناها كبرت، وقرئت بتخفيفها: بَدُنت، ومعناها سمنت، والصواب قراءة بدَّنت بالتشديد بمعنى كبرت. يشهد لهذه القراءة ما رُوي أن عائشة رضي الله عنها قالت «ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في شئ من صلاة الليل جالساً، حتى إذا كبر قرأ جالساً ... » رواه مسلم والبخاري.(3/167)
ووقع عند ابن حِبَّان وابن خُزيمة لفظ «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو جالس بعدما دخل في السن» - وعن أنس بن مالك قال «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، فلما انصرف من الصلاة أقبل إلينا بوجهه فقال: أيها الناس إني إمامُكم، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود، ولا بالقيام ولا بالقعود، ولا بالانصراف ... » رواه ابن خُزيمة ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أما يخشى أو ألا يخشى أحدكم إذا رفع رأسه والإمام ساجد أن يحوِّل الله رأسه رأس حمار، أو صورته صورة حمار؟» رواه أبو داود والبخاري ومسلم والنَّسائي والترمذي. وهذا التحذير الشديد باحتمال إيقاع عقوبة المسخ دليل أكيد على حُرمة مسابقة المأموم للإمام.
وكما أُمر المصلون بأن يتابعوا إمامهم في الصلاة، فقد أُمروا أيضأ بأن يتابعوه في القيام للصلاة عند الإقامة، فلا يسبقوه في الوقوف، بل ينتظرون قدومه إلى المسجد ووقوفه للصلاة، فلا يقفون حتى يقف الإمام، فعن أبي قتادة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا أًقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني» رواه مسلم وأحمد وابن حِبَّان وابن خُزيمة. وفي رواية لأبي داود وابن حِبَّان « ... حتى ترَوْني قد خرجت» .
والأوْلى للمأموم عقب التسليم أن لا يسرع في الانصراف، بل ينتظر قليلاً ريثما ينصرف الإمام قبله، أو يُمْكِن للإمام في حالة السهو أن يتدارك ما كان قد نسيه في الصلاة، فيستأنفها ويسجد للسهو فيسجد المأموم معه، فعن أنس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حضَّهم على الصلاة، ونهاهم أن ينصرفوا قبل انصرافه من الصلاة» رواه أبو داود.
تنعقد الجماعة بإمام ومأموم واحد(3/168)
تنعقد الجماعة باثنين: إمامٍ ومأمومٍ واحدٍ ولو كان المأموم صبياً، وتنعقد في الفريضة كما تنعقد في النافلة دون فارق بينهما، وإذا كان المأموم واحداً وجب أن يقف إلى يمين الإمام دون أن يتقدم عنه أو يتأخر، ولا يصح الوقوف إلى يسار الإمام، فإن فعل أثم ولكن تظل صلاته مقبولة. ولا يجب على الإمام أن ينوي الإمامة، فلو صلى أحدٌ منفرداً ثم جاء شخص فوقف حذاءه مؤتمَّاً به انعقدت له صلاة جماعة رغم أن الإمام لم ينو الإمامة ابتداءً، لا فرق في ذلك بين الفريضة والنافلة، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال «بتُّ عند خالتي ميمونة، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل، فقمت أصلي معه فقمت عن يساره، فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. ووقع في رواية ثانية لمسلم من طريق ابن عباس بلفظ «.. فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقمت إلى جنبه الأيسر فأخذ بيدي فجعلني مِن شقِّه الأيمن» . فهنا كانت صلاةُ جماعة من إمام ومأمومٍ صبي، فابن عباس رضي الله عنه كان آنذاك صبياً ابن عشر سنين، فقد قال ابن عباس رضي الله عنه «مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن عشر سنين وأنا مختون، وقد قرأت المُحْكَم من القرآن» رواه أحمد. وعن ابن عباس أيضاً قال «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقمتُ إلى جنبه عن يساره، فأخذني فأقامني عن يمينه، وقال ابن عباس: وأنا يومئذ ابن عشر سنين» رواه أحمد. ويدل الحديث إضافةً إلى ما سبق على أن الإمام لا يجب عليه أن ينوي لصلاة الجماعة عند الابتداء، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وحده، فالتحق ابن عباس بصلاته، فأقرَّه واستمر يصلي به جماعة. ويدل على ذلك بشكل أوضح ما جاء في رواية ثانية عند أحمد بلفظ «.. فأمهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى إذا عرف أني أريد أن أُصلي بصلاته لفت يمينه فأخذ بأُذُني فأدارني حتى أقامني عن يمينه ... » .(3/169)
وأوضح من الحديثين ما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً يصلي وحده فقال: ألا رجلٌ يتصدق على هذا فيصلي معه؟» ورواه أيضاً الترمذي وابن خُزَيمة وابن حِبَّان والحاكم. كما يدل الحديث الأول على أن المأموم إن كان وحده وقف عن يمين الإمام دون أن يتأخر أو يتقدم، فالحديث يقول «فأقامني عن يمينه» . ويقول لفظ لمسلم «فجعلني من شِقِّه الأيمن» . دون أن يذكر تقديماً أو تأخيراً، يشهد لهذا الفهم ما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال «أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر الليل فصليت خلفه، فأخذ بيدي فجرَّني فجعلني حذاءه، فلما أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صلاته خنست، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما انصرف قال لي: ما شأني أَجعلك حذائي فتخنُسُ؟ فقلت: يا رسول الله أَوَ ينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول الله الذي أعطاك الله؟ قال فأعجبته، فدعا الله لي أن يزيدني علماً وفهماً ... » رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنَّسائي. قوله خنست: أي تأخرت قليلاً عن محاذاته. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أوقف ابن عباس حذاءه أي عن يمينه دون تقديم أو تأخير، وذلك لأنها هي السُّنَّة المشروعة، وبالفعل وقف ابن عباس حذاءه، ثم بدا لابن عباس أن يتأخر قليلاً عن محاذاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما حصل منه ذلك سأله - صلى الله عليه وسلم - عن السبب، فأجابه بجواب أعجبه وهو أنه لا ينبغي لأحد أن يصلي حذاءه، بل يتأخر عنه قليلاً لأنه رسول، والرسول يقدَّم على غيره. وهذا الجواب من ابن عباس، وهذا الإعجاب به من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعني أن السُّنة المشروعة هي ما فعل ابن عباس، وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أوقفه إلى جواره، وفي العديد من الروايات المروية أن ابن عباس وقف إلى جواره ولم يتأخر، ثم إن جابر بن عبد الله رضي(3/170)
الله عنه قال «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في ثوب واحد خالف بين طرفيه، فقمت خلفه فأخذ بأذني فجعلني عن يمينه» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والبيهقي. وإن جبَّار بن صخر رضي الله عنه قال «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام يصلي، قال: فقمت عن يساره، فأخذ بيدي فحولني عن يمينه فصلينا، فلم يلبث يسيراً أن جاء الناس» رواه أحمد. فالسُّنَّة المشروعة هي وقوف المأموم الفرد إلى جوار الإمام عن يمينه حذاءَه، دون تقدم أو تأخُّر.
