وقال أبو حنيفة ومحمّد والشّافعيّة : لا قطع على النّبّاش مطلقاً . لقوله صلى الله عليه وسلم « لا قطع على المختفي » - وهو النّبّاش بلغة أهل المدينة - ولأنّ الشّبهة تمكّنت في الملك لأنّه لا ملك للميّت حقيقة ولا للوارث لتقدّم حاجة الميّت ، فتمكّنت الشّبهة المسقطة للقطع ، ووافقهما الشّافعيّة إذا كان الميّت مدفوناً في بريّة لعدم الحرز .
الكتابة على الكفن :
18 - جاء في الجمل على شرح المنهج ، لا يجوز له أن يكتب عليها شيئا من القرآن أو الأسماء المعظّمة صيانة لها من الصّديد ، وبه قال ابن الصّلاح .(/5)
كفّارة *
التّعريف :
1 - الكفّارة في اللغة : مأخوذة من الكفر وهو السّتر , لأنّها تغطّي الذّنب وتستره , فهي اسم من كفّر اللّه عنه الذّنب , أي محاه لأنّها تكفّر الذّنب , وكأنّه غطّى عليه بالكفّارة .
وفي التّهذيب : سمّيت الكفّارات كفّاراتٍ , لأنّها تكفّر الذنوب , أي تسترها مثل كفّارة الأيمان , وكفّارة الظّهار , والقتل الخطأ , وقد بيّنها اللّه تعالى في كتابه وأمر بها عباده . والكفّارة : ما كفّر به من صدقةٍ أو صومٍ أو نحو ذلك .
وتكفير اليمين فعل ما يجب بالحنث فيها , والتّكفير في المعاصي : كالإحباط في الثّواب . وفي الاصطلاح : قال النّووي : الكفّارة من الكَفر - بفتح الكاف - وهو السّتر لأنّها تستر الذّنب وتذهبه , هذا أصلها , ثمّ استعملت فيما وجد فيه صورة مخالفة أو انتهاك وإن لم يكن فيه إثم كالقتل خطأً وغيره .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستغفار :
2 - الاستغفار في اللغة : طلب المغفرة .
وشرعاً : سؤال المغفرة والتّجاوز بها عن الذّنب وعدم المؤاخذة به .
وقد يأتي الاستغفار بمعانٍ أخرى , فيأتي بمعنى الإسلام , كما في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } .
يقول مجاهد وعكرمة : أي يسلمون .
كما يأتي بمعنى الدعاء والتّوبة , هكذا يقول القرطبي .
والصّلة أنّ كلاً من الكفّارة والاستغفار يكون - بمشيئة اللّه تعالى - سبباً لمغفرة الذّنب .
ب - التّوبة :
3 - التّوبة في اللغة : العود والرجوع عن المعصية .
يقال : تاب عن ذنبه , إذا رجع عنه وأقلع , وتاب اللّه عليه : وفّقه للتّوبة .
وشرعاً : هي النّدم والإقلاع عن المعصية والعزم على عدم العود إليها إذا قدر .
والصّلة بين الكفّارة والتّوبة أنّ كلاً منهما - بمشيئة اللّه تعالى - سبب لمغفرة الذّنب .
ج - العقوبة :
4 - العقوبة في اللغة : مأخوذة من العقب , وهو الجري بعد الجري والولد بعد الولد . والعقبة بالضّمّ : النّوبة والبدل واللّيل والنّهار , لأنّهما يتعاقبان .
وفي الاصطلاح هي : زواجر شرعها اللّه - عزّ وجلّ - للرّدع عن ارتكاب ما حظر وترك ما أمر , ليردع بها ذوي الجهالة حذراً من ألم العقوبة .
وهذه الزّواجر : إمّا أن تكون مقدّرةً , فتسمّى حداً وإمّا أن تكون غير مقدّرةٍ فتسمّى تعزيراً .
والصّلة بين الكفّارة والعقوبة أنّ الكفّارة فيها معنى العبادة , وليست العقوبة كذلك .
الحكم التّكليفي :
5 - الكفّارة مشروعة باتّفاق الفقهاء وهي واجبة جبراً لبعض الذنوب والمخالفات الشّرعيّة .
ودليل ذلك الكتاب والسنّة والإجماع :
أمّا الكتاب : فقوله تعالى : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } .
وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } .
وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ، فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً } .
وأمّا السنّة : فما ورد عن عبد الرّحمن بن سمرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا تسأل الإمارة فإنّك إن أعطيتها من غير مسألةٍ أعنت عليها ، وإن أعطيتها عن مسألةٍ وكلت إليها ، وإذا حلفت على يمينٍ فرأيت غيرها خيراً منها فأت الّذي هو خير ، وكفّر عن يمينك » .
وأمّا الإجماع : فقد أجمع المسلمون من عصر الرّسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا على مشروعيّة الكفّارة .
الوصف الشّرعي للكفّارة :
6 - نصّ الحنفيّة على أنّ الكفّارة فيها معنى العقوبة ومعنى العبادة .
قال ابن نجيمٍ : وأمّا صفتها أي الكفّارة مطلقاً فهي عقوبة وجوباً , لكونها شرعت أجزيةً لأفعال فيها معنى الحظر , عبادة أداءٍ , لكونها تتأدّى بالصّوم والإعتاق والصّدقة وهي قرب , والغالب فيها معنى العبادة , إلا كفّارة الفطر في رمضان فإنّ جهة العقوبة فيها غالبة بدليل أنّها تسقط بالشبهات كالحدود , ولا تجب مع الخطأ , بخلاف كفّارة اليمين لوجوبها مع الخطأ , وكذا كفّارة القتل الخطأ , وأمّا كفّارة الظّهار فقالوا : إنّ معنى العبادة فيها غالب . وقال الشّربيني الخطيب من الشّافعيّة : وهل الكفّارات بسبب حرامٍ زواجر كالحدود والتّعازير للخلل الواقع ؟ وجهان , أوجههما الثّاني كما رجّحه ابن عبد السّلام , لأنّها عبادات ولهذا لا تصح إلا بالنّيّة .(/1)
وقال الشّيخ محمّد علي من المالكيّة : وقد اختلف في بعض الكفّارات هل هي زواجر لما فيها من مشاقّ تحمل الأموال وغيرها , أو هي جوابر لأنّها عبادات لا تصح إلا بالنّيّات , وليس التّقرب إلى اللّه تعالى زجراً , بخلاف الحدود والتّعزيرات فإنّها ليست قربات , لأنّها ليست فعلاً للمزجورين .
أسباب وجوب الكفّارة :
لوجوب الكفّارة أسباب عدّة :
أوّلاً : الحنث في اليمين :
7 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ كفّارة اليمين لا تجب إلا بالحنث فيه .
