تحبس هذه الجلالة على اختلاف بينهم، أو في الروايات في التوقيت، فجاء في بعض الروايات ما يدل على أنها تحبس أربعين يوماً، وتعلف الطيب من الطعام، وتمنع من الخبيث، وجاء أيضاً ما يدل على أنها تحبس ثلاثة أيام وسبعة أيام.
على كل حال إذا غلب على الظن طيب لحمها، وأنها تغير لحمها الذي تأثر بالنجاسة إلى الطيب فإنها حينئذٍ تطيب؛ لأن الأصل أنها مأكولة اللحم.
قال -رحمه الله-: "وعن أبي قتادة -رضي الله عنه- في قصة الحمار الوحشي" ...
قبل ذلك: المشاريع الكبيرة للدواجن قد تطعم هذه الدواجن شيء من النجاسات، يعني الأطعمة المستوردة لهذه الدواجن بعضها نجس مركب من دم ولحوم وغيرها هذه نجسة، فهل أكلها من هذه الأطعمة المستوردة المركبة من هذه المواد التي منها النجس ومنها غير النجس تأخذ حكم الجلالة فتحبس حتى تطيب؟ أو نقول: أنه بالتركيب من النجس وغيره استحالت هذه النجاسات، وصارت طاهرة فلا تأخذ الحكم؟ لأن بعض الأطعمة والأغذية التي تستورد للدواجن فيها ما فيها، فهل نقول: إن حكمها حكم الجلالة تحبس فلا تطعم إلا الطيب حتى تطيب؟ أو نقول: إن هذه المركبات من الأغذية فيها الطيب وفيها النجس واستحالت هذه النجاسات فصارت لا أثر لها في الطعام؟ إذا وجدت عين النجاسة وهي باقية لا شك أن حكمها حكم الجلالة، لكن إذا زال أثرها النجاسة، أثر هذه النجاسة وزال واستحال وصارت طيبة، يعني مثلما يعالج بعض المواد الآن، ومنها الماء، الماء النجس يعالج حتى يطيب، لكن إذا كانت المعالجة هي مجرد تغطية، يعني كان لها رائحة فخلط معها شيء أزال هذه الرائحة، هل نقول: إن النجاسة زالت أو أن الرائحة زالت أو غطيت هذه الرائحة؟ أحياناً تكون هناك رائحة، افترض المكان فيه ميتة أزيلت هذه الميتة، وبقي المكان فيه رائحة الميتة جئت بالطيب والبخور وبخرت هذا المكان صارت الرائحة طيبة، هل نقول: إن الرائحة الأولى القبيحة زالت بالكلية أو غطيت بما غطاها من رائحة طيبة؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .(99/28)
إنما موجودة، ووجود الرائحة دليل على وجود العين، يعني إذا كان هذا الطعام خلط معه أشياء، يعني لما كانت النجاسة العينية موجودة لها رائحة تدل عليها قبيحة خُلط معها أشياء له روائح طيبة فزالت الرائحة، هل معنى هذا أن العين النجسة زالت؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
غطيت وإلا فالنجاسة باقية، فالتغطية لا تكفي.
طيب شخص أكل ثوم أو بصل، ونهي عن دخول المسجد، والصلاة مع الجماعة فقال: أتطيب بطيب يضيع هذه الرائحة، طيب قوي نفاذ يضيع هذه الرائحة، هل نقول: إن رائحة الثوم والبصل زالت أو غطيت؟ غطيت، وعلى هذا يجوز له أن يصلي مع الناس وإلا ما يجوز؟ يعني فرق، فرق بين الأولى، المسألة الأولى وهي نجاسة والثانية وقد أكل طعاماً مباحاً، وقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((أنا لا أحرم ما أحل الله)) لكن منع لرائحته، والرائحة زالت، يعني ما منع لذاته، إنما منع لرائحته، والرائحة زالت، وحينئذٍ لا إشكال في هذا، والمسألة الثانية تختلف عن المسألة الأولى.
"وعن أبي قتادة -رضي الله عنه- في قصة الحمار الوحشي فأكل منه النبي -صلى الله عليه وسلم-" متفق عليه" وهذا تقدم في الحج، قتادة بن الحارث بن ربعي أحرم النبي -عليه الصلاة والسلام- والصحابة في الحديبية، فمر بهم حمار وحش، وكان مشغولاً منشغل بشيء، فالصحابة تناظروا وضحكوا، لكنهم ما أشعروه بمرور هذا الحمار الوحشي، انتبه التفت فإذا به، فحمل عليه فقتله، بل سقط صوته، فطلب أن يناوله أحد ما ناولوه؛ لأنه لو أعانه أحد على قتله ما جاز له أن يأكل منه وهو محرم، وأبو قتادة غير محرم، المقصود أنه صاد الحمار الوحشي، فبعث للنبي -عليه الصلاة والسلام- بشيء منه فأكله النبي -عليه الصلاة والسلام-، وحصل أيضاً نظير هذه القصة لأبي ثعلبة ورده عليه، وقال: ((إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم)).(99/29)
والفرق بين القصتين أن المردود صيد من أجله -عليه الصلاة والسلام-، وهذا الذي صاده هذا الحمار الوحشي الذي أكل منه النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يصد من أجله، فالذي يحرم ما صاده المحرم أو في الحرم أو صيد من أجله، بينما إذا صاده حلال فإنه يباح لغيره أن يأكل منه ولو كان محرماً إذا لم يصد من أجله، وفيه دليل على أن الحمار الوحشي مأكول، ونقل فيه في إباحته الإجماع، ومنطوق حديث الباب يدل على حله، كما أن مفهوم النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية يدل على حله أيضاً على ما تقدم.
قال: "وعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: "نحرنا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرساً فأكلناه" تقدم الكلام في أكل لحم الخيل، وأن السنة الصحيحة الصريحة دلت على حل أكله، وهنا تقول: "نحرنا" والمعلوم أن النحر إنما يكون للإبل، وهو الطعن في اللبة بخلاف الذبح الذي هو فري الأوداج، وأهل العلم يقررون أن الإبل تنحر، وما عداها يذبح، ويقررون أيضاً جواز نحر ما يذبح، وذبح ما ينحر، وقد يتجوز في التعبير والإطلاق، فيطلق على الذبح نحر، وعلى النحر ذبح، وهنا قالت: "نحرنا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" لا يلزم أن يكون نحر هذا الفرس مثلما تنحر الإبل كما هو معلوم، وإلا فالخيل السنة فيها كما هو في غيرها من بهيمة الأنعام أنها تذبح، وأن النحر خاص بالإبل، ولو قيل بأن الخيل أيضاً تنحر لهذا الحديث كالإبل لما بعد، وجمهور أهل العلم على أن النحر خاص بالإبل.
وهذا من أدلة الجمهور في جواز أكل لحم الخيل، وقد تقدم الكلام فيه، والإجابة عن أدلة المخالفين.
"وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أُكل الضب على مائدة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" متفق عليه" قدم للنبي -عليه الصلاة والسلام- فمد يده ليأكل فأخبر أنه لحم ضب، فامتنع -عليه الصلاة والسلام-، وقال: إنه يجد نفسه تعافه؛ لأنه لم يكن بأرض قومه، وأكل على مائدته، يقول خالد بن الوليد: فاجتررته فأكلته، فحل أكله بالسنة التقريرية، أقر النبي -عليه الصلاة والسلام- من أكله على مائدته، فهذا دليل للجمهور على أنه مأكول.(99/30)
قال بعض أهل العلم: إنه لا يجوز أكله؛ لأنه مما مسخ، فيكون أصله آدمي، والآدمي لا يجوز أكله، فكونه ممسوخ يجعله محرم الأكل، لكن مثل هذا الكلام يعارض به مثل هذا الحديث الذي في الصحيحين، وعلى افتراض أنه ممسوخ مع أنه ثبت أن الممسوخ لا عقب له، ولا نسل له، وهذا يتناسل، وعلى افتراض أنه ممسوخ، وثبت فيه مثل هذا الحديث لا شك أن هذه العلة، وكون أصله آدمي محرم الأكل، ثم استحال إلى جنس آخر هذا لا يعني أنه يحرم.
الحيوانات وما يدب على ظهر الأرض كثيرة جداً، لا يمكن الإحاطة بها، وأحكامها مختلفة، وقد يبحث طالب العلم عن بعضها فلا يجد كلاماً لأهل العلم في حكمها.
ومن مزايا كتاب حياة الحيوان للدميري أنه إذا ذكر أي حيوان يذكره أنه يذكر حكمه، وهو نافع جداً في هذا الباب، الحيوانات كثيرة جداً لا يمكن أن يحاط بها، وتبحث عند الفقهاء في كتاب الأطعمة، ما تجد أن هذا الحيوان على وجه الخصوص له حكم عند كثير من أهل العلم، فإما أن يعمل فيه القواعد العامة هذا إذا لم يرد فيه نص بعينه، وكل على مذهبه في الأصل، أو ينظر فيه مثل هذا الكتاب وهو نافع من هذه الحيثية، لكن فيه خلل كبير، الكتاب فيه خلل كبير، فيه طلاسم، وفي ذكر خواص هذه الحيوانات، ما يصل بعضه فيه إلى الشرك، نسأل الله السلامة والعافية، فيجعل القارئ يتعلق بهذا الحيوان، أو بشيء من أجزائه.
فمن خواصه مثلاً: أن رأسه إذا جعل في وسادة حصل كذا وكذا، وإذا جعل في .. ، علق في جانب البيت حصل كذا، هذا شرك نسأل الله السلامة والعافية، لكن إذا هذب الكتاب ونقح فيه أيضاً طلاسم، وفيه جداول، وفيه رموز، كل هذه من المحرمات شديدة التحريم، لكن ميزة الكتاب أنه فيه إطلاع للقارئ على عجائب هذه المخلوقات، وفيه أيضاً بيان الأحكام من حل الأكل والحرمة، فلو سلم من هذا الخلل وهو كبير لا أقول يمكن تجاوزه، لا، خلل كبير جداً، قد يصل إلى حد الشرك، فالكتاب لا نظير له في بابه على حد علمي.(99/31)
ظهر له أكثر من تهذيب، وهذب وجرد عن هذه الطلاسم، وهذه الخواص أيضاً فيبقى أن الكتاب فيه فائدة كبيرة من حيث حكم هذه الحيوانات، فيه أيضاً مثلما ذكرنا اطلاع على عجائب هذه المخلوقات، وفيه طرائف وأشياء يستفيدها طالب العلم، وهو صاحب استطراد، إذا جاء لأدنى مناسبة لقصة طويلة أو لأخبار واسعة ذكرها، وذكر أنه ذكر الخلفاء كلهم بسيرهم لمناسبة، وهو في كتاب حياة الحيوان، كيف يدخل الخلفاء في حياة الحيوان؟ لكنها جرت مناسبة فسردهم، وأمور كثيرة، يعني في هذا الكتاب، وهو فيه نفع، وفيه ضرر كبير، فطالب العلم المميز الذي يعرف الحق من الباطل لا مانع بل يستفيد من هذا الكتاب.
طالب: كتاب الجاحظ رعاك الله؟
ما هو مثله الجاحظ، الجاحظ مسألة أدبية، ما هي بعلمية، مسحته أدبية.
قال: "وعن عبد الرحمن بن عثمان القرشي" ...
يعني مما ذكره الجاحظ في الحيوان قال: شخص له جار رافضي يلعن طلحة صباحاً ومساءاً، فقلت له: أنت تعرف طلحة هذا الذي تلعنه، قال: أليس هو زوجة الزبير؟ ظلمات بعضها فوق بعض، نسأل الله السلامة والعافية، فالجاحظ يعني نزعته أدبية، ولا يعول عليه في حكم شرعي، لكن الدميري فقيه من فقهاء الشافعية، وله يد في الحديث، شارح لبعض كتب السنة.
قال -رحمه الله-: "وعن عبد الرحمن بن عثمان القرشي -رضي الله عنه- أن طبيباً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الضفدع يجعلها في دواء، فنهى عن قتلها" أخرجه أحمد، وصححه الحاكم" وأخرجه أبو داود والنسائي.
الضفدع جاء النهي عن قتلها في حديث ابن عمر أيضاً، وأن نقيقها تسبيح، النهي عن قتلها دليل على جواز أكلها؟ تحريم أكلها، كما نهي عن قتل الأربعة السابقة.(99/32)
الأمر بقتل الفواسق ((خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم)) الأمر بالقتل يعني بالمقابل دليل على تحريم أكلها، وبعضهم ينازع في أخذ الحل والحرمة من القتل والنهي عنه طرداً وعكساً، فيقول: الأمر بالقتل لا يدل تحريم الأكل، ويستدل بمن يقول بوجوب قتل البهيمة التي يقع عليها الآدمي ((من وجدتموه وقع على بهيمة فاقتلوه، واقتلوا البهيمة)) ويقول بجواز أكلها مع أنها تقتل، والطرد أيضاً بقول من يقول: إنه لا يجوز أكلها هذه البهيمة التي وقع عليها الآدمي، ولا يصحح الأمر بقتلها، ولا شك أن مثل هذا الكلام لا يقاوم ما استدل به أهل العلم من هذه الأحاديث، ولا شك أن النهي عن القتل يعارض جواز الأكل؛ لأن من مقتضيات الأكل القتل، والأمر بالقتل أيضاً يعارض الجواز نعم لو قيل بوجوب الأكل، بوجوب أكل هذه البهيمة التي أمر بقتلها لاتحد، لكن جواز أكل مع وجوب القتل ما يستقيم، كما أن جواز الأكل مع تحريم القتل لا يستقيم، وقد جاء النهي عن قتل البهيمة إلا لمأكلة، فلا يعمد إنسان إلى بعير أو إلى بقرة أو إلى شاة أو ما أشبه ذلك مما أجمع على أكله فيقتلها دون أن تكون للأكل، لماذا؟ لأن في هذا إضاعة للمال، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(99/33)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: بلوغ المرام – كتاب الأطعمة (2)
باب: الصيد والذبائح
الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير
سم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- في كتابه (بلوغ المرام):
باب: الصيد والذبائح
عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتُقص من أجره كل يوم قيراط)) متفق عليه.
وعن عدي بن حاتم -رضي الله تعالى عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يؤكل منه فكله، وإن وجدت مع كلبك كلباً غيره وقد قتل فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله؟ وإن رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن غاب عنك يوماً فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل)) متفق عليه، وهذا لفظ مسلم.
وعن عدي -رضي الله تعالى عنه- قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صيد المعراض فقال: ((إذا أصبت بحده فكل، وإذا أصبت بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل)) رواه البخاري.
وعن أبي ثعلبة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا رميت بسهمك فغاب عنك فأدركته فكله ما لم ينتن)) أخرجه مسلم.
وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن قوماً قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: ((سموا الله عليه أنتم وكلوه)) رواه البخاري.
وعن عبد الله بن مغفل -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الحذف، وقال: ((إنها لا تصيد صيداً))
الخذف.
عندي بالحاء.
بالمعجمة رعاك الله؟
نعم.
وعن عبد الله بن مغفل -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الخذف، وقال: ((إنها لا تصيد صيداً، ولا تنكأ عدواً، ولكنها تكسر السن، وتفقأ العين)) متفق عليه، واللفظ لمسلم.(100/1)
وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً)) رواه مسلم.
وعن كعب بن مالك -رضي الله تعالى عنه- أن امرأة ذبحت شاة بحجر، فسئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فأمر بأكلها" رواه البخاري.
وعن رافع بن خديج -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة)) متفق عليه.
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنهما- قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقتل شيء من الدواب صبراً" رواه مسلم.
وعن شداد بن أوس -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته))
الذِبحة، الذِبحة، مثل الأولى، بالكسر.
((وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِبح، وليحد)) ...
الذبحة مثل القتلة.
وعن شداد بن أوس -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)) رواه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ذكاة الجنين ذكاة أمه)) رواه أحمد، وصححه ابن حبان.
وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((المسلم يكفيه اسمه، فإن نسي أن يسمي حين يذبح فليسم، ثم ليأكل)) أخرجه الدارقطني، وفيه راوٍ في حفظه ضعف، وفي إسناده محمد بن يزيد بن سنان، وهو صدوق، ضعيف الحفظ. وأخرجه عبد الرزاق ...
فيه راوٍ، عندك فيه راوٍ؟ أخرجه الدارقطني ...
أحسن الله إليك.
أخرجه الدارقطني، وفيه راوٍ في حفظه ضعف، وفي إسناده محمد بن يزيد ...
تكرار، تكرار، أخرجه الدارقطني، وفي إسناده محمد بن يزيد بن سنان، وهو صدوق، ضعيف الحفظ، كلام زائد.
وأخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح إلى ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- موقوفاً عليه.(100/2)
وله شاهد عند أبي داود في مراسيله بلفظ: ((ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله عليها أم لم يذكر)) ورجاله موثقون.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف --رحمه الله- تعالى-:
باب: الصيد والذبائح
الصيد والذبائح جزء من الترجمة السابقة التي هي الأطعمة؛ لأن ما يصاد وما يذبح من المطعوم، فلذلك جعلها باب من الكتاب السابق الشامل لما يصاد وما يذبح، وما يؤكل من اللحوم، فالأطعمة أعم من ذلك، حتى أن اللفظ ليشمل الماء.
"الصيد" ذكرنا في الدرس الماضي أنه يطلق ويراد به المصدر الذي هو الاصطياد، ويطلق أيضاً ويراد به المصيد، وهو ما يصاد، وهو من المشترك بينهما {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ} [(94) سورة المائدة] المراد به المصيد.
الصيد من أنواع الكسب، وهو من أوضحها في الحل؛ لأن الأصل فيه أنه حلال، إنما يصاد من مأكول غير مملوك لأحد، وقد جاء الأمر به بعد الحل {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ} [(2) سورة المائدة] لكن أهل العلم قالوا: إن هذا الأمر للإباحة؛ لأنه تعقب حظراً ومنعاً، والأمر إذا جاء بعد الحظر يراد به الإباحة، هذا قول كثير من أهل العلم، وإن كان منهم من يرى أن الحكم يعود إلى ما كان عليه قبل الحظر {فَاصْطَادُواْ} [(2) سورة المائدة] هذا أمر، إذا قلنا: إنه للإباحة بعد الانطلاق من المحظور {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا} [(10) سورة الجمعة] بعد المنع من البيع والتجارة، إذا انتهت صلاة الجمعة انتشروا، وابتغوا من فضل الله، هذا الأمر قالوا: للإباحة؛ لأنه بعد حظر.
لكن قول من يقول: إن الحكم يعود إلى ما كان عليه قبل الحظر لا شك أنه أوضح؛ لأن الصيد لا سيما إذا لم يوجد سبيل إلى الطعام الذي لا تقوم الحياة إلا به سواه فإنه قد يتعين، شخص إما أن يموت أو يصطاد؟ يلزمه أن يصطاد، إذا كان قادراً على ذلك، ويخف هذا الأمر إذا كان عنده خيار آخر مفضول مثلاً عنده وجوه كسب مفضولة، يكون الصيد في حقه أفضل من سلوك الطرق المفضولة.(100/3)
فأحكام الصيد تختلف، قد يضطر إليه الإنسان فيجب عليه، قد لا يضطر إليه، لكن يحتاجه فيكون الحكم فيه دون الحكم في الصورة الأولى، وقد يكون لمجرد المتعة مثلاً كما يفعله كثير من الناس، ليسوا بحاجة إلى الصيد، عندهم ما يقتاتونه القدر الزائد على كفايتهم، وكفاية من يمونون، ثم يخرجون إلى الصيد، والإكثار منه مذموم؛ لأنه يبعث على الغفلة، ومن تتبع الصيد غفل عما هو أهم منه.
وقد يحرُم إذا ألهى وشغل عن واجب، وكثير من الناس إذا خرج في رحلة صيد ينسى بعض ما أوجب الله عليه، فضلاً عن السنن والمندوبات والمستحبات، حتى الذكر ينسى، والصلاة تؤخر عن أوقاتها؛ لأن هذا الصيد المتبوع يستدرج الإنسان، يستدرجه، يطير من شجرة إلى شجرة، ثم يتبعه ولا يشعر حتى يخرج وقت الصلاة، وحينئذٍ يكون في هذه الصورة محرم.
الآلة التي يصاد بها: إما أن تكون حيواناً جارحاً، من كلب أو طائر ونحوهما، أو تكون آلة محددة تنفذ في جسم الصيد بحيث يخرج بسببها الدم المحتقن فيه.
من النوع الأول: الحيوان الجارح حديث أبي هريرة، الحديث الأول في الباب، وما يليه.
يقول المؤلف --رحمه الله- تعالى-: "عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من اتخذ كلباً)) " من اتخذ (كلباً) نكرة في سياق الشرط، تعم جميع أنواع الكلاب؛ لأن بعض الناس يقول: هناك فرق بين كلب مؤدب معلم -يعني لغير الصيد- لأن هناك أماكن تبيع الحيوانات المؤدبة المعلمة التي إذا احتاجت لقضاء الحاجة ذهبت إلى مكان قضاء الحاجة، موجود حتى في أسواق المسلمين موجودة، ويبيعونها، يبيعون الكلاب، ويبيعون القطط وغيرها، مع أنه جاء النهي عن ثمن الكلب، وعن ثمن السنور، وعن ثمن .. ، ويستوي في ذلك هذا الكلب المؤدب، يعني لغير الصيد وغيره من الكلاب؛ لأنه نكرة في سياق الشرط فتعم إلا ما استثني.
((من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية)) يعني يحرس الماشية من الذئاب والسباع، ومن السراق ((أو صيد)) يصطاد به ما يحتاج إلى أكله، (صيد) هذا هو الشاهد من الحديث للباب ((أو زرع)) يحفظ الزرع ممن يعتدي عليه، ويفسده، ويسرق منه ((انتقص من أجره كل يوم قيراط)).(100/4)
في حديث ابن عمر لما ذكر هذا الحديث قال: "قال أبو هريرة: "أو زرع" وكان صاحب زرع" يقصد أبا هريرة، بعضهم فهم أن ابن عمر يتهم أبا هريرة في هذه الزيادة؛ لأنه محتاج إليها، والأمر بضد ذلك، وعكس ذلك، ابن عمر ما حفظ هذه الكلمة، وأبو هريرة حفظها؛ لأنها تهمه، كان صاحب زرع، فيضبط ما يهمه، وذكرت هذا في مناسبات سابقة، وقلت: على سبيل المثال أنه لو كان هناك محاضرة لطبيب مثلاً، وحضرها جموع من الناس، وتكلم عن مرض معين، وذكر العلاج النافع له، علاج مركب من عشرة أشياء مثلاً تجد المصاب بهذا المرض يضبط هذا العلاج، ويضبط مفردات هذا العلاج، بحيث لا يفوته شيء، بينما البقية يضبطون هذه الأجزاء العشرة؟ ما يضبطونها؛ لأنه ما تهمهم، فالذي يحتاج إلى الشيء يضبطه ويتقنه، ويقع في قلبه موقعاً بحيث لا ينساه، وكل إنسان مر عليه مثل هذا، إذا مر بك شيء ضبطه وأتقنته، يعني تجد الناس يستمعون مثلاً الأخبار في يوم الاثنين، وماذا يصدر عن مجلس الوزراء؟ نعم؟ صدر من مجلس الوزراء أمر يهم فئة من الناس، بقية الناس ما يهمهم، هل يضبطون مثل هذا الخبر مثلما يضبطه أصحاب الشأن الذين يهمهم؟ ما يضبطونه، تسأل من الغد ويش جاء في الأخبار؟ يقال لك: ما أدري والله، ويش جاء؟ سمعنا لكن الذي يهمه الخبر تجده يصغي ويحفظ ويضبط ما يحتاج إليه بخلاف غيره، ومثل هذا أبو هريرة -رضي الله عنه- صاحب زرع، فضبط هذه الكلمة وأتقنها كغيرها؛ لأن أبا هريرة حافظ الأمة.
فقول ابن عمر: "وكان صاحب زرع" لا يفهم منه أنه يقدح في أبي هريرة حاشا وكلا، إنما ليبين أن هذا الأمر يهمه فضبطه ونسيناه، ابن عمر ما عنده زرع.
((إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع)) ما استثني إلا هذه الثلاثة، هناك أمور ألحقها بعض العلماء بما ذكر لمطلق الحراسة مثلاً، حراسة البيوت مثلاً، بعضهم يقول: البيت الذي فيه أموال، وفيه ذراري ونساء أولى بالحراسة من الماشية، وأولى بالحراسة من الزرع، لكن هذه الحاجة موجودة في وقت النبي -عليه الصلاة والسلام- فلم يذكرها، فالأولى عدم الإلحاق.(100/5)
هناك ما هو أهم مما ذُكر، فيكون عند أهل العلم من باب قياس الأولى، وهي ما يسمى مثلاً بالكلاب البوليسية، التي تكتشف الجرائم والمنكرات وأربابها، هذه قالوا: إنها من باب قياس الأولى، وإن كان من أراد أن يقف عند النص يقول: لا يستثنى إلا هذه الثلاثة فقط، وما عداها يبقى داخل في العموم، ولا شك أنها إذا جربت ووجدت نافعة لاكتشاف بعض الجرائم التي لا يكتشفها الإنسان بمفرده، فقياس الأولى الذي هو القياس الجلي عند أهل العلم معمول به.
((انتقص من أجره كل يوم قيراط)) قيراط، الإنسان يحرص على فعل الأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله -جل وعلا-، ويثقل بها ميزانه، ثم بعد ذلك تجد بعض الناس يفرط في مكتسباته، أمواله دونها الغلق والأبواب، فلا يستطيع أحد أن يصل إليها، ولكن أعماله التي هي أهم من هذه الأموال تجده يفرط ويتساهل ويتراخى، والمفلس كما في الحديث الصحيح: ((من يأتي بأعمال أمثال الجبال، ثم يأتي وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وسفك دم هذا، وأخذ مال هذا ثم يعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته)) إلى أن يفلس لا يكون عنده حسنة، وقد يزيد في الأمر حتى تؤخذ من سيئاتهم وتلقى عليه، فيلقى في النار، هذا مفلس؛ لأنه تكلم في فلان، اغتاب فلان، ضرب فلان، أخذ مال فلان وهكذا، لكن هنا نظير ذلك، وقد يكون أشد تبعاً لتفسير القيراط.
((انتقص من أجره كل يوم قيراط)) يحرص على الأعمال الصالحة، يصلي الفجر مع الجماعة ويجلس، ويصلي الأوقات، وله نصيب من الأذكار والأوراد والتلاوة، وأعمال البر الأخرى، ثم بعد ذلك يقتني كلب، ينقص من أجره كل يوم قيراط، ثم ما الفائدة؟(100/6)
اتخذه الكفار ولا يضر بعد الكفر ذنب، الكفار اتخذوه، وبالغوا في عنايتهم به، وجعلوه بمنزلة تفوق أولادهم، حرصوا عليه، وأنفقوا عليه، وأطعموه أفضل مما يطعمون، حتى أن بعضهم أوصى بجميع أمواله لهذا الكلب، كفار يعني لا يتوجه اللوم إليهم؛ لأنهم كفار، لكن الإشكال في بعض من يقلدهم من المسلمين ((لتتبعن سنن من كان قبلكم)) الكلب مؤذي ونجس وقذر ومخيف، ومع ذلك يتخذه بعض المسلمين في بيته، وبعضهم يفرش له في السيارة، فراش وثير، أفضل مما يجلس عليه هو، هذا هو التقليد الذي أخبر عنه النبي -عليه الصلاة والسلام-، ومع ذلك ينقص من أجره كل يوم قيراط، والقيراط جزء من أربعة وعشرين جزءاً هذا تفسيره في الأموال، لكن ماذا عن تفسيره في الأعمال؟ هنا مسكوت عنه، لكن قيراط الصلاة على الميت اتباع الجنازة جاء تفسيره بأنه مثل الجبل العظيم، القيراطان مثل الجبلين العظيمين، وجاء تحديد في بعض الروايات مثل جبل أحد، فبعضهم يقول: إن القيراط هذا مفسر بالقيراط الذي، قيراط الأجر المرتب على صلاة الجنازة واتباع الميت وتشييعه؛ لأن النصوص يفسر بعضها بعضاً.
لكن إذا كان هذا هو التفسير ماذا يبقى لهذا المسكين؟ يمكن تذهب أعماله بيوم واحد -نسأل الله السلامة والعافية- عند مسلم في بعض الروايات: ((قيراطان)) ((انتقص من أجره كل يوم قيراطان)) هذا أشد، -نسأل الله السلامة والعافية-، ثم ماذا النتيجة؟ لا شيء، اللهم إلا التقليد، الإشكال أن بعض الناس يرى أن هذا هو التقدم، هذه هي الحضارة، هذه يعني نأخذ من الكفار ما لا ينفع بل يضر، ونترك ما ينفع، نعجز أو نكسل أو نتخاذل عما ينفع، يعني المسلمون ما قلدوا الكفار في الأمور النافعة فيما يجوز تقليدهم فيه من أمور الدنيا، قلدوهم فيما يضر.
((انتقص من أجره كل يوم قيراط)) وفي رواية عند مسلم: ((قيراطان)) وهذا يدل على تحريم اقتناء الكلب إلا ما استثني؛ لأن بعضهم يطلق الكراهة، لكن الحديث صريح في التحريم؛ لأن نقص الأجر إنما هو في الحقيقة عقوبة ولا عقوبة إلا على ارتكاب محرم.(100/7)
قد يفرق بين قيراط الجنازة وقيراط الاقتناء بأن هذا فضل وهذا عقوبة، وفضل الله واسع يحتمل ما ذكر في الحديث، وعقوبته لا تصل إلى هذا الحد، وإن كان على خطر مقتني الكلب، يبقى أن تفسيره احتمال يعني ما هو بجزم، احتمال قد يقول قائل: لماذا لا نفسر القيراط بقيراط الدنيا جزء من أربعة وعشرين وجزءاً؟ فينقص من أجره في هذا اليوم جزء من أربعة وعشرين جزء مما اكتسبه من حسنات هذا اليوم؟ لكن إذا قيل: قيراط في هذا السياق على هذا التفسير يكون تخفيف من شأنه، والسياق سياق تعظيم وتهديد، ووعيد، فيبقى الأمر مجمل، والاحتمال قائم، لكن المجال أو السياق لا يؤيد أن يفسر بالجزء من أربعة وعشرين جزءاً؛ لأن المقصود التنفير؛ لأن مقتني الكلب يقول: إذا عملت حسنات قرأت مثلاً جزء من القرآن، وفيه مائة ألف حسنة، يعني يمكن أن يتساهل بجزء من أربعة وعشرين جزء من هذه الحسنات الكثيرة، فالسياق لا يؤيد أن يفسر بجزء من أربعة وعشرين جزءاً؛ لأن المقصود منه التخويف والتحذير، وأما كونه مثل قيراط الصلاة على الميت أو اتباع الجنازة فيبقى أنه احتمال، لكنه خطير، مثل جبل أحد ينقص من أجره كل يوم، ماذا يبقى للمسكين؟ وهذا أبلغ في الزجر، والحساب عند الله -جل وعلا-، العواقب والنهايات عنده، لكن هذا أبلغ في الزجر.
جاء في بعض الروايات كما ذكرنا: ((قيراطان)) بعض من يحقق ويجرؤ على تحقيق الكتب ذكر هذا الحديث وهو يحقق كتاب من كتب الحديث قال: وفي رواية: ((له قيراطان)) وفي رواية ووضع نقطتين وفتح قوس (له قيراطان) والأصل أن النقطتين تكون بعد (له) في رواية له -يعني لمسلم-: ((قيراطان)) يعني ينقص أو انتقص من أجره قيراطان، فبدلاً من أن تكون عليه صارت له، بسبب جهل هذا المحقق الذي يدعي التحقيق، الآن مسألة علامات ترقيم قلبت المعنى.(100/8)
من أهل العلم من يرى أن القيراط يحمل على مقتني الكلب من البادية، والقيراطان محمول على من يقتنيه من الحاضرة؛ لأن البادية مألوف عندهم الكلب، ولا يتروع أطفالهم ولا نساءهم من صوته، فالأثر المرتب على اقتنائه أسهل من الأثر المرتب على اقتناء الحاضرة للكلب، إذا نبح الكلب في حي من أحياء الحاضرة يتروع الناس ما اعتادوه، فالأثر المترتب عليه أشد من الأثر المترتب على اقتناء البادية؛ لأنهم الكلاب قريبة منهم، ويسمعون أصواتها ويرونها، فالأمر عندهم أخف.
ومنهم من يقول: إن القيراطين محمولة على عمل الليل والنهار، بالنظر إلى عمل الليل وعمل النهار، قيراط من عمل الليل، وقيراط من عمل النهار، ورواية قيراط كما عندنا محمولة على أحد الوقتين، فذكر الراوي القيراط الذي ينقص من عمل النهار مثلاً أو عمل الليل، ولم يذكر الآخر، لكن الحديث صريح ((كل يوم)) واليوم يشمل الليل والنهار.
ذكروا في حكمة التحريم تحريم اقتناء الكلب قالوا: مسألة الترويع ترويع الآمنين وهذه ظاهرة، الأمر الثاني: أنه يمنع من دخول الملائكة، فالملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب، والأمر الثالث: أنه نجس، وينجس ما يباشره، ولذا جاء الأمر بغسل ما يلغ فيه الكلب سبعاً، وإحداهن بالتراب على ما تقدم.
قال -رحمه الله-: "وعن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه)) " والكلب لا بد أن يكون معلماً بحيث يسترسل إذا أرسل، وينزجر إذا منع، وألا يأكل من الصيد هذا التعليل، إذا زجر امتنع، وإذا أرسل وأغري استرسل.
((إذا أرسلت كلبك)) يعني المعلم ((فاذكر اسم الله عليه)) لا بد من التسمية على المصيد، سواءً كان بكلب، أو طائر، أو آلة، أو مذبوح على ما سيأتي في قسم الذبائح؛ لأن الترجمة "الصيد والذبائح" هذا في الصيد، وسيأتي ما في الذبائح.
والتسمية شرط لحل المأكول سواءً كان مذبوحاً أو مصيداً بحيوان أو بآلة، من هم من يراها شرط مطلقاً {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} [(121) سورة الأنعام] مطلقاً يعني سواءً تركت عمداً أو سهواً، وهذا قال به بعض العلماء، وهو المعروف عند أهل الظاهر.(100/9)
وذهب جمهور الأئمة أبو حنيفة ومالك وأحمد إلى أنها شرط عند الذكر، وتسقط بالنسبة للناسي، وأما الشافعية فعندهم أن التسمية سنة وليست بشرط، المقصود أنه جاء النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، فلا بد من التسمية، وكونها تسقط مع النسيان أو لا تسقط هذا محل نظر عند أهل العلم، ومطلق الآية وعمومها يتناول الذاكر والناسي إلا أنهم استثنوا الناسي بقوله -جل وعلا-: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [(286) سورة البقرة] بالآية، استثنوا الناسي، لكن النسيان القاعدة فيه عند أهل العلم أنه ينزل الموجود منزلة المعدوم، ولا ينزل المعدوم منزلة الموجود، النسيان لا شك يرفع الإثم، فالذي يذبح ذبيحة، وينسى لا إثم عليه {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [(286) سورة البقرة] لكن هذه التسمية المعدومة على القاعدة النسيان لا ينزلها منزلة الموجودة، هذه قاعدة معروفة عند أهل العلم، ومثله الجهل يعني لو أن إنساناً صلى بغير طهارة ناسياً هل يستطيع أن يقول: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [(286) سورة البقرة]؟ لا يستطيع أن يقولها، لا يمكن أن يفتيه أحد بصحة صلاته، وإن كان ناسياً، لو صلى الظهر ثلاثاً، وقال: نسيت ركعة، هل نقول: إن نسيانه نزل المعدوم منزلة الموجود؟ ما يمكن يفتيه أحد بهذا، لكن لو نسي وصلى الظهر خمس {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [(286) سورة البقرة] صلاته صحيحة، يجبر الزيادة بالسهو وصلاته صحيحة؛ لأن النسيان ينزل الموجود منزلة المعدوم ولا عكس.
قد يقول قائل: إنه مع هذا لو حكمنا بعدم حل أكلها أن هذا فيه تضييع للمال، والناس يحتاجون لهذا الطعام، نقول: إذا نسي مرة وعوقب بمثل هذا العقاب فإنه لن ينسى بعد ذلك، فالقول بأنها شرط مطلقاً قول متجه، وإن كان جمهور أهل العلم على أن الناسي تسقط عنه التسمية.(100/10)
((إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه)) يعني مع إرساله تقول: بسم الله، كما أنك مع تحريك يدك بالذبح تقول: بسم الله، ومع إرسال السهم تقول: بسم الله، قالوا: ولا يناسب أن يقال: "الرحمن الرحيم" تقول: بسم الله، بينما في الأكل تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، في الأعمال المهمة تقول: بسم الله الرحمن الرحيم.
((فاذكر اسم الله عليه)) قالوا: لأن الرحمة لا تناسب القتل.
((فإن أمسك عليك)) يعني لك ومن أجلك ((فأدركته حياً فاذبحه)) أمسك الكلب هذا الطائر، وجاء به إلى صاحبه حياً ((فأدركته حياً فاذبحه)) يجب ذبحه، لماذا؟ لأنه مقدور على ذبحه، الأصل التذكية، لكن إذا لم يقدر عليها يقوم مقامها الصيد بالجوارح وبالسهام وبغيرها بالآلات، أما المقدور عليه فلا بد من تذكيته على ما سيأتي، أدركته حياً يعني قدرت على تذكيته فاذبحه.
((وإن أدركته قد قتل ولم يؤكل منه فكله)) لأنه أمسكه عليك، لكن إن أكل منه فلا تأكل، لماذا؟ لأنه أمسكه لنفسه بدليل أنه أكل منه.
((وإن أدركته قد قتل ولم يؤكل منه فكله، وإن وجدت مع كلبك كلباً غيره وقد قتل فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله؟ )) الصيد أرسل إليه الكلب مع التسمية فغاب عن صاحبه، فتبعه صاحبه وإذا بالفريسة موجودة، وفيه كلبه وكلب آخر، لا يدري أيهما قتله؟ وحينئذٍ اجتمع حاظر ومبيح، كلبه مبيح، والآخر حاظر، أنت سميت على كلبك، ما سميت على الثاني.(100/11)
((وإن وجدت مع كلبك كلباً غيره وقد قتل فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله؟ )) وسبب الترك احتمال أن يكون الكلب الثاني هو الذي قتل، طيب الذي قتل الثاني لا سيما إذا قلنا: إن التسمية تسقط في بعض الأحوال هو قتل بآلة قاتلة معتبرة شرعاً، سواءً كلبك وإلا كلب غيرك، ما الفرق بين كلبك وكلب غيرك؟ أنك سميت على كلبك، والثاني ما سميت عليه، فوجود هذا الاحتمال يحرم هذه الذبيحة، ويجعلها ميتة، فكيف إذا لم توجد التسمية أصلاً ولو كانت سهواً؟ يعني الآن التسمية احتمال أنها متروكة، واحتمال أنها مذكورة تبعاً لإيش؟ للكلبين، فإن كان كلبك أنت سميت على كلبك، لكن الكلب الثاني ما سميت عليه، وجود هذا الاحتمال، وتحريم الصيد بسبب هذا الاحتمال يقوي القول بوجوب التسمية مطلقاً، كيف؟ الآن عندنا خمسين بالمائة أن هذه الذبيحة أو هذا الصيد سمي عليه، فكيف إذا لم يوجد أدنى احتمال للتسمية؟ نسي.
قال: ((وإن وجدت مع كلبك كلباً غيره وقد قتل فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله؟ )) طيب قد يقول قائل: أنت أرسلت كلبك وسميت عليه، وشخص آخر أرسل هذا الكلب وسمى عليه، لا سيما إذا اجتمعا معاً عند هذه الفريسة صاحب الكلب أنت وصاحب الكلب الثاني تؤكل وإلا ما تؤكل؟ كل واحد منهما سمى على كلبه، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
ليش؟
طالب:. . . . . . . . .
كلهم سموا على الكلاب، كلهم سموا، وكلهم أرسلوها، اجتمعوا على هذه الفريسة قال: أنا أرسلت هذا الكلب وقلت: بسم الله، وقال هذا: أنا أرسلت هذا الكلب وقلت: بسم الله، لكن ما ندري أيهما الذي قتله؟ ويش المحظور من وجود المنع بسبب الكلب الثاني؟ نعم؟
أولاً: الكلب الثاني إذا جهل هل هو معلم أو غير معلم؟ أو له صاحب سمى عليه أو ما سمى؟ يتجه الكلام هنا، هذا ما فيه أدنى إشكال، ((فإنك لا تدري أيهما قتله؟ )) كلبك تعرفه معلم وصيده مباح، وسميت عليه، لكن الثاني ما تدري، لكن جاءك صاحب الثاني وقال: معلم وسميت عليه، وأنت كلبك معلم وسميت عليه، ويش المحظور أن يؤكل؟ يقول: نقتسم هذا أنصاف، كل واحد له نصف، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
ويش هو؟
طالب:. . . . . . . . .(100/12)
ما يظهر شيء يمنع، أما الحديث مع الجهالة ((فإنك لا تدري)).
((وإن وجدت مع كلبك كلباً غيره)) افترض أنت لك كلبين، عندك اثنين، ورأيت فريستين، أرسلت هذا لواحد وهذا لواحد، طارت واحدة فاجتمعا على واحدة وأنت سميت عليهم، يختلف عن الصورة السابقة؟ ما يظهر فرق.
قال: ((وإن وجدت مع كلبك كلباً غيره وقد قتل فلا تأكله)) لأن إرسالك كلبك هذا مبيح، ووجود الكلب الثاني حاظر لوجود الشك في توافر شروط القتل أو الصيد بالكلب .. ؛ لعدم علمنا بتوافر الشروط، ما ندري هل هو معلم؟ وما ندري هل سمي عليه أو ما سمي عليه؟
((فإنك لا تدري أيهما قتله؟ وإن رميت سهمك فاذكر اسم الله)) التسمية لا بد منها ((فإن غاب عنك يوماً فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل)) أرسلت السهم على طائر في شجرة، ثم بعد ذلك ما تدري هل أصابه أو لم يصبه بحثت عنه في الأرض ما سقط ما تدري عنه، ثم من الغد وجدته متعلق بالشجرة، أو بعيد عنك، وبعدت عنه، وظل ما تدري وين راح؟ ((غاب عنك يوماً فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت)) رده إلى مشيئته، هو حلال، لكن بعد غيابه يوم قد يكون فيه شيء من التغير، لم يبلغ إلى حد النتن الذي سيأتي الكلام فيه، لكن فيه شيء من التغير، قد تعافه النفس، فهذا متروك إليك ((إن شئت)).
الكسعي الذي يضرب به المثل: "ندمت ندامة الكسعي" ما قصته؟ رجل عنده سهام ويحسن الصيد فتمر به الحيوانات مما يؤكل فيرميها، وهو في ليل، ولا يعلم هل صادت أو ما صادت؟ فتركها، ثم ذهب إليها بعد مدة فوجدها بسهامه ماتت وقد تغيرت.
((وإن وجدته غريقاً)) طائر في شجرة وتحته بئر، ضربته بسهمك فوقع في البئر، فلا تدري هل مات بأثر سهمك أو بالغرق؟
قال: ((وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل)) لماذا؟ لأنه كالصورة السابقة اجتمع فيه مبيح وحاظر، اجتمع فيه مبيح وحاظر وغلب جانب الحظر.
أنت في مسجد، لكن المسجد هذا ما فيه مراوح، في مسجد ودخل طائر وجزمت أن أحد هذه المراوح تبي تضربه وتقتله، وقلت: بسم الله، ضربته المروحة وقسمته نصفين وسقط، تأكل وإلا ما تأكل؟ قلت: بسم الله، هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
ويش ما في ... ؟
طالب:. . . . . . . . .
أنت قصدت الآن.
طالب:. . . . . . . . .
ويش هو؟(100/13)
طالب:. . . . . . . . .
كيف؟
طالب:. . . . . . . . .
لكنها محددة تقتل.
طالب:. . . . . . . . .
ليس منه فعل، ليس منه فعل ألبتة، فلو مرت من عند سيارة فضربته فمات، لكن السيارة بالمثقل لا بالمحدد، أما المروحة واضحة أنها بالمحدد، ويبقى أنها ليست آلته، ولم يكن منه فعل، نعم منه التسمية، لكن إن أدركه حياً، إن أدركه حياً وذكاه حل له وإلا فلا.
((وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل)) متفق عليه، وهذا لفظ مسلم.
ومفهوم قوله: ((وإن أدركته قد قتل ولم يؤكل منه فكله)) أنه إن أكل منه ولو جزءاً يسيراً أنه لا يأكل بعد؛ لأنه إنما أمسكه لنفسه لا لصاحبه.
عند المالكية وهو مروي عن علي -رضي الله عنه وأرضاه- أنه يأكل منه ولو أكل، وجاء في ذلك حديث عند أبي داود حديث أبي ثعلبة قال: يا رسول الله إن لي كلاب مكلبة، فأفتني في صيدها؟ قال: ((كل مما أمسكن عليك)) قال: وإن أكل؟ قال: ((وإن أكل)) في رواية أو حديث آخر: ((كله وإن لم تدرك منه إلا نصفه)) ولكن هذا الحديث مخرج في سنن أبي داود لا يعارض به ما جاء في الصحيح.
قال -رحمه الله-: "وعن عدي -رضي الله عنه- قال: "سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صيد المعراض، فقال: ((إذا أصبت بحده فكل، وإذا أصبت بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل)) رواه البخاري".
المعراض: عصا غليظة في طرف، طرفها محدد، وقد يوضع فيه شيء من الحديد النافذ، فيشبه السهم، هذا المعراض إذا رماه صاحبه على المصيد على الصيد لا يخلو من حالين: الحالة الأولى: أن ينفذ هذا المحدد في هذا المصيد فيحل، أو يضرب بعرضه فيموت بسبب ثقله فإنه حينئذٍ، يكون وقيذ، يعني موقوذ، فعيل بمعنى مفعول، والموقوذة حرام بنص القرآن.
قال: ((إذا أصبت بحده فكل، وإذا أصبت بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل)) لأنه مات بثقل هذا العصا لا بحده، والجرح لا بد منه وخروج الدم من الصيد لا بد منه، إن لم يخرج منه دم فإنه وقيذ؛ لأنه مات بالثقل بثقل الآلة لا بحدها.(100/14)
يقولون: القتل بالمثقل هذا لا يبيح الصيد، لو جاء شخص بحجر كبير فألقاه على صيد فمات، وخرج منه دم؛ لأنه بسبب الثقل لا بد أن يخرج منه شيء، هو يتشقق جلده فيخرج منه دم، يكفي هذا وإلا ما يكفي؟ ما يكفي؛ لأنه مات بثقل الآلة لا بحدها، ومثل هذا لو دهسته سيارة ما يكفي؛ لأنه مات بالثقل لا بالحد، ولذا قال: ((إذا أصبت بحده فكل، وإذا أصبت بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ)).
"وعن أبي ثعلبة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا رميت بسهمك فغاب عنك، فأدركته فكله)) " إذا أدركت بسهمك بحيث لا تشك أن هذا الصيد إنما مات بسهمك، بسببه، بنفوذه فيه.
((إذا رميت بسهمك فغاب عنك، فأدركته فكله)) غاب عنك ما تدري وين راح؟ ثم بعد ذلك وجدته من الغد أو بعد غد، فكله؛ لأن المسألة مسألة غلبة ظن ما في شك مثل الصور السابقة، هذه غلبة ظن.
((فكله ما لم ينتن)) يعني تتغير رائحته، وإذا أنتن صار عرضة للجراثيم، فيضر بآكله، فيمنع من هذه الحيثية للضرر.
النبي -عليه الصلاة والسلام- أضافه اليهودي على خبز شعير وإهالة سنخة، يعني متغيرة الرائحة، أكل النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهنا يقول: ((كله ما لم ينتن)) فما حكم أكل المنتن؟ يعني قد يترك الإنسان شيء من طعامه في الليل فيأتي إليه من الغد وقد تغير يأكل وإلا ما يأكل؟ لا شك أن هذا التغير على درجات، فإن كان في بدايته تغير يسير يغلب على الظن عدم الضرر منه فهو مثل الإهالة المتغيرة، وإن كان تغيره كثير، ويغلب على الظن أنه يضر بآكله فإنه حينئذٍ لا يجوز أكله.
قال -رحمه الله-: "وعن عائشة -رضي الله عنها- أن قوماً قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إن قوماً يأتوننا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ " جاء في بعض الروايات في وصف هؤلاء القوم أنهم حديثو عهد بإسلام، بعض الروايات أنهم من الأعراب.(100/15)
"لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا" هم مسلمون، وذبيحة المسلم حلال بالإجماع، وكون الإنسان يدري أو لا يدري لو فتح هذا الباب ما صلحت حال، وأمور المسلمين مبنية على السلامة، عقودهم صحيحة، ذبائحهم حلال إلا إذا علم أو وجد ما يضاد ذلك، يعني إذا عرف عن فلان من الناس وهو مسلم لا يذكر اسم الله عليه، على الذبيحة لا تؤكل ذبيحته ولو كان مسلماً، إذا علم من المسلمين من يتساهل في العقود بحيث لا يهتم لصحتها نحتاط في أمرنا معه، وإلا فالأصل السلامة.
هؤلاء القوم حديثو العهد بالإسلام أحياناً يقال: حديث عهد بإسلام، وأحياناً يكون حديث عهد بجاهلية، هل في فرق وإلا ما في فرق؟ نعم؟ في فرق وإلا ما في فرق؟ ما في فرق، حديث عهد بجاهلية تركاً، وحديث عهد في الإسلام دخولاً، ما في فرق، هو ترك الجاهلية ودخل في الإسلام.
"لا ندري أذكر اسم الله عليه؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((سموا الله عليه أنتم وكلوه)) " وهذا فيه من السعة ما فيه، التوسعة على المسلمين لو الإنسان يشكك في كل ما رأى، كل ما أراد، ضاقت عليه حياته ولا يستقيم له حال، وهو في بلاد المسلمين وبين المسلمين وما يريده مستورد من مسلمين الأصل فيه أنه على طريقة المسلمين، فإذا ذهبت لتشتري شيء من الطعام لا سيما اللحوم فإذا كان مستورد من بلاد إسلامية هذا لا يتردد فيه، وإن كان حال كثير من المسلمين الآن التساهل، لكن هذا لا يغير الحكم، والورع شيء، لكن إطلاق الحكم بالحل والحرمة شيء آخر، كما أنك إذا وجدت لحماً مستورداً من بلاد أهل كتاب، فالأصل حل طعام أهل الكتاب، وصحة ذبح أهل الكتاب، فتأكل، لكن إن تورعت باعتبار أن أهل الكتاب انتسابهم إلى كتابهم وإلى ديانتهم في الغالب هي مجرد دعوى، إن تورعت هذا محمود، لكن يبقى أنك لا تقول: هذا حلال أو هذا حرام بمجرد ذلك، فكيف إذا كان من بلاد مسلمين؟
بعض المسلمين، من ينتسب إلى الإسلام من المبتدعة الذين عندهم بدع مغلظة تخرجهم من الدين وإن انتسبوا إلى الإسلام فهؤلاء لا تؤكل ذبائحهم؛ لما تلبسوا به من بدع مخرجة عن الملة.(100/16)
قد يقول قائل: إن هذا اللحم المستورد من هذه البلاد، هذه البلاد سكانها خليط، من مسلمين، وممن ينتسب إلى الإسلام من المبتدعة الذين بدعهم مغلظة، ومن أهل كتاب، ومن غيرهم من ملل الكفر، هو مستورد من البلد الفلاني وفيه هؤلاء الأخلاط، هنا تقوى الشبهة، وحينئذٍ لا يؤكل إلا بعد التثبت، لا سيما إذا كان بعض المهن يزاولها، أو يغلب على الظن مزاولتها من فئة معينة لا تحل ذبائحهم، فإنه حينئذٍ عليه أن يمتنع، حتى يعرف أنه ذبحه مسلم.
وعلى كل حال في الجملة الحكم للغالب، إذا كان الغالب هم المسلمين، فالحكم لهم، وإن كان الغالب غيرهم فالحكم لهم.
قال -رحمه الله-: "وعن عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الخذف" نهى عن الخذف، يؤتى بحصاة صغيرة فتجعل بين أصبعين، إما السبابتين أو السبابة والإبهام، لماذا نهي عن الخذف؟ "قال: ((إنها لا تصيد صيداً)) " يعني لو وجد صيد على شجرة ولو كان قريباً فأتيت بالحصاة وقذفتها إليه ما تصيد " ((لا تصيد صيداً)) " لكن لو كانت هذه الحصاة بما هو أقوى من الخذف بالأصبع بآلة التي إيش؟
طالب:. . . . . . . . .
نبيطة وإلا نبيلة وإلا سمها ما شئت.
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
طيب، لو كانت بهذه، هذه الحصاة بهذه الآلة، وكان الناس يصطادون بها، هذه الحصاة إن كان لها طرف محدد، ونفذت في المصيد وجرحته صح الصيد بها، مثل الصيد بالرصاص، يعني يختلط على بعض الطلاب ما يذكر في كتب أهل العلم من الصيد بالبندق، يقول النووي: "إذا كان الرمي بالبنادق وبالخذف إنما هو لتحصيل الصيد" يعني بحيث يمنع الصيد من الطيران، ويسهل القبض عليه، إذا كان لمجرد ذلك ثم ذكي هذا انتهى ما في إشكال.(100/17)
يقول: "إنما هو لتحصيل الصيد، وكان الغالب فيه عدم قتله، فإنه يجوز ذلك إذا أدركه الصائد وذكاه كرمي الطيور الكبار بالبنادق" هو لا يقصد البنادق الموجودة الآن التي تستعمل بالرصاص، هذه ما يختلف أحد في أنها آلة صيد، وأنه يحل ما صيد بها، لكن الكلام على ما يستعمل في وقتهم بالرمي بما يشبه البندق، نوع من المكسرات معروف، نعم هذا ما يقتل مثل الخذف، فيلتبس على بعض الطلاب الرمي بالبنادق الموجودة المستعملة للصيد وغيره، وفيها الرصاص النافذ، وفيها الملح والبارود أحياناً، فهذه تقتل، والصيد فيها صحيح وحلال، أما الصيد بالبندق الذي مستعمل قبل اختراع هذه البنادق الموجود في كتب أهل العلم الذي يمنعون من الأكل فيما صيد بواسطته، اللهم إلا إذا كانت كما قال النووي، إما تكسر الجناح وإلا تعيقه عن الطيران ثم تدرك حية، فتذكى هذا ما فيها إشكال، كما لو ضربها بعصا، فانكسر جناحها وسقطت، أو ضربتها المروحة وطاحت، أدركها حية ذكاها هذا ما أحد يمنع منه، هذا ما لم تكن مملوكة، لكن إذا كانت مملوكة، حمامة في مسجد من حمام الجيران مثلاً ضربتها المروحة وسقطت.
سيأتي في حديث كعب أن امرأة ذبحت شاة بحجر، وهي مملوكة لكعب، ليست لها، أنه يجوز التصرف في مال الغير بغير إذنه إذا خيف عليه من التلف، لكن أنت ... دخلت المسجد وضربتها المروحة وطاحت قلت: أبا أذكيها، فجاء صاحبها فبدلاً من أن يقول: جزاك الله خيراً أدركتها حية وذكيتها ليحل أكلها، لكنها من النوع غالي الثمن، يقول لك: أنا اشتريتها بعشرة آلاف، ولو تركتها عالجناها وطابت، تضمن وإلا ما تضمن؟ في ضمان وإلا ما في ضمان؟
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
ما تموت، نعالجها وتشفى -إن شاء الله- تطيب.
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
هي ضربتها المروحة، كسرت الجناح وطاحت مثلاً.
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .(100/18)
قيمتها عشرة آلاف ويش ... ؟ ليست من الحمام الذي يقتنى للأكل، والجمل الذي يباع بمئات الألوف، بل بالملايين هذا ما يقتنى للحمل والركوب، وبعض أنواع الغنم التي يؤتى بها من بعض الجهات بعشرات الألوف هذه ما تقتنى للأكل، ومثلها أنواع من الحمام ... ، هذا يقول: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ} [(88) سورة هود] خشيت أن تموت فذبحتها.
الصيد كله في المباح الذي لا يملكه أحد، الأحكام المذكورة كلها فيما لا يملك، أما المملوك فلا يجوز الاعتداء عليه بحال، لكن إذا كان القصد الإصلاح، وغلب على الظن أنها تموت، فسيأتي في حديث كعب الذي بعد هذا الحديث شيء من أحكامه.
قال -رحمه الله-: "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تتخذوا شيئاً فيه الروح)) " ((لا تتخذوا شيئاً)) نكرة في سياق النهي ((فيه الروح)) أخرج من هذا العموم ما لا روح فيه ((غرضاً)) بأن يمسك يحبس يربط فيكون غرضاً للسهام، يتراماه الناس، وفيه روح، وقوله: ((شيئاً)) مثلما قلنا: نكرة في سياق النهي تعم جميع الأشياء التي فيها روح، سواءً كانت مأكولة أو غير مأكولة، سواءً كانت نافعة أو ضارة؛ لأن بعض الحيوانات يجب قتلها؛ لأنها تضر، وبدلاً من أن تقتل بطريقة مريحة لا تعذيب فيها يقول: هو مقتول مقتول نترامى عليه، نربطه ونترامى عليه، هذا لا يجوز، ولو كان مآله إلى القتل.
((لا تتخذوا شيئاً فيه الروح)) يعني فيه الحياة والنهي الأصل فيه التحريم ((غرضاً)) لسهامكم؛ لأن فيه تعذيب لهذا المقتول ولو كان مستحقاً للقتل، وإن كان مما يؤكل فلا شك أن فيه إهدار لماليته وتضييع لهذا المال؛ لأنه لا يصح القتل بالسهم ونحوه بالنسبة للمقدور على ذبحه، وهذا ما دام ممسك فهو مقدور على ذبحه، فلا يجوز رميه بالسهام.(100/19)
صحف بعضهم هذا الحديث، وقال: ((لا تتخذوا شيئاً فيه الرَوْح عَرْضاً)) عرضاً، يعني النوافذ التي تدخل معها الريح لا تتخذ عرض، فتجعل النوافذ بالطول هكذا، مثل النوافذ اللي فوق، هذه بالطول، فعلى هذا لا تتخذ بالعرض، إنما تتخذ بالطول، هذا تصحيف وقبيح وشنيع، وسببه الأخذ من الصحف، والتلقي تلقي العلم عن غير أهله، يعني وجد من صام رمضان وأتبعه شيئاً من شوال، ستاً، لكن صحفها الصولي فقال: شيئاً، والشيء ينطبق ولو على يوم واحد.
هذا التصحيف يعني فيه المؤلفات عند بالنسبة للحديث مؤلفات كثيرة، ومنهم من صحف القرآن، صحف بعض الألفاظ في القرآن، وسببه مثل ما قلنا: عدم الأخذ أخذ العلم عن أهله، ويسمع من بعض من ينتسب إلى العلم إذا تعاطى علماً آخر يسمع منه العجائب من التصحيف والتحريف، وأحياناً سوء الفهم.
وسمعت شيخاً كبيراً يقرأ: "سلمة بن كهبل" وسببه أنه ليس من أهل هذا الشأن، وفي كتب التصحيف الكثير من النوادر التي بعضها مضحك سواءً كان في النصوص، أو في كلام أهل العلم، وقد يتسبب التصحيف إلى خفاء المعنى، وعدم الوصول إليه بحال، التصحيف الكلمة إذا صحفت لم تصل إلى معناها ألبتة، حتى تصل إلى لفظها الحقيقي، تريد أن ترجع إلى كتب الغريب مثلاً في كلمة مصحفة، أو كتب الرجال في اسم مصحف، تصل إليه وإلا ما تصل؟ لن تصل إليه، جرب ابحث في الآلات عن اسم مصحف، هل تقف عليه وإلا ما تقف؟ لن تصل إليه.
مر ذكر نعيم بن سالم، قال المحقق: لم أجده في شيء من كتب الرجال، لكن لو عرف الاسم وجده في كل كتب الرجال، لا سيما الضعفاء، يغنم بن سالم، اسمه: يغنم، فرق كبير وين تبحث؟ نعيم ما في نعيم، فالتصحيف لا شك أنه يحول دون معرفة اللفظ الذي يترتب عليه المعنى والحكم، ومن ثم يخفى ما ترتب عليه من معنىً أو حكم.
قال بعد ذلك: "وعن كعب بن مالك -رضي الله عنه- أن امرأة ذبحت شاة بحجر، فسئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فأمر بأكلها" رواه البخاري" هذه المرأة هي جارية لكعب بن مالك ترعى غنمه، فعدا الذئب على واحدة منها، فأرادت أن تدرك فيها، أو أدركت حياتها، وبدلاً من أن تموت هدراً، وتضيع على صاحبها، كسرت حجراً، وصار لها حد، فذكتها بهذا الحجر.(100/20)
"أن امرأة ذبحت شاة بحجر" والحجر إذا كان محدد ينهر الدم فإنه تجوز التذكية به، ولم يستثن من الأشياء المحددة التي تنهر الدم ((ليس السن والظفر)) على ما سيأتي، فإذا كان الشيء محدداً سواءً كان من الحجارة أو من الخشب، أو من الزجاج أو من الحديد إذا كان بهذا القيد ينهر الدم فلا إشكال في التذكية به.
امرأة عند كثير من عامة الناس أن المرأة لا تصح ذبيحتها، ولا يجوز تذكيتها، ولا يحل مذبوحها، وبعضهم يقصر ذلك على الحائض، وكل هذا لا أصل له، فالمرأة كالرجل.
"أن امرأة ذبحت شاة بحجر، فسئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فأمر بأكلها" هذه الشاة ليست ملكاً لها، وإنما هي ملك لسيدها، فيصح التصرف لإنقاذ المال لإرادة الإصلاح، ممن يحسن الإصلاح؛ لأن بعض الناس قد يجتهد، ويريد الإنقاذ فيكون سبباً في الهلاك، لو أن شخصاً وجد آخر مغمى عليه مثلاً اجتهد فأعطاه علاج وزاد عليه المرض؛ لأنك ما تدري ويش سبب هذا المرض؟ فلا تقدم إلا على شيء تحسنه وتتقنه، لا تكون سبباً في زيادة المرض على صاحبه.
طالب:. . . . . . . . .
هذا التصرف من هذه المرأة لا شك أنه في محله، إذ لو تركتها لماتت وذهبت هدراً على صاحبها، وفي مثل هذه الصورة يجوز التصرف في مال الغير بغير إذنه، وهذا فيما إذا خشي عليه التلف.(100/21)
هناك أحاديث مثل ما أخرجه أبو داود من حديث رجل من الأنصار، قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فأصاب الناس مجاعة شديدة، وجهد فأصابوا غنماً فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلي، إذ جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على فرسه، فأكفأ قدورنا، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب، وقال: ((إن النهبة ليست بأحل من الميتة)) هل هذا فيه إصلاح؟ إصلاح لمال الغير أو إصلاح للنفس؟ ما تصلح نفسك على حساب غيرك، فرق بين ما جاء في هذا الحديث وبين ما جاء في حديث الباب، كونك تسعى لإصلاح غيرك هذا مطلوب، بما لا يترتب عليه ضرر أعظم منه، فمثلاً إذا وجدت منزل صاحبك أو جارك يحترق، ثم اجتهدت وجئت بالماء الكثير الغزير فأغرقت هذا البيت، نفترض أن الذي احترق مكتبة، ثم أغرق هذه المكتبة وتلفت الكتب، والنار قد تبقي شيء، الماء أضر على الكتب من النار؛ لأن ما يبقى من الكتب النار لا تمنع من الاستفادة منه، لكن إذا كان ماء خلاص انتهى الكتاب، انتهى، لا يمكن أن يستفاد منه، فينظر الإنسان ويوازن بين المصالح والمفاسد المترتبة على عمله، وبين ما يتعدى ضرره، وما يكون ضرره قاصر، المقصود أن مثل هذه الأمور لا بد من إدراكها إدراكاً تاماً، وإلا لو أخذنا هذا الحديث أصل، وطردناه في كل ما يظن فيه الإصلاح لدخلنا في أمور قد يكون ضررها أعظم من نفعها، ولذا النبي -عليه الصلاة والسلام- أكفأ القدور مع أنهم بحاجة ماسة إلى هذا اللحم، أصابتهم مجاعة، كل هذا من أجل حسم المادة؛ لئلا يتصرف أحد في مال غيره، كثيراً ما يفعل بعض الشباب إذا خرجوا لنزهة فبحثوا عن شيء عن ذبيحة يأكلونها ما وجدوا أحد، وجدوا غنم، قالوا: نذبحها ونأكلها بنية الضمان، إذا جاء صاحبها نعطيه القيمة، يجوز وإلا ما يجوز؟ ما يجوز، لا يجوز بحال.
من خشي على نفسه الهلاك فوجد مال غيره، إذا وصل إلى حد لا يستطيع معه البقاء، فإنه حينئذٍ يأكل، اختلف العلماء في الضمان هل يضمن أو لا يضمن إذا أكل؟ يعني إذا وصل إلى حد الهلاك، أما مجرد حاجة، أو مجرد تفكه، يحتاجون إلى شيء من اللحم، ومعهم ما يأكلون غيره، فهذا لا يجوز بحال.(100/22)
قال -رحمه الله-: "وعن رافع بن خديج -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكل)) " ((ما أنهر الدم)) يعني أجراه بنفوذه في جسم ما يراد قتله ((ما أنهر الدم)) يعني أجراه، رافع بن خديج قال: يا رسول الله إنا لاقوا العدو غداً، وليس معنا مدى، يعني ما معنا سكاكين، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما أنهر الدم)) قاعدة يدخل فيها كل ما ينطبق عليه إنهار الدم إلا ما استثني، ولا بد من ذكر اسم الله عليه ((ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر)) ليس: فعل ناقص من أخوات (كان) ترفع المبتدأ، وتنصب الخبر، والسن خبرها، ومنهم من يقول: إنها هنا بمعنى (إلا) أداة استثناء، والاستثناء هنا تام موجب يجب نصبه، وعلى كل حال لن يتغير وضعه، فهو منصوب على كل حال، سواءً قلنا: إنه خبر ليس أو مستثنى.
((ليس السن والظفر)) طيب السن ينهر الدم، الظفر ينهر الدم، ثم ذكر العلة -عليه الصلاة والسلام-، فقال: ((أما السن فعظم)) السن عظم، تقدم في الطهارة أنه لا يستنجى بعظم ولا روث ((أما العظم فلأنه زاد إخوانكم من الجن)) والذبح فيه يعرضه للتنجيس، ولذا قال: ((أما السن فعظم)) والعظم لا يجوز تنجيسه، لا باستنجاء ولا بذبح، لكن قد يقول قائل: بالنسبة لعظم البهائم يعود أوفر ما كان، لكن السن عظم إنسان، ولو سقط هذا العظم هل يستفيد منه الجن؟ هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
يستفيد منه الجن؟ سن إنسان سقط، أنت وجدت رجل حيوان عظم رجل مثلاً هذا يعود اللحم عليها أوفر ما كان ويستفيد منه إخواننا الجن، لكن سن إنسان سقط، ورماه في الأرض أو دفنه يستفيد منه الجن وإلا ما يستفيدون؟ لأننا نريد أن نربط بين البابين، وفيه إشكال من حيث التعليل، والجملة الثانية فيها أيضاً إشكال.
((أما السن فعظم)) يعني الآن عرفنا العلة أنه عظم، ثم ماذا؟ وبعدين إذا كان عظم؟ ويش السبب؟ هل لأن العظم زاد إخواننا الجن كما تقدم في الطهارة، أو لكونه عظم؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .(100/23)
وعلى هذا يمنع الذبح بأي عظم كان سواءً كان عظم آدمي، عظم حيوان، عظم أياً كان؛ لأن العلة كونه عظم، طيب لماذا نهي عن الذبح بالعظم؟ الله أعلم، ولا نستطيع أن نقول: إنه مثل ما جاء في كتاب الطهارة أنه زاد إخواننا الجن، طيب افترض أن .. ، هذا العظم ويش يبي يعود أوفر ما كان؟ فنقف على هذا الحد.
طيب ((وأما الظفر فمدى الحبشة)) الحبشة هؤلاء في الأصل خليط من النصارى والوثنيين، ولا يجوز التشبه بهم في هذا، ولا في غيره، طيب مدى الحبشة يعني سكاكين الحبشة يذبحون بالظفر، طيب لو احتجنا إلى الظفر فيما يستعمل أو تستعمل فيه السكين؟ نقول: الظفر مدى الحبشة؟ اشتريت سواكاً طرياً عند باب المسجد، وتبي تدخل تصلي تنتظر حتى تذهب إلى البيت فتصلحه بالسكين، أو يمكن أن تصلحه بظفرك؟ يعني لو أردت أن تصلحه بظفرك وقال لك: هذا مدى الحبشة ما يجوز، انتظر حتى تذهب إلى البيت وتصلحه بمدى المسلمين، هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
يعني خاص بالذبح؛ لأن التعليل بقوله: ((فمدى الحبشة)) أنهم يستعملون الظفر بمثابة المدية، وإذا استعملناه بمنزلة المدية شابهناهم، وكما تستعمل الظفر في الذبح تستعمل في إصلاح كثير من الأمور، مما يقوم مقام المدية، وأيضاً الحبشة يذبحون بالسكين، هل يتصور أن الحبشي يذبح وينحر بعير بظفره أو بالسكين؟ لماذا لم نمنع عن مشابهتهم في ذبحهم بالسكين؟ نعم السكين هي الأصل، وهي مدية الناس كلهم، فما يشترك فيه الناس كلهم ما يقال فيه مشابهة، لكن ما يختصون به هذا اللي يمنع من أجل المشابهة وهو الظفر.(100/24)
((ما أنهر الدم)) ويكون ذلك بنحر الإبل في طعنها بالحربة في الوهدة التي بين الصدر والعنق، وذبح ما عدا الإبل بقطع الحلقوم والمري والودجين، عندك أربعة أشياء: الحلقوم الذي هو مجرى النفس، والمري الذي هو مجرى الطعام، والودجان الذين هم مجرى الدم، فهل يشترط قطع الأربعة أو يكتفى ببعضها؟ محل خلاف بين أهل العلم، منهم من يقول: يكفي الحلقوم والمري، فلو لم يقطع الودجين حلت الذبيحة، لكن الفائدة الأولى من الذبح والتنصيص في الحديث: ((ما أنهر الدم)) يجعل الودجين أهم من الحلقوم والمري، فمن أهل العلم من يرى الاقتصار على الحلقوم والمري، لكنه مع قطع الحلقوم والمري تنتهي الحياة يموت، وإن كان استخراج الدم كاملاً إنما يكون بقطع الودجين، فمنهم من اشترط الأربعة، لا بد من قطع الحلقوم والمري والودجين، ومنهم من يقول: الحلقوم والمري وأحد الودجين، ومنهم من يقول: يكفي الحلقوم والمري ولا داعي لقطع الودجين، ولا شك أن الأكمل قطع الأربعة، والكثير من أهل العلم يرون الحلقوم والمري مع أحد الودجين؛ لأن أحد الودجين لا بد منه من أجل إخراج جميع الدم من البدن، فيحرص الذابح على أن يقطع الأربعة يحرص أن يقطع الأربعة، وإن اكتفى بأحد الودجين مع الحلقوم والمري كفى عند كثير من أهل العلم.
قال -رحمه الله-: "وعن جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنهما- قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقتل شيء من الدواب صبراً" يمسك وهو حي، ثم يرمى حتى يموت، وهذا قريب من اتخاذ ما فيه روح غرضاً بحيث يمسك ويتدرب عليه، وهنا يقتل صبراً، كثيراً ما يفعل مثل هذا بين يدي الظلمة يوثق ثم يرمى.
"نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقتل شيء من الدواب صبراً" إنما إن كان صيداً فبالآلة أو بالحيوان المعلم، وإن كان مقدوراً عليه غير متوحش فيكون بالذبح الشرعي على ما تقدم، فلا يحبس، ثم يرمى؛ لأنه إذا حبس صار مقدوراً عليه، هذا إذا كان من الدواب المأكولة، وإذا كان من غير المأكولة فإن قتله بهذه الطريقة تعذيب له.(100/25)
قال -رحمه الله-: "وعن شداد بن أوس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء)) " أولاً: الإحسان مرتبة في الدين عالية أخص من مرتبة الإيمان والإسلام كما جاء في حديث جبريل.
الإحسان يكون في تعامل الإنسان مع ربه، ويكون مع نفسه، ويكون مع غيره، فالتعامل بالإحسان يورث المعاملة بالإحسان {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [(60) سورة الرحمن] فالذي يعامل الناس بالحسنى لا شك أن جزاءه حسن، والذي يعامل من أساء إليه بالحسنى لا شك أن ثوابه وأجره أعظم {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [(96) سورة المؤمنون] لكن من أراد أن يعامل الناس بمثل ما عاملوه به، فإنه لا يعد ظالماً {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [(194) سورة البقرة] يعني لا تجوز الزيادة على ذلك، وإن كان أقل فهذا فضل وإحسان.
نأتي إلى موضوع الباب وهو ما يستحق القتل، كيف نحسن على من يستحق القتل من آدمي أو غيره؟ هذا مستحق للقتل، إما قصاص بأن كان قاتلاً، أو حد إذا كان زانياً محصناً، أو غير ذلك ممن يستحق القتل، كيف نحسن إليه؟ كيف نحسن إلى حيوان يظن كثير من الناس أنه لا يحس ولا يشعر؟ لا بد من الإحسان إليه، ((فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)) القتلة فعلة، وهو اسم هيئة، هيئة القتل ((وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)) يعني هيئة الذبح.
ومن الإحسان إليه أن تحد الشفرة، بأن يجهز على المذبوح بسرعة، ولا يعذب بسكين كالة، أو يقتل بسيف كال، بحيث يضرب به مراراً، يضرب به مرة تزهق روحه، وأيضاً لا تحد الشفرة وهو ينظر، ولا تذبح الذبيحة وأختها تنظر إليها؛ لأن لها قوى مدركة تدرك بعض ما يضرها، نعم ليس لها عقول، ولذا لم تكلف بالتكاليف، لكن فيها قوى مدركة تدرك بها بعض ما ينفعها وبعض ما يضرها.
((وليحد أحدكم شفرته)) يعني سكينه ((وليرح ذبيحته)) بحيث يقطع ما يجب قطعه بمرة واحدة.(100/26)
قال -رحمه الله-: "وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((ذكاة الجنين ذكاة أمه)) رواه أحمد، وصححه ابن حبان" وله شواهد كما ذكر الترمذي عن جابر وأبي الدرداء وأبي أمامة وأبي هريرة، فهو صحيح بشواهده ((ذكاة الجنين)) يعني ما في بطن مأكول اللحم من ناقة أو بقرة أو شاة وغيرها مما يذكى ((ذكاة الجنين)) سمي جنين لاجتنانه واختفائه واستتاره ببطن أمه، ((ذكاة الجنين ذكاة أمه)) ذكاة: الأولى مبتدأ، وذكاة: الثانية خبر.
جاء في بعض الروايات: ((ذكاة الجنين بذكاة أمه)) يعني أن ذكاة الأم تكفي لها ولجنينها، فإذا خرج الجنين من بطن أمه ميتاً بعد ذبحها فإنه يؤكل؛ لأن ذكاة أمه هي ذكاته، وذكاته بذكاة أمه، وفي بعض الروايات: ((في ذكاة أمه)) يعني في ضمنها، فلا يحتاج إلى تذكية مستقلة، وبهذا قال أكثر أهل العلم أنه لا يحتاج إلى تذكية إذا خرج ميتاً، أما إذا خرج حياً فإنه لا بد من تذكيته، ويكتفى بذكاة أمه إذا خرج ميتاً؛ لأنه جزء من أجزائها، جزء من محتوياتها كغيره مما يحتويه بطن هذه المذكاة، والحنفية يرون أنه لا بد من تذكيته، فإن خرج ميتاً فهو ميت، حكمه حكم الميتة لا يجوز أكله، وإن خرج حياً فلا بد من تذكيته.
ويختلف الحكم باختلاف الإعراب؛ لأن بعضهم يرويه ((ذكاةُ الجنين ذكاةَ أمه)) يعني كذكاة أمه يكون منصوب على نزع الخافض، فيجب أن يذكى مثل ما تذكى أمه، وعلى هذا يكون الحديث فيه فائدة وإلا ما فيه فائدة؟ إذا قلنا: ((ذكاةُ الجنين ذكاةَ أمه)) وأنه يذكى كما تذكى أمه، فما فيه فائدة الحديث، مؤكد لأحاديث التذكية كلها، وإذا قلنا: إن ذكاة الجنين هي ذكاة أمه، أو في ضمن ذكاة أمه، قلنا: إن الحديث جاء بحكم جديد وهو مؤسس لا مؤكد.(100/27)
منهم من يفرق بين الجنين إذا أشعر، وبين الجنين قبل أن يشعر، يعني إذا كان له شعر فحكمه حكم أمه، وإذا لم يشعر فلا، ويذكرون فيه عن ابن عمر خبراً عن ابن عمر مرفوعاًَ: ((إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه)) لكنه حديث ضعيف، وأيضاً هناك حديث ضعيف في الباب: ((ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر)) فالشعر وجوداً وعدماً لا يثبت، إنما ((ذكاة الجنين ذكاة أمه)) وهذا يشمل ما كان قبل الإشعار وما بعده، فتكفي تذكية أمه عن تذكيته، وهذا قول الجمهور.
"وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((المسلم يكفيه اسمه)) " كيف يكفيه اسمه؟ لأنه عبد لله، هو عبد الله، سواءً كان اسمه عبد الله أو عبد الرحمن أو محمد أو أحمد، هو عبد لله، فاسمه مشتمل على ذكر الله ((يكفيه اسمه، فإن نسي أن يسمي حين يذبح، فليسم، ثم ليأكل)) لكن الحديث ضعيف.