مفارقةُ الإمام(3/171)
يجوز للمأموم أن يفارق إمامه في أثناء الصلاة إن كان للمفارقة عذر، وله أن يبني على ما صلاه مع الإمام ويتم الباقي منفرداً، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «كان معاذ بن جبل رضي الله عنه يؤم قومه، فدخل حرامٌ وهو يريد أن يسقي نخله، فدخل المسجد ليصلي مع القوم، فلما رأى معاذاً طوَّل تجوَّز في صلاته ولحق بنخله يسقيه، فلما قضى معاذٌ الصلاة قيل له: إن حراماً دخل المسجد فلما رآك طوَّلت تجوَّز في صلاته ولحق بنخله يسقيه، قال: إنه لمنافق، أيعجل عن الصلاة من أجل سقي نخله؟ قال فجاء حرامٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ عنده فقال: يا نبي الله إني أردت أن أسقي نخلاً لي، فدخلت المسجد لأصلي مع القوم، فلما طوَّل تجوَّزت في صلاتي ولحقت بنخلي أسقيه، فزعم أني منافق، فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على معاذ فقال: أفتَّانٌ أنت أفتَّان أنت؟ لا تُطوِّل بهم، اقرأ بـ سبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، ونحوهما» رواه أحمد والبزَّار. وفي رواية من طريق جابر رضي الله عنه بلفظ « ... ثم جاء قومه - يعني معاذاً - فقرأ البقرة، فاعتزل رجلٌ من القوم فصلى، فقيل: نافقتَ يا فلان، قال: ما نافقت، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ... » رواه أحمد. وحرام هو الصحابي حرام ابن ملحان. وعن أبي بُريدة الأسلمي رضي الله عنه قال «إن معاذ بن جبل يقول صلى بأصحابه صلاة العشاء، فقرأ فيها اقتربت الساعة، فقام رجل من قبلِ أن يفرغ فصلى وذهب، فقال له معاذ قولاً شديداً، فأتى الرجلُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فاعتذر إليه فقال: إني كنت أعمل على الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلِّ بـ الشمس وضحاها، ونحوها من السور» رواه أحمد.(3/172)
في هذه النصوص أمران: أحدهما أن الرجل المأموم واسمه حرام بن ملحان قد قطع صلاته مع الإمام معاذ لعذر التطويل بالقراءة، وكان حرام مستعجلاً يريد سقي نخله، فلما طالت صلاة معاذ قطعها حرام وأتمَّ الصلاة منفرداً. والأمر الثاني أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنَّف معاذاً ولم يعنِّف حراماً. فهذان الأمران يدلان على جواز قطع صلاة الجماعة لعذر.
الصلاةُ جماعةً في المسجد مرتين
يجوز أن تُعقد في المسجد الواحد صلاتان أو أكثر جماعةً إحداها تعقب الأخرى، ويجوز لمن صلى جماعة في الأولى أن يدخل في صلاة الجماعة الأخرى، وتحتسب له صلاته الأخرى نافلة، تماماً كمن صلى منفرداً أولاً ثم دخل في صلاة الجماعة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً يصلي وحده فقال: أَلا رجلٌ يتصدق على هذا فيصلي معه؟» رواه أبو داود وابن حِبَّان والحاكم وابن خُزَيمة والترمذي. وقد سبق في بحث [تنعقد الجماعة بإمام ومأموم واحد] المارِّ قبل قليل. ورواه أحمد بلفظ «أن رجلاً دخل المسجد وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن يتصدق على هذا فيصلي معه؟ فقام رجل من القوم فصلى معه» . فالناس الذين كانوا في المسجد كانوا قد صلوا جماعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت الصلاة صلاة الظهر كما جاء مصرَّحاً به في روايةٍ لأحمد، فجاء الرجل بعد فراغ المسلمين من صلاة الجماعة، فقام يصلي وحده، فطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحد أصحابه ممن كانوا قد صلوا معه جماعة أن يأتمَّ بهذا الرجل فيصلي معه جماعةً، وهكذا يكون الصحابي قد صلى مرتين جماعةً في مسجدٍ واحدٍ بأمرٍ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدل ذلك على جواز عقد صلاتين جماعةً في مسجد واحد لصلاة واحدة. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يصلي مع رسول(3/173)
الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثم يأتي قومه فيصلي بهم تلك الصلاة» رواه أحمد والبخاري ومسلم. فهذا معاذ بن جبل كان يصلي جماعة خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يذهب إلى مسجد قومه فيصلي بهم إماماً الصلاةَ نفسَها، فيكون معاذ قد صلى صلاة الجماعة مرتين. وعلى هذا قلنا ما قلناه في أول البحث من أنه يجوز أن تُعقد في المسجد الواحد صلاتان جماعة، ويجوز لمن صلى جماعة أن يدخل في صلاة جماعة أخرى. وأيضاً روى بُسر بن محجن عن محجن «أنه كان في مجلسٍ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذَّن بالصلاة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم رجع ومحجن في مجلسه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما منعك أن تصلي، ألست برجلِ مسلم؟ قال: بلى ولكني كنت قد صليت في أهلي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جئتَ فصلِّ مع الناس وإنْ كنتَ قد صليت» رواه النَّسائي ومالك وأحمد وابن حِبَّان والحاكم وصححه. أما أن الصلاة الثانية تحتسب نافلة فلِمَا روى يزيد بن الأسود عند أحمد وأبي داود والنَّسائي والترمذي والدارمي. وقد مرَّ الحديث في بحث [حكم صلاة الجماعة وفضلها] وجاء فيه «يا رسول الله إنَّا قد كنا صلينا في الرحال، قال: فلا تفعلا، إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الصلاة مع الإمام فلْيُصلِّها معه فإنها له نافلة» .
المسبوق يدخل في الصلاة على الحال التي عليها الإمام(3/174)
إذا حضر المسبوق وأراد الدخول في الصلاة كبَّر تكبيرة الإحرام، والتحق بالحال التي عليها الإمام، سواء كان الإمام راكعاً أو ساجداً أو جالساً أو قائماً، وإذا أدرك مع الإمام ركوع ركعة فقد أدرك الركعة كلها، وإن فاته الركوع لم يدرك الركعة، وبعد أن يسلِّم الإمام يُتمُّ ما بقي له من صلاته - ولا يجب عليه سجود السهو، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» رواه البخاري ومسلم. ولمسلم من طريق أبي هريرة أيضاً بلفظ «من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة» . قوله مَن أدرك ركعة: أي من أدرك ركوع ركعة. والدليل على أن الركعة تطلق أحياناً على الركوع ما روته عائشة رضي الله عنها في صلاة الكسوف بلفظ « ... وتقدَّم فكبر وصلى أربع ركعات في ركعتين ... » رواه مسلم. وما روته عائشة أيضاً بلفظ «.. ثم يعاود القراءة في صلاة الكسوف أربع ركعات في ركعتين ... » رواه البخاري ومسلم. ولا يُفسَّر هذان الحديثان إلا بالقول إن كلمة أربع ركعات تعني هنا أربعة ركوعات. قوله فقد أدرك الصلاة: أي فقد أدرك الركعة ومِن ثَمَّ أدرك الصلاة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعُدُّوها شيئاً، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة» رواه أبو داود وابن خُزَيمة والحاكم. وعن عبد العزيز بن رُفيع عن شيخٍ للأنصار قال «دخل رجلٌ المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، فسمع خَفْقَ نعليه، فلما انصرف قال: على أي حال وجدتنا؟ قال: سجوداً فسجدت، قال: كذلك فافعلوا، ولا تعتَدُّوا بالسجود إلا أن تدركوا الركعة، وإذا وجدتم الإمام قائماً فقوموا، أو قاعداً فاقعدوا، أو راكعاً فاركعوا، أو ساجداً فاسجدوا، أو جالساً فاجلسوا» رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة. وعن المغيرة بن شعبة أنه قال(3/175)
«تخلَّفتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، فتبرَّز رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم رجع إليَّ ومعي الإداوة، قال: فصببت على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم استنثر، قال يعقوب: ثم تمضمض، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم أراد أن يغسل يديه قبل أن يخرجهما من كُمَّي جُبَّته، فضاق عنه كُمَّاها، فأخرج يده من الجُبَّة فغسل يده اليمنى ثلاث مرات، ويده اليسرى ثلاث مرات، ومسح بخفَّيه ولم ينزعهما، ثم عمد إلى الناس فوجدهم قد قدَّموا عبد الرحمن بن عوف يصلي بهم، فأدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى الركعتين، فصلى مع الناس الركعة الآخرة بصلاة عبد الرحمن، فلما سلَّم عبد الرحمن قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُتِمُّ صلاته، فأفزع المسلمين فأكثروا التسبيح، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل عليهم فقال: قد أحسنتم وأصبتم، يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها» رواه أحمد ومسلم. ورواه أبو داود ولفظه «فأتينا الناس وعبد الرحمن بن عوف يصلي بهم الصبح، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يتأخر، فأومأ إليه أن يمضي، قال: فصليت أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - خلفه ركعة، فلما سلَّم قام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصلى الركعة التي سبق بها ولم يزد عليها شيئاً» . وإنما أوردت حديث المغيرة بن شعبة لأجل قوله في الرواية الأولى «قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُتِمُّ صلاتَه» كدليل على أن المسبوق يُتِمُّ ما بقي له من صلاته. وأما الرواية الثانية فقد جاء فيها «فصلى الركعة التي سُبق بها ولم يزد عليها شيئاً» هذه الرواية دليل على أن المسبوق يُتِمُّ صلاته فقط ولا يسجد للسهو، ولا يأتي إلا ما سُبِق به فحسب، وهذا ردٌّ على من أوجبوا سجود السهو على المسبوق.