ولا خلاف بينهم في أنّ موجب الحنث هو المخالفة لما انعقدت عليه اليمين , وذلك بفعل ما حلف على عدم فعله , أو ترك ما حلف على فعله , إذا علم أنّه قد تراخى عن فعل ما حلف على فعله , إلى وقتٍ لا يمكنه فيه فعله .
ولا خلاف على وجوب الكفّارة بالحنث في اليمين المعقودة على أمرٍ في المستقبل , نفياً كان أو إثباتًا .
كما لا خلاف بينهم على عدم وجوبها في اليمين اللّغو في الزّمن الماضي أو الحال , نفياً كان أو إثباتًا .
وإنّما الخلاف بينهم في وجوبها في اليمين الغموس , وهي المعقودة على أمرٍ في الماضي أو الحال كاذبة يتعمّد صاحبها ذلك .
وفي وجوبها في اليمين اللّغو في الزّمن المستقبل .
وفي تعدد الكفّارات بتعدد الأيمان , وفي رفع الكفّارة الحنث .
الكفّارة في اليمين الغموس :
8 - اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة في اليمين الغموس على قولين :
القول الأوّل : عدم وجوب الكفّارة في اليمين الغموس .
وإليه ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - وهو قول سفيان الثّوريّ وأهل العراق وأبي ثورٍ وأبي عبيدٍ وإسحاق وأصحاب الحديث والأوزاعيّ ومن وافقه من أهل الشّام .
القول الثّاني : وجوب الكفّارة في اليمين الغموس .
وإليه ذهب الشّافعيّة والحكم وعطاء ومعمر .
وسبب اختلاف الفقهاء في ذلك معارضة عموم الكتاب للأثر , وذلك أنّ قوله تعالى : { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } توجب أن يكون في اليمين الغموس كفّارة لكونها من الأيمان المنعقدة .
وقوله عليه الصلاة والسلام : « من اقتطع حقّ امرئ مسلمٍ بيمينه فقد أوجب اللّه له النّار وحرّم عليه الجنّة » يوجب أنّ اليمين الغموس ليس فيها كفّارة .
وقد استدلّ كل فريقٍ بأدلّة تؤيّد ما ذهب إليه .
فاستدلّ الجمهور بقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } , فقد بيّن اللّه عزّ وجلّ فيها جزاء اليمين الغموس بالوعيد في الآخرة , ولم يذكر كفّارةً , فلو كانت الكفّارة فيها واجبةً لكان الأولى بيانها , ولأنّ الكفّارة لو وجبت إنّما تجب لرفع هذا الوعيد المنصوص عليه في الآية فيسقط جرمه , ويلقى اللّه تعالى وهو عنه راضٍ , ولم يستحقّ الوعيد المتوعّد عليه , وهو ما لا يقول به أحد .
قال القرطبي : وكيف لا يكون ذلك , وقد جمع هذا الحالف : الكذب , واستحلال مال الغير , والاستخفاف باليمين باللّه تعالى والتّهاون بها وتعظيم الدنيا ؟ فأهان ما عظّمه اللّه , وعظّم ما حقّره اللّه , وحسبك .
ولهذا قيل : إنّما سمّيت اليمين غموساً لأنّها تغمس صاحبها في النّار .
وقد روى سحنون عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما في هذه الآية قال : فهذه اليمين في الكذب واقتطاع الحقوق , فهي أعظم من أن تكون فيها كفّارة .
وقد روى ابن مهديٍّ عن العوّام بن حوشبٍ عن إبراهيم السّكسكيّ عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه : أنّ رجلاً حلف على سلعةٍ فقال : واللّه لقد أعطى بها كذا وكذا ولم يعط ، فنزلت هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } .
واستدلّ الجمهور كذلك بما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « خمس ليس لهنّ كفّارة الشّرك باللّه عزّ وجلّ وقتل النّفس بغير حقٍّ وبهت مؤمنٍ والفرار يوم الزّحف ويمين صابرة يقتطع بها مالاً بغير حقٍّ » .
وبحديث ابن عمرٍو رضي الله عنهما قال : « جاء أعرابي إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه ما الكبائر ؟ قال : الكبائر الإشراك باللّه ، قال : ثمّ ماذا ؟ قال : ثمّ عقوق الوالدين ، قال : ثمّ ماذا ؟ قال : ثمّ اليمين الغموس ، قلت : وما اليمين الغموس ؟ قال : الّذي يقتطع مال امرئ هو فيها كاذب » .
ففي الحديثين دلالة واضحة على أنّ اليمين الغموس ليس فيها كفّارة لأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم عدّها من الكبائر , والكبائر لا كفّارة فيها , فقد اتّفق الفقهاء على أنّ الشّرك وعقوق الوالدين لا كفّارة فيها , وإنّما كفّارتها التّوبة منها , فكذلك اليمين الغموس حكمها حكم ما ذكرت معه .
واستدلّ الجمهور كذلك باتّفاق الصّحابة عليه من غير مخالفٍ , فقد روى آدم بن أبي إياسٍ في مسند شعبة , وإسماعيل القاضي في الأحكام عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه : كنّا نعد الذّنب الّذي لا كفّارة له اليمين الغموس ، أن يحلف الرّجل على مال أخيه كاذباً ليقتطعه ، قال : ولا مخالف له من الصّحابة .
وقالوا : إنّ الغموس محظور محض , فلا يصلح سبباً لوجوب الكفّارة لكونها أعظم من أن تكفّر , كالزّنا والرّدّة .(/2)
واستدلّ الشّافعيّة ومن وافقهم على وجوب الكفّارة لقوله تعالى : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } مع قوله تعالى : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ } .
ووجه الدّلالة من هاتين الآيتين : أنّ اللّه عزّ وجلّ نفى المؤاخذة عن اليمين اللّغو , وهي اليمين من غير قصدٍ , وأثبت المؤاخذة لليمين المقصودة بقوله : { بِمَا عَقَّدتُّمُ } أي قصدتم وصمّمتم , ولا شكّ أنّ اليمين الغموس مقصودة فتجب فيها الكفّارة .
وبما رواه عبد الرّحمن بن سمرة قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حديث : « لا تسأل الإمارة وإذا حلفت على يمينٍ فرأيت غيرها خيراً منها فأت الّذي هو خير وكفّر عن يمينك » .
وقالوا : إنّ الحالف كذباً أحوج للكفّارة من غيره , كما أنّ الكفّارة لا تزيده إلا خيراً , والّذي يجب عليه الرجوع إلى الحقّ ورد المظلمة , فإن لم يفعل وكفّر , فالكفّارة لا ترفع عنه حكم التّعدّي بل تنفعه في الجملة .