يقول الحافظ: "أخرجه الدارقطني، وفي إسناده محمد بن يزيد بن سنان، وهو صدوق ضعيف الحفظ" يعني مضعف من جهة حفظه، فالخبر ضعيف، ولا يثبت مرفوعاً "وأخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح إلى ابن عباس، موقوفاً عليه" نعم يصح موقوفاً على ابن عباس، لكنه لا يثبت مرفوعاً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- "وله شاهد عند أبي داود في مراسيله، بلفظ: ((ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله عليها أو لم يذكر)) وقال: رجاله موثقون" فالموقوف صحيح على ابن عباس، والمرفوع ضعيف، إما لضعف راويه، أو لإرساله وجهل الساقط من إسناده، وعلى هذا يبقى اشتراط التسمية هو الأصل.
طالب:. . . . . . . . .
الحديث ضعيف ما يحتاج إلى .. ، نعم ضعيف ما يعمل به.
هذا يسأل عن لعاب كلب الصيد المعلم؟
تقدم أنه نجس، وأنه يغسل ما يصيبه سبعاً ويترب، لكن الصيد مستثنى من هذا باعتبار أنه سوف يطبخ، وإذا كان فيه شيء مما يضر فإنه يزول بالطبخ.
لو أكل الصقر من الفريسة فهل نأكلها؟
لا نأكلها.
يقول: هل يجوز اتخاذ الحمام ليتدرب عليه الصقر؟
ليتدرب عليه الصقر، يعني ترسل الحمامة ثم يرسل وراءها ليعلم، إذا كان لا يوجد وسيلة لتعليمه إلا بهذا فلا شك أن هذا مما يتجاوز؛ لأن المكاسب من وراءه أكبر، وإذا وجد وسيلة بأن يرسل شيء لا روح فيه تعين.(100/28)
يقول: كيف نرد على من يقول: قتل الإنسان بالمسدس أو بالكهرباء أو غيره هو أرحم من القتل بالسيف؟
جاء في الخبر: ((لا قود إلا بالسيف)) فلو صح لكان قاطعاً لكل كلام، وفيه كلام لأهل العلم الحديث هذا فيه كلام، والقتل بالسيف من الماهر بالقتل هو أيسر وأريح أنواع القتل.
يقول: هل يجوز قتل الحيوان بالصعق الكهربائي أو العقاقير الكيميائية إذا لم يكن للأكل؟
على كل حال لا بد من الإحسان في القتل والذبح، فإذا كانت هذه الأشياء تؤمله وتؤذيه فلا تجوز بحال.
يقول: ما حكم تناول الدجاج واللحوم المستوردة من بلاد الغرب مع وجود شبهة الذبح غير الشرعي؟ وهل يكتفى بتسميتنا عليه لحديث عائشة؟
عرفنا أنه إذا كان البلد بلاد مسلمين فلا إشكال فيما استورد منه، وكذلك إذا كانوا أهل كتاب؛ لأن طعامهم حل لنا، إذا عرفنا أنهم يذبحون بغير طريقتنا بطريقة محرمة فالمصعوقة وقيذة لا يجوز أكلها.
ابن العربي يقول: تحل ذبائحهم إذا ذبحوها بطريقة معتبرة عندهم، ولو لم تحل عندنا، ولا بد أن يكون هذا الاعتبار من أصل دينهم، بخلاف ما استحدثوه بعد أن تنصلوا عن دينهم.
يقول: إذا مات الجنين في بطن أمه فخشي على الأم الهلاك فذكيت فهل يصح أكل الجنين الذي مات قبل أمه؟
لا، لا يصح، ما دام مات قبل أمه، إذا لم يمت بسبب تذكية أمه فلا يصح، فلا يؤكل؛ لأنه حينئذٍ ميتة.
هذا يقول: شخص كان يعمل لدي في محل وتركني وعمل لحسابه، وقد باع على زبائني الذين كان يتعامل معهم، وعندهم أموال لي، فماذا عليه؟
عليه أن يضبط ما له وما عليه، عليه أن يضبط، ويميز أمواله عن أموالك، فيدفع مالك، ويأخذ ماله.
ما حكم الأكل من المطاعم الموجودة في دول الكفر كأوروبا وأمريكا مع ما نسمع من أنهم يقتلون ولا يذبحون، وهذا غير متيقن؟
على كل حال مثل ما مضى، غلبة الظن تورث شبهة يمتنع من أجلها المسلم؛ لئلا يبني جسده على حرام، ولا على سحت، ويحتاط لنفسه، أما إذا كان في بلاد مسلمين، ويغلب على الظن أن الذابح مسلم مثل هذا الورع فيه ضعيف، وإذا قويت الشبهة تأكد الورع، أما إذا لم توجد شبهة فلا مجال لهذا الورع حتى أن بعضهم يعده وسواساً.(100/29)
إذا كان في بلاد كفار وغلب على الظن من أن الذبح بطريقة محرمة عند المسلمين فلا يقدم عليه، لا يجوز له أن يقدم عليه إذا بلغه ذلك بطريق صحيح، أو وصل إليه بطريق رؤية أو نحوها.
ما حكم الصيد للتحنيط؟
ذكرنا مراراً حديث النهي عن قتل الحيوان إلا لمأكلة، فلا يقتل إلا ليؤكل.
يقول: ما حكم تقشير البرتقال بالظفر؟
مثل المسواك، مثل السواك.
يقول: يوجد كلاب ضالة في أحد الأحياء بكثرة، وتزعج في بعض الأحيان بالنباح، وإخافة الأطفال، فهل يجوز قتلها؟
جاء الأمر بقتل الكلاب في صحيح مسلم، ثم بعد ذلك نهي عنه، فتطرد عن هذا الحي بطريقة مناسبة.
وهل تمنع دخول الملائكة للحي؟
هي تمنع من دخول البيوت، البيت الذي فيه كلب أو صورة لا تدخله الملائكة، أما بالنسبة للأحياء، وبالنسبة للبراري والقفار فمثل هذه لم يرد فيها النص.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك ...(100/30)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: بلوغ المرام - كتاب الأطعمة (3)
باب الأضاحي
الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير
سم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- في كتابه (بلوغ المرام):
باب: الأضاحي
عن أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يضحي بكبشين أملحين، أقرنين، ويسمي، ويكبر، ويضع رجله على صفاحهما" وفي لفظ: "ذبحهما بيده" متفق عليه، وفي لفظ: "سمينين" ولأبي عوانة في صحيحه: "ثمينين" بالمثلثة بدل السين، وفي لفظ لمسلم: ويقول: ((بسم الله، والله أكبر)).
وله: من حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد ليضحي به، فقال: ((اشحذ المدية)) ثم أخذها، فأضجعه، ثم ذبحه، وقال: ((بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد)).
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا)) رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الحاكم، لكن رجح الأئمة غيره وقفه.
وعن جندب بن سفيان -رضي الله تعالى عنه- قال: شهدت الأضحى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما قضى صلاته بالناس نظر إلى غنم قد ذبحت، فقال: ((من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها، ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله)) متفق عليه.
وعن البراء بن عازب -رضي الله تعالى عنهما- قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((أربع لا تجوز في الضحايا: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والكسيرة التي لا تنقي)) رواه أحمد.
الكبيرة، الكبيرة.
طالب: سم، رعاك الله.
الكبيرة.
طالب: ما هي عندي ....
الكبيرة التي لا تنقي.
طالب: بدل الكسيرة؟
نعم.
أحسن الله إليك.
((والكبيرة التي لا تنقي)) رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي وابن حبان.(101/1)
وعن جابر -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)) رواه مسلم.
وعن علي -رضي الله تعالى عنه- قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نستشرف العين والأذن، ولا نضحي بعوراء، ولا مقابلة، ولا مدابرة، ولا خرماء، ولا ثرماء" ...
خرقاء.
أحسن الله إليك، أنا عندي خرماء.
"ولا نضحي بعوراء، ولا مقابلة، ولا مدابرة، ولا خرقاء، ولا ثرماء" أخرجه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم.
وعن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- قال: أمرني النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أقوم على بدنه، وأن أقسم لحومها وجلودها وجلالها على المساكين، ولا أعطي في جزارتها شيئاً منها" متفق عليه.
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنهما- قال: نحرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة" رواه مسلم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
باب: الأضاحي.
والأضاحي فرع من فروع الكتاب الذي هو كتاب الأطعمة؛ لأنها مما يطعم.
الأضاحي: جمع أضحية، ويقال لها: إضحية، بكسر الهمزة، ويقال: ضحية أيضاً كهدية، وتجمع على ضحايا كهدايا وأضاحي، وكأن التسمية أخذت من وقت ذبحها، وهو ضحى يوم العيد، على أن الوقت يمتد على ما سيأتي من صلاة العيد إلى غروب يوم الثاني عشر أو الثالث عشر على الخلاف الذي يأتي ذكره -إن شاء الله تعالى-.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الأول: "عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يضحي" هذا يدل على الاستمرار "يضحي بكبشين أملحين أقرنين" يضحي بكبشين مثنى الكبش، وهو ذكر الضأن، كما أن ذكر الماعز يقال له: تيس، وذكر الإبل يقال له: جمل، وذكر البقر يقال له: ثور، فالكبش هو ذكر الضأن، يضحي بكبشين، واحد عنه -عليه الصلاة والسلام- وعن أهل بيته، والثاني عن من لم يضح من أمته كما جاء في بعض الأحاديث.(101/2)
"كبشين أملحين" الأملح: لونه نسب إلى لون الملح، والملح أبيض يشوبه شيء من الغبرة، ليس بأبيض خالص، كان الملح يؤخذ من الأرض مشوب بشيء من الغبرة، ليس بأبيض خالص كما هو الملح الموجود الآن، المصفى المنقى الذي يخرج من مصانع، لا، كان يؤتى به على هيئة قطع وكتل كبيرة من الأرض السبخة مشوب بشيء من .. ، يغير لونه، فهو أغبر، وليس بأبيض خالص مثل بياض اللبن مثلاً، كما هو حاصل الآن في الملح الموجود الآن، لا.
"يضحي بكبشين أملحين" منهم من يفضل الأبيض مطلقاً باعتبار أن الملح أبيض، والكبشين لونهما لون الملح، ومنهم من يقول: إنه ليس بأبيض خالص، وإنما بياضه أكثر من سواده.
"أملحين أقرنين" بحيث يكون البياض مع السواد مختلط، والبياض أكثر من السواد.
"أقرنين" الأقرن الذي له قرنان، ولا شك أنه أكمل وأفضل عند أهله.
"ويسمي" يعني عند الذبح، "ويسمي" كما تقدم في حكم التسمية، وأنها شرط لصحة أكل المذبوح، وأنه بدون التسمية حكمه حكم الميتة على خلاف بين أهل العلم ذكرناه سابقاً، فمنهم من يرى أن التسمية شرط في صحة التذكية مطلقاً، ولا تسقط لا عمداً ولا سهواً، وأكثر أهل العلم يرون أنها إذا تركت سهواً فإن الذبيحة تؤكل، ويعفى عن السهو والنسيان، بخلاف ما إذا تكرها عمداً فإنها حينئذٍ تكون ميتة، وذكر عن الإمام الشافعي أنه كان يرى أن التسمية سنة وليست بفرض.
"يسمي" قائلاً: بسم الله على ما تقدم وعلى ما سيأتي، "ويكبر" بسم الله والله أكبر، التسمية لا إشكال في وجوبها، وأما التكبير فإنه سنة عند عامة أهل العلم.(101/3)
"يسمي ويكبر" ويسمع من الخطباء في يوم العيد من يقول قائلاً: باسم الله وجوباً، والله أكبر استحباباً، يذكرون الحكم في خطبة العيد، قائلاً: باسم الله وجوباً، والله أكبر استحباباً، وتجد بعض العامة من الناس يقلدهم في اللفظ، فإذا أراد أن يذبح قال: باسم الله وجوباً، والله أكبر استحباباً، وهو يذبح؛ لأنه سمع الخطيب يقول هذا، العامي ما يميز الفرق بين بيان الحكم، وبين ما يجب فعله، ثم لما كثر التنبيه على مثل هذا، كلام الخطيب ما فيه إشكال، كلام الخطيب لا إشكال فيه؛ لأنه يبين حكم التسمية وحكم التكبير، لكن العامي الذي قلده في لفظه هنا يقع الإشكال، فصار الخطباء ما يذكرونها في هذه الصيغة، لا يذكرونها بهذه الصيغة؛ لأن العامة قلدوهم فيها، وظنوها من الذكر المطلوب، ولكنها هي في الحقيقة بيان الحكم.
"يسمي ويكبر" قائلاً: بسم الله والله أكبر "ويضع رجله على صفاحهما" وجاء في بعض الأحاديث: ((اللهم هذا منك ولك)) وفي بعض الأحاديث: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} [(162) سورة الأنعام] فلو قالها أحسن، هذا منك ولك، اللهم تقبل من فلان وآل فلان، من محمد وآل محمد، الثاني عمن لم يضح من آل محمد.(101/4)
"يسمي ويكبر، ويضع رجله على صفاحهما" تضجع الذبيحة سواءً كانت أضحية أو عقيقة أو هدي أو أي ذبيحة كانت مما يشرع، أو يباح ذبحه تضجع على جنبها الأيسر، ويضع رجله على صفحة العنق؛ لئلا تضطرب وتتحرك، ويمسك برأسها بيده اليسرى، والمدية بيده اليمنى، ثم يقول: بسم الله والله أكبر، فيذبحها، قاطعاً بذلك الحلقوم والمري والأوداج، وهذا أكمل على ما تقدم، وإن اختلف العلماء في بعضها "ويضع رجله على صفاحهما، وفي لفظ: "ذبحهما بيده" وهذا يدل على أن الأفضل والأولى للإنسان أن يتولى ذبح أضحيته بنفسه، ولا يوكل مع القدرة، أما إذا كان لا يحسن الذبح فإنه يوكل، والأفضل إذا وكل أن يشهد ويحضر وجاء في بعض الأحاديث أنه يغفر له عند أول قطرة من دمها، فليحضرها، إذا كان يحسن الذبح فالأولى به أن يتولى الذبح بنفسه، كما فعل النبي -عليه الصلاة والسلام-، ذبح أضحيته بنفسه، وذبح ثلاثاً وستين من بدنه التي أهداها في حجة الوداع بيده، ووكل الباقي أو في الباقي علياً -رضي الله عنه-؛ لأنه أهدى مائة من البدن، مائة بدنة أهدى -عليه الصلاة والسلام- في حجة الوداع، ذبح منها بقدر سني عمره ثلاثاً وستين، ثم وكل علياً فذبح الباقي، فالتوكيل جائز لا إشكال فيه، لكن الذبح أفضل، وعلى هذا إذا وكل الأفضل أن يحضر، والأولى أن يذبحها بنفسه، أو يحضر ذبحها في بيته؛ لأن هذه شعيرة، ينبغي أن تعظم في قلب المضحي، وفي قلب من في بيته ممن يضحى عنهم، وأن يعرفها النساء والأطفال، يعرفون أن هذه من شعائر الدين، ويتوارثونها كما توارثها آباؤهم، وبعض الناس يأتي عليه يوم العيد وأهله لا يدرون هل ضحى أو لا؟ إما أن يبعث بقيمتها إلى بلد آخر، أو يشتريها من قرب المسلخ ويذبحها ولا يدرون بها، يأتي لهم بقطة من اللحم كأنه جاء بها من الدكان، من المجزرة، هذا لا تتحقق به الحكمة، ولا المصلحة من شرعية هذه النسيكة، كما شرعت صلوات النوافل في البيوت ليعرف النساء والأطفال، ويتعلمون كيف يصلون؟ وهنا يعرفون ويتعلمون كيف يذبحون؟ كثير من شباب المسلمين ما يعرف الذبح؛ لأنه ما رآه، ولا شك أن هذا تقصير، شعيرة ينبغي أن تشهر، وينبغي أن تعظم، ويعرفها الصغير والكبير وأنها من شعائر الدين؛ لئلا(101/5)
يأتي يوم من الأيام قد تستنكر، فالله المستعان.
"وفي لفظ: "ذبحهما بيده" ولا يستنكف الإنسان يقول: هذه جزارة لا تليق بي؛ لأن بعض الناس يرى أن هذه مهنة وضيعة لا تليق بكملة الرجال، النبي -عليه الصلاة والسلام- ذبحهما بيده، تجد بعض الناس إذا تقدم إليه جزار يخطب ابنته قال: هذه مهنة وضيعة، نعم كثير من الجزارين عندهم شيء من التساهل في أمور النجاسات والدماء المسفوحة وغيرها، وتجد عندهم شيء من يعني شاع في مجتمعهم شيء من الغش مثلاً، لا يعني هذا أن المهنة وضيعة، وقد باشرها النبي -عليه الصلاة والسلام-، ذبحهما بيده، وهو أشرف الخلق، وأكمل الخلق -عليه الصلاة والسلام-.
"متفق عليه، وفي لفظ: "سمينين" يعني يحرص الإنسان على الأكمل والأنفع، وأن تجود نفسه وتطيب بما يبذله لله -جل وعلا-، يتقرب إلى الله -جل وعلا- بالطيب، ولا يتيمم الخبيث، بعض الناس يعمد إلى أدنى شيء فيضحي به ليقال: ضحى، هذه عبادة ينبغي أن تطيب بها النفس وتجود بها.(101/6)
وبعض الناس تجود نفسه بهذه الأضحية ويقصد إلى أغلى ما في السوق، وهذا إما أن يكون مخلصاً في ذلك، مبتغياً في ذلك وجه الله -جل وعلا-، ممتثلاً ما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، أو يرائي بذلك ليقال: اشترى كذا وكذا، هذا موجود وهذا موجود، والناس كما قال الله -جل وعلا-: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [(4) سورة الليل] شخص اشترى كبش بألفين وهو يقوده في السوق قابله واحد من أهل العلم، فقال له: اشترينا هذا نضحي به للوالد بألفين ريال، قال: جزاك الله خير، أحسنت اللي جادت نفسك بألفين تضحي لوالدك، لكن والدك مدين لي بسبعمائة ريال، قال: الحق به، يعني ما جادت نفسه بالدين الواجب الوفاء، وجادت بهذه الأضحية، فبعض التصرفات تدل على أن هناك خلل في مقاصد بعض الناس، يعني جادت نفسه بالألفين ما في إشكال أن هذا طيب، لكن ينبغي أن يراجع نفسه، لماذا بذل ألفين، وهو يقوده في السوق أمام الناس اشتريت بألفين، اشتريت بكذا، ثم بعد ذلك لما طلب منه الواجب الذي ذمة أبيه مرهونة به، يقول: اتبعه، الحقه، فعلى الإنسان أن يراجع نيته ومقصده، والنية كما هو معلوم شرود، لا بد من ملاحظتها في كل لحظة؛ لأن الإنسان قد يغفل ثم بعد ذلك يقع في الرياء الذي يحبط العمل.
"وفي لفظ: "سمينين" من السمن، وهو توفر اللحم والشحم في النسيكة "ولأبي عوانة في صحيحه: "ثمينين" بالمثلثة" يعني ثمنهما مرتفع، قيمتهما غالية، كبيرة "ثمينين" بالمثلثة، بدل السين" هل نقول: إن اللفظين صحيحان ثابتان ثمينين وسمينين؟ أو نقول: إن الثابت أحدهما والثاني تصحيف؟ لأن الحديث واحد؛ لأن صحيح أبي عوانة مستخرج على صحيح مسلم، فالحديث هو الحديث؟ أو نقول: ثبت باللفظين سمينين ثمينين، فذكر بعض الرواة أحد اللفظين، وذكر الآخر اللفظ الثاني؟ أو نقول: إن الثابت واحد، والثاني تصحيف؟
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
يعني يرويه بالمعنى، من لازم كونه سميناً أن يكون ثميناً أو العكس؟ أو العكس يعني على حسب ما يثبت من اللفظين أصل والثاني بالمعنى، أحدهما باللفظ والثاني بالمعنى.(101/7)
"ولأبي عوانة في صحيحه: "ثمينين" بالمثلثة بدل السين" هل يقول قائل: إن الرواي الذي قال: ثمينين يحتمل أن يكون أثرم؟ يعني في الضحايا سيأتي "ولا ثرماء" أثرم سقط سنه بدل السين يقول: ثاء، احتمال؟ يعني ما يسمع هذا؟ من ينطق السين ثاء؟ كما أنه يوجد من ينطق الثاء سين، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
كيف؟
طالب:. . . . . . . . .
كيف؟
طالب:. . . . . . . . .
ثمينين، ما أقول لك: اللي في صحيح مسلم، أقول لك: اللي في أبي عوانة، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
لا، قد يأتي بالمعنى، قد يروون بالمعنى "ربما خالفت لفظاً ومعنى" نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
لا قد يسمعه الواحد اللي ما يعرفه ينقل عنه، نقول: هذا مجرد احتمال، واحتمال قائم، يعني ما هو مستحيل، وعلى كل حال هذا الحاصل رواية: "سمينين" وفي صحيح أبي عوانة: "ثمينين" ولا نكارة في اللفظ، يعني ما في نكارة، ما في مخالفة، ما في معارضة؛ لأن من لازم السمن أن يكون ثميناً، يعني اللفظ ليس بمنكر، فمن لازم كونه سميناً يكون ثميناً.(101/8)
"ولأبي عوانة في صحيحه: "ثمينين" بالمثلثة بدل السين" لكن لو وجدنا سمين وأقل قيمة من غير السمين؟ لأن غير السمين اجتمعت فيه الصفات الأخرى أملح أقرن، يعني وجدنا كبش أملح أقرن، والثاني أسود بدون قرن، لكنه سمين، أيهما أولى؟ والثاني السمين هذا أقل قيمة من الأملح الأقرن، سمين وفي الوقت نفسه أقل ثمن، ما يتصور؟ ما يقع؟ يقع، هل نقول: إن الهيئة (اللون) لا أثر متعدي، يعني المساكين الذين يتصدق عليهم منها، ومن يهدى إليه منها لا شك أنه يؤثر الوافر الكثير اللحم، يؤثر ما فيه شيء من الدسومة، فيه شحم، لا تنظروا يا إخواني الآن إلى الوقت الراهن، وأن الشحوم تلقى في المزابل لا قيمة لها، كانت ذات بال، وذات قيمة، وتباع مثل ما يباع اللحم، فعندنا الخيار بين الأملح الأقرن وبين السمين الأسود بدون قرن، والأملح الأقرن أكثر ثمن، وهذا أسمن، على شان نعرف وجه الاتفاق بين اللفظين ووجه الاختلاف، قلنا: إنه في الغالب إذا كان أسمن كان أثمن، لكن قد يكون هناك صفات أخرى تجعله أقل ثمناً وإن كان سميناً؛ لنبين أن اللفظين غير مترابطين باستمرار، فهل نؤثر الأوصاف الظاهرة أو نؤثر النفع المتعدي بوفرة اللحم والشحم؟ هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
وكونه -عليه الصلاة والسلام- ضحى بكبشين أملحين أقرنين، هل نقول: إن هذا مقصود له -عليه الصلاة والسلام-، أو أنه وجد هذين الكبشين فضحى بهما من غير اعتبار لون؟
الصنعاني يقول: "إذا كانت الأفضلية في اللون مستندة إلى ما ضحى به -صلى الله عليه وسلم- فالظاهر أنه لم يتطلب لوناً معيناً، حتى يحكم بأنه الأفضل، بل ضحى بما اتفق له، وتيسر حصوله، فلا يدل على أفضلية لون من الألوان" لأن اللون مآله إلى أن يسلخ مع الجلد ويرمى، ثم بعد ذلك يصفى الجلد من هذا الشعر وينتهي، والقرن لا قيمة له بالنسبة للأضحية، نعم له شأن عند أهل المواشي، لكن ليس له قيمة حقيقية مؤثرة في الأضحية.
كلام الصنعاني يتجه لو كانت أضحيته مرة واحدة، لكن كونه -عليه الصلاة والسلام- كان يضحي يعني ليست مرة واحدة يدل على أنه يبحث عن هذا اللون، كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين، فدل على أن لهذا اللون مزية.(101/9)
الأمر الثاني: اختيار الله -جل وعلا- لنبيه -عليه الصلاة والسلام- لهذا اللون، ولم يكن الله ليختار لنبيه إلا الأفضل.
طالب: عندنا حاشية رعاك الله.
ويش هو؟
طالب: بعد أن عزاه لأبي عوانة قال: لكن عنده بالسين المهملة سمينين.
إيه لكن سمينين بالحرف ما هو بالضبط، تعرف أن الطبعات يعتريها ما يعتريها، لكن الحافظ ما هو بإنسان مثل المحقق، إنسان عادي، وجد هذه المطبوعة واعتمد عليها، لكن أيضاً في فتح الباري في بعض المواضع يدل على أنه بالسين، لكن هنا تصريح "ولأبي عوانة في صحيحه: "ثمينين" بالمثلثة بدل السين" يعني ما يعارض بما يوجد في الكتاب الأصلي أنه بالسين مكتوب مجرد .. ، الكتابة تخون، والضبط بالحروف هو الأصل عند أهل العلم، ولا شك أن البحث عن الأكمل من تعظيم الشعيرة، وتعظيم الشعائر دليل التقوى، من تقوى القلوب، تعظيم هذه الشعائر، فإذا بذل الإنسان وطابت نفسه بما لا يصل إلى حد السرف؛ لأنه أحياناً تبذل الأموال في شيء لا قيمة له، في شيء شكلي لا قيمة له، هذا لا شك أنه إسراف، يعني بعض الناس مستعد يدفع في كبش خمسة آلاف، ولا شيء عنده الآن، لكن هذا إسراف، وإن كان يجد مئات الملايين؛ لأن قيمة كل شيء بحسبه لا بحسب الشخص نفسه.
"ولأبي عوانة في صحيحه: "ثمينين" بالمثلثة بدل السين، وفي لفظ لمسلم: ويقول: ((بسم الله، والله أكبر)) " هناك قال: "يسمي ويكبر" صيغة التسمية وصيغة التكبير جاءت في لفظ مسلم: "يقول: ((بسم الله، والله أكبر)) " بهذا اللفظ.
في الحديث الثاني بالنسبة للون، هنا في الحديث الأول: "بكبشين أملحين أقرنين" وهنا قال: "وله" يعني لمسلم "من حديث عائشة -رضي الله عنها- أمر بكبش أقرن" هذا متفق مع الأول "أمر بكبش أقرن" إلا أنه في الأول بكبشين، والثاني في الحديث الثاني: بكبش أقرن، وكونه يأمر بكبش لا ينفي أن يكون هناك كبش آخر؛ لأن الحديث الأول صريح في كونهما اثنين على أن الكبش الواحد أو الأضحية الواحدة تكفي عن الرجل وعن أهل بيته، ولكن النبي -عليه الصلاة والسلام- ضحى بالثاني عمن لم يضح من أمته -عليه الصلاة والسلام-.(101/10)
"أمر بكبش أقرن يطأ في سواد" يطأ في سواد يعني شعر رجليه أسود "ويبرك في سواد" شعر بطنه أسود، "وينظر في سواد" الشعر الذي حول عينيه أسود، فأتي به "ليضحي به" هذا لون آخر غير الأول، وإن كان الغالب البياض، ما ينفي أن يكون الغالب البياض، ولو وطئ في سواد، وبرك في سواد، ونظر في سواد، لا ينفي ولا يمنع أن يكون الغالب هو البياض، فأتي به "ليضحي به" -عليه الصلاة والسلام- "فقال لها: ((يا عائشة هلمي المدية)) " هلمي يعني هاتي، أو ائتيني بالمدية، وهلم في لغة قريش تلزم حالاً واحدة، هلم للمذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع، وعند بني تميم المطابقة، هلما يا زيد، هلمي يا عائشة، هلما يا زيدان، هلموا يا رجال، وهكذا، وهنا قال: ((هلمي يا عائشة المدية)) يا عائشة هلمي، على لغة؟ على لغة تميم؛ لأنها عند قريش تلزم صيغة واحدة ((هلمي المدية)) يعني هاتي وائتيني بالمدية التي هي السكين، ثم قال: ((اشحذيها بحجر)) يعني سنيها بحجر، فينبغي أن تشحذ، وتحد كما جاء الأمر بذلك: ((وليحد أحدكم شفرته)) من أجل إراحة الذبيحة، والإحسان إلى المذبوح، بخلاف ما لو كانت المدية الشفرة السكين لو كانت كليلة، لو كانت كليلة تعذب المذبوح هذا ليس من الإحسان، والله -جل وعلا- كتب الإحسان في كل شيء، فقال: ((اشحذيها بحجر)) ففعلت "ثم أخذها" -عليه الصلاة والسلام- "وأخذه" أخذ الكبش "فأضجعه" على ما تقدم على جنبه الأيسر، ووضع رجله على صفحة عنقه، وأمسك الرأس بيده اليسرى، والمدية باليد اليمن، فأمرها على حلقه وقطع ما يجب قطعه، قائلاً: بسم الله والله أكبر.
"ثم أخذها وأخذه" يعني الكبش "فأضجعه ثم قال: ((بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد)) " ثم ضحى به، جاء تخصيص: ((من لم يضح من أمة محمد)) هنا يشمل من ضحى ومن لم يضح، واللفظ الثاني خاص بمن لم يضح، وهذا يستدل به على عدم وجوب الأضحية كما هو قول الجمهور ((من لم يضح من أمة محمد)) تحمل أضحيته النبي -عليه الصلاة والسلام- وضحى عنه.(101/11)
قد يقول قائل أو يتذرع بخيل مثلاً يقول: أنا لن أضحي؛ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- ضحى عني، ولو بذلت ما بذلت، وحرصت ما حرصت في الأضحية لن تكون مثل أضحية النبي -عليه الصلاة والسلام- عني، لا بطيب المال، ولا بطيب النفس، ولا بطيب الكسب، ولا بالإخلاص.
الأضحية التي ضحى بها النبي -عليه الصلاة والسلام- عن أمة محمد توفر فيها كل ما يطلب شرعاً، فلماذا أبحث عن أضحية قد يعتريها ما يعتريها من الخلل والنقص؟ الكلام سائغ وإلا غير سائغ؟
طالب:. . . . . . . . .
((من لم يضح من أمة محمد)) الله أعلم عاد ...
طالب: فمن لم يستطع؟
نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
يعني في وقته -عليه الصلاة والسلام-، حتى يمكن أن يقال هذا الكلام في وقته -عليه الصلاة والسلام-، لو قال في وقت النبي -عليه الصلاة والسلام-: أنا ما أضحي، بيضحي عني الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وأضحية الرسول أكمل من أضحيتي مهما بذلت، ويتذرع بمثل هذا، هل لتذرعه واعتذاره وجه وإلا لا؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
له وجه؟
طالب:. . . . . . . . .
لكن مع النصوص التي جاء فيها الحث على الأضحية، وجاء الأمر بها، و ((من لم يضح فلا يقربن مصلانا)) يكون له وجه؟ لا وجه له.
((بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد)) جاء في بعض الروايات: ((اللهم إن هذا منك ولك)) "منك" أصله من مال الله الذي آتاك، فهو من الله -جل وعلا- "ولك" يعني من أجلك، ذبحت هذه النسيكة من أجلك {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ} [(162) سورة الأنعام] فهذه النسيكة لله -جل علا-.
((اللهم تقبل من محمد وآل محمد)) تقبل من فلان المضحي وآله، وأهل بيته؛ لأن الأضحية تجزئ عن المضحي وعن أهل بيته.(101/12)
((ومن أمة محمد)) لو قال شخص: النبي -عليه الصلاة والسلام- ضحى عن أمته، ومن باب مقابلة الإحسان بالإحسان أريد أن أضحي عن الرسول -عليه الصلاة والسلام- كما ضحى عنا نضحي عنه، ووجد في بعض الوصايا من أوصى بأضاحي لآدم ولحواء ولمحمد -عليه الصلاة والسلام-، ولفلان من الناس من له عليه حق، وجد من يضحي عن الإمام أحمد، وعن شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، يوجد من يضحي، وكل يضحي عن من أعجبه أو وصل إليه نفعه.
المقصود أن هذا قال: النبي -عليه الصلاة والسلام- ضحى عن أمة محمد، ومن باب الجزاء والإحسان إلى الإحسان أحسن إلينا فنحسن إليه، هل يسوغ أن يضحى عن النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ لا، لماذا؟ لأن هذا شيء لم يفعله سلف هذه الأمة، ما ضحى أبو بكر ولا عمر عن محمد -عليه الصلاة والسلام-.
والأمر الثاني: أن هذه الأضحية التي تذبحها عنك وعن أهل بيتك لمحمد -عليه الصلاة والسلام- مثل أجرك؛ لأنه هو الذي دلك على هذا الخير، ومن دل على هدى كان له مثل أجر فاعله، فالتضحية عنه -عليه الصلاة والسلام- بدعة وإن فعله بعض الناس.
قال -رحمه الله-: "وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من كان له سعة ولم يضح، فلا يقربن مصلانا)) رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الحاكم، لكن رجح الأئمة غيره وقفه" صححه الحاكم مرفوعاً إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وغيره من الأئمة رجحوا الوقف، ابن حجر ينقل عن الأئمة هنا، وقال في الفتح: الموقوف أشبه بالصواب.
((من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا)) هذا من أدلة من يقول بوجوب الأضحية، وهو قول أبي حنيفة استدلالاً بمثل هذا، وبقوله -جل وعلا-: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [(2) سورة الكوثر] الصلاة هنا صلاة العيد، والنحر نحر الأضحية، وهذا قول أبي حنيفة، وجمهور أهل العلم على أن الأضحية سنة مؤكدة، لا تصل إلى حد الوجوب، ولا يأثم من تركها، لكنه حرم خيراً عظيماً.(101/13)
مما يستدل به أهل العلم على عدم وجوب الأضحية قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي)) فرد الأمر إلى إرادته واختياره ومشيئته، أراد أن يضحي هذا مما يستدل به على عدم الوجوب، لكن هل الدلالة على عدم الوجوب واضحة؟ نعم؟ ليست واضحة؛ لأنه يقال لمن أراد أن يحج حج الفريضة: إذا أردت أن تحج فافعل كذا وكذا وكذا، والحج فريضة الإسلام، يعني إذا عزمت فافعل كذا.
يقول ابن حزم: "لا يصح عن أحد ن الصحابة والتابعين والفقهاء عن أحد من الصحابة أنها واجبة" استدل الإمام الشافعي على عدم وجوبها بحديث أم سلمة: ((إذا دخلت العشر ... )) إلى آخره، وعرفنا أن هذا الحديث لا يتم الاستدلال به؛ لأنه يمكن أن يوجه هذا الكلام مجرد الإرادة لما يجب فعله كما يقال: إذا أردت أن تصلي فتوضأ، هل يمكن أن يقال إن هذا الأسلوب يدل على عدم وجوب الصلاة مثل: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ} [(6) سورة المائدة] يعني إذا أردتم القيام، الصلاة واجبة، لكن يجب أن يكون هذا متقدماً عليها.
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [(2) سورة الكوثر] استدل أبو حنيفة بهذه الآية على وجوب صلاة العيد، وعلى وجوب الأضحية، وإن كانت الدلالة ليست بصريحة، ولذا لا يقولون بأن صلاة العيد فرض ولا الأضحية فرض، إنما يكتفون بالوجوب؛ لأنها ثبتت بدليل قطعي وإلا ظني؟
طالب:. . . . . . . . .
الآية قطعية، قطعية الثبوت، لكن الدلالة ظنية ليست بواضحة.(101/14)
وفي الحديث الذي يليه: "عن جندب بن سفيان -رضي الله عنه- قال: شهدت الأضحى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" يعني يوم الأضحى أو عيد الأضحى أو صلاة الأضحى "فلما قضى صلاته بالناس نظر إلى غنم قد ذبحت، فقال -عليه الصلاة والسلام-" هذه الغنم الاحتمال قائم أنها ذبحت قبل الصلاة، والاحتمال الثاني أنها بعد الصلاة مباشرة، ولما لم يتعين ذبحها قبل الصلاة قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((من ذبح)) ما قال: اذبحوا؛ لأن بعض الناس يبادر بالإنكار، ثم يتبين له أن الفعل صحيح، النبي -عليه الصلاة والسلام- لما دخل الرجل وجلس سأله، فقال: ((هل صليت ركعتين؟ )) قال: لا، قال: ((قم فصل ركعتين)) ما قال من أول الأمر: قم فصل ركعتين، لو دخل شخص أو جاء شخص إلى الصف الأول وجد فيه فرجة وجلس، فيه صفوف، هل يسوغ لمن بجانبه أن يقول: قم فصل ركعتين؟ احتمال أن يكون صلى في صف متأخر، ثم وجد هذه الفرجة، فالذي ينبغي أن يقال مثل ما قال الرسول -عليه الصلاة والسلام-: ((هل صليت ركعتين؟ )) لئلا ينكر غير منكَر، فيكون الرجل قد صلى، صل ركعتين، صليت، يقع في حرج هذا المنكر بعد ذلك، ولذا قال -عليه الصلاة والسلام-: ((من ذبح قبل الصلاة)) ما قال: اذبحوا مكان ما ذبحتم؛ لأنكم ذبحتم قبل الصلاة، وما دام الاحتمال قائماً فإنه يأتي بصيغة عموم تتناول الناس كلهم.
لما دخل الداخل والنبي -عليه الصلاة والسلام- يخطب، وجلس قال: ((قم فاركع ركعتين)) لماذا؟ لأنه يراه، دخل مع الباب وجلس، مثل هذا يقال له: قم فصل ركعتين، لكن الذي الاحتمال قائم في كونه صلى أو لم يصل، يؤتى به على سبيل التردد والاستفهام، هل صليت ركعتين؟ وهنا احتمال أن تكون هذه ذبحت قبل الصلاة، واحتمال أن تكون ذبحت بعدها، فقال: ((من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها)) لأنها لا تجزئ أضحية، لحم، كأنه جاء بها في يوم عرفة، أو في أول الشهر، أو في القعدة أو في شوال، لحم عادي، لا يتقرب بها على أنها أضحية، وعليه حينئذٍ أن يذبح مكانها.(101/15)
قال: ((من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها)) دل على أن بداية وقت الأضحية الفراغ من الصلاة ولو لم ينته الخطيب من خطبته، وهل المراد بالصلاة صلاة الإمام أو صلاة المضحي؟ من أهل العلم من يربطها بالإمام، فيقول: إذا صلى الإمام تضحي ولو لم تصل أنت، ومنهم من يقول: صلاة المضحي؛ لأنه قد يعسر معرفة الفراغ فراغ الإمام من صلاته إذا كان في بلد ناءٍ قبل وسائل الاتصال الموجودة الآن، ما يدرون هل الإمام صلى وإلا تأخر وإلا حصل له ظرف وتأخر؟ ومنهم من يقيدها بوقت الصلاة كالشافعي، يقول: إذا ارتفعت الشمس ومر مقدار الصلاة يعني ارتفعت الشمس وعشر دقائق بعد ذلك، عشر من طلوعها، وعشر لأداء الصلاة، يعني بعد بزوغ الشمس بثلث ساعة اذبح؛ لأن هذا مقدار كافي للصلاة، لأنه احتمال أن يكون في بادية لا يصلون العيد، فيكفي المقدار.
((من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها، ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله)) هذا تقرير لما جاء في النصوص الكثيرة المتضافرة المتوافرة على وجوب التسمية.
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
هو من أدلة الوجوب، وأصح منه ما في القرآن.
هذا بالنسبة لبداية وقت الأضحية، وأما انتهاء وقت الأضحية فمختلف فيه، وكثير من أهل العلم يرى أنه ثلاثة أيام، يوم العيد ويومان بعده، وهذا قول المالكية والحنابلة، وعند الشافعية أربعة أيام، يوم العيد وثلاثة أيام بعده، ومنهم من يرى أنه يوم العيد فقط، وأن الأضحية تختلف عن الهدي، الهدي في يوم العيد وأيام التشريق، لكن عامة أهل العلم بل القول المعتمد عند أهل العلم أنه في يوم العيد ويومان أو ثلاثة بعده، والمرجح أنها ثلاثة كالهدي، ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله)) فالنهاية مقيسة على الهدي، فتكون ثلاثة أيام بعد يوم العيد، والبداية معلومة بالنص بعد الصلاة، الهدي نهايته معلومة بنهاية أيام التشريق، وبدايته معلومة وإلا غير معلومة؟
طالب: معلومة.
متى؟
طالب:. . . . . . . . .
الهدي الهدي؟
طالب:. . . . . . . . .
الهدي؟
طالب:. . . . . . . . .
مغيب إيش؟
طالب:. . . . . . . . .
بدايته؟
طالب:. . . . . . . . .(101/16)
النحر نحر الهدي من أعمال يوم النحر، يمتد إلى مغيب الشمس آخر أيام التشريق هذا ما فيه إشكال، لكن بدايته؟
طالب:. . . . . . . . .
هو من أعمال يوم النحر "رميت قبل أن أنحر" ((افعل ولا حرج)) "نحرت قبل أن أطوف" ((افعل ولا حرج)) وكذا فعلت فعلت ... إلى آخره، وأعمال يوم النحر متى تبتدئ؟
طالب:. . . . . . . . .
يعني من ساغ له الانصراف من منتصف الليل من أهل الأعذار، أو من مغيب القمر، أو انصرف بعد مضي جل الليل وغالب الليل، أو انصرف بعد صلاة الفجر، ووصل إلى منى، هل هو مخير بين أن يفعل ما شاء من أعمال يوم النحر التي هي الرمي والطواف والسعي والحلق والنحر، هذه أعمال يوم النحر، فمن قدم شيئاً حتى من قال: سعيت قبل أن أطوف، قال: ((افعل ولا حرج)) نحرت قبل أن أرمي ((أفعل ولا حرج)) ساغ له أن يصرف، بل جلس إلى أن أسفر كما فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- ووصل إلى منى مع طلوع الشمس، يسوغ له أن ينحر وإلا ما يسوغ مقدماً النحر على الرمي؟ يجوز أن يقدم النحر على الرمي؛ لأنه قال: ((افعل ولا حرج)) فإذا قدمه قبل الصلاة مثلاً؟
طالب: إذا كان من أهل الأعذار.
ما هو من أهل الأعذار جلس صلى الصبح وجلس في مصلاه وصار آخر مزدلفة، فدخل منى بخمس دقائق قبل الصلاة، قبل أن يدخل الإمام، قبل أن ترتفع الشمس، وقال: فرصة الناس ذاهبين كلهم إلى الجمرة يرمون أنا با أذبح، ما دام الناس في غفلة، ويجوز تقديم الذبح على الرمي ((افعل ولا حرج)) يجوز وإلا ما يجوز؟
يعني مقتضى قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((افعل ولا حرج)) أنه يجوز، لكن مقتضى الحديث، وأن الأضحية والهدي متقاربان في الأحكام، وقيست الأضحية على الهدي في نهاية الوقت، يقتضي أن لا يذبح الإنسان هديه إلا بعد الصلاة.(101/17)
القاعدة عند أهل العلم أنه إذا كان هناك سبب وجوب ووقت وجوب يعني للعبادة سبب وجوب ووقت وجوب، عندنا سبب وعندنا وقت، سبب وجوب الهدي هدي المتعة والقران الإحرام بهما، ما دام دخل في النسك وجد سبب الوجوب، ووقت الوجوب يوم النحر، مقتضى هذه القاعدة عند أهل العلم أنه لا يجوز فعل الشيء قبل سببه بالاتفاق، يعني ما تقول: والله الآن أنا جيت قبل أن أحرم أبا أذبح الهدي، ولا تقول: قبل أن أحلف أكفر خشية أن تجب علي الكفارة وأنا ما عندي شيء، وأنا الآن متيسرة أموري، يقول: أبذل كفارة يمين لئلا يجب علي كفارة يمين فيما بعد، وأنا ليس عندي ما أكفر به، يعني قبل انعقاد سبب الوجوب لا يجوز، ولا يجزئ، لكن إذا انعقد السبب وقبل وقت الوجوب يجوز أن تكفر عن يمينك قبل الحنث؟ يجوز وإلا ما يجوز؟ يجوز، يجوز أن تكفر عن يمينك قبل أن تحنث، ويجوز اتفاقاً أن تكفر بعد أن تحنث، وإذا جئنا لهدي التمتع والقران قلنا: سبب الوجوب الدخول في النسك، وهذا قبل يوم العيد، ووقت الوجوب يوم النحر؛ لأن الإضافة يوم النحر من إضافة الشيء إلى سببه الذي هو النحر.
طيب على مقتضى القاعدة يجوز أن نذبح قبل يوم النحر وإلا ما يجوز؟ أحرم قارن في الأول من ذي الحجة وجلس عشرة أيام قبل يوم النحر على مقتضى القاعدة يجوز أن يذبح وإلا ما يجوز؟ يجوز، وقال به جمع من أهل العلم، لكن القول الثاني وهو قول أكثر أهل العلم أنه لا يجوز نحر الهدي قبل يوم النحر، وما سمي يوم النحر إلا لأنه تنحر فيه الأضاحي والهدايا.
هناك كتاب صدر عن بعض أهل العلم قبل ثلاثين أو أربعين سنة "القول اليسر في جواز نحر الهدي قبل يوم النحر" مؤلف معروف ومتداول، لكنه رد عليه بكتاب آخر من شيخ أكبر منه وأعلم: "إيضاح ما توهمه صاحب اليسر في يسره من تجويزه نحر الهدي قبل وقت نحره" أو بقية العنوان سهل، المقصود أن هذه مسألة مختلف فيها، والراجح من أقوال أهل العلم أنه لا ينحر الهدي قبل يوم النحر، وأن وقته مثل الأضحية بعد الصلاة؛ ليكون مجزئاً بالاتفاق.(101/18)
بعضهم ذهب إلى أن النحر خاص بالنهار دون الليل، وأن الأضحية لا تذبح في الليل، وهذا مشهور عن مالك -رحمه الله-، وغيره يذهبون إلى جواز الذبح بالليل والنهار في المدة المحددة شرعاً.
اليوم يطلق بإزاء النهار في مقابلة الليل، ويطلق أيضاً على ما يشمل الليل والنهار {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} [(65) سورة هود] يعني دون ليالي أو بلياليها؟ بلياليها، لكن في قوله -جل وعلا-: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [(7) سورة الحاقة] يدل على أن الأيام تطلق ويراد بها ما يقابل الليالي.
بعد هذا يقول المؤلف -رحمة الله عليه-: "وعن البراء بن عازب -رضي الله تعالى عنه- قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((أربع لا تجوز في الضحايا: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والكبيرة التي لا تنقي)) " أربع: هذا حصر، ومن قال: إن العدد له مفهوم قال: إنه لا عيب إلا هذه الأربعة المنصوصة، من قال: إن العدد له مفهوم يدل على الحصر، وأنه لا عيب سوى هذه الأربعة، وبهذا يقول أهل الظاهر، ولو كان العيب أشد مما نص عليه.
((العوراء البين عورها)) إذا كانت عمياء تجزئ وإلا ما تجزئ؟ عند عامة أهل العلم لا تجزئ، لكن عند الظاهرية؟ تجزئ، وإذا نظرنا إلى العلة في منع التضحية بالعوراء هذا عيب، ونقص ويعوقها عن بعض مصالحها، قالوا: إنها إذا كانت مع غيرها ترعى يفوتها ما في الجهة التي من جهة العين العوراء، يعني العشب والكلأ الذي في الجهة اليمنى أو اليسرى في جهة العين العوراء يفوتها، فكيف إذا كانت عمياء؟ يقول من يحتج للظاهرية: العمياء يحضر لها طعام وما يحتاج ترعى، العيب غير مؤثر، ولا يؤثر في لحم ولا غيره.(101/19)
على كل حال هذا القول لا حظ له من النظر، فإذا منعت العوراء فلتمنع العمياء من باب أولى، لكن في قوله: ((البين عورها)) يعني بين واضح لمن رآها قال: عوراء، هناك من هو أعور، وهناك من هو أعمى لا يبين لا عوره ولا عماه، تكون عينه قائمة، وإن فقد البصر، هذه ليس ببين عورها، وحينئذٍ تكون مجزئة؛ لأن القيد البين عورها معتبر، ليس بلاغي، فإذا كانت العين قائمة من رآها رأى العينين سواء، عين قائمة لا عيب فيها، ولا يظنها عوراء، هذه مجزئة، فماذا عن العمياء إذا كانت العين قائمة ليس بيِّن عماها؟ إذا كان ليس بين عورها تجزئ، لكن هذه ليس بيِّنٌ عماها من رآها قال: تبصر، تشوف بعض العميان مسلوب البصر، ومع ذلك ما تظنه إلا يبصر.
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
تمشي، وراها ما تمشي، تمشي، لكن تصطدم بجدار، بعمود، لكن تمشي.
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
هذه يكون بين عماها إذا مشت، إذا مشت صار عماها بين، وحينئذٍ لا تجزئ، يعني من رأى العوراء وقال: عيناها سواء، هل هذا يدل على أن العور غير بين أو لا؟
طالب:. . . . . . . . .
يعرفه.
يقول الشاعر:
خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء
عمرو هذا الخياط أعور.
خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء
فسلوا الناس أشعري ... مديح هذا أم هجاء؟
هو يمدحه وإلا يذمه؟
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
ما يدرى يقول: ليت عينيه سواء.
طالب:. . . . . . . . .
ويش هو؟
طالب:. . . . . . . . .
ما يدرى هو أزعله وإلا أرضاه؟ ما تدري أنت، هو يقول:
فسلوا الناس أشعري ... مديح هذا أم هجاء؟
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
يعني القرينة ينظر في هذا القباء هل خياطته جيدة، ويتمنى أن يبصر بعينه فتكون سواء مع المبصرة، أو العكس إذا كان أفسد عليه قباءه يتمنى له العمى.
((أربع لا تجوز في الضحايا: العوراء البين عورها)) يعني واضح من رآها قال: هذه عوراء، انخسفت عينها، أو تغيرت عن طبيعتها الأصلية وعن أختها.(101/20)
((والمريضة البين مرضها)) واضح أنها مريضة، من رآها قال: مريضة، وعلى هذا لو اشترى شخصاً أضحية نظر إليها وينظر إليها الناس ما يذكرون فيها شيء بدليل أن قيمتها كقيمة غيرها، ثم لما ذبحها وجد فيها داء مضر باللحم وبآكله داء عضال تجزئ وإلا ما تجزئ؟ نعم؟
طالب: ليس مرضها بيناً.
كيف؟
طالب: أقول: ليس مرضها بيناً ظاهراً.
يعني اشتراها على أنها سليمة، وبيعت على أنها سليمة، وبيعت في من يزيد، والناس يزيدون في قيمتها على أنها كأخواتها، ثم لما ذبحت تبين أن فيها علة، علة مؤثرة، يعني لو عرفت قبل ذلك ما جاءت ولا بعشر القيمة؛ لأن هذا المرض مؤثر في اللحم ومن ثم في آكله.
طالب:. . . . . . . . .
نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
هذا بين؟ ((والمريضة البين مرضها))؟
طالب:. . . . . . . . .
((المريضة البين مرضها)) افترض أنها سليمة مائة بالمائة، ثم بعد أن عينت مرضت، نعم؟
طالب: تجزئ.
أو وقعت وانكسرت، صارت بين ضلعها.
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب: قبل الذبح؟
قبل وقت الذبح.
طالب:. . . . . . . . .
تجزئ وإلا ما تجزئ؟
طالب:. . . . . . . . .
لو ماتت قبل الذبح، عينت هذه وصية واجبة اشتراها وبنفس القيمة المعهودة للأضاحي، وسليمة من كل وجه، ثم بعد ذلك شردت أو ماتت أو مرضت قبل الذبح؟
طالب:. . . . . . . . .
يعني يخرج غيرها.
طالب: كما لو سرقت.
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
هذا بفعله قبل الصلاة ذبحها بفعله، هذا من غير فعله.
طالب:. . . . . . . . .
هذا خارج عن إرادته، أما من ذبح قبل الصلاة هذا بفعله، تجزئ وإلا ما تجزئ؟
طالب: تجزئ.
لما نجي نقرر أن ما تبين عيبه بعد ذبحه ولا سيما والحديث في البين مرضها، وهذه ليس ببين مرضها، فالمتجه إذا كان مرضها لا يتبين إلا بعد الذبح فإنها حينئذٍ لا تجزئ، أما إذا تبين قبل الذبح ولو كان خفياً ثم تبين بعد ذلك أنها تعاد بعيبها إلى بائعها.(101/21)
((والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها)) والعرجاء البين ضلعها، ونأتي إلى ما حدث إذا حدث العيب بعد التعيين وقبل الذبح هذا من كانت عنده سعة، وأراد أن يذبح غيرها فهو الأكمل والأفضل، وإذا نفقت بغير فعله فنيته ثبتت، وأجره ثبت، ولا يلزم بذبح غيرها.
((والعرجاء البين ضلعها)) بعض العرج يوجد لكنه خفيف، ولا يعوق عن اللحاق بالصحيحات، فتلحق بالصحيحات السليمات، وترعى معهن، وتذهب وتأتي من غير نقص، لكن إذا كان بيناً يعوقها عن اللحاق بالسليمات فإنها حينئذٍ لا تجزئ.
((والكبيرة التي لا تنقي)) كبيرة السن، لا تنقي يعني لا نقي فيها، الذي هو المخ، نشف مخها، هذه في الغالب أن لحمها غث، وليس بطيب، بل هي من أراذل المال، والله -جل وعلا- يقول: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [(267) سورة البقرة] فهذه لا تجزئ، فعلى الإنسان أن تطيب نفسه بهذه الأضحية.
((الكبيرة التي لا تنقي)) يأتي في الحديث الذي بعده: ((لا تذبحوا إلا مسنة)) حديث جابر -رضي الله عنه- قال: ((لا تذبحوا إلا مسنة)).
عن جابر -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)) رواه مسلم.
مسنة: المسن في عرف الناس الكبير، كبير السن، نهينا عن التضحية بالكبيرة، هناك دور للمسنين، وهناك عناية بالمسنين والكبار، نهينا عن التضحية بالكبيرة التي لا تنقي، وهنا قال: ((لا تذبحوا إلا مسنة)) المسنة هي التي بلغت السن الشرعي المعتبر، لا أنها مسنة يعني كبيرة، كبيرة السن التي نهي عن التضحية بها؛ لأن لفظ (مسن) في عرف الناس إنما يطلق على كبير السن، نهينا عن التضحية بالكبيرة، هذا تناقض وإلا لا؟ لا، يعني مسنة يعني بلغت السن الشرعية التي تجزئ فيها، وهو أن تكون ثنية، المسنة هي الثنية التي بلغت سن الثني، والثني من كل شيء بحسبه، من الإبل ما له خمس سنين، ومن البقر ما تم له سنتان، ومن الماعز ما له سنة، وكذلك الضأن، ما له سنة.(101/22)
((إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)) ففي الحديث دليل على أنه لا يذبح إلا الثني من جميع الأنواع حتى الضأن، فإذا تعثر ولم يوجد الثني نذبح الجذع من الضأن فقط، ولا نذبح الجذع من الماعز، ولا من الإبل والبقر، الماعز والإبل والبقر لا بد أن يكون ثنياً فما فوق، وأما بالنسبة للضأن فيجزئ الجذع، وحديث الباب يدل على أنه لا يجزئ إلا مع عدم المسن الذي هو الثني.
((إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)) وهو ما له ستة أشهر، وجاء في أدلة أخرى ما يدل على إجزائه مع وجود غيره ((ضحوا بالجذع من الضأن)) و ((نعمت الأضحية الجذع من الضأن)) مما يدل على أن الجذع من الضأن مجزئ، وإن كان الثني أفضل منه، فيبحث عن الثني فإذا أعسر ولم يوجد الثني يذبح الجذع من الضأن، ولا يعني هذا أنه لا يجزئ مع وجود غيره.
والحديث رواه مسلم، وضعفه بعضهم بعنعنة أبي الزبير راويه عن جابر، هو في صحيح مسلم، رواه أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، وهو معروف بتدليسه عن جابر بصيغة (عن) فأعله بعضهم بهذه العنعنة، وهذا التضعيف له حظ من النظر أو لا؟ هذا التضعيف لا قيمة له، لماذا؟ لأن الحديث مخرج في صحيح مسلم، وقد تلقته الأمة بالقبول، وعنعنات الصحيحين محمولة عند أهل العلم على الاتصال، فلا يلتفت إلى قول غيرهم في مثل هذا.
ثم بعد هذا قال: "وعن علي -رضي الله عنه- قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نستشرف العين والأذن" يعني نتطلع ونتحسس ونتأكد من العين والأذن أنه لا عيب فيها.
"نستشرف العين والأذن" الأمر باستشراف العين موافق لقوله: ((العوراء البين عورها)) وإلا مخالف؟ نعم؟ مخالف، كيف مخالف؟ الحديث: ((أربع لا تجوز في الضحايا: العوراء البين عورها)) هذه العوراء التي ليس عورها ببين وهي مجزئة من مفهوم الحديث إذا استشرفنا هذه العين وجدنا فيها عيب، فهل يلزمنا أن نستشرف، أو نقول: عورها ليس ببين ومجزئة؟
في حديث علي: "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نستشرف العين والأذن" يعني نتأكد من سلامة العين والأذن، هذا الخبر مختلف فيه، ضعفه جمع من أهل العلم.(101/23)
"أن نستشرف العين والأذن، ولا نضحي بعوراء" يعني مقتضاه أننا نتأكد فلا نضحي بعوراء، ولو كان عورها ليس بيناً، بخلاف الحديث السابق ((البين عورها)) لأننا أمرنا أن نستشرف ندقق نلاحظ نتأكد من سلامة العينين، والحديث الأول يدل على أن العبرة بالظاهر، ولو كان الباطن مخالف لهذا الظاهر.
"ولا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة" مقابلة: قطع مقدم أذنها، وترك يتدلى "ولا مدابرة" العكس قطع المؤخر فجعلت الأذن تتدلى "ولا خرقاء" يوجد في أذنها خرق، كثيراً ما تجدون في الأسواق من أثر الوسم تجدون فيها الخرق "ولا خرقاء ولا ثرماء" ثرماء التي طاح وقع أو سقط بعض أسنانها، هذه ثرماء.
"أخرجه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم" وضعفه جمع من أهل العلم، وعلى هذا إذا قيل بصحته وهو مختلف فيه يكون العيب في الأذن مؤثر، وعلى الحديث السابق لا أثر له، ومثل هذا يعني لو حمل على الكمال وأننا نستشرف هذه لنطلب الأكمل، وأنه إذا وجد لا يؤثر، لكنه خلاف الأولى كما قال به جمع من أهل العلم.
يأتي من استراليا أغنام مقطوعة الألية، وقطعها إنما هو لمصلحتها؛ ليختلط الشحم باللحم فيطيب اللحم، بينما إذا وجدت الألية اجتمع هذا الشحم بها فيها فلم يختلط فهم يقطعونها من أجل مصلحة الغنم، كما أن خصاء الذكور من الغنم لمصلحتها؛ ليطيب لحمها، فهل تجزئ مقطوعة الألية؟
الفتوى كما هو معلوم على أنها غير مجزئة؛ لأنها ناقصة نقص مؤثر؛ لأن الألية وإن كانت في وقتنا الحاضر لا قيمة لها عند الناس، إلا أنها في أوقات بل في بلدان أخرى في وقتنا الحاضر لها أثر، فالفتوى على أن مقطوع الألية لا يجزئ.(101/24)
يقول الشارح الصنعاني: "وأما مقطوع الألية والذنب فإنه يجزئ لما أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي من حديث أبي سعيد قال: "اشتريت كبشاً لأضحي به فعدا الذئب فأخذ منه الألية فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((ضح به)) لكنه حديث ضعيف في إسناده جابر الجعفي، ضعفه معروف، شديد الضعف عند أهل العلم، وفيه أيضاً محمد بن قرظة وهو مجهول، قال: إلا أنه له شاهداً عند البيهقي، قال: واستدل به ابن تيمية في المنتقى، المجد ابن تيمية في منتقى الأخبار استدل به على أن العيب الحادث بعد تعيين الأضحية لا يضر، يعني وقعت وانكسرت، فأصيبت بعيب بعد التعيين قال: فإنه لا يضر.
التضحية خاصة ببهيمة الأنعام، من الأصناف الثمانية المذكورة في سورة الأنعام، ولا يجزئ غيرها، وأما ما يذكر عن أبي هريرة أنه ضحى بديك، وعن فلان أنه اشترى لحماً بدرهمين فقال: هذه أضحية فلان، أو ضحى بحمار وحش، أو ضحى بكذا، كل هذا لا يصح، ولو صح لا يعارض به النصوص الصحيحة الصريحة، بل نقل كثير من أهل العلم الإجماع على أنها لا تجزئ إلا من بهيمة الأنعام، من الإبل والبقر والغنم، والخلاف في الأفضل منها، فمالك يرى أن الأفضل الغنم، أفضل من الإبل والبقر، يعني لو فرضنا أن شخصاً عنده جمل وعنده كبش، يضحي بهذا أو يضحي بهذا؟ يضحي بالكبش عند مالك، والجمهور يقولون: الجمل أفضل، هذا لمن أراد أن يضحي بالبدنة كاملة، لكن من أراد أن يضحي بالبدنة عن سبعة، سبع بدنة أو كبش؟ الكبش أفضل.(101/25)
قال -رحمه الله-: "وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أقوم على بدنه" البدن جمع بدنة "أن أقوم على بدنه" يعني بعد أن ذبح النبي -عليه الصلاة والسلام- منها ثلاثاً وستين، ووكل البقية إلى علي -رضي الله عنه- ليقوم بذبحها، وكل إليه أن يقوم بتدبير لحمها "أن أقوم على بدنه، وأن أقسم لحومها وجلودها" لأنها تبع لها "وجلالها" يعني ما تغطى به مما يقيها من حر الشمس ومن شدة البرد يسمى جلال "وجلالها على المساكين" لأنها تبعاً لها "ولا أعطي في جزارتها شيئاً منها" يعني جئت بالجزار تقول: كم تذبح هذه الأضحية؟ قال: بخمسين، تقول: أعطيك الجلد، أو أعطيك منها يد أو رجل بدل الذبح هذا لا يجوز، لكن إذا قال: بخمسين، ودفعت له الخمسين، اتفقت معه ثم أعطيته منها باعتبارها هدية إن كان غنياً، أو صدقة إن كان فقيراً، هذا لا شيء فيه، لكن لا يجوز لك أن تقي مالك من أجرته بشيء منها؛ لأن هذا رجوع، بشيء مما أخرجته لله -جل وعلا-.
قال: "أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أقوم على بدنه، وأن أقسم لحومها وجلودها وجلالها على المساكين" لحومها وجلودها وجلالها، جاء الأمر بالأكل {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [(36) سورة الحج] الأكل والإطعام، والإطعام يكون على وجه التصدق على المساكين، ويكون أيضاً على جهة الإهداء، ولذا يستحب أهل العلم أن تقسم أثلاثاً، فيأكل ثلث، ويتصدق بثلث، ويهدي ثلثاً.
"ولا أعطي في جزارتها شيئاً منها" متفق عليه" لأن إعطاء الجزار أجرته شيئاً منها رجوع في هذا الشيء مما أخرجه لله -جل وعلا-، فلا يجوز بيع شيء منها، والأجرة في حكم البيع؛ لأنها مستحقة في ذمته.
عند أبي حنيفة يقول: يجوز أن تبدل هذا الجلد أو هذا الجلال أو الشعر شعر الأضحية يجوز أن تبدله بغير الدراهم والدنانير؛ لأنه يجوز لك أن تنتفع بالجلد فتنتفع ببدله، لا يجوز أن تبيعه بالإجماع، لكن يجوز أن تنتفع به، ومن وجوه الانتفاع أن تبدله بشيء تنتفع به.
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .(101/26)
يعني إبدال منفعة بمنفعة، يعني تنتفع بهذا كما تنتفع بالجلد تنتفع ببدله، يعني أنت محتاج لكتاب بلوغ المرام ما عندك دراهم تشتري بلوغ المرام عندك أضحية، تقول: أعطني ... أعطك الجلد هذا، يجوز عند أبي حنيفة والجمهور على أنه لا يجوز؛ لأن هذا مبادلة حكمها حكم البيع.
"وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: نحرنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة" رواه مسلم" يعني عن سبع من الغنم، الغنم الكبش يجزئ عن واحد أصالة، ويدخل معه أهل بيته تبعاً، لكن لا يجزئ الكبش عن زيد وعمرو أضحية عن اثنين كل منهما على سبيل الأصالة، لكن يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، يجزئ الكبش عنه وعن أهل بيته، لكن لا يجزئ عنه وعن أخيه مثلاً، أو عن جاره، فقد يدخل فيه عشرة ولا يجوز أن يدخل فيه اثنان، يعني تبعاً يجوز، لكن استقلالاً ما يجوز، لا يجوز أن تقول: هذه أضحية عن أبي وعن أمي فتقول: ضحيت عن أبي وضحيت عن أمي على جهة الاستقلال، لكن يجوز أن تقول: هذه الأضحية عني وعن والدي مثلاً تبعاً، لا إشكال في ذلك.
البدنة التي هي من الإبل ذكراً كان أو أنثى، والبقرة ذكراً كان أو أنثى يجزئ عن سبعة، فهي بمثابة سبع من الغنم، يشترك فيها سبعة على سبيل الأصالة، أو على جهة الأصالة، يشترك سبعة لا صلة لبعضهم ببعض فتجزئ عنهم، كل واحد يأخذ سبع، ويجوز أن يشترك فيها مع من لم يرد الأضحية، يريد لحم، ستة يشتركون في جمل فيأتي شخص يريد أن يضحي فيشترك معهم في هذا السبع قبل الذبح ثم بعد الذبح ذبحت البدنة وقسمت أسباع في ستة من الأشخاص اشتركوا فيها، قالوا: والله ما عندنا إلا قيمة ستة أسباع يبقى سبع، فميزت الأسباع، فجاء شخص قال: أنا أريد أن أضحي، أريد هذا السبع، يصح وإلا ما يصح؟
طالب:. . . . . . . . .
بعد الذبح، ما يصح هذا لحم هذا، لكن قبل الذبح يشترك فيها سبعة سواءً كلهم مريدون للأضحية أو للتضحية أو يريدون اللحم، وبعضهم يريد التضحية.(101/27)
هذا السبع يجوز أن يدخل فيه تبعاً لهذا الأصيل الذي اشترك فيه أو لا يجوز؟ البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة نص، لكن إذا كان كل واحد من السبعة هو وأهل بيته، يجوز وإلا ما يجوز؟ بعضهم يمنع، يقول: محدد شرعاً البقرة عن سبعة، والبدنة عن سبعة، فلا يجوز أن تدخل فيها لا أهلك ولا والديك، وهذا سببه عدم التفريق بين الاشتراك بالأصالة وبين الإهداء، إهداء الثواب، يعني أنت ضحيت عن نفسك هذا الأصل، وأهديت بعض الثواب لأهلك تبعاً لك، ففرق بين هذا وهذا.
وعلى كل حال إذا كانت البدنة عن سبعة فهي تقوم مقام الغنم من كل وجه، فما يثبت في الواحد من الغنم يثبت في سبع البدنة، لكن لا يشترك في السبع أكثر من مضحي على سبيل الأصالة، كما أنه لا يشترك في الكبش أكثر من واحد على سبيل الأصالة.
جاء في صحيح مسلم من حديث أم المؤمنين أم سلمة أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال: ((إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً)) والحديث صريح في النهي، والنهي الأصل فيه التحريم، وإن حمله الأكثر على الكراهة، لكنه واضح وصريح في التحريم، وأنه لا يجوز لمن أراد أن يضحي، لكن في أول العشر ما عنده نية يضحي، في أثنائها أراد أن يضحي قبل هذه الإرادة يجوز له، فمن إرادته لا يجوز له أن يمس من شعره ولا بشره شيئاً.
إذا أراد أن يضحي واعتمر، وأراد أن يحلق أو يقصر، هذا نسك واجب لا يعارض به مثل هذا النهي، فيأخذ من شعره باعتبار أنه مأمور به، ولا يقال: اجتمع حاظر ومبيح، أو آمر والحظر مقدم على كذا، هذا مخصوص بالنسك.
من يُضحى عنه هل يمسك أو لا يمسك؟ يعني يريد أن يضحي عنه وعن أهل بيته، هل الجميع يمسكون عن مس الشعر والبشر أو يمسك هو والبقية ما لهم علاقة؟
طالب:. . . . . . . . .
الفقهاء يقولون: من أراد أن يضحي أو يضحى عنه، لكن لو ...
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .(101/28)
لا، لا لا، حتى أهل البيت؛ لأنهم يضحى عنهم، ووجه هذا أن من يضحى عنه مضح في الحقيقة، من يضحى عنه مضح، يعني الولد ما يقول: ضحينا؟ المرأة ما تقول: ضحينا؟ إذا حج به أبوه ما يقول: حججت؟ فإذا ضحى عنه أبوه فقد ضحى، فيدخل في الحديث، وهذا كلام أهل العلم، ومنهم من يقول: إن الخطاب متجه لمن بذل قيمة الأضحية، وأراد أن يضحي عن نفسه أصالة، وغيره يدخل تبعاً فلا يدخل في الحكم، والنظر جاري في هذه المسألة، وكلام الفقهاء له وجه؛ لأن من ضُحي عنه فقد ضحى، كما أن من حج به فقد حج، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(101/29)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: بلوغ المرام - كتاب الأطعمة (4)
باب العقيقة والأيمان والنذور
الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير
سم.
أحسن الله إليك.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- في كتابه: (بلوغ المرام):
باب: العقيقة
عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عق عن الحسن والحسين كبشا كبشاً. رواه أبو داود، وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وعبد الحق، لكن رجح أبو حاتم إرساله.
وأخرج ابن حبان من حديث أنس -رضي الله تعالى عنه- نحوه.
وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرهم أن يعق عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة". رواه الترمذي وصححه.
وأخرج أحمد والأربعة عن أم كرز الكعبية -رضي الله تعالى عنها- نحوه.
وعن سمرة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((كل غلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق، ويسمى)) رواه الخمسة، وصححه الترمذي.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
باب: العقيقة
والعقيقة كالأضحية فرع من فروع كتاب الأطعمة؛ لأنها مما يطعم، والعقيقة هي الذبيحة التي تذبح شكراً لله -جل وعلا- على ما منحه من مولود، ذكراً كان أو أنثى.
مأخوذة من العق، وهو الشق والقطع؛ لأنها يقطع رأسها بالذبح، ومنه قيل: العقوق، ضد الصلة، الذي فيه قطع ما أمر الله به أن يوصل.(102/1)
ومنهم من يقول: إن أصل التسمية للشعر الذي يوجد على رأس الطفل حينما يولد، فيقطع هذا الشعر، يعني يحلق ويعق، ولكن كون العقيقة تسمى لكونها تقطع؛ لأن التسمية لها، وليست للطفل، أو لما ينبت على شعره، الأصل أن العقيقة هي الذبيحة، وسميت بذلك لأنها تعق، يعني يقطع رأسها، العق هو القطع، وهذا أوضح، وإن رجح بعض العلماء أنها اسم للشعر الذي ينبت على رأس المولود، وإذا نظرنا إلى أصل التسمية لا مانع أن يسمى الشعر عقيقة، ويسمى الذبيحة عقيقة، لكن كون الذبيحة تسمى باسم الشعر، يعني ينتقل الاسم من الشعر إلى الذبيحة لا داعي له، يعني سميت بالنقل؛ لأنه يعق يعني يحلق رأسه، ويذبح عنه، فالتسمية للشعر لا للذبيحة، لكن مقتضى التسمية أن العقيقة هي الذبيحة، والتعريف الاصطلاحي عند أهل العلم للعقيقة أنها هي الذبيحة، وينطبق عليها التعريف اللغوي، فلا داعي للنقل لنقل التسمية من شيء إلى آخر، والتسمية كما تنطبق على الأصل المنقول منه تنطبق على الفرع المنقول إليه على حد سواءً، يعني ليس الشعر بأولى، أولى بالتسمية من الذبيحة؛ لوجود العق فيهما وهو القطع، فالشعر يقطع، والذبيحة يقطع رأسها، فهذا النقل لا داعي له، وإن جعل الزمخشري الشعر هو الأصل نقلت التسمية إلى الذبيحة، وأنا أقول: لا داعي لهذا النقل، فكل قطع عق، قطع الصلة التي .. ، صلة الرحم التي أمر الله بها أن توصل هذا عقوق، والعقوق أصل التسمية مكروهة، لما سئل عن العقيقة قال: ((أكره العقوق)) يعني كراهية للتسمية لأنها قطع، تشابه العقوق من هذه الحيثية.(102/2)
يشيع على ألسنة العامة، أو شاع على ألسنة العامة تسمية العقيقة تميمة، يسمونها تميمة، ويتداولون هذا التسمية من غير نكير، ويسأل أهل العلم عن حكم التميمة، ومتى تذبح التميمة؟ والذي لا يعرف هذه التسمية يلتبس عليه ما يذبح عن المولود بما يعلق على من يتعلق ما يدفع عنه أو يرفع عنه على حسب ما يدعي، ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له)) فلا بد من الاستفصال، ولا بد من التفصيل عند الجواب؛ لأن بعض الناس يسمع إذا قيل: ما حكم التميمة؟ قال: سنة مؤكدة، ثم ينصرف ذهن بعض السامعين إلى ما يعلقه بعض الناس رفعاً للمرض، أو دفعاً له، هذا يوقع في لبس، وكم من جواب أوقع كذلك، يسأل شخص يقول: ما حكم الزعابة؟ إيش الزعابة هذه؟ معروف في بلادنا أن الزعابة استخراج الماء من البئر، يزعب، يعني يخرج الماء، قال الشيخ: ما فيها إشكال، استخراج الماء ما في .. ، من دون تفصيل، والزعابة في عرف السائل ذبيحة تذبح للجن عند نزول البيت الجديد، أو الانتقال من مكان إلى آخر، أو ما أشبه ذلك، فهذه الألفاظ توقع في لبس، وليس بلبس من مكروه إلى مكروه، أو مكروه إلى مستحب، أو من .. ؟ لا، يعني هذه الحقائق العرفية التي يتداولها الناس لا بد من معرفتها، قد تكون مستعملة في مكان، أو في زمان لمعنىً من المعاني، يختلف اختلافاً جذرياً عنه في مكان آخر، أو في زمان آخر.(102/3)
وهذه الألفاظ الاصطلاحية عرفاً بين الناس، يحتاج إليها العالم حينما يستفتى، ويحتاج إليها القاضي حينما ينظر في الوصايا وغيرها؛ لأنها قد تكتب الوصايا بأساليب عامية دارجة، ثم تنقضي هذه الألفاظ، ويأتي جيل آخر ما يعرفونها، فالعناية بها أمر مهم، وألف من قبل بعض العلماء كلمات انقضت، هذه فائدتها، والذي ينظر في الكتاب، وهو كتاب كبير في مجلدين يقول: هذا عبث، هذا مجرد سواليف، الذي أدركها يتذكر بها ما مضى، لكن الفائدة العظمى منها أن تعرف هذه الألفاظ كمرجع، كمعجم لهذه الألفاظ التي انقضت، يفسر بها بعض الألفاظ المستغلقة في الوصايا، تجي وصية من مائة سنة مثلاً، فيها ألفاظ كأنها طلاسم عند الجيل الذي نعيشه، فهذه فائدتها، وإن كان الاسترسال فيها وذكروا أشياء ما لها فائدة ولا لها قيمة، يمكن اختصار الكتاب في جزء صغير، يقتصر على ما يحتاج إليه.
طالب: ويش اسم الكتاب رعاك الله؟
(كلمات انقضت).
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً" يعني كون هذه الكلمات الدارجة العامية تأتي على لسان سائل ليس من أهل العلم، يعني مقبولة ومغتفرة؛ لأن هذا مبلغه من العلم، لكن الإشكال حينما تأتي هذه الألفاظ الدارجة في جواب عالم، هنا يقع الإشكال، إلا إذا كان هذا العالم يخاطب شخص بعينه لا يفهم الاصطلاحات الشرعية، يفهم الاصطلاحات الدارجة، أما أن يؤتى بالجواب في وسيلة يسمعها العالم كله من مشرقه إلى مغربه، ثم أحياناً تأتي ألفاظ مشكلة، وألفاظ تعكس المعنى تماماً من بلد إلى آخر، فطالب العلم إذا استفتي عليه أن يلتزم اللفظ العربي والمعنى العربي إذا لم يفهم السائل، وكان بمفرده بينه، ولا مانع أن يقول: إن هذا الكلام الذي .. ، هذا اللفظ الذي نتحدث عنه قد يسمى في بعض الأوقات أو في بعض الأماكن كذا، لكن اسمه الشرعي كذا.(102/4)
يقول: "عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً" هذا الحديث مخرج في السنن عند أبي داود والنسائي، وهو في صحيح ابن خزيمة، وعند غيرهم، لكن المرجح أنه مرسل، ومعارض بما هو أقوى منه، وهو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- عق عن الحسن والحسين كبشين كبشين، وسيأتي أنه يعق عن الغلام شاتان مكافئتان، فالذكر يعق عنه بشاتين، والأنثى بواحدة، وهذا موضع من المواضع الخمسة التي فيها الأنثى على النصف من الذكر، من المواضع الخمسة التي فيها الأنثى على النصف من الذكر {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} [(36) سورة آل عمران] مهما قالوا، ومهما طنطنوا، ومهما أجلبوا على ما يريدونه {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} [(36) سورة آل عمران] شاءوا أم أبوا، هذا كلام الله -جل وعلا-، الأنثى على النصف من الرجل في خمسة مواضع، منها: العقيقة، ومنها الدية، ومنها الإرث، ومنها الشهادة، ومنها العتق، كم صارت؟
طالب: خمسة.
خمسة، قد يقول قائل: إيش معنى العتق؟ يعني جاء في الحديث أن ((من أعتق غلاماً كان فكاكه من النار، ومن أعتق جاريتين كانتا فكاكه من النار)) فدل على أن عتق الجارية يعادل نصف عتق الغلام، وأما الإرث فواضح، والدية على النصف واضح، والعقيقة هنا عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة، فالمرجح في حديث ابن عباس في هذا السياق الإرسال، مع أنه جاء عنه أن النبي -عليه الصلاة والسلام- عق عن الحسن والحسين كبشين كبشين، وجاء أيضاً من حديث جابر بن عبد الله أن النبي -عليه الصلاة والسلام- عق عن الحسن والحسين كبشين كبشين، وختنهما.