خروج المُحْدِث من الصلاة(3/176)
مَن أحدث وهو يصلي في جماعة سواء كان في مسجد أو غيره شُرع له أن يأخذ بأنفه مُوهِماً مَنْ عنده مِن الناس أنه رعف، وينسحب من الصلاة ليتوضأ ثم يعود، فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا أحدث أحدكم في صلاته فلْيأخذ بأنفه ثم لينصرف» رواه أبو داود والحاكم والدارقطني. ورواه ابن ماجة وابن حِبَّان باختلاف في الألفاظ. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا أحدث أحدُكم وهو في الصلاة فلْيضع يده على أنفه ثم لينصرف» رواه الحاكم والدارقطني وابن خُزيمة.
الفصل الثالث عشر
الأمامة في الصلاة
أ. صفة الأئمَّة
الأحقُّ بالإمامة
الأحق بالإمامة هم حسب الترتيب التالي:
1 - الأقرأ لكتاب الله، بمعنى الأكثر حفظاً له.
2 - الأعلم والأفقه.
3 - الأكبر سناً.(3/177)
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا كانوا ثلاثة فلْيؤُمَّهم أحدُهم، وأحقُّهم بالإمامة أقرؤهم» رواه مسلم وأحمد والنَّسائي. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «يؤم القوم أقرؤهم للقرآن» رواه أحمد. ولأحمد من طريق عمرو بن سلمة بلفظ «ليؤمكم أكثرُكم قرآناً» . ورواه الطبراني والبخاري وأبو داود والنسائي. وعن مالك بن الحويرث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له ولصاحب له «إذا حضرت الصلاة فأذِّنا وأقيما، ثم ليؤمكما أكبركما» رواه أحمد وابن حِبَّان والترمذي والنسائي وابن ماجة. وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يؤم القوم أقرؤُهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسُّنة، فإن كانوا في السُّنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأَقدمهم سنَّاً، ولا يَؤُمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تَكرِمته الا بإذنه» رواه مسلم. ورواه أحمد ولفظه «ولا يُؤَمُّ الرجلُ في أهله ولا في سلطانه، ولا يُجْلَس على تكرمته في بيته إلا بإذنه» . وقد أخرجتُ أحقِّيَّة الأقدم هجرةً الواردة في الحديث لعدم وجودها الآن.
وقد حوى الحديث الأخير إضافتين اثنتين لما سبق بيانه هما: أن الرجل في بيته يكون هو الإمام وليس الأقرأ ولا الأفقه ولا الأكبر سناً، ولا يُؤَمُّ الرجُلُ في أهله إلا أن يأذن لغيره بالإمامة. والخليفة ومثله الوالي في ولايته والعامل في عمالته يكونون الأئمة في المكان الذي يحكمون فيه، فالخليفة ومثله الوالي في ولايته والعامل في عمالته يُقدَّمون على صاحب البيت، وعلى الأقرأ لكتاب الله، وعلى الأعلم والأفقه والأكبر سناً، فالخليفة والوالي والعامل يَؤُمُّون الناس حيثما كانوا «ولا في سلطانه» .
إِمامة الأعمى(3/178)
تجوز إمامة الأعمى للعميان وللمبصرين على سواء دون تفضيلٍ للأعمى على المبصر، أو للمبصر على الأعمى، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين، يصلي بهم وهو أعمى» رواه أحمد وأبو داود وابن حِبَّان. ورواه ابن حِبَّان والطبراني وأبو يعلى من طريق عائشة رضي الله عنها. وعن محمود بن الربيع الأنصاري «أن عِتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى، وأنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله إنها تكون الظلمة والسَّيْل وأنا رجل ضرير البصر، فصلِّ يا رسول الله في بيتي مكاناً أتخذه مصلي، فجاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أين تحب أن أصلي؟ فأشار إلى مكانٍ من البيت، فصلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه البخاري والنَّسائي ومالك. وفي رواية عند البخاري بلفظ «قال للنبي: يا رسول الله قد أنكرتُ بصري وأنا أصلي لقومي» فهذه الرواية الأخيرة فيها بيان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُخبر بأن عِتبان كان يؤم قومه فلم يعترض عليه.
إمامة الصبي(3/179)
تجوز إمامة الصبي الذي لم يبلغ، في الفريضة وفي النافلة، للرجال وللصبيان وللنساء، ما دام قادراً عليها قارئاً لكتاب الله سبحانه. فعن عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال «لما كان يوم الفتح جعل الناس يمرُّون علينا، قد جاءوا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكنت أقرأ وأنا غلام، فجاء أبي بإسلام قومِه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يؤمكم أكثركم قرآناً، فنظروا فكنت أكثرهم قرآناً، قال فقالت امرأة: غطوا إسْتَ قارئِكم، قال فاشتروا له بردة، قال: فما فرحت أشدَّ من فرحي بذلك» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي. ورواه البخاري وجاء فيه « ... وليؤُمَّكم أكثرُكم قرآناً، فنظروا فلم يكن أحدٌ أكثر قرآناً مني لِمَا كنت أتلقى من الركبان، فقدَّموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين ... » شرحُ الحديث: راوي الحديث عمرو بن سلمة كان من قبيلةٍ في طريق المسلمين الذاهبين إلى مكة عام فتحها، فكان المسلمون يمرون بهذه القبيلة يقرأون القرآن، فكان هذا الصبي يستمع ويحفظ مما يقرأه المسلمون، فلما أسلم أهله ورجال قبيلته وذهب أبوه يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلام القبيلة، أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤمهم في الصلاة أكثرهم قرآناً، وحيث أنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام، وحيث أن الصبي راوي الحديث كان يحفظ شيئاً من القرآن، فقد قدَّموه في الصلاة فكان إمامهم، وكان الرجال والنساء يصلون خلفه، فبان دُبُر الصبي في أثناء الصلاة، فرأته امرأة فطلبت تغطيته، فاشتروا له بردة أي ثوباً طويلاً يستر عورته، فلا تنكشف في أثناء الصلاة.
إمامة المرأة(3/180)
تجوز إمامة المرأة وتصحُّ للنساء، وإذا أمَّت وقفت في وسط الصف ولم تتقدَّمْهُ، فعن أبي نعيم قال «حدثنا الوليد قال: حدثتني جدتي عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث الأنصاري وكانت قد جمعت القرآن، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمرها أن تؤم أهل دارها، وكان لها مُؤذِّن، وكانت تؤم أهل دارها» رواه أحمد وأبو داود وابن خُزَيمة والحاكم والبيهقي. وعن ريطة الحنفية «أن عائشة أمَّتهُنَّ، وقامت بينهنَّ في صلاة مكتوبة» رواه عبد الرزاق والبيهقي والدارقطني. وعن حُجَيرة بنت حصين قالت «أمَّتنا أم سلمة في صلاة العصر فقامت بيننا» رواه الدارقطني والشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة. ولم يَرِدْ أن امرأة قد أمَّت الرجال، فتُقتصر إمامة المرأة على النساء فحسب.