الكفّارة في اليمين اللّغو على أمرٍ في المستقبل :
9 - اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة في اليمين اللّغو على أمرٍ في المستقبل - نفياً كان أو إثباتًا - على قولين :
القول الأوّل : إنّها لغو , وإليه ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة , وبه قال ربيعة ومكحول والأوزاعي واللّيث .
ونقله ابن المنذر وغيره عن ابن عمر وابن عبّاسٍ وغيرهما من الصّحابة رضوان اللّه عليهم , وعن القاسم وعطاءٍ والشّعبيّ وطاوسٍ والحسن .
وقال الشّافعيّة والحنابلة : إنّه لا كفّارة فيها .
واختلف المالكيّة في وجوب الكفّارة فيها , فقال ابن الحاجب : ولا كفّارة في لغو اليمين , وهي اليمين على ما يعتقده ثمّ تبيّن خلافه , ماضياً أو مستقبلاً .
قال في التّوضيح : مثال الماضي : واللّه ما جاء زيد وهو يعتقد ذلك , ومثال المستقبل : واللّه ما يأتي غداً وهو يعتقده .
وقال الدّردير : اللّغو والغموس لا كفّارة فيهما إن تعلّقا بماضٍ , وفيهما الكفّارة إن تعلّقا بالمستقبل .
واستدلّ القائلون بعدم الكفّارة بقوله تعالى : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } .
ووجه الاستدلال من الآية : أنّ اللّه تعالى قابل يمين اللّغو باليمين المكسوبة بالقلب , واليمين المكسوبة هي المقصودة , فكانت اليمين غير المقصودة داخلةً في قسم اللّغو تحقيقاً للمقابلة .
وبما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : أنزلت هذه الآية : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ } في قول الرّجل : لا واللّه وبلى واللّه .
ووجه الدّلالة من الحديث : أنّ اللّه تعالى رفع المؤاخذة عن اللّغو مطلقاً , فيلزم منه أنّه لا إثم فيه ولا كفّارة .
القول الثّاني : إنّها ليست لغواً وفيها الكفّارة .
وإليه ذهب الحنفيّة .
وهو مروي عن زرارة بن أبي أوفى , وعن ابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنهم في روايةٍ ثانيةٍ عنه .
واستدلوا بقوله تعالى : { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ } .
وقوله تعالى : { وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ } .
ووجه الدّلالة من الآية : أنّ المراد بالأيمان المعقودة : هي اليمين في المستقبل , لأنّ الحفظ عن الحنث وهتك حرمة اسم اللّه تعالى لا يتصوّر إلا في المستقبل , واليمين في المستقبل يمين معقود سواء وجد القصد أم لا , ووجوب الحفظ يقتضي المؤاخذة عند عدمه , فوجبت الكفّارة .
كما استدلوا بما ورد أنّ المشركين لمّا أخذوا حذيفة بن اليمان وأباه رضي الله عنه واستحلفوهما أن لا ينصر محمّداً صلى الله عليه وسلم وأخبر بذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : « انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين باللّه عليهم ». ووجه الدّلالة : أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم أمر حذيفة بالوفاء رغم أنّه مكره غير قاصدٍ فدلّ ذلك على أنّ عدم القصد لا يمنع انعقاد اليمين ممّن هو من أهله .
وقالوا : كذلك اللّغو ما يكون خالياً عن الفائدة , والخبر الماضي خالٍ عن فائدة اليمين فكان لغواً , وأمّا الخبر في المستقبل فإنّ عدم القصد لا يعدم فائدة اليمين , وقد ورد الشّرع بأنّ الهزل والجدّ في اليمين سواء .
تعدد كفّارة اليمين :
10 - ذهب الفقهاء إلى أنّ من حلف على أمورٍ شتّى بيمين واحدةٍ فكفّارته كفّارة يمينٍ واحدةٍ , كما لو قال : واللّه لن آكل ولن أشرب ولن ألبس , فحنث في الجميع فكفّارته واحدة , لأنّ اليمين واحدة والحنث واحد , فإنّه بفعل واحدٍ من المحلوف عليه يحنث وتنحل اليمين .
واختلفوا فيما إذا حلف بأيمان شتّى على شيءٍ واحدٍ بعينه , أو حلف بأيمان شتّى على أشياء متعدّدةٍ :
أ - الحلف على الشّيء بعينه مرّاتٍ كثيرةً :
11 - اختلف الفقهاء فيما يجب بالحنث في الحلف على الشّيء الواحد بعينه مرّاتٍ كثيرةً كأن قال : واللّه لا أفعل كذا , واللّه لا أفعل كذا , ثمّ يفعل المحلوف عليه , على قولين : القول الأوّل : إنّه يجب في ذلك كفّارة يمينٍ واحدةٍ , وإليه ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو قول قتادة والحسن وعطاءٍ .(/3)
ففي المدوّنة قال : قلت : أرأيت إن قال : واللّه لا أجامعك , واللّه لا أجامعك , أيكون على هذا كفّارة يمينٍ واحدةٍ في قول مالكٍ ؟ قال : نعم ، قلت : أرأيت الرّجل يحلف أن لا يدخل دار فلانٍ , ثمّ يحلف بعد ذلك في مجلسٍ آخر : أنّه لا يدخل دار فلانٍ لتلك الدّار بعينها الّتي حلف عليها أوّل مرّةٍ ؟ قال : قال مالك : إنّما عليه كفّارة واحدة .
وقال الشّافعيّة : إذا قال : عليّ عهد اللّه وميثاقه وذمّته وأمانته وكفالته لأفعلن كذا , فإن نوى اليمين فيمين واحدة , والجمع بين الألفاظ تأكيد , كقوله : واللّه الرّحمن الرّحيم لا يتعلّق بالحنث فيها إلا كفّارة واحدة .
وقال البهوتي : ومن كرّر يميناً موجبها واحد على فعلٍ واحدٍ كقوله : واللّه لا آكل واللّه لا آكل فكفّارة واحدة لأنّ سببها واحد والظّاهر أنّه أراد التّأكيد .
القول الثّاني : وهو للحنفيّة , وقد فرّقوا بين ما إذا كرّر المقسم به - وهو اسم اللّه تعالى - ولم يذكر المقسم عليه حتّى ذكر اسم اللّه تعالى ثانياً , ثمّ ذكر المقسم عليه , كأن يقول : واللّه اللّه لا أفعل كذا وكذا , أو يقول : واللّه واللّه لا أفعل كذا وكذا , وبين ما إذا ذكرهما جميعاً , ثمّ أعادهما جميعاً , كأن يقول : واللّه لا أفعل كذا اللّه لا أفعل كذا , أو يقول : واللّه لا أفعل كذا واللّه لا أفعل كذا .