قال: "وأخرج ابن حبان من حديث أنس نحوه" نحو حديث ابن عباس.(102/5)
والعقيقة كما سيأتي في الحديث الذي يلي هذا حديث "عائشة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمرهم أن يعق عن الغلام شاتان مكافئتان" أمرهم، الأمر الأصل فيه الوجوب، لكن لم يقل بوجوب العقيقة إلا الظاهرية، وجماهير أهل العلم على أنها سنة، على أن العقيقة سنة، وخرج الإمام مالك حديثاً مرفوعاً بلفظ: ((من ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل)) فعامة أهل العلم على أن العقيقة سنة، لكنها سنة مؤكدة، سيأتي في حديث سمرة: ((كل غلام مرتهن بعقيقته)).
قال: "وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرهم أن يعق عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة" رواه الترمذي وصححه" شاتان، يعني من هذا الجنس من الغنم، ولم يقصد بذلك تفضيل الأنثى؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- عق عن الحسن والحسين من الذكور كبشين كبشين، وكونه هنا أمر أن يعق عن الغلام شاتان، المقصود العدد لا الجنس "مكافئتان" يعني متشابهتان متقاربتان في السن والسمن واللون، لا يكون بينهما تباين في شيء ظاهر، نعم لا يوجد مطابقة تامة، لكن تكون متقاربتان، ولعل هذا من باب التفاؤل، أن تكون أخلاقه متقاربة متوازنة، هذا مما ذكره أهل العلم في هذا.(102/6)
"وعن الجارية شاة" يعني عن الذكر شاتان، وعن الأنثى شاة واحدة، والسبب في ذلك أن النعمة في الموهوب إذا كان ذكراً أعظم منها إذا كان الموهوب أنثى، أعظم منها، ولذلك يكون الشكر على قدر النعمة، فهبة الله -جل وعلا- لعبده ذكراً أكبر وأعظم من هبته أنثى، ((من ابتلي بشيء من هذه البنات)) الرسول -عليه الصلاة والسلام- سماه ابتلاء، وإن كانت البنت لا كما يقوله الجاهلي: "والله ما هي بنعم الولد" يقول إيش؟ نصرها بكاء، وبرها سرقة، تسرق من زوجها، لكن الواقع خلاف ذلك، والشرع أيضاً يقرر خلاف ذلك، وكم من بنت تعدل العدد الكبير من الأبناء، والشواهد على هذا ما يحتاج إلى أن تذكر، وكم من أب، وكم من أم، لا سيما في عصرنا وقبله يتمنى أنه لم يرزق ولد، وإنما رزق بنت، وهي أقرب قلب الوالدين، وهي أقرب إلى الحنو عليهما، والولد إذا تزوج ورزق الأولاد واستقل بنفسه قد ينسى والديه، لكن البنت ما تنسى، مهما انشغلت بزوجها وبيتها، يعني ليس الكلام على إطلاقه حينما يقال: إن الذكر يعني ... ؛ لأنه يظن أن ما دام من ابتلي بشيء من هذه البنات نعم هي حمل وعبئ على أبويها؛ لأنها لا تساعدهم في جلب نفقة، ولا تساعدهم على كسب أموال، لكنها مع ذلك صلتها بأبويها قد تكون أعظم من صلة الولد بأبويه؛ لأن الولد له ما يشغله من أمور الحياة، والبنت وإن اشتغلت بزوجها وولدها وبيتها فإنها في الغالب لا تنسى والديها، لما جبلت عليه من رقة وعطف، وكون الذكر أفضل من الأنثى المقصود به الجنس على الجنس، تفضيل جنس على جنس، وأما بالنسبة للأفراد فكم من امرأة تعدل الفئام من الرجال.
أبو حيان الأندلسي صاحب التفسير المعروف له بنت اسمها: نضار، وله ولد اسمه حيان، والبنت هذه أفضل بكثير من الولد، ماتت هذه البنت فألف كتاباً يتسلى به عنها، ولم يستطع؛ لأنها أديبة أريبة عاقلة فاهمة ذكية عندها شيء من التحصيل بخلاف أخيها، والآن إذا استعرضنا النتائج والتحصيل بين الجنسين وجدنا أنه في جنس النساء أظهر كثير جداً؛ لأنهن أفرغ بال من الأولاد، هذا بالنسبة لعموم الطلاب، أما بالنسبة لخصوص طلاب العلم، فطلاب العلم يتيسر لهم من وسائل التحصيل أكثر مما يتيسر للجنس الثاني.(102/7)
المقصود أن في كل خير، أنهم كلهم فيهم خير، والعبرة بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [(13) سورة الحجرات] وتفضيل الجنس لا يعني تفضيل الأفراد، فبإمكان المرأة الصالحة أن تفوق كثير من الرجال بعلمها وعملها وتقواها ونفعها، تكون أفضل من الأولاد، والإنسان بسعيه {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [(39) سورة النجم].
يقول الخطابي: المراد بالتكافؤ في السن، فلا تكون إحداهما مسنة، والأخرى غير مسنة، بل يكونان مما يجزئ في الأضحية، ومنهم من يقول: متكافئتان، يعني متقابلتان، معناه أن يذبح إحداهما مقابلة للأخرى، لكن هذا الكلم ليس بصحيح؛ لأننا نهينا عن ذلك أن تذبح وأختها تنظر إليها.
"وأخرج أحمد والأربعة عن أم كرز الكعبية نحوه" نحو حديث عائشة، سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن العقيقة، فقال: ((عن الغلام شاتان، وعن الأنثى واحدة)) عند الترمذي، ((ولا يضركم أذكراناً كن أم إناثاً)) لكن المقرر في العقيقة أن الذكر أفضل من الأنثى؛ لفعله -عليه الصلاة والسلام-، وكذلك حينما عق عن الحسن والحسين بكبشين كبشين.
بعد هذا حديث "سمرة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق، ويسمى)) رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي".
((كل غلام)) ومثله الجارية، يعني كل مولود مرتهن، اختلف أهل العلم في معنى الحديث، والإمام أحمد يرى أنه موقوف في شفاعته لأبويه على العقيقة، فإن عق عنه أبوه شفع إن مات صغيراً، وإن لم يعق عنه لم يشفع، وبعضهم يقول: إنه مرتهن في تسليط الشيطان عليه، فإن عق عنه لم يسلط عليه، وإن لم يعق عنه سلط عليه، إلى غير ذلك من الأقوال، ولعل الأظهر ما قاله الإمام أحمد -رحمه الله-، مع أنه مروي عمن قبل الإمام أحمد، عطاء الخراساني، ومحمد بن مطرف، متقدمان عن الإمام أحمد، فيما نقله الحليمي في المنهاج في شعب الإيمان، لكن الذي شهر هذا القول هو الإمام أحمد، فنسب إليه.(102/8)
((كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه)) وقت الذبح في اليوم السابع من الولادة، بعضهم يرى أنه وقت محدد لا يجوز قبله ولا يجوز بعده كوقت الصلاة وغيرها، إذا انتهى اليوم السابع ما تصح العقيقة، ولكن هذا هو الأولى، فإن فات السابع ففي الرابع عشر، فإن فات الرابع عشر ففي الحادي والعشرين، وقد جاء ما يدل على ذلك.
((ويحلق)) يحلق شعره، ويتصدق بوزنه، وهل يحلق شعر الأنثى كالذكر أو لا؟ منهم من يقول: المراد بالغلام هنا المولود، ويدخل فيه الأنثى، بدليل أن الارتهان للنوعين وللجنسين، فمثله الحلق، ومنهم من يقول: إن الحلق من خواص الذكور، فلا يحلق رأس الجارية.
((ويسمى)) ينتقى له الاسم المناسب الذي لا يزدرى به، ولا يستقذر، ولا يعير به، إذا تصفحنا كتب التراجم وجدنا بعض الأسماء في القديم والحديث أسماء قبيحة، أسماء ببعض الحيوانات، وأسماء ببعض الحشرات، لكن إذا كان الاسم محرماً يجب تغييره، وقد غير النبي -عليه الصلاة والسلام- أسماء في وقته، أما إذا كان قبيحاً لكنه ليس بمحرم ينبغي تغييره، ومن الأصل على الأب أن ينتقي لولده ذكراً كان أو أنثى اسماً إذا نودي به لا يستبشع ولا يستقذر، والعرب في القديم والحديث -لا سيما البادية- لا يهتمون بهذه الأسماء، وكأنهم يرون أن التسمية بهذه الأسماء القبيحة تخيف العدو، إذا دعي يا فلان، سموا كلب، وسموا حمار، وسموا جعل، وجعيل، سموا هذه الأسماء، لكن أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن.
يجوز التسمية بأسماء الأنبياء، وأسماء الملائكة، يعني ما لم يدل ذلك على شيء من التزكية.
هذا الحديث جاء في بعض ألفاظه بدل "يسمى" "يدمى" يعني يؤخذ شيء من دم العقيقة ويوضع على رأس المولود، وهذا تصحيف، هذا تصحيف صوابه "يسمى" قد أمر بإماطة الأذى عنه ((أميطوا عنه الأذى)) فكيف يلوث بهذا الدم النجس؟ والحديث على كل حال من رواية الحسن عن سمرة، وقد اختلف العلماء في سماع الحسن من سمرة، منهم من يرى أنه لم يسمع منه مطلقاً، ومنهم من يرى أنه سمع منه مطلقاً، ومنهم من يقول: إنه سمع منه حديث العقيقة هذا.(102/9)
وفي البخاري عن حبيب بن الشهيد قال لي محمد بن سيرين: سل الحسن ممن سمعت حديث العقيقة؟ فقال: من سمرة، فدل على أنه سمعه منه، وإن لم يسمع منه غيره، وبعضهم يثبت السماع مطلقاً لسماعه هذا الحديث، والحسن البصري إمام، رأس من رؤوس التابعين، إمام علم وعمل، لكنه موصوف بالتدليس، فهذا الحديث الذي صرح بسماعه من سمرة هذا لا يشك في سماعه منه، لكن بقية الأحاديث لا بد أن يصرح -رحمه الله-، التدليس وجد في الكبار، وجد عند بعض الأئمة لأمور ومقاصد ارتكبوا من أجله هذا التدليس، وليس بشيء إذا قيس بإمامتهم وعلمهم وعملهم، وإلا فالأصل أن التدليس قادح، لكن يغتفر في جانب إمامتهم؛ لأن من المدلسين من اغتفر الأئمة تدليسه، إما لقلة تدليسه، أو لإمامته، فلا يذم الحسن أو سفيان أو غيرهما بهذه الصفة لما يتحلون به من إمامة في العلم والعمل، ومقاصدهم -مقاصد المدلسين- مختلفة، منهم من يكون هدفه التغطية والتلبيس على السامع حينما يسقط الراوي الضعيف الذي حدثه ويرتقي لمن فوقه بصيغة موهمة، والأمور بمقاصدها، أحياناً يسقط الضعيف لثبوت الخبر عند المدلس، فلو ذكر هذا الضعيف صار سبباً في صد الناس عنه، فيسقط هذا الضعيف؛ لأن الخبر ثابت عنده، فلو ذكرت الواسطة هذا الضعيف تركه الناس، وأحياناً يكون بالعكس الخبر ضعيف، ويريد أن يمشيه على السامع بإسقاط هذا الضعيف، وهو يختلف باختلاف المقاصد، يعني العالم أو طالب العلم حينما يسأل مثلاً عن كتاب، إذا بين كل ما فيه زهد فيه طلاب العلم، فهل يلزمه أن يبين كل ما في الكتاب من عيوب وأخطاء؟ ما يلزمه، لا سيما إذا كان السامع لا يستوعب، ولذا لا يحسن إفراد أخطاء الكتب التي نفعها عظيم في الأمة، يعني ليس من المستحسن، ولا من المستساغ أن تفرد أخطاء ابن حجر في فتح الباري في مجلد مثلاً يزهد الناس فيه، وإذا أشكل عليهم شيء في الصحيح وقيل: اذهب إلى فتح الباري، قال: إيش فتح الباري كله أخطاء؟ هذا نفعه عظيم، وما فيه من مخالفات أشياء مغتفرة في جانب هذا النفع العظيم، ولا يمنع أن يعلق على هذه الأخطاء في ثنايا الكتاب، ويبين الحق فيها، لكن تبرز هذه الأخطاء من أجل أن يزهد فيه طلاب العلم هذا ليس بمنهج، هذا إذا كان النفع(102/10)
في الكتاب أعظم بكثير من الضرر، والضرر مغتفر، بينما إذا كان العكس، إذا كان الضرر هو الظاهر فلا مانع أن تبرز الأخطاء، ويحذر منه طلاب العلم؛ لأن الأمة لا تفقد شيء ولا تخسر شيء إذا زهد فيه طلاب العلم، يعني لا مانع أن تفرد أخطاء الرازي في تفسيره؛ لأن ضرره كبير على طلاب العلم، أو الزمخشري في تفسيره، فالأمة في غنية عن هذين التفسيرين، وإن كان فيهما فوائد، لكن لا يليق بطالب العلم المتوسط أن يقرأ في هذين الكتابين، وقل مثل هذا في كثير من الكتب، بعض الكتب الأمة لا تخسر شيء إذا فُقد، وبعضها خسارة فادحة إذا انصرف عنه طلاب العلم، ومن هذا النوع بعض العلماء تجده لحسن مقصد يحذف الراوي الضعيف من أجل أن يعمل الناس بهذا الحديث الذي ثبت عنده، لكن لو مشّى حديث غير ثابت بهذه الطريقة صار غش وتلبيس على الناس، وإيهام لما لا يصح بالصحة.
على كل حال هذا الحديث من رواية الحسن عن سمرة، وقد ثبت سماعه له، وصرح فيه بسماعه منه.
مما يذكر في هذا المجال، وأشار إليه الشارح، ويسأل عنه كثيراً ثقب أذن الصبية من أجل التحلي، جزم بعضهم بتحريمه؛ لأنه اعتداء عليها، وإضرار بها، وأذى وألم، ولا يجوز مثل هذا إلا فيما يضطر إليه، الحجامة وإلا فصد وإلا عملية جراحية لضرورة هذا الطفل إليها، أما مجرد التحلي فهو كمال وتحسين، لا يسلك فيه مثل هذا الأذى، وهذا الضرر، وصرح بهذا الغزالي في الإحياء، لكن عامة أهل العلم على جوازه، وأنه موجود ومتوارث قبل النبوة من عهد الجاهلية، واستمر الأمر على ذلك في صدر الإسلام، وما يلي ذلك إلى وقتنا هذا من غير نكير، وضررٌ مغتفر، ضرر يسير فهو مغتفر في جانب التحلية التي هي مطلوبة بالنسبة للأنثى {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [(18) سورة الزخرف] هذه من خواص النساء، فيغتفر مثل هذا الضرر، وأمره سهل.(102/11)
يذكرون أيضاً الألقاب التي شاعت بعد القرون المفضلة بين أهل العلم التي تدل على التزكية، تقي الدين، ولي الدين، نصير الدين، غيرها من الأسماء من الألقاب، وهي تدل على التزكية، وكون الإنسان يسمي نفسه، أو يلقب نفسه بشيء من هذه الألقاب لا شك أنه يزكي، وقد نهينا عن تزكية النفس {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [(32) سورة النجم] لكن كونه يشتهر بين الناس بالعلم والفضل، ويلقب بلقب مناسب لما اشتهر به من قبل غيره ويتداوله الناس، هذا وجد في خيار الأمة، لكن صدر الأمة، صدر هذه الأمة، وعهد السلف ما يوجد شيء من هذه الألقاب، قال أبو بكر، قال عمر، قال أحمد، قال الشافعي، قال أبو حنيفة، قال مالك، ثم بعد ذلك توسع الناس، فتجد في كتب التراجم بعضهم يستوعب أكثر من سطر في ذكر الألقاب والثناء على بعض أهل العلم لمن يستحق، ثم استدرج الناس فذكروا ألقاباً نقيض ما يتصف به الإنسان، قالوا: نصير الدين الطوسي، كما يقول ابن القيم: نصير الشرك والضلال، كيف يقول نصير الدين؟! وغيره كثير، تدعى لهم هذه الألقاب التي لا يستحقونها، وهي زور وبهتان، ثم جاءت الألقاب التي اعتمد بعض الناس عليها، واكتفوا بها، اغتراراً بهذه الشهادات التي سعوا إلى الحصول عليها، ولقبوا بها، وصار بعضهم لا يرضى أن يسمى باسمه المجرد الذي رضيه له أبوه، وصار الناس يسمعون المدح والثناء في الوجه لمن يستحق ومن لا يستحق، ولا تجد من ينكر، كل هذا خلاف ما جاءت به السنة، وما درج عليه سلف هذه الأمة ...(102/12)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: بلوغ المرام - كتاب الأيمان والنذور (1)
الشيخ: عبد الكريم الخضير
سم.
وقال الحافظ -رحمه الله تعالى- أيضاً:
كتاب: الأيمان والنذور
عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب، وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)) متفق عليه.
وفي رواية لأبي داود والنسائي عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-: ((لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم، ولا تحلفوا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون)).
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يمينك على ما يصدقك به صاحبك)) وفي رواية: ((اليمين على نية المستحلف)) أخرجهما مسلم.
وعن عبد الرحمن بن سمرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير)) متفق عليه، وفي لفظ للبخاري: ((فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك)).
وفي رواية لأبي داود: ((وكفر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير)) وإسنادهما صحيح.
وعن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه)) رواه الخمسة، وصححه ابن حبان.
وعن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: كانت يمين النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا، ومقلب القلوب)) رواه البخاري.
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عنهما- قال: جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ فذكر الحديث، وفيه: قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: ((الذي يقتطع مال امرئ مسلم)) ...
فذكر الحديث؟
سم رعاك الله.
فذكر الحديث
فذكر الحديث، وفيه: قلت: وما اليمين الغموس؟
لا، وفيه اليمين الغموس.
أحسن الله إليك.
قلت: وما اليمين الغموس؟
فذكر الحديث وفيه.
اليمين الغموس.
فذكر الحديث وفيه اليمين الغموس، قال: ((الذي يقتطع مال امرئ مسلم)) ...(103/1)
قلت: وما اليمين الغموس؟ بعدها، قلت: وما اليمين الغموس؟ نعم.
أحسن الله إليك.
فذكر الحديث وفيه اليمين الغموس، قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: ((الذي يقتطع مال امرئ مسلم هو فيها كاذب)) أخرجه البخاري.
وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- في قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [(89) سورة المائدة] قالت: هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله" أخرجه البخاري، وأورده أبو داود مرفوعاً.
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن لله تسعاً وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة)) متفق عليه، وساق الترمذي وابن حبان الأسماء، والتحقيق أن سردها إدراج من بعض الرواة.
وعن أسامة بن زيد -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من صنع إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيراً، فقد أبلغ في الثناء)) أخرجه الترمذي، وصححه ابن حبان.
يكفي، يكفي.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
كتاب: الأيمان والنذور
الأيمان: جمع يمين، بفتح الهمزة بخلاف الإيمان بكسرها، الأيمان جمع يمين، والإيمان مصدر آمن يؤمن إيماناً، واليمين هي الحلف، والقسم، أصلها أنهم إذا تحالفوا قبض كل واحد على يمين صاحبه.
والنذور: جمع نذر، وأصله إيجاب المكلف على نفسه ما لم يجب في أصل الشرع، إيجاب المكلف على نفسه ما لم يجب عليه بأصل الشرع.(103/2)
يقول -رحمه الله تعالى-: "عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه أدرك عمر بن الخطاب" عن ابن عمر عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- "أنه أدرك عمر بن الخطاب" يعني ابن عمر ينقل عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه أدرك، فهو ينقل عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولا يلزم من ذلك حضوره القصة؛ لأنه لو قال: عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أدرك عمر بن الخطاب، قلنا: إنه حضر القصة، لو قال: عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أدرك عمر، قلنا: إن ابن عمر أدرك القصة وحضرها، لكن هو هنا ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "عن ابن عمر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه أدرك عمر بن الخطاب" فكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- حدثه بذلك؛ لأن اختلاف الصيغة بين (عن) و (أن) يختلف فيها كيفية التحمل، وذكرنا مراراً ما قاله ابن الصلاح نقلاً عن الإمام أحمد ويعقوب بن شيبة عن محمد بن الحنفية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر بعمار، والرواية الأخرى: عن محمد بن الحنفية عن عمار أن النبي -عليه الصلاة والسلام- مر به، قالوا: (عن) متصل، و (أن) منقطع، ونسبوا ذلك لاختلاف الصيغة، وأن (عن) محمول على الاتصال، و (أن) محمولة على الانقطاع.
سبب الاتصال والانقطاع هو السياق، وليس مرده الاختلاف في (عن) و (أن) ولذلك لما قرر ذلك ابن الصلاح قال الحافظ العراقي:
. . . . . . . . . ... كذا له ولم يصوب صوبه
يعني ما أدرك السبب في الحكم بالانقطاع والاتصال، لما قال: عن محمد بن الحنفية أن النبي -عليه الصلاة والسلام- مر بعمار، محمد بن الحنفية أدرك القصة وإلا ما أدرك؟ ما أدرك، تابعي محمد بن الحنفية، وحينما قال: عن محمد بن الحنفية عن عمار أن النبي -عليه الصلاة والسلام- مر به القصة متصلة؛ لأن محمد بن الحنفية وهو تابعي ينقل القصة عن صاحبها.
وهنا: "عن ابن عمر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه أدرك عمر بن الخطاب" ابن عمر ينقل عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه حصل كذا لعمر، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام- كذا، بسبب حلف عمر -رضي الله عنه-.(103/3)
"عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب" جمع راكب، مثل صحب جمع صاحب "في ركب، وعمر يحلف بأبيه" يعني على عادتهم في الجاهلية، وهذا قبل النهي "يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)) " ما قال: يا عمر لا تحلف بأبيك، هذه طريقته -عليه الصلاة والسلام- حينما يبلغه منكر، وكثيراً ما يقول: ((ما بال أقوام؟ )) وهو يعرف القائل، لكن ما يلزم في الخطبة أن يقول: أنت يا فلان قلت كذا، وهذا حرام، لكن أحياناً قد يحتاج إلى التصريح، شخص مرتكب لمنكر، وضرره متعد، يجب التحذير منه، قال الخطيب: ما بال أقوام؟ ما بال أقوام؟ في خطبة، خطبتين، ولا انتهى، مثل هذا يكشف ويفضح من أجل أن يرتدع، يعني في أول الأمر يقال: ما بال أقوام؟ مرة، مرتين، لكن إذا استمر واسترسل فلم يستح من الله -جل وعلا-، ولا من خلقه هذا لا يستحيا منه، يُكشف، وجاء ما يدل على ذلك.
الرسول -عليه الصلاة والسلام- ناداهم قائلاً: ((ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)) لأن الحلف بغير الله شرك، كما جاء في الحديث: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) لأن هذا التعظيم باليمين لا يكون إلا لله -جل وعلا-، ولا يجوز أن يشرك معه غيره، هذا اليمين المقرون بحروف القسم، لو قال: لعمري مثلاً، قالوا: هذا مشعر بقسم وليس بقسم، ونص أهل العلم على جوازه، وهو لا يقسم بعمره، لكن إذا قال: وفلان، وأبيه، وأمه، والأمانة، والكعبة، ومحمد، وما أشبه ذلك يقسم بذلك هذا لا يجوز بحال، محرم.
قال: ((ألا إن الله ينهاكم)) ألا: أداة تنبيه، ((إن الله)) توكيد ((ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)) ولا غير الآباء، لا يجوز الحلف إلا بالله -جل وعلا-، باسم من أسمائه، أو صفة من صفاته.(103/4)
((فمن كان حالفاً)) من احتاج إلى يمين ليؤكد كلامه ((فليحلف بالله)) وثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه حلف في مواطن عديدة، ذكر ابن القيم في الهدي أنه حلف في نحو ثمانين موضعاً، حلف في نحو ثمانين موضعاً، الحلف على الأمور المهمة جرى منه -عليه الصلاة والسلام- من غير استحلاف، مع أننا نهينا أن نجعل الله -جل وعلا- عرضة لأيماننا، وأن يكون الحلف بالله من أيسر الأمور عندنا، لا، يكون على الأمور المهمة، فإذا احتيج إليه فلا مانع منه، وقد يندب إليه إذا أريد تأكيد حكم من الأحكام الشرعية، أو أمر من الأمور التي لا تتحقق إلا به.
((فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)) وعامة أهل العلم على تحريم الحلف بغير الله، وإن شذ بعضهم وقال: إن الله -جل وعلا- حلف وأقسم ببعض مخلوقاته، استدل بذلك على جواز ذلك، وأن النهي للكراهة، الله -جل وعلا- له أن يحلف بما شاء من خلقه، بخلاف المخلوق المكلف بفعل الأوامر، واجتناب النواهي.
((فليحلف بالله أو ليصمت)) لا يتكلم، لا يحلف.
قال: "وفي رواية لأبي داود والنسائي عن أبي هريرة مرفوعاً: ((لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم)) " فضلاً عن غيرهما، يعني أعظم الناس عند المرء أبوه وأمه، فإذا منع من الحلف بهما فلئن يمنع من الحلف بغيرهما من باب أولى، مع أنه مأمور أن يعظم والديه، ويحترم والديه، لكن لا يصل هذا الاحترام، وهذا التعظيم إلى أن يحلف بهما، أو يصرف لهما شيء من حقوق الرب {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [(15) سورة لقمان] لا يجوز طاعتهما في مثل هذا.
((ولا بالأنداد)) التي تجعل لله -جل وعلا- مشابهة ومساوية، ونظيرة لله -جل وعلا-، فلا يجوز الحلف باللات ولا بالعزى، ومن حلف بشيء من ذلك عليه أن يتشهد، ويحقق توحيده بلا إله إلا الله من جديد؛ لأنه أشرك.(103/5)
((ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله)) بهذا الاسم، وفي حكمه غيره من الأسماء، والصفات الثابتة لله -جل وعلا-، ((ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون)) لأن الكذب حرام، الكذب محرم، فكيف إذا أكد باليمين؟ يزيد التحريم، لكن الحلف بالله -كما قال ابن مسعود- كاذباً أيسر وأسهل من الحلف بغيره وإن كان صادقاً، كلاهما محرم، لكن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب، وحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، ((ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون)) ((من حلف منكم فقال في حلفه: واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله)) وهذا يؤيد ما جاء في الحديث أن ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)).
قد يقول قائل: جاء في صحيح مسلم قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((أفلح وأبيه إن صدق)) وهذا محمول عند أهل العلم أنه قبل النهي، أو كما قال السهيلي وغيره: إن الأصل: "وأبيه والله" فقصرت اللامان، فتصحفت الكلمة، وأبيه والله في الصورة قريبة، ويقرر بعض أهل العلم أنه رأى في نسخة عتيقة من صحيح مسلم أنها "أفلح والله إن صدق" مع أن القسم لا يوجد في البخاري، مع أن القصة موجودة في البخاري، والقسم لا يوجد في البخاري.
يقول -رحمه الله تعالى- بعد هذا: "وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يمينك على ما يصدقك به صاحبك)) وفي رواية: ((اليمين على نية المستحلف)) أخرجهما مسلم"(103/6)
إذا كان لشخص على آخر حق، دين، فطلب منه اليمين، صاحب الدين ليست عنده بينة، وإذا لم توجد البينة عند المدعي اتجه اليمين إلى المدعى عليه، المنكر، تلزمه اليمين، وإذا نكل المدعى عليه عن اليمين ردت اليمين إلى المدعي في قول جمع من أهل العلم، فالمدعى عليه إذا حلف قيل له: احلف، زيد يدعي عليك بأن في ذمتك له مبلغ من المال، قدره ألف، أو مائة ألف، أو أكثر أو أقل، قال: ما عندي له شيء، طيب يا زيد هات البينة؟ والله ما عندي بينة، أنا أقرضته ما عندنا أحد إلا الله -جل وعلا-، تحلف يا عمرو أنه ما أقرضك شيء؟ قال: يحلف، والله ما أقرضني شيء، ويقصد في المكان الفلاني، أو في الشهر الفلاني، ينفعه هذا التأويل وإلا ما ينفع؟ هذا لا ينفع؛ لأنه على نية المستحلف لا على نية الحالف، هذا إذا كان ظالماً، أما إذا كان مظلوماً، إذا كان مظلوماً له أن يتخلص باليمين مع التورية، وحينئذٍ ينتفع إذا كان مظلوماً، أما إذا كان ظالماً فإن اليمين على نية المستحلف.
قال -رحمه الله-: "وعن عبد الرحمن بن سمرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير)) " كفر عن يمينك، يعني إذا حلفت على فعل محرم، أو ترك واجب يجب عليك أن تحنث في يمينك، وتكفر عنه، أو تكفر ثم تحنث، أو تحنث ثم تكفر؛ لأنه قال في الرواية الأولى: ((كفر عن يمينك، وائت الذي هو خير)) وفي لفظ: ((فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك)) ((فكفر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير)) هذا إذا حلف على ترك واجب، أو فعل محرم، أقسم ألا يزور أباه أو أخاه أو أمه يجب عليه أن يكفر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير؛ لأن الصلة خير، واجبة، وقطيعتها محرمة، وكذلك إذا حلف ألا يصلي أو لا يصوم، يجب عليه أن يكفر عن يمينه، ثم يأتي الذي هو خير.(103/7)
إذا حلف على فعل مكروه أو ترك مستحب، حلف ألا يوتر مثلاً، أو لا يصلي الضحى، أو حلف أن يرتكب شيئاً مكروهاً الذي لا يصل إلى حد التحريم فإنه حينئذٍ ينبغي له أن يكفر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير، بخلاف ما إذا حلف على فعل واجب، أو حلف على ترك محرم، فإنه يجب عليه أن يستمر على حلفه، ولا يجوز له أن يحنث؛ لأن الفعل محرم من الأصل، ترك الواجب محرم، وفعل المحرم لا يجوز، ثم يزداد بعد ذلك شدة بهذه اليمين التي عقدها على نفسه، أما إذا حلف على شيء مباح فعلاً أو تركاً، فالأمر بيده، هو مخير، إن أراد أن يستمر يستمر على يمينه، وإن أراد أن يحنث في يمينه ويكفر فالأمر إليه، لا سيما إذا رأى أن عدم الاستمرار هو الخير بالنسبة له.
((وإذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيراً منها، فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير)) الرواية الأخرى ((فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك)) قلنا في درس مضى: إنه إذا كان للعبادة سبب وجوب ووقت وجوب، في أي مناسبة قيل هذا؟ هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
نحر الهدي، إذا كان للعبادة سبب وجوب ووقت وجوب، سبب وجوب الكفارة انعقاد اليمين، ووقت وجوبها الحنث، قالوا: لا يجوز فعلها قبل السبب اتفاقاً، لا يجوز أن تبذل كفارة يمين قبل أن تحلف، قبل سبب الوجوب، ولا تذبح الهدي قبل الدخول في الإحرام الذي هو سبب الوجوب، ويجوز بعد الوقت، يعني بعد دخول الوقت بالاتفاق وقت الوجوب الذي هنا، وهنا الحنث، يعني يحنث يخالف ما حلف عليه فعلاً أو تركاً، ثم يكفر هذا لا إشكال فيه بالاتفاق يجزئه.
لكن إن كفر قبل الحنث بعد سبب الوجوب وقبل وقت الوجوب؟ مقتضى الروايات التي بين أيدينا جواز ذلك، وقال به جمهور أهل العلم، جمهور أهل العلم، ومنهم من يرى أن فعل الشيء قبل وقته لا يصح ولا يجزئ، كما لو صليت قبل دخول وقت الصلاة، إلى الآن ما تعين عليك كفارة فكيف تكفر؟ قبل وقت الوجوب لا تجزئ، لكن جمهور أهل العلم على الجواز، والقاعدة هذه في قواعد ابن رجب، ينبغي لطالب العلم أن يراجعها، ولها فروع كثيرة جداً، تنفع طالب العلم، فيها فروع يحتاج إليها.(103/8)
((فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير)) هذا في الصحيحين "وفي لفظ للبخاري: ((فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك)) " قد يقول قائل: إن الواو لا تقتضي ترتيب، فتحمل الرواية الثانية على الأولى أو العكس، لا سيما وأنه في رواية أبي داود قال: ((فكفر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير)) فتحمل الرواية الثانية على الأولى؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، بدليل الرواية الأخيرة رواية أبي داود، لكن ورود الخبر بهذه الصفة وهذه الصيغة يدل على جواز الأمرين.
قال: "وإسنادها صحيح" وإسنادها وليس إسنادهما، يعني نسخة الشارح إسنادهما بالتثنية، لكن الصواب "وإسنادها" وعلى هذا أكثر نسخ البلوغ، وهذا هو الصحيح المتجه؛ لأننا لا نحتاج أن نقول: رواية البخاري إسنادها صحيح، لا نحتاج أن نقول: رواية البخاري إسنادها صحيح، هذا من العبث أن نقول: إسنادها صحيح؛ لأنه يفهم منه أننا إذا ذكرنا رواية للبخاري ولم نقل: إسنادها صحيح أن فيها ما فيها، ويخطئ من يقول: أخرجه البخاري وهو صحيح، أو بإسناد صحيح، لا نحتاج إذا كان الحديث مخرج في الصحيحين، أو في أحدهما أن نصحح، الأمة تلقت الكتابين بالقبول، وهما أصح الكتب بعد كتاب الله -جل وعلا-، والتطاول إلى هذا الحد أن نصحح ما في الصحيح لا شك أنه ليس بمحله، ولذا صواب العبارة: "وإسنادها" يعني رواية أبي داود "صحيح" لأن سنن أبي داود لم تلتزم فيه الصحة، فيه الصحيح والحسن والضعيف، فيحتاج إلى بيان الصحيح من غيره، أما ما في الصحيحين أو في أحدهما فهذا لا يحتاج أن نقول: صحيح.
من أهل العلم من يفرق بين الكفارة إذا كانت بالعتق أو الإطعام فيجوز تقديمها قبل الحنث، وبين ما إذا كانت بالصيام فلا يجوز تقديمها على الحنث؛ لأن الصيام عبادة لا يجوز ولا يصح قبل وقته، كما لو صام بعض رمضان في شعبان، أو صلى صلاة قبل دخول وقتها، لكن أكثر أهل العلم على جواز الكفارة بجميع خصالها سواءً كان العتق أو الإطعام أو الكسوة أو الصيام.(103/9)
قال -رحمه الله-: "وعن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه)) رواه أحمد والأربعة، وصححه ابن حبان" ((قال: إن شاء الله)) هذا الاستثناء ينفع ((من حلف على يمين فقال: إن شاء الله)) كما حلف سليمان -عليه السلام- أن يطأ نساءه تلد كل واحدة منهن فارساً يقاتل في سبيل الله، فقال له الملك: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فما الذي حصل؟ ما ولدت واحدة منهن إلا واحدة جاءت بشق ولد؛ لأنه لم يستثن، وهنا الاستثناء ينفع، لماذا؟ لأن الأمر إذا علق بالمشيئة يتبين عند حصوله أو عدمه، فإن حصل فإن الله -جل وعلا- قد شاءه، وإن لم يحصل فإن الله -جل وعلا- حينئذٍ لم يشأ، والمراد بذلك المشيئة الكونية التي علمها عند الله -جل وعلا-، ما تتبين إلا بعد ظهور ما رتب عليها، منهم من يقول: إذا حلفت على أمر مطلوب شرعاً لا ينفعك أن تقول: إن شاء
الله، لماذا؟ لأن الله قد شاءه وأراده، فلا ينفعك الاستثناء حينئذٍ، نظراً إلى المشيئة الشرعية، لكن مقتضى الحديث أن الملحوظ والمنظور إليه الإرادة والمشيئة الكونية.
نظير هذا إذا قيل لك: أقرئ فلاناً مني السلام، فقلت: إن شاء الله، ما أقرأته السلام، يعني يلزمك أن تقرأه السلام؛ لأنك التزمت للشخص؟ لكن علقته ... ، ما شاء الله أني أقرئه منك السلام، فتكون حينئذٍ بالخيار، ما تلزم نفسك بغير لازم، إذا قال لك: أقرئ فلاناً مني السلام، وقلت: أبشر، من دون مشيئة، أنت الآن التزمت للرجل، لكن إذا قلت: إن شاء الله خرجت من العهدة، فإن أقرأته فقد شاء الله منك أن تقرئه السلام، وإن لم تقرئه فقد شاء الله منك ألا تقرئه.
ومثل هذا اليمين، إذا قلت: إن شاء الله بنية التعليق لا بنية التبرك، فإنك تنتفع بهذا التعليق، ولا بد أن تقول، ما يكفي أن تضمر في نفسك إن شاء الله؛ لأن قال: ((فقال: إن شاء الله)) يعني قالها لفظاً.(103/10)
الأمر الثاني: أن يكون هذا التعليق متصل بالكلام، ما تقول: والله لأفعلن كذا، ثم من الغد تقول: إن شاء الله، وإن جاء عن ابن عباس أن التعليق ينفع ولو بعد سنة، لكن قال أهل العلم لو قيل بهذا ما حنث أحد، قبل أن يرتكب ما حلف عليه يقول: إن شاء الله، على رأي ابن عباس، هذا لا ينتفع به، لا بد أن يكون التعليق بالمشيئة متصل بالكلام، لا يمنع الانقطاع الاضطراري، انقطع ليتنفس، انقطع ليسعل، أو يتثاءب مثلاً، أو يعطس، هذه أمور خارجة عن الإرادة فهي في حكم المتصل.
الاستثناء في الإيمان، إذا قال: مؤمن إن شاء الله، هذه مسألة كبيرة من مباحث الإيمان، وفيها خلاف بين أهل العلم، منهم من يراها من عظائم الأمور، ومنهم من يرى الجواز، إن كان قوله: إن شاء الله مراده بذلك التبرك فلا إشكال، ولا يترتب عليه شيء، لكن إن كان مراده التعليق إن شاء الله، التعليق بالمشيئة، ويش يترتب عليه؟ تعليق الإيمان بالمشيئة، وبعض الناس في كثير من أحواله، أو في أكثر أحواله التعليق، هل جاء فلان؟ يقول: إن شاء الله، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
إيه نعم الذين يرون منعها يرون أنه متراخ في إيمانه، والذي يقول: إن شاء الله تجد من لفظه أنه غير جازم بما يخبر به، هذا سبب المنع ممن منع، ومنهم من يقول: إن المشيئة مشيئة الله -جل وعلا-، وللمؤمن الإيمان حاصلة، واجتمعت في إيمان المؤمن المشيئة الكونية والمشيئة الشرعية، فما المانع من تعليقه بهذه المشيئة؟ ولا يكون فيها شيء من التردد أو التراخي والتساهل في أمر الإيمان الذي هو عقد قلب ينبغي أن يكون جازماً فيه لا يرتابه أي ريب ولا تردد.(103/11)
منهم من يسمي من يعلق إيمانه بالمشيئة يسميهم شكاكة، حتى أنه سئل بعضهم عن الزواج بمن يعلق بالمشيئة فأبدى في المسألة احتمالين، الأول: لا، لأنه من الشكاكة، والثاني: نعم، قياساً على الذمية؛ لأن المسألة يعني حسب تصور أهل العلم لها، وكل ينظر إليها من زاوية لا شك أنها من كبار المسائل، وهنا إذا قال: إن شاء الله لا حنث عليه، لماذا؟ لأنه إن فعل فقد شاء الله أن يفعل، وإن ترك فقد شاء الله أن يترك، هذا إذا نظرنا إلى المشيئة الكونية، أما المشيئة الشرعية فلا يدخل فيها المأمور؛ لأن الله قد شاءه.
طالب:. . . . . . . . .
كيف؟
طالب:. . . . . . . . .
ويش يقصد؟ تبرك وإلا تعليق؟
طالب:. . . . . . . . .
على ما يصدقه به صاحبه، ما تنفعه التورية إذا كان ظالماً، وإذا كان مظلوماً نفعته على ما تقدم.
يقول ابن العربي: أجمع المسلمون بأن قوله: "إن شاء الله" يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلاً.
وقوله: ((فقال)) يدل على أنه لا بد من النطق في هذا الاستثناء، لا بد منه؛ لأنه رتب على القول، ولذا قال أهل العلم في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)) وأنه لا يكفي أن يعتقد في قلبه ولا يتلفظ، لا بد أن يقول، لا بد أن ينطق، وهنا يقال: لا بد أن ينطق.
قال بعض المالكية: يجوز الاستثناء بالنية من غير لفظ، يعني يستثني بقلبه، ولكن الحديث صريح في القول ((فقال)) ولا يترتب الأثر إلا على القول، ومثله الأذكار من قال كذا فله كذا، لا يكفي أن يذكر بقلبه لا بد أن يتلفظ به.
قال: وحكي عن بعض المالكية صحة الاستثناء من غير لفظ، قال الشارح: "وإلى هذا أشار البخاري وبوب عليه: باب النية في الأيمان، لكن صريح القول لا ينطبق إلا على من تلفظ به".(103/12)
قال -رحمه الله-: "وعنه -رضي الله عنه- قال: كانت يمين النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا، ومقلب القلوب)) " تقدم النقل عن ابن القيم -رحمه الله-، وأنه استقرأ الأيمان والأقسام النبوية، فبلغت عنده نحو ثمانين موضعاً، وكثيراً ما يقول: ((لا ومقلب القلوب)) ((والذي نفسي بيده)) ((والذي نفس محمد بيده)) ((لا ومصرف القلوب)) هذه كثيراً ما يقولها، كثيراً ما يقول: ((والذي نفسي بيده)) ((والذي نفس محمد بيده)).
كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يواظب على هذا اليمين ((لا، ومقلب القلوب)) والفائدة من ملازمة أو الإكثار من هذه اليمين التذكير بمضمون اليمين، وهو أنه ينبغي أن يستحضر الإنسان أن قلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن، فلا يتكل على عمله، أو على ما هو فيه من استقامة والتزام؛ لأنه كم من مهتد قد ضل، وكم من مسلم قد ارتد، وكم من ضال قد اهتدى، وكم من مستقيم خرج عن حد الاستقامة إلى الفسق والعكس، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن.
يعني الإكثار من هذه اليمين تذكر السامع، وتذكر المتكلم بمعنى مقلب القلوب، مصرف القلوب، تجعل الإنسان على خوف وعلى وجل من سوء العاقبة، وأن يستحضر دائماً الدعاء بالثبات على الاستقامة إلى الممات؛ لأن القلوب بيد الله، يقلبها كيفما شاء.
القلوب المرادة هنا ليس المراد بها ذواتها، يعني ليس القلب بدل ما هو منكوس يعتدل، أو يذهب يمين، أو شمال، لا، إنما المراد أحوالها، المراد تقلب أحوالها من استقامة إلى ضدها، من كفر إلى إسلام، من إسلام إلى ضده، لا سيما في أوقات الفتن التي تضل الناس كقطع الليل المظلم ((يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً، ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا)) ولذا على الإنسان أن يلهج في جميع أحواله، ويدعو الله -جل وعلا- بالثبات، ومثل ما تقدم أن اليمين تجوز بجميع أسماء الله الحسنى وبصفاته الثابتة له في كتابه وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-.
يقول: ثبت عن شيخ الإسلام ابن تيمية في حربه للتتار أنه قال: "والله لنغلبنهم هذه المرة، فقيل له: قل إن شاء الله، فقال: أقولها تحقيقاً لا تعليقاً، فعلى أي وجه يحمل قوله؟(103/13)
هذا من باب ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)) لكن لا يحسن من كل إنسان أن يبتلي نفسه ويختبر نفسه، لا بد أن تظهر للإنسان علامات وقرائن تدل على أنه صادق مع الله -جل وعلا-، وإلا على الإنسان ألا يبتلي نفسه ويمتحنها بمثل هذه المواقف، وبمثل هذه المضايق؛ لأن فيه نوع تزكية، ومثل هذا الكلام لا شك أنه مما تضيق فيه الأنظار؛ لأنه قد يقول قائل: إن شيخ الإسلام يزكي نفسه، حيث ادعى أنه ممن لو أقسم على الله لأبره، فمثل هذا لا ينبغي أن يقدم عليه الشخص إلا إذا ظهر له بقرائن أنه صادق مع الله -جل وعلا-، وجرب ذلك سراً قبل أن يجربه علناً؛ لأن بعض الناس يقول: بين الآخرين في مجلس من المجالس: اللهم إن كنت مخلصاً لك فاقبضني إليك الآن، طيب ما قبض، هل معناه أنه غير مخلص؟ يعرض نفسه للابتلاء، يعرض نفسه لشيء لا يطيقه، ولا داعي لمثل هذا الكلام، نعم إذا احتيج إلى ذلك؛ لأنه في بعض المواطن قد يحتاج الإنسان لمثل هذا، يعني بعض الدعاة دعا قبيلة كاملة إلى الإسلام، فقيل له: إن دعوت الله أن يغيثنا فاستجاب الله دعاك أسلمنا، فعلى الإنسان أن يحتقر نفسه، طيب افترض أنه دعا ولا سقوا، ويش النتيجة؟ النتيجة أنه لو كان في احتمال أنهم يسلمون ينتفي هذا الاحتمال، لكن رجح أنه ينكسر بين يدي الله -جل وعلا-، وعلم الله -جل وعلا- منه صدق النية فأغاثهم ... ، لكن هذه مواطن محاك، هذه محاك لا ينبغي للإنسان في وقت السعة أن يتعرض لها، وكلام شيخ الإسلام لا شك أنه داخل في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)).
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ فذكر الحديث، وفيه اليمين الغموس.
عد الكبائر لا على سبيل الحصر، وليست محصورة بسبع، كما قال ابن عباس: إلى السبعين أقرب، ومن ألف في الكبائر أوصلها إلى المئات حسب الضابط الذي قرره أهل العلم على خلاف بينهم، وهذا يثبت أن هناك من الذنوب ما هو كبير، ومنها ما هو صغير.(103/14)
"ما الكبائر؟ " ما قال: ما المعاصي؟ ما الذنوب؟ الكبائر، فالذنوب منها ما هو كبيرة، ومنها ما هو صغيرة، الكبائر هذه لا تكفر إلا بالتوبة أو رحمة أرحم الراحمين {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [(116) سورة النساء] لكن الأصل أنها تحتاج إلى توبة، وأما بالنسبة للصغائر فاجتناب الكبائر يكفر الصغائر {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [(31) سورة النساء] ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفرات لما بينهن ما لم تغش كبيرة)).
من هذه الكبائر، والتمييز بين الكبائر والصغائر يختلف فيه أهل العلم، ما جاءت تسميته بأنه كبير، هذا لا إشكال فيه، في النص، وأما القواعد والضوابط التي جعلت للفرق بين الكبائر والصغائر، فمنها ما رتب عليه حد في الدنيا، أو عذاب في الآخرة، أو نفي عنه الإيمان، أو توعد بلعن، وطرد من رحمة الله، أو غضب، أو ما أشبه ذلك، كل هذه من الكبائر، كما قرر ذلك شيخ الإسلام -رحمه الله- وغيره.
"ما الكبائر؟ فذكر الحديث"، عد مجموعة من الكبائر، وذكر من ضمن ما ذكر اليمين الغموس، فعول، صيغة مبالغة بمعنى فاعل؛ لأنها تغمس يمين غامس تغمس مرتكبها في النار، أو في العذاب.
"اليمين الغموس" استفصل وسأل "وما اليمين الغموس؟ قال -عليه الصلاة والسلام-: ((التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب)) " الظاهر أن السائل هو الأعرابي، والمسئول عن التفسير هو النبي -عليه الصلاة والسلام-، هذا ظاهر السياق كما تدل عليه الروايات، وإن أبدى بعضهم احتمال أن السائل الراوي عن ابن عمر، والمجيب ابن عمر، لكن لا يوجد ما يدل عليه.(103/15)
اليمين الغموس هي ((التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب)) اليمين تنقسم إلى أقسام: منها لغو اليمين، لا والله، وبلى والله، كما سيأتي في كلام عائشة -رضي الله عنها-، هذا ما فيه شيء، لا فيه كفارة ولا، الذي يجري على اللسان بغير قصد، وليست فيه مؤاخذة، ومنه ما يحلف فيه الإنسان على أمر ماض يغلب على ظنه وقوعه، يقول: والله ما جاء، قال شخص: جاء زيد أمس، قال: والله ما جاء؛ لأنه يغلب على ظنه أنه لم يحضر، لا سيما إذا استدل بقرينة تدل على عدم حضوره، فتبين له أنه حضر، يعني المقرر أن يحضر مثلاً، اتصل على هذا الشخص وقال: فاتت الرحلة، لن أحضر اليوم، ثم تيسر له في الرحلة التي بعدها مباشرة وحضر، قيل لفلان الذي أخبر: حضر زيد أمس جاء البارحة، قال: والله ما جاء، هو متصل بي، وقال: خلاص فاتت الرحلة، هذا على غلبة ظن، هذا ما عليه كفارة.
لو حلف أنه ما جاء، وهو يعرف أنه جاء، رآه بالأمس، قال: والله ما جاء، هذا ليس فيه كفارة، لكنه يأثم بهذا اليمين التي حلف فيها، وهل تسمى غموس أو لا تسمى؟ ((يقتطع بها مال امرئ مسلم)) منهم من يقول -نظر إلى قوله-: ((هو فيها كاذب)): يكفي أن تسمى غموس، وليس فيها كفارة، أعظم من أن تكفر، لكن من رأى في الحد الذي يقتطع بها مال امرئ مسلم، قال: هذه ليست غموس، لكنه آثم بكذبه، وتأكيد هذا الكذب باليمين، ولا كفارة فيها.
إذا حلف على أمر مستقبل، والله لا يفعل كذا في المستقبل، ثم فعله، هذه اليمين المكفرة المنعقدة، إذا حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم، اقترض من زيد ألف ريال، ثم أقسم أنه ليس عنده شيء، زيد ما عنده بينة، فتوجهت اليمين إلى المقترض فحلف أنه لم يقترض منه شيء هذه هي غموس؛ لأنه اقتطع بها مال امرئ مسلم، وهو كاذب في ذلك.
وهذه اليمين عند الجمهور لا تكفر، ومثلها قتل العمد، أعظم من أن يكفر، واليمين الغموس أعظم من أن تكفر، هذا قول أكثر أهل العلم، ويرى الشافعية أنها تكفر لعموم الأدلة الدالة على لزوم الكفارة لمن حنث في يمينه.(103/16)
قال -رحمه الله-: "وعن عائشة -رضي الله عنها- في قوله تعالى" يعني في تفسير قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [(89) سورة المائدة] "قالت: هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله" يجري على اللسان من غير قصد، وهو موجود عند كثير من الناس، لا يقتطع به مال امرئ مسلم، ولا يترتب عليه شيء، إنما يجري على اللسان من غير قصد، علماً أنه مع عدم المؤاخذة إلا أنه لا ينبغي للمسلم أن يجعل الله -جل وعلا- عرضة ليمينه، فيحلف على أدنى شيء، ويعود لسانه على هذا، لكن إذا حصل وتعود ما عليه شيء، {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [(89) سورة المائدة] قالت: هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله" أخرجه البخاري" عن عائشة موقوفاً عليها، وهو عند أبي داود مرفوع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فإذا نظرنا إلى ما في الصحيح وهو أرجح، قلنا: إن ما في سنن أبي داود معل برواية الصحيح، ولو كانت ثابتة لأثبتها البخاري، وعدوله عنها يدل على عدم ثبوتها، وإذا قلنا: إنه لا مانع أن يثبت مرفوع ويثبت موقوف، فمرة تنشط عائشة -رضي الله عنها- فتنسبه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، ومرة تقوله من تلقاء نفسها.
وتفسير الصحابي ذكر الحاكم أبو عبد الله أنه في حكم المرفوع؛ لأنه لا يمكن أن يقول الصحابي في كلام الله شيئاً من تلقاء نفسه، أو من قبل رأيه، لما ورد من التحذير الشديد أن يقال في القرآن بالرأي، لكن جمهور أهل العلم حملوا ذلك على أسباب النزول؛ لأن أسباب النزول لا بد أن يكون النبي -عليه الصلاة والسلام- طرفاً فيها.
وعُدّ ما فسره الصحابي ... رفعاً فمحمول على الأسبابِ
وهذا منها، هذا تفسير لقوله -جل وعلا-: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [(89) سورة المائدة] من يرى أن تفسير الصحابي له حكم الرفع قال: هو مرفوع، وإن لم تصرح عائشة بذكر النبي -عليه الصلاة والسلام-، والذي يقول: لا، التفسير يحتمل أن تقوله من تلقاء نفسها استنباطاً، ولا مانع من ذلك، وكثير من تفاسير الصحابة واضح أنه استنباط.(103/17)
على كل حال الحديث روي مرفوعاً وموقوفاً، وخير ما يفسر به كلام الله -جل وعلا- بكلام نبيه -عليه الصلاة والسلام-، إذا وجد، أو بكلام صحابته -رضوان الله عليهم-.
قال -رحمه الله تعالى-: "وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن لله تسعاً وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة)) متفق عليه، وساق الترمذي وابن حبان الأسماء".
يعني الترمذي لما ساق هذا الحديث سرد هذه الأسماء التسعة والتسعين، وهي موجودة عند ابن حبان، الثابت في الصحيحين العدد المجمل تسعة وتسعين مائة إلا واحد، عند الترمذي وابن حبان سرد لهذه الأسماء.
يقول ابن حجر: "والتحقيق أن سردها إدراج من بعض الرواة" اجتهاد، نظر في النصوص في الكتاب والسنة فجمع منها تسعة وتسعين اسماً، فسردها وليس من قوله -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه قال: "والتحقيق أن سردها إدراج من بعض الرواة" لذلك الاعتماد على ما جاء في الترمذي وابن حبان من تحديد هذه الأسماء وترديدها على الألسنة، ونظمها في شعر يقال في كل وقت، تحصيلاً لهذا الوعد ليس في محله؛ لأن هذا اجتهاد من بعض الرواة؛ لأنه قد تكون تركت من الأسماء ما هو أولى، وإلا فلا حصر في التسعة والتسعين، لا حصر، لكن الحصر مع الوصف التسعة والتسعين محصورة في كونها من أحصاها، وإلا فالأسماء الحسنى لا يمكن أن تحصى ((أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)) هذا يمكن الاطلاع عليه؟ لا يمكن، وقد يعلّم بعض الخلق من الأسماء ما لم يعلمه غيره، ولذا تجدون من أهل العلم من أهل الاطلاع الواسع من يجمع الأسماء الحسنى من نصوص الكتاب والسنة، فيتصدى لها آخر فتجد تفاوت بين جمع هذا، وجمع هذا، فيعلم هذا ما لا يعلمه هذا، وهكذا.
التسعة والتسعين المائة إلا واحد هذه وجه الحصر فيها في كونها من أحصاها، ما عداها لا يمكن حصره، لكن لا يترتب عليه هذا الوصف.(103/18)
أولاً: مناسبة الحديث لباب الأيمان أن الله -جل وعلا- له الأسماء الحسنى فيدعى بها، وتبعاً لذلك يقسم بها؛ لأن القسم لا يكون إلا باسم من أسماء الله التي منها هذه التسعة والتسعين، فيدعى بها {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [(180) سورة الأعراف] وأيضاً يقسم بها؛ لأن القسم إنما يكون بأسماء الله لا بغيره.
((إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحد)) يعني صريح في التحديد، في تحديد العدد، من أهل العلم من يقول: الأسماء الحسنى مائة، طيب في الصحيحين: ((تسعة وتسعين مائة إلا واحد)) في أوضح من هذا الحصر؟ ((تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحد)) يقول: مائة الأسماء الحسنى، كيف صارت مائة؟ يعني هل هذه معاندة من القائل أو محادة؟ أو نقول: له وجه؟ له وجه وإلا ما له وجه؟
طالب:. . . . . . . . .
كيف؟
طالب:. . . . . . . . .
يعني هذا الاسم من الأسماء الحسنى الله -جل وعلا- له تسعة وتسعين، فإذا أضيفت إليه صارت مائة، ظاهر وإلا ما هو بظاهر؟ يعني الكلام له وجه، وإلا فالحديث ما في أوضح من هذا الحصر ((تسعة وتسعين مائة إلا واحد)) يعني عدد لا يحتمل الزيادة والنقصان، لكن مع ذلك قال بعض أهل العلم: إنها مائة، إذا أضيف إليها لفظ الجلالة المتحدث عنه، المتحدث عنه له تسعة وتسعون، فإذا أضيف إليها صارت مائة.
((إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها)) إيش معنى أحصاها؟ جاء في بعض الروايات: حفظها، وهل يكفي الحفظ من غير معرفة للمعنى وإفادة من هذا المعنى؟ ((من طاف أسبوعاً يحصيه كان له بكل خطوة حسنة)) إيش معنى يحصيه؟ يعني يضبط أنه سبعة أشواط بحيث لا يزيد ولا ينقص؟ أو أنه يحضر قلبه فيه، وأنه في عبادة فلا يغفل ولا يتشاغل عنه بغيره؟ هكذا قرر أهل العلم، ولذا القول أن من أحصاها مجرد الحفظ ومجرد التكرار ومجرد الترديد عند أكثر أهل العلم لا يكفي، حتى يعقل معناها، ويفيد من هذه المعاني، ومعرفة الأسماء الحسنى من أنفع ما ينفع المسلم في حياة قلبه.(103/19)
ومن أفضل ما يقرأ في هذا ما سطره ابن القيم في نونيته، يعني ذكر الأسماء الحسنى لا يقال: إنه أحاط بالأسماء الحسنى، لا، لكن ذكر ما ذكر منها، وبين معانيها، وكيفية الإفادة من هذه المعاني، يعني إذا عرفت من أسماء الله -جل وعلا- الله إيش تستفيد من هذا الاسم؟ أنه -جل وعلا- هو المألوه المعبود بحق، وعلى هذا لا يجوز أن تصرف لغيره شيء من أنواع العبادة، الرحمن، إذا عرفت أنه الرحمن، وعرفت معنى الرحمن، ومعنى الرحمة طمعت في هذه الرحمة، بطمع نافع، رغبة نافعة، لا رغبة مفاليس، أو طمع مفاليس، رغبة مقرونة بالعمل، إذا عرفت أنه جبار، إيش معنى الجبار؟ تعرف معناه، ويورث ذلك في قلبك هيبة منه وخشية ورهبة تحدوك إلى العمل بما أمرك به، واجتناب ما نهاك عنه، فإذا عرفت الأسماء الحسنى على هذه الطريقة استفدت منها، وإلا مجرد قصيدة تقال وتقرأ، ماذا تستفيد؟
ومن أهل العلم من يقول: إن حفظها وقراءتها يرتب عليه هذا الجزاء، ومعرفة معانيها والإفادة من معانيها قدر زائد على ذلك، يعني نظير ما يقال في القرآن، الأجر المرتب على قراءة كل حرف بعشر حسنات هذا يحصل بمجرد القراءة، ما وراء ذلك من القراءة على الوجه المأمور به بالتدبر والترتيل أجره زائد على ذلك، فتكون من هذا النوع، الأذكار من قال كذا فله كذا، من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة في يوم حطت عنه خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر، هذا الأجر رتب على مجرد القول، يعني كونك تعقل ما تقول هذا قدر زائد على ذلك، وإن كان من أهل العلم من يرى أن الذكر بدون عقل لا قيمة له، التلاوة بدون تدبر لا قيمة لها، لكن إذا تأملنا ما جاء من النصوص في ترتيب هذه الأجور، وهذه الموعودات على مجرد القول وفضل الله واسع، من قال كذا فله كذا، انتهى، قال، تحقق الشرط فليتحقق الجزاء.(103/20)
" ((إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)) متفق عليه، وساق الترمذي وابن حبان الأسماء، قال ابن حجر: والتحقيق أن سردها إدراج من بعض الرواة" إيش معنى إدراج؟ نعم إدخال ما ليس من كلامه -عليه الصلاة والسلام- في كلامه، وإلحاقه به، بحيث لا يتميز، والإدراج يكون في أول المتن، وفي وسطه، وفي أثنائه، وفي آخره، وهذا هو الكثير الغالب كما هنا.
قد يقول قائل: ما الفائدة من تعيين رقم من دون تفصيل؟ رقم إجمالي تسعة وتسعين من غير تفصيل، نعم؟ نعم الاجتهاد في البحث عن هذه التسعة والتسعين؛ ليعظم الأجر، كما أبهمت ساعة الجمعة، وليلة القدر، يعني لو بينت التسعة والتسعين انتهى الإشكال، لو حفظت تسعة وتسعين في صفحة واحدة، أو في نصف صفحة، لكن لما يقال: تسعة وتسعين، ورتب عليها هذا الأجر العظيم، تجعل المسلم يحرص ويتعب في تحصيلها، فيعظم أجره عند الله -جل وعلا-، وكذلك ساعة الجمعة حينما جاء الخلاف القوي هل هي من دخول الإمام أو آخر ساعة من العصر؟ وكذلك ليلة القدر حينما جاء فيها الأحاديث الكثيرة التي مجموعها يدل على الإبهام، التي لا يمكن الوصول إلى ليلة بعينها من خلال ما جاء في النصوص، تحروها في العشر الأواخر، في السبع الأواخر، في سابعة تبقى، في كذا، في أوتار، في .. ، كل هذا من أجل أن يكثر الاجتهاد، ولا يتكل الناس على ليلة بعينها فتزداد أجورهم.(103/21)
بعد هذا حديث: "أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من صُنع إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء)) " ((من صنع إليه معروف)) يعني فليكافئه، يعطيه في مقابل هذا المعروف، النبي -عليه الصلاة والسلام- يقبل الهدية، ويثيب عليها، أما أن تأخذ من غيرك بدون مقابل فلا شك أنه .. ؛ لأن الهدية لا شك أنها تزيل ما في القلوب، وتقرب المسلم إلى أخيه ((تهادوا تحابوا)) لكن ماذا عن المقابل؟ يعرف زيد من الناس أنه يأخذ ولا يعطي، ماذا تكون النتيجة؟ ممقوت، لكن " ((من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء)) أخرجه الترمذي، وصححه ابن حبان" وهذا الحديث لا تظهر مناسبته في الباب، إيش دخل حديث: ((من صُنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء)) للأيمان والنذور؟ يعني هو بكتاب الجامع الذي محله الآداب والأخلاق على ما سيأتي أليق، تظهر مناسبة يا إخوان؟
ما يظهر مناسبة.
قال الشارح: ولا يخفى أن ذكر الحديث هنا غير موافق لباب الأيمان والنذور، وإنما محله باب الأدب، الذي سيأتي في كتاب الجامع، آخر كتب بلوغ المرام.
الإنسان إذا صُنع إليه معروف قد يجد ما يكافئه به، أهدي إليه هو يهدي، أعطي يعطي، لكن بعض الناس ما عنده شيء، يكافئ بالدعاء، ومن أجمع الأدعية "جزاك الله خيراً" لأن خير يشمل خير الدنيا والآخرة، والدعاء لا شك أنه ينفع، دعاء المسلم لأخيه لا سيما إذا كان في ظهر الغيب، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(103/22)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: بلوغ المرام - كتاب الأيمان والنذور (2)
الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير
سم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- في كتابه: بلوغ المرام في تتمة كتاب الأيمان والنذور:
وعن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن النذر، وقال: ((إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل)) متفق عليه.
وعن عقبة بن عامر -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كفارة النذر كفارة يمين)) رواه مسلم، وزاد الترمذي فيه: ((إذا لم يسم)) وصححه.
ولأبي داود: من حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- مرفوعاً: ((من نذر نذراً لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين)) وإسناده صحيح إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه.
وللبخاري: من حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها-: ((ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)).
ولمسلم: من حديث عمران -رضي الله تعالى عنه-: ((لا وفاء لنذر في معصية)).
وعن عقبة بن عامر -رضي الله تعالى عنه- قال: "نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله تعالى حافية، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لتمش ولتركب)) متفق عليه، واللفظ لمسلم.
وللخمسة فقال: ((إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً، مرها فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام)).
وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: استفتى سعد بن عبادة -رضي الله تعالى عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه، فقال: ((اقضه عنها)) متفق عليه.(104/1)
وعن ثابت بن الضحاك -رضي الله تعالى عنه- قال: نذر رجل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأله، فقال: ((هل كان فيها وثن يعبد؟ )) قال: لا، قال: ((فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ )) فقال: لا، فقال: ((أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا في قطيعة رحم، ولا فيما لا يملك ابن آدم)) رواه أبو داود والطبراني، واللفظ له، وهو صحيح الإسناد، وله شاهد من حديث كردم عند أحمد.
وعن جابر -رضي الله تعالى عنه- أن رجلاً قال يوم الفتح: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، فقال: ((صل ها هنا)) فسأله، فقال: ((صل ها هنا)) فسأله، فقال: ((فشأنك إذاً)) رواه أحمد وأبو داود، وصححه الحاكم.
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي)) متفق عليه، واللفظ للبخاري.
((ومسجدي هذا)).
سم رعاك الله.
((ومسجدي هذا))
أحسن الله إليك.
((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي هذا)) متفق عليه، واللفظ للبخاري.
وعن عمر -رضي الله تعالى عنه- قال: قلت: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال: ((فأوف بنذرك)) متفق عليه، وزاد البخاري في رواية: فاعتكف ليلة.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فأحاديث الدرس كلها في النذر، وأما ما يتعلق بالأيمان فقد انتهى.
أول أحاديث النذر ما ذكره الحافظ من حديث "ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن النذر" النذر أن يلزم الإنسان نفسه بشيء لم يوجب عليه في أصل الشرع.
الرسول -عليه الصلاة والسلام- نهى عن النذر، والله -جل وعلا- مدح الذين يوفون بالنذر، الوسيلة منهي عنها، والغاية مطلوبة.(104/2)
"نهى عن النذر" فقال جمع من أهل العلم: إن هذا باب من العلم غريب، إذا أن الوسائل في الأصل لها أحكام الغايات، فإذا كانت الغاية مطلوبة صارت الوسيلة مطلوبة، والمقرر عند أهل العلم أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإذا كان النذر الوفاء به واجباً كانت وسيلته واجبة؛ لأنه لا يتم إلا به، لكن هذا الباب على خلاف غيره من الأبواب، الوسيلة ممنوعة.
"نهى عن النذر" على خلاف بين أهل العلم في مقتضى النهي هل هو التحريم أو الكراهة؟ الأصل في النهي التحريم، لكن صرف عند جمهور أهل العلم عن التحريم إلى الكراهة بلزوم الوفاء به، إذ لو كان النهي فيه للتحريم لصار لاغياً، لصار مقتضاه لاغياً، وفي الحقيقة مقتضاه ليس بلاغي، بل يجب الوفاء به في بعض الصور، وبعض الصور لا يجوز الوفاء به، وبينهما صور مترددة بين الوفاء وبين الكفارة على ما سيأتي.
من أهل العلم كالنووي رأى اطراد هذا الباب مع غيره من الأبواب، فقال: إن النذر مستحب، لماذا؟ لأن غايته واجبة، فأقل الأحوال أن يكون مستحب، وهذا الكلام ليس له حظ من النظر، مع ثبوت النهي عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، والنهي كما يقرر أهل العلم أقل أحواله الكراهة.
"نهى عن النذر، وقال: ((إنه لا يأتي بخير)) " لا يأتي بخير، لا يغير من القضاء شيئاً، إذا نذر إن شفى الله مريضه أن يفعل كذا لن يغير من قدر الله شيئاً، لن يشفى مريضه بسبب النذر، إن رد الله غائبه أن يفعل كذا لن يغير مما قضى الله شيئاً، ولن يرد الله غائبه بسبب نذره.(104/3)
((إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل)) بعض الناس لا تجود نفسه أن يتصدق حتى ينذر، ويلزم نفسه بذلك، إن حصل كذا، أو لله عليه كذا دون تعليق، لله علي أن أتصدق بكذا، وكثير من الناس في أثناء الشهر تجده يقول: لله علي إذا استلمت الراتب أتصدق بمائة بمائتين بألف، هذا يستخرج به من البخيل؛ لأنه في الأصل ما يتصدق إلا بمثل هذه الطريقة، ثم بعد ذلك ما النتيجة؟ لو ترك الأمر من دون نذر، ومن دون عهد مع الله -جل وعلا- ولم يتصدق الأمر سهل إلا إذا كان واجب، وجبت عليه الصدقة، لكن ماذا عما لو قال: لله عليه أن أخرج كذا من راتبي ثم بعد ذلك ما فعل؟ {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [(75) سورة التوبة] النتيجة؟ {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} [(77) سورة التوبة] ... أنت في سعة يا أخي لست بملزوم، أنت لست بملزم أن تقول مثل هذا الكلام، لكن بعض الناس ما يملك، ما يستطيع أن يتصدق ابتداءً، يخرج أحب الأشياء إليه إلى قلبه، ويبذله طائعاً مختاراً هذا صعب عليه، فهو إذاً بخيل ((وإنما يستخرج به من البخيل)) بعض الناس يصعب عليه فعل الواجب، أو ترك المحظور، فيقول: لله علي إن فاتتني الصلاة أن أتصدق بكذا، ولله علي إن اغتبت أحداً أن أتصدق بكذا، وهذا فعله بعض السلف، قال: لله عليه إن اغتبت أن أتصدق بكذا، قال: فهانت علي الغيبة، سهل، المقابل موجود؛ لأنه واجد غني، يقول: ثم عدل عن هذا إلى قوله: لله علي إن اغتبت أحداً أن أصوم يوماً، يقول: فتركت الغيبة، الصيام صعب، ما هو مثل بذل المال، وإن كان بعض الناس إذا كان ليس ذا جدة، وقد مرن نفسه على الصيام، الصيام أسهل عليه، وبعض الناس ممن اتصف بالشح الصيام أسهل عليه على كل حال، صيام الدهر أسهل من إنفاق درهم عند بعض الناس، والعكس عند بعضهم، لكن ماذا عما لو أكد الأمر الشرعي بالتزامه بنذر أو عهد أو نحوهما مما يلزم به نفسه، ما يلزمه الوفاء به، إن فاتتني ركعة أن أتصدق بعشرة، فاتتني ركعتان أتصدق بعشرين وهكذا، ثم بعد ذلك الحساب في آخر اليوم بعد صلاة العشاء، صلاة الفجر ماذا فاته؟ صلاة الظهر؟ ثم يجمع خمس ركعات في اليوم، يعني يتصدق(104/4)
بخمسين ريال، يعني هذا بخيل لا يتصدق إلا إذا التزم، فوجب عليه ما التزم به، لكن ما الباعث؟ هل نقول في مثل هذا مثل ما قيل فيمن قال: إن شفى الله مريضي تصدقت بكذا؟ هذا ما الذي بعثه على أن يقول أو يلتزم بهذا الالتزام؟ إنما هو الحرص على العبادة، والحرص على ترك المحرم، إن اغتبت أحداً تصدقت بكذا، فأمره يختلف عن من قال: إن شفى الله مريضي لا سيما إذا كان يظن أن مثل هذا النذر له أثر في النتائج في القضاء والقدر، وحينئذٍ يقال له: ((إنه لا يأتي بخير)).
وعلى كل حال الإنسان ما دام في سعة من أمره لا يليق به أن يضيق على نفسه، ولو كان هذا في أمور الطاعة، لكن لو عند المحاسبة في آخر النهار أراد أن يكفر عما فاته من غير التزام، قال: فاتني من صلاة الصبح ركعة، ومن صلاة الظهر ركعة، ومن صلاة العصر ما فاتني شيء، من المغرب ركعة، ومن العشاء ركعتين، صار عنده أربع ركعات، قال: هذه أربعين ريال صدقة لعلها تكفر، مع أنه ما ارتكب ذنب، لكنه خلاف الأولى بلا شك، والناس مقامات، بعضهم يفعل هذا إذا فاتته تكبيرة الإحرام، وبعضهم تفوته الصلاة كاملة، وبعضهم يفوته الوقت ولا يحرك عنده ساكناً، نعم إذا كان من هذا الباب فلا مانع من غير أن يلزم نفسه، أما إذا أوجب على نفسه ما لم يجب عليه في أصل الشرع، ثم ضيق على نفسه بسببه؛ لأن بعض الناس ينذر نذور لا يستطيع الوفاء بها، امرأة نذرت إن شفى الله زوجها، أن تصوم شهرين، وتذبح بدنة، وزوجها مريض بالكلى، تبرعت له بكلية فشفاه الله، وشرعت في الصيام وذبحت البدنة كانت النهاية بعد أن عافاه الله أن تزوج ثانية، تكمل الصيام وإلا ما تكمل؟ ما تستطيع أن تكمل الصيام؛ لأنها صامت من أجله، ثم هذه الخاتمة، هذه النتيجة، فالإنسان ما دام في سعة من أمره لا يلزم نفسه بشيء، ثم في النهاية يعجز عنه، وسيأتي أنه لا نذر فيما لا يطيقه ابن آدم، وهل نقول لمثل هذه المرأة: إن مثل هذا لا يطاق؟ صامت شهر وبقي شهر، يعني إذا نظرنا إلى قدرتها تستطيع الصيام، لكن الحال التي تعيشها ومن أجله تصوم، وهذه هي الخاتمة! قد لا تطيق مثل هذا، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
كيف؟
طالب:. . . . . . . . .(104/5)
هذا يقال قبل، لكن هي نذرت وانتهى، على كل حال الإنسان ما دام في سعة فليس له أن يضيق على نفسه، قال: ((إنه لا يأتي)) ... هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
يجب عليها هي التي ألزمت نفسها، طيب ماذا عما لو طلقها؟ أشد من كونه يتزوج عليها، هو أمسكها ما دام مريض، ويوم إن الله شفاه قال: ما لي بها لازم، وقد تبرعت له بكلية وذبحت البدنة وصامت شهر، وبقي شهر، يلزمها أن تفي بالنذر؟ ومن الذي ألزمها؟ وقد التزمت به، وهو نذر طاعة، لكنه إنما يستخرج به من البخل.
قال -رحمه الله-: "وعن عقبة بن عامر -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كفارة النذر كفارة يمين)) " ومقتضى الإطلاق في هذا الحديث أن من نذر أي نذر سواءً كان طاعة وإلا معصية، وإلا مقدور عليه، وإلا يطاق أو لا يطاق أنه مخير، يكفر كفارة يمين، ويخرج من نذره، هذا مقتضى الإطلاق، إطلاق رواية مسلم، لكن "زاد الترمذي فيه: ((إذا لم يسم)) " نذر نَذْر مطلق، قال: لله علي، من غير تقييد، فإذا لم يسمه يكفر كفارة يمين، وإذا سمى شيئاً معيناً فلا يخلو: إما أن يكون طاعة مقدور عليها، فهذا يجب الوفاء به، أو طاعة لا تطاق ولا يقدر عليها، هذا يكفر كفارة يمين، أو نذر معصية هل يكفر أو لا يكفر؟ على خلاف بين أهل العلم هل ينعقد نذر المعصية أو لا ينعقد؟ على ما سيأتي.
"وزاد الترمذي فيه: ((إذا لم يسم)) وصححه" أما إذا سمي وكان طاعة مقدوراً عليها فلا بد من أن يفي بنذره.
"ولأبي داود من حديث ابن عباس" ... نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
لله علي طاعة مثلاً أن أتقرب إليه بأي طاعة، ما سمى لا صيام ولا صلاة، ولا ... ، أو أتصدق بشيء من المال، أما أنه لو تصدق بأقل ما يطلق عليه الشيء كفاه، لكن إذا لم يحدد ما نذره فإنه يكفيه أن يخرج منه بكفارة اليمين، أما إذا سماه فلا يخلو: إما أن يكون طاعة، وهذه الطاعة إما أن تكون مقدوراً عليها أو لا، على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى-.(104/6)
قال -رحمه الله-: "ولأبي داود من حديث ابن عباس مرفوعاً" مرفوعاً يعني إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- " ((من نذر نذراً لم يسمه فكفارته كفارة يمين)) " وهذا يشهد لرواية الترمذي السابقة ((من نذر نذراً لم يسمه فكفارته كفارة يمين)) وفي خبر ابن عباس وحديث عقبة ما يقيد إطلاق رواية مسلم، وأن الذي يكفر كفارة يمين إذا لم يسم.
((ومن نذر نذراً في معصية فكفارته كفارة يمين)) نذر معصية، إن عاد مريضي فلله عليه أن ينام يوماً كاملاً مثلاً بما في ذلك أوقات الصلاة، إن شفى الله مريضه أو عاد غائبه أن يشرب خمر مثلاً، أو غير ذلك من المعاصي، إن شفى الله مريضي أو عاد غائبي أو تزوج بفلانة، أو تزوجت بفلان أن تقطع رحمها، أو يقطع رحمه، هذه كلها معاصي لا يجوز الوفاء بها، لا يجوز الوفاء لكن هل يكفر أو لا يكفر؟ في خبر ابن عباس: ((ومن نذر نذراً في معصية فكفارته كفارة يمين)) إسناده صحيح إلى ابن عباس، لكن هل هو من قوله أو مما يرفعه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ مسألة اختلف فيها أهل العلم، لكن الحفاظ رجحوا وقفه، وأنه من قول ابن عباس، من اجتهاده.
((ومن نذر نذراً في معصية فكفارته كفارة يمين)) نذر المعصية هل ينعقد أو لا ينعقد؟ محل خلاف بين أهل العلم، فإذا قلنا: إنه لا ينعقد لا شيء عليه، وإذا قيل: إنه منعقد، وهو الذي ألزم نفسه بغير لازم عليه أن يكفر كفارة يمين، لا سيما وأن مفاد هذا النذر مفاد اليمين، مفاده الحث أو المنع كما قيل فيمن قال لزوجته: إن خرجت فأنت طالق، ومراده بذلك المنع من الخروج يكفر كفارة يمين على ما اختاره شيخ الإسلام، وهو المفتى به؛ لأن القصد منه الحث أو المنع، فإذا كان القصد من هذا النذر الحث أو المنع فكفارته كفارة يمين، ومن قال: إن نذر المعصية لا ينعقد فإنه لا كفارة فيه.
((ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين)) نذر لا يطيقه، لو نذر أن يصعد إلى السطح بغير سلم، هذا لا يطيقه ولا يستطيعه، نذر أن يحج هذا العام حجتين، يستطيع وإلا ما يستطيع؟ ما يستطيع، فهذا كفارته كفارة يمين على قول ابن عباس -رضي الله عنه-.(104/7)
قال الحافظ: "وإسناده صحيح إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه" والقول في هذه المسألة "تعارض الوقف مع الرفع" فيها أربعة أقوال لأهل العلم، منهم من يقول: الحكم لمن رفع؛ لأن معه زيادة علم، غاية من وقف أنه قصر في رفعه، والذي رفعه معه زيادة علم على من وقف، ومنهم من يقول: الحكم لمن وقف؛ لأنه هو المتيقن، والرفع مشكوك فيه، منهم من رجح بالكثرة، قال: إذا كان أكثر الرواة على الرفع فهو مرفوع، وإن كان الأكثر على الوقف فهو موقوف، ومنهم من رجح بالأحفظ، إذا كان الذي رفعه أحفظ ممن وقفه فله الحكم، أو العكس، ومثله تعارض الوصل والإرسال، وهذه مسألة كررناها مراراً على أن الأئمة الكبار الحفاظ من المتقدمين لا يحكمون بحكم عام مطرد في مثل هذه المسائل، بل الحكم فيها للقرائن، التي ترجحه القرائن فهو الراجح، سواءً كان الرفع أو الوقف، أو الوصل أو الإرسال.
يقول: ما القول الراجح في انعقاد نذر المعصية من عدمه؟
إذا خلت المسألة من الدليل ولم يبق فيها إلا رأي ابن عباس فرأيه أرجح من رأي غيره، فيكفر كفارة يمين.
قال: "وللبخاري من حديث عائشة: ((ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)) " إذا نذر أن ينام يوماً كاملاً، أو نذر أن يشرب الخمر لا يجوز له أن يفي بهذا النذر، لا يجوز له بحال أن يفي بهذا النذر؛ لأن المعصية محرمة في أصل الشرع، فلا يبيح نذره ما حرم بأصل الشرع، لكن يبقى أن هذا النذر هل هو منعقد أو غير منعقد؟ مسألة خلافية بين أهل العلم، ولو خرج من نذره بكفارة يمين لكان أحوط، لا سيما وأن مفاد هذا النذر والمراد منه والمقصود منه الحث أو المنع، فيكون حكمه حكم اليمين، كما قيل بمثله في الطلاق.
"ولمسلم: من حديث عمران -رضي الله تعالى عنه-: ((لا وفاء لنذر في معصية)) " ((من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)) لا يجوز له أن يعصي؛ لأنه قد يتحيل على ارتكاب المعصية بالنذر، يقول: هذا أمر ألتزمته على نفسي، والله مدح الموفين بالنذر، يقال له: لا، ما وجب بأصل الشرع أقوى وأولى مما أوجبه الإنسان على نفسه، إذا نذر أن يعصي الله فلا يجوز له أن يعصي.(104/8)
قال: "وعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية" تمشي حافية، تمشي يعني لا تركب إلى بيت الله إلى مكة إلى الكعبة حافية، مشي على الأقدام، وحافية، وحاسرة الرأس، الله -جل وعلا- غني عن تعذيب الإنسان نفسه، الذي نذر أن يضحى في الحج ولا يستظل، وبقي في الشمس حتى أغمي عليه، إن الله -جل وعلا- عن تعذيب الإنسان نفسه غني، فلا وفاء لمثل هذا النذر.
نذر أن يقوم الليل كله، نذر أن يقرأ القرآن كل يوم مرة أو مرتين، هذا تعذيب للإنسان، والله -جل وعلا- غني عن مثل هذا، لا سيما فيما لا يطاق؛ لأن بعض الناس يطيق أن يقرأ القرآن في كل يوم، وذكر عن الشافعي وغيره أنه يقرأه مرتين، لكن إذا كان .. ، إذا قسمنا الوقت أربعة وعشرين ساعة على ست ساعات اللي هي مقدار قراءة القرآن، إذا نذر أن يقرأ القرآن أربع مرات في اليوم مثلاً، أو حتى ثلاث مرات، مثل هذا لا يطيقه الإنسان، إلا بالطرق التي تذكر عن بعض المبتدعة أنه باللحظة يقرأ القرآن، بقلبه يقرأ القرآن، يمكن أن يقرأ القرآن في أقل من ساعة، هذه ليست بطريقة شرعية، هذا نذر معصية، إذا كان مراده أن يقرأ القرآن على هذه الكيفية، لكن إذا أراد أن يقرأه بالطريقة المعتبرة المعروفة باللفظ، فإنه لا يستطيع أن يقرأ القرآن في أقل من ست ساعات.(104/9)
"نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله" المشي ليس بعبادة مقصودة، نعم رتب عليه ثواب؛ لأنه وسيلة إلى عبادة، فالإنسان من يخرج من بيته إلى أن يرجع إذا قصد العبادة، ولا ينهزه للخروج من بيته إلا العبادة مأجور على هذا المشي، له بكل خطوة إذا مشى إلى الصلاة حسنة، ويحط عنه بكل خطوة خطيئة، لكنه ليس بمقصود لذاته، المشي ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو وسيلة إلى المقصود، وهي الصلاة أو الحج أو الجهاد، أو صلة الرحم، أو ما أشبه ذلك، ولذا لو أن إنساناً مشى، قال: أنا أريد أن أصل الميقات وأرجع، يؤجر على هذا المشي؟ لا يؤجر عليه، أو يصل إلى باب المسجد ويرجع، ما له أجر، إنما الأجر من أجل أن يصلي، ولو قال: أذهب إلى الطريق الأبعد لتكثر الخطى، فاستدار على الحي ثم دخل المسجد، نقول: ليس لك من الأجر إلا بقدر ما يوصلك إلى المسجد؛ لأن المشي ليس بمقصود لذاته، فالقدر الزائد عليه ليس بشرعي، كونه يمشي من أجل المحافظة على صحته، أو المحافظة على زونه كما يقولون، هذا أمر آخر، لكن المقصود المشي الذي يرتب عليه الثواب، إذا كان تابع لعبادة له أجر، إذا كانت العبادة ليست بحاجة إلى هذا المشي فإنه لا أجر فيه، هذه نذرت أن تمشي إلى بيت الله حافية، يختلف أهل العلم في الحج ماشياً أو راكباً، أيهما أفضل؟ من نظر إلى حجه -عليه الصلاة والسلام- قال: الركوب أفضل؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- حج راكباً، ومن نظر إلى تقديم المشي {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} [(239) سورة البقرة] فقدم المشي على الركوب، رجح المشي على الركوب، لكن ما في هذا الحديث "نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية" حافية غير منتعلة، ولا لبست الخف، هذا تعذيب من تعذيب الإنسان لنفسه، والله -جل وعلا- عن هذا غني، والله -جل وعلا- لا يصنع بشقاء أختك شيئاً.(104/10)
أيضاً نذرت أن تمشي حافية حاسرة عن رأسها، هذه معصية لا يجوز الوفاء به، ولذا قال: "فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستفتيته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لتمش ولتركب)) " يعني تمشي أحياناً، وتركب أحياناً، وماذا عما لو ركبت الطريق كله، وقد نذرت أن تمشي مع قدرتها على المشي؟ المراوحة بين الركوب والمشي، يعني كونها تمشي بعض الطريق، قد يقال: إنها وفت بنذرها، نذرت أن تمشي ومشت، لكن الغاية إلى بيت الله، فالمشي إلى بيت الله، فاللفظ لا يتحقق إلا أن يكون المشي من بيتها إلى بيت الله، هنا قال: ((فلتمش ولتركب)) ومن غير نذر الراكب قد يحتاج إلى المشي؛ لأن طول الركوب ممل حتى على السيارات المريحة، والمراكب الفخمة، تجد الإنسان أحياناً يقف ويمشي خطوات يرتاح من كثرة الجلوس.
قال: " ((لتمش ولتركب)) متفق عليه، واللفظ لمسلم، ولأحمد والأربعة فقال: ((إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً)) " الله -جل وعلا- غني عن أن يعذب الإنسان نفسه.(104/11)
كلف الجن والإنس بعبادته، ومعلوم أن التكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة أحياناً، وإن كان الدين يسر، لكن فيه تكاليف، فيه ما لا تهواه النفوس، حفت الجنة بالمكاره، لكن هل هذا لأن الله بحاجة إلى صلاة المرء أو إلى صيامه، أو إلى قيامه، أو إلى جهاده، ليس بحاجة، وإنما هو من أجل مصلحة الإنسان نفسه، العبادات والتكاليف إنما شرعت من أجل الإنسان نفسه ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً)) والعكس ((ما نقص من ملكي شيئاً)) لكن هذه التكاليف .. ؛ لأنه قد يقول قائل: هذا الرسول -عليه الصلاة والسلام- قام حتى تفطرت قدماه، ألا يمكن أن يقول قائل: إن الله عن تعذيب الرسول نفسه لغني؟ يمكن أن يقال، لكن هذه تكاليف، هذه لها أصول شرعية، مأمور بها، ما تدخل في مثل هذا الذي ابتدعه الإنسان من تلقاء نفسه، ونجد بعض المبتدعة يخرجون عما حده الله، وعما شرعه، يتعدون ما أوجب الله عليهم، الله -جل وعلا- عن تعذيبهم أنفسهم غني، لكن الذي له أصل في الشرع ما يقال فيه مثل هذا، وإن كان فيه مشقة على النفس، وهذه المشقة في الظاهر، وعند من لم يعتد هذا الأمر، وإلا فالرسول -عليه الصلاة والسلام- يرتاح بهذه الصلاة التي تفطرت قدماه فيها، وهي في الحقيقة ليست بمشقة ولا كلفة، والدين يسر، وهو يتلذذ بمثل هذا الفعل.
صيام الهواجر الأيام الشديدة الحر، يعني من الناحية النظرية الإنسان الذي لم يعتد مثل هذا الأمر يقول: كيف؟ هذا تعذيب، انتظر يا أخي حتى يعتدل الجو، لكنه يتلذذ بهذا، وكم من شخص من سلف هذه الأمة بكى عند موته، ما الذي أبكاه؟ لأنه أفقد المال والأهل؟ لا، يبكي على صيام الهواجر، وقيام الليالي الشاتية، هل نقول: هذا تعذيب؟ أبداً؛ لأن هذا مشروع جاء الشرع به، لكن ما لم يأت به شرع، ويكلف الإنسان هذا الله -جل وعلا- عن تعذيب الإنسان نفسه لغني.(104/12)
"ولأحمد والأربعة فقال: ((إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً، مرها فلتختمر)) " يعني تغطي رأسها ووجهها؛ لأن هذا نذر معصية " ((مرها فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام)) " لأنها نذرت نذراً فيه معصية، وكفارته حينئذٍ كفارة يمين على ما تقدم في كلام ابن عباس، فلم تستطع الوفاء، أو لم تستطع حكماً، هي تستطيع فعلاً أن تمشي، وتمشي حافية وغير مختمرة، بالنسبة للفعل تستطيع، لكنها حكماً ممنوعة من مثل هذا، فالاستطاعة ليست بالنظر إليها وإلى قدرتها، وإنما هي بالنسبة إلى الحكم الشرعي، فالممنوع شرعاً حكمه حكم الممنوع حساً، ولذا في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((صل فإنك لم تصل)) قد يقول: إنه صلى ركع وسجد وقام وقعد ((فإنك لم تصل)) يعني ما فعلت شيء، قد يقول قائل: إن صورة الصلاة موجودة، لكن المقصود الصلاة المعتبرة شرعاً، ومثل هذه الصلاة يصح نفيها؛ لأن وجودها كعدمها، وقدرتها واستطاعتها هنا وجودها مثل عدمها؛ لأنها ممنوعة شرعاً.
((لتصم ثلاثة أيام)) إذا قلنا كفارة يمين، فكفارة اليمين فيها تخيير وترتيب، تخيير في الخصال الثلاث، ثم ترتيب مع الصيام، إذا لم تستطع تصوم، ولعله عرف من حالها أنها لا تستطيع العتق ولا الإطعام ولا الكسوة فأمرها بالصيام ((لتصم ثلاثة أيام)) على أن هذه الرواية حسنها الترمذي، وهي عند الإمام أحمد والأربعة أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، لكن حسنها الترمذي، وفي تحسين الترمذي كلام لأهل العلم، قد ينازع فيه.
جاء في بعض الروايات، قال: ((فلتركب ولتهدي بدنة)) والرواية سندها جيد عند أبي داود، لكن الإمام البخاري قال: "لا يصح في حديث عقبة بن عامر الأمر بالإهداء" "لا يصح في حديث عقبة بن عامر الأمر بالإهداء".
"وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-" ...
ولذا رواية الصحيح ما فيها شيء لا صيام ولا إهداء.(104/13)
"وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: استفتى سعد بن عبادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه، فقال: ((اقضه عنها)) " سعد بن عبادة أمه ماتت وقد نذرت أن تتصدق، بعض الروايات: أن تعتق، فأمره أن يقضي هذا النذر، ومثله لو كان المنذور صوماً ((من مات وعليه صوم صام عنه وليه)) ومثله الصدقة كما هنا، سواءً كانت بالمال أو بالعتق.
((اقضه عنها)) هذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب، فهل يجب على ولي الميت أن يصوم عن ميته الذي عليه نذر صيام؟ أولاً: المرجح أن هذا في صوم النذر، لا فيما أوجب الله عليه، هو الذي رجحه شيخ الإسلام وابن القيم كما جاء في بعض رواياته: ((من مات وعليه صوم صام عنه وليه)) ولا يصام عن الميت الصيام الذي وجب في أصل الشرع، وإنما يصام عنه إذا ألزم نفسه به بنذر على ما تقدم، في كتاب الصيام.
((اقضه عنها)) هذا أمر والأصل في الأمر الوجوب، وبعض أهل العلم يحمله على الاستحباب؛ لأن هذا السائل محسن فكيف يلزم بغير لازم؟ ومنهم من يفرق بينما إذا كان للميت الذي نذر أن يتصدق أو يصوم إن كانت له تركة يمكن أن يتصدق منها، فإنه يلزم الوفاء، وإلا يبقى على الاستحباب، إن صام عنه وليه أجر، وسقط عنه عن ميته ما التزمه على نفسه، وإلا لا تزر وازرة وزر أخرى.
قال: "وعن ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه- قال: نذر رجل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأله" هل ينحر في هذا المكان المعين أم لا؟ فسأله النبي -عليه الصلاة والسلام-، في هذا ما يدل على أن المفتي عليه أن يستفصل من السائل، عليه أن يستفصل، ويتثبت من السائل قبل الجواب "فسأله: فقال: ((هل كان فيها وثن يعبد؟ )) " هل كان في السابق ما يلزم أن يكون الآن ((هل كان فيها وثن يعبد؟ )) والوثن أعم من الصنم، يعني سواءً كان مصوراً أو غير مصور، الشجر أوثان، القبور أوثان ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)).(104/14)
" ((هل كان فيها وثن يعبد؟ )) قال: لا، قال: ((فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ )) " أماكن عباداتهم واجتماعاتهم التي يجتمعون فيها اجتماعات دورية مرتبة، هذه يجب أن تزال، ولا يجوز إحياؤها بحال.
قال: ((فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ )) أنت إذا ذبحت في المكان الذي كان فيه وثن أحييت ذكرى هذا المكان، إذا كان فيها محل يجتمع فيه الكفار من أي طائفة تكون، وذبحت فيه أحييت ذكرى ما كانوا يفعلونه، ((فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ )) يترددون على هذا المكان في وقت معين على نمط معين، هذا هو العيد، لا يجوز أن تحيا مثل هذه الأماكن، وأحياؤها مساهمة في إعادة الوثنية من جديد.
" ((هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ )) فقال: لا، فقال: ((أوف بنذرك)) " يعني بعد أن تأكد أنه ليس هناك ما يمت إلى الجاهلية وإلى أهلها بأدنى صلة ((أوف بنذرك)) الآن تأكدنا أنه ما في إشكال.
((أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا في قطيعة رحم)) وقطيعة الرحم من المعصية، لكن التنصيص عليها إذا حلف ألا يدخل بيت أمه أو بيت والده، أو بيت أخيه، أو نذر ألا يفعل، فإنه لا يجوز له الوفاء بهذا النذر، والتنصيص على قطعية الرحم لأهميتها، من باب عطف الخاص على العام؛ للاهتمام بشأن الخاص، والعناية به، وإلا يدخل في المعصية، من أعظم المعاصي قطيعة الرحم.
((ولا فيما لا يملك ابن آدم)) نذر أن يعتق عبد فلان، هذا لا يملكه، فلا يجوز لا يستطيع الوفاء به، وحينئذٍ نذره إما أن يلغى باعتبار أنه لم ينعقد على قول، أو أنه يكفر عن هذا النذر كفارة يمين على ما تقدم.
" ((ولا فيما لا يملك ابن آدم)) رواه أبو داود والطبراني، واللفظ له، وهو صحيح الإسناد، وله شاهد من حديث كردم عند الإمام أحمد".(104/15)
قالوا كما في رواية أبي داود: إن هذا له سبب، أن هذا الذي نذر، نذر إن ولد له ولد ذكر أن ينحر إبلاً في ذلك المكان، لكن لو ذبح في غير هذا المكان، مع قدرته أن يصل إلى ذلك المكان، هذا المكان لا يخلو إما أن يتطلب شد رحل وسفر أو لا، والذبح عبادة، تقرب إلى الله -جل وعلا-، كالصلاة، فإن كان يحتاج إلى شد رحل فلا يجوز حينئذٍ أن يشد الرحل إلا لو نذر أن يذبح بمكة مثلاً، أو بالمدينة، أو التي تشد إليها الرحال، أو نذر أن يصلي في كذا أو كذا على ما سيأتي في الحديث الذي يليه.
قال: "وعن جابر -رضي الله عنه- أن رجلاً قال يوم الفتح: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، فقال: ((صل ها هنا)) فسأله، فقال: ((صل ها هنا)) فسأله، فقال: ((فشأنك إذاً)) " لأن بيت المقدس مما يجوز شد الرحل إليه، لكن إذا نذر أن يصلي في مكان غير المساجد الثلاثة فإنه يصلي في أي مكان، في مكانه ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) إذا نذر أن يصلي في المسجد الحرام لا بديل له، لا بد أن يصلي في المسجد الحرام، نذر أن يصلي في المسجد النبوي عليه أن يصلي في المسجد النبوي، أو في المسجد الحرام؛ لأنه أفضل منه، وإذا نذر أن يصلي في بيت المقدس كما هنا يصلي في المسجد الحرام أو في المسجد النبوي؛ لأنهما أفضل منه.
"فسأله" هذا مصر إلا أن يذهب إلى بيت المقدس ((شأنك إذاً)) لأن بيت المقدس مما يجوز شد الرحل إليه، ((فشأنك إذاً)) (إذاً) هذه تنوين وإلا نون؟ هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
ويش يقولون؟
طالب:. . . . . . . . .
النطق واحد، لكن كيف تكتب بنون؟ حينئذٍ تكتبها بنون وإلا بكسرتين؟ هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
تنوين، ((فشأنك إذاً)) نون وإلا تنوين؟ ويش عندكم مكتوب تنوين وإلا نون؟
طالب:. . . . . . . . .
نسختك ويش فيها؟
طالب:. . . . . . . . .
وأنت؟
طالب:. . . . . . . . .
نون ساكنة عندنا كذا.
المبرد يقول: وددت أن أكوي يد من يكتب (إذاً) بالنون، أو (حينئذٍ) أو (وقتئذٍ) وهنا كتبت بالنون؟ والخلاف موجود، كما قال الإخوان موجود عند أئمة اللغة، هل تكتب بالنون الساكنة أو بالتنوين؟
"رواه أحمد وأبو داود، وصححه الحاكم".(104/16)
يعني مثل هذه العبارة: "وددت أن أكوي" لا شك أنه تحمس وتشدد فيما يراه، يعني مثلما قالوا: من منع أبان فهو أتان، يعني منعه من الصرف، مع أن ابن مالك الإمام المشهود له بالمعرفة والخبرة يمنعه من الصرف، هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
ويش هو؟
طالب:. . . . . . . . .
أبان، مثل عثمان، هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
أصلية وإلا زائدة؟ هل هو من الإباء أو من الإبانة؟ إيه؟
طالب:. . . . . . . . .
أبان يعني قطع، هاه؟ إذا كانت أصلية فهو مصروف، وإذا كانت زائدة فهو ممنوع من الصرف.
قال بعد ذلك: "وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي هذا)) " عندكم ((هذا)) وإلا ما فيه؟ هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي هذا)) " الإشارة هذه إلى مسجده -عليه الصلاة والسلام- في وقته، ومن يمنع إلحاق المزيد في المسجد في فضل المسجد، ومضاعفة المسجد يستند إلى الإشارة، حينما أشار: ((مسجدي هذا)) فعلى هذا التوسعة القديمة والجديدة بعد عصره -عليه الصلاة والسلام- ليس حكمها حكم المسجد؛ لوجود هذه الإشارة، لذلك وجودها مؤثر، هذا الذي جعلني أقول: هل هي موجودة عندكم وإلا غير موجودة؟ هي في الأصل موجودة، واستدل بها أهل العلم على هذا، لكن الأكثر على أن المزيد في حكم الأصل، وأن المضاعفة كما هي في الأصل في مسجده -عليه الصلاة والسلام- فيما أضيف إليه؛ لأن الحكم واحد.
هذا الحديث تقدم، سبق شرحه في باب الاعتكاف، وإيراده هنا من قبل المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما لو نذر أن يصلي في أي مسجد أي بقعة هل يلزمه الوفاء؟ بل هل يجوز له أن يشد الرحل ليتمم، ويأتي بما نذر به، أو أنه لا يجوز له أن يشد الرحل إلى أي مكان كان إلا إلى المساجد الثلاثة المذكورة.(104/17)
((إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام)) بعض الناس يرغب في المضاعفات الموجودة في المسجد الحرام، ويرى رأي جمهور أهل العلم في أن المضاعفة في مكة كلها، الحرم كله حرم، بحدوده المعروفة، ولا تختص المضاعفة بالمسجد، ثم يقول: أنا أريد أن أذهب إلى مكة لأصلي في مسجد بطرف مكة، لكنه في الحرم، ويشد الرحل لا إلى المسجد نفسه، وإنما يقول: مكة كلها مسجد، والمضاعفة موجودة على قول الجمهور، يجوز له أن يشد الرحل إلى أي مسجد غير المسجد الحرام في مكة؟ التنصيص مسجد الحرام، يعني على الخلاف، من يرى أن الحرم كله مسجد {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} [(217) سورة البقرة] يعني إخراج المسلمين من قبل الكفار هل حصل من المسجد أو من مكة؟ من مكة، فالجمهور على أن مكة كلها مسجد، والمضاعفة موجودة، وعلى هذا يشد الرحل إلى أي مسجد في مكة، ومن خص ذلك بالمسجد، مسجد الكعبة قال: لا يجوز له أن يشد الرحل إلا إلى المسجد نفسه.
مسجد الأقصى ((مسجد الأقصى، ومسجدي هذا)) هذا ترتيب بالواو، العطف بالواو لا يقتضي الترتيب، وإلا فمسجد النبي -عليه الصلاة والسلام- أفضل من المسجد الأقصى، وصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، وصلاة في مسجد النبي -عليه الصلاة والسلام- بألف صلاة، وصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة، وعلى هذا لو نذر أن يصلي في المسجد الأقصى على ما تقدم له أن يصلي في المسجد النبوي، وله من باب أولى أن يصلي في المسجد الحرام، ولا عكس.(104/18)
شد الرحال إلى المشاهد والقبور وغيرها مما يحصل معها من تعظيم للمقبورين والأولياء على حد زعمهم، وصرف أنواع العبادة لهم، هذا لا يحتاج إلى كلام، وأنه هو الشرك الأكبر الذي وقعت فيه هذه الأمور، ومع الأسف أن كثير من الرحلات سواءً كانت للحج أو لغيره، جل قصدهم الذهاب إلى هذه المشاهد، يعني من خلال الاستقراء، رحلات الحج بدون .. ، إلا القليل النادر، القليل النادر اللي يهتم فيها بالأمور الشرعية، وإلا أكثرهم إلى المزارات والمشاهد والجبال، وأماكن يدعى أن فلاناً الولي مر بها، أو أن فلاناً وطئها، أو هذا الجبل فيه قدم آدم، أو فيه قدم كذا، ولا شك أن هذا من أعظم ما أوقع الناس في الشرك، -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا تقدم الكلام فيه في باب الاعتكاف، والشاهد منه أنه إذا نذر أن يصلي في أحد هذه المساجد يجوز له أن يفي بنذره، بل يلزمه إذا كان في المسجد الحرام لا بد أن يصلي في المسجد الحرام؛ لأنه لا بديل له، وأما إذا نذر أن يصلي في المسجد النبوي فله أن يصلي في المسجد الحرام لأنه أفضل.
قال بعد ذلك: "وعن عمر -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام" في الجاهلية، نذر عمر -رضي الله عنه- قبل أن يسلم أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام "قال الرسول -عليه الصلاة والسلام-: ((فأوف بنذرك)) " النذر من الكافر هل ينعقد وإلا لا ينعقد؟ ينعقد وإلا ما ينعقد؟
طالب:. . . . . . . . .
إيه ينعقد مطلق وإلا ينعقد إن أسلم؟ يعني لو أن عمر سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- قبل أن يسلم، قال: نذرت أن أعتكف، هل يقول له: أوف بنذرك حال كفره؟ لا، لكن هذه مسألة فرع من مسألة كبرى عند أهل العلم، وهي أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، لكن لا تصح منهم حال كفرهم، وهنا انعقد النذر، ولذلك قال له: ((أوف بنذرك)) لأنك مخاطب بالنذر؛ لأنه من فروع الشريعة، والآن أنت أهل لأن تفي بنذرك، فعليك أن تفي به، فقال: ((فأوف بنذرك)).(104/19)
المسألة الثانية: اعتكف ليلة، الليلة ليست محلاً للصيام، يستدل بهذا الحديث من يقول: إنه لا يلزم أن يكون الاعتكاف مقروناً بالصيام، وبهذا قال الحنابلة والشافعية، وقال غيرهم: لا يصح إلا مع الصيام، باعتبار أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يعرف عنه أنه اعتكف إلا صائماً.
طالب: أقل الاعتكاف رعاك الله.
ما يسمى اعتكاف شرعاً، يعني المكث الطويل هذا اعتكاف، لكن قول الفقهاء: "من دخل المسجد فلينو الاعتكاف ولو لحظة" هذا لا أصل له، ولا قيمة له، مجرد الجلوس العادي ينتظر صلاة هذا ليس باعتكاف، لا يطلق عليه اعتكاف لغة، فأقل ما يطلق عليه من المكث اعتكاف لزوم للمكان، لغة هذا أقل ما .. ؛ لأن هذا أمر تحديده متروك إلا من قرنه بالصيام، فقال: لا بد أن يكون يوماً من أوله إلى آخره، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
يقول: أيهما أفضل سد فرجة في الصف الأول أم الانضمام لشخص صلى منفرداً في الصف الثاني؟
يعني يدخل اثنان فأحدهما يجد فرجة في الصف الأول، والثاني يبقى فذ، فهل يصف مع صاحبه ويحسن إليه، ويترك الفرجة في الصف الأول ليسدها من يأتي؟ ((من وصل صفاً وصله الله)) لكن الإحسان إلى أخيك المسلم، وجعله يدرك الصلاة لا شك أن فيه فضل، وفيه إيثار، والإيثار عند أهل العلم بالقرب مكروه على حسب حكم هذه القربة، لكن قد يعرض للمفوق ما يجعله فائقاً، وهنا إذا آثرت أخاك، وصففت معه، وتركت الصف الأول لا شك أنك فرطت فيما رتب على سد الفرجة، وعلى الصف الأول، لكنك جبرت خاطر أخيك وصححت صلاته، فمن هذه الحيثية لو حصل مثل هذا الإيثار كان محموداً.
يقول: رأيت أن طلبة العلم يعني بعض طلبة العلم يسمح لطلابه بتقبيل يديه بدون أن يمنعهم على أن منهم من قد لا يفعل ذلك مع والديه، فأثر ذلك في نفسي، فهل فعله صحيح؟ لأني لم أرَ كبار العلماء يسمحون لطلابهم ... إلى آخره؟(104/20)
المسألة في تقبيل اليدين صح فيها ثلاثة أحاديث، وأما تقبيل الرجل فهو ضعيف، أما تقبيل اليد فقد صح فيه ثلاثة أحاديث، وكون الإنسان لا يرضى بذلك لنفسه لا يعني أنه لا يجيزه، فكونه جائز شرعاً لا يعني أنه لا بد من فعله، وكونه واقع تحقيقاً لهذا الجواز لا يعني أن من رفض ذلك أنه لا يجيزه، وعلى كل حال لو تورع الإنسان عن ذلك هذا أولى، كما أن من شيوخنا الكبار لا يرضى بتقبيل رأسه فضلاً عن يده، هذا الأمر إليه.
ما حكم دعاء ختم القرآن في الصلاة؟ وهل ينكر على من فعله؟ وهل للرجل أن يمنع أهله من حضورها؟
أنا لا أعرف أصلاً للدعاء عند ختم القرآن في صلاة ثنائية، يعني في التراويح، وإن رآه الإمام أحمد، وقال: كان أهل مكة يفعلونه، وقيل له: لو كان في الوتر؟ فقال: لا، في التراويح؛ ليكون لنا دعاءان، على كل حال هذا العبرة بما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولا أعرف ما يؤيد ذلك من السنة، لكن الحل في مثل هذا أن يجعل في الوتر، ينتهى من قراءة القرآن في الوتر، ويدعى بعد الركوع بدلاً من دعاء القنوت؛ ليوافق ختم القرآن، هذا له أصل حينئذٍ.
يقول: ادع لي أن يردني إلى دينه رداً جميلاً، وأن يزيدني علماً، وحفظاً لكتابه، واتباعاً لسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، فإن الفتن تتكالب علينا -نسأل الله السلامة والعافية-؟
هذا مطلوب لكل إنسان أن يدعو بهذا الدعاء له ولغيره.
هل يمكن الجمع في النوايا في الصلاة بالنسبة للسنن مثلاً والنوافل، وهل تجمع نية قضاء راتبة الصبح إذا أراد قضاءها في وقت الضحى، هل تجمع مع نية ركعتي الضحى؟ وهل تجمع الضحى مع نية قضاء الوتر مثلاً إذا نام عنه ليلاً وأراد قضاءه صباحاً؟ وهل تجمع نية صيام الست مثلاً مع صيام البيض؟ وجزيت خيراً.
القاعدة في مثل هذا أنه إذا اجتمع عبادتان من جنس واحد ليست إحداهما مقضية والأخرى مؤداة، ينصون على هذا، ليست إحداهما مقضية والأخرى مؤداة، فإنها تدخل الصغرى في الكبرى.
يقول: هل يجوز الدخول بالصغيرة ولو لم تبلغ إذا كانت أهلاً لأن توطأ أم أن البلوغ مشترط في جواز الوطء؟ ولماذا أخر النبي -عليه الصلاة والسلام- الدخول بعائشة حتى بلغت تسع سنين؟(104/21)
النبي -عليه الصلاة والسلام- عقد عليها وهي بنت ست سنين، ودخل بها وهي بنت تسع، ومع ذلك كانت نضوة الخلقة بعد التسع، يعني قد لا تحتمل الوطء في ذلك الوقت؛ لأنها كانت خفيفة الوزن، وهي بنت تسع سنين، وكانت صغيرة، وكانت تلعب بالأرجوحة مع البنات، وهي بنت تسع سنين، ولا يلزم من العقد، أو من الدخول الوطء، بل الأمر مرده إلى تحمل ذلك وعدمه، والعقد على الصغيرة جائز، ولو كانت دون تسع، أو دون ست، يعني مجرد العقد، وأما الوطء فمع الإطاقة إذا أطاقت ذلك وإلا فلا.
يقول: هل يشترط في اليمين الغموس أن يقتطع بها مال امرئ مسلم، أم أن الحديث فسر اليمين الغموس ببعض ... ؟
لا شك أنه إذا كان يقتطع بها مال امرئ مسلم فالأمر أعظم وأشد، وإذا كان لا يقتطع بها مال امرئ مسلم، وهو فيها كاذب فكذبه مع اليمين أشد من كذبه دون يمين، لكن لا يصل إلى حد أن يقتطع به مال امرئ مسلم.
يقول: ما أفضل الشروح لكتاب بلوغ المرام؟
البلوغ له شروح كثيرة متقدمة ومطبوعة، وشروح حديثة بعضها مطبوع، وبعضها مسموع، وسبل السلام شرح مناسب ومتوسط ومختصر، وشرح متين على طريقة أهل العلم، على طريقة أهل العلم في التصنيف وانتقاء العبارات، ويبقى أن عليه ملاحظات ما يسلم، لكن مع ذلك هو من أفضل الشروح، وأما شروح المعاصرين فهي كثيرة جداً، كل المشايخ شرحوا البلوغ، وهي موجودة بعضها مطبوع، وبعضها مسموع.
هذه تقول: كيف التدرج في علم النحو في دراسة علم النحو؟ بماذا يبدأ بعد الأجرومية؟ وبماذا ينتهي؟
يعني الطريقة المألوفة عند أهل العلم أنه يبدأ بالأجرومية ثم القطر، قطر الندى، وبعضهم يقرأ في ملحة الإعراب بدل القطر، وبعضهم في كافية ابن الحاجب، وبعضهم في المفصل للزمخشري، وهذه الكتب الثلاثة لها شأن عند أهل العلم، لكنها في بلادنا غير معروفة لا الملحة ولا الكافية، ولا المفصل للزمخشري.(104/22)
على كل حال الغاية في هذا الباب ألفية ابن مالك، فإذا قرأ الأجرومية، وحضر شرحها، وسمع وقرأ الشروح لا سيما شرح الكفراوي الذي يولد في طالب العلم ملكة إعرابية لا يترك شيئاً لا يعربه، شرح العشماوي فيه قواعد وضوابط في هذا العلم قد لا توجد عند غيره، وهو شرح مختصر، وهذان الشرحان معتمدان عند أهل العلم.
هناك شروح ميسرة ومبسطة لبعض المعاصرين، لكن هذان الشرحان لا يعدلهما شيء، ثم بعد ذلك إذا قرأ في القطر وشرحه، تأهل للنظر في الألفية، وإن ترك القطر وقرأ في كافية ابن الحاجب، لكن الخشية أن يشكل عليه شيء، فلا يجد من يحله له؛ لأن الكتاب إذا كان غير مطروق في البلد قد يعوز في فهمه بعض الجمل، أو بعض العبارات، ثم النتيجة لا يجد من يشرحه له، نعم الشروح موجودة ومتيسرة وكثيرة، والكافية صار لها حضوة عند أهل العلم، والكافيجي نسب إليها، محيي الدين الكافيجي نسب إليها؛ لأنه لزمها قراءة واقراءاً وتدريساً، فنسب إلى كافية ابن الحاجب، فلها حضور، ولها أيضاً شروح كبيرة ومطبوعة وقديمة جداً، طبع بعضها قبل مائتي سنة، من أوائل المطبوعات شروح الكافية، وكذلك الملحة للحريري، نظم سلس وسهل، ويجري على اللسان بسهولة جداً، ويقبله السمع، وهي أيضاً مشروحة من قبل الناظم نفسه الحريري، وأيضاً بحرق اليمني شرحها بشرح طيب.
هل مواقف الحرم المدني من المسجد علماً أنها. . . . . . . . .؟
ليست من المسجد، المواقف ليست من المسجد، والساحات التي فيها دورات المياه ليست من المسجد، فلا يصلى فيها إلا عند أن يضيق المسجد، وتتصل الصفوف، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(104/23)
شرح: بلوغ المرام - كتاب القضاء (1)
عبد الكريم الخضير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- في كتابه بلوغ المرام:
كتاب: القضاء
عن بريدة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقضِ به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار)) رواه الأربعة, وصححه الحاكم.
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين)) رواه أحمد والأربعة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان.
وعنه -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنكم ستحرصون على الإمارة, وستكون ندامة يوم القيامة, فنعمت المرضعة, وبئست الفاطمة)) رواه البخاري.
وعن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)) متفق عليه.
وعن أبي بكرة -رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان)) متفق عليه.
وعن علي -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فسوف تدري كيف تقضي؟ )) قال علي: فما زلت قاضياً بعد. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه, وقواه ابن المديني, وصححه ابن حبان.
وله شاهد عند الحاكم من حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-.
وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار)) متفق عليه.(105/1)
وعن جابر -رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((كيف تقدس أمة لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم؟! )) رواه ابن حبان.
وله شاهد من حديث بريدة عند البزار، وآخر من حديث أبي سعيد عند ابن ماجه.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((يدعى بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقضِ بين اثنين في عمره)) رواه ابن حبان وأخرجه البيهقي ولفظه: ((في تمرة)).
حسبك.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فيقول المصنف -رحمه الله تعالى-:
كتاب: القضاء
القضاء بالمد يطلق ويراد به ما يشارك أو ما هو بإزاء القدر، القضاء والقدر، ويطلق أيضاً ويراد به الحكم، يطلق ويراد به الفراغ من الشيء، ويطلق بإطلاقات بلغها بعضهم وأبلغها إلى عشرة، مع إمكان التداخل في بعضها.(105/2)
والقضاء هو بيان الحكم للمتخاصمين المتنازعين المختلفين مع الإلزام به، وبهذا يفترق ويختلف عن الفتوى التي هي بيان الحكم من غير إلزام، فإذا احتيج إلى الخصومة بين طرفين مع الحاجة الداعية إلى إلزام أحدهما بالحكم فهو قضاء، وإن احتيج إلى بيان الحكم لتبرأ الذمة ويخرج من العهدة مع غير إلزام له بذلك، وتتبع إلزام بشري، أما إلزام إلهي فنتيجة الفتوى أيضاً ملزمة، إذا سأل من تبرأ الذمة بتقليده من أهل العلم، وأمره بشيء لزمه اعتماد قوله، وإذا حصل له أمر من أمور دينه أو دنياه ثم سأل من أهل العلم من تبرأ الذمة بتقليده إنه لا يجوز له أن يسأل عن حكم شرعي ويقال له: يجب عليك كذا، أو يحرم عليك كذا، أو يلزمك كذا، ثم يقول: إن هذه فتوى والفتوى من غير إلزام، نقول: لا فيها إلزام من الله -جل وعلا-، لكن ما في أحد يتتبعك ويلزمك بما أفتيت به، بينما القضاء فيه إلزام؛ لأن فيه أكثر من طرف، والحق فيه لآدمي فتلزم بنتيجة القضية، أو يلزم خصمك إن كان الحق لك، بينما الفتوى في أمور الديانة في أبواب الدين، لكن ليس هناك من يتتبعك؛ لأنها في الغالب بينك وبين ربك، لكن لا يسعك أن إذا سمعت الفتوى ممن تبرأ الذمة به، وأفتاك بما يلزمك فعله، أو يلزمك تركه، أن تقول: أنا بالخيار هذه فتوى، لا، لكن المراد بالإلزام وعدم الإلزام هنا أنه في القضاء والخصومات أطراف متنازعة، فإما أن يكون الحق لك، وحينئذٍ يلزم خصمك، أو يكون الحق عليك فتلزم حينئذٍ بأداء هذا الحق، لكن لو أفتي شخص فقيل له: عليك كفارة، ما في من يتابعك ويلزمك بإخراج هذه الكفارة، لكنك إن لم تخرجها فأنت آثم، فأنت ملزم من قبل الرب -جل وعلا-، وهذا فرق بين الأمرين، هناك أمور يعتريها أو يتجاذبها وينتابها الأمران، طلق امرأته فذهب يسأل هذا الطلاق واقع أو غير واقع؟ لفظ بالطلاق، يسأل من أهل العلم، يستفتي هل يقع أو لا يقع؟ فيشرح ما وقع بالتفصيل، فيقول له: الطلاق وقع، أو يقول: الطلاق لم يقع، إن تدخلت المرأة أو ولي أمرها في ذلك فهي خصومة فيها إلزام، وإن جاء يستفتي فالمسألة بينه وبين ربه، يلزمه شرعاً أن يعمل بما أفتي به كسائر الفتاوى، لكن إذا لفظ بالطلاق قال لزوجته: أنت طالق، وفي نيته(105/3)
أن يقول لها: أنت طاهر، فسبق لسانه لم يقصد بذلك الطلاق، وإنما سبق لسانه إلى اللفظ الصريح الذي لا يحتاج إلى نية أو كناية، هذا إن وقعت فيه الخصومة بينه وبين زوجته يلزم، ويقع طلاقه؛ لأن هذا لفظ صريح لا يحتاج إلى نية، وإن لم تقع الخصومة فيدين، إذا لم ينو الطلاق سبق لسانه، أو قال أو عهدها مربوطة فقال: أنت طالق يعني من وثاق، والقرينة تدل على ذلك، فهذه الأمور قد ينتابها الأمران الفتوى والقضاء، وهناك أمور خاصة في الخصومات والأقضية، وهناك أمور في العبادات محلها الفتوى، سبق في كتاب الصلاة: ((ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا)) ورواية الأكثر: ((فأتموا)) فهل ما يدركه المصلي مع الإمام أول صلاته، وما يفوته هو آخر صلاته أو العكس بناء على الروايتين؟ وهنا نحتاج إلى معرفة معنى القضاء، من يقول: إن المراد بالقضاء في رواية: ((فاقضوا)) هو ما يقابل الأداء يقول: إن ما يدركه المصلي مع الإمام هو آخر صلاته، ثم يقضي ما فاته، في مقابل الأداء، وهذه رواية صحيحة، لكنها محمولة على رواية الأكثر كما تقدم، في قوله: ((وما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) وعلى هذا كما تقدم المرجح إن ما يدركه المصلي المسبوق مع إمامه هو أول صلاته، وما يصليه بعد سلامه، بعد سلام الإمام هو آخر صلاته، ويكون حينئذٍ القضاء والأداء بمعنى واحد هنا، المراد به إتمام ما فاته.
قال -رحمه الله تعالى-:
"عن بريدة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((القضاة ثلاثة)) " قسمة ثلاثية، والفائدة من ذكر العدد الإجمالي قبل التفصيل أنه يعين على الحفظ والاستذكار، يعني لو لم يقل: القضاة ثلاثة فقال: القضاة منهم من هو في النار، ومنهم من هو في الجنة، ما انحصرت القسمة، وقد ينسى بعض الأقسام، لكن إذا قيل: ثلاثة فعددت واحد، اثنين، فلا بد أن تراجع لتعرف الثالث كما جاء في نصوص كثيرة ((اجتنبوا السبع الموبقات)) وغير ذلك من النصوص.(105/4)
((القضاة ثلاثة)) كأنه قيل: من هم يا رسول الله؟ فقال: ((اثنان في النار، وواحد في الجنة)) هل نستطيع أن نقول: إن ثلث القضاة في الجنة، وثلثيهم في النار من خلال هذا النص؟ هذا تقسيم إجمالي، قد يكون الناجون أكثر، وقد يكونون أقل، حسب الوصف الذي علق عليه الهلاك والنجاة، ويكون في زمان أو في مكان الغالب عليهم الصلاح والاستقامة والعلم فتكون النجاة أغلب، وقد يكون العكس فيكون الهلاك أكثر.(105/5)
((اثنان في النار وواحد في الجنة)) يعني كما جاء في الحديث: ((يقول الله -جل وعلا- لآدم: أخرج بعث النار، فيقول: يا رب كم؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون)) مثل هذا لا شك أنه من نصوص الترهيب؛ لأن الإنسان لا يضمن لنفسه السلامة، وإن قلنا: إن هذه القسمة لا تدل على أن النجاة أغلب أو الهلاك أغلب، إنما على الإنسان أن ينظر في هذه الأوصاف التي علق عليها النجاة وعلق عليها الهلاك؛ لأنه في الحديث أيضاً قال .. ، في الحديث ما يدل على أن أكثر أهل النار من يأجوج ومأجوج، وهذا أيضاً لا يجعل الإنسان يأمن من مكر الله، ويقول: يأجوج ومأجوج عددهم كبير جداً، والكفار أيضاً ملئوا المشارق والمغارب ونسبتنا بالنسبة إليهم يسيرة، فيأمن من مكر الله، على المسلم أن يكون خائفاً راجياً، وعلى كل حال النص الذي بين أيدينا ينظر فيه إلى الأوصاف، وكل قاض بحسبه، ما يقال: الآن عدد القضاة يعني عندنا على سبيل المثال ألف، منهم ستمائة وكسور هاذولا في النار هذا الكلام ليس صحيح، وإن جاء في الحديث الحصر: ((اثنان في النار وواحد في الجنة)) فالحصر حصر أوصاف لا حصر أشخاص ((اثنان في النار وواحد في الجنة)) على كل حال هذا فيه شيء من التخويف والترهيب لمن وَلي القضاء، أو وُلي القضاء ((اثنان في النار وواحد في الجنة)) كأنه قيل: من هم؟ فصّل، من هم يا رسول الله؟ عرفنا العدد الإجمالي، وعرفنا شيئاً من التفصيل، لكن لا يكفي هذا التفصيل، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، لا بد أن يعرف الحق، وتتوافر فيه شروط الصلاحية للقضاء، وأن يقضي به، لا بد أن يتوافر فيه أمران، العلم الذي يؤهله ويمكنه من النظر في القضايا على المقتضى الشرعي، ولا بد أن يقضي على ما يؤديه إليه علمه واجتهاده المعتمد على النصوص، فإذا تخلف أحد الشرطين، أحد شرطي النجاة فهو في النار، لا بد أن يكون عالماً، وأن يحكم بالحق، إن لم يكن عالماً فهو في النار ولو أصاب الحق، فإن كان جاهلاً لا تتوافر فيه الشروط، شروط الصلاحية للقضاء، الأمر الثاني: إن لم يحكم بالحق فهو في النار، ولو كان عالماً.(105/6)
قال: ((رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة)) عرف الحق فقضى به ((ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار)) عرف الحق عنده علم تتوافر فيه الأهلية للقضاء لكنه لا يقضي بالحق، هذا في النار -نسأل الله السلامة والعافية- ((ورجل لم يعرف الحق)) جاهل ((فقضى للناس على جهل فهو في النار)) الحد الذي يعرف به أن هذا الشخص يصلح وتتوفر فيه الأهلية للقضاء، أو لا يصلح وهو في هذا الباب كغيره من الأبواب، هل يصلح للإمامة أو لا يصلح؟ هل يصلح للفتوى أو لا يصلح؟ هل يصلح لأي عمل؟ لا بد فيه من أن يستفيض أمره بين أقرانه ومعارفه أنه من أهل العلم، وهل يكفي أن يؤنس من نفسه الصلاحية واكتمال الشروط؟ أولاً: بالنسبة للظروف والأحوال والبلدان تختلف، والأزمان أيضاً تختلف فما يشترط في بلد يكثر فيه العلماء قد يتساهل في بعض الشروط بالنسبة لبلد آخر دون البلد الأول في كثرة أهل العلم وتيسر أسبابه، الآن خريجو الكليات الشرعية الذين منهم ينتقى القضاة، هل مجرد حصوله على شهادة كلية شرعية يكفي في أن يكون مؤهلاً للقضاء، هذه أمارة وعلامة أنه درس هذه المقررات وهذه الكتب التي بعض من درسها يصلح لأن يكون أهلاً للفتوى وأهلاً للقضاء، وبعضهم أقل مستوى، وبعضهم مستواه رديء لا يصلح لا لهذا ولا لهذا، فلا بد أن تكون له عناية بالعلم الشرعي، الذي يؤهله للقضاء وللفتيا، كان العلماء يعرفون طلابهم من قرب ويرشحونهم إلى أن جاءت الدراسات النظامية والعلماء هم الذين يرشحون من يصلح للقضاء وللفتيا في الجهات والنواحي، وكان العلماء في السابق هم القضاة وهم المفتون، لكن لا بد من تعدد القضاة، وتعدد المفتين نظراً لكثرة الأقطار والأقاليم فتجد هذا العالم يرشح من طلابه من يصلح للقضاء ومن يصلح للفتيا ومن يصلح للتعليم، ومن يصلح لإدارة أمور الناس العامة وهكذا، الآن يحضر للكليات أعداد هائلة ويتخرجون، وكثير ممن درسهم لا يعرف من أحوالهم إلا القليل، لكن هذه الشهادات صارت قرائن يستدل بها على تحصيل شيء من العلم من خلال ما قرئ في هذه الكليات من علوم، ولا يعني أن هذا الطالب تخرج في كلية شرعية أنه يصلح للقضاء أو يصلح للإفتاء، لكنه في الجملة عنده شيء من(105/7)
العلم، فإن كانت له عناية بالعلم الشرعي، بالوحيين، وما يعين على فهم نصوص الوحيين، وعرف بذلك، واستفاض أمره بين شيوخه وأقرانه وزملائه، هذا تكونت لديه الأهلية، وإلا فكثير من الخريجين مستواهم دون المطلوب، والقضاء مزلة قدم، وكذلك الفتوى لأنها توقيع عن الله -جل وعلا-، بعضهم يقول: إن القضاء أمره أشد من الفتوى؛ لأن القضاء فيه إلزام وجاءت فيه النصوص، نعم جاءت فيه النصوص التي تحذر وتخوف من الدخول في مزلة القدم هذه، نعم الفتوى أيضاً جاء فيها ما هو نظيره أو أشد، فمن عظائم الأمور القول على الله بلا علم {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [(60) سورة الزمر] يعني لا يقول: أنا أهرب من القضاء، وأتولى الفتوى، كلاهما مزلة قدم، يعني التعليم الذي هو خيار ثالث بالنسبة لطلاب العلم باعتبار أن المعلم لديه فرصة أن يقرأ ما يريد شرحه قبل الحضور، ويراجع في المسائل التي يريد تقريرها، أمره أخف، لكنه بمثابة القاضي بالنسبة للعدل بين الطلاب والتعامل معهم بالسوية وإعطائهم حقوقهم، هو بمثابة القاضي من هذه الحيثية، تجد بعض الناس يتساهل في بعض الولايات ويقول: الحمد لله إحنا ما علينا تبعات، لا إحنا قضاة ولا مفتين، عليك تبعات، وليت هذا الأمر للمسلمين وائتمنت عليه، فلا بد أن تبرأ من عهدته بيقين، وكم من واحد ممن دخل في هذه الولايات التي يظن أن أمرها يسير والنتيجة أنه يأكل حرام، لا يؤدي ما أؤتمن عليه كما يجب، لا يوفي حق من ولي عليهم كما ينبغي، هذه النصوص التي جاءت في القضاء، والتي جاءت في القول على الله بلا علم شديدة جداً، لكن أيضاً المرافق الأخرى هي ولايات وتدخل في ((نعم المرضعة، وبئست الفاطمة)) على ما سيأتي.(105/8)
((رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق ولم يقض به وجار في حكمه فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار)) القسمة كما في الحديث ثلاثية، ألا يمكن أن تزاد هذه القسمة برابع، رجل عرف الحق قضى به أو لم يقض به، هذان اثنان، ورجل جهل الحق قضى بالحق أو قضى بالجهل، يعني وافق الحق أو خالف، يمكن أن يوافق على قسمة رباعية؟ أو نقول: إن الجاهل قسم واحد سواء وافق أو خالف؟ فموافقته لا تعفيه من الإثم؛ لأن بعض الناس يُسأل عن مسألة فلا يتورع فيفتي بغير علم، ثم بعد ذلك يذهب إلى المراجع فيبحث في هذه المسألة، فإذا وجد أنه أصاب الحق فرح فرحاً شديداً، وظن أنه برئ من العهدة، نقول: لا يبرأ من العهدة، هذا حاصل، يُسأل عن مسألة فتجده يجيب فوراً من غير علم مجاملة لمن سأله، أو يخشى أن يقال: ليس عنده علم فلا يتورع، وهذا حال كثير من طلاب العلم، ثم إذا انتهى من الجواب ندم، ولات ساعة مندم، نعم الندم توبة، لكن لا يعفيه هذا من أن يرتكب مثل هذا الأمر، يذهب للمراجع فإذا وجد قوله وافق القول الراجح ظن أنه برئ من العهدة، لم يبرأ ... ، هو مؤاخذ على فتواه بغير علم، سواء وافق الحق وطابق القول الراجح أو لم يطابق، وهنا نقول: ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار نسأل الله العافية، يعني سواء طابق أو لم يطابق، طابق الحق أو لم يطابق، في حديث في الصحيحين وغيرهما: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من صدور الرجال، وإنما يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالماً أتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) حينما ينزع، أو يقبض العلماء يحتاج الناس إلى بعض من عنده شيء من العلم، ولو لم تتوافر فيه جميع الشروط، يعني لو لم نجد في البلد بحثنا نحتاج إلى قاضي، نحتاج إلى مفتي، فوجدنا أمثل من في البلد لا تتوافر فيه جميع الشروط، يُترك الناس بدون فتوى وبدون قضاء؟ أو نقول: يأثم الناس كلهم حيث لم يتأهل فيهم من يقوم بهذا الواجب؟ لأن القضاء والفتوى من فروض الكفايات لا بد أن يقوم به من يكفي، وعلى ولي الأمر أن يبذل جهده في تهيئة الأكفاء للفتوى والقضاء، وجميع أمور الناس، وما يهمهم،(105/9)
ويحتاجون إليه، هذه من أوجب الواجبات عليه، لكن افتُتح بلد من بلدان الكفر فاحتيج إلى قاضٍ يؤتى به من بلد آخر ليقضي بينهم، كما أرسل النبي -عليه الصلاة والسلام- علياً، وأرسل أبا موسى، وأرسل معاذ، وأرسل ... إلى الجهاد، يفتون الناس، ويقضون بينهم، في بلد من بلدان المسلمين ناءٍ، والعلم فيه عزيز، والغربة فيه مستحكمة، وإن كانوا في الأصل مسلمين، يعني جاءنا من الأقطار ومن الآفاق من هو مفتٍ، أو نائب مفتٍ، تجد أولويات العلوم يفتقدونها، لكن هم أمثل القوم بالنسبة لقومهم، فينظر في هذا الأمثل فالأمثل، إذا كانت الذمة تبرأ بمن دونه بمن دون الأمثل تجوز ولاية المفضول مع وجود الفاضل، هذا ما في إشكال، لكن إذا كان هذا الدون لا يكفي تعيّن على الأمثل أن يقضي بين الناس، وأن يفتي الناس، هذا الأمثل الذي يؤنس من نفسه الأهلية للفتوى والقضاء يتعين عليه ويأثم إذا رفض، لكن إذا لم يطلب منه، ويرى أن هذا الشخص الذي اتجهت إليه الأنظار لا تبرأ الذمة به، هل عليه أن يطلب؟ وليس له أن يرفض إذا طلب، لا يجوز له أن يتخلف، لكن إذا لم يُطلب ويعرف هذا الشخص الذي اتجهت إليه الأنظار لا تبرأ الذمة به، ويحصل بسبب توليه الفتوى أو القضاء الضلال والإضلال، بعضهم يقول: يتعين عليه أن يخبر عن نفسه، ولا تبرأ ذمته بمجرد السكوت، ولا يمكن أن تطلب السلامة بمثل هذا، هذا قاله جمع من أهل العلم، بل عليه أن يعرض نفسه أو يُعرض، ومن هذا قول يوسف {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ} [(55) سورة يوسف] وإلا فالأصل أن الإنسان لا يعرض نفسه لهذه الأمور، لكن إن طُلب منه ولا يوجد بل تعين عليه لا يوجد غيره ممن يقوم بهذا الأمر وتعين عليه لا يجوز له أن يتخلف، الآن النصوص التي جاءت في هذا الباب من التحذير من الدخول في الولايات ((يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة)) ((القضاة ثلاثة)) و ((من تولى القضاء فقد ذبح بغير سكين)) وغير ذلك من النصوص، هذه النصوص لا شك أن فيها التحذير من القضاء، فإذا تعين على الإنسان فلا يجوز أن يتخلف، ومن باب ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) قد يتورع الإنسان عن القضاء، وقد فعله كثير من السلف، طُلب مالك للقضاء رفض،(105/10)
طلب أبو حنيفة للقضاء فرفض وضرب وحبس، وجمع من السلف اختفوا هربوا لما طلبوا للقضاء، هذا ما يفعله الإنسان بالنسبة لنفسه، لكن لو استشاره شخص، وقال: عُرض علي القضاء، أو اخترت للقضاء كما يفعلون الآن ماذا يقول؟ هل يقول: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) وأنا لا أريد الدخول ولا أحبه لنفسي فلا أنصحك، يقول لكل من استشاره: لا أنصحك بالقضاء؟ يعني من باب: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) أو يقول: توكل على الله وأقبل وإذا لم تقبل من أين يؤتى لنا بالقضاة؟ كيف يعطل هذا الأمر، وهذا المرفق العظيم؟ وهل هذا يخالف الحديث؟ المشورة تنبني على صلاحية المستشير وعدم صلاحيته، فإن كان صالحاً للقضاء فالمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة فيشار عليه بأن يقبل، وإن كان غير صالح فيشار عليه أن لا يقبل؛ لأن مثل هذا يعتريه ما يعتريه، لو جاءك شخص يستشيرك قال: إنه اختير للقضاء فهل تشير عليه بما تحب لنفسك من السلامة والعافية التي لا يعدلها شيء؟ أو تقول: أقبل القضاء، وإذا لم تقبل أنت والثاني والثالث من زملائك ونظرائك فمن أين يؤتى للمسلمين بمن يحل مشاكلهم وخصوماتهم؟ نقول: المصلحة العامة مقدمة على الخاصة، وأنت حينئذٍ لم تخالف الحديث ((حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) لأنك قدمت، نعم ارتكبت ما ارتكبت من شيء من المخالفة، لكنه في سبيل تحصيل مصلحة عليا، وارتكبت ضرراً لكنه في مقابل ضرر أعظم منه، ارتكاب أخف الضررين أمر مقرر في الشرع، وطلب أعلى المصلحتين أمر مقرر أيضاً، فالمصالح العامة مقدمة على الخاصة.(105/11)
متى يتأهل الشخص في القضاء؟ يتأهل إذا عرف من نصوص الكتاب والسنة ما يحتاجه في هذا الباب، وعرف كيف يتعامل مع نصوص الكتاب والسنة عند التعارض؟ فلا بد من معرفة نصوص الوحيين اللازمة في هذا الباب، ومنهم من يشترط الاجتهاد المطلق في جميع أبواب الدين، لكن لو قيل بهذا لتعذر الحصول على العدد الكافي من القضاة، لكن اجتهاد في بابه وواقع الأمة يشهد بذلك، فالقضاة على مر العصور فيهم المجتهد المطلق، فيهم من علمه شمولي لجميع أبواب الدين، وفيهم من يحسن التعامل مع الخصوم في هذا الباب، ويقضي بينهم، بحكم الله -جل وعلا- على حسب اجتهاد سواء أصاب أو أخطأ بالمقدمات الشرعية المعروفة التي تترتب عليها نتائجها الشرعية، وإن كان في كثير من أبواب الدين مستواه أقل، إذا عرف علم الكتاب وعلم السنة، أو عَلَم من كتاب الله ما يحتاج إليه، وعلم من سنته ما يحتاج إليه، وعرف كيف يتعامل؟ وعرف من اللغة وعلوم الآلة ما يعينه على فهم الكتاب والسنة، وعرف كيف يقايس الأمور كما في كتاب عمر -رضي الله عنه- لأبي موسى الأشعري، وهو كتاب عظيم في هذا الباب، على كل طالب علم أن ينظر فيه، وأن ينظر في شرحه، الإمام ابن القيم -رحمه الله- في إعلام الموقعين أطال وأفاض في شرح هذا الكتاب، يستفيد، يفيد منه القضاة فوائد عظمى، هذا الكتاب المشروح في إعلام الموقعين فيما يقارب مجلدين من الكتاب، نصف الكتاب في شرح كتاب أبي موسى، كتاب عمر لأبي موسى في القضاء، وصار عنده شيء من النباهة، ومعرفة بعض الحيل التي يرتكبها بعض الناس لكسب القضايا؛ لأن الناس أحدثوا ما أحدثوا من الحيل فلا بد من أن يكون القاضي على دراية منها، لا يؤتى بشخص ولو كان من أحفظ الناس للنصوص، ومن أعلمهم، يؤتى بشخص عنده شيء من الغفلة، ولا يدري ما يدور حوله، فينصب لفض الخصومات بين الناس، بل لا بد من أن يكون نبيهاً حذراً مما يحدثه الخصوم، وكل زمان له وسائله وطرقه، ولذا احتيج في الأزمان المتأخرة إلى وجود المحامين، ويدل على ذلك الحديث اللاحق: ((إنما أنا بشر أقضي على نحو ما أسمع، وقد يكون بعضكم ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بشيء من حق أخيه)) ... إلى آخر الحديث على ما سيأتي، بعضهم يحسن عرض القضية(105/12)
أكثر من غيره، وحينئذٍ يحكم له، ولو كان غير محق، فالقاضي لا بد أن يكون نبيهاً يعرف ما يحدثه الناس من الحيل، ويعرف ما يدور حوله مما يرتكبه الناس، يعرف أيضاً شيء من اللغة، ويعرف أيضاً أقاويل الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة؛ لئلا يقضي بما يخالفهم، وينظر في الكتب التي تعينه على ذلك.
ثم قال -رحمه الله-:
"وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ومن ولي القضاء، أو ولّي القضاء فقد ذبح بغير سكين)) " ولي وولّي كلاهما مؤداه واحد، من ولّي فقد تولى " ((القضاء فقد ذبح بغير سكين)) رواه أحمد والأربعة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان" هذا أيضاً فيه تحذير؛ لأنه بمثابة القتل له، بمثابة الذبح له، وفري الأوداج، فالأمر جد خطير إذا كان بمثابة القتل، كما جاء في الحديث الآخر: ((لعن المؤمن كقتله)) وهذا الذي تولي أو ولّي القضاء حصل له هذا الأمر وهو الذبح؛ لأنه إن كان أهلاً لذلك فالتبعات عليه عظيمة في تحري الحق، وهو أمر شاق يترتب عليه في الدنيا أن يخسر نصف الناس.
إن نصف الناس أعداء لمن ... ولي القضاء هذا إن عدل
وهذا ليس بالأمر السهل على النفس، وإن كان جاهلاً ليس بأهل ولا كفؤ فخسارته أعظم؛ لأن الأول إن كان ثم خسارة فهي في الدنيا، وخسارة الثاني في الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.(105/13)
((ذبح بغير سكين)) يعني ما يحتاج إلى أن يذبح بما يفري الأوداج، وينهر الدم، هو مذبوح على كل حال، لكن لا يلزم منه أنه يموت موتاً حسياً، وإنما هو قضاء عليه بالهلاك المعنوي، وقد يكون في بعض صوره أشد من الهلاك الحسي، الهلاك المعنوي في بعض الأحوال أشد من الهلاك الحسي، ويقرر أهل العلم يعني من باب التنظير أن مسخ القلب أعظم من مسخ البدن؛ لأن مسخ البدن قد تكون عقوبة جوزي عليها في الدنيا، وكفرت به سيئاته التي أرتكبها، لكن مسخ القلب -نسأل الله السلامة والعافية-! فالذي جزاءه في الآخرة أعظم وأشد، نقول: هنا حكم عليه بالهلاك، فمن هلك في الدنيا هلك هلاكاً حسياً كما جاء في "هلك ماعز" ومع ذلك ... ، وذاك الرجل الذي جامع في رمضان قال: هلكت يا رسول الله، وماعز رجم فهلك هلاكاً حسياً، وانتهى من تبعة الذنب، لكن الذي حكم عليه بالنار، واستمر على ذلك لم يحصل منه توبة، ولم يحدث أوبة إلى أن لقي الله -جل وعلا- وهو من أهل النار، نسأل الله السلامة والعافية، هنا يقول: ((من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين)) منهم من يقول: إن هذا الذبح أشد من الذبح بالسكين لأن السكين تريح وهذا الذبح لا يريح، ومنهم من يقول: وهذا نسبوه إلى بعض من تولى القضاء فهو يهون من شأن هذا التحذير، وهذا الترهيب في هذا الحديث، يقول: ذبح ذبحاً لا يصل إلى حد الذبح بالسكين، فأمره أسهل؛ لأن غاية الذبح أن يكون بفري الأوداج وهذا بالسكين وهذا دونه، وعلى كل حال اللفظ غير مراد، وإنما المراد به الهلاك، أنه في الغالب أنه هالك، كما تقدم من أن القضاة ثلاثة، الناجي منهم واحد، والهالك اثنان.
قال -رحمه الله-:(105/14)
"وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" عنه يعني عن أبي هريرة صحابي الحديث السابق "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنكم ستحرصون على الإمارة)) " في عهد السلف صدر هذه الأمة كان الأمير يسمى عامل، وكان عاملاً لأبي بكر، عاملاً لعمر، لماذا؟ لأنها كلفة، هي مجرد تكليف، وليست بتشريف، لكن بعد ذلك بعد عهد السلف صار الأمر مع ما فيه من تكليف صار فيه شيء من التشريف، صار فيه شيء من الكسب، يعني لما ولي أبو بكر -رضي الله عنه- وبويع كان تاجراً يتعاطى التجارة، ويأكل من كسب يده، لما تولى الخلافة انقطع عن التجارة، ففرض له الصحابة أهل الحل والعقد منهم نصف شاة في اليوم، هذه أجرته له ولأهله بدل ما يتكسب، لكن هل تكفي أو أضعاف أضعاف هذا المقدار بعد ذلك حينما حرص الناس على الإمارة لأنهم يرون فيها الشرف والمال، وهذان مهلكان، وجاء في ذلك حديث: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأضر لها من حب الشرف والمال بالمسلم)) .... الشرف يحبون المال ((ستحرصون على الإمارة)) لماذا؟ لأن فيها الشرف، وفيها الرئاسة، وفيها الأمر والنهي، وفيها التسلط إذا وجد معها شيء من الظلم، وفيها المال ((إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة)) لأن الذي يؤدي ما أوجب الله عليه في هذا الباب قليل، والتبعة عظيمة، ومسئولية كبيرة أمام الله -جل وعلا-، وهو مسئول عن رعيته، ويجب عليه أن يتحسس أحوالهم، ويتتبع أخبارهم، فيرفع الظلم عن المظلومين، ويرفع الحاجة عن المحتاجين، وستكون ندامة يوم القيامة، والسلامة لا يعدلها شيء، ((فنعم المرضعة)) نعم ما دام حياً، ويرتضع من أموال بيت المال نعم المرضعة، مال ليس فيه تعب ولا كلفة ((وبئست الفاطمة)) يعني الفطام عند الموت إذا انقطعت إفادته من هذا المال الذي يأخذه بغير حقه بئست الفاطمة.(105/15)
نعم المرضعة، الدنيا وما يتعلق بها من زخرفها، وبئست الفاطمة، وذُكر فعل المدح، وأنث فعل الذم، وما يعود عليه الضمير واحد؛ لأنه مؤنث غير حقيقي، يجوز تأنيث الفعل له، ويجوز تذكيره، حينما يقولون: إذا كان المؤنث غير حقيقي تقول: طلع الشمس وطلعت الشمس، لكن إذا قلت: الشمس طلعت إذا كان الفاعل ضمير يعود إلى مؤنث سواء كان حقيقي أو مجازي على ما يقولون: يجب تأنيث الفعل له، وهنا الفاعل في الموضعين غير مذكور، فهل نقول: إنه في حكم ما تقدم ذكره فيجب التأنيث، أو نقول: هو في حكم المذكور فيجوز التأنيث والتذكير؟ ننتبه لأنهم يقولون: يجب تأنيث الفعل إذا كان الفاعل ضمير يعود إلى مؤنث مطلقاً سواء كان حقيقاً أو مجازياً، يجب تأنيث الفعل، فاطمة قامت، والشمس طلعت يجب؛ لأن الفعل ضمير يعود إلى مؤنث، بينما إذا قلت: طلعت الشمس أو طلع الشمس يجوز إذا كان المؤنث حقيقي، وفصل بينه وبين الفعل يجوز، ومن باب الندرة والشذوذ حكى سيبويه: قال فلانة، لكن الذي معنا من أي النوعين؟ هل نقول: إنه ضمير يعود إلى مؤنث فيجب التأنيث، أو نقول: إنه في حكم المذكور لأنه لم يتقدم له ذكر؟ يعني {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [(32) سورة ص] الشمس تقدم لها ذكر أو ما تقدم؟ ما تقدم لها، فهي في حكم المذكور للعلم بها، بحيث لا يمكن أن يسأل أحد، يقول: ما هي التي توارت بالحجاب؟ وهنا ((فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة)) بناء على أنه في حكم المذكور فذكر مرة وأنث أخرى؛ لأنه لو كان مذكوراً حقيقة لكان هذا حكمه، يجوز التأنيث ويجوز التذكير.
قال -رحمه الله-:(105/16)
"وعن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)) " الاجتهاد لا بد له، أو لا بد منه، في الحالين لا بد أن يجتهد، فيبذل جهده ويستفرغ وسعه؛ ليكون له في النهاية أجران مع الإصابة، أو أجر واحد مع الخطأ ((إذا حكم الحاكم)) القاضي، والأصل أن الحاكم الإمام الأعظم هو القاضي هو الذي يقضي بين الناس، لكن لما كثرت الأقاليم والنواحي، وازداد حاجة الناس إلى القضاة تعدد القضاة، فصار الحاكم والسلطان ينيب عنه من يقضي بين الناس، فإذا أجتهد هذا الحاكم سواء كان الأصل أو النائب فاجتهد، فالاجتهاد مطلوب في الحالين لا بد من أن يجتهد، ولا بد أن ينظر في القضايا بروية وتؤده، وتفكر في الأمر لا يستعجل، وتكون لديه أهلية على ما تقدم للنظر في القضايا، فإذا حصل هذا وأجتهد، ونظر ما عند المدعي، وما عند المدعى عليه، نظر ما عند المدعي من بينة، ثم نظر في البينة هل هي مما يقوم به الحكم أو لا؟ ثم تقرر عنده قبول البينة، ونظر في كلام المدعى عليه، فيبدأ بالمدعي فيسأله، يقول: أيكما المدعي؟ فإذا قال أحدهما: أنا، قال: ما عندك؟ فيدلي بدعواه ثم ينظر ما عند المدعى عليه، ثم يطلب البينة أو اليمين إن لم تك بينة، بالطريقة والوسيلة الشرعية المعروفة، إذا نظر بالطريقة الشرعية اجتهد بذل وسعه وهو أهل لذلك، أهل لهذا الاجتهاد وأجتهد النتيجة بيد الله -جل وعلا-، وهو يبذل ما عنده، ولا يكلف ما وراء ذلك من إصابة الحق في باطن الأمر، عليه أن يسعى، عليه أن يبذل، عليه أن يجتهد، عليه أن ينظر في القضايا بالطرق الشرعية، وما عدا ذلك النتائج بيد الله -جل وعلا-، وهكذا في جميع الأعمال، على الإنسان أن يبذل وسعه، ويستفرغ جهده في القضاء، في الفتوى، في التعليم، في الدعوة في غيرها، والنتائج بيد الله؛ لأنه يأتي النبي يوم القيامة وليس معه أحد هل نقول: إن هذا ما أجتهد؟ نقول: أجتهد لكن النتيجة بيد الله، يأتي النبي ومعه رجل أو رجلان وهكذا، يعني نقول: هذا فشل في دعوته؟ لا، نجح في دعوته، بذل ما بيده، وليس عليه ما وراء ذلك، الآن الحاكم أجتهد ووفق(105/17)
لإصابة الحق فله أجران، أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإذا حكم فأجتهد مثل الأول، ثم أخطأ فله أجر، قد يقول قائل: هذا له أجر وهذا له أجران، وقد يكون هذا الذي لم يصب قد بذل من الجهد أكثر ممن أصاب، والنتيجة ليست بيده، فكيف يحرم من هذا الأجر؟ والأمر ليس بيده، كلاهما نظر، وكلاهما أهل، وكلاهم أجتهد، لكن في النهاية هذا أصاب وهذا أخطأ، هذا له أجران وهذا له أجر، نقول: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، هل ظلم الذي أخطأ بخس من حقه شيء، ما بخس من حقه شيء، وترتيب الأجرين على الإصابة يجعل القضاة والحكام يجتهدون لإصابة الحق أكثر مما لو تساوى الأجر مع من لم يصب الحق، إذا رتب الأجر وسوي بين من أصاب ومن لم يصب تجد بعض القضاة مثل ما يقولون: الأجر واحد، فلا يبذل جميع ما يستطيعه من جهد ووسع؛ لأنه لا فرق بين من يصيب ومن لا يصيب، لكن جاء هنا التفريق بينهما، فالمصيب له أجران، والمخطئ له أجر واحد، من أجل أن يزيد القاضي، ويزيد الحاكم فيما يتوصل به إلى الإصابة، وفي النهاية ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، هذا وفق للإصابة، وهذا مع بذله جهده لم يوفق للإصابة فلم يحرم من الأجر، ولا بخس من حقه شيء، يعني يستدل في الحديث، وهذا ظاهر في من يشترط الاجتهاد في الحاكم والقاضي وأرباب الولايات، والاجتهاد في كل باب بحسبه، على ما تقدم، بعضهم يقول وهذا تابع لمسألة كبرى، وهي مسألة الاجتهاد والتقدير، هل يكفي في القاضي أن يكون مقلداً مجتهداً في مذهبه أو لا بد أن يكون مجتهداً في النصوص في الجملة والنظر فيها والموازنة فيها بغض النظر عن مذهب معين؟ منهم من يقول: يكفي أن يكون مجتهد مذهب، وينظر في نصوص إمامه، ويوازن ويتعامل معها مثل ما يتعامل مع النصوص، وهذا مقرر بين أرباب المذاهب، يتعاملون مع نصوص أئمتهم كالتعامل مع النصوص، نصوص الكتاب والسنة، فإذا وجدوا للإمام قولين، أو روايتين قالوا: إن أمكن الجمع بين هاتين الروايتين ولو بحمل مطلق على مقيد، أو عام على خاص تعين المصير إليه، وإلا فإن عرف المتقدم من المتأخر فقوله الآخر، وإلا فالتوقف، يقول هذا بالنسبة لنصوص الأئمة، ويشددون في أمر الاجتهاد في النصوص، ويضيقون على من أراده بشروط وقيود تجعله(105/18)
شبه مستحيل، مع أننا لو نظرنا في حقيقة الأمر لقلنا: إن هذا المجتهد في مذهبه في نصوص إمامه لو أستعمل هذا الاجتهاد في نصوص الكتاب والسنة لكان أيسر عليه، نعم إذا كان مقلد حفظ متن وصار يفتي على ضوء هذا المتن هذا أمره سهل، لكن إذا قلنا: إنه يجب عليه أن ينظر في نصوص إمامه إذا تعارضا على مقتضى النظر في النصوص الشرعية كلفناه بأشد وأكثر مما يكلف فيه من ينظر في النصوص التي هي الحكم عند الاختلاف، ولذا أهل التقليد يتعبون تعباً شديداً في فهم نصوص أئمتهم، مع أن نصوص الكتاب والسنة يعني أمرها أيسر، وهي مخدومة ولله الحمد، هناك التفاسير، هناك الشروح، هناك الكتب التي ألفت لتسهيل التعامل مع النصوص، وكلام الله واضح لمن لديه أدنى سبب للفهم وقدرة على المراجعة، كلام الله وكلام رسوله أوضح من كلام الأئمة بكثير، وما وجدت هذه التعقيدات إلا في كلام البشر، فيجعلون هذا المجتهد المقيد، نعم العامي ومن في حكمه هذا فرضه التقليد، لكن من لديه أهلية النظر في نصوص الأئمة لا شك أن لديه النظر في نصوص الكتاب والسنة، لديه أهلية النظر، ولو اتجهت همته إلى نصوص الكتاب والسنة لسهل عليه الأمر، كثير ممن يؤلف في القضاء يقول: عليه أن يكون مجتهد مذهب، يكفيه هذا أن يكون مجتهد مذهب، لكن اجتهد في مذهب إمامه هل يضمن الإصابة؟ لا يضمن الإصابة، ولا شك أن المردود إليه عند التنازع هو الكتاب والسنة، بل وجد من يحرم الاجتهاد، ويمنع الاجتهاد، ويوجب التقليد، حتى قال: ولا يجوز الخروج عن مذاهب الأئمة الأربعة ولو خالفت الكتاب والسنة وقول الصحابي، قالوا هذا الكلام نسأل الله العافية، والحديث: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد)) يعني اجتهد في الوسائل الشرعية، أجتهد في الوصول إلى الغاية الشرعية، وما عدا ذلك ليس الأمر بيده؛ لأنه إما أن يصيب وإما أن يخطئ وهو مأجور على الحالين.(105/19)
الشارح الصنعاني ذكر خطاب عمر إلى أبي موسى الأشعري، ذكره في الشرح في مقدار صفحة، ثم قال: ولأمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- في عهد عهده إلى الأشتر لما ولي مصر فيه عدة مصالح وآداب ومواعظ وحكم، وهو معروف في النهج لم أنقله لشهرته، يعني نقل كتاب عمر لأبي موسى، ولم ينقل خطاب علي للأشتر، قال: وهو معروف في النهج، يعني نهج البلاغة، يعني شهرته في تلك النواحي؛ لأن غالب السكان في عهده سكان اليمن من الهادوية زيدية، لهم عناية بما يذكر في النهج، لهم عناية في هذا الكتاب، فلا يخفى عليهم خطاب أو العهد الذي عهده علي -رضي الله عنه- للأشتر، وقد يخفي عليهم ما كتبه عمر -رضي الله عنه- إلى أبي موسى، ولا شك أن البيئات مؤثرة، ولذا قال هنا: ولأمير المؤمنين علي يقول: عليه السلام، والأولى أن يقال كغيره: رضي الله عنه وأرضاه، في عهد عهده إلى الأشتر لما ولي مصر فيه عدة مصالح وآداب ومواعظ وحكم، وهو معروف في النهج، يعني نهج البلاغة، لم أنقله لشهرته، يعني عناية تلك النواحي بعلي أكثر من عنايتهم بعمر؛ لأن غالب السكان هناك في ذلك الوقت هم من الهادوية، وهم من الزيدية، لكن الآن صاروا أقل من غيرهم، صاروا أقل من الشافعية، ومن يعتني بالكتاب والسنة من غير نظر إلى مذهب، يعني أثرت الدعوة السلفية هناك.