اقتداء المقيم بالمسافر وبالعكس(3/181)
يجوز أنْ يأتمَّ المقيم بالمسافر وهو الأصل، كما يجوز أن يأتمَّ المسافر بالمقيم، فإذا أمَّ المسافر وفرغ من الركعتين - أي من صلاته المقصورة - وسلَّم أتمَّ المقيمون خلفه صلاتهم الرباعية منفردين، أما إذا أمَّ المقيم المسافر فإن المسافر خلفه يُتِمُّ صلاته الرباعية ولا يفارق الإمام. فعن سالم بن عبد الله عن أبيه «أن عمر بن الخطاب كان إذا قدم مكة صلى بهم ركعتين ثم يقول: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قومٌ سَفْرٌ» رواه مالك وعبد الرزاق والطحاوي. قوله قومٌ سَفْر: أي قوم مسافرون. وعن صفوان بن عبد الله قال «جاء عبد الله بن عمر يعود عبد الله بن صفوان، فصلى لنا ركعتين ثم انصرف، فقمنا فأتممنا» رواه عبد الرزاق ومالك والطحاوي. وعن موسى بن سلمة قال «كنا مع ابن عباس بمكة فقلت: إذا كنا معكم صلينا أربعاً، وإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين، قال: سُنَّةُ أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -» رواه أحمد. وفي لفظ آخر عن ابن عباس رضي الله عنه «أنه سُئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعاً إذا ائتمَّ بمقيم؟ فقال: تلك السُّنَّة» رواه أحمد. وهذا الحديث الأخير يأخذ حكم الرفع أي الاتصال بالرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله «تلك السُّنة» وعن نافع «أن عبد الله بن عمر كان يصلي وراء الإمام بمنى أربعاً، فإذا صلى لنفسه صلى ركعتين» رواه مالك. وروى مالك عن نافع «أن ابن عمر أقام بمكة عشر ليالٍ يقصر الصلاة، إلا أن يصليها مع الإمام فيصليها بصلاته» .
اقتداء المفترض بالمتنفل وبالعكس(3/182)
يجوز لمن يريد صلاة الفريضة ووجد رجلاً يصلي نافلة أن يأتمَّ به وتصح صلاته، فعن جابر بن عبد الله «أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء الآخرة، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة» رواه مسلم والبخاري وأحمد. ورواه الشافعي والدارقطني وعبد الرزاق والبيهقي بزيادة «هي له تطوُّع ولهم مكتوبةٌ العشاءَ» وهذه رواية الشافعي «عن جابر قال: كان معاذ يصلي مع النبي العشاء، ثم ينطلق إلى قومه فيصليها، هي له تطوَّع وهي لهم مكتوبةٌ العشاءَ» يذكر هذا الحديث أن قوم معاذ كانوا يصلون صلاة العشاء المفروضة خلف معاذ الذي كان يصلي بهم نافلة، لأنه يكون قد صلى العشاء خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجاء في فصل [صلاة أهل الأعذار] بحث [صلاة الخوف] البند (2) الحديث التالي «عن أبي بَكْرة أنه قال: صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف، فصلى ببعض أصحابه ركعتين ثم سلم فتأخروا، وجاء آخرون فكانوا في مكانهم، فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فصار للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات، وللقوم ركعتان ركعتان» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي وابن حِبَّان والدارقطني.
وجه الاستدلال بهذا الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان قد صلى الصلاة المفروضة ركعتين بقسم من المسلمين، وأتمَّ الصلاة بالتسليم، فلما صلى بالقسم الثاني ركعتين أخريين فإنه إنما صلى بهم هاتين الركعتين نافلة، في حين أنهم هم صلوهما فريضة، بمعنى أن القسم الثاني من المسلمين قد صلوا الفريضة مؤتمِّين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي نافلة.(3/183)
وكما يجوز للمفترض أن يصلي خلف المتنفل فكذلك يجوز العكس، أي يجوز للمتنفل أن يصلي خلف المفترض، بل ويُندب ذلك له إن هو أدرك صلاة الجماعة سواء في المسجد أو في العراء وكان هو قد أدى الفريضة، فيندب له عندئذٍ أن يدخل في صلاة الجماعة، وتكون صلاته معهم نافلة وهم يؤدون صلاة الفريضة، لما رُوي عن محجن الديلي رضي الله عنه قال «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأُقيمت الصلاة فجلست، فلما صلى قال لي: ألست بمسلم؟ قلت: بلى، قال: فما منعك أن تصلي مع الناس؟ قال قلت: قد صليت في أهلي، قال: فصلِّ مع الناس» رواه أحمد ومالك وابن حِبَّان والحاكم والنَّسائي. ولما رُوي عن يزيد بن الأسود رضي الله عنه، وقد مرَّ بتمامه في [حكم صلاة الجماعة وفضلها] وجاء فيه « ... فقال: ما منعكما أن تُصلِّيا مع الناس؟ قالا: يا رسول الله إنا قد كنا صلينا في الرحال قال: فلا تفعلا، إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الصلاة مع الإمام فلْيصلِّها معه، فإنها له نافلة» رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي والدارمي.
الإمام يصلي جالساً(3/184)
يجوز للإمام إن كان مريضاً أن يصلي بالناس جالساً، وفي هذه الحالة يصلِّي المؤتمُّون به وهم جالسون أيضاً مقتدين بإمامهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إنما جُعِل الإمام ليُؤتمَّ به فلا تختلفوا عليه، وإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جلوساً فصلوا جلوساً أجمعين» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. وقد مرَّ في بحث [متابعة المأموم للإمام] فصل [صلاة الجماعة] . وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته وهو شاكٍ، فصلى جالساً وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به، فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجة. وعن جابر رضي الله عنه قال «اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُسمع الناس تكبيرَه، فالتفت إلينا فرآنا قياماً فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعوداً، فلما سلَّم قال: إنْ كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم إن صلَّى قائماً فصلوا قياماً، وإن صلَّى قاعداً فصلوا قعوداً» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في نفرٍ من أصحابه فقال: ألستم تعلمون أني رسول الله إليكم؟ قالوا: بلى نشهد أنك رسول الله، قال: ألستم تعلمون أنه من أطاعني فقد أطاع الله ومِن طاعة الله طاعتي؟ قالوا: بلى نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله ومِن طاعة الله طاعتك، قال: فإنَّ مِن طاعة الله أن تطيعوني، ومن طاعتي أن تطيعوا أُمراءَكم، وإن صلوا قعوداً فصلوا(3/185)
قعوداً» رواه ابن حِبَّان والطبراني وأحمد والطحاوي. فهذا النص مِن أبلغ الدلالات على وجوب صلاة المأمومين جلوساً إن صلى الإمام جالساً.
أما ما يُروى من أن أبا حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه ومالك وأصحابه قالوا بصلاة المأمومين قياماً خلف الإمام الجالس، فهو رأيٌ مرجوح وضعيف.
أما أبو حنيفة ومالك فقد اعتمدا على حديث رواه الدارقطني والبيهقي وعبد الرزاق من طريق جابر الجُعفي عن الشعبي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يَؤُمَّنَّ أحدٌ بعدي جالساً» فنقول لهما إن هذا الحديث قال عنه الدارقطني بعد أن رواه (لم يَروه غير جابر الجُعفي عن الشعبي وهو متروك، والحديث مرسل لا تقوم له الحجة) . ونقل البيهقي هذا القول في كتابه عند روايته لهذا الحديث. وقال الشافعي عن جابر إنه ضعيف جداً. وقال عنه أبو حنيفة إنه كذاب. فقد ذكر ابن حِبَّان عن أبي يحيى الحماني قال: سمعت أبا حنيفة يقول (ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء، ولا لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجُعفي ... ) فالحديث هذا ساقط لا يحل الاحتجاج به، وإني لأعجب من الأحناف كيف يأخذون بهذا الحديث رغم تكذيب إمامهم لراويه جابر الجُعفي!(3/186)
وأما الشافعي وأصحابه فقد قالوا إن الأحاديث الآمرة بالصلاة جلوساً خلف الإمام الجالس هي منسوخة بالحديث التالي: عن عائشة رضي الله عنها قالت «لما ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء بلال يُؤْذِنه بالصلاة، فقال: مروا أبا بكر يصلي بالناس، فقلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجلٌ أسيف، وإنه متى ما يقم مقامك لا يُسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقال: مروا أبا بكر أن يصلي بالناس، فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر رجل أَسيف، وإنه متى يقم مقامك لم يُسمع الناس، فلو أمرتَ عمر، فقال: إنكنَّ لأنتنَّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر أن يصلي بالناس، فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفسه خِفَّة، فقام يتهادى بين رجلين ورِجْلاه تخُطان في الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حِسَّه ذهب أبو بكر يتأخر، فأومأ إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي قائماً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قاعداً، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر رضي الله عنه» رواه البخاري. ورواه مسلم وجاء فيه « ... فأجلساه إلى جنب أبي بكر، وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد» . قوله الأسيف: أي الرقيق الرحيم.