وفي الحالتين إمّا أن يكون التّكرار بحرف العطف أو بدونه , كما ذكر في الأمثلة .
فإذا كان تكرار المقسم به بدون حرف عطفٍ - كما في المثال الأوّل - كانت يميناً واحدةً بلا خلافٍ في المذهب , سواء كان الاسم متّفقاً كما ذكر أو مختلفاً كقوله : واللّه الرّحمن لا أفعل كذا وكذا .
أمّا إذا دخل بين القسمين حرف عطفٍ - كما في المثال الثّاني - فهما يمينان عند محمّدٍ , وهو إحدى الرّوايتين عن أبي حنيفة وأبي يوسف .
وإذا كان تكرارهما جميعاً , كما إذا ذكرهما جميعاً ثمّ أعادهما فهما يمينان , سواء ذكرهما بحرف العطف أو بدونه , كما في الأمثلة المذكورة , سواء كان ذلك في مجلسين أو في مجلسٍ واحدٍ , بلا خلافٍ في المذهب .
الأدلّة :
أوّلاً : استدلّ جمهور الفقهاء بأنّ سبب الكفّارة واحد , فتلزم عنه كفّارة واحدة , أمّا الجمع بين الألفاظ فإنّه للتّأكيد , لأنّ الثّانية لا تفيد إلا ما أفادته الأولى , فلم يجب أكثر من كفّارةٍ واحدةٍ .
ثانياً : واستدلّ الحنفيّة بأنّه إذا لم يذكر حرف العطف والاسم مختلف نحو أن يقول : واللّه الرّحمن لا أفعل كذا وكذا , فإنّ الاسم الثّاني يصلح صفةً للأوّل , ومنه يعلم أنّه أراد الصّفّة , فيكون حالفاً بذات موصوفٍ , لا باسم الذّات على حدةٍ , ولا باسم الصّفّة على حدةٍ .
أمّا إذا كان الاسم متّفقاً نحو أن يقول : واللّه اللّه لا أفعل كذا , فإنّ الثّاني لا يصلح نعتاً للأوّل , إنّما يصلح تأكيداً له , فيكون يميناً واحدةً , إلا أن ينوي به يمينين , فيصير قوله : اللّه ابتداء يمينٍ بحذف حرف القسم , وهو قسم صحيح .
وهذا بخلاف ما إذا ذكر حرف العطف بين القسمين بأن قال : واللّه والرّحمن لا أفعل كذا , فقد استدلّ من قال إنّهما يمينان بأنّه لمّا عطف أحد اليمينين على الآخر , كان الثّاني غير الأوّل , لأنّ المعطوف غير المعطوف عليه , فكان كل واحدٍ منهما يميناً على حدةٍ .
أمّا إذا لم يعطف , أحدهما على الآخر فيجعل الثّاني صفةً للأوّل , لأنّه يصلح صفةً , لأنّ الاسم يختلف , ولهذا يستحلف القاضي بالأسماء والصّفّات من غير حرف العطف فيقول : واللّه الرّحمن الرّحيم الطّالب المدرك , ولا يجوز أن يستحلف مع حرف العطف , لأنّه ليس على المدّعى عليه إلا يمين واحدة .
أمّا إذا أعاد المقسم عليه مع الاسم الثّاني , علم أنّه أراد به يميناً أخرى , إذ لو أراد الصّفة أو التّأكيد لما أعاد المقسم عليه .
ب - الحلف بأيمان متعدّدةٍ على أمورٍ شتّى :
12 - اختلف الفقهاء فيما يجب بالحنث في الحلف بأيمان متعدّدةٍ على أمورٍ شتّى ، نحو أن يقول : واللّه لا أدخل دار فلانٍ , واللّه لا أكلّم فلاناً ففعل ذلك كلّه على قولين :
القول الأوّل : أنّه يجب على الحالف لكلّ يمينٍ كفّارة , وإليه ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة , وهو ظاهر كلام الخرقيّ , ورواية المروزيّ عن أحمد .
القول الثّاني : أنّه يجب على الحالف كفّارة واحدة , وبه قال أحمد في رواية ابن منصورٍ , قال القاضي : وهي الصّحيحة وهو قول محمّدٍ من الحنفيّة .
وقد استدلّ القائلون بتعدد الكفّارات بأنّهنّ أيمان لا يحنث في إحداهنّ بالحنث في الأخرى , فلم تتكفّر إحداها بكفّارة الأخرى , كما لو كفّر عن إحداها قبل الحنث في الأخرى , وكالأيمان المختلفة الكفّارة , وبهذا فارق الأيمان على شيءٍ واحدٍ , فإنّه متى حنث في إحداها كان حانثاً في الأخرى , فإن كان الحنث واحداً كانت الكفّارة واحدةً , وهاهنا تعدّد الحنث , فتعدّدت الكفّارات .
وفارق الحدود فإنّها وجبت للزّجر وتندرئ بالشبهات بخلاف مسألتنا , ولأنّ الحدود عقوبة بدنيّة , فالموالاة بينها ربّما أفضت إلى التّلف فاجتزئ بإحداها , وهاهنا الواجب إخراج مالٍ يسيرٍ أو صيام ثلاثة أيّامٍ , فلا يلزم الضّرر الكثير بالموالاة فيه , ولا يخشى منه التّلف . بينما استدلّ أصحاب القول الثّاني بأنّها كفّارات من جنسٍ فتداخلت كالحدود من جنسٍ , وإن اختلف محالها بأن يسرق من جماعةٍ أو يزني بنساء .
تقديم كفّارة اليمين قبل الحنث :
13 - لا خلاف بين الفقهاء في عدم جواز التّكفير قبل اليمين , لأنّه تقديم الحكم قبل سببه , كتقديم الزّكاة قبل ملك النّصاب , وكتقديم الصّلاة قبل دخول وقتها .(/4)
ولا خلاف بينهم في جواز تأخير الكفّارة بعد اليمين والحنث .
كما لا خلاف بينهم - أيضاً - في عدم وجوب الكفّارة قبل الحنث .
وإنّما الخلاف بينهم في جواز التّكفير بعد اليمين وقبل الحنث .
وقد اختلفوا في ذلك على قولين :
القول الأوّل : يرى أصحابه جواز التّكفير قبل الحنث , وإليه ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة , وهو مروي عن عمر وعبد اللّه بن عمر وعبد اللّه بن عبّاسٍ , وسلمان وعبد الرّحمن بن سمرة رضي الله عنهم .