ثم قال -رحمه الله-:(105/20)
"وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا يحكم أحدكم)) " سواء كانت لا نافية، فنقول: لا يحكمُ، أو ناهية نقول: لا يحكمْ أحد، أحد نكرة في سباق النفي أو النهي فهي عامة، تفيد العموم ((بين اثنين وهو غضبان)) لماذا؟ لأن الغضب يحجبه عن النظر الكافي في القضية التي يترتب عليه الحكم الصحيح، النظر لا بد منه في القضية على المقتضى الشرعي، فإذا كان القاضي غضبان فإنه حينئذٍ لا يتمكن من النظر الواجب، وسواء قلنا: إن لا ناهية أو نافية فظاهر الخبر التحريم، وهو الأصل في النهي ما لم يوجد صارف، وجمهور أهل العلم حملوه على الكراهة، ونظيره الصلاة وهو يدافع الأخبثين، وهو حاقن، الجمهور على الكراهة، وحمله الظاهرية على ظاهره بالتحريم، وقالوا: إن الصلاة لا تصح، وهنا قالوا: النهي للتحريم والحكم لا يصح إذا نظر وهو غضبان، الجمهور صرفوا النهي من التحريم إلى الكراهة بالعلة، قالوا: إن النهي عاد إلى أمر خارج عن ذات المنهي عنه فلم يعد النهي إلى ذات المنهي عنه ولا إلى شرطه، ولا جزئه المؤثر كالركن، عاد إلى أمر خارج، فينظر في القضية إن أصاب وإن أخطأ، إن كان حكمه على مقتضى القواعد الشرعية فهو نافذ وإلا ينقض إذا لم يكن على مقتضى النظر الشرعي.(105/21)
ترجم الإمام البخاري لباب: هل يقضي القاضي أو يفتي المفتي وهو غضبان؟ ونقل النووي عن جماهير أهل العلم أنه للكراهة، وعلى هذا يقضي ويفتي، يقضي وهو غضبان، ويفتي وهو غضبان، وكذلك إذا وجد ما يشوش الذهن من شدة حر أو شدة برد أو جوع، وما أشبه ذلك، فإنه يكره في حقه أن يقضي، منهم من يفرق بينما إذا كان الغضب لله -جل وعلا- وبينما إذا كان الغضب لأمر من أمور الدنيا، فإذا كان غضبه لأمر من أمور الدنيا فإنه يتجه إليه النهي، وإذا كان لله -جل وعلا- فإنه لا يتجه إليه النهي؛ لأن غضبه لله -جل وعلا-، لا يحمله على عدم النظر التام في القضية، والغضب إذا وجد لا شك أنه يغطي العقل بالكلية عند بعض الناس، وعند بعضهم دون ذلك، والغضب متفاوت كما قرر في طلاق الغضبان، لا شك أن الغضب له درجات، والحامل عليه يختلف، والداعي إليه يختلف، كل ما يشوش الفكر ويشغل عن النظر التام في القضايا يدخل في هذا الحديث ((لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان)) والغضب نبه به على ما عداه مما يشوش الذهن، ولا يمكنه من النظر التام في القضايا، يعني مع الأسف وجد أمور يعني هي من بلاوي العصر أنه يوجد قاضٍ في بعض النواحي لا أقول في هذه البلاد في غيرها من البلدان يدخن مثلاً، ويقول: إنه لا يتمكن من النظر في القضايا إلا إذا دخن، هل نقول كما قالوا أفتوا في بلدانهم يعني أنه لا بد أن يدخن، ولا يجوز له أن ينظر في القضايا حتى يدخن، أصلاً مثل هذا ليس بأهل للقضاء، يعني وإن أفتاه من أفتاه بحل الدخان، أو مجرد الكراهية، لكن هذا يمنعه من النظر الصحيح، وهو في الأصل ليس بأهل للقضاء، إن أرادوا به القضاء الشرعي، وإن أرادوا به القضاء المدني على ما يقولون فالأمر يعني أعظم من ذلك، فهل لهذا القول أو لمثل هذا القول حظ من النظر؟ القاضي اعتاد التدخين وإذا أحتاجه لا يتمكن من النظر، ويفعل في أصحابه الأفاعيل، حتى إنه وجد من يبذل عرضه عند عدمه، فالمسألة مشكلاتنا من المقدمات التي هي في الأصل غير شرعية، ونريد أن نبني عليها نتائج شرعية، قاضٍ يدخن تصور، ولا يتمكن من النظر حتى يدخن عدد كافي من السجائر، أصل المقدمة غير شرعية، فكيف نرجو نتيجة شرعية؟! يعني نظيره من يسافر بامرأة(105/22)
أو بنساء من غير محارم، ثم يقول: أنا لا أستطيع أن أقف في منتصف الطريق خشية على هؤلاء النسوة لأداء صلاة الصبح فلا بد أن تؤخر صلاة الصبح خوفاً عليهم، أصل المقدمة غير شرعية فكيف تطلب نتيجة شرعية؟! مثل هذه الأمور لا بد أن تعالج المقدمات قبل النتائج، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(105/23)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: بلوغ المرام – كتاب القضاء (2)
الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا يقول: لماذا لم يورد الحافظ ابن حجر كتاب عمر في القضاء لأبي موسى الأشعري؟
أولاً: الحافظ لم يلتزم إيراد كل ما يتعلق في أحاديث الأحكام، ولذا تجدون ما في البلوغ يعادل ربع ما في المنتقى، والإلزام بغير ما يلتزم به المؤلف ليس بوارد، والإلزامات التي ذكرها الدارقطني من إلزام البخاري ومسلم أحاديث لم يخرجاها في كتابيهما، مع أن شروطهما تتفق، ومتوافرة في هذه الأحاديث، نقول كما قلنا هنا: إن الحافظ لم يلتزم في إيراد جميع أحاديث الأحكام وما يتعلق بها، وكذلك البخاري ومسلم لم يلتزما إيراد كل ما صح، فالاختيار متروك للمؤلف.
ذكر الفقهاء ضمن الشروط بالنسبة للقاضي: أن يكون القاضي بصيراً، وعللوا ذلك لكي يرى المدعي والمدعى عليه، فهل معنى ذلك أن الأعمى لا يصلح للقضاء؟
لا شك أنه شرط كمال، هو شرط كمال، وليس بشرط صحة، فكما هو الشأن في الإمارة، هم اشترطوه في الإمامة العظمى والولايات العامة، لكن مع ذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- استخلف ابن أم مكتوم مراراً على المدينة، مما يدل على أن ولايته صحيحة، وإمامة الأعمى سبق الكلام فيها حتى من أهل العلم من يقول: إن الأعمى أولى بالإمامة من المبصر، ومنهم من يرى أن المبصر ألوى بالإمامة من الأعمى، وكل له حجته، وكلها علل، وليس فيها نص، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مراراً، وعلى هذا فالأعمى لا خدش في إمامته، ولا في إمارته، ولا في قضائه، وعلى مر التاريخ تولى القضاء كثير من العميان، إلى عصرنا الحاضر، وكثير منهم متميز في قضائه، بل أكثر المتميزين من العميان، لكنه شرط كمال؛ لأن النظر في ملامح الوجوه، يعني إذا استوى من كل وجه الأعمى والمبصر المبصر أولى، إذا استوى من كل وجه، لكن قد يكون في الأعمى من الصفات ما يميزه على كثير من المبصرين، وحينئذٍ يرجح عليهم.
هذا يقول: أنا طالب في كلية الشريعة، وأخشى إن تخرجت أن أختار للقضاء، فما هي نصيحتكم لي؟(106/1)
على كل حال إذا كنت تعلم من نفسك، وتؤمن من نفسك الكفاءة والأهلية فلا تتأخر، أما إذا كنت تعرف من نفسك ما لا يعرفه غيرك من عدم الكفاءة؛ لأن اللجان التي تختار للقضاء يعملون على الظاهر، يعاملون الناس على الظاهر، ويتحرون في الاختيار، لكن مع ذلك قد يختارون مفضول، ويتركون من هو أفضل منه؛ لأنهم ليسوا بمعصومين، وبعض الناس يجيد حسن التعامل في الظاهر، وإن كان عنده في الباطن ما قد يكون خادشاً في هذا الاختيار.
وهنا يقول: من المعلوم أن القضاء عندنا إلزامي؟
نعم لولي الأمر ومن ينوب عنه أن يلزم من يرى فيه الأهلية، له أن يلزم من يرى فيه الأهلية.
يقول: القضاء عندنا إلزامي، ويتم تعليق اسمه في وزارة الخدمة المدنية، فلا يستطيع التقديم في أي وظيفة؟
يعني هذا من باب الإلزام، من تمام الإلزام؛ لأنه لو ترك له الاختيار والتقديم إلى جهة أخرى، ويتم قبوله في تلك الجهة ما صار للإلزام معنى.
فما الحكم فيمن لا يرى في نفسه الصلاحية للقضاء؟
إذا كان لا يرى بالفعل؛ لأن بعض الناس قد يخيل له أنه لا يصلح، وقد يتواضع ويهضم نفسه فيرى أنه لا يصلح، وهو في الحقيقة صالح، فإذا شهد له أهل الخبرة واستفاض بين زملائه أنه صالح تكفي هذه الاستفاضة.
يقول: علماً بأن هناك في بعض الحالات ممن رفضوا القضاء جلسوا عاطلين عن العمل لمدة سنوات.
وهذا أيضاً من تمام الإلزام، ولو لم يجلسوا عاطلين لما تم الإلزام.
هذا يقول: في نسختي: ((فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة)) تحقيق الشيخ طارق عوض الله، فهل لفظة (فنعمت) صحيحة؟
الشراح نصوا على التغاير، ووجهوا هذا التغاير بين (نعم وبئس) مما يدل على أن الأصول كذلك، والشيخ طارق من أهل العناية وأهل التجويد، وأهل التحري في التحقيق، لكنه لا سيما في سبل السلام في طبعته أخطاء كثيرة، يعني مرت بنا أخطاء ما يمكن أن تمشي على مثله، فلعله مع كثرة أعماله العلمية، وكل متابعة العمل في هذا الكتاب إلى غيره، وإلا فالمعروف عنه أنه من أهل التحري والتثبت.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(106/2)
يعني في الحديث السابق: ((لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان)) ماذا عن تولية من عرف بشدة الغضب، أو سرعة الغضب في هذا المرفق العظيم؟
عرفنا أنه في الحديث السابق إذا حكم الحاكم فاجتهد أن الاجتهاد مطلوب للقاضي، وهو قيد وجودي، ونأخذ من هذا الحديث: ((لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان)) أن الغضب مطلوب عدمه، فلا يصل للقضاء من هو سريع الغضب، أو شديد الغضب، وكل شيء يثيره؛ لأن هذا يؤثر في نظره في القضايا، ومن ثم على أحكام هذه القضايا، والغضب خصلة مذمومة، ووصية النبي -عليه الصلاة والسلام- لمن استوصاه قال له: ((لا تغضب)) وكررها مراراً، لكن قد يقول بعض الناس: أنا مجبول على هذا، فما الحيلة؟ نقول: كما أن العلم بالتعلم كذلك الحلم بالتحلم، إذا وطنت نفسك على التحلم صرت حليماً؛ لأن هذه الملكات وهذه الغرائز منها ما هو غريزي، جبلي، جبل عليه الإنسان، ومنها ما هو مكتسب، فإذا فات الغريزي الجبلي من أصل الخلقة إذا فات هذا لا يفوت الثاني المكتسب، وهو الذي فيه المدح والذم؛ لأن مناط المدح والذم في الأفعال الاختيارية التي للإنسان أن يفعل، وله أن يترك، أما الأفعال الإجبارية فإنها ليست بمناط للذم ولا للمدح.
قال -رحمه الله-: "وعن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر)) " الآخَر الذي هو الثاني، والآخِر الذي هو الأخير مقابل للأول، فلو قلت: حتى تسمع كلام الآخَر أو الآخِر المعنى واضح، ولا فرق بينهما هنا.
يفرقون في التقويم فيقولون مثلاً: جمادى الآخرة، وربيع الثاني أليس كذلك؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
لماذا؟ والعادة أن الثاني إذا كان هناك ثالث، وإذا لم يكن هناك ثالث قالوا: الآخر، يعني أول وآخر، كما في المقابلة في الأسماء الحسنى {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [(3) سورة الحديد].
ربيع الأول ربيع الثاني، جمادى الأولى جمادى الآخرة، لماذا فرقوا بينهما؟ هل في ربيع ثالث؟ أو نقول: هو مجرد تفنن؟ الجواب؟ في جواب؟
طالب:. . . . . . . . .
نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
. . . . . . . . . أصل؟
طالب:. . . . . . . . .
أيوه؟
طالب:. . . . . . . . .(106/3)
يعني لوقوعه في آخر فصل الشتاء؟ هذا ليس بمطرد، يعني جمادى الآخرة الماضي في فصل الشتاء أو في عز الصيف؟ في شدة الصيف اللي يظهر أنه مجرد تفنن، يعني لئلا يكثر الثاني الثاني، الآخر الآخر، مجرد تفنن في العبارة، والمعنى واضح.
((إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر)) لا يجوز للقاضي أن يحكم لأحد الخصمين بمجرد سماع كلامه؛ لأنه قد يكون عند الثاني ما يدفع الدعوى، فإذا سمع كلام المدعي، وسمع كلام المدعى عليه، إن اعترف فلا يحتاج إلى بينة، إن أنكر طلبت البينة من المدعي، إذا كانت البينة مقنعة مرضية يثبت بها الحق حكم بها، وإن كانت البينة غير مقنعة ووجودها مثل عدمها فإنه يتجه إلى المدعى عليه، ويطلب منه اليمين؛ لأن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر.
ثم بعد ذلك إن نكل المدعى عليه عن اليمين إذا قال المدعي: ليست لي بينة، عاد القاضي إلى المدعى عليه وطلب منه اليمين، إن نكل هل يقضى عليه بالنكول، ويحكم عليه بلزوم الحق وثبوته؟ أو يقال له: تقبل يمين المدعي؟ وهذا ما يعرف برد اليمين.
ومالك -رحمه الله- قال: إنه لا يعلم أحد قال برد اليمين على المدعي، مع أن ممن قال به قضاة عصره ابن أبي ليلى وابن شبرمة، فالمسألة خلافية هل يحكم عليه بمجرد النكول، أو تطلب اليمين من المدعي فترد عليه؟ مسألة خلافية بين أهل العلم.
إن سكت المدعى عليه قال له: ماذا تقول؟ سكت، هل يحكم عليه بمجرد هذا السكوت، أو ذكر شيئاً مثل السكوت، قال: لا أعترف ولا أنكر، منهم من يقول: يحكم عليه كما يحكم على الغائب، ومنهم من يقول: يحبس حتى يعترف أو ينكر.
الحكم على الغائب مسألة خلافية بين أهل العلم فأبو حنيفة يقول: لا يحكم عليه مطلقاً حتى يحضر، طيب، لكن بعض المدعى عليهم قد يتخذ الغياب ذريعة لضياع الحق، فيختفي، أو يسافر إلى بلد لا يمكن إحضاره منه، ولا يمكن استخلاف من قاضٍ إلى قاضٍ، فمن أجل أن يضيع الحق يسافر أو يختفي حتى يظن أن الدعوى تركت، فمن أهل العلم وهم الجمهور يقولون: يقضى عليه، تضرب له مدة إن حضر وإلا يقضى عليه، فإذا حضر بعد ذلك فأثبت ما ينفي هذه الدعوى عمل بها، وإلا نفذ الحكم، وهذا قول الأكثر.(106/4)
هذا الحديث فيه كلام لأهل العلم، حديث علي: ((إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر)) معناه صحيح، لكن فيه كلام، في ثبوته كلام، وله شاهد، ولذا احتاج الحافظ أن يورد له شاهداً من حديث ابن عباس عند الحاكم.
((حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري كيف تقضي)) يعني إذا مشى القاضي على هذه المقدمات المرسومة الشرعية يعرف كيف يقضي، لكن إذا كان يتخبط مرة يسأل المدعي، ومرة يسأل المدعى عليه، مرة يرد على المدعي، ومرة لا يلتفت إلى المدعى عليه، مثل هذا ما يمكن أن يقضي بين الناس، لكن إذا اتخذ هذه الطريقة والوسيلة الشرعية لإثبات الحقوق فإنه سوف يدري كيف يقضي.
قال علي: "فما زلت قاضياً بعد" استمر في القضاء على هذه الطريقة، "فما زلت قاضياً بعد" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، وقواه ابن المديني، وصححه ابن حبان، وله شاهد عند الحاكم من حديث ابن عباس يصل به إلى درجة الحسن، ومعناه على كل حال صحيح.
قال -رحمه الله-: "وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنكم تختصمون إلي)) " تتنازعون، فيدعي بعضكم على بعض ((ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته)) يعني أبلغ بالحجة وبيان ما يريد ((ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض)) ولا شك أن التعبير له دور، حسن التعبير له دور في جلاء الحق، كما أن ضعف العبارة قد تغطي شيء من الحق، ولذا جاء في الحديث: ((إن من البيان لسحراً)) فالبيان مؤثر، لا شك أنه مؤثر، فالحق قد يعتريه سوء تعبير، أحياناً إذا أردت أن تمدح شيئاً لا سيما إذا كنت من أهل البلاغة والفصاحة جعلته بمكانة أعلى من مكانته الحقيقية، بخلاف ما إذا كنت في الفصاحة والبلاغة أقل فإنك قد لا توفيه حقه، كما قالوا في العسل:
تقول: هذا جنى النحل تمدحه ... وإن شئت قلت: هذا قيء الزنابير(106/5)
ما في فرق، بالنسبة للواقع هذا هو، جنى النحل يجنيه من الزهور والورود هذا جناه، وإن شئت قلت: هذا قيء الزنابير، مجرد اللفظ قيء هذا ذم، وإن كانت هذه حقيقته، لكن إذا عبرت بالأسلوب المقبول مدحت، وإذا عبرت بالأسلوب الذي تنفر منه الطباع، وإن كان هو الواقع، فكما قالوا: "الحق يعتريه سوء تعبير" فيكون أحد الخصمين أبلغ وألحن وأفصح، وأسرع في الحجة وبيانها، يبادر بها، ويجليها ويوضحها، والثاني بطيء في الرد، وإذا استحضر الرد قصر في التعبير عنه، وهذا في كثير من الأمور تجد الإنسان يسأل سؤال أو يطرح عليه إشكال فلا يبادر بالجواب، ثم إذا ذهب إلى منزله، واستلقى في فراشه حضر الجواب، هذا ما ينفع، وبعض الناس ما شاء الله مباشرة هات السؤال، وخذ الجواب، فإذا كان الخصم من هذا النوع حجته حاضرة، وعنده فصاحة وبلاغة، ولحن في القول، فإنه يستطيع أن يجلي القضية، ويستطيع أن يصرف نظر القاضي إلى كلامه، بينما خصمه أقل من مستواه.
وبعض الناس يضيّع حقه بكلامه الذي .. ، الحجج القوية التي تؤيده تغيب عنه، فيستمسك بحجج ضعيفة، يستدل القاضي من خلالها أنه لا حجة له قوية، يعني الآن في المناظرات تجدون بعض الناس في المناظرة يكون حاضر الجواب، ويعبر عنه بأسلوب يجعل الناس يقبلونه، ويجعل الخصم يذعن له، وبعض الناس عنده ضعف في هذا الباب، ومثل هذا لا سيما إذا كان من أهل الحق لا يجوز له أن يناظر؛ لأنه إذا ضعف أمام خصمه، وغلب في الحجة والبيان، فإنه سيقضى على أهل مذهبه بالعجز، وينسب عجزه إلى مذهبه، ما يقال: والله عجز فلان، إنما يقال: عجز أهل المذهب الفلاني عن الجواب عن الشبه التي وجهت إليهم.(106/6)
وفي تفسير الرازي الكبير يورد الشبه قوية جداً، ويجيب عنها بضعف، فهل نقول: إن من مقصده تقرير هذه الشبه؟ لأنك إذا أردت أن تقرر شبهة، أو أردت أن تقرر ما في نفسك مما تميل إليه، وتتوجه إليه، وترجحه تجليه بأقوى ما تستطيع من أدلة وبيان، وتجلب عليه بكل ما أوتيت من حجة، ثم قد تورد ما يمكن إيراده عليه، فلا تأتي بأقوى الإرادات ليقتنع القارئ أنه لا يوجد أقوى من هذه، وحينئذٍ يحكم بما قررت، وينساق وراءه، والإنصاف والعدل أن الإنسان إذا ساق الأقوال بأدلتها أن يورد أقوى ما يجد في الطرفين؛ لأن هذا أسلوب يسلكه بعض المقلدة، تجده يورد المذهب الذي يذهب إليه، ويميل إليه، مذهب إمامه، ويورد أقوى الأدلة لهذا الإمام النقلية والعقلية، ثم يقول، يذكر القول الثاني، ويذكر أضعف ما عنده من حجج.
إذا اقتنع القارئ بمثل هذا الكلام، وتوقف عليه، ما تعداه إلى الكتب الأخرى التي يجلى فيها القول الثاني من أصحابه وأربابه فإنه سوف يقتنع، ومثل هذا لو أورد مذاهب، وأحياناً ترجح الأقوال بالنظر إلى قائليها، قد لا تكون الحجة واضحة في الطرفين، لكن قد ترجح الأقوال بالنظر للقائلين، فلو قال: ذهب مالك والشافعي إلى كذا، ودليلهم كذا، وذهب فلان يعني ممن لم يشتهر بعلم، لو كان منصفاً قال: ذهب مالك والشافعي، وذهب أحمد وأبو حنيفة، هذا لو كان منصف، لكن ما يذكر أحمد وأبو حنيفة في الطرف الثاني، تجده يذكر شخص غير معروف بعلم، وغير مشهور، أنت إذا وجدت هذا الشخص غير المشهور بالعلم في مقابل مالك والشافعي ماذا تقول؟ لا شك أن ترجيح القول باعتبار القائلين ملحظ عند أهل العلم، يعني لو كان القول قوياً لقال به غير هذا الشخص، لكن لضعفه لم يقل به إلا هذا الشخص، مع أنه معروف في المذاهب الأخرى، لكنه من باب الهجوم على العقول حتى تذعن لما يلقيه الإنسان.(106/7)
ولذلك على الإنسان أن يتأنى ويتريث في دراسة المسائل العلمية، كثير من الناس إذا قيل له: المذهب عند الحنابلة كذا، لكن شيخ الإسلام -رحمه الله- اختار كذا، خلاص أذعن واستسلم، شيخ الإسلام، إذا قالت حذام فصدقوها، أو ابن القيم درس هذه المسألة دراسة مستفيضة، نعم هجم قول ابن القيم، وما أجلب عليه ابن القيم من بيان، وترك النظر الدقيق في المسألة، نعم شيخ الإسلام إمام من أئمة المسلمين، وابن القيم إمام، لكن إذا رجحنا بالنسبة للقائلين، يعني من غير نظر في أدلة ولا غيرها أين منزلة شيخ الإسلام وابن القيم من منزلة الإمام أحمد أو مالك أو الشافعي؟! فكثير من الناس يقتنع بمجرد العرض، نقول: لا، لا تقتنع، ابن قدامه أو غير ابن قدامه من كبار الفقهاء حينما يعرض قول الحنابلة، ويؤيده بما عنده من أدلة، ثم يعرض قول الآخرين، اذهب إلى كتب الآخرين، وشف ما عندهم من أدلة؛ لأن عدم الاستيعاب إما أن يكون بسبب تقصير أو قصور، كم في كتب المالكية من أدلة تؤيد أقوالهم لم نطلع عليها، وقل مثل هذا في الشافعية والحنفية، فالإنسان عليه أن يبحث الأقوال من كتب أصحابها، ولا يقتنع بلحن بعض العلماء وبلاغة بعض العلماء، كم من قول راجع على الناس؛ لأن ابن القيم -رحمة الله عليه- عنده بيان، وعنده قوة حجة، كمن قول راج لأن ابن حزم بقوة حجته وبيانه، ثم إذا دققت ونظرت في أقوال الآخرين وأدلتهم وجدت أن المسألة تحتاج إلى إعادة نظر.(106/8)
ومن هذا الحديث نأخذ أن على الإنسان أن يتأنى في أموره كلها، يعني في بحث المسائل العلمية، وفي بحث القضايا التي عند الخصوم، يعني أحياناً تكون القضية عند قاض من الشباب، يعني ليس له قدم راسخة في القضاء، جديد على القضاء، ويتقاضى فيها جهتان، وينوب عن كل جهة شخص ضليع، وقد حصل، حتى أن القاضي في بعض الجلسات ما يستطيع أن يتصرف، أمام هذا أو ذاك، في مثل هذه الحالة عليه أن يعتذر عن هذه القضية، ألا يمكن أن يوجد في الخصوم من هو أفقه من القاضي، وأبلغ من القاضي؟ القاضي عليه أن يحكم بالمقدمات الشرعية، لكن أحياناً تكون بعض القضايا لها ذيول، ولها تاريخ، بعض القضايا تستمر مدة طويلة، ويترتب عليها قضايا أخرى، وتتشعب، تحتاج إلى شيء من اللم، يدركها من له قدم راسخة في القضاء، فمثل هذه الأمور إذا وردت على قاض يعني جديد على القضاء ما مر عليه مثل هذه القضايا المتشعبة لا ضير أن يقول: والله أنا تقصر مرتبتي عن مثل هذه القضية، وتحال إلى غيره، أو يشترك معه غيره، ما في أدنى غضاضة ولا إشكال.(106/9)
((ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه)) الرسول -عليه الصلاة والسلام- بشر ((إنما أنا بشر)) بشر لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله إياه، فيقضي على نحو ما يسمع، الرسول -عليه الصلاة والسلام- بالإمكان أن يصل إلى الحكم المطابق للواقع؛ لأنه مؤيد بالوحي، لكنه في هذه الحالة قدوة للقضاة، يعني من يأتي بعده من القضاة الذين لم يؤيدوا بوحي، فكيف يصنعون لو لم يقل النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا الكلام؟ كما أنه -عليه الصلاة والسلام- سها في صلاته مع إمكان أن ينبه بالوحي، ومع ذلك سها ونبه من قبل بعض من خلفه، ينسى -عليه الصلاة والسلام- ليسن، والنبي -عليه الصلاة والسلام- تنام عيناه ولا ينام قلبه، ومع ذلك نام عن صلاة الصبح حتى أيقظهم حر الشمس، لماذا؟ ليشرع، لو لم ترد مثل هذه القضايا ما عرفنا كيف نتصرف إذا وقعت لنا؟ يعني أهل الحرص وأهل التحري لو لم يحصل من النبي -عليه الصلاة والسلام- النوم في هذه الحادثة ثم نام، نام قلبه عن الصلاة حتى طلعت عليه الشمس، ماذا يحصل له من الأسى والحزن؟ ما يكدر عليه حياته، لكن إذا عرف أن النبي -عليه الصلاة والسلام- نام صار هذا فيه تسلية له، وعرف كيف يتصرف كما تصرف النبي -عليه الصلاة والسلام-.
ومثل هذا يقضي النبي -عليه الصلاة والسلام- على نحو ما يسمع من هذا الخصم البليغ، ثم بعد ذلك قد تكون النتيجة، الوسيلة شرعية، سمع من المدعي، سمع جواب المدعى عليه، طلب البينة من المدعي، أحضرت البينة، ثم بعد ذلك حكم له، النتيجة شرعية وصحيحة ما فيها أدنى إشكال، والقاضي مأجور على أي حال، سواءً كان أصاب أو أخطأ، فإن أصاب فله أجران على ما تقدم، وإن أخطأ له أجر، لكن ماذا عن المدعي والمدعى عليه إذا لم يطابق الحكم الواقع؟
((فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من نار)) المدعي الذي أخذ هذا الحق بشهادة زور مثلاً، شهد أناس ظاهرهم العدالة، وحكم بهم القاضي، اجتهد ورأى أن الذمة تبرأ بشهادتهم، ثم صار الحكم غير مطابق للواقع.(106/10)
يحكم للمدعي بقطعة من نار ((فإنما أقطع له قطعة من نار)) وفي رواية: ((فإن شاء أخذها، وإن شاء فليدعها)) وهذا أسلوب تهديد، وليس أسلوب تخيير، لا، وعامة أهل العلم على أن هذا الحكم لا يحل ولا يبيح للمدعي أخذ ما حكم له به، وإن حكم به القاضي، وأيده التمييز، فإنه حرام عليه أن يأخذ منه شيئاً، ومعروف عند الحنفية أنه إذا حكم به القاضي نفذ حكمه ظاهراً وباطناً، ويحل له أن يأكل ما حكم له به القاضي، لكن هذا القول مصادم لهذا النص الصحيح الصريح، ومنهم من يفرق بين الفروج وبين الأموال، فيقول: ينفذ الحكم ظاهراً وباطناً في النكاح والطلاق، ولا ينفذ باطناً -وإن نفذ ظاهراً- في الأموال، مع أنك تعجب من مثل هذا القول، وإلا المفترض أن يكون العكس؛ لأن الفروج يحتاط لها أكثر مما يحتاط للأموال، وعلى كل حال الحديث نص قاطع في أنه لا يحل له أن يأخذ ما حكم له به إذا كان مبطلاً في حقيقة الأمر.
يقتطع له قطعة من نار، والذين يأكلون أموال اليتامى جاء في القرآن عنهم أنهم {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [(10) سورة النساء] و ((الذي يشرب في آنية الذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)) لأن هذا هو المآل، معصية توعد عليها بالعذاب بالنار، فهذا مآله، وهذا في حقوق العباد، وأمره أشد من حقوق الله تعالى، هذا من الديوان الذي لا يغفر، وإن كان ما دون الشرك داخل تحت المشيئة، لكن أمره أشد من حقوق الله -جل وعلا-.
ثم بعد هذا قال -رحمه الله تعالى-: "وعن جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((كيف تقدس أمة؟ )) " التقديس: هو التطهير ((كيف تقدس أمة لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم؟! )) كيف تطهر هذه الأمة وهذا واقعها؟ الشديد القوي يأكل الضعيف، وهذا استبعاد لهذا التطهير وهذا التقديس ((كيف تقدس أمة لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم؟! )) والحديث له شواهد من حديث بريدة وأبي سعيد، كما أشار المؤلف -رحمه الله تعالى-، وبها يصل إلى درجة الحسن لغيره، وإلا فمفرداتها ضعيفة.(106/11)
الحق لا بد من أخذه من الظالم للمظلوم، بغض النظر عن موقع هذا الظالم وهذا المظلوم ((ولو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) والنبي -عليه الصلاة والسلام- لما وضع الدماء في حجة الوداع والربا، أول ما بدأ بدم ابن ربيعة ابن عمه، وأول ما وضع ربا العباس بن عبد المطلب عم النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهذا هو الواجب وهو المتعين أن يبدأ السلطان بنفسه، وأقرب الناس إليه في تطبيق الحقوق والحدود؛ ليمكن امتثال ما يأمر به، وينهى عنه.
بني إسرائيل كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، فهلكوا بسبب ذلك، ولا فرق بين شريف ووضيع أمام التشريع، وأبو بكر في أول خطبة خطبها يقول: "القوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي حتى آخذ له الحق" والنصرة واجبة للظالم والمظلوم، النصرة للمظلوم واضحة، لكن نصرة الظالم بأن يكف عن الظلم، مهما كان موقعه ومنزلته، سواءً كان من ذوي القربى، أو من ذوي الهيئات وعلية القوم، لا بد أن يؤخذ منهم الحق.
سم.
أحسن الله إليك.
وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((يُدعى بالقاضي العادل يوم القيامة، فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره)) رواه ابن حبان، وأخرجه البيهقي ولفظه: ((في تمرة)).
وعن أبي بكرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) رواه البخاري.
وعن أبي مريم الأزدي -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين، فاحتجب عن حاجتهم وفقيرهم، احتجب الله دون حاجته)) أخرجه أبو داود والترمذي.
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي في الحكم" رواه أحمد والأربعة، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان.
وله شاهد: من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عنهما- عند الأربعة إلا النسائي.
وعن عبد الله بن الزبير -رضي الله تعالى عنهما- قال: "قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم" رواه أبو داود، وصححه الحاكم.(106/12)
هذا يقول: هلا بينت كيف يميز القاضي بين المدعي والمدعى عليه؟
إذا جلس الخصمان بين يديه سأل: أيكما المدعي؟ ثم صاحب الدعوى يقول: أنا المدعي، وقد يقول المدعى عليه: أنا المدعي، فتكون الدعوى مقلوبة، وحينئذٍ لا ينظر فيها، لا تنظر الدعوى مقلوبة، لا تنظر الدعوى المقلوبة، لكن في النهاية يصل القاضي إلى معرفة المدعي من المدعى عليه بأن المدعي إذا تَرك تُرك، إذا تَرك تُرك، والمدعى عليه إذا ترك لم يترك، فإذا ادعى كل منهما أنه هو المدعي قال لهما القاضي: انصرفا، هذا المدعى عليه بينصرف فوراً، لكنه لن يترك في حقيقة الأمر، المدعي الحقيقي لن يتركه، ولن ينصرف فيتبين بذلك المدعي من المدعى عليه، يعني إذا قال القاضي للخصمين: ما عندي لكم سماع انصرفا، أحدهما سوف ينصرف، والثاني لن ينصرف، وبهذا نعرف أن هذا المنصرف هو المدعى عليه؛ لأنه لن يترك، وأما المدعي لن ينصرف وإن انصرف فيكون قد أبطل دعواه إذا انصرف.
يقول -رحمه الله تعالى-: "وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((يدعى بالقاضي العادل)) " يعني يؤمر به ((يوم القيامة)) فيحضر ((فيلقى من شدة الحساب)) من التدقيق في الحساب ((ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره)).(106/13)
شدة الحساب تدل على المناقشة، ومن نوقش الحساب عذب ((يدعى بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره)) وهذا الحديث فيه كلام لأهل العلم، والراجح عدم ثبوته، ويذكر في كتب أهل العلم من باب التحذير من الظلم، والترغيب في العدل، إذا كان هذا القاضي العادل فكيف بغيره؟! مع أنه جاءت النصوص التي تدل على مدح أهل العدل والإنصاف من القضاة وغيرهم ((المقسطون على منابر من نور يوم القيامة)) المقسطون: يعني العادلين الذين يعدلون بين أهليهم وغيرهم ممن ولوا أمرهم على منابر من نور، فيكف يقال: ((يلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين))؟ إذا ثبت له الوصف وهو العدل، والقاسطون بخلاف ذلك، المقسطون على منابر من نور، والقاسطون؟ {فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [(15) سورة الجن] نسأل الله العافية، فالمقسط هو العادل، والقاسط هو الذي يعدل عن الحق، ويميل إلى الباطل.
((يدعى بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره)) هذا العادل إذا لقي من شدة الحساب من التدقيق والمناقشة لا محيد ولا مفر أنه هالك ((من نوقش الحساب عذب)) مما يدل على أن هذا الحديث في معناه وفي ثبوته نظر.
((بين اثنين في عمره)) رواه ابن حبان، وأخرجه البيهقي، ولفظه: ((في تمرة)) من قضى بين اثنين في تمرة، فقضى بها لأحدهما دون الآخر، ولو كان عادلاً قضى بها لصاحبها، يتمنى أنه ما قضى، مما يدل على ضعف هذا الخبر؛ لأنه إذا كان العادل بهذه المثابة فمن يتولى القضاء بعد ذلك؟! من يفصل بين الناس؟ من يحل مشاكل الناس؟ إذا كان هذا في حق العادل؟ نعم الظالم الجائر جاءت النصوص بوعيده، لكن العادل جاءت النصوص الصحيحة القطعية بمدحه، وهذا الحديث يتضمن ذمه بخلاف ما جاء في النصوص القطعية.
على كل حال هذا الحديث فيه كلام لأهل العلم في سنده وفي متنه.(106/14)
قال -رحمه الله-: "وعن أبي بكرة" نفيع بن الحارث الصحابي المعروف "-رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) " هذا الحديث في البخاري، ويكثر الكلام فيه من قبل بعض الكتاب الذين يطنطنون بالمساواة بين الرجل والمرأة، ويدعون إلى أن تتولى المرأة جميع الإعمال بما فيها الولاية العظمى، وبما فيها ما يعرضها للوحوش من البشر، ولا فرق عندهم بين العمل الذي يناسبها، والعمل الذي لا يناسبها، لا يناسب طبيعتها، فتجدهم يكتبون عن هذا الحديث، ومع الأسف أنه قدح في الحديث من قبل من ينتسب إلى العلم والدعوة، وألف في السنة، ونقد السنة، ومما أورده هذا الحديث، وقال: مما يدل على عدم صحته أن الواقع يخالفه، كيف الواقع يخالفه؟ يعني تركيب المرأة تصلح معه أن تتولى الأمور العامة للناس؟ لها وظائف لا يستطيع الرجال أن يقوموا بها، لكن للرجال وظائف لا تستطيعها ولا تطيقها النساء.
هذا الكاتب الذي كتب عن السنة، ونقد بعض متون السنة، وأورد أمثلة، ومنها هذا الحديث، وقال: إن الواقع يخالفه، كيف الواقع يخالفه؟ قال: غاندي حكمت الهند سبعمائة مليون في وقتها، ومشت أمورهم بحكمها؟ كيف مشت؟! بغير ما أنزل الله تمشي الأمور؟!
يقول: جولد مائير هزمت العرب بسبعة وستين، وثلاثة وسبعين أو ما أدري كم؟ رئيسة وزراء إسرائيل، وتاتشر المرأة الحديدية التي صارت رئيسة وزراء بريطانيا مدة، هؤلاء نسوة نجحن في قيادة الأمم والشعوب كيف يقال: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة))؟ بمثل هذا الكلام ترد النصوص الصحيحة؟! يعني إذا تطاولنا على البخاري ماذا يبقى لنا؟ لكنه الهوى والضلال، وليس للضلال حد ولا نهاية إذا بدأ الإنسان وانساق وراء عقله فإنه لن يقف عند حد، سوف يضيع في المتاهات، يعني يمكن أن يقول هذا الشخص مثل هذا الكلام في بداية طلبه للعلم، وفي أثناء طلبه للعلم، لكن نسأل الله الثبات.
((لن يفلح قوم ولوا أمرهم)) لما تولت بنت كسرى، ولوها بعد أبيها، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) وهكذا حصل، وهكذا وقع الخبر مطابقاً لما أخبر به النبي -عليه الصلاة والسلام-.(106/15)
حتى هؤلاء النسوة اللواتي تولين هذه المهمات مما ذكر في الأمثلة، هل المرأة هي التي تدير شئون الملك والحكم والدول في حقيقة الأمر؟ هي مجالس التي تدير هذه الدول مجالس، ودساتير يعملون بها، هي في أصلها مخالفة لما شرعه الله -جل وعلا-، ويطبقها أناس، مجالس ليس التطبيق يوكل إلى فرد بعينه، فليست هي في الحقيقة هي الحاكمة، وإن نصبوها تمثالاً يتوصلون به إلى مآربهم ومقاصدهم، فينظر إلى الأمور بعين الاعتدال والإنصاف والحكمة، نعم المرأة نصف المجتمع، ولها مهام أنيطت بها من قبل الشرع لا يستطيعها الرجال، فلا يستطيع الرجل تربية الأولاد، ولا حضانة الأولاد، لا يستطيعها إلا النساء، وهذه من أعظم المهمات؛ لأنك تتعامل مع شخص لا يعقل، وله مشاعره، وله عواطفه، يعني لست تتعامل مع حضيرة غنم لا تعقل، ولا تتعامل مع عقلاء ينصاعون للأوامر والنواهي، ويحذرون بالترهيب، ويرغبون بالترغيب، لا، تتعامل مع شخص ليس ببهيمة، له مشاعره، وله عواطفه، وله نفسيته التي تتأثر بأدنى شيء، وتنخدش بأدنى شيء، لكنه ليس عنده من العقل ما يميز به ما ينفعه ويضره، والإنسان في هذه المرحلة من أصعب ما يمكن التعامل معه، وكلت هذه المهمة العظيمة للمرأة، ولا يطيقها الرجال، لا يستطيع الأب أن يتعامل مع الولد في هذه السن، لكن وكل له أمور أخرى تليق بتركيبه، وتليق بطبيعته البشرية، والرجال قوامون على النساء، ومع ذلك لهن مثل الذي عليهن بالمعروف، يعني لهن حقوق مثل ما للرجل عليهن، ولكن الرجال فضلوا على النساء بدرجة.(106/16)
قال بعضهم: إن بعض النساء أذكى من زوجها بمراحل، ومع ذلك تحشر المرأة الذكية في البيت، والرجل الأقل ذكاءً يخرج للناس، فكان من بعض الأجوبة اللطيفة، مما قاله بعضهم ممن يرد على هذه الشبه، قال: ليس الظهور بأكمل من الاختفاء مطلقاً، فأنت ترى الحارس أكثر مما ترى المدير، والحارس أقل من المدير، يعني ليس الظهور أمام الناس باستمرار هو من أجل أنه أفضل، أو من أجل أن من أتيح له الظهور أفضل من غيره، وعلى كل حال كانت المرأة مظلومة في الجاهلية، فرفع الإسلام من شأنها، بما لا مزيد عليه؛ لأن الزيادة على ما قرره الإسلام ضرر على الجنسين، وماذا جنت الأمة من الدعوات التي خلال قرن من الزمان، يعني أخرجت المرأة من وظيفتها، ومع ذلك ما استفادت مما وكل إليها، ولا استفيد منها على المستوى الذي خطط له، لكن يظهر من خلال بعض التصرفات شيء ينم عن بعض النوايا السيئة.
فليس الحرص على المرأة وخروج المرأة وعمل المرأة النظر فيه إلى المصلحة بقدر ما فيه من تقليد من جهة، وإرضاء لرغبات ونزوات من بعض المغرضين، والله المستعان.(106/17)
قال -رحمه الله-: "وعن أبي مريم الأزدي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وفقيرهم احتجب الله دون حاجته)) " الجزاء من جنس العمل، لماذا يولى هذا الشخص على أمر من أمور المسلمين؟ إنما ولي ليخدم مصالح المسلمين، فإذا احتجب عنهم لم يستطع القيام بما وكل إليه، وما أسند إليه، فإذا احتجب عنهم ضيعهم، وضيع حوائجهم، فيجازى بجنس عمله، تضيع حاجته، ويحتجب الله -جل وعلا- دون حاجته، وإذا احتجب الله -جل وعلا- دون حاجته من يقضيها؟ البشر كلهم لا يستطيعون قضاء حاجة من احتجب الله دون حاجته؛ لأن قلوب هؤلاء البشر كلهم بيد الله -جل وعلا-، هو الذي يسيرهم لقضاء حاجة فلان، وتفريج هم فلان، وتنفيس كربة فلان، حتى الذي يدفع المال من جيبه للفقير هذا لا يدفع من ماله {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ} [(33) سورة النور] وقد يأتي شخصان من ذوي الحاجات إلى غني، وقد يكون أحدهما أشد حاجة من الآخر، فينشرح صدره ليعطي فلان ويمنع فلان، الله -جل وعلا- هو الذي أمره بإعطاء فلان، وحجب عطاءه عن فلان.
"وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" طيب ولعلنا نكتفي بهذا نرجئ ما بقي للدرس القادم، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(106/18)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: بلوغ المرام – كتاب القضاء (3)
باب: الشهادات
الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،
أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي في الحكم" الراشي: هو الدافع للمال من أجل أن يحكم له، والمرتشي هو الآخذ من أجل أن يحكم، ولا يختص هذا بالحاكم ولا بالقاضي، بل كل من له نفوذ أو يستطيع النفع ممن يأخذ أجراً على عمله، أما من لا يأخذ أجراً فله أن يأخذ بقدر أجرته، أجرة المثل من صاحب القضية له أجرة المثل، أما العامل الذي يتقاضى أجراً من عمله فأخذه لهذا المال رشوة، وسواءً قُدم على أنه رشوة صريحة مكشوفة، أو على أنه هدية، والمقصود منها كسب القضية، أو منفعة، يقدم له خدمة في مقابل أن ييسر له أمر نجاح قضيته، والمرتشي هو الآخذ على أي وجه كان، سواءً أخذ مالاً، أو أخذ منفعة، قُدم له خدمة هذه رشوة، والعامل على الصدقة لما أهدي له يقال له: ابن اللتبية أهدي له، فلما قدم إلى المدينة قال: هذا هو الصدقة، وهذا أهدي إلي، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((هلا جلس في بيت أبيه فينظر هل يهدى له؟ )).
الرشوة إن كانت لأخذ ما لا يستحقه فهذه مجمعة على تحريمها، وأنها من كبائر الذنوب، وأنها من أعظم معاول الهدم، واستقامة الأمور والأحوال في المجتمعات، الآن كثير من المجتمعات لا تستخرج فيها الحقوق إلا بالرشوة، والذي يتورع عن الرشوة يضيع حقه في كثير من المجتمعات، وهذا هو الذي جعل الراشي والمرتشي مستحقان للعنة الله؛ لأن آثارها سيئة، وعواقبها وخيمة، سواءً كان المبلغ المدفوع رشوة كبيراً أو صغيراً، كلها رشوة.(107/1)
بعضهم يقول: إن لي حق في هذه الجهة، ولا يدفع لي إلا إذا دفعت، فأنا أدفع هذه الرشوة، وهذا المبلغ من أجل استخراج حقي، وبعض أهل العلم قد يتسمح في مثل هذا، لكنها داخلة في عموم اللفظ ((لعن الله الراشي والمرتشي)) فإذا دفع هذا المال ولو كان لاستخراج حقه فإنه داخل، وإن تسمح بعضهم في ذلك وقال: إنه لا يصل إلى حقه إلا بهذه الطريقة؛ لأن الراشي في مثل هذه الصورة وإن كان الأمر بالنسبة إليه أخف مما لو لم يكن له حق، فإن المرتشي الذي يأخذ المال ليخرج هذا الحق الذي يستحقه الراشي لن يفرق مستقبلاً بين محق ومبطل، فهي إعانة له، والقاعدة أن ما حرم أخذه حرم دفعه، فيحرم على الموظف أن يأخذ مبلغاً من المال ليستخرج حقك الذي لا تستطيع استخراجه، وقد تقول: أنا أتوصل بهذه الرشوة إلى استخراج حقي، وقد وجدت من يفتيني، نقول: إنه يحرم على هذا الموظف الأخذ، ومن ثم يحرم عليك الدفع؛ لأن ما حرم أخذه حرم دفعه، ثم بعد ذلك هذا المرتشي سوف يأخذ من المبطل إذا أخذ من المحق.
على كل حال هذه الخصلة الذميمة التي عاثت في كثير من بلدان المسلمين -فضلاً عن غيرهم- فساداً، وصارت أمور الناس لا تمشي إلا بدفع شيء من المال، وتتابع عليها الصغير والكبير، وضيع الحقوق والحدود بسببها، بعضهم يأخذ شيء يسير ويمشي المعاملة داخل في اللعن، ولو كان يسيراً، وبعضهم يدفع أموالاً طائلة ليستخرج في مقابلها ما هو أعظم منها، داخل في اللعن أيضاً ((لعن الله الراشي)) الذي يدفع المال ((والمرتشي)) الذي يأخذ، وفي بعض الطرق: ((والرائش)) الواسطة، السفير بينهما.(107/2)
((في الحكم)) وهذه اللفظة لا توجد في كثير من الروايات، فإذا عرفنا أن الرشوة هي ما يأخذه من يُعين على استخراج ما ليس له، وقد يندرج فيه كما أشرنا من له حق، يدخل فيه دخولاً أولياً، إذا دفعت الرشوة للحاكم أو للقاضي ليحكم بغير حكم الله، ثم من دونه من أعوانه ليسهل لهذا الراشي كسب القضية، وتيسير الحكم، أو تخفيفه، من ذلكم الشفاعة -الجاه- في الحدود، كما في حديث المخزومية التي كانت تستعير المتاع فتجحده، فأرادوا من يشفع لها عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليعفو عن الحد، فتشفعوا بأسامة بن زيد حب رسول الله وابن حبه، فغضب النبي -عليه الصلاة والسلام- وقال: ((أتشفع في حد من حدود الله؟ )) وكذلك الشفاعات التي يترتب عليها تقديم غير المستحق وتأخير المستحق، جاء الخبر: ((اشفعوا تؤجروا)) لكن على ألا يترتب على هذه الشفاعة ضرر على أحد، إذا ترتب عليها ضرر على أحد فإنه حينئذٍ لا تجوز، وبذل المال وبذل الجاه من أجل كسب هذه الأمور من القضايا والتقديم والتأخير كل هذا ممنوع، إذا ترتب على الشفاعة والجاه الضرر.
ومن شفع فليس له أن يأخذ على هذه الشفاعة أجراً، على خلاف بين أهل العلم، لكن المرجح أنه لا يجوز أن يأخذ عليها أجراً، إنما يشفع لله، إذا رأى أن المشفوع له أهل لما شفع له به.
قال: "رواه أحمد والأربعة، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو عند الأربعة إلا النسائي".(107/3)
هنا مسألة وهي: أن الإنسان قد يكون مديراً أو رئيساً في دائرة أو وزيراً أو مسئولاً، تأتي الهدايا أحياناً تكون باسمه الشخصي، وأحياناً يكون باسم وظيفته، يعني المؤسسات العلمية تجد مثلاً مدير الجامعة، أو عميد الكلية أو رئيس القسم يهدى إليهم كتب، يهدى كتب، هدية مقدمة لرئيس قسم كذا، هدية مقدمة لعميد كلية كذا، فهل هذه الهدية له أو لمن يقوم مقامه بعده؟ أو هي للعمل وليست للشخص؟ أحياناً تكون باسمه الشخصي، هدية لفلان هذه ما فيها إشكال، تكون له، لكن أحياناً يؤلف كتاب لا سيما من منسوب هذه الجهة، وهي جهة علمية، يقولون: هدية لفضيلة عميد الكلية، ليس باسمه، وإنما بوصفه، هذا الذي يظهر أنها ليست له؛ لأن المراعى فيها الوصف، وإذا كان التنصيص على اسمه هدية لفلان فالمراعى فيه الشخص، ويأتي فيها ما يأتي في الهدايا، إذا كان يهدي إليه قبل العمل، وإذا كان يتهم، أو يظن به أنه يكسب من وراء هذه الهدية تسهيل أو مراعاة في شيء من الأمور فإنها حينئذٍ داخلة في الرشوة.
"وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو عند الأربعة إلا النسائي إلا أنه لم يذكر فيه لفظ الحكم الذي جاء في حديث أي هريرة".
والرشوة محرمة بالإجماع، ومن كبائر الذنوب؛ لأنها توعد عليها باللعن، ومن ضابط الكبيرة أنها إن توعد عليها بلعن أو غضب أو بنار أو بعدم دخول الجنة، أو ترتب عليها حد في الدنيا، فإن هذا ضابط الكبيرة عند شيخ الإسلام وغيره.
يتصور من يتصدى لفصل الخصومات بين الناس وليس له أجر ولا رزق من بيت المال، إن كان له أجر أو رزق من بيت المال هذا لا يجوز له أن يأخذ من الخصوم شيئاً، وإن أخذ فهو الرشوة، لكن إذا لم يكن له رزق من بيت المال، وذلك حينما تكون أمور الناس غير منتظمة، يوجد من يتصدى للفصل بين الناس، وليس له أجر مرتب من بيت المال، هل له أن يأخذ من الخصوم؟ لا يجوز أن يأخذ من أحد الخصمين؛ لأن لأخذه من أحدهما أثر على نفسه، فيخشى أن يميل ويحيف على الثاني، لكن إذا قال: قضيتكم هذه أفصل بينكما فيها بمبلغ كذا، بينكما بالسوية، في هذه الصورة لا يخشى أن يميل مع أحدهما دون الآخر.(107/4)
في عمل المحامين يأخذون الأجر في مقابل المحاماة، منهم من يأخذه مقطوعاً من أول الأمر، سواءً كسب القضية أو خسرها، هذا لا يظن به أن يبذل الأسباب من أجل أن يكسب القضية، ولا يحمله ذلك على الفجور في القضية من باب ((وإذا خاصم فجر)) أما إذا كان الأجر على النجحان على ما يقولون، على كسب القضية فهذا يخشى منه أن يحمله هذا الأجر على أن يفجر في قضيته، في خصومته، وأن يسعى جاهداً لكسب القضية من حق أو باطل، ويجلب عليها بما يستطيع، وقد يدخل فيها من يستطيع التأثير، وقد يبذل فيها شيء من المال على جهة الرشوة، وهكذا، فمثل هذا في إساغته نظر، إنما يوكله ليقاضي ويخاصم عنه بمبلغ كذا سواء كان الحق له أو عليه، وحينئذٍ يضمن نزاهة الخصومة، والمحامون هم في مزلة من الأقدام، في مزلة قدم، يخشى عليهم بسبب تأثير المادة، وهي من وسائل الكسب المربحة في وقتنا، وفي عصرنا، فيخشى على المحامي أنه لا يحرص على إحقاق الحق، وإنما يحرص على كسب القضية، فإن أعطي المال من أجل إنجاح القضية هذا ظاهر، لكن قد يسعى لإنجاح القضية ولو لم يعط على النجحان على ما يقولون؛ ليشتهر بين الناس أنه يكسب القضايا، فعليه أن يتقي الله -جل وعلا-؛ لأن من خصال المنافق ((وإذا خاصم فجر)) ويكون بليغاً في حجته، حاضراً في بديهته، ثم بعد ذلك يكسب القضايا، وهو يعرف أنه مبطل، هذا يدخل في هذا الباب -نسأل الله السلامة والعافية-.
قال -رحمه الله-: "وعن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- قال: "قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم" رواه أبو داود، وصححه الحاكم" لكنه ضعيف؛ لأنه من رواية مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، وهو ضعيف عند أهل العلم.(107/5)
ومن العدل بين الخصوم المطلوب من القاضي الواجب عليه أن يعدل بين الخصمين في كل شيء، ولا يظهر منه لا بتصريح ولا بتلميح ولا بقرينة أن أحدهما أقرب إليه من الثاني، ومن هذا أن يقعد بين يديه على حد سواء، وهذا الحديث كما عرفنا ضعيف، لكن من العدل الواجب على القاضي أن يكون مجلس الخصمين متساوٍ، فلا يكون أحدهما في كرسي أثير مريح، والثاني دونه، ولا يكون أحدهما أقرب إلى القاضي والثاني أبعد، بل لا بد أن يكون قربهما منه على حد سواء، ولا يكون أحدهما أرفع في مجلسه من الثاني والثاني دونه، بل لا بد أن يستويا في المجلس.
من الذي يجلس في الكرسي الذي عن يمين القاضي والكرسي الذي عن يساره؟ المفترض أن هذا مجلس قاضي وأمامه كرسيان، يحرص كل واحد أن يجلس على الأيمن؛ لأنه إن قدم شيء بدء به، والكلام سوف يبدأ معه، الأولى أن يكون في الكرسي الأيمن المدعي؛ لأنه هو الذي يُبدأ به بالكلام، والمدعى عليه في الكرسي الأيسر، وأهل العلم يقررون أن الأولية لها دخل في الأولوية، فأول من يبدأ به هو الأولى بأن يجلس عن يمين القاضي، فالأولية لها دخل في الأولوية.(107/6)
أخرج أبو نعيم في الحلية -حلية الأولياء- قصة لعلي بن أبي طالب مع يهودي بين يدي القاضي شريح، علي بن أبي طالب سقط منه درع من دابته، فالتقطه اليهودي، فادعاه علي -رضي الله عنه- قال اليهودي: هذا درعي، فقال: لا، هذا درعي في يدي، وأنت مدعٍ، فتحاكما إلى شريح، علي -رضي الله عنه- في وقتها أمير المؤمنين، والقصة فيها ضعف، لكن لا يبعد وقوعها، فتحاكما عند شريح، أمير المؤمنين مع يهودي، تحاكما عند القاضي شريح، وهو من مشاهير القضاة في تاريخ الإسلام الطويل، أجلسهما بين يديه فقال: ما تقول يا علي؟ قال: هذه درعي، سقطت من دابتي، قال: عندك بينة؟ قال: نعم، فأحضر مولاه قنبر، وابنه الحسن، فقبل شهادة المولى، ورد شهادة الحسن؛ لأنه لا تقبل شهادة الابن لأبيه ولا العكس، وقال لليهودي: ما عندك؟ قال: هي درعي وفي يدي، وعنده استعداد يحلف، بل حلف، فحكم بالدرع لليهودي، قضى بالدرع لليهودي، ويعرف شريح أن الدرع لأمير المؤمنين؛ لأن علياً -رضي الله عنه- قال: أترد شهادة من شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه سيد مع أخيه الحسين، سيدا شباب أهل الجنة؟ قال: أنا أشهد أنهما سيدا شباب أهل الجنة، لكن في هذا المجلس يستوي المسلمون، وإذا ردت شهادة الابن من غيرك فترد منك، والتهمة والظنة حاصلة في شهادة الابن لأبيه والعكس، قال: صدقت، والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك، صدقه، ثم بعد ذلك ما الذي حصل؟ حكم به لليهودي، والنتيجة؟ أن اليهودي أسلم لما رأى من عدالة الإسلام والمسلمين، وقال: إنها لأمير المؤمنين، كما يقول: هي درعه سقطت من دابته، وأعطاه إياه.(107/7)
قول شريح فيما يقول الشارح قول شريح: والله إنها لدرعك، كأنه عرفها سابقاً أنها لأمير المؤمنين، ويعلم أنها درعه، لكنه لا يرى الحكم بعلمه، يعني لو أن قاضياً يعرف أن هذا الكتاب لفلان من طلاب العلم رآه بيده مراراً، ثم وقع بيد شخص آخر فادعى عليه صاحبه وليست لديه بينة، فاتجه النظر إلى المدعى عليه فحلف أنه كتابه، والقاضي يعرف أن هذا الكتاب كتاب فلان يعرفه، يحكم به لمن؟ هو ما عنده بينة إلا علم القاضي، قال الشارح: "ويعلم أنها درعه، لكنه لا يرى الحكم بعلمه" والجمهور يرون أن القاضي لا يحكم بعلمه، وإنما يحكم بالمقدمات الشرعية "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" ولو كنتُ أعرف أن الكتاب أو هذه الدرع أو غيرها لهذا الشخص.
لكن الذي ذكر عن شريح على وجه الخصوص القاضي في هذه الخصومة فيما ذكره ابن حجر وغيره في فتح الباري أن القاضي شريح يرى الحكم بعلم القاضي، ويذكرون أنه في قضية من القضايا يعرف أن هذه الآلة المدعى فيها لفلان؛ لأنه اعترف على نفسه في غير مجلس القضاء، الاعتراف إنما هو في مجلس القضاء، أما إذا كان الاعتراف قبل القضية فإنه يدخل في علم القاضي لا يدخل في المقاضاة، فحكم عليه شريح، وقال له .. ، قال المحكوم عليه: أريد بينة، فقال شريح فيما يذكرون عنه: شهد عليك ابن أخت خالتك، يعني لو اعترف في المجلس هذا ما في إشكال، لكن هذا الاعتراف سابق قبل الدعوى، مما تولد عنه علم القاضي بأن هذه المدعى فيها ليست له، وحكم بها لخصمه قائلاً: شهد عليك ابن أخت خالتك، من هو ابن أخت خالته؟ هو نفسه، هذا ما ذكر عن القاضي شريح، وهنا يقول، قول شريح: وإنها لدرعك كأنه عرفها، ويعلم أنها درعه؛ لكنه لا يرى الحكم بعلمه.
وعلى كل حال هذه القصة التي حصلت بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وأرضاه- مع اليهودي هذه فيها ضعف.
سم.
بسم الله الرحمن الرحيم
وقال الحافظ -رحمه الله تعالى-:
باب: الشهادات
عن زيد بن خالد الجهني -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها)) رواه مسلم.(107/8)
وعن عمران بن حصين -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)) متفق عليه.
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت)) رواه أحمد وأبو داود.
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية)) رواه أبو داود وابن ماجه.
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أنه خطب فقال: "إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم" رواه البخاري.
وعن أبي بكرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه عد شهادة الزور في أكبر الكبائر.
متفق عليه في حديث طويل.
وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل: ((ترى الشمس؟ )) قال: نعم. قال: ((على مثلها فاشهد أو دع)) أخرجه ابن عدي بإسناد ضعيف، وصححه الحاكم فأخطأ.
وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى بيمين وشاهد. أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، وقال: إسناد جيد.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- مثله. أخرجه أبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
باب: الشهادات
الشهادات: جمع شهادة، وهي مصدر شهد شهادة، والمصدر يجمع لتعدد أنواعه.(107/9)
الشهادة: هي الإخبار عن الحق لمن هو له، وبعضهم يطلقها بإزاء علم، ويستدل بقوله -جل وعلا-: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [(18) سورة آل عمران] يعني علم، لكن في صدر سورة المنافقون {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [(1) سورة المنافقون] فغاير بين الشهادة والعلم، {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [(1) سورة المنافقون] فهناك مغايرة بين الشهادة والعلم؛ لأن الشهادة أعم؛ لأنها إخبار بما مفاده العلم إذا كان عن مشاهدة رؤية، أو ثبت مفادها بطريق يحصل به العلم القطعي، وقد يخبر يشهد بما مفاده، أو ما يفيده الظن الغالب كما في الاستفاضة مثلاً، الاستفاضة يثبت بها الحكم، ويشهد به، فلا يلزم أن تكون الشهادة صادرة عن علم مجزوم به، فالأصل أن تكون عن علم، إما رؤية أو سماع، أو بغير ذلك مما يفيد العلم، بطريق الحواس، أو الخبر المقطوع به، المجزوم به، وقد تكون الشهادة بسبب ظني كالاستفاضة.(107/10)
قال -رحمه الله-: "عن زيد بن خالد الجهني -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها)) " وفي الحديث الذي يليه الآن الإتيان بالشهادة قبل السؤال في الحديث الأول سيق مساق المدح، وفي الحديث الثاني حديث عمران: ((إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون)) ... إلى آخره، سيق الإدلاء بالشهادة قبل الاستشهاد مساق الذم، وهنا يكون بين الحديثين تعارض، في الحديث الأول يمدح من يدلي بالشهادة قبل طلبها، وفي الحديث الثاني يذم من أدلى بالشهادة قبل طلبها، وللجمع بين الحديثين عند أهل العلم أكثر من نظر ومسلك، فمنهم من يقول: إن حديث زيد بن خالد الذي فيه مدح من يدلي بشهادته قبل طلبها في حالة ما إذا خشي ضياع الحق بأن يكون صاحب الحق لا يدري ولا يعرف هذه الشهادة، فيتقدم الشاهد إلى صاحب الحق، ويقول: عندي لك شهادة، وحينئذٍ يمدح لئلا يضيع الحق، أما إذا كان صاحب الحق يعرف أن هذا عنده شهادة في هذه القضية، فإن مبادرة الشاهد قبل طلبها لا شك أنه يورث تهمة، أنه يريد نفع المشهود له، وحينئذٍ يتهم في حقه، فيذم إذا أدلى بها قبل طلبها.
منهم من يفرق بين حقوق الآدميين، وما يتعلق بحقوق الله -جل وعلا- من أمر الاحتساب، فيجعل الحديث الأول، حديث زيد بن خالد منصب على ما إذا كانت الشهادة في حق لله -جل وعلا-، يدلي بها، ويبادر بإبدائها، فيتقدم بها قبل أن تطلب منه، والحديث الثاني حديث عمران فيما إذا كانت في حقوق الآدميين؛ لأنه بالنسبة لحق الله -جل وعلا- لا يتهم إذا بادر بالإدلاء بها قبل أن تطلب، لا يتهم؛ لأنه لا يحوز حظاً لنفسه، ولا لمن يتوقع ويرجو نفعه، بخلاف ما إذا كان في حق آدمي، فإنه قد يتهم.(107/11)
منهم من حمل حديث زيد بن خالد الحديث الأول في مدح الإدلاء بالشهادة قبل طلبها أنه من باب المبالغة، وأنه لا يراد حقيقة اللفظ، وأن الشخص يشهد قبل أن يستشهد، لا يشهد حتى يستشهد لكنه لا يتأخر، وإنما يبادر بالإدلاء بالشهادة، فنزّلت هذه المبادرة التي ليس فيها تأخر منزلة من شهد قبل أن يستشهد؛ لأنه كأنه مجرد ما طلب منه شهد، فكأنه سبق الطلب بمبادرته، والجواب الأول هو جواب الأكثر، أكثر أهل العلم، وهو المرضي.
"عن عمران بن حصين -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) " والشك هل قال ذلك مرتين أو ثلاثاً؟ فتكون مع قرنه ثلاثة أو أربعة؟ والمرجح الثلاثة، كما جاء في رواية الباب: ((إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) خيركم، يعني الأمة، هو لا يخاطب الصحابة -رضوان الله عليهم- إنما يخاطب الأمة بمجموعها؛ لأن قرنه هم صحابته، فما عطف عليه ممن يلونهم من ليس من الصحابة من التابعين، ثم الذين يلونهم من أتباعهم، على خلاف بين أهل العلم في المراد بالقرن، وهم أهل زمان متقاربون في السن والوجود، كما قالوا في الطبقة.(107/12)
واختلفوا في تحديد القرن بالزمان من أربعين إلى مائة وعشرين، لكن الاصطلاح بين أهل العلم استقر على أن المراد بالقرن مائة سنة، وعليه عامة المؤرخين الذين يؤرخون للقرون، جعلوه مائة سنة، مع أننا لو نظرنا إلى أعمار الناس فالقوم المتشابهون يجمعهم في الغالب سبعون سنة، وهذا قول جمع من أهل العلم أن المراد بالقرن سبعون سنة، وحدد ابن حجر في فتح الباري نهاية القرون المفضلة بسنة مائتين وعشرين، كيف يكون التحديد بمائتين وعشرين؟ على اعتبار أن القرن سبعين، طيب مائتين وعشرين، لماذا يصير مائتين وعشرة؟ بناء على أن ((ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) ثلاث، فقرنه انتهى بسنة عشرة، فإذا أضفنا إليها الذين يلونهم سبعين، والذين يلونهم سبعين، والذين يلونهم سبعين، يكون الحد مائتين وعشرين، وابن حجر ذكر في فتح الباري أنه في هذا الزمن كثرت البدع، وانتشرت، وصار لها من يدعهما ويروجها، ويمتحن عليها، أصول البدع وجدت في وقت مبكر، في آخر عهد الصحابة، وجد بعض البدع، لكنها ضعيفة، وإنما نشطت وقويت ودعمت وامتحن من أجلها الأخيار في هذا الزمان الذي ذكره ابن حجر -رحمه الله-.
((ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون قوم)) يعني يوجد قوم ((يشهدون ولا يستشهدون)) هؤلاء الذين يدلون بشهاداتهم قبل أن تطلب يشك فيهم أنهم يوجد ما يدفعهم إلى الإدلاء بهذه الشهادة، فتقوى التهمة بالنسبة لهم، ولذا وجه إليهم الذم، وإلا ما الذي يجعل هذا الشاهد يدلي بما عنده قبل أن يطلب؟ إنما هو لرغبة أو رهبة، فسيق الخبر عنهم مساق الذم، وهذا فيما إذا لم يخش ضياع الحق، أما إذا خشي ضياع الحق فحديث زيد بن خالد صريح في أنه يدلي بشهادته قبل أن يستشهد.
((ويخونون ولا يؤتمنون)) يوجد بعد القرون المفضلة يخونون ولا يؤتمنون، وكثرت الخيانة في الناس، وأول ما يرفع من الدين الأمانة، قد يقول قائل: إنه وجد في عصر الصحابة، وفي عصر التابعين، وفي عصر تابعيهم من ذلك شيء، لكن الحكم عند أهل العلم إنما هو بالنسبة للغالب.(107/13)
التفضيل في قوله: ((خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) تفضيل أفراد في القرن الأول الذين هم صحابة النبي -عليه الصلاة والسلام-، التفضيل أفراد عند عامة أهل العلم، وأن أدنى الصحابة منزلة أفضل من أفضل التابعين، ومنهم من يقول: التفضيل بين الصحابة والتابعين تفضيل إجمالي جملي، كالتفضيل بين التابعين وتابعيهم، وإلى هذا يميل ابن عبد البر، وعلى هذا قد يوجد في من بعد الصحابة من هو أفضل من بعض الصحابة، ولكن جماهير أهل العلم أن فضل الصحبة شرف لا يناله من جاء بعدهم، مهما عمل من الأعمال، ومهما بلغ من الفضل والعلم.
يستدل ابن عبد البر، ومن يقول بقوله بحديث: ((أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره)) وأيضاً ما ثبت للمتمسك بالدين والسنة في آخر الزمان من أن للواحد منهم أجر خمسين، قيل: منهم يا رسول الله؟ قال: ((لا، منكم)) يدل على أنه يوجد في آخر الأمة من هو أفضل من بعض الصحابة، هذا ما يقرره ابن عبد البر، ولكن عامة أهل العلم على أن أدنى الصحابة منزلة أفضل من أفضل التابعين، والتفضيل إفرادي كل فرد فرد، وليس إجمالي كما هو شأن التفضيل بين التابعين وتابعيهم؛ لأن هذا الشرف بصحبته -عليه الصلاة والسلام- لا يمكن أن يناله أحد، وحديث المتمسك بالدين والعامل به في آخر الزمان له أجر خمسين بالنسبة لأجر العمل الذي يرتب عليه لقلة الأعوان، يكون له هذا الأجر، ويبقى أجر صحبة وشرف الصحبة لا يمكن أن يناله أحد، وهو بمفرده يرجح بجميع أعمال من جاء بعد الصحابة.
بالنسبة للتابعين وتابعيهم إجمالي؛ لأنه قد يوجد في تابعي التابعين من هو أفضل من بعض التابعين؛ لأن شرف الصحبة خاص بالصحابة.(107/14)
((ينذرون ولا يوفون)) النذر معروف مقرر عند أهل العلم أنه مكروه، ويستخرج به من البخيل، إلزام المسلم نفسه شيئاً ليس بلازم، وإيجابه على نفسه أمر لا يجب عليه في أصل الشرع إنما يفعل ذلك البخيل الذي لا يعمل إلا إذا ألزم نفسه، لا يلتزم إلا إذا ألزم نفسه، لكن الوفاء به إذا كان نذر طاعة يجب الوفاء به، يجب الوفاء به، ويقرر أهل العلم أن النذر باب من العلم غريب، وسيلته مكروهة وغايته واجبة؛ لأن الوسائل لها أحكام الغايات، أحكام المقاصد، هذه من قواعد الدين، لكن في هذا الباب الوسيلة مكروهة والغاية واجبة، فإذا لم يف بنذره، وقد أمر بالوفاء بالعقود والعهود والنذور ((أوف بنذرك)) ((من نذر أن يطيع الله فليطعه)) يكثر من ينذر ولا يفي، بعض الناس يلزم نفسه يقول: إذا جاء آخر الشهر واستلمنا الراتب سوف أتصدق بمائة ريال، هذا لا يخلو إما أن يقترن بيمين أو لا يقترن، فإن اقترن باليمين دخل في حكم {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ} [(75) سورة التوبة] وإن لم يقترن بيمين فهو مجرد وعد، لا يثبت إلا بالقبض، لكن الوفاء بالوعد مطلوب، وأمره أخف مما لو اقترن بيمين، أو جاء على صيغة النذر الذي يلزم الوفاء به.
((ويظهر فيهم السمن)) البدانة تظهر في المتأخرين بكثرة، التنعم والترف، لا يوجد في سلف هذه الأمة، إنما فتحت الدنيا على من بعدهم، وكان السمن نادر في صدر هذه الأمة وفي خيارها، والسمن نتيجة للشره في الأكل والشرب والراحة، وهذا لا شك أنه يعوق عن تحصيل كثير من مصالح الدين، لكن بعض الناس خلقة يركبه اللحم والشحم من غير قصد، ومن غير أكل، تجد الأكل قليل جداً، ومع ذلك الوزن يزيد، وبعض الناس يأكل كثيراً ووزنه ينقص، مثل هذا ليس بيد الإنسان، إنما المراد به ذم الترف، وذم الشره في الأكل والشرب والراحة.(107/15)
الشافعي -رحمه الله- يقول: "ما رأيت عاقلاً سميناً إلا أن يكون محمد بن الحسن" يعني فائق العقل جداً محمد بن الحسن، ومع ذلك يوجد كثير من العقلاء من هذا النوع، لكن المذموم ما يستطيعه الإنسان، هناك أشياء يستطيعها الإنسان وأشياء لا يستطيعها، وبعض الناس كما هو مشاهد وزنه يزيد وأكله قليل، بعض الناس يكون عنده غدد وجسمه قابل للزيادة هذا يزيد ولو قل أكله، هذا ما يلام، لكن الذي يلام من يسعى لذلك، وهي مجرد علامة في المتأخرين، والعلامات قد تكون مذمومة، وقد تكون هي لمجرد الإخبار، يعني علامة الخوارج حلق الشعر ((سيماهم التحليق)) أو قال: ((التسبيد)) كما في البخاري، سيما الخوارج، لكن هل الحلق مذموم؟ هم لا يتركون فرصة للشعر أن ينبت يتعاهدونه كما يفعل -مع الأسف- كثير من الناس اليوم في لحيته يمر الموسى إذا أراد الخروج إلى الدوام يومياً، فالخوارج يمرون الموسى على شعورهم لأنها سيماهم، لكن من احتاج إلى حلقه أو لا يستطيع إكرامه فضلاً عن كونه في نسك حج أو عمرة هذا لا يذم، فهذه مجرد علامة من علاماتهم، وإن لم يترتب عليها مدح أو ذم، ونقول مثل هذا في ((يظهر فيهم السمن)) إذا لم يقصد ذلك.
قال -رحمه الله-: "وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي)) " الشارح يقول: غَمر بفتح الغين المعجمة، يراها بفتح الغين والميم غَمَر، وتكسر الميم، لكن الأكثر على أن الغين مكسورة ((ولا ذي غِمر على أخيه)) يعني حقد على أخيه ((ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت)).(107/16)
((لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة)) لأنه ليس بعدل، فالخائن هو الذي ضيع الأمانة، سواءً كانت فيما يتعلق بحقوق الله أو بحقوق العباد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ} [(27) سورة الأنفال] فالذي يضيع حقوق الله خائن، والذي يضيع حقوق العباد خائن، فليس بثقة مرضي، ولا عدل تقبل شهادته {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [(2) سورة الطلاق] {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء} [(282) سورة البقرة] والخائن ليس بمرضي، وليس بعدل، فلا تقبل شهادته و ((لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة)) سواءً كان ذكراً أو أنثى.
((ولا ذي غمر)) يعني حقد ((على أخيه)) لأن حقده عليه قد يحمله على أن يشهد عليه زوراً.
((ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت)) الخادم، الخادم لا تجوز شهادته لمن يخدمه؛ لأن مصلحته مرتبطة بمخدومه؛ لأنه يرجو نفعه، ويخشى ضره، وما يعود على المخدوم أثره يعود على الخادم، فله مصلحة من شهادته لسيده أو لمخدومه.
فلا بد من تحقق العدالة في الشاهد، كما أنه لا بد من تحققها في الراوي، والشهادة يطلب فيها العدول الثقات فلا تقبل شهادة من ذكر لتخلف العدالة، والعدالة وصف أو ملكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة، فلا بد من ملازمة التقوى التي هي فعل المأمورات، وترك المحظورات، ولا يعني هذا أنه لا تقبل شهادة ولا رواية إلا شخص لا يعصي، فيترك بعض المأمورات، ويرتكب بعض المحظورات، إنما المراد به من يخطئ، ثم يعود ويتوب إلى الله -جل وعلا-، ويكون غالب حاله الاستقامة، وإلا فالعصمة غير متصورة في غير الأنبياء.
قال -رحمه الله-: "وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية)) رواه أبو داود وابن ماجه".(107/17)
((لا تجوز شهادة بدوي)) ساكن البادية من الأعراب الجفاة الجهلة؛ لأن هذا وصف كثير في البادية ((من بدا جفا)) ولبعدهم عن موارد العلم والنور يكثر فيهم الجهل، ويكثر فيهم الجفاء {الأَعْرَابُ -كما قال الله -جل وعلا- أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ} [(97) سورة التوبة] يعني لبعدهم عن أهل العلم يتصفون بالجهل، ويتصفون بالغلظة والشدة، ولاتصافهم الغالب بالجهل منعت شهادتهم على صاحب القرية الحضري، أما إذا ارتفع الوصف، وعرف عن هذا البدوي ساكن البادية العلم والإنصاف، قد يوجد فيهم، فإنه حينئذٍ تجوز شهادته، كما أجاز النبي -عليه الصلاة والسلام- شهادة الأعرابي في دخول شهر رمضان، فالمسألة مسألة وصف، فإذا تحقق الوصف وهو غالب بالنسبة للبادية قليل بالنسبة للحاضرة، فإذا تحقق هذا الوصف ردت الشهادة، سواءً كان الشاهد بدوياً أو حضرياً، لكن لما كان الوصف غالباً في البادية نص عليه، وتجد هناك منافسة بين سكان البادية وبين سكان الحاضرة، فتجد بعض الإشكالات والمشاكل بينهم، فتجد الحضري يتكلم في البدوي، والبدوي كذلك، فيحصل بذلك شيء مما يحمل على تجاوز الحق، فيحمل البدوي على أن يشهد على الحضري بغير حق والعكس، لكن المرد أولاً وآخراً للثقة والعدالة والأمانة، لكن لما كان الغالب في البادية الجهل والغلظة نص عليها، وإلا إذا وجد هذا الوصف في حضري أو غيره ردت شهادته.
قال -رحمه الله-: "وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه خطب فقال: "إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" النبي -عليه الصلاة والسلام- مؤيد بالوحي، يحكم على الناس بما أعلمه الله -جل وعلا-، ويخبر عنهم، وقد يخبر بعض صحابته عن بعضهم، كما أخبر حذيفة عن بعض المنافقين، وسماهم له، لكن غير النبي -عليه الصلاة والسلام- المؤيد بالوحي هذا عليه أن يحكم بما يظهر له، والباطن الخفي الذي لا يعلمه إلا الله -جل وعلا- انقطع بانقطاع الوحي.(107/18)
"إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" النبي -عليه الصلاة والسلام- يخبر عن بعض الناس، عن باطن أمورهم، وعن خفاياهم، وعما يخفونه في نفوسهم، لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله -جل وعلا-، لكن الله قد يعلمه عن بعض الناس فيؤخذون بالوحي، وأما بعد انقطاع الوحي بموته -عليه الصلاة والسلام- "وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم" وأما السرائر فتوكل إلى الله -جل وعلا-، فالمؤاخذة كلها على الظاهر.