والرد على هؤلاء من وجوه:(3/187)
1- إن حادثة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس، وصلاة أبي بكر مقتدياً به وهو قائم والناس يصلون قياماً بصلاة أبي بكر قد وردت في أحاديث صحيحة، ولكن هناك أحاديث أُخرى صحيحة قد أوردت الحادثة نفسها بشكل مغاير، فذكرت أن المأمومين قد صلوا جلوساً خلف إمامهم رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الجالس، ويكفي حديث جابر المار قبل قليل، فقد جاء فيه «اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يُسمع الناس تكبيرَه، فالتفت إلينا فرآنا قياماً، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعوداً» وحيث أن هذه الحادثة وردت مرة بكيفية معينة، ووردت بكيفية مختلفة مرة أُخرى، فقد أصبحت محتملة، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال.
2 - إن الحديث قد رُوي عن عائشة رضي الله عنها، وهناك حديث مروي عنها هكذا: عن عائشة رضي الله عنها «أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصف خلفه» رواه ابن حِبَّان وابن خُزيمة. ورواه أحمد وابن أبي شيبة والطحاوي بلفظ «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعداً» فعائشة رضي الله عنها قد رُوي عنها قولان متعارضان: أحدهما يقول إن الإمام كان الرسول عليه الصلاة والسلام، وثانيهما يقول إن الإمام كان أبا بكر رضي الله عنه، فصار الأمر محتملاً، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال.(3/188)
3 - حديث عائشة الثاني يدعمه ويقويه الحديث التالي: عن أنس بن مالك قال «آخِرُ صلاة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع القوم في ثوب واحد متوشِّحاً به - يريد قاعداً خلف أبي بكر» رواه ابن حِبَّان. ورواه أحمد بلفظ «آخر صلاة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع القوم في ثوب واحد متوشِّحاً به خلف أبي بكر» ورواه الترمذي بلفظ «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه خلف أبي بكر قاعداً في ثوب متوشِحاً به» . وقال (هذا حديث حسن صحيح) وهذا الحديث عن أنس، والذي قبله عن عائشة رضي الله عنها حديثان صحيحان لا مطعن في أي منهما، فهل بعد هذين الحديثين وبعد حديث جابر يبقى للشافعي وأصحابه ما يتمسكون به من القول بنسخ الأحاديث الكثيرة الصحيحة القائلة بصلاة المأمومين جلوساً خلف الإمام الجالس؟ هل يصح نسخ الأحاديث الصحيحة الكثيرة بحديث محتمل؟.
4- روى ابن أبي شيبة من طرق أن كلاً من جابر بن عبد الله وأُسيد بن حضير وقيس بن قهد قد صلى إماماً وهو جالس، وأن المأمومين خلفه صلوا جلوساً، وقال ابن حِبَّان (إن من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة أفتوا به: جابر بن عبد الله وأبو هريرة وأُسيد ابن حُضير وقيس ابن قهد، والإجماع عندنا إجماع الصحابة ... ولم يُرو عن أحد من الصحابة خلاف لهؤلاء الأربعة لا بإسناد متصل ولا منقطع، فكأن الصحابة أجمعوا على أن الإمام إذا صلى قاعداً كان على المأمومين أن يصلوا قعوداً) وقال عبد الرزاق (وما رأيت الناس إلا على أن الإمام إذا صلى قاعداً صلى من خلفه قعوداً، وهي سُنة من غير واحد) وحيث أن الصحابة أجمعوا أو كادوا، وحيث أن ذلك سُنة فهل يصح بعدئذ القول بالنسخ، وهل أحدٌ أعلم بالنسخ من الصحابة؟.(3/189)
5 - إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أمر المصلين بالاقتداء بالإمام في قيامه وجلوسه، وعندما رآهم يخالفون إمامهم بالصلاة خلفه قياماً وهو جالس قال «إنْ كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهو قعود» . وقد قرأت تعليقاً لطيفاً لأحمد محمد شاكر على هذه المسألة أنقله لكم (ودعوى النسخ يردها سياق أحاديث الأمر بالقعود وألفاظها، فإن تأكيد الأمر بالقعود بأعلى ألفاظ التأكيد مع الإنكار عليهم بأنهم كادوا يفعلون فعل فارس والروم يبعد معهما النسخ، إلا إن ورد نص صريح يدل على إعفائهم من الأمر السابق وأنَّ علة التشبُّه بفعل الأعاجم زالت، وهيهات أن يوجد هذا النص، بل كل ما زعموه للنسخ هو حديث عائشة - أعني في صلاة النبي في مرض موته مع أبي بكر - ولا يدل على شئ مما أرادوا ... ) .
6 - وأقول أخيراً ما يلي: على افتراض أنه لا توجد نصوص تعارض حديث عائشة الأول الذي يعتمدون عليه في ادِّعاء النسخ، وقطعاً للحجة، فإنه لا حاجة بهم إلى القول بالنسخ، وإنما كان عليهم أن يحملوا ما حصل على أنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام، بمعنى أنه ما كان لغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون إماماً لإمام، فالأحاديث تذكر أن أبا بكر كان الإمام، وأن الناس خلفه كانوا يأتمون به ويقتدون به، وأن أبا بكر كان يأتمُّ ويقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالأحاديث تقول «وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والناس يصلون بصلاة أبي بكر» ووقع في روايةٍ عند ابن حِبَّان وغيره «فكان أبو بكر يأتمُّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والناس يأتمون بأبي بكر» فهل يقول الشافعيون إن الصلاة بإمامين في وقت واحد جائز ومشروع؟ ألا يدل ذلك على أنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام التي لا يجوز لمسلم أن يقلده فيه؟.(3/190)
إن هذه البنود مجتمعة ومتفرقة تُسقط الادعاء بوجود النسخ، ويبقى الحكم عاماً ومحكماً بأن المأمومين يصلون جلوساً خلف الإمام الجالس.
صلاة الإمام المخلّ بشروط الصلاة
إذا أمَّ الناس جُنُبٌ أو مَن ليس على وضوء وهو لا يعلم حتى خرج من الصلاة، فإن المأمومين لا يعيدون صلاتهم لأنها صحيحة مقبولة، ويعيدها الإمام وحده لأن الطهارة شرط لصحة الصلاة لا تقبل بدونها، وكذلك إذا أخلَّ الإمام بأي شرط وأنهى صلاته دون علم المأمومين فصلاتهم صحيحة، وصلاته وحده باطلة تجب عليه إعادتها، فقد وردت عدة آثار عن كبار صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم صلوا بالناس وهم جنب، أو وهم على غير وضوء، دون علم منهم ومن المصلين، ثم إنهم لما علموا بذلك بعد انقضاء صلاتهم أعادوا هم وحدهم صلاتهم، ولم يأمروا المصلين بإعادة تلك الصلاة، وقد حصل كل ذلك على مرأى ومسمع من الصحابة رضوان الله عليهم دون إنكار منهم، فكان ذلك إجماعاً. فعن الأسود بن يزيد قال «كنت مع عمر بن الخطاب بين مكة والمدينة فصلى بنا، ثم انصرف فرأى في ثوبه احتلاماً، فاغتسل وغسل ما رأى في ثوبه وأعاد صلاته، ولم نُعد صلاتنا» رواه ابن المنذر. وعن الشريد الثقفي «أن عمر صلى بالناس وهو جنب، فأعاد ولم يأمرهم أن يعيدوا» رواه الدارقطني بسند رواته ثقات. وعن محمد بن عمرو ابن الحارث بن المصطَلِق «أن عثمان صلى بالناس صلاة الفجر، فلما تعالى النهار رأى أثر الجنابة على فخذه فقال: كبرتُ والله، كبرتُ والله، أجنبتُ ولا أعلم، فاغتسل وأعاد الصلاة، ولم يأمرهم أن يعيدوا» رواه ابن المنذر والأثرم والبيهقي والدارقطني. وعن نافع «أن ابن عمر صلى بأصحابه، ثم ذكر أنه مسَّ ذكره فتوضأ، ولم يأمرهم أن يعيدوا» رواه الدارقطني. ورواه ابن المنذر وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي باختلاف يسير.(3/191)
فالإمام إذا أخل بشرط من شروط الصلاة كالطهارة مثلاً وهو لا يعلم فإن صلاة المؤتمين به صحيحة، سواء تمت الصلاة بالإخلال أو حصل تدارك له في أثناء الصلاة، فالعبرة في كل ذلك أن يكون قد حصل ما حصل بدون علم الإمام، أما إذا كان الإمام يعلم بوجود الإخلال، وكان المؤتمون يعلمون بوجوده لدى الإمام، فإن صلاة الجميع تكون باطلة عندئذٍ.