قال ابن المنذر : وهو رأي ربيعة والأوزاعيّ ومالكٍ واللّيث وسائر فقهاء الأمصار , وذكر عياض وجماعة : أنّ عدّة من قال بجواز تقديم الكفّارة أربعة عشر صحابياً .
وقيّد الشّافعيّة جواز التّكفير قبل الحنث بما إذا كفّر بغير الصّوم ولم يكن الحنث معصيةً . وقال المالكيّة والشّافعيّة : يستحب أن يؤخّر التّكفير عند الحنث خروجاً من الخلاف .
القول الثّاني : يرى أصحابه عدم جواز التّكفير قبل الحنث , إليه ذهب الحنفيّة , وأشهب من المالكيّة , ونقله الباجي عن مالكٍ .
واستدلّ القائلون بأنّ الكفّارة تجزئ قبل الحنث , بقوله تعالى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } .
ووجه الدّلالة من الآية : أنّ اللّه تعالى أوجب الكفّارة بإرادة الحنث لأنّ التّقدير : إذا حلفتم فأردتم الحنث , كما أنّ ظاهر الآية يفيد أنّ الكفّارة وجبت بنفس اليمين فيجوز التّكفير قبل الحنث , لتكون الكفّارة محلّلةً لليمين .
كما استدلوا بما ورد عن عبد الرّحمن بن سمرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يا عبد الرّحمن إذا حلفت على يمينٍ فرأيت غيرها خيراً منها فكفّر عن يمينك وائت الّذي هو خير » وفي روايةٍ : « ثمّ ائت الّذي هو خير » .
ووجه الدّلالة من هذا الحديث : أنّه صريح في تقديم الكفّارة على الحنث , حيث أمر صلى الله عليه وسلم بالتّكفير عن اليمين , ثمّ عطف الإتيان بغير المحلوف عليه بثمّ الّتي تفيد التّرتيب والتّراخي , فدلّ هذا دلالةً واضحةً على إجزاء الكفّارة قبل الحنث .
كما استدلوا بالقياس على كفّارة الظّهار والقتل بعد الجراح , فكما يجوز تقديم كفّارة الظّهار على العود , والقتل الخطأ بعد الجراح وقبل الموت كذلك يجوز تقديم كفّارة اليمين قبل الحنث , لأنّه كفّر بعد سببه فجاز .
وبأنّ عقد اليمين لمّا كان يحله الاستثناء وهو كلام , فلأن تحلّه الكفّارة وهو فعل مالي أو بدني أولى .
واستدلّ القائلون بعدم جواز التّكفير قبل الحنث : بقوله تعالى : { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ } مع قوله تعالى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } .
ووجه الدّلالة من هذه الآية واضح على أنّ الكفّارة للحنث وليست لليمين من وجهين :
الأوّل : تصويره في صدر الآية نفي مؤاخذتنا عن لغو اليمين وأنّه سبحانه وتعالى يؤاخذنا بما عقّدنا من الأيمان والوفاء بها , كقوله عزّ وجلّ : { وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } , فإن تركتم ذلك فكفّارته كذا .
وكذلك قوله تعالى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } تقديره : أي فتركتم المحافظة , ألا ترى أنّه قال عزّ وجلّ : { وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ } , والمحافظة تكون بالبرّ .
الثّاني : أن يكون على إضمار الحنث , أي ولكن يؤاخذكم بحنثكم فيما عقّدتم , وكذا في قوله تعالى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } , أي إذا حلفتم وحنثتم , كما في قوله تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } , معناه : فحلق عامداً أو غطّى رأسه ففدية من صيامٍ .
وقوله عزّ وجلّ : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } , معناه : فتحلّل .
وقوله عزّ وجلّ : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } , فأفطر فعدّة من أيّامٍ أخر , لأنّ ظاهر الملفوظ وهو القدر الّذي هو سبب التّخفيف لا يصلح سبباً للوجوب فصار استعمال الرخصة مضمراً فيه , كذلك هاهنا لا تصلح اليمين الّتي هي تعظيم الرّبّ جلّ جلاله سبباً لوجوب التّكفير , فيجب إضمار ما هو صالح وهو الحنث .
كما استدلوا بما ورد عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من حلف على يمينٍ فرأى غيرها خيراً منها فليأت الّذي هو خير وليكفّر عن يمينه » .
وفي حديثٍ آخر : « إنّي واللّه إن شاء اللّه لا أحلف على يمينٍ فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الّذي هو خير وتحلّلتها » .
ووجه الدّلالة من هذا الحديث : أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بيّن أنّ الكفّارة تجب بالحنث , لأنّها لو كانت واجبةً بنفس اليمين لقال عليه الصلاة والسلام : من حلف على يمينٍ فليكفّر ، من غير التّعرض لمّا وقع عليه اليمين وألزم الحنث إذا كان خيراً ثمّ التّكفير .
فلمّا خصّ اليمين على ما كان الحنث خيراً من البرّ بالنّقض والكفّارة , علم أنّها تختص بالحنث دون اليمين نفسها , وأنّها لا تجب بعقد اليمين دون الحنث .
وقالوا : لا يصح التّكفير قبل الحنث في اليمين , سواء كان بالمال أو بالصّوم لأنّ الكفّارة لستر الجناية ولا جناية , واليمين ليست بسبب , لأنّها مانعة من الحنث غير مفضيةٍ بخلاف التّكفير بعد الجرح قبل الموت لأنّه مفضي .
ثانياً : القتل :
14 - لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الكفّارة في القتل شبه العمد والخطأ وما أجري مجرى الخطأ .
وإنّما الخلاف بينهم في وجوبها في القتل العمد والقتل بسبب .
الكفّارة في القتل العمد :(/5)
15 - اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة في القتل العمد على قولين :
القول الأوّل : عدم وجوب الكفّارة في القتل العمد , وإليه ذهب الحنفيّة والمالكيّة , وهو مشهور مذهب الحنابلة وبه قال الثّوري وأبو ثورٍ وابن المنذر .
واستدلوا بقوله تعالى : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } , وقوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ } .
وجه الدّلالة من الآيتين : أنّ اللّه عزّ وجلّ أوجب في الآية الأولى كفّارة القتل الخطأ ثمّ ذكر في الآية الثّانية القتل العمد , ولم يوجب فيه كفّارةً , وجعل جزاءه جهنّم , فلو كانت الكفّارة فيه واجبةً لبيّنها وذكرها , فكان عدم ذكرها دليلاً على أنّه لا كفّارة فيه .