إذا زكي الشاهد أو الراوي من قبل عدلين فهو مقبول الشهادة، والتزكية كما يقرر أهل العلم إنما يسأل فيها عما يخفى على الحاكم، وإن كان ظاهراً للمزكي، وبعضهم يقول: إن التزكية إنما هي على الأمور الباطنة، ولذلك عمر -رضي الله عنه- لما شهد عنده رجل فقال له عمر: لست أعرفك، فأت بمن يعرفك، فقال رجل من القوم: أنا أعرفه، قال: بأي شيء تعرفه؟ قال: بالعدالة والفضل، فقال: هو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: فعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا، قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: لست تعرفه، ثم قال للرجل: آت بمن يعرفك؟ هذه أسئلة عن أمور باطنة، ولعل عمر -رضي الله تعالى عنه- قامت عنده قرائن تدل على عدم مطابقة التزكية للمزكى، وإلا إذا كان ظاهره الصلاح وزكي من قبل من يعرفه يكفي؛ لأن الحكم إنما هو على الظاهر، والناس بين إفراط وتفريط، يعني بدءاً من أهل العلم الذي يعدلون ويجرحون الرواة فيهم المتشدد، وفيهم المتساهل، وفيهم المتوسط، وبين من يتكلم في الناس إلى يومنا هذا مع أن الأعراض مزلة قدم كما يقول ابن دقيق العيد: "حفرة من حفر النار" "أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها العلماء والحكام" كثير من الناس يتكلم بمجرد استرواح وميل أو توقع يخوله هذا التوقع إلى الاستطالة بعرض أخيه، -نسأل الله السلامة والعافية-، وبعض الناس ينزج فيعدل ويوثق ويزكي بالجملة.(107/19)
الآن يحتاج في كثير من الأمور إلى أقوال المزكين، فيأتي هذا الذي طلب منه التزكية إلى أحد من أهل العلم فيطلب منه تزكية، فإما أن يتشدد ويرده بالكلية، يقول: أنا لا أعرف منك إلا ما يظهر لي ولا أعرف حقيقتك ولا سافرت معك ولا عاملتك بناءً على ما جاء عن عمر، فيتضيق الأمر على الناس، أو يزكي بالجملة، ويكيل من ألفاظ المدح ما لا يستحقه هذا المزكى، والمطلوب التوسط في الأمور كلها، اكتب عنه ما تعرف فقط، ولذا يأتي كثير ممن تطلب منه التزكية إلى أحد من أهل العلم فيحرجه يطلب منه التزكية، ويصعب على كثير من الناس مواجهة بعض طلاب العلم لا سيما إذا كان يحضر عنده الدروس، ويراه بكثرة أن يستفصل عن بعض الأمور، أو يقول: والله أنا لا أعرفك معرفة دقيقة، نعم أنت تحضر عندي، يكفيك أن أقول: تحضر عندي؟ وبعض أهل العلم يتشدد تشدداً يضيق على طلاب العلم في هذه الناحية التي يحتاجون إليها كثيراً، وخير الأمور أوساطها، على الإنسان أن يتوسط، لا يبخل بما يعرف، ولا يكتب ما لا يعرف.
قال -رحمه الله-: "وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه عد شهادة الزور من أكبر الكبائر" متفق عليه في حديث طويل".
بالمناسبة يعني من مناسبة ذكر أبي بكرة وذكر الشهادات يحسن أن نذكر ما يتعلق بشهادة القاذف إذا تاب؛ لأن الله -جل وعلا- قال: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [(4 - 5) سورة النور] القاذف إذا تاب الحد يلزمه بالاتفاق، يجلد {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [(4) سورة النور] يبقى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [(4) سورة النور] هل يتناول الاستثناء الأمرين معاً أو يعود إلى الأخير فقط؟ كونه لا يعود إلى الأول الذي هو الحد هذا محل اتفاق، وكونه يعود إلى الأخير محل اتفاق يرتفع عنه وصف الفسق، لكن تقبل شهادته أو لا تقبل؟ خلاف بين أهل العلم.(107/20)
السبب في رد الشهادة هو الفسق {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [(6) سورة الحجرات] والفسق ارتفع بالتوبة بالإجماع ارتفع، فإذا ارتفع الوصف المؤثر في رد الشهادة تقبل الشهادة، وهذا قول أكثر أهل العلم، ومنهم من يقول: لما قيل: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [(4) سورة النور] يقتضي ذلك التأبيد، مع أن التأبيد قد نص عليه في بعض المسائل، ودل الدليل على ارتفاعه.
الله -جل وعلا- ذكر عن أهل النار عن الكفار أنهم لا يتمنونه أبداً، لا يتمنون الموت أبداً، ثم بعد ذلك إذا دخلوا النار {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [(77) سورة الزخرف] تمنوا الموت حينئذٍ، طلبوا الموت مع اقتران عدم التمني بالتأبيد، مما يدل على أنه لو اقترن النفي بالتأبيد أنه يمكن ارتفاعه إذا ارتفع الوصف المؤثر فيه، فالوصف المؤثر في رد الشهادة هو الفسق، وإذا ارتفع الفسق ارتفع الوصف المؤثر فتقبل الشهادة حينئذٍ.
قال -رحمه الله-: "وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه عد شهادة الزور من أكبر الكبائر" متفق عليه في حديث طويل".
يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ )) ثلاثاً، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) وكان -عليه الصلاة والسلام- متكئاً فجلس، ثم قال: ((ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور)) فما زال يكرر -عليه الصلاة والسلام- حتى قلنا: ليته سكت، شفقة عليه ورحمة به -عليه الصلاة والسلام-، وكرر، وغيّر جلسته؛ للاهتمام بشأن شهادة الزور؛ لما يترتب عليها من مفاسد عظيمة، قد يترتب عليها إزهاق نفس، قتل نفس معصومة، قد يترتب عليها قطع طرف، قد يترتب عليها أخذ مال، قد يترتب عليها ظلم لا يطاق، وكم من شخص ظلم مظلمة عظيمة بسبب شهادة زور، وكم من شخص أزهقت روحه بسبب شهادة زور، ولذا أكد النبي -عليه الصلاة والسلام- عليها، وكان متكئاً فجلس ((ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور)).(107/21)
قد يهتم بالشيء أكثر ممن هو أشد منه، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) ما جلس من أجلهما، ولا كرر مع أن الإشراك أعظم ذنب يعصى الله فيه -جل وعلا-، عقوق الوالدين أعظم الحقوق بعد حق الله -جل وعلا- بر الوالدين؛ لأن الناس قد ينتهكون بعض المعاصي، ويستمرونها، فيحتاجون إلى التشديد الذي يجعلهم يقلعون عنه، وبعض الأمور -وإن كانت أعظم- لا يشدد فيها؛ لأن النفوس نفس المسلم في الجملة تنفر منها، تنفر من الشرك، وحق الوالدين الملموس ينفر منه صاحب الطبع السليم أن يعق والديه، فشهادة الزور قد يحمل عليها رغبة أو رهبة، أو طمع، أو ما أشبه ذلك، ثم يتساهل الناس فيه، ويشدد في بعض الأمور؛ لأن الناس يتساهلون فيه ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير)) بلى إنه كبير، يعني في نظر الناس ما هو بكبير، لكنه في حقيقة الأمر كبير.
"وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل: ((ترى الشمس؟ )) قال: نعم. قال: ((على مثلها فاشهد أو دع)) أخرجه ابن عدي بإسناد ضعيف، وصححه الحاكم فأخطأ" نعم الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده محمد بن سليمان ضعفه النسائي وغيره، وقال البيهقي: لم يرو من وجه يعتمد عليه، فالحديث ضعيف.(107/22)
طيب ((ترى الشمس؟ )) قال: نعم، قال: ((على مثلها فاشهد أو دع)) قد يقول بعضهم: معناه صحيح؛ لأن التثبت في الشهادة مطلوب، كما يتثبت في رؤية الشمس ورؤية القمر، لكن التثبت إلى هذا الحد يخرج بعض أنواع الشهادة، وهو ما يكتفى فيه بالاستفاضة، يعني لو جاء شخص بلغ السن النظامية، ويريد استخراج ما يثبت هويته بطاقة، فجاء لجاره قال: تشهد لي أني فلان ابن فلان عند الأحوال؟ إن قلنا: على مثله فاشهد يستطيع وإلا ما يستطيع؟ يستطيع، هل حضر العملية التي بسببها وجد، وتابع العمل إلى أن وجد هذا الشخص وعرفه بعينه؟ يكفيه استفاضة أن هذا ولد فلان، يكفيه، يعني وفد إلى البلد أناس، شخص له أولاد، استمر هذا الشخص عشر سنين، وأنت تعرف أن هذا سكن هذا البيت، ومعه هؤلاء الأولاد، وهذه الزوجة، يعني ما تشهد أن هذه زوجته وهؤلاء أولاده؟ وما يدريك أنهم هم بحق أو باطل؟ لكن الاستفاضة في مثل هذا تكفي، ولو طلب في مثل هذا ((على مثلها فاشهد)) لتعذرت الشهادة، تتعذر الشهادة؛ لأن مقتضى على مثلها مثل الشمس أنك لا بد أن تحضر من أول العمل إلى آخره، وهذا دونه، ما يمكن حضوره أصلاً، هذا لا يمكن حضوره أصلاً، فالقابلة تقبل شهادتها، وإن كانت امرأة واحدة في مثل هذا العمل؛ لأنه لا يمكن للرجال أن يحضروا مثل هذه الأمور.
قال -رحمه الله-: "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى بيمين وشاهد" الأصل أن الشهادة من اثنين في الأموال، رجلان أو رجل وامرأتان، وفي الحدود الرجال، وفي الأموال برجل وامرأتين، قد يتعذر وجود رجلين، أو رجل وامرأتين، المدعي الذي أحضر شاهداً واحداً أصل الدعوى لا تقبل إلا ببينة، جاء ببينة لكنها ناقصة، مجرد الدعوى ضعيفة بدون بينة، تقوت بالشاهد، في مقابل يمين المنكر بشاهد أقوى، لكن تحتاج، ما زال فيها ضعف، لم تبلغ النصاب الشرعي، لم يكتمل النصاب {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [(2) سورة الطلاق] تتقوى هذه البينة الضعيفة بالشاهد الواحد باليمين، ولذا حديث: ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى بيمين وشاهد. أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، وقال: إسناد جيد.(107/23)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- مثله. أخرجه أبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان.
على كل حال الحديث صحيح، كونه -عليه الصلاة والسلام- قضى باليمين مع الشاهد هذا صحيح، وقال به جمهور أهل العلم، وإن خالف في ذلك أبو حنيفة أنه لا يحكم بيمين مع الشاهد، وإنما لا بد من تمام النصاب في الشهادة، لكن ما دام الحديث مخرج في مسلم، وقال به جمهور أهل العلم، وقويت الدعوى بوجود البينة الضعيفة بشاهد واحد، لكنها تترقى وتتقوى بيمين المدعي.
نقف على هذا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(107/24)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: بلوغ المرام – كتاب القضاء (4)
باب: الدعاوى والبينات
الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير
هذا يقول: حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى بيمين وشاهد، أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، وقال: إسناده جيد، يقول: لماذا قال الحافظ: إسناده جيد مع أنه أخرجه مسلم؟
الذي قال إسناده جيد النسائي، وليس الحافظ، الحافظ لا يقول هذا في أحاديث الصحيحين إطلاقاً، لكن النسائي لما أخرج الحديث قال: إسناده جيد، والنسائي يتحدث عن روايته لا عن رواية مسلم.
سم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى-:
باب: الدعاوى والبينات
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه)) متفق عليه، وللبيهقي بإسنادٍ صحيح: ((البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)).
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عرض على قوم اليمين فأسرعوا، فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف؟ رواه البخاري.
وعن أبي أمامة الحارثي -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة)) فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: ((وإن قضيب من أراك)) رواه مسلم.
وعن الأشعث بن قيس -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان)) متفق عليه.
وعن أبى موسى -رضي الله تعالى عنه- أن رجلين اختصما في دابة، وليس لواحد منهما بينة، فقضى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينهما نصفين" رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وهذا لفظه، وقال: إسناده جيد.(108/1)
وعن جابر -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان.
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه منها وفى، وإن لم يعطه منها لم يف)) متفق عليه.
وعن جابر -رضي الله تعالى عنه- أن رجلين اختصما في ناقة، فقال كل واحد منهما: نتجت عندي، وأقاما بينة، فقضى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن هي في يده.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رد اليمين على طالب الحق. رواهما الدارقطني، وفي إسنادهما ضعف.
وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم مسروراً، تبرق أسارير وجهه، فقال: ((ألم تري إلى مجزز المدلجي؟ نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: هذه أقدام بعضها من بعض)) متفق عليه.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
باب: الدعاوى والبينات
الدعاوى جمع دعوى، وقد تجمع على دعاوى ودعاوي، مثل فتاوى وفتاوي، وصحارى وصحاري، والدعوى اسم مصدر من ادعى الفعل ادعى دعوى، والمصدر ادعاء، والأصل فيها أن يدعي شيئاً أنه له، ويستوي في ذلك يسمى مدعي، سواءً كان محقاً أو غير محق، وعليه حينئذٍ المدعي البينة كما سيأتي.
والبينات جمع بينة، والأصل فيها كل ما يبين الحق من الحجج، سواءً كانت من الشهود أو من القرائن التي تدل على صدق المدعي، أعم من أن تكون شهوداً، وإن كان الجمهور يخصون البينة المطلوبة من المدعي بالشهود.(108/2)
ابن القيم يقرر أن البينات أعم، وأن كل ما أبان عن الحق ووضحه من الحجج سواء كانت شهوداً، أو قرائن فالحكم بالقرائن القوية، يرى ابن القيم أنه من الحق، القرائن القوية التي تدل على أن الحق لفلان؛ كأن يدعي شيئاً تدل عليه القرائن أنه له.
لو جاء شخص يدعي لباساً جرت العادة بأن مثله يلبسه، وهو في يد شخص جرت العادة أنه لا يلبسه، لو وجد شماغ مثلاً بيد شخص ليس من أهله، ما جرى في العادة أنه يلبس الشماغ، وليس من ملبوسهم، من أهل الألبسة التي جرت عادتهم وعرفهم أن الشماغ ليس منها، هذه قرينة، ولو جاء شخص حاسر الرأس يدعي عمامة بيد شخص عليه عمامة، القرينة تدل على أن هذه العمامة لحاسر الرأس ممن جرت عادته بلبس العمامة، يعني ما عرف أن هذا الشخص يخرج إلى الناس بدون عمامة، هذه قرائن، يعني يستروح بها، ويمال بها إلى أن الحق لهذا المدعي، لكن الجمهور على أن مثل هذه الأمور لا تكفي.
يعني في قصة علي مع اليهودي علي -رضي الله عنه وأرضاه- مع اليهودي القرائن كلها تدل على أن الدرع له، ومع ذلك شريح أوجد من يشهد له، قويت دعواه بالشاهد، ومع ذلك لم يحكم له شريح لضعف بينته، ولم يكتف بالقرائن إضافة إلى الشاهد الذي لم يقدح فيه، لكن لو حلف أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- مع الشاهد مع قنبر استحقها؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قضى باليمين مع الشاهد، وشريح يعلم أن علياً -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- صادق في دعواه، لكنه لم يحكم بعلمه كما قال أهل العلم، وإن نقل عنه أنه ممن يرى الحكم بالعلم.
وعلى كل حال القرائن التي تظهر للقاضي لا شك أنها تفيده علماً بأن صاحب الدعوى راجح الجانب، لكن هل يكتفى بها كما يقول ابن القيم في الطرق الحكمية وبنى عليها كتابه؟ أو لا بد من البينة الكافية وهي الشهود العدول المقبولون شرعاً المزكون عند الاحتياج إلى التزكية؟ فالجمهور يقولون: لا بد منهم.(108/3)
هذه القرائن التي تتفاوت قوة وضعفاً، التي يقرر ابن القيم -رحمه الله- أنها كافية، لا شك أنها قد توقع في شيء من الحرج؛ لأنها قد تقوى فيغلب على الظن صدق المدعي، وقد تكون هذه القرينة متوسطة، فإن تردد في الأمر فتكون ضعيفة، وحينئذٍ يلجأ القاضي للحكم بعلمه، والقاضي لا يحكم بعلمه عند الجمهور على ما تقدم.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لو يعطى الناس بدعواهم)) " بدعواهم، بالإفراد في جميع النسخ؟ بدعواهم كذا في جميع النسخ؟
طالب:. . . . . . . . .
نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
على كل حال لا يلتبس الأمر، وإلا فالأصل أن تجمع الدعوى، كما جاء في الناس، فيكون من باب مقابلة الجمع بالجمع، فيكون لكل واحد من هؤلاء الناس دعوى، وإذا قلنا: ((لو يعطى الناس بدعواهم)) صار الناس كلهم لهم دعوى واحدة يدعونها على مدعى عليه، وعلى كل حال المقصود واضح.
((لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم)) كلام صحيح، لو أن كل إنسان يدعي شيئاً يحكم له به لما بقي الحق في يد صاحبه؛ لأنه لا بد أن يوجد من يدعيه إذا كان بيعطى، ويدفع إليه بمجرد الدعوى من غير بينة.
((لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه)) اليمين على المدعى عليه، متى تلزمه اليمين؟ إذا أنكر.
متفق عليه، وللبيهقي بإسناد صحيح: ((البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)).
البينة أقوى من اليمين، فطلبت ممن جانبه أضعف، المدعي يدعي شيئاً بيد غيره، والمدعى عليه يدعى عليه شيء بيده، فالمدعي دعواه ضعيفة، والمدعى عليه وبيده المدعى به جانبه قوي، فاحتيج للبينة القوية لتقوي جانب المدعي الضعيف الذي يدعي حقاً في يد غيره، واكتفي بالبينة الضعيفة التي هي اليمين، وإن كانت عظيمة عند الله -جل وعلا-، لكنها عند الناس أسهل من إحضار الشهود؛ لأن جانب المدعى عليه قوي.
لو افترضنا أن المدعي أحضر بينة على أن ما يدعيه له، والمدعى عليه أحضر بينة، المدعي الذي يدعي أن ما بيد زيد له أحضر بينة مرضية، والمدعى عليه أحضر بينة مرضية أن ما بيده له، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
نعم؟(108/4)
طالب:. . . . . . . . .
يقول: ((البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)) هل نحكم للمدعي بما ادعاه بمجرد إحضاره البينة؟ لأن هذا هو المطلوب شرعاً ((البينة على المدعي)) هذا هو المطلوب شرعاً ((البينة على المدعي)) أحضر البينة المرضية المقبولة في الشهادة، نحكم له بمجرد هذا، أو ننظر ما عند المدعى عليه؟ هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
عنده بينة، شهود عدول أن ما بيده له، المدعى عليه جانبه أقوى؛ لأن الأصل براءة ذمته، نعم إذا أمكن الجمع بين الشهادتين بأن يدعي زيد على عمرو مبلغ من المال، وأحضر الشهود بأنه أقرضه هذا المبلغ بحضرتهم، فادعى عمرو أنه دفع إليه هذا المبلغ بشهادة فلان وفلان، هنا في تعارض بينات وإلا ما فيه؟ ما في تعارض بينات، هو ما أنكر أصلاً، يقول: أنا عندي له مبلغ من المال، لكن سددت بشهادة فلان وفلان، هذه ما في تعارض بينات، نعم، لكن لو أحضر، قال زيد: إني أقرضت فلاناً في العصر من يوم كذا، مبلغاً من المال قدره كذا، بحضرة فلان وفلان، فجيء بفلان وفلان قالوا: نعم أقرضه بحضرتنا المبلغ المدعى، فجاء المدعى عليه بشهود وقالوا: إن فلاناً من صلاة العصر في اليوم المدعى فيه إلى أذان المغرب هو معنا، ما أقرض ولا فارقناه، هنا تتعارض البينات، فمن الجانب الأقوى من الطرفين؟ المدعى عليه؛ لأن الأصل براءة ذمته.(108/5)
نظير هذا عند أهل العلم عند أهل الحديث تعارض الجرح والتعديل، يقولون: الجرح مقدم على التعديل؛ لأن الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدل، لكن إن أمكن نفي ما ادعاه الجارح بطريق صحيح قدم قول المعدل، لو قال: فلان ضعيف لأنه فاسق، شرب الخمر في يوم كذا في مكان كذا، ثم قال المعدل: لكنه تاب، أو قال: هو في اليوم المدعى فيه والمكان المدعى فيه أنا كنت ملازماً له ما شرب، فهل نقول: المثبت مقدم على النافي، أو نقول: تعارضت البينات؟ لكن لو قال: هو فاسق؛ لأنه قتل فلاناً يوم الخميس، فجاء المعدل وقال: أنا رأيت فلاناً الذي ادعي قتله يوم الجمعة، أمكن النفي بطريق صحيح، وحينئذٍ لا يلتفت إلى قول الجارح، ونظير هذا في الدعاوى، الأصل براءة الذمة، فإذا تكافأت البينات هل يقال مثلاً: أن هذا مطلوب منه البينة وأحضرها ويكفي، فلا نلتفت إلى المدعى عليه مع بينته، أو نقول: إنه في الأصل جانبه أقوى، فيزداد قوة ببينته على دعوى المدعي، وهنا ما يسمى بالخارج والداخل، المدعى عليه بيده العين المدعاة، والمدعي ليست بيده العين المدعاة، وتعارضت بينة الداخل الذي بيده العين المدعاة، والخارج الذي هو المدعي، الحنابلة يقدمون بينة الخارج، والجمهور يقدمون بينة الداخل، الحنابلة يقولون: المدعى عليه أصلاً ما يكلف ببينة، إنما الذي يكلف بالبينة .. ، وما دام ما كُلف بها لا يُنظر إليها، والمدعي هو المكلف بالبينة، فهي محل النظر والاعتبار، لكن المدعى عليه يكلف إذا أنكر باليمين، ومن المعلوم أن البينة أقوى من اليمين، بدليل أن البينة جعلت في حق الأضعف، واليمين جعلت في حق الأقوى، فإذا جاء بالبينة وهي أقوى من اليمين كان أدعى لقبول قوله، وبهذا قال الأكثر أنها تنظر بينته، ويحكم له بها، ويكون جانبه أقوى.
"وللبيهقي بإسناد صحيح: ((البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)) " الذي في الصحيحين: ((ولكن اليمين على المدعى عليه)) ومعلوم أنه إنما تطلب يمينه إذا أنكر، أما إذا أقر فلا حاجة إلى يمينه.(108/6)
طيب ليس في الصحيح: ((البينة على المدعي)) قال: "وللبيهقي بإسناد صحيح: ((البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)) " ماذا نقول عن البينة على المدعي الذي خرجها البيهقي بإسناد صحيح، وأعرض عنها الشيخان؟ هل نقول: إن إعراض الشيخين عن تخريجها تعليل لها؟ أو نقول: هذه زيادة ثقة لا تعارض ما في الصحيحين فهي مقبولة ولها ما يشهد لها؟
كثيراً ما يعل أهل الحديث زيادة جملة مخرجة في مسلم بإعراض البخاري عنها، في سنن أبي داود أو غيره من السنن بإعراض الشيخين عنها، كثيراً ما يعلون بذلك، فهل نقول: إن البينة على المدعي هذه الجملة معلة بعدم تخريج الشيخين لها؟ أو نقول: هي زيادة ثقة غير مخالفة لما في الصحيحين فتكون مقبولة لا سيما وأن لها ما يشهد لها في أحاديث وقضايا أخرى؟
على كل حال هذا الحديث أصل في الدعاوى والبينات، واعتمده أهل العلم، وجرى عليه العمل عندهم، فهي مقبولة على كل حال.
طالب: ومثلها: ((إنك لا تخلف الميعاد)) رعاك الله، الذي رواها البيهقي، وأعرض عنها البخاري؟
هذه شأنها أعظم؛ لأنها اعتمدت من أهل العلم، يعني مثل هذه الجمل الزائدة التي يحكم عليها الأئمة الكبار بأنها غير محفوظة، ويحكم عليها غيرهم بأنها زيادة ثقة، هذه النظر فيها للأئمة؛ لأنهم برسوخهم في هذا الشأن، ومعرفتهم التامة، وسعة اطلاعهم فإنهم ليعلون الأحاديث من غير بيان علة، بل قد لا يستطيعون بيان وجه العلة، وإنما يكتفون بشم الحديث؛ لأنهم من معاناتهم للحديث، واهتمامهم بالحديث، وعيشهم مع الحديث صاروا يعرفون ما يمكن إثباته، وما يمكن نفيه، بخلاف سائر المتعلمين من المتأخرين وغيرهم، ممن لم يصل إلى منزلتهم، ولذا تجدهم يعلون ((إن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين)) ويعلون: ((إنك لا تخلف الميعاد)) وإن كانت طريقة المتأخرين قبول مثل هذه الزيادات؛ لأنها غير منافية لما جاء في الصحيح، لما جاء فيما هو أصح.
هذه الجملة ((البينة على المدعي)) تلقاها أهل العلم بالقبول، وجعلوها أصل في هذا الباب، ومما يقوى به الحديث عمل أهل العلم به، إذا كان عليه العمل تقوى به، وكثيراً ما يقول الإمام الترمذي: "وعليه العمل عند أهل العلم" يقوي بذلك الرواية التي يسوقها.(108/7)
قال -رحمه الله-: "وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عرض على قوم اليمين فأسرعوا، فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف؟ ".
هذا متاع بيد طرف ثالث، افترض أنه لقطة، بيد شخص، بيد بكر من الناس، فجاء عمرو ووصف هذه اللقطة، وجاء زيد ووصف هذه اللقطة بوصف مطابق، طيب البينة من كل منهم، قالوا: ما عندنا بينة، اتجه اليمين على كل واحد منهما، فاستعد كل واحد منهما للحلف، يعني الكفة متساوية بين الاثنين، هذه اللقطة التي بيد عمرو عرفها زيد بوصف مطابق، وعرفها عمرو بوصف مطابق، طلب من زيد بينة، قال: ما عندي، طلب من عمرو بينة قال: ما عندي، قيل لزيد تحلف؟ قال: أحلف، قيل لعمرو: تحلف، قال: أحلف، كيف نصنع؟ ما الذي يحل مثل هذا الإشكال؟ قال: "عرض على قوم اليمين فأسرعوا" كلهم بيحلفوا "فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف؟ " قرعة "رواه البخاري".
وهذا فيما إذا استوت الأمور، القرعة حل شرعي، يعني في الأعمال والولايات التي يقدم فيها بالأوصاف المرعية شرعاً إذا استووا في هذه الأوصاف لا يكون الترجيح بين الناس بالتشهي، أو بالقربى، أو ما أشبه ذلك، لا، لو جاء أكثر من إمام لمسجد من المساجد قيل: الحكم حديث أبي مسعود ((يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله)) فجيء بلجنة اختبرت هذا وهذا وحصلوا على درجة واحدة، كل واحد أخذ تسعين بالمائة في الاختبار، فإن كانوا في القراءة سواء، صاروا سواء، فأعلمهم بالسنة، اختبروا بالسنة نفس النتيجة، نظر إلى المرجحات الأخرى وجدت متساوية، المرجحات المعتبرة شرعاً، ما الذي يحل الإشكال؟ القرعة.
وفي مسألتنا لما تساوى الاثنان ما في حل إلا القرعة "فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف؟ ".
يقول الشارح: يفسره ما رواه أبو داود والنسائي من طريق أبي رافع عن أبي هريرة أن رجلين اختصما في متاع ليس لواحد منهما بينة، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((استهما على اليمين)) والمراد بالاستهام هنا هو الاقتراع.(108/8)
قال: وروي مثله عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وهو أنه أتي بنعل وجد في السوق يباع، فقال رجل: هذا نعلي لم أبع ولم أهب، وقرع على خمسة يشهدون، وجاء آخر يدعيه يزعم أنه نعله، وجاء بشاهدين، قال الراوي: فقال علي -رضي الله عنه-: إن فيه قضاءً وصلحاً، وسوف أبين لكم ذلك، أما صلحه فأن يباع النعل، فيقسم على سبعة أسهم، لهذا خمسة، ولهذا اثنان؛ لأن هذا معه خمسة شهود، وهذا معه شاهدان.
لكن القدر الزائد على البينة المعتبرة شرعاً هل له أثر في القضية أو ليس له أثر؟ القدر المطلوب شرعاً رجلان أو رجل وامرأتان، جيء بثالث ورابع وخامس وعاشر، ينظر إلى شهادتهم أو لا ينظر؟ لا شك أنه كلما كثرت أو كثر الشهود، وزادت البينة وصارت أقوى من بينة الخصم أن النفس تطمئن إلى صدقه أكثر، لكن بينة الطرف الثاني بينة شرعية كاملة يستحق بها المدعى به، لو لم يحضر الثاني بينة ما الذي حصل في القضية؟ قال: أما صلحه فأن يباع النعل فيقسم على سبعة أسهم لهذا خمسة ولهذا اثنان، على عدد الشهود، وإن لم يصطلحا فالقضاء أن يحلف أحد الخصمين أنه ما باعه ولا وهبه وأنه نعله، فإن تشاححتما أيكما يحلف فإنه يقرع بينكما على الحلف فأيكما قرع حلف، يعني على ضوء ما جاء في الحديث "فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف؟ " والحديث في الصحيح.
قال -رحمه الله-: "وعن أبي أمامة الحارثي -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة)) ".
الحقوق، حقوق العباد من الديوان الذي لا يغفر، حقوق الله -جل وعلا- أمرها أسهل، مبنية على العفو والمسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاححة.
قال: ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة)) وفي هذا التحذير من الحلف الكاذبة التي يقتطع بها حق المرء المسلم، وتسمى اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، ويقرر أهل العلم أنها أعظم من أن تكفر، التي يقتطع بها حق امرئ مسلم.(108/9)
((وحرم عليه الجنة)) فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: ((وإن كان قضيباً من أراك)) مسواك، ولو كان مسواك؛ لأن المسألة مسألة مبدأ، فالذي يحلف على القليل يحلف على الكثير، والذي يسرق القليل يسرق الكثير، ولذا جاء في الحديث الصحيح: ((لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده)) لأن هذا يستمري في السرقة فيسرق ما فوقها.
((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه)) مسلم، مفهومه أن من اقتطع حق كافر لا يثبت في حقه هذا الوعيد، ولا شك أن من الكفار من هو ذمي، معاهد، مستأمن، حقوقه محفوظة، ودمه معصوم، وماله معصوم، والتعدي عليه حرام، على نفسه أو ماله أو ولده كل هذا حرام، فهل قوله في الحديث: ((مسلم)) له مفهوم أو لا مفهوم له لأنه جرى على الغالب؟ الغالب أن الذي في بلاد المسلمين هم المسلمون، فجاء الخبر على الغالب، أو نقول: إن هذا الوعيد الشديد في الحديث خاص بالمسلم، وغير المسلم وإن كان التعدي على ماله حرام، إلا أنه لا يصل إلى هذا الحد، فيكون لفظ المسلم مفهوم، من أهل العلم من قال بهذا، ومنهم من قال بهذا، منهم من قال: إن اللفظ جرى على الغالب، وأن من يعيش في بلاد المسلمين هم المسلمون، فجاء الحديث في التشديد في أموالهم، ولا يعني أن غير المسلمين يجوز التعدي على أموالهم، بل يستحق هذا الوعيد ولو اعتدى على مال ذمي أو مستأمن أو معاهد.
ومنهم من يقول: حرمة مال المسلم أشد من حرمة مال غيره، نعم مال غيره حرام غير الحربي، لكن لا تصل إلى حد الحرمة، والتشديد الذي جاء في التعدي على أموال المسلمين كما هو الشأن في دمه.
فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: ((وإن كان قضيباً من أراك)) مثلما قلنا: لأن المسألة مسألة مبدأ، والذي يظلم في القليل يظلم في الكثير.
ثم قال -رحمه الله-: "وعن الأشعث بن قيس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان)) متفق عليه" وهو شاهد للحديث الذي قبله في تشديد حرمة مال المسلم، وأما حرمة مال غيره فبنصوص أخرى.(108/10)
القيد ((هو فيها فاجر)) يحتاج إليه؟ يقيد به الإطلاق في الحديث السابق أو ما نحتاج إليه؟ يعني هل هو قيد نحتاج إليه في إطلاق الحديث السابق أو لا نحتاج إليه؟ أو هو تصريح بما هو مجرد توضيح؟ يعني وصف مؤثر وإلا غير مؤثر؟ الشارح في الحديث الأول قال: ثم المراد باليمين اليمين الفاجرة، وإن كانت مطلقة في الحديث فقد قيدها الحديث الآتي، هل نقول: إن الحديث الأول مطلق يشمل جميع الأيمان برة كانت أو فاجرة؟ أو نقول: إن التنصيص على الفاجرة في الحديث الثاني هو تصريح بما هو مجرد توضيح، وإلا مفهومة أنه ما يقتطع به حق امرئ مسلم إلا إذا كانت فاجرة؛ لأنها إذا كانت برة ليست من حق المسلم أصلاً، تكون حقاً له، الكلام واضح وإلا ما هو بواضح؟
الشارح يقول: "ثم المراد باليمين -في الحديث الأول- اليمين الفاجرة، وإن كانت مطلقة في الحديث فقد قيدها الحديث الآتي، وهو قوله: ((من حلف على يمين، يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان)) مقتضى ذلك أنه لا بد من أن تلحق بالحديث السابق، وأن تعتبر، لكن إذا قلنا: إنه إذا اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه يمينه فاجرة؛ لأن حق المسلم محرم عليه، وهو في يمينه كاذب، فهي فاجرة، وإذا اقتطع حق المسلم بيمين برة ما استحق هذا الوعيد، ولا صار الحق المقتطع حق مسلم، صار حقه هو، فلا نحتاج إلى هذا القيد، وحينئذٍ نقول: إن التصريح بقوله: ((هو فيها فاجر)) هو فاجر على كلا الحالين ذُكر الفجور أو لم يذكر، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
يعني حلف بناءً على غلبة ظنه، هل يجوز الحلف على غلبة الظن أو لا يجوز؟ وتبين خلاف الواقع.(108/11)
الأعرابي الذي جامع في نهار رمضان، وقال: "والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا أو مني أو من أهل بيتي" قالوا: إنه حلف بناءً على غلبة ظنه، لا عن استقراء تام لبيوت المدينة، وجوزوا أخذاً من هذا الحديث الحلف على غلبة الظن، هذا حلف على غلبة الظن أن هذه العين له، ويحصل هذا كثير، تضع كتابك في مكانك تحجز به المكان وتذهب إلى أماكن الوضوء تجدد الوضوء وترجع، فإذا بشخص آخر وضع كتابه بنفس المكان نفس الطبعة ونفس التجليد واللون ومن كل وجه، وتحلف أن هذا كتابك بناءً على غلبة الظن، وحلفت، وقال: خلاص خذ الكتاب، لما ذهبت إلى البيت وجدت فيه تعليقات ليس بقلمك، وفي كتابك تعليقات ما وجدتها في هذا الكتاب، أنت لما حلفت بناءً على غلبة الظن هل أنت آثم تدخل في حديث: ((أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة)) ((ولقي الله وهو عليه غضبان)) أنت حلفت على غلبة الظن.
يبقى أن الحكم معلق فإن رددته إلى صاحبه خرجت من العهدة، وإن قلت: والله أنا حلفت وحكم لي به، وانتهى الإشكال .... عند قاضي حلفت، وقال: خذ الكتاب، يأتي في هذا ما تقدم ذكره من الخلاف بين الجمهور والحنفية.
الجمهور يقولون: إنه لا يحل له، إن حل له ظاهراً فلن يحل له باطناً، بل يلزمه أن يعيده إلى صاحبه، والحنفية يقولون على خلاف بينهم في المسألة يحل له ظاهراً وباطناً، وبعضهم يطلق، وبعضهم يستثني الأموال، فيقول: الأموال لا تحل له باطناً، وإن حلت له الفروج، مع أن هذا من الغرائب، يعني إذا حكم القاضي ببينة كاذبة أن هذا المال له على التفريق عندهم أنه لا يحل له المال، لكن إن حكم له بأن هذه المرأة زوجته تحل له؛ لأن المقرر أن الاحتياط للفروج أولى من الاحتياط للأموال، الفروج والأعراض يحتاط لها أكثر من الأموال، فيستغرب من الحنفية أن يشددوا في أمر الأولاد أكثر من أمر الفروج.(108/12)
هذا الذي حلف على الكتاب بناءً على غلبة ظنه، ثم تبين أن الكتاب ليس له، هل هو فيها فاجر وإلا ليس بفاجر؟ هو في الحقيقة أثناء الحلف ليس بفاجر فيها، لكن إن استمر بعد أن تبين له حقيقة الأمر، دخل في الوعيد -نسأل الله السلامة والعافية-، وإن أخذه بحكم حاكم فيدخل في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((فإنما أقتطع له قطعة من نار)).
هذا يقول: أشكل علي قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة)) مع أن اقتطاع حق امرئ مسلم بيمينه لا يصل إلى حد الكفر، ومعلوم أن جميع الذنوب دون الشرك تحت المشيئة، فكيف التوفيق؟
مثل هذا يقال: إنه محمول على من استحل ذلك، أو محمول على الزجر والتهديد والوعيد، ولا يراد به حقيقة التحريم المذكور، وهذا من نصوص الوعيد التي يقرر أهل العلم أنها تمر كما جاءت؛ لتكون أبلغ في الزجر، فلا تصل إلى حد الخروج من الملة بحيث يخلد في النار.
قال -رحمه الله-: "وعن أبى موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنه- أن رجلين اختصما إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دابة ليس لواحد منهما بينة فقضى بها بينهما نصفين"، "فقضى بها بينهما نصفين" وهذا مثل الحديث السابق "عرض على قوم اليمين فأسرعوا، فأمر أن يسهم بينهم في اليمن أيهم يحلف؟ " هذه قرعة، وهنا قال في هذا الحديث -ذاك في البخاري- وهنا قال في الحديث: "أن رجلين اختصما إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دابة ليس لواحد منهما بينة فقضى بها بينهما نصفين".(108/13)
جاء رجل بناقة إلى السوق يقتادها، وقال: هذه الناقة وجدتها ولا أعرف صاحبها، فاجتمع عنده اثنان كل يقول: ناقتي، نتجت عندي، طيب البينة؟ ما عندي بينة، الثاني، كذلك ولا بينة عنده، قال: " فقضى بها بينهما نصفين" لأنهما مستويان في الموجب، استويا في الموجب، استويا في الوسيلة في الدعوى، فقسمت بينهما نصفين، وهناك أقرع بينهما، وهنا لم يقرع بينهما، ليس لديهما بينة، ليس لواحد منهما بينة، المفترض إيش؟ أن يعرض عليهما اليمين، إذا أسرعا في اليمين، وأراد كل واحد منهما أن يحلف فالحديث السابق يقول: "عرض على قوم اليمين فأسرعوا، فأمر أن يسهم بينهم في اليمن أيهم يحلف؟ " وهذا في البخاري، وفي الحديث اللاحق حديث أبي موسى: "فقضى بها بينهما نصفين" ولعل هذا إن صح لأن الحافظ يقول: وقال: إسناده جيد، نقلاً عن النسائي، إن صح يقال: صلح، نعم قضى بينهما صلح، قضى بينهما؛ لأنه معارض بما في البخاري، القضاء الذي في البخاري هناك أقوى "أمر أن يسهم بينهم" هذا القضاء وتقسم بينهما نصفين هذا الصلح، لكن لو وقف قال: أنا ما يكفيني النصف؟ لأن صاحبها الحقيقي إن قنع بالنصف صار صلح، وإن قال: لا، أنا لا أريد إلا نصيبي كامل، أنا أريد القضاء ما يكفيني النصف، أمر أن يسهم بينهم في اليمين، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
كيف؟
طالب:. . . . . . . . .
يباع فتقسم قيمته، هناك قسمة إجبار، وهناك قسمة اختيار، معروف في باب الشركة، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
هنا يقول: "أن رجلين اختصما إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دابة ليس لواحد منهما بينة، فقضى بها بينهما نصفين" على كل حال الذي في البخاري يختلف عن هذا "أسرعوا في اليمين فأقرع بينهم" هنا الكفة متساوية، وهناك الكفة متساوية فهل يقسم بينهما نصفين على ضوء هذا الحديث تبعاً لتساوي الأمرين بينهما؟ أو يقال: قرعة؟ والقرعة حل شرعي.
الذي دل عليه الحديث الأصح المخرج في البخاري القرعة، وفيها إلزام، والقسمة نصفين في هذا الحديث محمول على أنه صلح، لكن لو تشاحا قال: صاحبها الحقيقي أنا لا يكفيني النصف، لا أريد نصف، أنا ما يكفيني النصف، وصاحب الحق مثل هذا لا يكفيه، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .(108/14)
نفس الشيء، نفس القضية.
طالب:. . . . . . . . .
ويش هو؟
طالب:. . . . . . . . .
كل واحد منهما مدعي ومدعى عليه؛ لأن العين ليست بيد واحد منهما، نقول: واحد مدعي وواحد مدعى عليه، لا، العين بيد ثالث، فكل واحد منهما مدعي تلزمه البينة، وكل واحد منهما مدعىً عليه فيلزمه اليمين؛ لأنه يدعيها لنفسه، وينكر دعوى صاحبه عليه، وحينئذٍ لو طُلب منهما البينة، وقال كل واحد: ليس لدي بينة، ثم طلبت اليمين من واحد منهما فحلف، والثاني نكل حكم بها للذي يحلف، ما فيها إشكال هذا، لكن كل واحد منهما حلف، فإما أن تقسم بينهما نصفين، أو يلجأ إلى القرعة، إذا لم يرضيا بالقسمة.
قال -رحمه الله-: "وعن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان".
هذا فيه تغليظ اليمين، والتغليظ قد يكون بالنسبة للمكان كما هنا، وبجوار الكعبة بين الركن والمقام، أو في المتلزم بين الركن والباب، وقد يكون في الزمان بعد العصر مثلاً، لا سيما عصر الجمعة، أو في رمضان المقصود أن هذا يسمى تغليظ الحلف.
قال: ((من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار)) ((بيمين آثمة)) إذا لم يحصل التغليظ ((لقي الله وهو عليه غضبان)) إذا اقتطع بها حق مسلم ((حرم الله عليه الجنة)) كما في الحديثين السابقين، هنا زيادة تغليظ ((من حلف على منبري)) منبر النبي -عليه الصلاة والسلام- ((بيمين آثمة)) تغليظ اليمين بعض الناس عرف أنه يتساهل في اليمين، ويسرع إليها، وكلما طلبت منه حلف، هل يشرع تغليظ اليمين عليه أو لا يشرع؟ من أهل العلم من يرى أنه إذا كان يردع هذا الشخص الذي يسرع إلى اليمين، ولا يتردد فيها التغليظ فإنه يغلظ عليه، ويلزم بالمكان الفاضل أو الزمان الفاضل، أو يلزم بالدعاء على نفسه، أو يفتح المصحف كما يقول بعضهم، فيكون الأمر بالنسبة إليه أشد، وبعض الناس ينزجر إذا غلظ عليه اليمين، وكل على مذهبه وطريقته فيما يعظمه، فإذا غلظ عليه بما هو عظيم عنده ارتدع.(108/15)
قد يقول قائل: كيف يؤمر بالحلف بمعظم غير الله -جل وعلا-؟ نقول: لا يجوز للقاضي أن يحلّف بغير الله -جل وعلا-؛ لأن الحلف بغير الله شرك، لكن قد يدرج في يمينه بالله -جل وعلا- جملاً يهابها الحالف، شخص من الذين يعظمون البقر ادعي عليه، فأنكر، فطلب منه اليمين يحلف، ما يتردد؛ لأنه كما قال في حديث القسامة يهود يعني يحلفون ما عندهم إشكال، فقال له القاضي بعد أن وضع السكين في يده، فقال: قل: ورب البررة، ربهم الله -جل وعلا-، ما في إشكال، مهلك الفجرة، هو الله -جل وعلا-، فاليمين بالله، ورب البررة مهلك الفجرة لئن كان صادقاً لآخذن هذه السكين وأذبح البقرة، قال: يمين يحلف، بقرة ما يذبح، هذا نوع من التغليظ، فهل يسوغ مثل هذا أو لا يسوغ؟ هو ما ارتكب محظور، القاضي ما ارتكب محظور، الحلف بالله -جل وعلا-، إما أن يحلفه بمعظم عنده فلا يجوز بحال؛ لأن بعضهم قد يلجأ إلى التحليف بالطلاق، إن كنت كاذباً فامرأته طالق، لا يجوز، ولا شيء أعظم من الله -جل وعلا-، تعليق الطلاق بمثل هذه الصور يسميه أهل العلم الحلف بالطلاق، لكنه ليس من الحلف الذي فيه الشرك؛ لأنه ليس فيه حرف من حروف القسم، لكن يسمونه يمين أو حلف باعتبار أنه يلزمه فيه كفارة اليمين؛ لأن القصد منه الحث والمنع مثل اليمين.
التغليظ بالنسبة للزمان بعد العصر، وقالوا: ليلة الجمعة، وأولى من ذلك عصر الجمعة الذي فيه ساعة الاستجابة، وأيضاً في المواسم، في عشر ذي الحجة، في الأشهر الحرم، كل هذه فيها نوع تغليظ، فإذا كان الحالف، أو من أراد الحلف يسهل عليه أن يحلف بالله كاذباً، ويصعب عليه أن يحلف بين الركن والمقام مثلاً يخشى من العقوبة، أو يحلف على المنبر كما في هذا الحديث: ((من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار)) منهم من يقول: إن التغليظ هذا لا أثر له، العبرة بالحلف بالله -جل وعلا-، وهذا هو المطلوب ((اليمين على من أنكر)).(108/16)
ومنهم من يقول: إن التغليظ إذا كان يجدي في كف المدعى عليه عن اليمين الكاذبة؛ لأنه إذا كان صادقاً مهما غلظ عليه اليمين لا ضير عليه ولا إثم، إذا كان محق في إنكاره ما يمنعه أن يحلف على المنبر، أو بين الركن والمقام، أو عصر الجمعة، لكن إن كان كاذباً ويزدجر ويمتنع يرى بعض أهل العلم أنه تغلظ عليه اليمين.
قال -رحمه الله-: "وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم)) " الحصر في ثلاثة، الأسلوب ليس فيه حصر، ولا يدل على أن هذا الحكم خاص بهؤلاء الثلاثة؛ لأنه جاء .. ما أوصلهم بعض أهل العلم إلى عشرة، قيل فيهم: ((لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم)) بخلاف الحصر في حديث: ((لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة)) هذا حصر، ومع ذلك جاء في نصوص صحيحة صريحة أنه تكلم غير الثلاثة، وصلوا إلى سبعة.
الأسلوب الذي معنا ليس فيه حصر ((ثلاثة لا يكلمهم)) وأيضاً رابع وخامس إلى عاشر، ما في إشكال، لكن الإشكال في أسلوب الحصر، وهو في الصحيح ((لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة)) يقول أهل العلم: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- أخبر أول الأمر بالثلاثة، ثم زيد عليهم فيما بعد، خلافاً لمن أساء الأدب من الشراح فقال: في هذا الحصر نظر، المسكين هذا ينظر في كلام من؟ في كلام الرسول -عليه الصلاة والسلام-، هذا إن كان يعي ما يقول فهي هفوة عظيمة، موبقة، -نسأل الله السلامة والعافية-، وإن كان جرى على لسانه من غير روية فهذه غفلة.
على كل حال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم)) من هم؟ ((رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل)) لا يجوز له أن يمنع ابن السبيل من الماء المشاع الذي الناس شركاء فيه، الناس شركاء في مثل هذا الماء المشاع، لكن لو نقله، وتعب عليه، وأحرزه، وعباه في أواني، وحازه إلى رحله صار ملكاً له، وما دام بالفلاة لا يجوز له أن يمنعه من ابن السبيل.(108/17)
((ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا، فصدقه، وهو على غير ذلك)) تبيع هذه السلعة؟ قال: نعم، كم؟ والله أنا دافع فيها ألف، بعد العصر، والله إني دافع فيها ألف، كم يكفيك مكسب؟ يكفيني مائة، وهو شاريها بخمسمائة، يدخل ((ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا، فصدقه، وهو على غير ذلك)) بعض الناس يتساهل في اليمين في البيع والشراء، وهذا هو المنفق سلعته باليمين، وجاء الوعيد فيه، وإن كان صادقاً، فكيف إذا كان كاذباً؟!
((ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا للدنيا)) ما بايعه لأن البيعة عليه واجبة، وأن الإمامة من فرائض الدين، لا يبايع هذا الإمام إلا طعماً فيما عنده، ((فإن أعطاه منها وفّى)) له، ومدحه، وأطاعه فيما يأمر، وانتهى عما ينهاه عنه ((وإن لم يعطه منها لم يف)) وهذا كثير في الناس، كثير في الناس أمور الدنيا تسيرهم، وتسير عواطفهم ومشاعرهم، تجد إذا جاء مكرمة أو زيادة أو شيء من أمور الدنيا تلهج الألسنة بالثناء، ويقر في القلوب التعظيم، وامتثال الأوامر، وقال ولي الأمر، وفعل ولي الأمر، لكن إذا حصل خلاف ذلك ويش واقع الناس؟ ويش يتحدثون به الناس في المجالس؟ وهذا يدخل في الحديث.(108/18)
((ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه منها وفّى، وإن لم يعطه منها لم يف)) وهذا واقع كثير من الناس، همه الدنيا، لا يهمه انتظام أمور الناس، وحقن دمائهم، وحفظ أموالهم، لا يهمهم هذا، يهمه مصلحته الخاصة، إن أعطي من هذا المال، خذ من الثناء والمدح والتعظيم والائتمار بالأمر، والانتهاء عند النهي، والمجالس تعج بمثل هذا، وتجدهم في المناسبات التي يحصل فيها الزيادة والنقص شوف ماذا يقول الناس إذا زيدت رسوم أي منفعة من المنافع، رسوم الماء، أو رسوم الكهرباء، أو رسوم البنزين، أو رسوم .. ، أي منفعة من المنافع، ماذا يقول الناس؟ تجد ولاءه لهذا الإمام لهذا الأمير الذي بايعه ثابت قبل وبعد وإلا أقل؟ أقل، وإذا علم عن زيادة عشرة بالمائة أو شيء من هذا؟ يزيد؟ يزيد الولاء للإمام وإلا ما يزيد؟ يعني اختبر نفسك، أنت تبايع هذا الإمام؛ لأن الإمامة من فرائض الدين، ولا بد من نصب الخليفة الذي يحكم بين الناس، نعم عليه واجبات، عليه حقوق، أنت تؤدي الذي عليك بغض النظر عما عليه، تسأل الله -جل وعلا- الذي لك، لكن الذي عليك لا بد أن تؤديه، واختبر نفسك، هذا حال كثير من الناس، الامتحان صعب؛ لأن المال حلوة خضرة، يعني عمر بن عبد العزيز -رحمة الله عليه- من سياسته أنه إذا أراد أن يلزم الناس بأمر من أمور الدين أدخل معه شيء مما يحتاجه الناس من أمور الدنيا، هذا الصدر الأول، يعني ما هو .. ، كيف بالأزمان المتأخرة حينما صارت مؤاخاة الناس وموالاتهم ومعاداتهم على أمر الدنيا؟!
فعمر بن عبد العزيز إذا أراد أن يأطر الناس على حق من أمور الدين أضاف إليه شيء من أمور الدنيا، ليتلقاه الناس بالقبول، والله المستعان.(108/19)
قال -رحمه الله-: "وعن جابر -رضي الله عنه- أن رجلين اختصما في ناقة، فقال كل واحد منهما: نتجت عندي، وأقاما بينة، فقضى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن هي في يده" كل منهما أقام بينة هذا أحضر بينة، وهذا أحضر بينة، في الأحاديث السابقة ما في بينة، فيه أيمان، في هذا الحديث كل منهما جاء ببينة، هذا الحديث رواه الدارقطني وإسناده ضعيف، نفترض مسألة على ضوء هذا الحديث حصلت عند قاض من القضاة، ناقة ومثلما قلنا: جاء بها شخص إلى السوق فقال: وجدتها خارج البلد، وجئت بها إلى السوق لعل صاحبها أن يجدها، فجاء زيد من الناس قال: هذه ناقتي نتجت عندي، جاء عمرو: هذه ناقتي نتجت عندي، طيب يا زيد عندك بينة؟ قال: نعم، جاء ببينة، عمر عندك بينة، جاء ببينة، ماذا نصنع؟
هنا تأتي بينة الداخل وبينة الخارج، ويأتي الخلاف بين الحنابلة والجمهور، فالحنابلة يقدمون بينة الخارج، والجمهور يقدمون بينة الداخل.
في هذه الصورة في الحديث هي بيد شخص؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- كما في الحديث -المعروف ضعفه- قضى بها لمن هي في يده، فهذا الحديث يؤيد قول الجمهور، وأن بينة الداخل مقدمة على بينة الخارج خلافاً لقول الحنابلة.
"وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رد اليمين على طالب الحق" وهذا أيضاً رواه الدارقطني، وفي إسناده ضعف كسابقه، إلا أن الحافظ لما ذكر الحديثين قال: رواهما الدارقطني، وفي إسنادهما ضعف.
ومسألة رد اليمين على المدعي مسألة خلافية بين أهل العلم، وأشرنا إليها سابقاً من قول الإمام مالك -رحمه الله-: "لا أعلم أحداً قال برد اليمين على المدعي".
المدعي ما عنده بينة، طُلب اليمين من المدعى عليه فنكل، هل يحكم عليه بمجرد النكول أو يرد اليمين على المدعي؟
يقول الإمام مالك: لا أعلم أحداً قال برد اليمين، وذكرنا سابقاً أن قضاة العصر، عصر الإمام مالك ابن أبي ليلى وابن شبرمة وغيرهما يقولون برد اليمين، وعلى كل حال الحديث فيه ضعف.(108/20)
قال -رحمه الله-: "وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم مسروراً، تبرق أسارير وجهه، فقال: ((ألم تري إلى مجزز المدلجي؟ )) " الأسارير هي الخطوط في الجبهة، أحياناً إذا تكدر الإنسان أو غضب أو حصل له شيء من يجرحه يقطب جبينه، وبضده إذا حصل له شيء يسيره، فإنه تبرق أسارير وجهه، وعلامات السرور تبدو واضحة على وجهه.
النبي -عليه الصلاة والسلام- دخل على عائشة يوماً من الأيام مسروراً تبرق أسارير وجهه، لماذا؟ فقال: ((ألم تري يا عائشة إلى مجزز المدلجي؟ )) وهو من القافة، قائف، ((نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد)) زيد بن حارثة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وابنه أسامة بن زيد ((فقال: هذه أقدام بعضها من بعض)) لماذا؟
أولاً: الرسول -عليه الصلاة والسلام- يحب زيد بن حارثة ويحب أسامة، فأسامة حبه وابن حبه، والناس يتكلمون في انتساب أسامة إلى زيد، يتكلمون، لماذا؟ لأن زيد أبيض اللون، وأسامة شديد السواد، ويطعنون في نسبه، ولا شك أن الطعن في نسب من تحب إساءة إليك، ويغيظك مثل هذا، فإذا وجد من ينفي من أهل المعرفة والخبرة لا شك أن مثل هذا يسرك.
((ألم تري يا عائشة إلى مجزز المدلجي؟ نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: هذه أقدام بعضها من بعض)) هو لم ير الوجوه، ولا رأى الأبدان؛ لأنه لو رأى الوجوه، وعرف الشخصين، قد يقول قائل: إن هذا يريد إدخال السرور على الرسول -عليه الصلاة والسلام-، هما قد غطيا نفسيهما بقطيفة، ما يرى منهما إلا الأقدام، القائف يعرف أن هذه القدم لها صلة بهذه القدم، إذا كان خبير مثل مجزز المدلجي، ومثل وحشي بن حرب، قدم عليه عبيد الله بن عدي بن الخيار بعد جاز المائة من عمره، وعبيد الله كهل كبير في السبعين من عمره، عبيد الله متلثم، ومعه شخص فذهبا إلى حمص لينظرا إلى وحشي بن حرب قاتل حمزة وقاتل مسيلمة، لما وقفا عليه قال: أنت ابن عدي بن الخيار؟ ففك اللثام عن وجهه قال: نعم، وما يدريك؟ قال: رفعتك إلى أمك وهي على جمل وأنت في المهد، عرف القدم، كم؟ هذا قبل سبعين سنة الكلام، هل الرجل تبقى سبعين سنة على هيئة واحدة؟ هناك أهل خبرة.(108/21)
مجزز هذا من أدق الناس في القيافة، وعرف هذه الرجل السوداء أنها خرجت من هذه الرجل البيضاء "هذه الأقدام بعضها من بعض" ويستدل أهل العلم بشرعية الإلحاق في النسب بالقيافة، إذا ادعى أكثر من واحد ولداً، كل منهم يدعيه، إن وجد الفراش فالولد للفراش، هذا حكم شرعي، إذا عدم، ما يدرى ولد على فراش من؟ فيحضره القافة.
قد يؤتى ببعض القافة من أجل إلحاق ولد لأحد اثنين يدعيانه، وجاء ذكر يعني في بعض القصص، وألحقه بهما، قال: الولد لهما، كيف يكون ولد لاثنين؟! فجيء بالأم فأخبرت أن الثاني وقع عليها بعد الأول، مع أن الأطباء ينفون أن يكون التلقيح بين الحيوان وبين البويضة، بأكثر من حيوان، بل بحيوان واحد منوي لبويضة واحدة، وانتهى الإشكال، ومقتضى ما قاله هذا القائف أنه لهما أن الولد وإن تلقح بماء الأول قد يستفيد من ماء الثاني، وقد يدل لهذا حديث: ((لعن الله من سقى ماءه زرع غيره)) ما يدل على أن الولد قد يستفيد من ماء الثاني مثل الزرع، والأطباء ينفون هذا.
طيب اختلف قول القائف مع الأطباء من المقدم؟ القافة والقيافة حل شرعي، أقره النبي -عليه الصلاة والسلام-، وفرح بذلك فرحاً شديداً، واعتمدها أهل العلم، لكن إذا اختلف قول القائف مع الأطباء؛ لأن الأطباء يقررون أمور بآلاتهم وأدواتهم خلاف ما كان معروفاً في السابق، ويتوصلون إلى دقائق ما عرفها المتقدمون،
المقصود أنها من مسالك الشرع في الإثبات، هل نقول: إنها مجرد قرينة وإلا دليل؟ هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
المقصود أنه ثبتت البنوة بإقرار النبي -عليه الصلاة والسلام- لهذا القائف، قد يقول قائل: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما عنده أدنى تردد في نسبة أسامة لأبيه زيد، لكن أراد النبي -عليه الصلاة والسلام- أن ينتفي بذلك هذا الشك الذي وجد عند الناس.
وجاء رجل يشتكي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- أن ولده جاء على غير لونه، وقال له -هذا في الصحيحين- قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((هل لك من إبل؟ )) قال: نعم، قال: ((ما ألوانها؟ )) قال: كذا، قال: ((هل فيها من أورق؟ )) قال: نعم، قال: ((من أين جاءه هذا اللون؟ )) قال: لعله نزعه عرق، قال: ((ولدك لعله نزعه عرق)).(108/22)
بعض الناس يتصرف تصرفاً محرماً خشية العار، وهذه قصة واقعة شخص شديد البياض، وتزوج بامرأة شديدة البياض أيضاً، ودخل بها وهو صاحب تجارة لما قربت الولادة سافر لتجارته، فلما ولدت ولدت ولداً أسود، فاجتمعت عليه وتشاورت مع أمها وإخوانها فتخلصوا منه، يعني قتلوه؛ لأن ما أحد يبي يقبل هذا الولد بين هذين الأبوين، جاء الأب من السفر قالت: ولدك .. ، جاءك ولد ومات، تكررت القصة مرة ثانية وسافر، نفس اللون، ما الذي حصل؟ بنفس الطريقة، لما جاءت الولادة الثالثة قال: لا بد أن أحضر، فجاءت بولد أسود، قال: لا إله إلا الله كأنه جدي، مثل هذه الأخطاء يمكن تصحيحها؟! يمكن أن تصحح مثل هذه الأخطاء؟! ما يمكن خلاص، قتلوا نفس معصومة -نسأل الله العافية-، فقال: لعله نزعه عرق، قال: ((وابنك هذا لعله نزعه عرق)) فالشك في الأنساب بمجرد الألوان هذه لا شك أنها من وساوس الشيطان، وإذا تكلم بها أو فعل هذا ارتكب محرماً بلا شك، والأمر المقرر أن الولد للفراش، وللعاهر الحجر.
إذا لم يوجد فراش كما في هذه القصة أو جهل الفراش فالقيافة.
هناك أيضاً وسائل نتائجها قريبة جداً من القطعية يحكم بها على أنها قرائن، لا على أنها أدلة قطعية يحكم بها، هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
كل هذه القرائن، كلها قرائن عند الأطباء قرائن، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتاب التعق الذي يلي هذا فيه تسعة عشر حديثاً، ولن نستطيع إكماله في درس الغد، فلعل درس الغد يكون بين العشائين، ويكون إجابة على الأسئلة؛ لأن الأسئلة كثيرة جداً؛ لأننا لا نستطيع أن نشرح من كتاب العتق سبعة أحاديث وثمانية، ويبقى عشرة أو اثنا عشر صعبة هذه؛ لأن الدورة اللاحقة بعيدة ليست قريبة، فتشتيت أحاديث الباب الواحد وبعضها مرتبط ببعض هذا لا يصلح.(108/23)
فيكون درس الغد -إن رأيتم- أن يكون بين العشاءين؛ لأنه محصور الطرفين، إذا لم يكن فيه مشقة على الإخوان، وإلا فالأصل كما في الجدول المعلن بعد العشاء، فماذا ترون؟ هو يكون إجابة عن الأسئلة -إن شاء الله تعالى-، الأسئلة المتوفرة، والأسئلة التي ترد، فسوف يكون إجابة، فإن رأيتم أن يكون بين العشاءين إن كان أرفق بكم، وإلا فبعد صلاة العشاء، فماذا ترون؟
طالب:. . . . . . . . .
شوف الإخوان؛ لأن بعضهم يأتي من مائة كيلو أو أكثر، هذا واحد، غيره؟
طالب:. . . . . . . . .
بعد العشاء؟
وبقيت يا الإخوان؟
بعد العشاء، بعد العشاء بقاء ما كان على ما كان.(108/24)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: بلوغ المرام - كتاب القضاء (5)
الأسئلة
الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا يقول: لماذا لم يحكم القاضي شريح بين أمير المؤمنين علي واليهودي بيمين وشاهد؟
أولاً: ذكرنا في الوقت نفسه أن القصة فيها ضعف، خرجها أبو نعيم في الحلية بإسنادٍ فيه ضعف.
الأمر الثاني: أن اليمين والشاهد جاء فيه الحديث الصحيح وهو مختلف فيه بين أهل العلم، قد يكون قد بلغ علياً -رضي الله عنه- أو لم يبلغه، وقد يكون القاضي شريح ممن يقول به أو لا يقول به، وإلا له شاهد، وهو مولاه قنبر على ما أفادت القصة.
يقول: جمادى هو الشهر الوحيد المؤنث بين الشهور العربية، فلا يصح أن يقال: جمادى الأول أو الآخر؟
هذا ذكرناه، بل الأولى والآخرة، جماد الآخرة تعني المتأخرة، فلا يصح استبدالها بجماد الثانية أو الأخرى.
طيب إلى الآن ما حل الإشكال؛ لأنه أوردنا الكلام بالنسبة لربيع الثاني وجماد الآخرة، هم يقولون: الثاني إذا كان هناك ثالث، والآخر أو الآخرة إذا لم يكن بعده شيء، وكما يقال في جمادى يقال في ربيع، فما كتبه الأخ لا يحل الإشكال.
يقول: قلت: إن الوسائل لها أحكام المقاصد إلا في النذر فوسيلته مكروهة، والغاية والمقصد واجب.
عقد النذر مكروه، إنما يستخرج به من البخيل، وجاء النهي عنه، لكن الوفاء به واجب ((من نذر أن يطيع الله فليطعه)).
قال: فأشكل علي ...
الكتابة ما هي بواضحة، هل هو القصد أو القصر؟ هي راء، في أصله مباح، إنما هو أوجب على نفسه المقصد المباح فكرهت الوسيلة، فهل يكون هذا لا يعارض ... ما هو بواضح.
يقول: ((ويظهر فيهم السمن)) هل هذا الوصف راجع ... كذا الكتابة رديئة جداً.
هل القوم الذين يأتون بعد القرون المفضلة أم راجع إلى الذين يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون.
هذه أوصاف كلها ترجع إلى من بعد القرون المفضلة، وهذا يكثر فيهم ويغلب، لكنه في القرون المفضلة نادر جداً.
يقول: ما فائدة ذكر الأحاديث الضعيفة هنا مع أن المقام مقام ذكر أدلة الأحكام، والحكم لا يؤخذ من الأحاديث الضعيفة؟(109/1)
الحديث الضعيف لا يستدل به في الأحكام في قول عامة أهل العلم، وإن وجدت الأحاديث الضعيفة في كتب الفقه، عند الفقهاء توجد، مع أنهم يرون أنه لا يستدل بها في الأحكام، وهي موجودة، وذكرها مع أنهم يعتمدون عليها، ولا شك أن هذا تقصير في البحث عن هذه الأحاديث، قد يعذرون أنهم ليسوا من أهل الشأن، ويذكرون الحديث ويتداولونه ويتناقلونه من غير نظر في إسناده ولا متنه، فهم ليسوا من أهل الاختصاص، وينقل بعضهم من بعض، هذا بالنسبة لكتب الفقه، يعني إذا أوجدنا هذا العذر للفقهاء الذين ليست لديهم أهلية النظر في الأسانيد والمتون، فإن كتب أحاديث الأحكام، وألفها في الغالب من لديه أهلية النظر كالحافظ مثلاً ابن حجر يورد أحاديث في البلوغ ويضعفها، ينص على ضعفها، ومع ذلك الشراح يستنبطون منها الأحكام.
حينما يوردها المؤلف ليعرف بها، وأنها ضعيفة، ولو تركها ولم يذكرها لاستدرك عليه من استدرك ممن يجهل حقيقة الأمر، وإذا ذكرت فعلّ الواقف الذي وقف عليها مع بيان ضعفها أن يقف على طرق تقويها، والإشكال حينما يذكر في مثل هذه الكتب، وهي مخصصة لأحاديث الأحكام أن تذكر مجردة عن الأسانيد، ومجردة عن الأحكام، وفي هذا غرر، غرر بالغ على المتعلمين.
أما إذا ذكرت مع ذكر أحكامها فلن يكون في ذلك غرر، والشراح حينما يستنبطون ويبنون على هذه الأحاديث أحكام، إنما يذكرونها من باب تمرين الطالب على الاستنباط، لا من باب تقرير الحكم من هذا الحديث الضعيف، أو لأن من أهل العلم من استنبط منها إما لعدم معرفته بحكمها، أو لأنها ثبتت عنده.
على كل حال طالب العلم عليه أن يسعى للتأهل، للنظر في الأحاديث في متونها وأسانيدها، وأن يعمل بما يؤديه إليه اجتهاده في الإثبات، إثبات الأدلة التي يعتمد عليها، وفي الاستنباط أيضاً.
يقول: إنني بهذا السؤال لا اقصد تصيد أخطاء طلبة العلم والقضاة، ولكن أقول الحقيقة، وأريد توجيهكم في بعض ما يقع فيه بعضهم من الغلظة، وسوء التعامل، وتقطيب الجبين، وكذلك بعض طلاب العلم يقومون بإغلاق جوالاتهم، وعدم النزول إلى عامة الناس، وهذا يجعل الناس يتجهون إلى الجهال، ويأخذون الفتوى منهم.(109/2)
لا شك أن التقصير حاصل، وأيضاً الوفاء بجميع ما يتطلبه الناس فيه عسر، يعني لو قلنا لطالب العلم أو للقاضي: عليك أن تبذل، نعم عليه أن يبذل، لكن يبذل بحدود إيش؟ لنفسه عليه حق، ولأهله عليه حق، وهو مطالب بدوام، مطالب بعمل، لو بذل من يومه ما لا يشق عليه مع أعماله الأخرى، أما أن يكلف بما يشق عليه؛ لأن مطالب الناس لا تنتهي، يعني هناك أناس يتصلون في وقت متأخر من الليل، ويطالبون أهل العلم يقولون: إن أهل العلم لا يجيبون على الأسئلة، ويغلقون الجوالات، ولا يحلون إشكالات الناس.
يعني واحد يتصل قبل صلاة الفجر بساعة، وعنده سؤال ضروري هذا مقبول، لكن بقية الناس؟ سؤال ضروري، طيب ما هذا السؤال الضروري؟ يقول: إنه طلق زوجته وهي في الطلق، تطلق، فيها الطلق ولادة، يعني مجرد ما تلد تخرج من العدة، فلا يكون له عليها سلطان، ولا يتمكن من مراجعتها، لو قيل له: انتظر إلى صلاة الفجر، يمكن تلد قبل صلاة الفجر، نعم هذه حاجة، ومعذور في اتصاله، لكن شخص يتصل قبل أذان المغرب بربع ساعة، ويقال له: إن الوقت وقت ذكر، انتظر إلى صلاة المغرب، يقول: لا أستطيع أن أنتظر، ضرورة، طيب ويش الضرورة؟ يقول: إن زوجته ذهبت إلى محل التجميل، وعندهم مناسبة فتجملت فتريد أن تجمع العشاء إلى المغرب؛ لأنها إذا توضأت لصلاة العشاء ذهب ما وضعته في وجهها هدراً، هذا مسوغ للجمع؟ وهل هذه ضرورة يمكن .. ؟ سبحان الله! ومع ذلك التقصير حاصل، يعني يوجد كثير من طلاب العلم يعني يغلقون الجوالات، أو لا يردون على من يتصل، هذا تقصير، وعلى طالب العلم أن يبذل؛ لأن الله أخذ عليهم الميثاق، أن يبينوا للناس، والله المستعان.(109/3)
أما ما ذُكر من سوء التعامل، وتقطيب الجبين فقد يحصل من بعضهم نظراً لكثرة إلحاح الناس عليهم، ولذا يوصي أهل العلم طالب العلم، ويذكرونه من أدب الطالب ألا يحرج الشيخ، ولا يكثر على الشيخ، لأن الشيخ بشر يتحمل بقدر معين، وبعض الطلاب لا يمل، وراء الشيخ وراءه يا شيخ يا شيخ، وبعدين؟ الحين ما خلق إلا أنت! صحيح والله، أحياناً يوقفون شيخهم عند الباب ربع ساعة، نصف ساعة يسألون، أحياناً يكون في شمس في حر شديد، وأحياناً الشيخ من ساعتين أو ثلاث في المسجد يحتاج إلى الدورة، فمثل هذا يجعل الشيخ أحياناً يتعامل معهم بتعامل لا يليق به ولا بهم.
وذكروا في كتب التراجم تراجم المحدثين أن فلاناً من الناس ولا داعي لذكر اسمه أنه من أحسن الناس خلقاً، فما زال به الطلاب حتى صار من أسوأ الناس خلقاً، المسألة مسألة الرفق من الجانبين، يقال للعالم: أبذل، عليك أن تبذل، يجب عليك أن تبذل، أيضاً يقال للمتعلم: أرفق، لا يحوج الشيخ إلى أن يقول له كلام لا يناسبه، وسهل من طلاب العلم أن يقولون: والله الشيخ ما استقبلنا ولا ناظرنا، ومقطب الجبين، أنتم الذين أحرجتموه، أنتم الذين أحوجتموه إلى مثل هذا الصنيع.
وأنا تأملت في زهد أهل العالم وجيرانه به، وهذا أثر متوارث "أزهد الناس في العالم أهله وجيرانه" ورأيت في هذا حكمة إلهية، لماذا؟ الجيران ما يكلفهم أنهم يجتمعون على باب الشيخ، لو كان عندهم من الرغبة مثل ما عند البعيد الذي يصده من الحضور لدى الشيخ بعد المسافة، لكن كل ما طلع إلى عند الباب كل الجيران بيسألون، وإذا دخل الجيران كلهم عند الباب، وإذا دخل في البيت هذه الزوجة هذه البنت كلهم يسألون، هذا من لطف الله -جل وعلا- بهؤلاء المشايخ، والبعيد عنده شوق، وعنده حرص، وعنده كذا، لكن المسافة قد تحد من إحراجه للشيخ، لكن لو كانت رغبة الجيران والأهل مثل رغبة الناس الأبعد منهم لحصل من ذلك حرج عظيم.
ما معنى أمرهم في الحديث: ((لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة))؟(109/4)
المقصود شأنهم، والمراد به شأن القوم، لا شأن أسرة فيما يخص المرأة، شأن أولاد في تربيتهم هذا صحيح أنه أمر، لكنه ليس بأمر القوم، أمر الأطفال لا بأس، أمر العناية بهم، أمر تربيتهم هذا هو شأنهم.
هذا أيضاً يتكلم عن القضاة، وأنهم يحتجبون، وبعضهم يقفل الأبواب، وبعضهم ...
طبعاً مثلما ذكرنا الأمور التي ترد على أهل العلم، وترد على القضاة، وترد على هؤلاء، لا شك أنها في بعض الأحيان فوق طاقتهم، ولا ينفي أن يوجد مقصر، لا ينفي، وحينما يخاطب عامة الناس بهذا الكلام، يخاطب القضاة بغيره؛ لأن كل جهة لها ما يناسبها من خطاب الشرع، فالقضاة يخاطبون بأن لا يحتجبون، ومن احتجب عن حاجة الناس احتجب الله عن حاجته، يخاطبون بمثل هذا الكلام، لكن غيرهم أيضاً يخاطب بما يليق به، وأن القاضي ليس كالشمس يمكن أن ينتشر فضله ونفعه على سائر الناس أو على جميع الناس.
يقول: هل يحكم القاضي بمذهبه فقط أو مع اجتهاده في المذاهب؟
قلنا في حديث: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)) أن الحديث يؤخذ منه أن من شروط القاضي أن يكون مجتهداً، والاجتهاد ليس من الصعوبة بحيث لا يناله أحد كما قرر كثير من المتأخرين، وأوجبوا التقليد، وحرموا الخروج عن المذاهب، هم أوجبوا على المتعلمين من المتمذهبة من المقلدة ما هو أكثر مشقة من التأهل للاجتهاد في النظر في النصوص، وأشرنا إلى هذا في شرح الحديث؛ لأنهم يريدون بل يلزمون المقلد أن يعامل نصوص الإمام بما تعامل به نصوص الوحيين، ومما نص عليه أنه إذا أثر عن الإمام أكثر من قول فبأيها يعمل؟
الشافعية عندهم القديم والجديد، والفتوى عندهم على الجديد إلا في مسائل الفتوى فيها على القديم، ذكرت في مقدمة المجموع في الأشباه والنظائر.(109/5)
الإمام أحمد يُروى عنه روايات في المسألة الواحدة، تصل إلى أربع وخمس روايات، يعني لا يمكن الأخذ بها بجميعها، فكيف يتعامل من يتمذهب بمذهب الإمام أحمد مع هذه الروايات؟ قالوا: عليه أن يتعامل معها كما يتعامل مع النصوص، فإن أمكن الجمع بينها ولو بحمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص، تعين المصير إليه، وإن لم يمكن وعرف المتقدم من المتأخر فالمتأخر هو المذهب، يعني كما يقال في النصوص بالنسخ، وإن جهل التاريخ فالتوقف، يعني أنت تتعامل مع نصوص بشر بهذه الطريقة، لماذا لا تتعامل بهذه الطريقة مع نصوص الوحيين؟ وبدلاً من أن تكون مقلداً أو مجتهداً في مذهب تكون مجتهداً في الكتاب والسنة.
على كل حال الكلام في التقليد والاجتهاد كلام طويل بين أهل العلم فمن موجب للاجتهاد، ومن محرم له، لكن على الإنسان أن يسعى إلى تحقيق أو تحقق الأهلية في نفسه للنظر في النصوص، ويجعل الحكم في جميع أموره ما قاله الله وقاله رسوله -عليه الصلاة والسلام-، وعليه أن يسعى لمعرفة القواعد التي تعينه على فهم هذه النصوص، وكيفية التعامل معها.
إذا كان لا يستطيع، واحتيج إليه إن كان لا يستطيع أن يتعامل مع النصوص، واحتيج إليه، ولا يوجد غيره ممن يحكم بالدليل فهو في حكم العامي ينظر في أقوال إمامه، ويجتهد ويسأل ويتحرى ويتثبت، والله المستعان، وهذا لا يلجأ إليه إلا في حال عدم وجود من يتعامل مع النصوص، وإلا فالحكم لله ولرسوله -عليه الصلاة والسلام-.
يقول: إذا كان السائق مع المرأة في السيارة داخل البلدة، هل هذه تعتبر خلوة غير شرعية؟
نعم، إذا لم يوجد ثالث فالثالث الشيطان؛ لأن إغلاق الأبواب، وتضليل الزجاج، والتمكن من الحديث بينهما لا شك أن مثل هذا فيه فرصة كبيرة لدخول الشيطان بينهما، وكم من مصيبة حصلت بسبب هذا.
يقول: ما حكم التلبية في الحج والعمرة؟
عامة أهل العلم على أنها سنة، وأوجبها الحنفية.
هل يجوز عرض البنات على الأكفاء؟(109/6)
عثمان بن عفان -رضي الله عنه- الخليفة الراشد، وهذا سبق أن ذكرناه في كتاب النكاح، في حديث ابن مسعود ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) قلنا: إن سبب إيراد الحديث لا ورود الحديث؛ لأنه هناك فرق بين سبب الإيراد، وسبب الورود، سبب الورود هو الذي بعث النبي -عليه الصلاة والسلام- لقول أو للكلام في هذا الحديث، كسبب نزول الآية، أما سبب الإيراد، ما الذي جعل ابن مسعود يورد هذا الحديث؟ أن عثمان -رضي الله عنه- وهو الخليفة الراشد عرض عليه بنته، عرض على ابن مسعود، وابن مسعود في وقتها عمره أكثر من سبعين سنة، فقال: يا أبا عبد الرحمن: ألا نزوجك فتاة تعيد لك ما مضى من شبابك؟ تصور أكثر من سبعين سنة والخليفة الذي يعرض عليه؛ لأن المقاييس شرعية.