والخلاصة أن الإمام إن هو أخلَّ بشروط الصلاة أو انتقص منها شيئاً فإن مردوده راجع عليه وحده، ولا يضير المصلين شئ إلا أن يكونوا يعلمون ويرضون فيشاركوه في أمره، وذلك للأدلة السابقة، ولما روى عامر بن عقبة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «مَن أمَّ الناس فأصاب الوقت واتمَّ الصلاة فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئاً فعليه ولا عليهم» رواه ابن حِبَّان وابن خُزيمة وأحمد وأبو داود والطبراني.
الإمام يستخلف في صلاته
للإمام أن يستخلف أحداً ممن يقفون خلفه يقدِّمه عليهم ليؤمهم بدله، وله أن لا يستخلف، وإنما ينصرف من صلاته لإزالة العارض الذي يحول دون مواصلة الصلاة، ثم يعود لإمامتهم، كأن يتذكر أنه جنب، أو على غير وضوء، أو على ثيابه نجاسة دون أن يكون ذهابه لإزالة العارض يحتاج إلى زمن طويل يشق على المصلين، فعن أبي بكرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استفتح الصلاة فكبَّر، ثم أومأ إليهم أنْ مكانَكم، ثم دخل فخرج ورأسه يقطر فصلى بهم، فلما قضى الصلاة قال: إنما أنا بشر وإني كنت جنباً» رواه أحمد. وروى نحوه أبو داود وابن حِبَّان والبيهقي. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما تذكر أنه جُنُب وهو في الصلاة لم يستخلف أحداً، بل ذهب مسرعاً لإزالة العارض وهو الجنابة، ثم عاد فأمَّ الناس.(3/192)
أما الدليل على جواز الاستخلاف فما رواه أبو رزين قال «أمَّنا عليٌّ فرعف، فأخذ رجلاً فقدَّمه وتأخَّر» رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور. وهذا الفعل وإن كان من صحابي، إلا أنه حصل على مرأى ومسمع من الصحابة فلم ينكروه، فكان ذلك دليلاً على صحة الاستخلاف.
الإمام يكرهه المصلون
إمامة الإمام الذي يكرهه المصلون حرام لا تحلُّ له، ولكن الصلاة خلفه جائزة وصحيحة، فعن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم، العبدُ الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمامُ قومٍ وهم له كارهون» رواه الترمذي. وعن ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً، رجلٌ أمَّ قوماً وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأَخَوان متصارمان» رواه ابن ماجة. فمن كانت صلاته لا تجاوز الأذن، ولا ترتفع فوق الرأس فإن هذه الصلاة لا شك حرام، وليست مكروهة فحسب كما قال بذلك عدد من الفقهاء، والمقصود بكُرْهِ المصلين للإمام كره الكثرةِ منهم، ولا يضير هذه الإمامة أن يكرهها شخصان أو ثلاثة مثلاً من بين جمهور المصلين، فالعبرة بالكثرة.
ب. موقف الإمام والمصلين
أين يقف الواحد وأين يقف الإثنان فصاعداً(3/193)
يقف الواحد إذا كان رجلاً عن يمين الإمام دون أن يتقدم عليه الإمام بشئ، فإذا جاء رجل ثانٍ اصطف الاثنان خلف الإمام، وكذلك يفعلون إن كانوا أكثر من اثنين، وإذا كان المأمومون رجلاً وطفلاً فحسب اصطفَّا خلف الإمام كذلك، وإذا كانوا رجلاً وطفلاً وامرأة اصطفَّ الرجل والطفل خلف الإمام، ووقفت المرأة خلفهما وحدها، وإذا كانوا رجلاً وامرأة فقط وقف الرجل عن يمين الإمام ووقفت المرأة خلفهما وحدها. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر ... فجاء فتوضأ، ثم قام فصلى في ثوب واحد خالف بين طرفيه، فقمت خلفه فأخذ بأذني فجعلني عن يمينه» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والبيهقي. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال «بعثني العباس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيت خالتي ميمونة، فبتُّ معه تلك الليلة، فقام يصلي من الليل، فقمت عن يساره، فتناولني من خلف ظهره فجعلني على يمينه» رواه مسلم. وعنه رضي الله عنهما قال «أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر الليل فصليت خلفه، فأخذ بيدي فجرَّني فجعلني حذاءه، فلما أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صلاته خنستُ، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما انصرف قال لي: ما شأني أجعلك حذائي فتخنُسُ؟ فقلت: يا رسول الله أَوَ ينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول الله الذي أعطاك الله؟ قال: فأعجبته فدعا الله لي أن يزيدني علماً وفهماً ... » رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنَّسائي. وقد مرَّ ذكر هذا الحديث ووجه الاستدلال به في بحث [تنعقد الجماعة بإمام ومأموم واحد] فصل [صلاة الجماعة] . وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي المغرب، فجئت فقمت إلى جنبه عن يساره، فنهاني فجعلني عن يمينه، فجاء صاحبٌ لي فصففنا خلفه، فصلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثوب واحد مخالفاً بين(3/194)
طرفيه» رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وفي رواية مسلم «فأخذ بأيدينا جميعاً فدفعنا حتى أقامنا خلفه» . وعن أنس ابن مالك رضي الله عنه «أن جدَّته مُلَيْكة دعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعته، فأكل منه ثم قال: قوموا فلأُصَلِّ لكم، قال أنس: فقمتُ إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لُبِس، فنضحته بماء فقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا، فصلى لنا ركعتين، ثم انصرف - صلى الله عليه وسلم -» رواه أبو داود وأحمد والبخاري ومسلم ومالك. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعائشة خلفنا وأنا إلى جنب النبي - صلى الله عليه وسلم - أُصلي معه» رواه أحمد والنَّسائي.
موقف الصبيان والنساء(3/195)
يقف الرجال في المقدمة صفاً واحداً أو أكثر، ثم يقف الصبيان خلفهم، ثم تقف النساء خلف الصبيان، وإذا كان صبي واحد فقط وقف في صف الرجال، أما إن كان الصبيان اثنين فأكثر فالأفضل والسُّنَّة هي أن يخرجوا من صف الرجال ويكوِّنوا من أنفسهم صفاً منفصلاً خلف الرجال، والنساء يشكِّلن صفاً خلف الجميع. وإذا لم تكن سوى امرأة واحدة فإنها تقف وحدها خلف الصفوف، فإن دخلت في صف الصبيان فقد خالفت السُّنة، ولكن صلاتها صحيحة، فعن عبد الرحمن بن غَنْم قال: قال أبو مالك الأشعري لقومه «أَلا أُصلي لكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فصف الرجال ثم صف الولدان ثم صف النساء خلف الولدان» رواه أحمد وأبو داود والبيهقي. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطوعاً، قال: فقامت أم سُلَيْم وأم حرام خلفنا، قال ثابت: لا أعلمه إلا قال: وأقامني عن يمينه، فصلينا على بساط» رواه أحمد وأبو داود. ومرَّ قبل قليل حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في بحث [أين يقف الواحد وأين يقف الاثنان فصاعداً] وفيه [وصففت أنا واليتيم وراءه] . مما يدل على أن الصبي إن كان وحده دخل في صفِّ الرجال.