كما استدلوا بما روي أنّ الحارث بن سويد رضي الله عنه قتل رجلاً , فأوجب النّبي صلى الله عليه وسلم عليه القود ولم يوجب كفّارةً .
وقالوا : إنّ القتل العمد فعل يوجب القتل فلا يوجب كفّارةً , كزنا المحصن , وإنّ الكفّارة دائرة بين العبادة والعقوبة , فلا بدّ من أن يكون سببها دائراً بين الحظر والإباحة لتعلق العبادة بالمباح والعقوبة بالمحظور , وقتل العمد كبيرة محضة , فلا تناط به كسائر الكبائر , مثل الزّنا والسّرقة والرّبا , ولعدم جواز قياسه على الخطأ , لأنّه دونه في الإثم , فشرعه لدفع الأدنى لا يدل على دفع الأعلى , ولأنّ في القتل العمد وعيداً محكماً , ولا يمكن أن يقال يرتفع الإثم فيه بالكفّارة مع وجود التّشديد في الوعيد بنصّ قاطعٍ لا شبهة فيه , ومن ادّعى غير ذلك كان تحكماً منه بلا دليلٍ , ولأنّ الكفّارة من المقدّرات فلا يجوز إثباتها بالقياس على ما عرف في موضعه , ولأنّ قوله تعالى : { فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ } هو كل موجبه , وهو مذكور في سياق الجزاء للشّرط , فتكون الزّيادة عليه نسخاً , ولا يجوز نسخ القرآن بالرّأي . القول الثّاني : وجوب الكفّارة في القتل العمد , وإليه ذهب الشّافعيّة وهو رواية عن أحمد , وإليه ذهب الزهري .
واستدلوا بما روى واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال : « كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأتاه نفر من بني سليمٍ ، فقالوا : يا رسول اللّه إنّ صاحباً لنا قد أوجب فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : اعتقوا عنه رقبةً يعتق اللّه بكلّ عضوٍ منها عضواً منه من النّار » , فقد أوجب الرّسول صلى الله عليه وسلم الكفّارة فيما يستوجب النّار , ولا تستوجب النّار إلا في قتل العمد , فدلّ هذا على أنّ القتل العمد يوجب الكفّارة . كما استدلوا بأنّ الكفّارة إذا وجبت في قتل الخطأ مع عدم المأثم , فلأن تجب في العمد وقد تغلّظ بالإثم أولى , لأنّه أعظم إثماً وأكبر جرماً وحاجة القاتل إلى تكفير ذنبه أعظم .
الكفّارة في القتل بالتّسبب :
16 - اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة في القتل بالتّسبب على قولين :
فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب الكفّارة في القتل بالتّسبب .
واستدلوا بقوله تعالى : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } , فقد أوجب اللّه تعالى الكفّارة في القتل الخطأ دون تفرقةٍ بين كون القتل قد وقع على سبيل المباشرة أو التّسبب .
ولأنّه قتل آدمياً ممنوعاً من قتله لحرمته , فوجب عليه الكفّارة كما لو قتله بالمباشرة . ولأنّ السّبب كالمباشرة في إيجاب الضّمان , فكان كالمباشرة في إيجاب الكفّارة .
ولأنّ فعل القاتل سبب لإتلاف الآدميّ يتعلّق به ضمانه , فتعلّقت به الكفّارة , كما لو كان راكباً فأوطأ دابّته إنساناً .
وذهب الحنفيّة إلى عدم وجوب الكفّارة في القتل بالتّسبب , واستدلوا بأنّ الكفّارة إنّما تجب بتحقق القتل , وهذا إنّما يكون في القتل بالمباشرة , أمّا القتل بالتّسبب , فإنّه غير داخلٍ في عقده , فلم يستند الفعل إليه .
الكفّارة في الجناية على الجنين :
17 - لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الكفّارة فيما إذا ضرب بطن امرأةٍ أو ضربت امرأة بطن نفسها , أو شربت دواءً لتسقط ولدها عمداً , فألقت جنيناً حياً ثمّ مات .
وإنّما الخلاف بينهم في وجوب الكفّارة فيما إذا ألقت المرأة جنيناً ميّتاً بعدوان :
فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة , وهو قول عمر والحسن وعطاءٍ والزهريّ والنّخعيّ والحكم وحمّادٍ وإسحاق إلى وجوب الكفّارة , واستدلوا بقوله تعالى : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } , وذلك أنّ اللّه عزّ وجلّ أوجب الكفّارة في كلّ قتلٍ خطأٍ دون تفرقةٍ بين جنينٍ وغيره , والجنين مقتول , فوجب أن يدخل في هذا العموم , لأنّنا حكمنا له بالإيمان تبعاً لأبويه , فيكون داخلاً في عموم هذا النّصّ ولا يخرجه إلا دليل آخر ولم يوجد بعد , ولأنّه آدمي معصوم وبذلك قضى عمر رضي الله عنه .
وذهب الحنفيّة إلى عدم وجوب الكفّارة في الجنين , واستدلوا بما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « قضى بالغرّة في الجنين » , فقد قضى صلى الله عليه وسلم بالغرّة ولم يذكر الكفّارة , ولو وجبت الكفّارة لذكرها , لأنّ هذا بيان لحكم الشّرع ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة .
وقالوا : إنّ الكفّارة فيها معنى العقوبة , لأنّها شرعت زاجرةً , وفيها معنى العبادة , لأنّها تتأدّى بالصّوم , وقد عرف وجوبها في النّفوس المطلقة - والجنين نفس من وجهٍ دون وجهٍ- فلا يتعدّاها , لأنّ العقوبة لا يجري فيها القياس .(/6)
وإنّ الجنين جزء أو عضوٌ من وجهٍ , فلا يدخل تحت مطلق النّصّ ولهذا لم يجب فيه كل البدل , فكذا لا تجب فيه الكفّارة , لأنّ الأعضاء لا كفّارة فيها , لأنّه ارتكب محظوراً , فإذا تقرّب بها إلى اللّه تعالى كان أفضل له , ويستغفر اللّه تعالى ممّا صنع من الجريمة العظيمة .
وكذلك فإنّ القتل غير متحقّقٍ لجواز أنّ الحياة لم تخلق فيه , حيث لم تعرف حياته ولا سلامته , والكفّارة إنّما تجب بتحقق القتل .
تعدد الكفّارة بتعدد القاتل :
18 - اختلف الفقهاء في تعدد الكفّارة بتعدد القاتلين واتّحاد المقتول على قولين :
فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في الأصحّ عندهم والحنابلة إلى أنّه تجب الكفّارة على كلّ من اشترك في قتلٍ يوجب الكفّارة , وبه قال الحسن وعكرمة والنّخعي والحارث العكلي والثّوري .