ابن مسعود أيضاً بدوره ما قال: فرصة العمر، لو أطرق أبواب الناس ما زوجت، قال: لا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يا معشر الشباب)) يعني ما قال: يا معشر الشيوخ، ففي القصة منقبة للطرفين، وفيها عرض المولية البنت على هذا الرجل الخير، ولا يمنع أن تعرض ابنتك على من تبرأ ذمتك بتزويجه، لكن في الأحوال والظروف التي نعيشها وتغير القلوب؛ لأنك قد تعرض على خير، ثم النتيجة ماذا يقول؟ يقول: لولا أن فيها عيب ما عرضها، أكيد أن فيها عيب، هذه قلوب الناس اليوم إلا من رحم الله، فيعرض بطريقة غير مباشرة، فيتم العرض، لكن بطريقة غير مباشرة؛ لأن الناس يرون في هذا ابتذال، وهو وإن كان شرعي وما في شك أنه منقبة لولي هذه البنت، ومن باب النصح لها، لكن يبقى أن النفوس اليوم قد لا يتحمل كثير من الناس مثل هذا العرض، ولا يحمله على ظاهره، فيكون العرض بطريقة غير مباشرة.
يقول: إشكال أريد أن أفهمه، وهو قيام الرسول -عليه الصلاة والسلام- بأخذ عير وتجارة قريش في غزوة بدر، مع كون الرسول -عليه الصلاة والسلام- كان مثلاً أعلى في الرفق، وتحمل أذى الناس من قريش وغيرهم، وفي أخذه هذه التجارة يعتبر من قطع الطريق، فكيف نفهم ذلك؟
أولاً: المال مال حربي، لا ذمي، ولا معاهد، ولا مسلم، مال حربي، فلا يقال مثل هذا الكلام.(109/7)
يقول: ما صحة حديث أن من جلس بعد الفجر يذكر الله حتى تطلع الشمس كان بأجر حجة وعمرة تامة تامة، وفي حديث آخر أن من فعل ذلك غفر له ما تقدم من ذنبه؟
أما اللفظ الأول بأجر حجة وعمرة هذا فيه ضعف عند أهل العلم، لكنه قابل للتحسين، وحسنه جمع من أهل العلم، وصححه بعضهم، ومع ذلك هو ثبت من فعله -عليه الصلاة والسلام- أنه كان يجلس في المصلى حتى تنتشر الشمس.
هل يؤجر العبد إذا قصد المشقة في العبادة؟
لا، المشقة لذاتها ليست من مقاصد الشرع، ليست من مقاصد الشريعة، فإذا كان له طريقان إلى المسجد أحدهما بعيد والآخر قريب يقول: أسلك البعيد من أجل أن يكثر الأجر نقول: لا؛ لأن المشقة ليست مقصودة لذاتها، ولذا يختلف أهل العلم في الحج حج الماشي والراكب أيهما أفضل؟ في الآية ما الذي قدم؟ {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [(27) سورة الحج] قدم الرجال المشاة، ولذا قال جمع من أهل العلم: أن المشي أفضل، لكن الجمهور قالوا: لا، المشي كثير، وما كل الناس يجد دابة، والمشي كل يستطيعه، والذي لا يستطيعه لا يلزمه الحج، فقدم لأنه الأكثر والأغلب، وإلا فالنبي -عليه الصلاة والسلام- حج راكباً، وما كان الله ليختار لنبيه إلا الأفضل.
يقول: هل الأحكام الشرعية فيها ما لا يطاق؟(109/8)
ليس فيها ما لا يطاق، لكن فيها ما فيه مشقة على بعض الناس؛ لأن الجنة حفت بالمكاره، والناس يتفاوتون، هذه التكاليف من الناس من يتلذذ بها، ومن الناس من يراها أشق من حمل الصخور، كل على حسب ما وقر في قلبه من إيمان، وكل على ما وطن نفسه، وعودها عليه، لا بد من مجاهدة النفس على العبادة، السلف يقولون: "كابدنا قيام الليل عشرين سنة، وتلذذنا به بقية العمر" والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يقول: ((أرحنا يا بلال بالصلاة)) وكثير من المسلمين اليوم لسان حالهم: أرحنا من الصلاة، فيها مشقة؛ لأن الجنة حفت بالمكاره، والتكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة، ومع ذلكم الدين يسر، يعني هذه التكاليف وهذه الإلزامات بفعل الواجبات، وترك المحرمات، خلاف ما تهواه النفوس، ومع ذلك هي في مقدور الإنسان، ولا يوجد تكليف يخرج عن طوقه ومقدوره إلا إذا كان فيه عاهة فيعفى منه، ويسقط عنه ما لا يستطيعه.
يقول: هل صوت المرأة عورة؟
إذا خلا من الخضوع في القول الذي جاء النهي عنه، ولم يترتب على ذلك فتنة، أمنت الفتنة منه، ودعت إليه الحاجة، فإنه حينئذٍ ليس بعورة.
يقول السائل: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [(56) سورة الأحزاب] أمر بالتسليم، يعني لا يتم الامتثال امتثال الأمر في هذه الآية حتى يجمع بين الصلاة والسلام؟
{صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [(56) سورة الأحزاب] وأطلق النووي كراهة إفراد الصلاة عن السلام، أو العكس، والحافظ ابن حجر -رحمه الله- خص الكراهة بمن كان ديدنه ذلك، بمعنى أنه يصلي دائماً ولا يسلم، أو يسلم ولا يصلي، لكن من كان يسلم أحياناً أو يصلي أحياناً، ويجمع بينهما تارة، فإن هذا لا تشمله الكراهة.
يقول: أيضاً ورد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كيفية الصلاة عليه، اللهم صل على محمد وعلى آله محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ... الحديث، كيف نجمع بين ما ذكر بإلحاق التسليم عليه -عليه الصلاة والسلام- وصفة الصلاة في الحديث؟(109/9)
أولاً: الأمر العام الشامل هو ما جاء في آية الأحزاب، وما جاء في الصلاة الإبراهيمية في الصلاة فرد من أفراد هذا العام، وذكر الفرد من أفراد العام بحكم موافق لحكم العام لا يقتضي التخصيص، بل يقال: هذا في موضعه، وما بقي في سائر المواضع امتثال الآية؛ لأنها جاءت غير مقيدة في وقت ولا في زمان ولا في مكان، فهي الأصل، من أفرادها الصلاة الإبراهيمية في موضعها.
يقول: قول الشخص فو الله وبالله وتالله هل هذا من الحلف أو من الإيمان؟ كاتب الهمزة تحت ....
قول الشخص فو الله وبالله وتالله، هذه حروف القسم الواو والباء والتاء، فإذا اقترنت باسم من أسماء الله -جل وعلا- أو بصفة من صفاته انعقد اليمين، إذا كان غير مقصود يكثر من قول والله وتالله وبالله، وهكذا في مناسبة وغير مناسبة هذا هو لغو اليمين، كما جاء عن عائشة -رضي الله عنها-، ومع ذلك على الإنسان أن يحفظ اليمين {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ} [(224) سورة البقرة] فعليه أن يحفظ اليمين، وأن يعظم الرب -جل وعلا- عن الابتذال.
يقول: هل هذا من الحلف؟
إذا كان مقصود هو من الحلف، وإذا كان مجرد لغو من غير قصد هو مثل ما جاء عن عائشة تمثيل للغو اليمين المنصوص عليه.
أو من الإيمان؟
أنا ما فهمت السؤال، أو الأيمان؟ الحلف واليمين واحد.
يقول: إذا وجد المسلم في نفسه صفات تؤهله لأن يطلب الإمارة، ويحرص عليها، وإذا لم يفعل فسيتضرر من تحت إمارة غيره، فهل ذلك داخل في الحرص على الإمارة التي وردت في الحديث؟
أما إذا تعينت عليه الإمارة بحيث لا يوجد من يقوم به غيره، فإنه يلزمه قبولها إذا عرضت، ولا مانع من أن يذكر ذلك عن نفسه، وأنه لا مانع لديه من قبولها، يعرض بذلك، وإن اقتضى الأمر إلى التصريح فيصرح، كما قال يوسف -عليه السلام-: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ} [(55) سورة يوسف] وما عدا ذلك كما جاء في حديث عبد الرحمن بن سمرة: ((لا تسأل الإمارة)) لأنها إذا جاءت عن مسألة وكل الإنسان إلى نفسه، وإذا جاءت من غير طلب ولا مسألة فإنه يُعان عليها.
يقول: أريد القول الراجح في هذه المسائل:
هل تشترط الطهارة في الطواف؟(109/10)
نعم جمهور أهل العلم على أن الطهارة في الطواف من الحديثين الأصغر والأكبر شرط لصحته، النبي -عليه الصلاة والسلام- توضأ لما أراد دخول المسجد، لما دخل مكة توضأ، بل اغتسل، ومعه الوضوء، فطاف طاهراً، وقال: ((خذوا عني مناسككم)) وقال عن عائشة لما حاضت: ((افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)) ولم يحفظ في عصره -عليه الصلاة والسلام- ولا قضية واحدة من شخص طاف بغير طهارة.
من انتقض وضوؤه أثناء الطواف؟
عليه أن يخرج ويتوضأ، لكن هل يبني على ما سبق أو لا يبني؟ إن لم يطل الفصل فلا مانع من البناء، وإلا فليستأنف.
هل يشترط المشي في الطواف؟ وحكم من ركب وهو غير محتاج؟
النبي -عليه الصلاة والسلام- لما حطمه الناس ركب وهو يستطيع المشي، هذه رواية الصحيح، رواية البخاري، وفي بعض روايات أبي داود قال: "وكان شاكياً" وعلى كل حال إذا احتاج إلى الركوب ولو لم يضطر إليه، ولو استطاع المشي، لكن هناك حاجة؛ لأن فرق بين الحاجة والضرورة، إذا احتاج إلى الركوب لكونه ممن يقتدى به فينظر كيف يفعل هذا لا مانع من ركوبه وإلا فالأصل المشي.
هل يشترط تعيين النية في الطواف؟
نعم الطواف عبادة لا يصح إلا بنية ((إنما الأعمال بالنيات)).
هل الموالاة في الطواف شرط؟
الموالاة إذا كان يقصد بها ألا يفصل بين شوطين بشيء ألبتة فلا؛ لأن له أن يطوف شوطاً ثم يشرب ماءً أو يتحدث بشيء يسير مع أحد، أما أن يطوف اليوم شوط، ثم يذهب لينام ثم يأتي للشوط الثاني، لا؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- طاف متتابعاً، وقال: ((خذوا عني مناسككم)).
حكم الركعتين بعد الطواف؟
جمهور أهل العلم على أنهما سنة، لا يلزم بتركهما شيء، ومنهم من أوجبهما، ومن أهل العلم من يقول: إن حكمهما حكم الطواف، فإن كان الطواف واجباً كانتا واجبتين وإلا فسنة، وعلى كل القول المعتمد عند أهل العلم أن ركعتي الطواف سنة.(109/11)
يقول: في بعض المناطق في بلادنا في كثير من المنازعات والدماء والحقوق يفصل فيها أشخاص، وهم ليسوا من أهل العلم، بل يغلب على بعضهم الجهل، ويبنون أحكامهم على عوائد وسلوم وقضايا سابقة، يرويها لهم الآباء، وأحياناً تكون مقننة، وفي أحيان أخرى حسب اجتهادات وآراء شخصية، وقد يكون فيها إلزام، وقد لا يكون، وقد يرضى الخصوم، وقد لا يرضون.
تقدم في شرح حديث: ((القضاة ثلاثة: قاض في الجنة، وقاضيان في النار)) فإن كانوا من أهل العلم وحكموا بالحق فهم من الصنف الناجي، وإن كانوا من أهل الجهل ولو وافق حكمهم الحق فإنهم من الصنف الهالك، وكذلك إذا كانوا من أهل العلم وقضوا بغير الحق، فينظر في أحوال هؤلاء إن كانوا ممن ينطبق عليهم توفر العلم والقضاء بالحق، معرفة الحق والقضاء به هذا هو الذي يضمن النجاة، وما عدا ذلك فالهلاك.
يقول: إذا أراد الطالب أن يدرس متناً ولم يجد في مدينته من يشرحه فهل يكتفي بالأشرطة المسجلة على ذلك المتن؟
نعم إذا كان لا يستطيع الحضور والمثول بين يدي أهل العلم، فإنه يكتفي بإحضار المتون، والأشرطة التي سجلت من شروح هذه المتون، ويفرغ هذه الشروح على هذه المتون، ويسأل عما يشكل عليه، ويتابع، يتحين الفرص في لقاء أهل العلم، ويسأل عما يشكل عليه، وحينئذٍ يدرك -إن شاء الله تعالى-.
يقول: دلونا على شرح كامل لبلوغ المرام تنصحون به للمبتدئين؟(109/12)
ويش معنى مبتدئ؟ المبتدئ يبدأ بالأربعين، ثم العمدة، ثم البلوغ، فإذا تجاوز المرحلة الأولى، وحفظ الأربعين، وقرأ من شروحها ما يعينه على فهمها، ثم بعد ذلك العمدة، فإنه حينئذٍ يتأهل لا يكون مبتدئ، يكون متوسط في الطلب، فيقرأ البلوغ، وفي الشروح على البلوغ كثرة، منها ما للمتقدمين: "البدر التمام" ومختصره "سبل السلام" وأيضاً للمتأخرين نصيب فشرحه جمع من أهل العلم، وهناك الشروح المطبوعة، والشروح المسموعة، وأما شروح المتأخرين فهي نافعة لجميع الطبقات؛ لأن أساليبهم واضحة يتحدثون بأسلوب العصر الذي يفهمه كافة المتعلمين، ويستفيد منه جميع الطبقات، لكن طالب علم مبتدئ يقرأ في سبل السلام مثلاً قد يعسر عليه فهم كثير من المسائل، لكن إذا قرأ أو سمع من شروح المشايخ شرح الشيخ ابن عثيمين، وشرح الشيخ الفوزان، أو غيرها من الشروح فإنه يستفيد.
هل يجوز التضييق على البائع حتى تعلم بكم اشترى السلعة؟
هذا من سوء الأدب، إذا فهمت منه أنه لا يريد إخبارك فإنك لا تلح عليه؛ لأن هذا ليس من السماحة في البيع والشراء، وجاء مدح السمح في البيع ((سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى)) ثم ماذا إذا قال لك: اشتريتها بخمسمائة، ولا أريد بيعها إلا بألف، ماذا تستفيد؟ تقول: أنت اشتريتها بخمسمائة أريدها بستمائة، يقول: لا، ما يمكن، فما تستفيد إلا أنك تتعب أنت بنفسك، وتتعب صاحب السلعة.
هل قوله: ((بعد العصر)) مقصود به معنىً معين؟
نعم الوقت، من صلاة العصر أو من دخول وقت صلاة العصر إلى غروب الشمس، وهذا وقت معظم في جميع الشرائع، وله شأنه لا سيما إذا كان في الوقت الذي ترجى فيه الإجابة كعصر الجمعة.
يقول: يفترض أن كل من يحضر مثل هذه المجالس الطيبة أن يكون قدوة، ولكننا نلاحظ على بعض إخواننا التالي:
أولاً: عدم إغلاق جوالاتهم، وهذا يتكرر كثيراً.
ولا شك أن الجوال يشوش على صاحبه، وعلى من يسمعه، لا سيما إذا كانت النغمة ممنوعة، هو في الجملة يشوش على أي حال؛ لأن الأذهان تنصرف إلى سماع الصوت المفاجئ، فالذي ينبغي في مثل هذه الدروس إغلاق الجوالات، ومن باب أولى الصلاة.
يقول: عدم إيقاف سياراتهم بطريقة صحيحة.(109/13)
نعم يأتي شخص فيعرض السيارة بدل ما يكون المكان يسع سيارتين يكون يسع سيارة واحدة.
والوقوف أمام مداخل المنازل، وإقفال بعضهم على بعض.
هذا أيضاً فيه إساءة، وفيه جناية على صاحب المنزل، وقد تكون سيارته في داخل المنزل، وعنده موعد ضروري، وقد احتاج إلى أمر مهم، ثم إذا طلب السيارة لم يجد المنفذ الذي تنفذ منه هذه السيارة، فينحبس في بيته، وقد يضطر إلى أخذ سيارة أجرة وسيارته موجودة في بيته، لا شك أن هذه إساءة، تعدي على صاحب المنزل.
يقول: البعض يشرب قارورة الماء ثم يتركها في المسجد، وكان الأولى به أن يخرجها معه حتى وإن كان لم يشربها.
نعم إذا كان القذى وهو ما يوجد من الأوساخ في العين، وهو لا يكاد يرى إساءة بقاؤه في المسجد، وإخراجه من الحسنات التي عرضت على النبي -عليه الصلاة والسلام-، فمن باب أولى إخراج ما هو أكبر منه، بعض الناس يقول: المسجد فيه عامل، ولا داعي أن أنظف بنفسي، العامل يتولى، لكن لماذا تحرم نفسك عن الأجر، تنظيف المساجد، أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- ببناء المساجد في الدور، وتنظيفها، وتطييبها، وإزالة هذه المخلفات من التنظيف.
يقول: البعض يستخدم الكراسي الأرضية التي أعدت لراحة طلاب العلم، ثم تجده يتركها في مكانها، ولا يعيدها إلى حيث أخذها، أو أنه لا يطبقها بطريقة صحيحة؟
يستخدم الكراسي الأرضية مثل إيش؟
طالب:. . . . . . . . .
وهذه من المسجد؟
نعم التي يستند إليها، وهي متنقلة يعني تنقل من مكان إلى آخر.
يستخدم الكراسي الأرضية التي أعدت لراحة طلاب العلم، ثم تجده يتركها في مكانها، ولا يعيدها إلى حيث أخذها، أو أنه لا يطبقها بطريقة صحيحة؟
على كل حال على اليد ما أخذ حتى تؤديه، فإذا كان لها مكان مخصص يعيدها إلى نفس المكان؛ لئلا يبحث عنها من يريدها فلا يجدها، وإذا كان لها طريقة تعاد إليها بإغلاق على هيئة أو صفة معينة فعليه أن يفعل بها كما وجدها.(109/14)
مسألة أشرنا إليها في مناسبات، وهي أن الكراسي المعدة للمصاحف يوضع عليها المصحف، بعض الناس يجعلها تُكأة، يسند ظهره عليها، فيستعملها في غير ما أوقفت له، هي أوقفت ليوضع عليها المصحف، فتجده يطبق بعضها على بعض، ويجعلها خلف ظهره، لا شك أنها تعينه على الجلوس، لكن يبقى أنها إنما أوقفت للقراءة، فإذا وجد من يحتاجها للقراءة فهو أولى بها، وإذا لم يحتج إليها للقراءة فينتفع بها على أي وجه.
يقول: جاء في تعريف الصحابي أنه من لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- مؤمناً به ومات على الإسلام، السؤال: هل يدخل في التعريف من ارتد بعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- ثم عاد إلى الإسلام؟
نعم؛ لأن أهل العلم في التعريف يقولون: ولو تخلله ردة، من لقي النبي -عليه الصلاة والسلام- مؤمناً به يعني حال كونه مؤمناً، ومات على الإسلام، ولو تخلل ذلك ردة، سواء كان في عهده -عليه الصلاة والسلام- أو بعده.
يقول: ما حكم تقنين القضاء الإسلامي مثل تقنين الأحكام؟(109/15)
منذ أمد بعيد قننت الأحكام في مجلة الأحكام العدلية، وصار عليها قضاة الدولة التركية، واعتنى بها الناس من مسلمين وغيرهم، وشرحت هذه المجلة من قبل جمع من المسلمين، ومن النصارى، شرحوا هذه المجلة؛ لأنهم يحتاجون إلى مثل هذه الأحكام، يحتاجون إلى توضيحها؛ لأن جلهم من المحامين، والأصل أن القضاء يناط بأكفاء يجتهدون في القضايا، والقضايا لا يمكن حصرها، فهي متجددة، فيوكل النظر فيها إلى اجتهاد القضاة؛ لأن فيها ما يمكن وجوده في كتب المتقدمين، ومنها ما لا يوجد بحرفه ونصه في كتب العلماء، فيتصرف القاضي الكفء بإيجاد الحكم المناسب الشرعي لهذه القضايا المستجدة، وإذا تم التقنين فإنه لا يتسنى له أن يجتهد، وأيضاً المسائل أو القضايا المتشابهة من وجه يكون فيها اختلاف من وجوه، فكيف يحكم فيها بحكم واحد مع وجود هذا الاختلاف، ولو تشابهت من وجه آخر، أو من وجوه أخرى؟! فالتقنين لا شك أنه يقضي على الاجتهاد بالنسبة للقضاة، ويلزمهم بأحكام قد تنطبق على ما جاء في هذا التقنين، ومع ذلك هم بحاجة إلى شيء من المساحة، يتحركون فيها، وإذا وجد هذا التقنين ضيق عليهم، فمن المسائل المتشابهة قضايا اعتداء على أموال أو على أعراض، وجدت قضيتان متشابهتان في بادئ الأمر، هاتان القضيتان حكمهما واحد إذا قنن القضاء، لكن القاضي يرى من الأحوال والظروف المحتفة بقضية هذا ما لا يراه مما يحتف بقضية الثاني، وحينئذٍ يحكم بحكم واحد وإلا لا؟ من خلال التقنين لا بد أن يحكم بحكم واحد، ومن خلال الشرع لا، فالتقنين لا يسوغ.(109/16)
قد يوجد مبررات، قد يوجد من يبرر لهذا التقنين، وأن القضاة كثير منهم ينقصهم شيء من الكفاءة، وأن في أحكام بعضهم مع بعض اختلاف، وبون شاسع، نقول: هذه لها حلول، ويبقى الأمر على ما كان من صدر الأمة التي فيها الخيرية إلى يومنا هذا، يجتهد في اختيار القضاة، ويجتهد في تأهيلهم، وأيضاً من وجد منه ما يخالف النظر الشرعي ينبه، وليسوا بمعصومين، والقضاة من الصدر الأول إلى آخر الزمان وهم يجتهدون، والأمر -ولله الحمد- فيه سعة، وليس فيه تضييق، وإذا كان أهلاً للنظر، وبذل وسعه، واجتهد في النظر في القضية، وحكم بما يراه الحق لا بالهوى، فإنه مأجور على كل حال، فإن أصاب له أجران، وإن أخطأ له أجر واحد.
يقول: ما رأيكم في بعض شروح البلوغ مثل شرح القنوجي "فتح العلام"؟
هو بحروفه مأخوذ من سبل السلام إلا أنه حذف مذاهب الزيدية، وأبقى المذاهب المعتبرة، ومع ذلك له تنبيهات لكنها يسيرة جداً، فهو نافع من هذه الحيثية.
شرح لقمان السلفي، شرح، تعليق ما فيه يعني شيء من العمق التي في شروح المتقدمين، ينتفع به طالب العلم؛ لأنه يحل بعض الكلمات الغامضة التي تحتاج إلى شرح، وأيضاً ينبه على بعض الفوائد.
شرح المباركفوري هو مجرد حاشية وتعليقات على البلوغ فيها فائدة لطالب العلم.
يقول: ما المراد بحديث: ((إذا بلغت الحدود السلطان)) هل السلطان هنا الشرط أو هيئة التحقيق والادعاء العام أو القضاء أو غيره؟
السلطان المراد به الإمام الأعظم، ومن ينوب منابه، ويقوم مقامه ممن وكل إليه الأمر من القضاة، وأما البقية فهم أعوان، ومع ذلك لا يجوز لهم أن يتساهلوا في أمور المسلمين، لا سيما إذا كثر الخبث.
يقول: ما حكم الأكل في البوفيات المفتوحة التي تكون في الفنادق وغيرها؟ وهل يأثم من أكل فيها؟ وهو ضيف أي مدعو لعزيمة، وما رأيكم في قول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في أن فيها غرر بسيط، ولا يضر حيث أن زملاءنا يحاجوننا بذلك؟
على كل حال مثل هذه الأمور المدفوع معلوم، وأنه يدفع عن كل شخص مثلاً عشرين ريال، لكن المقابل مجهول، فبعض الناس يأكل بعشرة، وبعضهم يأكل بمائة، بعض الناس منهوم يأكل بمائة، والغرر في هذا ليس بيسير ولا بسيط، يتحرج فيه، ويتحرى فيه.(109/17)
يقول: حتى نصلي ونسلم على الرسول -عليه الصلاة والسلام- في أذكارنا، ما هي أفضل صيغة لنحصل على الأجر: ((من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً)) هل نقول: اللهم صل وسلم على نبينا محمد، أو نقول: صلى الله عليه وسلم؟
كل هذا يتم به امتثال الأمر الوارد في آية الأحزاب.
يقول: أو نقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم؟
هذه في موطنها؛ لأن لها وقت محدد، وإذا قلت: اللهم صل على محمد في غير هذا الموضع، وأردت أن تضيف الآل لما لهم من حق فهم وصية النبي -عليه الصلاة والسلام-، فهذا زيادة في الخير، لكن أيضاً الصحابة -رضوان الله عليهم- الذين بواسطتهم وصل لنا هذا الدين أيضاً من حقهم علينا أن نضيفهم، ولا نقتصر على الآل.
يقول: أبي أخذ مالاً من بعض الناس لأداء خدمة مقابل هذا المال، ولم يكن يعرف أن المشتركين معه في العمل غير صادقين وغير أمناء فأعطاهم المال ولم يستطع أن يسترده ثم مات، فهل يلزمني شرعاً رد هذا المال لهؤلاء الناس مع أن أبي تم خداعه، ولم يأخذ من المال شيئاً؟
هو لما أخذ المال نيابة عن أهله وعن أصحابه وهو وكيل عنهم في هذا إذا لم يفرط فليس عليه شيء، وإن فرط فإنه يلزمه أن يعوضهم عنه.
يقول: هل يصح لي أن أخرج مهندساً من مكتب هندسي للإشراف في غير وقت الدوام بغير حساب المكتب؟
إذا كان لا تأثير له على الدوام فإنه من حقه أن يعمل إذا لم يؤثر هذا العمل على العمل المتفق عليه المبرم بينه وبين المكتب.
يقول: قرأت في كتاب لأحد المشايخ يقول فيه: إن القضاء في المحاكم هذه الموجودة الآن لا يعرف في تاريخ السلف، بل لا بد أن يكون القضاء في المسجد، فما رأيكم في هذا القول؟(109/18)
مثل هذا من الأمور المباحة، فإن دعت إليه الحاجة فإنها حينئذٍ تكون مطلوبة شرعاً، وقد لا يتسنى المكان المناسب في المسجد للقضاء، وقد تتطلب القضية ما لا يليق بالمسجد، وأيضاً التعليم كان في المسجد، لو قلنا بهذا لقلنا: التعليم لا يكون إلا بالمسجد، فبناء المدارس والأربطة وغيرها كلها مبتدعة محدثة، ومثل بها للبدع المستحبة عند من يقسم البدع إلى الأحكام الخمسة، يقول: بدع واجبة كالرد على المخالفين، وبدع مستحبة كبناء المدارس والأربطة، وبدع مباحة، وبدع مكروهة، وبدع محرمة، وهذا التقسيم مبتدع مخترع لا يدل عليه دليل شرعي، بل البدع كلها مذمومة ((وكل بدعة ضلالة)) فكيف الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((كل بدعة ضلالة)) وأنا أقول: بدعة واجبة؟ الرسول يقول -عليه الصلاة والسلام-: ((كل بدعة ضلالة)) وأنا أقول: بدعة مستحبة، هذا التقسيم مخترع مبتدع لا دليل عليه من الكتاب ولا من السنة.
هذه الأمور لا شك أن جلب المصالح ودرء المفاسد مقرر شرعاً، وإيجاد هذه الأشياء لخدمة هذه الأمور المطلوبة شرعاً مما يعين عليه فهي مطلوبة شرعاً، وإذا لم يتم القضاء إلا بهذه الطريقة كان وجودها واجباً؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
يقول: ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)) هل يصح رد الرجل بحجة أنه من طبقة أقل من المرأة والتفريق بين القبيلي وغير القبيلي بحجة الحفاظ على النسب؟(109/19)
هذا لا يجوز، والكفاءة إنما هي في الدين، لكن من رده نظراً لمصلحة ودرء مفسدة؛ لأن الناس لا يحتملون مثل هذا، ويمكن يحصل مشاكل، فدرء المفاسد مطلوب شرعاً، لكن إن كان على سبيل الترفع والتعالي واحتقار الطرف الآخر فإن هذا لا يجوز، وإذا وجد العقد فالعقد صحيح، لا يجوز نقضه إلا برضا الزوج، بتنازل منه، بخلع، بأن يرضى بنقضه، وإلا فلا يجوز حينئذٍ نقضه وهو نكاح صحيح، وقد ترجم الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب النكاح: باب الأكفاء في الدين، وذكر فيه حديث ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ابنة عم النبي -عليه الصلاة والسلام- في الاشتراط في الحج، وقال: "وكانت تحت المقداد" المقداد مولى، وهذه بنت عم الرسول -عليه الصلاة والسلام-، المقصود أنه مولى، وأما الكفاءة فهي في الدين فقط، وهناك قضايا كثيرة بلال تزوج، وعبد الرحمن بن عوف زوج أخته مولى يباع ويشترى.
طالب:. . . . . . . . .
لا القضايا كثيرة جداً.
هذا يقول: طلاب العلم في جميع مناطق المملكة في أمس الحاجة إلى مرجعية علمية موثوقة ينتهى إليها في الفتاوى، أو تنتهي إليها الفتوى، ويحتوى طلاب العلم، ويفتح لهم الدروس والأبواب على أن يكون -الكلمة غير واضحة- حتى تتلافى الفجوة الموجودة بين كبار العلماء، وبين الطلاب الذين قد يقعون فريسة لأصحاب الأفكار المنحرفة والضالة.
هذا أمر مطلوب، وعلى أهل العلم الراسخين في العلم والعمل عليهم أن يحتووا وأن يسدوا هذه الفجوة، وهذه الثغرة وفيهم كثرة ولله الحمد، يعني جميع مناطق المملكة فيها من يقوم بهذه المهمة، ولكن المطلوب المزيد.
يقول: هل يشترط للمجتهد أن يجتهد في كل مسألة من مسائل الفقه، ويحرر الأقوال فيها، ويعرف أقوال المخالفين، ثم يوازن بين الأدلة أم لا يلزمه ذلك؟
هذا الأصل، لكن أهل العلم يقررون تجزؤ الاجتهاد، وقد يسعفه الوقت للنظر التام في المسألة، وقد لا يسعفه، لكن عليه أن يتحرى ويبذل ويجتهد، وإذا أدرك جل المسائل ساغ أن يقال له: مجتهد، وإذا لم يستطع النظر في قضايا لتقصير أو قصور فلا مانع من أن يجتهد فيما يسعفه وقته فيه، ويقلد في الباقي.
يقول: ما هي الطريقة المثلى لحفظ السنة؟ وهل تنصح بدورة الجمع بين الصحيحين؟(109/20)
طالب العلم عليه أن يترسم خطى العلماء المرسومة لطبقات المتعلمين، فيبدأ بالكتب المناسبة للمبتدئين، ثم يثني بكتب المتوسطين، ثم ينظر في كتب المتقدمين، ويحرص على الحفظ، ففي مثل هذا يحفظ الأربعين، ثم العمدة، ثم البلوغ، ثم بعد ذلك يقرأ في الأصول المسندة، فإن كانت الحافظة تسعفه في حفظ المتن مع السند فلا يعدل عنها؛ لأن طالب العلم كما هو بحاجة إلى المتن هو أيضاً بحاجة إلى السند، فإن كانت لا تسعفه فيحفظ في المختصرات، ويحضر الدورات ويستفيد، ومع ذلك يكرر النظر في الأصول، وينظر في شروحها، ويتفقه فيها على طريقة شرحناها في مناسبات كثيرة، يرجع إليها من أرادها، وهي مسجلة وموجودة ومتداولة.
يقول: هل الانتساب لكليات الشريعة معين لمن فاته التعليم الشرعي النظامي أم تنصح بالاكتفاء بالاجتهاد الفردي، أم الأفضل أن يسلك الشخص الدراسة النظامية؟
عليه أن يجمع الدراسة النظامية لها مزايا ومحاسن، لا توجد في غيرها، ودروس المساجد وحضور الحلق العلمية هذا لا يعدله شيء، ولا يغني عنه شيء، ومع ذلك الرافد المهم جداً النظر في المراجع في البيت، فيجمع بين الدراسة النظامية إن كان يستطيع الانتظام فهو الأصل، وإن كان لا يستطيع ينتسب، ويحضر دروس أهل العلم في المساء، ويراجع الكتب فيما بين ذلك وقبله وبعده.
يقول: شخص دخل المسجد والإمام في الركوع، فقال: سبحان ربي العظيم مرة واحدة هل تعد له ركعة؟
نعم إذا تحقق أن الإمام لم يرفع قبل أن يستوي راكعاً.
شخص دخل المسجد وقد انتهت الجماعة أيهما أفضل أن يرجع ويصلي في منزله أم هل يرى إن كان أناساً يصلون جماعة معه أو يصلي وحده؟
على كل حال إذا قصد الجماعة هو معذور، يعني ما فرط، إذا قصد الجماعة فوجدهم قد صلوا فله مثل أجرهم، هذا إذا لم يفرط، أما إذا فرط فهذا ملوم مذموم؛ لأنه فرط في واجب.
هذا الذي جاء إلى المسجد المكتوبة الأفضل فيها أن تكون في المسجد سواءً كان بمفرده أو مع الجماعة، حيث ينادى بها، صلاة المرء في بيته أفضل إلا المكتوبة، لكن إذا كانت في المسجد وليس معه أحد ألبتة، وأراد أن يرجع إلى بيته ليصلي بمن بقي من أولاده من يوجد منهم أو بزوجته لا شك أن تحصيل مثل هذه المصلحة أقوى.(109/21)
يقول: كثيراً ما يصادف الإنسان في هذه الحياة من مصائبها وأزماتها، وكثير من الخلق لا يستطيعون .. ، من لا يستطيع الصمود أمامها، فأتمنى أن تذكرنا بأن الحياة هي دار ابتلاء وصبر، وأنها ممر إلى الآخرة؟
جاء في الحديث أن ((الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر)) ((من يرد الله به خيراً يصب منه)) فقالوا: إن عمر بن عبد العزيز إذا أمسى تأمل في يومه إن حصل هل شيء من هذه الإصابة وإلا بكى، يقول: إن الله لم يرد به خيراً.
يقول: ما هي أفضل طبعة لسبل السلام طبعة الحلاق أم طبعة طارق عوض الله؟
لا طبعة الحلاق أفضل، لا سيما الطبعات التي تلوفي فيها كثير من الأخطاء.
ما رأيكم في حفظ بلوغ المرام دون التخاريج المصاحبة للأحاديث؟
ابن حجر لا يطيل في التخاريج، ومعرفة المصدر الذي يرجع إليه من الكتب الأصلية عند الإشكال في غاية الأهمية بالنسبة لطالب العلم.
إذا وجد الإمام لم يسلم بعد فهل يدخل معه أم يصلي مع جماعة أخرى؟
((إذا جاء أحدكم والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام)).
يقول: المعروف من كلام المؤرخين أن أم أيمن -رضي الله عنها- هي حاضنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن زيد بن حارثة -رضي الله عنه- هو دعيه، يعني يدعى زيد بن محمد في الجاهلية، فكيف زوجهما النبي -صلى الله عليه وسلم- وبينهما من العمر ما لا يقل عن ثلاثين سنة، وأنجبت أسامة؟
ويش الإشكال في هذا؟ يعني كونها لا تحل له، أو كونها أكبر منه؟ كل هذا لا يؤثر؛ لأنها تحل له.
هل يؤاخذ الإنسان بما يحدث به نفسه مثلاً فيقول مع نفسه: لا أريد هذه الزيادة التي في الراتب سوف أجعلها لله تعالى شهرياً، هل يلزمه .. ، وأخرجها كل شهر، وإن كانت تلزمه إذا طلع تقاعد، هل يخرجها يخرج نفس المبلغ أو على نسبة التقاعد؟
مثل هذا الوعد لا يلزمه أن يفي به، وإنما هو من باب الاستحباب، لكن إن اقترن بذلك عهد ويمين وميثاق مع الله -جل وعلا- إن أخل به {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} [(77) سورة التوبة] لكن إذا كان مجرد حديث نفس أو كلام من دون تأكيد بعهد ولا ميثاق ولا يمين فإنه يكون مجرد وعد لا يأثم بتركه.(109/22)
يقول: محل يقوم ببيع منتجات هل يجوز له أن يقدم عرض أسعار لشركة ما على منتج غير موجود عنده في الحاضر، ولكن بعد قبول عرض السعر يستطيع إحضاره، وتقديمه للزبون؟
إذا كان مجرد عرض من غير إبرام عقد فلا مانع، وإن وجد إبرام العقد فقد باع ما ليس عنده، وحينئذٍ لا يجوز.
لعلنا نكتفي بهذا القدر، والأسئلة كثيرة، ولا يكفيها لقاء أو لقاءين ...(109/23)
شرح: بلوغ المرام - كتاب العتق (1)
الشيخ: عبد الكريم الخضير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا يقول: الله -سبحانه وتعالى- من سننه أن يهلك من عصى وحاد عن الطريق المستقيم، فذكر سبحانه أنه أهلك ثمود، والمؤتفكات وغيرهن، ولكن إهلاك عاد مغاير، حيث قال سبحانه: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} [(50) سورة النجم] والعرب إذا ذكرت الأولى معناه أن هناك شيء آخر، يعني أخرى، وإلا لم يصبح ميزة لذكر الأولى، وكذلك قال سبحانه: {أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [(60) سورة هود] فهل معنى ذلك أن هناك عاد غير قوم هود لم يهلكهم الله؟
يعني الوصف أحياناً يكون له مفهوم، وأحياناً يكون الوصف كاشف، ولا مفهوم له، ويكون تصريح بما هو مجرد توضيح، فلا يكون له مفهوم، ولا يقال: إن هناك عاداً أخرى، ولا عاد قوم لغير هود، وإنما هو من باب التصريح بما هو مجرد توضيح، وكونه أولى يعني أنها متقدم زمنها، وزعم بعض المؤرخين في قول ضعيف ذكره الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية أن عاد وثمود بعد إبراهيم، وهذا قول ضعيف، مع قوله -جل وعلا-: {الْأُولَى} [(50) سورة النجم] فلعل المستند لمن قال بهذا القول: إنها عاد ثانية أخرى بعد عاد الأولى، ولكن هذا القول ليس بصحيح.
الطالب: ما يطلق -رعاك الله- على الأولى بمعنى المتقدمة؟
هذا المعنى إيه.
يقول: في حالة ورث الولد من الوالد أمة هل ينتظر حيضة من الأمة، وأيضاً في حالة إذا أشترى أحد أمة وانتظر محيضها، ولكن اكتشف أنها حامل، هل يرجع إلى مالكها الأول، أم ماذا يفعل؟(110/1)
إذا ورث الولد من والده أمة وقد كان الوالد قد وطئها فإنه لا يجوز للولد أن يطئها، ولو لم تحمل من والده وتكون أم ولد، بمجرد وطء الوالد حرمت على الولد، أما إذا أشترى أمة وانتظر الاستبراء بحيضة فتبين أنها حامل هل يرجعها إلى مالكها الأول أم ماذا يفعل؟ أولاً: أن الولد نماء، لكن إذا كانت حاجته إلى الوطء عاجلة، بحيث لا يستطيع أن ينتظر تسعة أشهر، هو في الحقيقة نماء، والولد تبع لها، نماء متصل فهو تبع لها، لكن إذا كانت حاجته إلى الوطء العاجل أكثر من حاجته إلى الولد فإن هذا يكون عيباً ترد به، وإلا هو في الأصل ليس عيب، وإنما هو نماء يغتبط به.
يقول: إذا ورث الولد امرأة من والده -يعني أمة- هل تتعق من وفاته -وفاة الوالد- أم تنتقل إلى ... ؟
تنتقل لأنها مال بحكم سائر الأموال، ما لم تكن حاملاً أو أم ولد وضعت فإنها تتعق بموته، أما إذا كانت ليست أم ولد فإنها تورث كما يورث سائر الأموال.
يقول: نقل ابن رشد وابن قدامة وغيرهما الإجماع على استحباب السترة، وقال بعض أهل العلم بوجوب السترة فهل الإجماع منعقد على استحبابها؟
نعم يذكرون الإجماع باعتبار أن المخالف من أهل الظاهر لا اعتداد بقوله، وأن الإجماع ينعقد بدونهم، وكثير ما ينقل النووي الإجماع مع ذكره قول داود؛ لأنه يصرح بأنه لا يعتد بقول داود؛ لأنه لا يرى القياس الذي هو أحد أركان الاجتهاد، فلا يعكر عليه ذكر خلاف داود؛ لأنه لا يعتد به، فعامة أهل العلم على أن السترة مستحبة، وإن جاء الأمر بها، إن صلى أحدكم فليستتر، والأصل في الأمر الوجوب، لكنه مصروف إلى الاستحباب عند عامة أهل العلم؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- ثبت عنه أنه صلى إلى غير جدار، قال ابن عباس: يعني إلى غير سترة.
يقول: هل للإمام أن يمكث بعد التفاته جالساً يسبح أم أن عليه أن يقوم من مكانه، وينتقل إلى مكان آخر بعد استغفاره؟
يمكث في مكانه، والملائكة تصلي عليه ما دام في مكانه، فما دام في مكانه فسائر المصلين الملائكة تصلي عليهم وتدعو لهم، ما لم يؤذ، ما لم يحدث.(110/2)
يقول: هؤلاء الأسرى من الكبار بعدما صاروا عبيداً لدى أعدائهم السابقين ألم يهربوا من هذا الرق أو يقوموا بتدبير أذى ومكيدة لأسيادهم، وخاصة وحقد الكفار لا يزال في قلوبهم تجاه كل مسلم؟
أولاً: أن الأسير يوثق، يشد وثاقه حتى يؤمن جانبه، فإذا أمن جانبه ورأى الوضع عند المسلمين، واستقرت نفسيته، وألفهم تمنى أن يعيش بقية عمره أسير، ولا يرجع إلى قومه.
يقول: هل نقول: من أعتق نصيبه هل ينال أجر نصيبه ولو لم يسع بالباقي؟
على كل حال من أعتق كل شيء بقدره، لكن إن كان له مال فيلزمه تحرير باقيه، وإن لم يكن له مال فيستسعى العبد غير مشقوق عليه، فإذا كان السعي يشق عليه فإنه يبقى مبعض.
يقول: ما رأيكم في الكتب التالية: روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي؟
هذا من كتب الشافعية المحضة التي لا يشار فيها إلى خلاف، بل هي متخصصة في المذهب، مثل الإنصاف عند الحنابلة، يعني كتاب في اثني عشر مجلداً كالإنصاف تماماً، ولا يشير إلى المذاهب الأخرى، فهو كتاب متخصص في مذهب الشافعية، ومؤلفه النووي، وهو مأخوذ بجملته من الشرح الكبير، فتح العزيز للرافعي، مختصر منه، وفيه إضافات من النووي، وتنبيهات نفيسة، النووي إمام من أئمة الشافعية، وله يد وباع في الحديث، وله نفس لا شك أنه إلى العمل أكثر منه إلى العلم، يعني الرجل عالم ما يشك فيه في الفقه والحديث، ومع ذلك جانب العبادة عنده قوي، فيستفاد من كتبه -رحمه الله-.
عيون الأخبار لابن قتيبة؟(110/3)
عيون الأخبار من كتب الأدب الأصلية التي ينبغي قراءتها لطالب العلم، لا سيما وهو أنظف بكثير من كثير من كتب الأدب، ابن قتيبة رجل عفيف، ما هو مثل الأصفهاني صاحب الأغاني ولا غيره، ولا مثل الراغب أيضاً، الراغب الذي له يد في القرآن وغريب القرآن، وله كتب نافعة، لكن كتابه محاضرة الأوائل، هذا فيه إسفاف شديد، قد يفوق الأغاني في هذا الباب، مع أنهم لهم وجهة نظر لكنها غير مقبولة، ابن الوردي قاضي ومفتي، ومع ذلك يقول حينما ألف كتاباً في الفرق بين الجواري والغلمان، قال: إنه قد استكثر هذا الكتاب من مثل قاضي ومفتي لكن هذا المستكثر وهذا العاتب لا يدري أن العلم شيء والأدب شيء آخر، هذا الكلام مردود، هذا هو الذي يردده من يريد فصل الدين عن نواحي الحياة، قريب منه جداً، إيش معنى الأدب؟ أنت ما تتدين بحلال وحرام في سائر أحوالك؟ لماذا تنقل مثل هذا الكلام؟ ومن أنظف كتب الأدب: زهر الآداب للحصري، زهر الآداب من أفضل كتب الأدب وأعفها، لكن ما سلم صاحبه من محقق الكتاب زكي مبارك، يقول: إن الكتاب أغفل جانباً مهماً من جوانب الأدب وهو المجون، وقال كلاماً يليق به، وقال: إن الحياة تفقد حيويتها حينما تكون هدى خالص، هذا كلام المجان الذين يروجون لمثل هذا الكلام، وهذه الأفعال.
العقد الفريد؟(110/4)
كتاب أيضاً جامع في الأدب، ولا يخلو، ما هو مثل عيون الأخبار أو زهر الآداب، ما يخلو من بعض الأخبار التي يلاحظ عليها ما يلاحظ، يبقى أنه أعف من كتاب الأغاني لأبي الفرج، الأغاني على سوئه قد يستفيد منه العالم، أما طالب العلم فهو يعوقه عن تحصيل ما هو أهم منه، ويخشى من تضرره بقراءته، في كلام لأبي حاتم الرازي في الجرح في جبارة بن المغلس قال: بين يدي عدل، قال الحافظ العراقي: إنها لفظ تعديل، وينطقها بين يدي عدل، ثم جاء الحافظ ابن حجر فرأى أن التعديل ومن أبي حاتم بعيد كل البعد أن يكون لمثل جبارة والأئمة كلهم على تضعيفه، فبحث عن هذه الكلمة، أو هذه الجملة: "بين يدي عدل" قال: فوجدت في كتاب الأغاني أن القائد طاهر في عصر الدولة العباسية، الطاهر مشهور من قواد الدولة العباسية، وكان أعور، جالس على مائدة، وفيها من أولاد الرشيد –أظن- أسمه إبراهيم صغير، وهم على المائدة أخذ هندبة إما دباء أو شيء نحوه فرمى به طاهر، فضرب بها عينه السليمة، فشكاه على أبيه، فقال: إنه ضرب عيني السليمة، والأخرى بين يدي عدل، يعني تالفة هالكة، عوراء، فابن حجر لما قرأ هذا الكلام تبين له المراد، ثم قال: إنه تابع القراءة في كتب الأدب، فوجد في أدب الكاتب لابن قتيبة أن العدل بن سعد العشيرة كان على شرطة تبع، فإذا أراد تبع أن يقتل أحداً سلمه للعدل، فقال الناس: بين يدي عدل، يعني هالك، يعني استفدنا من هذه الكتب معرفة هذه الجملة التي هي بدلاً من أن تكون تعديل كما هو ظاهرها صارت من أسوأ مراتب التجريح.
فأقول: إن الكتب تفيد وتنفع، لكن متى تقف في كتاب من خمسة وعشرين مجلداً، وبعض الطبعات ثلاثين مجلد على مثل هذه الفائدة؟! أقول: هذه مصلحة وفائدة مغمورة في بحار ما فيه من السوء، لكن لا يخلو كتاب من فائدة، وأقول: طالب العلم لا ينبغي أن يضيع وقته في قراءة مثل هذا الكتاب، يعني طالب العلم لا بد أن يستجم، ولا بد أن يرتاح من معاناة العلم المتين إلى شيء من كتب الأدب أو التواريخ، لكن لا يستغرق في هذا الأمر، ويضيع جل وقته، وسنام وقته في مثل هذه الأمور، فلا هذا ولا هذا.
الطالب: والبيان والتبيين رعاك الله؟(110/5)
البيان والتبيين من أصول كتب الأدب والجرح، والحيوان كذلك، هذه كتب مهمة جداً في الأدب، الأمالي لأبي علي القالي، وله شرح سمط اللآلئ، نفائس، وكتاب ... ، كتب الأدب كثيرة، لكن منها المهم الكامل للمبرد مع شرحه النفيس: رغبة الآمل من كتاب الكامل للمرصفي، هذه الكتب يستفاد منها، لكن لا ينبغي أن تكون على حساب ما طالب العلم بصدده من علم الوحيين، وما يعين على فهم الوحيين.
شرح السنة للبغوي.
هذا يسأل على كتب متنوعة، شرح السنة للبغوي شرخ مختصر ومفيد ومتين، يعني شرح من إمام لجمع كبير من أحاديث الأحكام، فهو كتاب نفيس ونافع، وشرحه باختصار يفيد ولا يأخذ وقت، مثل معالم السنن للخطابي، ما هو مثل الشروح المطولة مثل فتح الباري وغيره، يعني تقرأ هذا الكتاب، أو تقرأ مجلد من فتح الباري؟ يعني المدة واحدة.
المصنف لعبد الرزاق، والمصنف لابن أبي شيبة.
هذه كتب قيمتها في نقل فقه السلف؛ لأن جلها آثار، يعني فقه السلف مجموع فيها.
يقول: البخاري بشرح الكرماني.
إذا كان السؤال عن البخاري فالبخاري معروف، وأما شرحه شرح الكرماني فهو شرح متوسط، أطول من شرح الخطابي، وأخصر من فتح الباري وعمدة القاري، وفيه لطائف ونفائس تشجع وتحفز طالب العلم على متابعة القراءة.
عون الباري لصديق حسن.
هذا شرح للمختصر، شرح للتجريد الصريح، وأكثر من تسعين بالمائة من الكتاب مأخوذ من إرشاد الساري بحروفه.
كتاب العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد.
هذه من كتب العلل التي لا يستغني عنها طالب علم.
التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر.
محمود شاكر ما هو بمحمود أبو فهر أخو الشيخ محمد، لا، محمود متأخر وموجود له: مواطن الشعوب الإسلامية، وله التاريخ الإسلامي في سلسلة طويلة، وتاريخ طيب، والرجل معتدل، يعني فيه شيء من الاعتدال.
نيل الأوطار للشوكاني.
عاد ما يحتاج إلى أن نتحدث عنه، الشوكاني إمام، ونفسه إلى الحديث أقرب، فيفاد منه، مع أنه فيه ما فيه، يعني ليس .. ، مثلما تأثره ببيئته الزيدية لا بد أن يتأثر الإنسان ببيئته، لكنه محسوب على أهل السنة في الجملة.
البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي يقول: أطلعت عليه وفيه ....(110/6)
هو من كتب الأدب، ويزيد على ذلك أن أبا حيان معدود من الزنادقة، يقول ابن الجوزي: زنادقة الإسلام ثلاثة -يعني في عصر الإسلام- المعري، والتوحيدي، وأيضاً؟
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
ابن الرواندي.
قال: إذا أعتق من العبد نصفه أو بعضه وفضل الجلوس على رق بعضه فماذا عن الأحكام الشرعية عليه والواجبات؟
يكون مبعضاً يرث ويورث، ويودى بقدر ما فيه من الحرية.
أقصد الحج وصلاة الجمعة وغيرها؟
هو باقٍ على رقه؛ لأن لسيده أن يمنعه، إلا إذا كان الوقت مناوبة بينه وبين سيده، يعني قسم الوقت بحيث يتمكن من صلاة الجمعة، فصار يوم الجمعة من نصيبه، فباعتباره حر تلزمه الجمعة، وإذا قال السيد: لا، الجمعة لي أنا أحتاجها، ورفض أن يمكنه فيكون في هذه الحالة حكمه حكم الرق ومثله الحج.
يقول: كيف تكون كفارة اليمين على التخيير مع أن عتق الرقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم كل ذلك لا تتساوى قيمته المالية؟
ما يقرأ القرآن؟ هي على التخيير بين الثلاثة، وهي على الترتيب بين الثلاثة والصيام.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)) رواه مسلم".(110/7)
الوالد هو السبب في وجود الإنسان، جعله الله -جل وعلا- سبباً لوجوده، ولولا أن الله -جل وعلا- قيض هذا الرجل وتزوج بهذه المرأة ما وجدت، يعني ما استثني من ذلك إلا آدم وحواء وعيسى من اجتماع الصورة وإلا فبقية بني آدم على هذا، بالتزواج بين الوالدين، فهما السبب في إيجادك، فحقهما أعظم حق عليك بعد حق الله -جل وعلا-، وورد حقهما مقروناً بحق الله -جل وعلا- في كثير من النصوص، فحقهما عظيم، قد يحمل الإنسان أمه أو أباه على ظهره لحاجتهما إليه، ومع ذلك قد لا يوفي بحقهما، مع أن هذا من أفضل أنواع البر، قد يقوم بحاجتهما الخاصة عند احتياجهما إليه، ومع ذلك حقهما عظيم، فالعمل الوحيد الذي يمكن أن يكافئ به الوالد بدليل الحصر في الحديث في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه)) هو سبب وجودك، وأنت الآن في هذه الصورة تسببت في وجوده الحقيقي؛ لأنه وجوده مع الرق كلا وجود، منافعه مملوكة لغيره، لا يستطيع أن يتصرف بنفسه، فوجوده كالعدم، وأنت إذا اشتريته وجدته مملوكاً فاشتريته وأعتقته تسببت في وجوده حكماً، وإن كان الوجود الحقيقي الذي لا أثر له مما يلحقه كان موجوداً، لكن وجود، هل يلحقه ببني آدم، أو يلحقه بالبهائم التي تباع وتشترى؛ لأن أحكام الرقيق ينظر فيها باعتباره سلعة يباع ويشترى، أو باعتباره إنسان له عقله، وله تمييزه، وله اعتباره، وله مشاعره، فيتردد بين هذين الأصلين، فإلحاقه بأحدهما من باب قياس الشبه، فإذا وجد أباه والحال أنه متردد بين الإنسان والبهيمة هل يلحق بهذا أو بهذا؟ فما معنى هذا الوجود؟ كلا وجود، لكن إذا اشتراه واعتقه تسبب في وجوده الاعتباري الحقيقي الذي ينتفع به وإلا فوجوده قبل ذلك لمصلحة غيره.(110/8)
((لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)) رواه مسلم، قد يقول قائل: الفرق بين الوجودين بين وجود الابن وبين وجود الأب يعني قبل الولادة وقبل العتق، أما بعد الولادة وبعد العتق هذا ظاهر، لكن الكلام فيما قبل الولادة وقبل العتق، بل قبل الوطء الذي تسبب عنه الحمل وقبل العتق، وفي فرق، هذا موجود حقيقة ويأكل ويشرب ويتعبد، ما يتمكن من عبادة، ويتلذذ بأكل وشرب ونوم ويأنس، ومع ذلك هو مسخر لغيره يخدمه، فوجوده فيه نقص، لكن قبل تسبب الوالد بوجود الولد، قبل وطء الأم هذا عدم محض، ففرق بين وجود هذا وهذا، لكن في الحديث الحث على عتق الرقبة لا سيما الوالد، وإن لم تكن الصورة متطابقة من كل وجه.(110/9)
((لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)) في هذا الحديث مما يدل على أنه لا يعتق بمجرد الشراء، بل إذا تم ملكه له ثم أعتقه، فيفهم منه أنه يمكن أن يشتريه ولا يعتقه، ألا يفهم من الحديث هذا؟ قال: ((إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه)) ما سكت، قال: فيعتقه مباشرة، ليس فيه ثم يعتقه؛ لئلا يكون هناك تراخي، وليس فيه فيشتريه فقط لنقول: إنه يعتق بمجرد الشراء، بل يشتريه ثم يعتقه، وهذا قول من يقول: إن من ملك ذا رحم محرم لا يعتق إلا بالعتق، لا يعتق بمجرد الشراء، لكن الذي عليه عامة أهل العلم أنه يعتق بمجرد الشراء، لو اشترى أباه وفي حكمه الأم لو أشترى الأب أو أشترى الأم أو اشترى الابن أو اشترى البنت أو اشترى الأخ أو اشترى العلم أو اشترى الخال أو الخالة أو العمة بمجرد الشراء يعتق، وإن كان حديث الباب يدل على أن العتق بعد الشراء، لكن ما جاء في حديث الباب لا مفهوم له، إنما يعتق بمجرد الشراء، فالتنصيص على العتق هو مجرد توضيح، الظاهرية قالوا: إنه لا بد من الإعتاق وإلا ما يعتق، هل يستمر رقيق عند الظاهرية؟ هل يستمر رقيق إذا اشتراه؟ قالوا: نعم يستمر رقيق، ولكن يجبر على إعتاقه؛ لمفهوم الحديث، لكن حديث سمرة الذي يليه عرفنا أن مذهب عامة أهل العلم أنه يعتق بمجرد الشراء، ويكون تأويل فيعتقه قالوا: إن الشراء هو سبب العتق؛ لأنه يؤول إليه حصل أو لم يحصل، فالشراء عتق، فالشراء نفسه عتق، فالتصريح بالعتق باعتبار المآل، وأن الشراء يؤول إليه، فأطلق عليه، أو أطلق عليه على ما يقولون فنسب إليه العتق، أو صرح بذكر العتق من باب ذكر إنه يؤول إلى العتق، حديث سمرة صريح في أنه لا يحتاج إلى عتق، وأنه بمجرد الشراء وتمام الملك أنه يعتق، الذي يليه:(110/10)
"وعن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من ملك ذا رحم محرم فهو حر)) " يعني بمجرد الملك حر ((من ملك ذا رحم محرم فهو حر)) والضابط فيه بأنه لو كان أحدهما ذكر والآخر أنثى لا يصح النكاح بينهما، كما بين الوالد والولد، والولد والوالدة، والأخ مع أخيه أو أخته أو مع عمته أو خالته، لا أبناء العم ولا أبناء الخال، ولا العمة ولا الخالة؛ لأنه يصح أن يتزوج بنت عمه، وبنت خاله، وبنت عمته، وبنت خالته، فلا يعتق عليه بمجرد الشراء حتى يصرح بعتقه، بخلاف من لا يجوز له نكاحه فإنه يعتق عليه بمجرد الشراء.
قال: ((من ملك ذا رحم محرم فهو حر)) رواه أحمد والأربعة، ورجح جمع من الحفاظ أنه موقوف" إذا تعارض الوقف مع الرفع ذكرنا مراراً أن الحكم للرفع عند جمع من الحفاظ؛ لأنه زيادة من ثقة، وهذا الذي جرى عليه المتأخرون، أو الحكم لمن وقف؛ لأنه متيقن، والرفع مشكوك فيه، يعني ذكر الصحابي متيقن، لكن المشكوك فيه ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- فيكون الحكم لمن وقف؛ لأنه متيقن، وهذا أيضاً يميل إليه جمع من الحفاظ، فيرجحون الوقف في مثل هذه الصورة، ويرجحون الإرسال في مسألة تعارض الوصل والإرسال، وهناك قول ثالث وهو أن الحكم للأحفظ، إذا كان من رفعه أحفظ فالحكم له، وإذا كان من وقفه أحفظ فالحكم له، ومنهم من يقول: الحكم للأكثر، والعدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد، هذه أقوال أهل العلم ممن يحكم بحكم عام مطرد، ولو نظرنا إلى طريقة الأئمة الكبار في مثل هذه الصورة نجدهم لا يحكمون بحكم عام مطرد، بل يرجحون بين الأقوال بالقرائن، فما دلت القرائن على أنه أرجح فالحكم له، فقد يحكم الإمام الواحد على حديث بالرفع، ويحكم على حديث آخر بالوقف، ما يقول: الحكم لمن رفع مطلقاً، ولا يقول: الحكم لمن وقف مطلقاً، وهكذا في مسألة الوقف والإرسال، بل إذا رجحت القرائن الرفع حكم به، وإذا رجحت القرائن الوقف حكم به، وهذه هي طريقة الأئمة المتقدمين، وهم أهل هذا الشأن.(110/11)
طيب ما موقف طالب العلم إذا جاءه مثل هذا الحديث؟ موقفه أن يجمع الطرق، وينظر في من رفع، وفي من وقف، وسوف يتبين له إذا جمع طرق الخبر من القرائن ما يرجح به إذا كان أهلاً لذلك، ثم بعد ذلك لأن هذه المسائل مسائل دقيقة، يعني لا يقوم بها أي طالب علم، مهما طالت معاناته في علم الحديث، إذا فرغ من جمع الطرق، ومال إلى الرفع أو الوقف فإنه ينظر في أقوال الأئمة، ماذا قال الإمام أحمد؟ ماذا قال ابن معين؟ ماذا قال أبو حاتم؟ ماذا قال الدارقطني؟ وهكذا، فإذا وجد حكمه مطابقاً لأحكامهم فليحمد الله، وإذا وجد حكمه مخالف فليعد النظر في صنيعه، ويتسصحب أقوال الأئمة في مثل هذه الأمور؛ لأنه ليس فيها حكم عام مطرد تأخذ النظرية وتطبقها على جميع الأحاديث، لا، بهذا يترقى طالب العلم مع معاناة ومزوالة التخريج والدراسة للأسانيد، ومعرفة الطرق وجمع الطرق والحكم على الأحاديث إذا قارنها بأقوال الأئمة يتأهل؛ لأن يسير على طريقة معينة، وهذه تحتاج إلى عمر ومعاناة وقوة في الحفظ، ونفاذه في الفهم، يعني لا يخاطب بمثل هذا الكلام آحاد الطلاب.
((من ملك ذا ملك محرم فهو حر)) أي أنه يعتق بمجرد الملك، بمجرد تمام الملك، ومنطوقه يخالف مفهوم الحديث السابق، والحديث السابق في صحيح مسلم، ومتفق على رفعه، وهذا الحديث عند أحمد والأربعة، واختلف في رفعه ووقفه، فمن قال: إنه لا بد من إعتاقه لا سيما أهل الظاهر يقولون: حديث مسلم أرجح، ولا بد من أن يصرح بعتقه، والذي يقول: إن مفهوم حديث مسلم مخالف لمنطوق حديث أحمد والأربعة، والمنطوق مقدم على المفهوم يقول: إنه يعتق بمجرد الملك.
قال -رحمه الله- بعد ذلك:
"وعن عمران بن حصين -رضي الله عنهما- أن رجلاً أعتق ستة مملوكين" ستة عبيد تحت ملكه أعتقهم دفعة واحدة "أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم" يعني في مرض موته الذي لا يرجى برئه منه، لا ينفذ تصرفه إلا بالثلث، وما زاد على الثلث لا ينفذ تصرفه؛ لأنه متهم بحرمان الورثة، لماذا لم يتصرف هذا التصرف في وقت صحته؟(110/12)
"أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم" وفي هذه الحالة ليس له أن يتصرف إلا في الثلث والثلث كثير "فدعا بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجزأهم أثلاثاً" لينفذ الثلث، ويرد الثلثين إلى الورثة، إلى صاحبهم فإذا مات أوثوا عنه.(110/13)
"فدعا بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجزأهم أثلاثاً، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين" والاثنان هم الثلث بالنسبة للستة "وأرق أربعة، وقال له قولاً شديداً" رواه مسلم" وفي رواية النسائي وأبي داود: أن هذا القول الشديد قال: ((لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين)) هذا قول شديد ((لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين)) لماذا؟ لأنه حرم ورثته من الإرث ((إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)) فلا يصح، بل لا يجوز، ولا ينفذ تصرفه في أكثر من الثلث في هذه الحالة، النبي -عليه الصلاة والسلام- دعا بالستة فوزعهم ثلاث فرق اثنين اثنين اثنين، فجاء بقرعة فخرجت القرعة لاثنين أعتقهما، وأرق الأربعة، رجعهم، وعلى هذا لو شخص مريض يملك ثلاثة آلاف، ثم في مرض موته وهو في المستشفى قال: تصرف بالثلاثة آلاف، وزوعوهم على الفقراء، أو اشتروا بهم شيئاً ينتفع به المسلمون، يقال: لا ما يمكن تصرفك إلا في ألف والألفين ترد، قد يقول: الألفين وش تسوي؟ لكن هذا الحكم الشرعي، هذا قد يكون ألفين، وقد تكون ثلاثة ملايين، وقد تكون أكثر أقل، المقصود أن هذا هو الحكم، النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا بالستة، وفرقهم ثلاث فرق، فكل فرقة مكونة من اثنين، فأجرى القرعة فظهرت لاثنين فأعتقهما، وأرق الأربعة الباقين، فهنا النظر إلى العدد، قد يقول قائل: كل واحد من هؤلاء الستة حصل له العتق، ويجب رد الثلثين لماذا لا يعتق من كل واحد الثلث؟ ويبقى ثلثاه رقيق، وقد قيل بهذا، أنه لا يعتق اثنين ينتفع اثنان ويتضرر أربعة، فقالوا: كل واحد من هؤلاء الستة يعتق ثلثه، فيكون العتق مشاع بين هؤلاء الستة، والرق مشاع، فينتفع الجميع، ويتضرر الجميع، ما ينتفع اثنين ويتضرر أربعة، لكن الحديث في إيش؟ في صحيح مسلم، يعني هل لأحد أن يجتهد مع وجود هذا الحديث، طيب قد يقول قائل: إن هذين الاثنين الذين حالفهم الحظ، وظهرت لهم القرعة قد تكون قيمتهم تعادل قيمة الأربعة، فالاثنين يسوون لهم على مائة ألف وها الأربعة يا الله يجيبون مائتين ألف على خمسين، فكأنه تصرف بالنصف، لماذا لا ينظر إلى أقيامهم؟ وقد تكون قيمة الاثنين بقيمة واحد من هؤلاء(110/14)
الأربعة، لماذا لا ينظر إلى القيمة؟ قيل بهذا وقيل بهذا، لكن النص أثبت أن النظر في الثلث والثلثين إلى عدد الرؤوس، نعم عند القسمة الثلاثية، وقبل إجراء القرعة ينظر إلى مصلحة الورثة، وينظر إلى مصلحة هؤلاء الأرقاء، وينظر بعين العدل والمساواة بين الجميع، لكن يبقى أن هذا حكم شرعي، والقرعة معتبرة في الشرع في أمور كثيرة، القرعة معتبرة في الشرع، عند المشاحاة لا بد من قرعة ولا مرجح لا بد من قرعة ترجح، فالحديث يدل على هذا، وأن النظر إلى عدد الرؤوس بغض النظر عن الأقيام، وبغض النظر عن كون المنتفع البعض دون البعض، ومنهم من قال: لا، لا بد أن يعم النفع الجميع؛ لأنهم في عبارة المعتق على حد سواء، أعتقهم جميعاً، فأراد أن يستفيدوا جميعاً فلماذا نفيد اثنين ونحرم البقية؟ هذا قال فيه بعض أهل العلم، فقال: يعتق من كل واحد ثلثه، فإما أن يبقى الثلثان من كل واحد، أو يستسعى الجميع ويسددون للورثة؛ لئلا نحرم الورثة بقيمة الثلثين، لا شك أن هذا من حيث النظر والقياس يعني له وجه، لكن ما قيمة النظر والقياس في مقابل النص؟ لا قيمة، وكذا قول من يقول: ننظر إلى الأقيام؛ لأن العبرة بالثلثين بالحساب، يعني لو أن شخصاً عنده ثلاث بيوت، وفي مرض موته، قال: هذه البيوت أوقاف، الثلاثة ولا يملك غيرهم، بيت بمليون، والثاني بخمسمائة ألف، والثالث بمائة ألف، هل نقول: نأخذ واحد أين كان ونترك الاثنين، أو ننظر إلى الأقيام؟ هل نقول: ينفذ تصرفه في البيت الكبير الذي يستحق مليون، أو الصغير الذي يستحق مائة ألف، أو ننظر إلى الوسط بخمسمائة ألف، أو ننظر إلى الأقيام ونقسهما على ثلاثة؟ لا شك أننا إذا نظرنا إلى مصلحة الوارث، ومصلحة من يستفيد من هذا الوقف فلا بد أن نحسب القيمة؛ ليكون انتفاع هؤلاء وهؤلاء على حد سواء، ما نقول: والله هاذولا ثلاثة، ثلاثة بيوت أو ستة بيوت نأخذ اثنين ونخلي أربعة مثل هؤلاء الأعبد، ننظر إلى القيمة، لكن ما ورد به النص ينفذ النص، قد يقول قائل: لماذا لا نقول: يوقف ثلث هذا البيت وثلث هذا البيت وثلث هذا البيت ويبقى الثلثان؟ يعني حينما يكون الوقف مستقل، والموروث مستقل ينتفع به أصحابه لا شك أن هذا أرفق بالجميع، وإلا ما فيه(110/15)
ما يمنع، أنه ينفذ وقفية ثلث هذا البيت وثلث هذا البيت ويرد الثلثان، لكن ما يقال: إنه يوقف هذا البيت، أو هذان البيتان من الستة، وإن كانت قيمتها تعادل الأربعة، بغض النظر عما جاء في الحديث، ولعل النبي -عليه الصلاة والسلام- جمع بين الأمور كلها في نظره الدقيق -عليه الصلاة والسلام-، فرأى أن كل واحد يشكل ثلث القيمة مع ثلث العدد ويش المانع؟ وإذا أمكن أن يطبق ما في الحديث مع ما يدل عليه النظر هذا هو الأصل. قال بعد ذلك:
"وعن سفينة -رضي الله عنه- قال: كنت مملوكاً لأم سلمة، فقالت: أعتقك وأشترط أن تخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما عشت" رواه أحمد وأبو داود والنسائي".
هذا الشرط في العتق سائغ، لو قال: السيد لعبده أعتقك بشرط أن تأتي إلي في كل صلاة توصلني إلى المسجد لا أريد غير هذا، أو أعتقك بشرط أن توصل الأولاد المدارس وترجعهم، وبعد ذلك أنت حر، يعمل بالشرط وإلا ما يعمل؟ يعمل بالشرط، لكن لو قال: أبيعك، أو أبيعه عليك بشرط أن يخدمني ما عشت، نقول: لا، نهى عن الثنية إلا أن تعلم، وهذا الشرط ينافي مقتضى العقد، لكن العتق من باب الإرفاق، ليس من باب المعاوضة، فيصح فيه الشرط المجهول، ويصح فيها الشرط وإن كان ينافي مقتضى عقد البيع؛ لأنه ليس بعقد معاوضة، هنا قالت: أعتقك وأشترط عليك أن تخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما عشت، يعني طلية حياتك تخدم الرسول -عليه الصلاة والسلام-، قد يقول قائل: إنه ما استفاد ما دام مشروطاً عليه أن يخدم يستمر رقيق، نقول: لا الشعور بالحرية غير، الأمر الثاني: أن الخدمة وقتها معلوم، وبقية الوقت يكون له، بصفته حر، بخلاف ما لو كان رقيقاً، ففي غير وقت الخدمة لا بد أن يؤذن له أن يتصرف، أما إذا كان حراً فلا يحتاج إلى إذن، فهو مستفيد، وإن شرط عليه أن يخدم، قد يقول قائل: إن هذا التصرف من أم سلمة، فيكون موقوفاً عليها، ولا يتم به الاستدلال، نقول: حصل بعلمه -صلى الله عليه وسلم-، واستمر سفينة يخدم النبي -عليه الصلاة والسلام- بعد هذا الكلام.(110/16)
لو قال السيد لعبده: أعتقك شريطة أن تخدمني عشر سنين، متى يتم العتق؟ بعد تمام العشر، كأنه أعتقه عتقاً معلقاً بمضي عشر سنين، ولا يتم عتقه إلا إذا تمت العشر، هل نقول: إن سفينة لا يتم عتقه إلا بعد أن توفي الرسول -عليه الصلاة والسلام-، يعني لو قال: على أن تخدمني عشر سنين، أو شريطة أن تخدمني عشر سنين، قالوا: لا يتم عتقه إلا بخدمته عشر سنين، وهنا أعتقك وأشترط عليك أن تخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما عشت، هل نقول: إنه ما يعتق إلى أن يموت؟ يعني ما قالت: إن تخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما عاش، قالت: ما عشت، معلوم أنه لا حاجة إلى العتق بعد الموت، فدل على أنه يعتق من وقته لكن مع الشرط.
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنما الولاء لمن أعتق)) متفق عليه في حديث طويل.
هو حديث بريرة في قصتها مع مواليها، أنها باعوها أو كاتبوها على تسع أواقي منجمة في كل سنة أوقية، فذهبت إلى عائشة تطلب منها العون على السداد، فقالت عائشة: إن أراد أهلك، أو إن أحب أهلك أن أعدها لهم نقداً، ويكون ولائك لي عددتها لهم، فذهبت إليهم قالوا: لا، تعدها لنا وولائك لنا، أخبرت عائشة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((اشتريها واشترطي الولاء لهم)) الحديث تقدم، تقدم الحديث في كتاب البيع حديث بريرة في تمامه تقدم، اشتريها واشترطي الولاء لهم، اعتقيها واشترطي الولاء لهم، فلما فعلت خطب النبي -صلى الله عليه- قال: ((ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط، إنما الولاء لمن أعتق)) البائع والمكاتب ليست له منة، معاوضة وأخذ القيمة، لكن من أعتق دون مقابل هذا الذي له الولاء الذي يحصل به الإرث، فإنما حرف حصر تثبت الحكم للمذكور وتنفيه عما عداه.(110/17)
((إنما الولاء لمن اعتق)) ليس لغيره ممن باع أو كاتب، إنما هو لمن أعتق، وأيضاً لا يوجد ولاء يحصل به التوارث في غير العتق، فإذا أسلم على يديه لا يرث، إذا أنقذه من غرق أو حرق لا يرثه، إنما الولاء خاص؛ لأن (إنما) للحصر خاص بمن أعتق، والحديث تقدم، الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه الجعفي مولاهم، إيش معنى مولاهم؟ لأن جده أسلم على يده يمان الجعفي، أسلم على يده، فقيل: مولاهم، لكن هل يثبت توارث بالإسلام على يديه؟ نعم يقول به بعض الحنفية والهادوية، يقولون: يثبت التوارث، فهو ولاء، فيكون قوله: مولاهم بالنسبة للبخاري على وجهه، ويمان الجعفي هو جد شيخ البخاري عبد الله بن محمد المسندي جده، وكثير ما يقال: مولاهم، وليس بولاء عتاقة، وإنما ولاء حلف، أو سكنى بينهم، أو إسلام، أو ما أشبه ذلك، أو يد له عليه يكون مولى له من حيث التقدير والاحترام لا ثبوت بقية الأحكام؛ لأن الولاء خاص بمن أعتق بمنطوق هذا الحديث.
ثم قال -رحمه الله تعالى-:
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب))(110/18)
كلحمة النسب هل يستطيع أحد أن يبيع علاقته بعمه أو بأخيه أو بأبيه؟ هل يستطيع؟ لا يستطيع، فالولاء مثله، أعتقت رقيق فثبت ولاؤه لك، جاء شخص أعجبه هذا الرقيق، وقال: هذا ما شاء الله يجمع أموال الدنيا، هذا محترف، ويحتمل أن يكون إرثه كثير، وأنت ترثه بالولاء، أشتري منك الولاء، نقول: الولاء لا يباع؛ لأنه أمر معنوي، ولحمة كلحمة النسب، كما أن العلاقة لا تباع بين الولد ووالده وبين الأخ وأخيه، وبين العم وابن أخيه وهكذا، مثل هذا لا يباع، قال: مثل هذا إرث يؤول إلى المال، أنا أشتري .. ، الولاء .... إلا إرثه، يعني هذه اللحمة وهذا الانتماء المعنوي سوف يتحول إلى مادي، وأنا سأشتري منك هذا المال الذي سوف ترثه منه، نقول: هذا المال مجهول، ما يدرى يمكن في آخر لحظة من اللحظات ينسحق هذا المال كله، يخسر في تجارته، فهل البيع حصل على الولاء أو على المال؟ سواء كان على الولاء الذي هو أمر معنوي يستحق به المعتق كل تقدير واحترام ومعروف في رقبة هذا المعتق، هذا أمر معنوي لا يجوز بيعه، وهكذا الأمور المعنوية كأخذ المال على الجاه، توسط لك في دائرة من الدوائر، وقبل موضوعك، قال: هات، ما تعاقدت معه على أنه أجير يأخذ أجرة المثل إذا عمل هذا العمل، لا، شفاعة، قال: ما دام مشت أمورك فلي نصيب، فأخذ المال على الجاه مختلف فيه عند أهل العلم، لكن المرجح أنه لا يجوز؛ لأنه بسبب أمر معنوي.(110/19)
((لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب)) كثيراً ما نسمع في المجالس عند من توجد لديهم القطيعة، إذا حُدث عن فلان عن عمه فلان، أو عن خاله فلان، أو عن ابن عمه فلان قال: نصيبي منه لك، إن كان هو معجبك فنصيبي لك، يملك؟ هل له نصيب حسي معروف؟ لكن لو ورثه وقبل أن يصفى المال، وهذا الإرث سوف يؤول إلى المال ويقدر بمال، ويتوقع أن يبلغ كذا، وأراد واحد من الورثة، أو السيد المعتق، المولى المعتق أراد أن يستعجل هذا الإرث، فأراد أن يشتريه أحد بما يباع به نسيئة، يقول: تبيع عليه نصيبك من فلان، إذا كان مجهول ولا يؤول إلى علم فهذا لا يجوز بحال؛ لأن من شرط المبيع أن يكون معلوماً، إن كان يؤول إلى علم أو نصيبه معروف محصور ويقدر بكذا، يقدر إرثه بعشرة ملايين، وهذه زوجة لها الثمن، مليون ومائتين وخمسين، لكن تقول: ما أنا بصابرة، حصر ورثة، والمحكمة، أقسم الميراث، تحتاج إلى أشهر، اللي يعطيني مليون خلاص يكفي، نقول: لا هذا مال بمال، هذا الربا، لكن لو قالت: أنا أريد عشر سيارات قيمتها مليون، فبذلها واحد لأنها تباع بها نسيئة ما في إشكال، لا إشكال في مثل هذا، لكن دراهم بدراهم مع عدم التماثل لا يجوز.
((الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب)) رواه الشافعي، وصححه ابن حبان والحاكم، وأصله في الصحيحين بغير هذا اللفظ".
أصله في الصحيحين هل يصحح لأن أصله في الصحيحين؟ الذي في الصحيحين حديث عبد الله بن عمر: نهى عن بيع الولاء وهبته، هل يصحح: ((الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب)) باعتبار أن أصله في الصحيح "نهى عن بيع الولاء وعن هبته"؟ أحياناً يقال: أصله في الصحيح ولا يصحح، لما يوجد من الفرق في المعنى مما في الأصل مع ما في الفرع، وأحياناً يكون هناك اشتراك في المعنى، وإن اختلف اللفظ في الصحيح وفي غيره، في الأصل وفي الفرع، وأحياناً يكون ما في الفرع لا يوجد في الصحيح، قطعة لا توجد في الصحيح، بينما بقية القصة موجودة في الصحيح، هذه تعامل على أنها حديث مستقل، يحكم عليها بمفردها، يعني ذكر الشارح عن بعض السلف أنه يجوز بيع الولاء، ومنهم من جوز هبته، لكن الحديث حجة على الجميع، ومنهم من حمل النهي "نهى عن بيع الولاء وعن هبته" على التنزيه؛ لكن الأصل في النهي التحريم، المدبر والمكاتب وأم الولد، درس الغد -إن شاء الله تعالى- ....(110/20)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: بلوغ المرام - كتاب: العتق (2)
الشيخ: عبد الكريم الخضير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- في كتابه بلوغ المرام:
كتاب: العتق
عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أيما امرئ مسلم أعتق امرأً مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً منه من النار)) متفق عليه.
وللترمذي وصححه عن أبي أمامة -رضي الله تعالى عنه-: ((وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار)).
ولأبي داود من حديث كعب بن مرة -رضي الله تعالى عنه-: ((وأيما امرأة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار)).
وعن أبي ذر -رضي الله تعالى عنه- قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- أي العمل أفضل? قال: ((إيمان بالله, وجهاد في سبيله)) قلت: فأي الرقاب أفضل? قال: ((أعلاها ثمناً, وأنفسها عند أهلها)) متفق عليه.
وعن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من أعتق شركاً له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قُوم عليه قيمة عدل, فأعطى شركاءه حصصهم, وعتق عليه العبد, وإلا فقد عتق منه ما عتق)) متفق عليه.
ولهما عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-: ((وإلا قُوم عليه, واستسعي غير مشقوق عليه)) وقيل: إن السعاية مدرجة في الخبر.
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)) رواه مسلم.
وعن سمرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من ملك ذا رحم محرم فهو حر)) رواه أحمد والأربعة، ورجح جمع من الحفاظ أنه موقوف.
وعن عمران بن حصين -رضي الله عنهما- أن رجلاً أعتق ستة مماليك له عند موته لم يكن له مال غيرهم, فدعا بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجزأهم أثلاثاً, ثم أقرع بينهم, فأعتق اثنين وأرق أربعة, وقال له قولاً شديداً. رواه مسلم.(111/1)
وعن سفينة -رضي الله تعالى عنه- قال: كنت مملوكاً لأم سلمة فقالت: أعتقك وأشترط عليك أن تخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما عشت، رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم.
وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنما الولاء لمن أعتق)) متفق عليه في حديث.
في حديث طويل.
سم رعاك الله.
ما عندك طويل؟
ما عندي.
في قصة بريرة.
أحسن الله إليك.
وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنما الولاء لمن أعتق)) متفق عليه في حديث طويل.
وعن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الولاء لحمة كلحمة النسب, لا يباع ولا يوهب)) رواه الشافعي، وصححه ابن حبان والحاكم، وأصله في الصحيحين بغير هذا اللفظ.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:(111/2)
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في آخر كتاب من كتب الأحكام في هذا الكتاب النفيس بلوغ المرام في كتاب العتق، وأهل العلم يختلفون في وضع هذا الكتاب، فمنهم من يجعله في آخر باب من أبواب الكتب، سواء كانت من كتب الأحاديث، أو من كتب الفقه، تفاؤلاً بأن يعتق الله رقابهم من النار بعد أن فرغوا من هذا العمل الجليل، وبعد أن أتموا مدتهم في هذه الحياة، فالخاتمة مع الخاتمة، وبعضهم يقدمه فيجعله في آخر المعاملات المالية، قبل كتاب النكاح؛ لأن فيه شوب مال، فالعبد الرقيق مال يباع ويشترى، فعتقه تفويت لهذا المال، وإن كان فيه أجر عظيم، ففيه شوب من المالية، فيجعلونه في آخر مباحث ما يتعلق بالأموال، يعني في آخر الربع الثاني من أرباع الفقه الذي يبنى عليها الفقه العبادات ثم المعاملات ثم الأنكحة ثم الجنايات في النهاية، فإما أن يوضع عند بعض أهل العلم في آخر الربع الثاني، أو في آخر الربع الرابع، ولكل وجهة، وهذا له وجه وهذا له وجه، وعلى كل حال العتق مصدر عتق يعتق عتقاً، والإعتاق مصدر أعتق، فهو معتق وعتيق، فعيل بمعنى مفعول، وكل من تحرر من شيء فهو عتيق، فالعبد إذا أعتقه سيده وتحرر من خدمته وصار حراً يتصرف تصرف الأحرار فهو عتيق ومعتق، والبنت إذا بلغت وتهيأت للخطاب عتقت عن امتهان والديها، ولهذا جاء في الحديث: "أمرنا أن نخرج العواتق والحيض وذوات الخدور" فإذا عتقت من امتهان والديها وإخوتها في خدمتهم في بيت الأسرة الأول يقال لها: عاتق، فكل من تحرر من شيء فهو معتق وعتيق، فمن أعتقه فهو معتِق، وهو معتق وعتيق، والرقبة التي يعبر بها عن العبد باعتبار أنه كالمأثور الذي وضع في رقبته حبل، وأوثق بهذا الحبل؛ لئلا ينفلت فيحتاج إلى فك، وجاء الترغيب في العتق، وفي فك الرقاب، وهذا يشمل الأرقاء في تحريرهم من الرق والعبودية، ويشمل أيضاً الأسير، فمن فك الأسير، فك العاني فإنه له الثواب العظيم، والأجر عند الله -جل وعلا-، بحيث مكن هذا الرجل أو هذه المرأة من عبادة الله -جل وعلا- من غير تسلط على أحد، قد يقول قائل -وهذا الذي يثار من الشبه التي تثار على الإسلام وعلى التشريع الإسلامي-: إنه كيف يكون إنسان يتسلط على إنسان، وحقوق الإنسان(111/3)
معروفة أنها تحارب مثل هذا، لكن الإسلام شرع الرق وسببه الكفر، فإذا أسر الكافر فمن الخيارات أن يكون رقيقاً، والأمر لولي أمر المسلمين، إما أن يفكه، وإما أن يفديه أو يفدى له، أو يكون رقيقاً، فسببه الكفر، وقالوا: الرق عجز حكمي سببه الكفر، عجز قد يكون الرقيق من أقوى الناس في بدنه، وهم يقولون: عجز، لكنه عجز حكمي لا عجز حقيقي، يعني من حيث الأحكام عاجز، لا يساوي الحر من حيث الأحكام؛ لأن الحر يجب عليه من الواجبات ما لا يجب على الرقيق، فالرقيق لا تجب عليه جمعة، ولا يجب عليه حج؛ لأنه مشغول بخدمة سيده، فهو عاجز عن أداء هذه الواجبات فهو عجز حكمي، وقد يكون سيده الذي يتصرف فيه من أضعف الناس في بدنه، لكن المسألة متعلقة بالأحكام الشرعية، لا بالعجز البدني، عجز حكمي سببه الكفر، المسلم لا يمكن أن يسترق بحال من الأحوال، فهذا العجز الحكمي في أضيق الدوائر، التمكن منه في الجهاد فقط، لكن تخليصه من أوسع الأبواب، لهذا يُعرف حكمة التشريع من الرق ابتداء، فكونه رقيقاً أسهل من قتله، ولعله إذا رأى المسلمين، ويعيش بين مسلمين أسروه فاسترقوه، لعله أن يقر الإيمان في قلبه، فيسعد في الدنيا والآخرة؛ لأن هذا الأسر ومن بعده الرق يمكن هذا الرقيق من النظر بروية وبصيرة في حقيقة هذا الدين، ولذلك لما ربط ثمامة بن أثال في المسجد ثلاثة أيام، ورأى حال المسلمين وتعامل المسلمين، وكيف يتعامل المسلمون ويعبدون الله -جل وعلا- أسلم، والرقيق إذا عاش في بيت مسلمين يُسلم، هذا هو الغالب، ثم بعد ذلك إذا أسلم جاءت النصوص الكثيرة المتضافرة على فضل عتقه، فجعل الشرع منافذ كثيرة لتحرير الرقيق، لكن الرقيق لا يحرر قهراً على صاحبه وعلى سيده الذي ملكه ملكاً شرعياً إلا إذا لزمه رقبة، كفارة، فهو يجب في حال الكفارات الذي جاء فيها عتق رقبة، كالقتل والظهار والوطء في رمضان، أما بالنسبة لكفارة اليمين فهي على التخيير.(111/4)
فالعتق هو رفع الملك وإسقاط الملك عن هذا الرقيق تعبداً لله وتقرباً إليه، وهو في الأصل مندوب، وقد يجب في الكفارات، من الأحاديث التي جاءت في فضل العتق الحديث الأول حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((أيما امرئ مسلم)) لأنه سيأتي في حديث كعب بن مرة ((وأيما امرأة مسلمة)).
((أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً منه من النار)) إذا قلنا: المرأة تدخل في ((أيما امرئ)) قلنا: إن المرأة إذا أعتقت امرأة، والرجل إذا أعتق رجلاً، يعتق بكل ويستنقذ بكل عضو منه عضو من النار، والحديث: ((وإنما لكل امرئ ما نوى)) المرأة داخلة في امرئ هنا، لكن هل تدخل في الحديث أو نقول: إن هذا خاص بالرجال وللنساء ما يخصهن من حديث كعب بن مرة؟ الأمر سهل يعني إذا أعتق الرجل رجلاً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً من النار ((حتى فرجه بفرجه)) كما في رواية الصحيح، حتى فرجه بفرجه، فإذا أعتق الرجل رجلاً أعتقه الله بسببه من النار، وإذا أعتق الرجل امرأة أعتق الله نصفه من النار، لا بد أن يعتق امرأتين على ما سيأتي.(111/5)
((أيما امرئ مسلم أعتق امرأً مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً من النار)) جزاء وفاقاً، فهذا أعتق من الرق وهذا أعتق من النار، والإنسان يلهج دائماً بأن يعتق الله رقبته من النار، فابذل السبب، وهذا من المواضع الخمسة التي فيها المرأة على النصف من الرجل، في الشرع المرأة على النصف من الرجل، وهذا شرعنا، ولا يمكن أن نستخفي بمثل هذا الكلام أمام الكلام الذي يثار حول المساواة وحقوق الإنسان، وأن المرأة قد تفوق الرجل، فلماذا يفضل عليها؟ كل هذا فيما لم يرد فيه نص ((النساء شقائق الرجال)) لكن إذا جاءنا نص يدل على أن الرجل أفضل من المرأة فإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، ما لأحد كلام، هل يمكن أن يقول: إن البنت مثل الولد في الميراث؟ يمكن يقول أحد؟ لو قاله أحد كفر، والله -جل وعلا- يقول: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [(11) سورة النساء] نعم في أولاد الأم للذكر مثل حظ إيش؟ الأنثى، ذكرهم وأنثاهم سواء في أولاد الأم، قد يقول قائل: لماذا فرقنا بين هذا وهذا؟ الشارع الحكيم هو الذي فرق، الشارع هو الذي فرق بينهم، نحن أمة إتباع لا أمة ابتداع، وأمة اقتفاء للنصوص لا أمة مصادمة ومعاندة للنصوص، إذا قال الله شيء وقال الرسول سمعنا وأطعنا، المرأة على النصف من الرجل في هذا الموضع، إذا أعتق رجل رجلاً كان فكاكه من النار، أعتق رجل امرأة كانت فكاك نصفه من النار، لكن إذا أعتق امرأتين كانتا فكاكه من النار، والمرأة إذا أعتقت امرأة كانت فكاكها من النار، وإذا أعتقت رجل كان أفضل، وبهذا يفضل عتق الرجل على عتق الأنثى عند جمهور أهل العلم، والدلالة من هذه الأحاديث صريحة أن عتق الرجل أفضل من عتق الأنثى، وقال بعضهم: إن عتق الأنثى أفضل؛ لأنها إذا عتقت عتق أولادها تبعاً لها؛ لأن الولد يتبع أمه حرية ورقاً، وأيضاً إذا أعتقت الجارية قد تعرض لفتنة ليست مثل الرجل إذا أعتق، فيكون عتقها .. ، لا هذا من أسباب تفضيل عتق الرجل، حتى إن بعضهم قال: إن عتق الأنثى أجره أقل بكثير من عتق الرجل باعتبار أنها قد تعرض لفتنة، وجاء في الحديث: ((إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها)) ثم إذا زنت، ثم إذا زنت، يدل على أن المرأة(111/6)
الضعيفة قد تعرض لهذه الفتن، لا سيما إذا لم يكن لها ولي يحوطها ويحرسها، وهي في كفالة السيد، كما أن بعض الرجال إذا أعتق يضيع، وبعضهم بالفعل حصل له العتق وبقي عند سيده يخدمه إلى أن مات، فالناس يتفاوتون، وعتق الرجل كما جاء الحث عليه ليس على مستوى واحد من الفضل، وعتق النساء ليس على مستوى واحد من الفضل، وقد يكون عتق واحد يعدل عتق فئام من الناس، إذا وجد شخص لديه الاستعداد العلمي بأن يكون حافظاً فاهماً، ويتوقع أن يكون ممن يحمل عبئ الهم للأمة، وينير لها الطريق فمثل هذا عتقه لا يعدل عتق أي رقيق، سيأتي في حديث: ((أفضلها أنفسها وأغلاها وأعلاها عند أهلها)) لكن لا شك أنه على حسب الأثر المترتب على العتق، مع أن عموم حديث الباب: ((أيما امرئ أعتق امرأً مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً من النار)) أيما امرئ مسلم طيب إذا الكافر أعتق المسلم في فضل وإلا ما في فضل؟ الكافر لن يستنقذ من النار؛ لأنه خالد في النار مخلد، طيب مسلم أعتق امرأً كافراً له أجره، لا سيما إذا غلب على ظنه أنه يسلم، إذا أعتقه فيكون من باب التعامل الحسن الذي يؤثر في المدعو، فيكون من وسائل الدعوة أن تعتقه وتحسن إليه.(111/7)
((أيما امرئ مسلم أعتق امرأً مسلماً)) الإسلام والإيمان شرط في الرقبة المعتقة في الكفارات، والتنصيص عليها في آية النساء {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [(92) سورة النساء] كرر مراراً مع أنه لم يذكر في كفارة اليمين، ولا في كفارة الظهار، لكنه عند جمهور أهل العلم ما دام اتحد الحكم وهو وجوب الإعتاق لا بد أن تكون مؤمنة حملاً للمطلق على المقيد؛ لأنه أتحد الحكم وإن أختلف السبب، قد يختلف السبب قد يكون سبب الكفارة قتل، وقد يكون سببها ظهار، وقد يكون سببها يمين، وقد يكون سببها جماع في نهار رمضان، السبب يختلف، لكن الحكم هو الوجوب، يعني في كفارة القتل، وفي كفارة الظهار، وفي كفارة الجماع في نهار رمضان، الحكم واحد والسبب مختلف، وعند جمهور أهل العلم يحمل المطلق على المقيد فلا يجزئ في الظهار إلا رقبة مؤمنة، ولا يجزئ في الوطء في نهار رمضان إلا رقبة مؤمنة، يعني ما نص عليه، تحرير رقبة من قبل أن يتماسا، ما في مؤمنة كما نص عليه في القتل، يقولون: يحمل المطلق على المقيد، لكن لو كانت المسألة عكس يتفق السبب ويختلف الحكم يحمل المطلق على المقيد وإلا ما يحمل؟ إذا اتحد السبب واختلف الحكم، يعني اليد في آية الوضوء مقيدة بالمرفق، وفي آية التيمم مطلقة، السبب واحد وهو الحدث، لكن الحكم مختلف، هذا غسل وهذا مسح بالتراب، فلا يحمل المطلق على المقيد عند الجمهور، يعني في مقابل الصورة السابقة، يعني تمام القسمة أن يتفقا في الحكم والسبب، وأن يختلفا في الحكم والسبب، فإذا اتفقا في الحكم والسبب فيحمل المطلق على المقيد بدون خلاف، وإذا اختلفا لا يحمل المطلق على المقيد بلا خلاف.(111/8)
((أيما امرئ مسلم أعتق امرأً مسلماً)) التنصيص على أن يكون المعتق مسلم، والمُعتق مسلم، لماذا؟ لأن عتق غير المسلم لا يفك من النار مهما بذل من الأعمال، وشرط القبول متخلف وهو الإسلام والإيمان فإنه لا ينفعه عمله الصالح، قد يجازى به في الدنيا لكن في الآخرة خالد مخلد في النار، قد يقول قائل: إن أبا طالب نفعته أعماله الصالحة، وقد مات على الكفر، نعم شفع له النبي -عليه الصلاة والسلام- فبدلاً من أن يكون في الدرك الأسفل من النار صار في ضحضاح من نار، لكنه في النار لن يخرج منها، {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [(48) سورة الحجر] وكذلك أبو لهب لما أعتق ثويبة لما بشرته بالنبي -عليه الصلاة والسلام- صار يسقى بنقرة الكف، النقرة قد تكون في بعض الناس وبعضهم ما فيه بعد، شيء يسير جداً، المقصود أن الأعمال الصالحة إنما تنفع مع توافر شروطها، لا تنفع إلا من مؤمن، سئل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن ابن جذعان وأعماله الصالحة الجليلة في الجاهلية، قال: ((هو في النار، لم يقل في يوم من الأيام: اللهم أغفر لي خطيئتي يوم الدين)) يعني ليس بمسلم.(111/9)
((أيما امرئ مسلم أعتق امرأً مسلماً)) فالمعتق أيضاً لا بد أن يكون مسلماً، ليترتب عليه الوعد ((استنقذ الله بكل عضو منه عضواً منه من النار حتى فرجه بفرجه)) يعني استشكل ابن العربي مثل هذا، وقال: كيف يستنقذ الفرج وقد تكون جريمته من الكبائر بعتق وهو مستحب والكبائر لا يكفرها إلا التوبة؟ نقول: هذا من عظم شأن العتق، وإلا فقد يكون جرم اليد أعظم من جرم الفرج، قد يكون قتل، جرم الرجل الفرار من الزحف، وهذه من الموبقات، على كل حال الوعد وعد الصادق صريح وصحيح متفق عليه، فلا يعارض بمثل هذا، ويبقى أن هذا سبب، أن العتق وما رتب عليه هذا سبب، والسبب إنما ينفذ مع عدم وجود المانع، فلا بد أن يتوفر السبب مع عدم وجود مانع، وجاءت الأجور، بل المغفرة رتبت على أعمال، لكن هل تنفع الوعود هذه التي هي مجرد أسباب مع وجود ما يعارضها من موانع؛ لأن الشرع إنما يؤخذ بجملته، ما ينظر إلى نص ويترك الباقي، وإلا سلك من يفعل ذلك طريق المبتدعة؛ لأنهم هم الذين ينظرون من جانب، ويتركون جوانب، فالذين ينظرون إلى نصوص الوعد دون نصوص الوعيد هؤلاء هم المرجئة، والعكس الذين ينظرون إلى نصوص الوعيد، ويعرضون عن نصوص الوعد هؤلاء هم الخوارج، أهل السنة ينظرون إلى النصوص متكاملة، فيرتبون الأحكام على الأسباب مع انتفاء الموانع.
قال: "وللترمذي وصححه عن أبي أمامة: ((وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار)) " كما تقدم، كانتا فكاكه من النار، وهذا مثل ما ذكرنا أن المرأة في هذا على النصف من الرجل.(111/10)
قال: "ولأبي داود من حديث كعب بن مرة: ((وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار)) " يعني لو أن امرأً مسلماً أعتق رجلين، أو امرأة أعتقت رجل، أو أعتقت امرأتين، فهذا زيادة في الأجر، يعني قدر زائد على مجرد الفكاك من النار، قد زائد عن الاستنقاذ من النار، بعضهم ذكر مما لم يسنده أن النبي -عليه الصلاة والسلام-: أعتق ثلاثة وستين بعدد سني عمره، وعائشة أعتقت سبعة وستين بقدر سنين عمرها، وأعتق أبو بكر كثيراً، وأعتق العباس كثيراً، لكن ليس في هذا ما يثبت بسند صحيح، ما أسنده، هو مجرد كلام، ولعله ذهب وأهله لما فعله في حجة الوداع من كونه ذبح بيده الشريفة ثلاثة وستين بدنة عدد سني عمره، يحصل الخلط في مثل هذا، وإلا هذا لم يذكر في الدواوين المعتبرة إنما ذكره بعض الفقهاء ولا يدرى ما مستنده؟
قال -رحمه الله-: "وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي العمل أفضل؟ " جمع من الصحابة سألوا النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا السؤال، أي العمل أفضل؟ فأجاب -عليه الصلاة والسلام- بأجوبة مختلفة، وتقدم في كتاب الصلاة أن أفضل الأعمال لما سئل -عليه الصلاة والسلام- الصلاة على وقتها، وهنا قال: ((إيمان بالله، وجهاد في سبيله)) يعني كأنه قال ... ، والسؤال معاد في الجواب حكماً، السؤال معاد في الجواب، فكأنه قال: أفضل العمل إيمان بالله، وجهاد في سبيله، اختلفت الأجوبة منه -عليه الصلاة والسلام- على سؤال واحد، هو يجيب -عليه الصلاة والسلام- كل سائل بما يناسبه ويليق به، فإذا كان السائل اللائق به العبادة الخاصة، جاء جوابه -عليه الصلاة والسلام- مناسباً له، إذا كان ضعيف البدن، هل يقول له: أفضل الأعمال الجهاد في سبيل الله؟ إذا كان قوي البنية وفقير هل يمكن أن يقال له: أفضل الأعمال الإنفاق في سبيل الله؟ كل يجاب بما يناسبه ويليق به، وبعضهم يقدر: من أفضل الأعمال إيمان بالله، وجهاد في سبيله، وهنا لا يكون فيه إشكال.(111/11)
((إيمان بالله)) هذا هو أصل الأعمال، قد يقول قائل: لماذا قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان؟ لماذا قدم؟ {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [(110) سورة آل عمران] إظهاراً لأهمية هذه الشعيرة التي اختصت بها هذه الأمة، ولعن بنو إسرائيل بتركهم الأمر، {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} [(79) سورة المائدة] فهذه من خصائص هذه الأمة، وهي سبب خيريتها على جميع الأمم، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [(110) سورة آل عمران] لماذا؟ {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [(110) سورة آل عمران] لو قُدم الإيمان الأمم كلها تتصف بالإيمان، لكن خصيصة هذه الأمة التي بسببها نالت هذه الخيرية هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
((إيمان بالله، وجهاد في سبيله)) يدل على عظم الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى، ولإدخال الناس في الإسلام، تحقيقاً لكون هذا الدين ونبي هذه الأمة رحمة للعالمين، لا للتسلط عليهم، ولا للاستيلاء على أموالهم وأوطانهم وقتلهم، وقتل مقاتليهم، لا الهدف من الجهاد جر الناس إلى الجنة بالسلاسل، بعض الناس لا يدرك مصلحته إلا بأن يرغم على معرفتها والدخول فيها كالجهاد، الجهاد ليس المقصود منه في الإسلام التسلط على الناس ولا قتل الناس، ولا الاستيلاء على أموالهم ولا على أوطانهم، كما هو شأن الأمم الأخرى في قتالهم والتسلط عليهم؛ لأنه قد يقول قائل: الإسلام دين رحمة فلماذا يشرع الجهاد الذي فيه القتل؟ وهذا مما دعا بعض الناس أن يقول: ما في جهاد طلب إنما فيه جهاد دفع، ننتظر إلى أن يأتينا عدو فنجاهده ونقاتله، لا، الكلام ليس بصحيح، حتى جهاد الطلب مشروع في الإسلام، لكن يبقى أنه من أجل نشر هذه الرحمة التي بعث بها محمد -عليه الصلاة والسلام- على العالمين.(111/12)
((إيمان بالله، وجهاد في سبيله)) وفي الوصايا النبوية، ووصايا الخلفاء من بعده -عليه الصلاة والسلام- لمن يبعثهم للجهاد من الرفق حتى بالأعداء، فلا تقتل المرأة، ولا الذراري، ولا الشيخ الكبير، ولا العابد في صومعته، ولا كذا ولا كذا، فهذا من تمام الرحمة التي بعث بها محمد -عليه الصلاة والسلام-، لكن يقتل من يقاتل إرغاماً له في الدخول إلى الإسلام أو الجزية، ليتمكن من النظر بعين البصيرة، إذا دفع الجزية وعاش بين المسلمين تمكن من النظر في الإسلام ويسلم غالباً؛ لأن الإسلام دين رحمة.(111/13)
((وجهاد في سبيله)) قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: ((أغلاها)) في بعض الروايات: ((أعلاها)) في الصحيحين: ((أعلاها)) بالعين المهملة والغين المعجمة ((أغلاها ثمناً)) ((أعلاها ثمناً)) وأغلاها ثمناً والمعنى واحد، الأعلى هو الأغلى ((أغلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها)) في كتاب أو في باب الأضاحي هناك ضحى بكبشين ثمينين، وفي رواية: "سمينين" فالثمن له شأنه هنا وهناك، والسمن له شأنه هناك، ما نقول: نبحث عن رقيق سمين، لا هذا لا أثر له، بل العكس قد يعوقه سمنه عن خدمة نفسه وخدمة من يعول فيما بعد إذا عتق، ولذا إذا وجد كبش سمين ثمين كان أفضل عند كثير من أهل العلم من أن يعتق، أو من أن يضحى بكبشين، والاثنين أفضل من الثلاثة، المقصود أنه ينظر فيه إلى مصلحة من يأكل من هذه الأضحية، لا سيما فيما يتصدق به، ينظر فيه إلى الحظ، ومثله الهدي والعقيقة كل ما جادت النفس بالأغلى والأثمن كان الأجر أعظم، هنا في هذا الباب لو تصور أن عبداً بألف درهم، وثلاثة أو أربعة بألف أيهم أفضل؟ العدد، لكن إذا أعتق واحد، إذا قال: أنا ما عندي إلا واحد، أيهما أفضل؟ قلنا: الأعلى ثمناً والأنفس عند أهلها؛ لأن كل واحد من هؤلاء، وإن قلت قيمته رقبة، وإعتاقه من مقاصد الشرع، ويبقى أنه إذا كان أنفع للأمة فإنه يكون عتقه أفضل، وإن كان في مقابل عدد مثل ما ذكرنا في أول الباب، أنه قد يتوقع من هذا إذا عتق من خدمة سيده الذي يشغله في ليله ونهاره عن طلب العلم يطلب العلم ويُحصل؛ لأن المقومات موجودة، وينفع الله به الأمة يكون هذا أفضل من غيره بهذا القصد، ويبقى أن فضل العتق ليس على إطلاقه، كما إذا توقع من هذا الرقيق أنه إذا أنفلت من قيد الرق صار ضرراً وشراً على الناس، ووجوده في العتق وشغل سيده، وانشغاله بأعمال سيده يشغله عن إيذاء الناس، نقول: هذا يشغل بالرق أفضل من أن يعتق، فالأمور تقدر بقدرها، والنصوص تأتي في الجملة، أما دقائق المسائل فتنظر في النصوص الأخرى، يعني ما يمكن أن يأتي نص تفصيلي في حق كل رقيق، كما أنه لا يأتي نص تفصيلي في كل مسألة صغيرة وكبيرة، نعم الله -جل وعلا- يقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [(38) سورة الأنعام] لكن تأتي(111/14)
الأحكام على العموم، والتفصيلات ينظر في كل حالة بقدرها، يعني لما قيل في الحديث: ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع)) لأن السبع هي سن التمييز بالنسبة لغالب الناس، تسعين بالمائة أو أكثر إذا أكمل سبع سنين يكون ميز، لكن عشرة بالمائة قد لا يميز لا لسبع ولا لعشر ولا لعشرين، هل نقول: إنه لا بد أن يأتي نص يدل عليه؟ وبعضهم يميز لخمس وست، يأتي نص؟ الكلام على الغالب، وما يأتي لعموم الناس لا بد أن يأتي بقاعدة كلية تشمل الناس كلهم إلا فيما ندر؛ لأنه لو ترك التقدير للناس، وقيل: التمييز، فمثلاً لو قيل: يأمر الطفل إذا ميز، لوجدنا ابن إحدى عشر سنة عند باب المسجد ولا يدخل للصلاة، وإذا قيل لوالده قال: إلى الله المشتكى ما بعد ميز، يعني ترك التقدير لهم، أو يؤتى بمن يعبث في المسجد، ويؤذي المصلين سنتين ثلاث، يقول: والله يميز ولدي، في مثل هذه الأمور في مثل هذه الحوز تأتي الأمور عامة، ثم بعد ذلك إذا خرج عن هذا الأمر العام يقدر بقدره، أما في الأمور الخاصة فيرجع فيها إلى تقدير ولي الأمر، ولي أمر الصبي، متى يطلب العلم؟ هل يطلب العلم لخمس أو لست أو لسبع؟ إذا تأهل لذلك صار يفهم، يفهم الخطاب ويرد الجواب، فمثل هذا يوكل إلى ولي أمره؛ لأنه من الظلم أن يدخل المدرسة وهو ما يفهم، تضييع لوقته وإيذاء له، فينتظر والده حتى يكون متأهلاً لمثل هذا الأمر، ولذا يقول الشارح: "والأولى أن هذا لا يؤخذ قاعدة كلية، بل يختلف باختلاف الأشخاص، فإنه إذا كان شخص بمحل عظيم من العلم والعمل وانتفاع المسلمين به فعتقه أفضل من عتق جماعة ليس فيهم هذه السمات" فيكون الضابط اعتبار الأكثر نفعاً، أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري من ثقات الرواة، ومن رجال الكتب الستة، محدث كبير، وكان مولى رقيق، فجاء سائل فسأل فأعطاه السيد درهم، فلما أنصرف لحقه أبو عوانة وأعطاه دينار، أكثر مما أعطاه السيد، فقال هذا السائل: لأردّن له جميله، ماذا صنع؟ يذهب إلى محافل الناس ومجامعهم يقول: اذهبوا لفلان فاشكروه فإنه أعتق أبا عوانة وهو ما أعتق، ولما يجونه الناس يأتونه جماعات جزآك الله خيراً، الله يوفقك، ويبيض وجهك، ويكثر خيرك، أعتقت هذا العبد الصالح لكي يتفرغ للحديث،(111/15)
ثم يأتي إلى جماعة ثانية كذلك، استحى السيد وأعتقه بسبب دينار، فمثل عتق أبي عوانة يعدل كم من الأرقاء الذين لا ... ، نفعهم إما في أمر دنيوي بحت، أو لا نفع له ألبتة، إذا أعتق صار عيال على غيره، فلا شك أن مثل هذا يتفاوت بتفاوت الناس.(111/16)
قال -رحمه الله-: "وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من أعتق شركاً له في عبد فكان له مال يبلغ به ثمن العبد قُوم عليه قيمة عدل، فأعطي شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق)) " شركاء في عبد واحد منهم أعتق نصيبه، والشرع يتشوف إلى العتق، هذه فرصة، ما دام أعتق نصيبه ينظر هل له مال يوفي بقيمة العبد كامل؟ يدفع لشركائه فيعتق العبد كاملاً ((من أعتق شركاً له في عبد)) يعني نصيبه ((فكان له مال)) يعني للمعتق مال ((يبلغ ثمن العبد، قوم عليه قيمة عدل)) لا وكس ولا شطط، لا زيادة ولا نقص، بقيمته، قد يقول بعض الشركاء: نعم قيمته لو أخرجناه في المزاد ما زاد على ألف، لكن النصيب الربع ما أبيعه ولا بخمسمائة، نقول: لا، لا وكس ولا شطط، بقيمته، كما ألزم المعتق بشراء بقيته، وتكميل عتقه تلزم أنت أيضاً أن لا تزيد في قيمته، ولا وكس ولا شطط، يعني لا ينقص من قيمته ولا يزاد ((فكان له مال)) بهذا الشرط، طيب ما يملك هذا المعتق إلا هذا النصيب من العبد، قد يقول قائل: له مال لكن تقويمه عليه وإعتاقه من ماله قد يضر به، الشرع جاء بالعدل والمساواة، يعني نظر في مصلحة الرقيق، وقدم مصلحة الرقيق، لكنه مع ذلك لا يظلم السيد، ولذا جاء كما سيأتي في حديث: من أعتق ستة وليس له مال غيرهم، أمضى النبي -عليه الصلاة والسلام- عتق اثنين بالقرعة على ما سيأتي؛ لئلا يتضرر الورثة، المقصود أن مثل هذا ينظر فيه بالعدل والمساواة، وينظر فيه مصلحة الرقيق بالدرجة الأولى، وينظر فيه أيضاً عدم الضرر بالنسبة للمعتق، طيب ما عنده مال، قال: أنا والله ما عندي مال، ما عندي غير نصيبي من هذا الرقيق ((فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطي شركاءه حصصهم وعتق العبد عليه وإلا فقد عتق منه ما عتق)) هذا الحديث يدل على أنه إذا لم يستطع وليس لديه ما يعتق به باقيه، أنه يبقى هذا العبد مبعض نصفه حر ونصفه رقيق، أو ثلثه حر وثلثاه رقيق، في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: ((من أعتق شركاً له في عبد)) يعني أعتق نصيبه، سواء كان نصف أو ثلث أو ربع، أو أكثر أو أقل ((فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة(111/17)
عدل)) مثل ما ذكرنا لا زيادة ولا نقصان، بقيمته ((فأعطي شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق)) واضح أنه إذا كان عنده قيمة فإنه يسري عتقه إلى الباقي، ويعطي الشركاء من مال هذا المعتق، إذا لم يكن له مال يقال له: استدن، أو اقترض أو بع ما تملك من أجل أن تعتق باقيه؟ نقول: لا، يبقى العبد مبعض، يعتق منه ما عتق، وما لم يعتق يبقى رقيق، والمبعض له أحكامه في الشرع، بعضهم يقول: إن قوله: ((عتق منه ما عتق)) هذه ليست محفوظة من الحديث المرفوع؛ لأن نافع أو أيوب حينما رواه عن نافع قال: قال نافع: وإلا فقد عتق منه ما عتق، فتكون مدرجة، ليست من أصل الخبر، أيوب بن إيش؟ أبي تميم السختياني، قال: قال نافع: وإلا فقد عتق منه ما عتق، لكنه في الصحيحين هكذا، وهو من رواية مالك وعبيد الله بن عمر العمري، وهما إمامان بالنسبة للحفظ والضبط والإتقان، في مقابل أيوب، العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد، فجزما برفعه، برفع هذه الجملة، والعدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد، مع أن أيوب تردد، قال أيوب مرة: لا أدري هو من الحديث أو هو شيء من نافع؟ فإذا افترضنا أن أيوب لم يتردد هل يقابل أيوب السختياني بمالك؟ وعبيد الله المصغر ثقة من ثقات ... ، من حفاظ الحديث؟ لا يقابل، إضافة إلى كونه تردد، فقال: ما أدري هل هو مرفوع أو من الحديث أو شيء من نافع؟ فالمرجح، بل المتعين الحكم بأنه جزء من الحديث مرفوع، وأخرج في الصحيحين كذلك، ولا يخفى على الإمامين أن يكون موقوفاً، ثم يصلانه بالخبر في جميع المواضع -مواضع الرواية- ولا ينبهان على شيء من ذلك، فقوله: ((وإلا فقد عتق منه ما عتق)) من قوله -عليه الصلاة والسلام- المجزوم به وإن تردد فيه أيوب، يبقى مبعض.
الحديث الذي يليه:(111/18)
"ولهما عن أبي هريرة: "وإلا قوم" يعني كأنه قال: من أعتق شركاً له في عبد، وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل، فأعطي شركاءه حصصهم، يعني إن لم يكن له مال وإلا أستسعي العبد غير مشقوق عليه، قال: الآن عتق نصفك، النصف الثاني تتفق مع السيد الثاني الذي له النصف، تتفقان على مبلغ كتابة، يعني كما يكاتب الكل يكاتب على البعض، فإذا افترضنا أن قيمة هذا العبد ألف فأحد الشريكين أعتق نصيبه، يقال: الخمسمائة نصيب الثاني تستسعى فيها، يعني أنك تسعى بجهدك وكدك ولو بالسؤال، المقصود أنك تجمع هذه الخمسمائة وتدفعها إلى الشريك الثاني.(111/19)
قال: "ولهما عن أبي هريرة: "وإلا قوم عليه، واستسعي غير مشقوق عليه" قيل: إن السعاية مدرجة في الخبر، يقول ابن العربي: "اتفقوا على أن ذكر الاستسعاء ليس من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنه من قول قتادة" لكن الشيخين خرجا الحديث بهذا اللفظ، وحكم جمع من الحفاظ بأن الاستسعاء من أصل الخبر، وليست مدرجة كالجملة السابقة، ولا كلام لأحد مع الحفاظ، ولا كلام لأحد مع الشيخين مع من حكم بأنها من أصل الحديث من أئمة الحديث، فإذا أعتق من له نصيب في عبد ويشركه فيه غيره، فلا يخلو من أن يكون له مال أو لا، فإن كان له مال قوم العبد قيمة عدل، وألزم بإعتاق باقيه، إن لم يكن له مال فإن كان العبد لديه القدرة على العمل، ويرغب في إعتاق باقيه فإنه يستسعى وإلا فقد عتق منه ما عتق، لا تناقض بين الروايتين، عتق منه ما عتق أو يستسعى، نقول: إن كان يستطيع السعي وجمع المال الذي يعتق به باقيه فإنه يستسعى، إن اختار ذلك، وإن رغب في البقاء على الرق رق بعضه فإنه لا يشق عليه؛ لأن مصلحة الرقيق ملاحظة في الشرع، نعم عتقه مطلوب شرعاً، لكن قد يقول قائل: والله أنا خمسمائة متى أجمع خمسمائة؟ كيف أجمع خمسمائة؟ أنا أخدم هذا الرجل نصف الوقت، وينفق علي أفضل لي من أن أسعى وأكد من أجل أن أدفع له وأعتق، يكفيني نصف حرية، أنام نصف الوقت يكفي، بعض الناس يفضل مثل هذا، ينام نصف الوقت ويخدم نصف الوقت، المقصود أنه ليس بين هذه الأحاديث تعارض، والجملتان في الحديثين من أصل الحديث، الجملتان، الجملة في الحديث الأول: ((وإلا فقد عتق منه ما عتق)) الصواب رواية مالك وعبيد الله بن عمر العمري أنها من أصل الحديث، خلافاً لما تردد فيه أيوب، وكذلك جملة الاستسعاء، طيب ((وإلا قوم عليه واستسعي)) السين والتاء للطلب، والطلب معناه أنه يطلب من العبد أن يسعى، لكن هل يطلب على سبيل الإلزام أو على سبيل التخيير فهو أعرف بمصلحته؟ منهم من يقول: يلزم كما يلزم من أعتق البعض ولديه مال أن يدفع يلزم الرقيق أن يسعى، ومنهم من يقول: الأمر موكول إليه، إن كان سعيه والسعي في عتق باقيه خير له وأفضل فعل، وإلا فالأمر إليه، مما يبحث في هذا أنه لو كان الرقيق يملكه سيد واحد فأعتق(111/20)
بعضه، أو يأتي أجنبي فيشتري نصفه ويعتقه، الآن الحديثان اللذان معنا، الشريك يُعتق، ويبقى إن كان له مال قوم عليه، وإلا استسعي العبد، وإن عجز العبد، أو أعجز نفسه عتق منه ما عتق وبهذا تلتئم النصوص، يبقى أنه إذا أعتق نصف عبده، العبد له كامل، فأعتق نصفه، يسري العتق إلى باقيه أو يبقى مبعض؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .(111/21)
يبقى مبعض، الآن إذا ألزم أن يدفع للشركاء ما يعتق به باقيه ألا يلزمه أن يعتق باقيه وهو كله ملكه؟ يلزم به إذا لم يتضرر بذلك، إذا كان له مال غيره، يعني كما يتبرع بجميع ماله، أو يوصي بأكثر من الثلث مثلاً، إذا لم يكن له مال غيره وأعتق نصفه هل نقول: يلزمه عتق باقيه؟ نعم؟ يتضرر الورثة كما سيأتي في حديث عتق الستة، إذا كان يتضرر به، أو يتضرر به ورثته فلا، وإذا كان لا يتضرر به فكونه يلزم، يقوم عليه العبد ويدفع إلى شركائه من ماله ليعتق باقيه من باب أولى أن يعتق عليه باقيه إذا لم يكن له شريك، جاء شخص أجنبي لعبد مملوك من واحد أو أكثر، فقال: بكم هذا العبد؟ قال له: بألف, قال: والله ما عندي إلا ثلاثمائة، أبى اشتري ثلث وأعتقه، تأتي مسألة إذا لم يكن له مال قال: ما عندي إلا هذه الثلاثمائة هي مسألة الاستسعاء، وإن كان له مال غيره مثل الصورة الأولى يقوم عليه قيمة عدل، كأنه اشترى هذا الشقص وصار شريكاً، فإذا أعتق هذا الشقص دخل في الحديث الأول، وإن كان لا يجد ما يعتق به باقيه دخل في الحديث الثاني، وإلا في النهاية إذا عجز عن هذا والعبد أعجز نفسه عن الاستسعاء عتق منه ما عتق ويبقى مبعضاً، الآن الاستسعاء جارٍ على طريق المكاتبة، يعني إذا رأى العبد، طلب العبد من سيده أن يكاتبه، بعض العلماء يلزم السيد بالمكاتبة {فَكَاتِبُوهُمْ} [(33) سورة النور] بالشرط المذكور {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [(33) سورة النور] فالاستسعاء مكاتبة جزئية، استسعى بباقي الرق الذي بقي عليه لبعض الشركاء، هذا الاستسعاء منهم من يقول: لا، يستسعى، معنى الاستسعاء في الحديث أن يسعى في خدمة من بقي له رق عليه، إذا أعتقه واحد وبقي واحد أو اثنين يسعى في خدمة هذا الواحد أو الاثنين، يسعى في خدمتهما، لكن هذا الفهم بعيد، محتمل نعم لكنه بعيد، إنما يسعى لإعتاق باقيه، يستسعى يعني يطلب منه السعي لعتق باقيه.(111/22)
يقول هذا: أشكل علي القول: إنما في النجم الوهاج ليس عليه إسناد؟ يعني من كون النبي -عليه الصلاة والسلام- أعتق ثلاث وستين، وعائشة أعتقت سبع وستين، والعباس أعتق، وأبو بكر أعتق، يقول: وقد قال الشارح بعده: رواه الحاكم.
معكم النسخة المحققة؟
شوف العزو إلى الحاكم، ولو نظر فيه السائل كان أولى، هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
لا المحققة .... قال في النجم الوهاج: أعتق النبي -عليه الصلاة والسلام- ثلاث وستين، وأعتق كذا.
طالب:. . . . . . . . .
لا ليست في المتن، وقفتم عليه في ... ؟ شرح الحديث الأول، قال في النجم الوهاج، هاه؟ أو الأول؟ المقصود أنه نقل عن النجم الوهاج، نعم، الحديث الثالث: ولأبي داود من حديث كعب بن مرة، فائدة: في النجم الوهاج أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أعتق ... إلى آخره، وش يقول؟
التحقيق أقول: أحاله على الحاكم وإلا بدون إحالة؟ عارف، عندي رواه الحاكم، لكن أحاله المحققون على المستدرك وإلا لا؟
طالب:. . . . . . . . .
وش قال؟
طالب:. . . . . . . . .
معروف هذا فيما فعله العباس، لكن فيما فعله النبي -عليه الصلاة والسلام-، كون النبي -عليه الصلاة والسلام- أعتق ثلاث وستين هل له أصل؟ له إسناد؟ يوجد في كتاب؟ يعني كونه في النهاية رواه الحاكم لكل ما ذكر ما هو بصحيح.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(111/23)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: بلوغ المرام - كتاب العتق (3)
باب: المدبر والمكاتب وأم الولد
الشيخ: عبد الكريم الخضير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا يقول: ما القول الراجح في رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؟ مع بيان وجه الترجيح؟ وهل يصل بأي حال من الأحوال إلى درجة الصحيح لذاته؟
كأنه يأتينا حديث في بابنا هذا من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومر بنا مراراً، وذكرنا أن القول الوسط فيه إذا كان الراوي عنه ثقة فإنه يصل إلى درجة الحسن لذاته، أما درجة الصحيح فلا، إذا وجد له شاهد يصل إلى الصحيح لغيره، أما الصحيح لذاته فلا.
يقول: ما هي الجراميق؟
الجراميق جمع جرموق، وقد يقال له: موق، نوع من الخفاف.
ما هي أفضل طبعة لشرح الكرماني؟
شرح الكرماني طبع لأول مرة في مصر، في المطبعة الباهية طبعة فاخرة جداً، وصورت مراراً، هذه أفضل الطبعات.
يقول: أشكل علي موضوع استبراء رحم الأمة عند شرائها يعني أو عند سبيها.
قبل الوطء تستبرأ بحيضة، ينتظر حتى تحيض ثم تطهر.
يقول: هل المال مائة ريال وألف ريال سواء في مدة التعريف؟
يعني إذا كان لقطة، إذا وجد مائة ريال، أو ألف ريال، هذا يختلف باختلاف البلدان، ففي بعض البلدان مائة ريال تلتفت إليه همة أوساط الناس، وفي بعض البلدان لا تلتفت إليه همة أوساط الناس، فإذا كان البلد من الفقر بحيث يلتفت أهله إلى المائة فمثل هذا يعرف سنة، وإذا كان أهله من الثراء والغناء بحيث لا يلتفت شبابه وصغاره ومتوسطو الناس إلى مثل هذا المبلغ فإنه لا يعرف.
يقول: ما حكم البطاقات الائتمانية فيزا ((visa))؟
فيزا هذه البطاقة التي تسحب فيها وتشترى فيها البضائع، ولو كان الرصيد خالياً، ثم بعد ذلك يستوفون من أول مبلغ يدخل من الراتب، هذا قرض، لكنه يجر نفعاً فلا تجوز.
يقول: كثر الحديث عن المرأة فما هو موقف طلاب العلم؟(112/1)
موقف طلاب العلم أن يبينوا ما جاء في ديننا الحنيف من رفع لشأن المرأة، وتكريم للمرأة، وتحرير للمرأة من تسلط الشعوب والبلدان الأخرى، والديانات الأخرى، يعني كانت المرأة تورى في الجاهلية، ثم جاء الإسلام وجعلها إنسانة كاملة الحقوق، اللهم إلا في المسائل الخمسة التي ذكرها أهل العلم على النصف من الرجل، أو الولايات العامة؛ لأن تركيبها لا يؤهل أن تلي الولايات ... ، و ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) وبعض الرجال كذلك، إذا عرف منه إنه لا يقوم بهذا الحمل، ولا يقوم بهذا العبء فلا يجوز أن يتولى ولا أن يولى، جاء في أبي ذر وهو من زهاد الصحابة ومن عبادهم ((إنك امرؤ ضعيف، فلا تقضين بين اثنين، ولا تولين مال يتيم)) يعني ما هو بأمر خاص، لكن في الجملة الحكم هذا هو، الرجال هم أهل الولايات، ثم ينظر فيمن يصلح منهم ومن لا يصلح، فليس كل واحد من الرجال يصلح للولاية.
إذا استأجرت أجيراً على إصلاح شيء على مبلغ وفي أثناء العمل طلب زيادة هل له ذلك؟
ليس له ذلك إذا أتفق على العمل وعُرف، وكان العمل معلوم والأجرة معلومة لا يجوز له أن يزيد، لكن إذا اتفقا على شيء، وهو اتفاق مبدئي ما هو بحاسم ولا بنهائي، قال: يحتمل أن السيارة فيها كذا، أو الآلة هذه فيها كذا، وتحتاج إلى قطعة كذا، وأجرتي كذا، ثم تبين له خلل آخر، يتفق معه من جديد على الخلل الآخر، قد يقول: والله ما اتفقنا عليه هذا ما صار هو المطلوب فلا أستحق الأجرة، فيها خلل تبين أن فيها خلل كذا وأجرته كذا.
إذا رآني شخصاً وأنا ألتقط لقطة ثم أدعى أنها له فهل أعطيها له؟
إذا عرفها فأعطها له، التعريف المعتبر شرعاً، وإذا كان قد رآها وهي بيدك، ووصفها من خلال رؤيته إياها فبناء على ما يغلب عليه ظنك، فإن كان يغلب على ظنك صدقه تعطيه إياها وإلا فلا.
يقول: هل ورد حديث صحيح في قراءة سور غير سورة الكهف في يوم الجمعة يعني في صلاة الصبح يوم الجمعة؟
مثل: آلم السجدة وسورة الإنسان، وفي صلاة الجمعة سبح والغاشية، أو الجمعة والمنافقون، مع قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، وحديثها يبلغ درجة الثبوت، ولو لم يصل إلى حد الصحيح، لكنه حسن -إن شاء الله-، وما عدا ذلك فليس فيه شيء بخصوصه.(112/2)
إذا باع رجل أمة على رجل ومات البائع، وأكتشف أن الأمة حامل هل يعتقان؟ أم ما هو حكمهما أم .... الورثة؟
هذه الأمة اعتقها ولدها فلا يجوز بيعها، ترد على بائعها، وتكون معتقة له، والولد ولده، إذا كانت قد حبلت منه.
إذا اشترى رجل أمة وهي أخت زوجته أو عمتها مما تحرم عليه مؤقتاً هل يحل له الوطء أم يعتبر من ذات رحم؟
هو يصح له ملكها، لكنه مع ذلك لا يجوز له أن يطأها.
يقول: هل الخادمات في البيوت الآن تعتبر ملك يمين؟
لا، هن أحرار، ولسن إماء، وحكمهن أحكام الحرائر، ويجب عليهن ما يلزم الحرائر.
يقول: وهن يظهرن على الرجال ويعشن بينهم كاشفات بدون حجاب.
هذا لا يجوز، لا يجوز أن تكشف؛ لأنها امرأة أجنبية عنه، وكونها تخدم في بيته لا يعني أنها تتبذل له ويتساهل في أمرها وشأنها، وقد وقع بسبب ذلك حوادث كثيرة، سواء كان من صاحب البيت أو من أولاده، أو من السائقين عنده، بسبب هذا التساهل.
الطالب: يستخدمونهن من غير محرم.
لا يجوز، استخدامها من غير محرم لا يجوز.
سم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- أيضاً في كتابه بلوغ المرام:
باب: المدبر والمكاتب وأم الولد
عن جابر -رضي الله عنه- أن رجلاً من الأنصار أعتق غلاماً له عن دبر, لم يكن له مال غيره, فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((من يشتريه مني?)) فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم. متفق عليه.
وفي لفظ للبخاري: فاحتاج، وفي رواية للنسائي: وكان عليه دين فباعه بثمانمائة درهم فأعطاه، وقال: ((اقضِ دينك)).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم)) أخرجه أبو داود بإسناد حسن، وأصله عند أحمد والثلاثة, وصححه الحاكم.
وعن أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا كان لإحداكن مكاتب، وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه)) رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي.(112/3)
وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يودى المكاتب بقدر ما عتق منه دية الحر, وبقدر ما رق منه دية العبد)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
وعن عمرو بن الحارث أخي جويرية أم المؤمنين -رضي الله عنهما- قال: ما ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند موته درهماً ولا ديناراً ولا عبداً ولا أمة ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضاً جعلها صدقة. رواه البخاري.
وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أيما أمة ولدت من سيدها فهي حرة بعد موته)) أخرجه ابن ماجه والحاكم بإسناد ضعيف، ورجح جماعة وقفه على عمر -رضي الله عنه-.
وعن سهل بن حنيف -رضي الله- عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من أعان مجاهداً في سبيل الله, أو غارماً في عسرته, أو مكاتباً في رقبته أظله الله يوم لا ظل إلا ظله)) رواه أحمد, وصححه الحاكم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
باب: المدبر والمكاتب وأم الولد(112/4)
المدبر: هو الذي يعتقه سيده معلقاً عتقه على وفاته، على دبر من حياته، يعني إذا أدبر من هذه الدنيا، أو إذا دبر حياته، فاستفاد من هذا العبد في حياته، واستفاد من أجره بعد وفاته، لكن الأوضح والأظهر في سبب التسمية أنه إذا أدبر من هذه الدنيا، أو في دبر حياته، فهو يعتقه ويعلق عتقه بموته، المكاتب هو العبد الذي يشتري نفسه من سيده، بمبلغ يقسط عليه كل شهر كذا، أو في كل سنة كذا، كما حصل في قصة بريرة، لما كاتبها أهلها، بتسع أواق في كل سنة أوقية، ثم عدتها لهم عائشة، المقصود أن الكتابة ثابتة في الكتاب والسنة وبالإجماع {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [(33) سورة النور] هذا أمر، ومن أهل العلم من يوجب الكتابة إذا طلبها العبد، وونس منه خير، يعني ما يؤنس منه شر، بحيث يتحرر يؤذي الناس، أو يسرق من أجل أن يسدد، أو يحصل على الناس منه ضرر، المقصود أنه إذا أؤنس منه خيراً، وأنه ينتفع بنفسه وينفع غيره فإنه يجاب إلى ما طلب، ومن أهل العلم من يرى الوجوب، وعامة أهل العلم على أن الأمر في {فَكَاتِبُوهُمْ} [(33) سورة النور] للاستحباب.
"وأم الولد" أم الولد هي التي تحبل من سيدها، فإذا ولدت أعتقها ولدها، وتبقى في حياته حكمها حكم الإماء، فلا يقسم لها مع الحرائر، ولا يعدل بينها وبين الحرائر، لكنه إذا مات صارت حرة.
يقول -رحمه الله تعالى-:(112/5)
"عن جابر -رضي الله عنه- أن رجلاً من الأنصار" اسمه: أبو مذكار أو مذكور "أعتق غلاماً له عن دبر" واسمه: يعقوب أو أبو يعقوب "لم يكن له مال غيره" يعني هو كل ما يملك، ولم يعتقه منجزاً، إنما قال: إذا مت فأنت حر "لم يكن له مال غيره، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((من يشتريه مني)) " لماذا؟ لأن حكمه حكم الوصية؛ لأنه لا ينفذ عتقه إلا بالموت، والوصية لا تلزم إلا بالموت، وقبل ذلك يجوز التصرف، يجوز الرجوع في الوصية، كتب وصيته بأن ينفذ من ماله كذا وكذا وكذا، أو بيته الفلاني ومحله الفلاني ومزرعته كذا بعد موته وقف لله تعالى، أو سبيل، وعيّن المصارف، هذا لا ينفذ إلا بالموت، وعلى هذا فله أن يتصرف قبل موته بزيادة ونقص، وله أن يرجع في هذه الوصية، كما أن له أن يرجع في المدبر؛ لأنه لم يثبت عتقه كالوصية.(112/6)
"فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((من يشتريه مني؟ )) " أولاً: لأنه لم يثبت عتقه، الأمر الثاني: أنه محتاج، وورثته بحاجة، قال: ((من يشتريه مني؟ )) إذا علق الطلاق أو العتق على أمر محقق، الآن الموت أمر محقق، لكن مع ذلك لا يُدرى من يموت الأول، لكن إذا قال: إذا جاء رمضان -وقد بقي عليه ستة أشهر أو خمسة أشهر- فامرأته طالق، أمر محقق الوقوع، هل يجوز أن يرجع فيه أو لا يرجع؟ قبل وقوعه؟ رمضان لا بد أن يأتي، ولا بد أن يقع الشرط الذي علق به الطلاق، الآن الموت لا بد أن يقع في المدبر، لكنه مع ذلك وقوعه في الأول منهما مشكوك فيه، أما مجيء رمضان، وتعليق العتق عليه، إذا جاء رمضان فهو حر، أو امرأته طالق هل يجوز الرجوع في مثل هذا؟ الجمهور على أنه لا يجوز، خلاص إذا وقع ما علق عليه يقع الطلاق ويقع العتق، لكن كأن شيخ الإسلام يميل إلى أنه ما دام لم يأتِ الوعد أو الوقت الذي علق عليه الطلاق أو العتاق كالتدبير يجوز الرجوع فيه، يختلف التدبير عن التعلق بشرط محقق مؤقت كشهر كذا، يعني مو مثل الوصية ما يدرى متى يفجأه الأجل، وقد يموت الرقيق في حال التدبير قبل سيده، يعني هذا الشرط ما هو ثابت مشكوك فيه، لكن المحقق الوقوع، المؤقت بوقت لا يتقدم ولا يتأخر، هل يقال: إنه مثل الطلاق، وجمهور أهل العلم على أنه لا يرجع فيه؟ أو يقال: هو مثل التدبير علق على فرض مستقبل ولم يقع؟ هذا محل نظر، وأما بالنسبة للطلاق فجمهور أهل العلم إذا علقه على أمر محقق الوقوع، ومؤقت بوقت لا يتقدم ولا يتأخر، فجمهور أهل العلم على أنه يقع الطلاق إذا وقع ما علق عليه، لو قال لزوجته: إذا مت فأنت طالق يقع وإلا ما يقع؟ هذا لا يقع؛ لأنه إذا مات لا يملك طلاق، طيب شخص قال لزوجته -وهذا من غرائب المسائل- قال لزوجته: إن كنت زوجتي فأنت طالق، وهي زوجته، أو لو أنت زوجة لي لطلقتك، يعني كأنه ينشئ طلاقاً والصيغة هي مجرد عبث لأنها زوجته، فالذي يظهر وقوع الطلاق بمثل هذا، ولو قال: لو أنت عبد لي لأعتقتك وهو عبده، ويعرف أنه عبده، رقيقه، مولاه، لو أنت رقيق لي لأعتقتك، وهو رقيق، فالذي يظهر أنه ينشئ العتق، والصيغة التي علق عليها أو أمتنع الحكم لامتناعها مع(112/7)
أنها غير ممتنعة؛ لأن لو حرف امتناع لامتناع، لكن الامتناع غير موجود، إذاً ما عُلق عليه من امتناع يكون أيضاً غير موجود، فيقع العتق في مثل هذه الصورة، ويقع الطلاق في مثل هذه الصورة.
" ((من يشتريه مني؟ )) فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم. متفق عليه، وفي لفظ للبخاري: فاحتاج" فالرواية مطلقة، الأولى، ورواية مقيدة بالحاجة، هل نقول: إنه لا يباع إلا إذا أحتاج، أو نقول: هذه صورة من صور التدبير التي يجوز فيها الرجوع في التدبير والعتق المعلق على الموت؟ هذه في صورة ما إذا احتاج وغيرها إذا لم يحتج فمن باب أولى يكون عتقه نافذ، وعلى هذا نقول: إن الحاجة أو المحتاج ممن دبر فرد من أفراد المدبرين فيكون المحتاج خصوص، وغيره عموم أو نقول: إن الحاجة وصف فيكون من باب الإطلاق والتقييد، يعني إذا قلنا: إن هذا الذي أحتاج فرد من أفراد المدبرين، نقول: التنصيص عليه من باب العناية به، ويكون بقية من يدبر حكمهم واحد؛ لأن التنصيص على بعض الأفراد لا يعني التخصيص بالحكم الموافق، فلا يتصرف في المدبر إلا إذا أحتاج صاحبه؛ لأنه قال: فأحتاج، نظير هذا في البخاري أن النبي –عليه الصلاة والسلام- طاف راكباً، وفي سنن أبي داود: كان شاكياً، فهل نقول: إن الطواف -طواف الراكب- لا يصح إلا إذا كان مريضاً بناء على رواية أبي داود؟ أو نقول: إنه يصح الطواف من الركوب ولو لم يكن شاكياً، وإذا كان شاكياً فمن باب أولى، نظير مسألتنا، يعني فرق بين الإطلاق والتقييد، وبين العموم والخصوص، العموم والخصوص إذا كان الحكم واحد لا يقتضي تخصيص، فيكون الخاص فرد من أفراد العام بحكم موافق ما في تخصيص، فيباع إذا احتاج، ويباع إذا لم يحتج، لا سيما وأننا قلنا، وقال جمع من أهل العلم: إن التدبير حكمه حكم الوصية، والوصية لا تثبت إلا بالموت، فيكون التدبير مثلها؛ لأنه علق بالموت، والذي يقول: إن الحاجة وصف يقيد به، فلا يباع المدبر إلا إذا احتاج صاحبه.(112/8)
"وفي رواية للنسائي: وكان عليه دين فباعه بثمانمائة درهم، فأعطاه، وقال: ((اقضِ دينك)) " أولاً: الرجل لم يكن له مال غيره، الأصل لو كان عتقه منجزاً أن يعتق ثلث، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في أبي الستة، لكن هذا معلق بالموت، وحكمه حينئذٍ عند أكثر أهل العلم حكم الوصية، له أن يبيعه، وله أن يمضي عتقه إذا مات، وقلنا: إن الحاجة هذه هي مجرد تنصيص على بعض الأفراد، فيكون إذا احتاج أولى ببيعه مما إذا لم يحتج.
"فباعه بثمانمائة درهم، فأعطاه" يعني الثمانمائة "وقال: ((اقضِ دينك)) " فقضاء الدين والدين شأنه عظيم، قد يقال: إنه من أجل قضاء الدين، وقضاء الدين واجب، والعتق مسنون، فيقدم الواجب عليه، كما أن شيخ الإسلام ينص على أن الدين يقضى من المال الذي فيه شبهة اهتماماً بشأن الدين، وتخليص وإبراء الذمة منه، فإذا كان الرجل مديناً فالمسألة واضحة، لكن يبقى أن الرواية العامة في الصحيح جاءت هكذا من غير حاجة ومن غير دين.
قال -رحمه الله-:
"وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده" رضي الله عنهم، عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، عمرو بن شعيب عن أبيه شعيب، عن جده عبد الله بن عمرو، أو محمد بن عبد الله بن عمرو، على الخلاف في مراجع الضمائر الذي هو سبب الخلاف في الاحتجاج بهذه السلسلة، وقلنا: إن القول الوسط لأهل العلم أن ما ورد بهذه السلسلة إذا صح السند إلى عمرو فإنه يكون حسناً.
"عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((المكاتب عبد ما بقي من مكاتبة درهم)) " وش معنى هذا الكلام؟ يعني أنه لو أعجز نفسه عن تسديد بعض لزوم المكاتبة يرجع عبد، لكن هل لسيده أن يرجعه عبداً بعد أن سدد بعض الأقساط؟ لا سيما وأنه عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم، قالوا: المكاتبة عقد لازم جائز، إيش معنى لازم؟ لازم من جهة السيد، يعني إذا كاتب ليس له أن يرجع، جائز بالنسبة للرقيق له أن يعجز نفسه، له أن يقول: عجزت، جرب الحياة والاستقلال، فوجد أنها ليست من مصلحته، كونه يجلس عند سيده، ويعرف ما يعرف له، وكيف يخدمه؟ ومرتاح عنده، ومرتاح أيضاً من الكسب لنفسه، يُنفق عليه، إذا عجز نفسه عاد رقيقاً.(112/9)
"أخرجه أبو داود بإسناد حسن" سكت عنه أبو داود "وأصله عند أحمد والثلاثة، وصححه الحاكم" على كل حال الحديث له طرق كلها لا تخلو من مقال، لكن مجموعها يدل على أن له أصلاً، فهو حسن.
في الحديث الذي يليه يقول -رحمه الله-:
"وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا كان لإحداكن مكاتب)) " يخاطب أمهات المؤمنين، وفي حكمها غيرها من نساء المسلمين ((إذا كان لإحداكن مكاتب، وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه)) يعني ما يتصور أنه يعجز نفسه فيعود رقيقاً، المبلغ كامل عنده متوافر، فهذا في حكم الحر؛ لأنه لا يمنعه من الحرية إلا أن يؤدي هذا المبلغ الذي يملكه، أما إذا كان لا يملك المبلغ فمتصور أن يعجز عن تأدية لزوم الكتابة فيعود رقيقاً، فما صار في حكم الرق لأنه الأصل، وأما إذا كان لديه ما يؤدي به فحكمه حكم الحر حينئذ؛ لأن المقابل موجود، فما عليه إلا أن يدفع المبلغ فيكون حراً، وحينئذٍ تحتجب منه سيدته؛ لأن الرقيق لا تحتجب عنه سيدته {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [(31) سورة النور] وبعضهم يحمله على الأمة دون العبد؛ لأن العبد إذا عتق يجوز له أن يتزوج السيدة، سيدته، فتحتجب عنه، لكن الآية صريحة في الدلالة على دخول الذكر، والأنثى لا يحتاج التخصيص فيها، نعم نص على نسائهن ليخرج نساء الكفار؛ لأن لا يطلعن على عورات المسلمات، المقصود أن الأمة السيدة لا تحتجب عن عبدها ورقيقها، فإن كان لديه ما يؤدي فهو في حكم الحر، يعني السداد سهل، ومتصور، فحكمه حكم الحر، وإذا كان ليس لديه ما يؤديه فهو ما زال عبداً.
" ((إذا كان لإحداكن مكاتباً، وكان لديه ما يؤدي فلتحتجب منه)) رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي".(112/10)
وقال بعضهم: إن هذا خاص بأمهات المؤمنين؛ لأن الاحتياط لأمهات المؤمنين أكثر من الاحتياط لغيرهن {قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ} [(59) سورة الأحزاب] {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} [(53) سورة الأحزاب] فهذا خاص بأمهات المؤمنين، والجمهور على أن الطهارة {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [(53) سورة الأحزاب] الطهارة المطلوبة من أمهات المؤمنين مطلوبة من سائر نساء المسلمين، والتنصيص على أمهات المؤمنين من باب الاعتناء بشأنهن، وصيانة حقه -عليه الصلاة والسلام- أكثر من غيره، لكن يبقى أن نساء المؤمنات مطلوب منهن ما يطلب من أمهات المؤمنين.
الترمذي قال: حديث حسن صحيح، وهو في الحقيقة لا يصل إلى درجة الصحيح، بل هو حسن.
قال -رحمه الله-:
"وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يودى المكاتب بقدر ما عتق منه دية الحر، وبقدر ما رق منه دية العبد)) " هو رق ما بقي عليه درهم، في الحديث السابق، هذا في حال حياته، لماذا؟ لأنه يتصور أن يعجز نفسه في آخر نجم من نجوم الكتابة، ويعود رقيقاً، لكن هذا ماشي في التسديد، فقتل، هذا ما يتصور أن يعجز نفسه، ليس في حكم الأول، وعلى هذا إذا كان أدى نصف نجوم الكتابة يكون نصفه حر ونصفه رقيق، وعلى هذا إذا أعتدي عليه وجني عليه فإنه يودى، تدفع ديته على أساس أنه مبعض، فدية بقدر ما فيه من الحرية وقيمة بقدر ما فيه من الرق، فإذا قتل وقد أدى نصف نجوم الكتابة يقال: نصف دية حر خمسين ألف، ونصف قيمة عبد إذا كانت قيمة خمسين خمسة وعشرين ألف، فيكون المجموع خمسة وسبعين ألف، ودية الحر مائة، وقيمة الرقيق خمسين، وهذا من تمام العدل، أما ما تقدم في الحديث: ((فهو رق ما بقي عليه درهم)) لأنه يتصور أن يعجز نفسه فيكون رقيقاً إلى سيده.
قال -رحمه الله تعالى-:(112/11)
"وعن عمرو بن الحارث أخي جويرية أم المؤمنين -رضي الله عنهما- قال: ما ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند موته درهماً ولا ديناراً ولا عبداً ولا أمة ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضاً جعلها صدقاً" النبي -عليه الصلاة والسلام- رأس الزهاد في هذه الدنيا الفانية، ما يجمع الأموال، ولا يكنز الأموال، ويرى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين ما يوقد في بيته نار، وقال في الحديث الصحيح: ((ما يسرني أن لي مثل أحد ذهباً تأتي علي ثالثة وعندي منه دينار، إلا دينار أرصده لدين، أقول فيه هكذا وهكذا وهكذا)) من أمامه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، ينفق من كل جهة، وفي كل وجه من وجوه الخير، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ولا يدخر -عليه الصلاة والسلام-، يوزع الأموال في مجلسه، إذا جاءته أموال ما قام من مجلسه ومنه شيء -عليه الصلاة والسلام-.
"ما ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند موته درهماً ولا ديناراً" ومات ودرعه مرهون بصاع شعير اشتراه من يهودي -عليه الصلاة والسلام-، ولذا الدنيا التشبث بها وإعطائها جل الوقت وجل الجهد هذا لا شك أنه خلل وتفريط فيما خلق الإنسان من أجله؛ لأن الإنسان خلق لتحقيق العبودية، ومع ذلك لئلا ينهمك في تحقيق ما خلق له، وينسى ما يعينه على تحقيق ما خلق له قيل: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [(77) سورة القصص] وعموم المسلمين في أيامنا هذه هم بأمس الحاجة إلى أن يقال: لا تنس نصيبك من الآخرة، وأما الدنيا ما يحتاج إلى من يوصيهم.
"ولا عبداً" ما عنده عبيد -عليه الصلاة والسلام-، وتقدم ما قال الدميري في النجم الوهاج: إنه أعتق، فإن صح يعني أنه لم يترك شيئاً، سفينة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وزيد بن حارثة مولى رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، زيد ليس بمعنى المولى الذي هو رقيق يباع ويشترى، وإنما كان بالتبني، وكان يدعى زيد بن محمد وهكذا، ثم صار يخدم النبي -عليه الصلاة والسلام-، وسفينة كذلك أعتقته أم المؤمنين، واشترطت عليه أن يخدم النبي -عليه الصلاة والسلام- على ما تقدم.(112/12)
"ولا أمة ولا شيئاً" لأنه قد يقول قائل: الرسول ما عنده درهم ولا دينار ولا عبد ولا أمة عنده بستان كبير يصدر المنتجات، قال: "ولا شيئاً" وهذا يتناول كل شيء يخطر على بالك مما هو مال، أو يؤول إلى المال، ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء التي يستعملها في الركوب، وسلاحه الذي يستعمله في الجهاد، وأرضاً جعلها صدقة، كانت نخل بني النظير للرسول -عليه الصلاة والسلام- خالصة، ثم أعطى أكثرها المهاجرين وبقي منها ما ينفق به على أزواجه وبيوته، وأرضاً جعلها صدقة، الأنبياء لا يورثون كما جاء في الحديث الصحيح: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة)) فالمطالبة من قبل من يزعم أنه من أهل البيت، أو ينتصر لأهل البيت، ويطالب بما تركه النبي -عليه الصلاة والسلام-، ويتهم أبا بكر وعمر بأنهم ظلموا الذرية الطاهرة باستيلائهم على أموالهم، هذا كله بهتان، النبي -عليه الصلاة والسلام- كغيره من الأنبياء ما يورث، ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث)) فالمطالبة بفدك أو بغيرها هذا كله مطالبة بغير حق.
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
إيش فيه؟
طالب:. . . . . . . . .
ما ترك عبداً ولا أمة، في أمة أسمها ماريا القبطية، أهداها له المقوقس، هذه أمة لكنها ولدت إبراهيم فصارت أم ولد فعتقت، مناسبة ظاهرة وإلا ما هي بظاهرة؟
"وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أيما امرأة ولدت من سيدها فهي حرة بعد موته)) " الحديث ضعيف والراجح وقفه على عمر -رضي الله عنه-، يقول: "عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أيما امرأة ولدت من سيدها فهي حرة بعد موته)) " هذه أم الولد أعتقها ولدها، وفي الباب نصوص كثيرة تدل على أنها لا تورث، بل هي تعتق بعد موته، وعلى كل حال إسناده ضعيف.(112/13)
قال: "وعن سهل بن حنيف -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من أعان مجاهداً في سبيل الله، أو غارماً في عسرته، أو مكاتباً في رقبته أظله الله لا يوم إلا ظله)) رواه أحمد، وصححه الحاكم" وعلى كل حال الحديث كسابقه، فيه كلام لأهل العلم، وبعضهم ضعفه، لكن لا شك أن الأعمال المذكورة من أعان مجاهداً في سبيل الله ((من جهز غازياً فقد غزا)) يعني له ما يشهد له، أو غارماً في عسرته ((من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) أو مكاتباً في رقبته، فك الرقبة، هذا فك الرقبة الذي جاء الحث عليه، فلجمل الحديث ما يشهد لها، وإن لم تصح ابتداءً، "رواه أحمد، وصححه الحاكم" وفي ذلك دليل على عظم الإعانة في هذه الأمور، وإعانة المسلم عموماً في كل ما يحتاج إليه، تعين صانعاً وتصنع لآخر، يعني إذا لم تستطع أن تتصدق، ولم تستطع أن تنفع بمالك أو بجاهك تعين صانع، تنفعه ببدنك، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
هذا يقول: ألا يقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جزأهم إلى ثلاثة أثلاث -يعني ستة من الرقيق الذين أعتقهم سيدهم- نظر إلى أقيامهم ثم أقرع بينهم، وإلا لو كان العدد المراد لأعتق بلا تجزئة.
يعني كأنهم صنفهم ثلاثة أصناف ملاحظاً تقاربهم في القيمة والنفع وفي ... ، على كل -عليه الصلاة والسلام- الحكم جاءنا من قبله -عليه الصلاة والسلام-، وأن له أن يتبرع ويتصدق بثلث ماله، فالثلث معتبر، والاثنان ثلث الستة، لكن قد تكون قيمة الاثنين أكثر من قيمة الأربعة، فلا يتم تحقيق الصدقة بالثلث، فلا يظن بالنبي -عليه الصلاة والسلام- إلا أنه نظر إلى أقيامهم.
إذا باع أحد أمة فكان الذي اشتراها هو ابنه أو العكس ما الحكم في هذه الحالة من ناحية الجماع؟
إذا كان صاحبها الأول سواء كان أباً أو أبناً قد جامعها فلا تحل للثاني بحال، تحرم عليه.
وإذا أثر المسلمون أثرة فهل لهم من خيار في قتلهم أو استعبادهم؟
الإمام مخير بين أن يقتل وبين أن يفدي، وبين أن يمن بلا فداء، وبين أن يسترق.(112/14)
إذا كان هناك والد عبد ولديه ثلاثة أولاد فأرادوا شراءه وعتقه هل يجزي عنهم كلهم أم. . . . . . . . .؟
((لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)) لكن لو صار أكثر من واحد؟ كل شيء بحسبه، إذا أشتراه مستقلاً بشرائه جزاه في مقابل تسببه في وجوده، وإذا كان أشترك في عتقه أكثر من واحد فلا شك أن فضل الله لا يحد، لكن كل شيء بقدره.
يقول: جهر المرأة بالسلام أمام الرجال؟
المرأة ممنوعة من أن ترفع صوتها أمام الرجال إلا للحاجة، ومع ذلك أبيح لها التصفيق في الصلاة دون التسبيح؛ لئلا يسمع الرجال صوتها، والتصفيق معروف أنه من أعمال الكفار، {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً} [(35) سورة الأنفال] التصدية التصفيق، والمكاء الصفير، فهو من أعمال الكفار، وأبيح للمرأة لأنه أخف من إظهار صوتها أمام الرجال.
يقول: نظر المرأة في الرجل بدون شهوة.
يجب عليها أن تغض بصرها؛ لأنها مأمورة بذلك، سواء كان الرجل على طبيعته أو كانت صورته، أو كان شخصه بوسيلة من الوسائل، يجب عليها أن تغض بصرها عنه.
المصافحة لمن يكون عن اليمين والشمال بعد الصلاة يقال: إنه بدعة، ونرجو أن تبينوا الحكم على كثير من الأمور البدعية خاصة عند بعض طلبة العلم، ولا سيما الأمور التي أطلق الشارع في العمل مثل قوله: سلم على من تعرف ومن لا تعرف؟
اتخاذ مثل هذا عادة، كل ما سلم من صلاته سلم على من يمنيه وعلى من شماله، وقد يكون سلم عليه قبل ذلك؛ لأن ما جرت هذه عادته هذه بدعة، لكن إذا حصل أنه دخل المسجد ووجد الناس يصلون الراتبة أو الفريضة ولم يتمكن من السلام عليهم، مع الأصل أنه يسلم عليهم وهم يصلون، ويردون بالإشارة، لكن إذا أراد أن يسلم ولم يتخذ ذلك عادة، ولا صار ديدناً له يتعبد به فإنه حينئذٍ لا يضر -إن شاء الله تعالى-.
هل المرأة الحرة إذا تزوجت عبداً تعتق والعكس؟(112/15)
وش لون تعتق؟ هي حرة، لكن لو صارت حرة بعد أن كانت رقيقة، وكانت تحت عبد فحديث بريرة تخير، دال على أنها تخير، إن اختارت نفسها نسخ النكاح، وإن أرادت البقاء معه وإن كان عبداً فالأمر إليها، وشفع النبي -عليه الصلاة والسلام- لمغيث زوج بريرة لديها أن تبقى في عصمته ولم تقبل.
يقول: نحن في مدرسة ابتدائية، ونصحنا بعض المعلمين بابتداء اليوم الدراسي بقراءة الفاتحة والمعوذات من قبل جميع الطلاب تبركاً وحفظاً لهم من العين والحسد فهل يشرع ذلك؟
لا يشرع ذلك.
يقول: معلم الطابور الصباحي للطلاب استرح، فيقولون: الله أكبر، ثم يقول: استعد، فيقولون: الله أكبر هل يشرع ذلك؟
لا، أيضاً هذا غير مشروع.
الذكر المطلق جاء به نص في وقت إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا، وإذا هبطنا سبحنا يعني مقرون جاء الشرع بها لا بأس، أما طابور استعد استرح الله أكبر هذه لم يرد بها نص، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(112/16)