صلاة الرجل وحده خلف الصفوف(3/196)
إذا اكتملت الصفوف جاز للرجل المنفرد أن يصلي خلف الصفوف وحده، ولا يلزمه جذب شخص من الصف الذي أمامه ليصلي معه مُكوِّناً معه صفاً، وكل ما رُوي من أحاديث تأمر المصلي وحده أن يجذب إليه أحداً من الصف الذي أمامه هي ضعيفة أو واهية لا تصلح للاحتجاج، فمثلاً روى وابصة ما يلي «رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً صلى خلف الصفوف وحده، فقال: أيها المصلي وحده ألا وصلت إلى الصف، أو جررت إليك رجلاً فقام معك؟ أعد صلاتك» رواه البيهقي والطبراني، وقال البيهقي [تفرد به السري بن إسماعيل وهو ضعيف] وعن ابن عباس «أن النبي- صلى الله عليه وسلم - أمر الآتي وقد تمَّت الصفوف أن يجتذب إليه رجلاً يقيمه إلى جنبه» رواه الطبراني بإسناد قال الحافظ ابن حجر: واهٍ. وممن قال بمشروعية الجذب الشافعي وعطاء وإبراهيم النخعي، ذكر ذلك ابن المنذر.(3/197)
وذهب مالك بن أنس وأحمد بن حنبل وإسحق بن راهُوَيه والأوزاعي إلى عدم مشروعية الجذب، وهو الصحيح، وذلك لأن جذب شخص من صفٍّ مكتمل يقطع ذلك الصف ويُحدث فيه خللاً وذلك حرامٌ لا يجوز، فعن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من وصل صفاًّ وصله الله، ومن قطع صفاً قطعه الله» رواه النَّسائي وابن خُزيمة وأحمد وأبو داود والحاكم. فالمسلمون مأمورون بوصل الصفوف وإكمالها لا بقطعها. ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال « ... وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» رواه البخاري من طريق أبي هريرة، ورواه مسلم وأحمد والدارقطني. وحالتنا هذه هي حالة عذر وعدم استطاعة، فلا إثم عندئذ، فالمصلي وحده إن لم يجد فُرجة فهو معذور، ولا إثم عليه، وصلاته وحده خلف الصفوف مشروعة وصحيحة. وقد ذكر ابن المنذر أن الحسن البصري ومالكاً والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي يقولون بعدم بطلان الصلاة منفرداً، بشكل مطلق دون تقييدها بأي عذر، ونحن لا نقول ذلك بشكل مطلق، وإنما نقيده بعذر عدم الاستطاعة لامتلاء الصفوف.(3/198)
أما إن كان الصف غير مكتمل فقد لزمه الدخول فيه، ولم يَجُز له أن يصلي منفرداً خلف الصفوف، لأن الأصل بطلان الصلاة منفرداً خلف الصفوف، فعن وابصة بن معبد «أن رجلاً صلى خلف الصف وحده، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الصلاة» رواه الترمذي وأحمد وابن ماجة. ورواه ابن حِبَّان ولفظه «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده، فأمره فأعاد الصلاة» . ورواه أبو داود إلا أنه ذكر «فأمره أن يعيد الصلاة» . وعن علي بن شيبان «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي خلف الصف، فوقف حتى انصرف الرجل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: استقبل صلاتك، فلا صلاة لرجلٍ فردٍ خلف الصف» رواه أحمد وابن ماجة وابن خُزَيمة وابن حِبَّان. فصلاة المنفرد خلف الصف وحده باطلة، وتجب عليه إعادتها لصريح النص في ذلك.(3/199)
ويكره لمن تأخر عن تكبيرة الإحرام أن يُحْرم ويركع دون الصف ثم يمشي حتى يدخل في الصف، بل ينتظر حتى يدخل في الصف وعندئذٍ يُحْرم، أي يكبر تكبيرة الإحرام، ويُتمُّ ما فاته بعد تسليم الإمام والانصراف من الصلاة، ولكنْ إن فعل المتأخر ذلك فأحرم قبل دخول الصف وركع، ثم مشى حتى يدخل في الصف فصلاته صحيحة وإن كانت خلاف السُّنة، فعن أبي بَكرة رضي الله عنه «أنه جاء ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - راكع، فركع دون الصف ثم مشى إلى الصف، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَن هذا الذي ركع ثم مشى إلى الصف؟ فقال أبو بَكرة: أنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: زادك الله حرصاً ولا تعُد» رواه أحمد والبخاري والنسائي والبيهقي والطحاوي. قوله زادك الله حرصاً ولا تعد: يدل على أن صلاة أبي بَكرة قد قُبلت وصحَّت، ولو كانت باطلة لأمره بالإعادة. إلا أنها خلاف السنة، وهذا هو معنى قوله «ولا تَعُد» . وممن رُوي عنهم جواز صلاة أبي بَكرة زيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن جبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير وابن جُريج ومعمر، ذكر ذلك ابن المنذر في الأوسط.
أين يقف الإمام من المأمومين؟(3/200)
يقف الإمام قُبالة وسط صف المأمومين خلفه، ويكره أن يقف في مكان أعلى من المأمومين إلا أن يفعل ذلك قصد التعليم فلا بأس، ولا بأس بحصول العكس، بأن يكون المأمومون أعلى من إمامهم، ولكن لا بد من أن يظلوا يرون الإمام أو يسمعون صوته. وإذا وُجد حائل بين الإمام والمأموم لا يمنع الرؤية أو سماع الصوت فلا بأس. ويجوز للمُؤتمِّ أن يكون خارج المسجد ما دام يرى الإمام أو يسمع صوته فيصلي بصلاته، فعن همام «أن حذيفة أمَّ بالناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا يُنهَوْن عن ذلك؟ قال: بلى قد ذكرت حين مددتني» رواه أبو داود وابن خُزَيمة والحاكم. ورواه الشافعي وابن حِبَّان بلفظ «صلى بنا حذيفة على دكان مرتفع فسجد عليه، فجبذه أبو مسعود البدري، فتابعه حذيفة، فلما قضى الصلاة قال أبو مسعود: أليس قد نُهِيَ عن هذا؟ فقال له حذيفة: ألم ترني قد تابعتك؟» . فعُلُوُّ الإمام على المأمومين منهيٌّ عنه إلا أن يكون ذلك لأجل تعليم الصلاة فلا بأس، لما روى سهل بن سعد رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس على المنبر أول يوم وُضع، فكبَّر وهو عليه ثم ركع، ثم نزل القهقرى فسجد وسجد الناس معه، ثم عاد حتى فرغ فلما انصرف قال: يا أيها الناس إنما فعلت هذا لتأتمُّوا بي ولِتَعَلَّمُوا صلاتي» رواه أحمد والبخاري ومسلم والنَّسائي والدارمي. وعن صالح بن إبراهيم قال «رأيت أنس بن مالك صلى الجمعة في بيوت حميد بن عبد الرحمن بن عوف، فصلى بصلاة الإمام في المسجد، وبين بيوت حميد والمسجد الطريق» رواه الشافعي والبيهقي. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرته، والناس يأتمُّون به من وراء الحجرة، يصلون بصلاته» رواه البيهقي. وقد مرَّ في بحث [صلاة التراويح] فصل [صلاة التطوع] حديث زيد ابن ثابت «احتجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُجَيْرة بخَصَفَة أو(3/201)
حصير، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيها، فتَتَبَّع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته ... » رواه مسلم والبخاري والنَّسائي.
تمَّ بفضل الله تعالى ونعمته الفراغُ منه إعداداً ومراجعةً الساعةَ الرابعة من بعد ظهر يوم الأربعاء وقفة عرفة التاسع من ذي الحجة عام 1420 هجرية، والخامس عشر من آذار عام 2000 ميلادية.