واستدلوا بأنّها كفّارة وجبت لا على سبيل البدل عن النّفس , فوجب أن يكون على كلّ واحدٍ من الجماعة إذا اشتركوا في سببها , لأنّ ما كان يجب على الواحد إذا انفرد يجب على كلّ واحدٍ من الجماعة إذا اشتركوا , ككفّارة الطّيب للمحرم .
وبأنّها لا تتبعّض , وهي من موجب قتل الآدميّ , فكملت في حقّ كلّ واحدٍ من المشتركين كالقصاص .
وذهب أبو ثورٍ وعثمان البتّي إلى أنّه يجب على الجميع كفّارة واحدة , وهو حكاية عن الأوزاعيّ , وحكاه أبو الخطّاب عن أحمد .
واستدلوا بقوله تعالى : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } .
وذلك أنّ لفظة " من " تتناول كلّ قاتلٍ , الواحد والجماعة ولم توجب الآية إلا كفّارةً واحدةً وديةً , والدّية لا تتعدّد فكذلك لا تتعدّد الكفّارة .
ولأنّها كفّارة قتلٍ فلم تتعدّد بتعدد القاتلين مع اتّحاد المقتول , ككفّارة الصّيد الحرميّ .
تعدد الكفّارة بتعدد القتلى والقاتل واحد :
19 - ذهب الشّافعيّة في الصّحيح عندهم والحنابلة إلى أنّ الكفّارة تتعدّد بتعدد المقتولين , قال الشّافعيّة : لو اصطدمت حاملان وأسقطتا جنينيهما وماتتا فعلى كلٍّ منهما في تركتها أربع كفّاراتٍ على الصّحيح بناءً على أنّ الكفّارة تجب على قاتل نفسه , وأنّها لا تتجزّأ , فتجب على كلّ واحدةٍ منهما كفّارة لنفسها وثانية لجنينها وثالثة لصاحبتها ورابعة لجنينها لأنّهما اشتركتا في إهلاك أربعة أنفسٍ , ومقابل الصّحيح : تجب كفّارتان .
ثالثاً : الإفطار في نهار رمضان :
20 - لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الكفّارة على من جامع في الفرج في نهار رمضان عامداً بغير عذرٍ أنزل أم لم ينزل .
كما لا خلاف بينهم في عدم وجوبها على من جامع في الفرج في نهار رمضان لعذر كمرض ونحوه .
وإنّما الخلاف بينهم في وجوبها على من جامع فيما دون الفرج إذا اقترن به إنزال .
كما اختلفوا في وجوبها على من جامع ناسياً أو مكرهاً أو مخطئاً أو جاهلاً , وفي وجوبها بتعمد الإفطار بغير الجماع كالأكل والشرب ونحوهما لغير عذرٍ .
وسنعرض هذا الخلاف في الفروع الآتية :
الكفّارة بالوطء في الدبر :
21 - اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة بالوطء في الدبر :
فذهب مالك والشّافعي وأحمد , ورواه أبو يوسف ومحمّد عن أبي حنيفة إلى أنّه لا فرق في وجوب الكفّارة بين كون الفرج قبلاً أو دبراً , من ذكرٍ أو أنثى .
واستدلوا بأنّه أفسد صوم رمضان بجماع في الفرج فأوجب الكفّارة كالوطء .
وبأنّ الجميع وطء , ولأنّ الجميع في إيجاب الحدّ واحد , فكذلك إفساد الصّوم وإيجاب الكفّارة , وبأنّه محل مشتهىً , فتجب فيه الكفّارة كالوطء في القبل .
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنّ الوطء في الدبر لا يوجب كفّارةً , لقصور الجناية لأنّ المحلّ مستقذر , ومن له طبيعة سليمة لا يميل إليه , فلا يستدعي زاجراً , للامتناع بدونه , فصار كالحدّ في عدم الوجوب .
الكفّارة بوطء البهيمة :
22 - وجوب الكفّارة بالوطء في فرج البهيمة فيه قولان :
الأوّل : لا تجب فيه الكفّارة , وهو قول الحنفيّة وبعض الشّافعيّة والحنابلة وذكره أبو الخطّاب , وحكاه الدّارمي عن أبي عليّ بن خيران وأبي إسحاق المروزيّ .
واستدلوا : بأنّه لا نصّ فيه , ولا هو في معنى المنصوص عليه , فإنّه مخالف لوطء الآدميّة في إيجاب الحدّ وفي كثيرٍ من أحكامه .
وسواء في هذا كلّه أنزل أم لا .
الثّاني : تجب فيه الكفّارة , ذكره القاضي وهو الأصح عند الشّافعيّة , وبه قال المالكيّة , لأنّه وطء في فرجٍ موجبٍ للغسل , مفسد للصّوم , فأشبه وطء الآدميّة .
وجوب الكفّارة على من باشر فيما دون الفرج :
23 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المباشرة فيما دون الفرج إذا لم يقترن بها الإنزال لا توجب الكفّارة .
وإنّما الخلاف بينهم فيما إذا اقترن بها الإنزال على قولين :
القول الأوّل : عدم وجوب الكفّارة بالإنزال بالمباشرة فيما دون الفرج .
وإليه ذهب الحنفيّة , والشّافعيّة , وأحمد في روايةٍ .
واستدلّ الحنفيّة والشّافعيّة بأنّه أفطر بغير جماعٍ تامٍّ فأشبه القبلة , ولأنّ الأصل عدم وجوب الكفّارة , ولا نصّ في وجوبها , ولا إجماع ولا قياس , ولا يصح القياس على الجماع في الفرج , لأنّه أبلغ بدليل أنّه يوجبها من غير إنزالٍ , ويجب به الحد إذا كان محرّماً , ويتعلّق به اثنا عشر حكماً , ولأنّ العلّة في الأصل الجماع بدون الإنزال , والجماع هاهنا غير موجبٍ فلم يصحّ اعتباره به .
قال النّووي : إذا أفسد صومه بغير الجماع كالأكل والشرب , والاستمناء والمباشرات المفضيات إلى الإنزال , فلا كفّارة , لأنّ النّصّ ورد في الجماع , وهذه الأشياء ليست في معناه .(/7)
وقال الزّيلعي : ولا كفّارة بالإنزال فيما دون الفرج , لانعدام الجماع صورةً , وعليه القضاء لوجوده معنىً , والمراد بما دون الفرج غير القبل والدبر كالفخذ والإبط والبطن , وهو في معنى اللّمس والمباشرة والقبلة .