الفهرس
الموضوع ………………… الصفحة
الفصل الأول
الصلاة: حكمها ومواقيتها… 5
فرض الصلاة… 5
فضل الصلاة… 6
حكم الصلاة المكتوبة… 7
الصلوات المكتوبة ومواقيتها… 11
وقت صلاة الظهر… 12
وقت صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى… 14
وقت صلاة المغرب… 15
وقت صلاة العشاء… 16
وقت صلاة الفجر… 18
إذا أخَّر الإمام الصلوات عن مواقيتها… 19
إدراك ركعة من الصلاة في وقتها… 20
مواقيت الصلاة في الدائرة القطبية… 21
فضل صلاتي الصبح والعصر… 28
قضاء الصلاة الفائتة… 28
النوم قبل صلاة العشاء والسَّمر بعدها… 31
الفصل الثاني
المساجد وأماكن الصلاة… 33
فضل المساجد… 33
الذهاب إلى المسجد… 34
أدب المسجد… 35
أفضل المساجد… 40
الصلاة على غير الأرض… 41
الصلاة على الكرسي… 42
المواضع التي لا تجوز الصلاة فيها… 45
المواضع التي تكره فيها الصلاة… 46
حُرمة اتخاذ القبور مساجد… 48
تحويل معابد الكفار ومقابرهم إلى مساجد… 50
الفصل الثالث
الأذان: حكمه وألفاظه… 53
فرض الأذان وألفاظه… 53
فضل الأذان… 59
حكم الأذان… 60
أحوال المؤذِّن… 61
الأذان أول الوقت… 63
ما يُقال عند التأذين وعقب الفراغ منه… 64
مغادرة المسجد عقب الأذان… 66
الأذان في عصرنا الحديث… 66
الإقامة: حكمها وألفاظها… 68
الفصل الرابع
أحوال المصلِّي… 77
الطهارة للصلاة… 77
سَتر العورة… 78
الثوب في الصلاة… 81
الصلاة بالأحذية… 83
الصلاة على الدابة وكل مركوب… 84
حكم النجاسة في الصلاة… 85
الفصل الخامس
القِبلةُ والسُّتْرة… 87
استقبال القِبلة في الصلاة… 87(3/202)
التَّوجُّه إلى جهة الكعبة وليس إلى عينها… 90
السُّترة للمصلِّي… 91
سُترة الإمام… 93
دفع المارِّ عند اتخاذ السُّترة… 94
ما يقطع الصلاة بمروره… 96
الصلاة إلى نائم أو بهيمة… 101
الفصل السادس
صفة الصلاة … 103
حكم تكبيرة الإحرام … 103
رفع اليدين في الصلاة… 104
إقامة الصفوف أو تسويتها … 106
اصطفاف النساء خلف الرجال… 109
وضع اليدين في الصلاة… 111
النظر في الصلاة… 113
الجهر في الصلاة الجهرية… 115
دعاء الاستفتاح … 117
التَّعوُّذ في الصلاة… 120
البسملة في الصلاة… 120
قراءة الفاتحة في الصلاة… 131
صلاة مَن لا يحسن قراءة الفاتحة… 138
التأمين في الصلاة… 139
قراءة ما زاد على الفاتحة من القرآن في الصلاة… 141
قراءة القرآن في الصلوات الخمس … 146
التكبير في الصلاة… 150
الركوع وهيئته والذِّكر فيه… 153
الرفع من الركوع والذِّكر فيه… 159
السجود وهيئته والذِّكر فيه… 164
الجلسة بين السجدتين… 176
جلسة الاستراحة… 178
التشهد وهيئة الجلوس له… 180
الصلاة على رسول الله في الصلاة… 190
الدعاء والتَّعوُّذ في آخر الصلاة… 197
التسليم في الصلاة… 199
سجود السهو: حكمه وأسبابه… 204
كيفية سجود السهو… 207
العمل عند حصول الشك في عدد الركعات… 211
الفصل السابع
القنوت والخشوع في الصلاة… 213
تمهيد… 213
1- القنوت في الصلاة… 213
2- الخشوع في الصلاة… 226
العمل القليل في الصلاة… 229
الأفعال والحالات المنهيُّ عنها في الصلاة… 237
أ- الأفعال المكروهة في الصلاة… 238
ب- الحالات التي تُكره فيها الصلاة… 241
ج- الأفعال المحرَّمة في الصلاة… 242
الفصل الثامن
ما يُفعل ويقال عقب الصلاة… 247
أولاً - ما يُفعل عقب الصلاة… 247
أ- الجلوس فترة عقب الصلاة… 247
ب- الانصراف عن اليمين والشمال… 250
ج- الفصل بين الصلاة المكتوبة وصلاة التطوع… 251
ثانياً - ما يُقال عقب الصلاة من أذكار… 252
أ- الاستغفار… 254
ب- الاستعاذة… 255(3/203)
ج- التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل… 257
د- تلاوة آيات من القرآن … 265
هـ- الدعاء … 267
الفصل التاسع
صلوات مفروضة عدا الصلوات الخمس… 273
1- صلاة العيدين، حكمها ووقتها… 273
صفة صلاة العيدين… 277
التكبير في العيدين… 282
سنن العيدين الأخرى… 283
2- صلاة الجنازة، حكم صلاة الجنازة… 286
حكم الصلاة على شهيد المعركة مع الكفار… 287
الصلاة على الأموات المسلمين… 289
الصلاة على الغائب … 290
فضل الصلاة على الجنازة واتِّباعها… 291
الصلاة على الميت في المسجد… 292
موقف الإمام من الرجل ومن المرأة… 293
استحباب كثرة المصلين وكثرة الصفوف… 294
صفة صلاة الجنازة… 295
الدعاء للميت… 297
لا بدَّ لصلاة الجنازة من طهارة كاملة … 299
3 - صلاة الجمعة… 300
على مَن تجب الجمعة… 302
وقت صلاة الجمعة… 304
النداء لصلاة الجمعة… 305
العدد الذي تجب فيه الجمعة… 307
إدراك ركعة من الجمعة لا بد منه لإدراك الجمعة… 309
التبكير في الحضور… 309
سنن الجمعة… 311
خطبة الجمعة… 314
القراءة في صلاة الجمعة… 318
السنة الراتبة لصلاة الجمعة… 319
فضل يوم الجمعة… 320
الفصل العاشر
صلاة أهل الأعذار [الخائف والمسافر والمريض] … 323
1- صلاة الخوف… 323
الصلاة إيماءً وعلى المركوب وفي غير جهة القِبلة… 328
2 - صلاة المسافر… 329
مسافة القصر… 331
المسافر يستمر في القصر… 344
3 - صلاة المريض… 346
الجمع بين الصلاتين… 349
كيفية الجمع بين الصلاتين… 354
الفصل الحادي عشر
صلاة التطوع أو صلاة النفل… 357
فضل صلاة التطوع وأصنافها… 357
أ - السنن الراتبة المؤكدة… 358
ب - السنن الملحقة بالسنن الراتبة المؤكدة… 366
قضاء السنن الراتبة والسنن الملحقة بها… 371
صلاة الرواتب في السفر… 375
ج - تحية المسجد… 378
د – الوتر… 380
القنوت في الوتر وفي الصلاة المكتوبة… 392
هـ - صلاة التراويح… 401
و قيام الليل… 407
ز - صلاة الضحى… 417
ح - صلاة الكسوف… 423(3/204)
ط - صلاة الاستسقاء… 431
ي - صلاة التسابيح… 439
ك - صلاة الاستخارة… 441
ل - سجدة التلاوة… 444
م - سجدة الشكر وصلاة الشكر… 451
ن - الصلاة بعد الفراغ من الطواف عند المقام… 450
س - الصلاة عقب الأذان… 453
ع - الصلاة عقب الوضوء… 454
الأوقات المنهي عن الصلاة فيها… 455
أحكام عامة لصلاة التطوع … 463
الفصل الثاني عشر
صلاة الجماعة… 469
حكم صلاة الجماعة وفضلها… 469
صلاة النساء… 475
الإمام يصلي صلاة خفيفة… 476
متابعة المأموم للإمام… 478
تنعقد الجماعة بإمام ومأموم واحد… 479
مفارقة الإمام… 481
الصلاة جماعة في المسجد مرتين… 482
المسبوق يدخل في الصلاة على الحال التي عليها الإمام… 484
خروج المحدث من الصلاة… 486
الفصل الثالث عشر
الإمامة في الصلاة… 489
أ - صفة الأئمة… 489
الأحق بالإمامة… 489
إمامة الأعمى… 490
إمامة الصبي… 491
إمامة المرأة… 491
اقتداء المقيم بالمسافر وبالعكس… 492
اقتداء المفترض بالمتنفل وبالعكس… 493
الإمام يصلي جالساً… 494
صلاة الإمام المخلِّ بشروط الصلاة… 499
الإمام يستخلف في صلاته… 500
الإمام يكرهه المصلُّون… 501
ب - موقف الإمام والمصلِّين (أين يقف الواحد وأين يقف الاثنان فصاعداً؟) … 501
موقف الصبيان والنساء… 503
صلاة الرجل وحده خلف الصفوف… 503
أين يقف الإمام من المأمومين؟ … 505(3/205)