وقال : ولو أنزل بقبلة فعليه القضاء لوجود معنى الجماع وهو الإنزال بالمباشرة , دون الكفّارة لقصور الجناية , فانعدم صورة الجماع , وهذا لأنّ القضاء يكفي لوجوبه وجود المنافي صورةً أو معنىً , ولا يكفي ذلك لوجوب الكفّارة , فلا بدّ من وجود المنافي صورةً ومعنىً , لأنّها تندرئ بالشبهات , بخلاف سائر الكفّارات حيث تجب مع الشبهة .
القول الثّاني : وجوب الكفّارة بالإنزال بالمباشرة فيما دون الفرج , وهو مذهب المالكيّة , قالوا : ولو تعمّد إنزال منيٍّ بتقبيل أو مباشرةٍ أو بإدامة فكرٍ أو نظرٍ وكان عادته الإنزال . وهو قول عطاءٍ والحسن وابن المبارك وإسحاق , ورواية عن أحمد , وأبي خلفٍ الطّبريّ من تلامذة القفّال المروزيّ .
واستدلوا بأنّه فطر بجماع فأوجب الكفّارة كالجماع في الفرج .
وجوب الكفّارة على من جامع ناسياً وما أشبهه :
24 - لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الكفّارة على من جامع في القبل متعمّداً لغير عذرٍ , وإنّما الخلاف بينهم في وجوبها على من جامع ناسياً أو مخطئاً أو جاهلاً على قولين :
القول الأوّل : لا كفّارة على من جامع ناسياً أو مخطئاً أو جاهلاً .
وإليه ذهب الحنفيّة , والمالكيّة , والشّافعيّة , وبه قال : إسحاق واللّيث والأوزاعي , وهو قول ابن المنذر والحسن ومجاهدٍ والثّوريّ .
واستدلوا بقوله تعالى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ } .
وقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » .
ففي الآية والحديث نص على رفع الخطأ والنّسيان والإكراه , والمراد رفع الحكم , لأنّ كلّ واحدٍ من الثّلاثة موجود حساً , والحكم نوعان : دنيوي وهو الفساد , وأخروي وهو الإثم , ومسمّى الحكم يشملهما , فيتناول الرّفع الحكمين , فلا كفّارة عليه , لأنّ الكفّارة لرفع الإثم وهو محطوط عن النّاس .
وبما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من أفطر في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفّارة » .
والدّلالة من هذا الحديث ظاهرة في عدم وجوب الكفّارة على من أفطر في رمضان ناسياً سواء كان الفطر بالجماع أو غيره .
وبأنّ كفّارة الفطر في نهار رمضان تختلف عن سائر الكفّارات حيث تجب هذه الكفّارات مع الشبهة , أمّا كفّارة الفطر في نهار رمضان فتسقط مع الشبهة .
والفرق : أنّ الكفّارة إنّما تجب لأجل جبر الفائت , وفي الصّوم حصل الجبر بالقضاء , فكانت الكفّارة زاجرةً فقط , فشابهت الحدود فتندرئ بالشبهات .
وبقياس الجماع على الأكل والشرب , فكما أنّ من أكل أو شرب ناسياً لا تجب عليه الكفّارة , كذلك من جامع ناسياً أو مخطئاً أو جاهلاً لا تجب عليه الكفّارة .
القول الثّاني : وجوب الكفّارة على من جامع ناسياً أو مخطئاً أو جاهلاً .
وإليه ذهب الحنابلة , وهو رواية عن عطاءٍ , وهو قول ابن الماجشون وابن عبد الملك . واستدلّ الحنابلة ومن معهم بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : « بينا نحن جلوس عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا جاءه رجل فقال : يا رسول اللّه هلكت ، قال : ما لك ؟ قال : وقعت على امرأتي وأنا صائم ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : هل تجد رقبةً تعتقها ؟ قال : لا ، قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا ، قال : فهل تجد إطعام ستّين مسكيناً ؟ قال : لا ، قال : فمكث النّبي صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك ، أُتِيَ النّبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيها تمر - والعرق المكتل – قال : أين السّائل ؟ فقال : أنا ، قال : خذ هذا فتصدّق به ، فقال الرّجل : على أفقر منّي يا رسول اللّه ؟ فواللّه ما بين لابتيها - يريد الحرّتين - أهل بيتٍ أفقر من أهل بيتي ، فضحك النّبي صلى الله عليه وسلم حتّى بدت أنيابه ، ثمّ قال : أطعمه أهلك » .
فهذا الحديث نص في وجوب الكفّارة على من جامع في نهار رمضان مطلقاً , سواء أكان عامداً أم ساهياً أم جاهلاً أم مخطئاً مختاراً كان أو مكرهاً , لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يستفصل الأعرابيّ ولو اختلف الحكم بذلك لاستفصله , لأنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز , والسؤال معاد في الجواب , كأنّه قال : إذا واقعت في صوم رمضان فكفّر .
وبأنّ الصّوم عبادة يحرم الوطء فيه , فاستوى عمده وغيره كالحجّ .
وبأنّ إفساد الصّوم ووجوب الكفّارة حكمان يتعلّقان بالجماع , لا تسقطهما الشبهة , فاستوى فيهما العمد والسّهو كسائر أحكامه .
وجوب الكفّارة بتعمد الإفطار بالأكل والشرب ونحوهما :
25 - لا خلاف بين الفقهاء في عدم وجوب الكفّارة على من أكل أو شرب في نهار رمضان ناسياً أو جاهلاً أو مخطئاً .
وإنّما الخلاف بينهم في وجوبها بتعمد الأكل أو الشرب ونحوهما على قولين :
القول الأوّل : وجوب الكفّارة بتعمد الأكل والشرب ونحوهما في نهار رمضان .
وإليه ذهب الحنفيّة , والمالكيّة , وبه قال عطاء والحسن والزهري والثّوري والأوزاعي وإسحاق وأبو ثورٍ .
واستدلوا بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه : « أنّ رجلاً أفطر في رمضان فأمره عليه الصلاة والسلام أن يعتق رقبةً » .
وبما روي من قول الرّسول صلى الله عليه وسلم : « من أفطر في رمضان متعمّداً فعليه ما على المظاهر » .(/8)
ووجه الدّلالة من هذين الحديثين أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر في الحديث الأوّل من أفطر في نهار رمضان أن يعتق رقبةً دون أن يفرّق بين إفطارٍ وإفطارٍ , وجعل جزاء الفطر متعمّداً في الحديث الثّاني جزاء المظاهر مطلقاً , والمظاهر تجب عليه الكفّارة , فتجب على كلّ من أفطر بأكل أو بغيره .
وقالوا : إنّ الكفّارة تتعلّق بالإفساد لهتك حرمة الشّهر على سبيل الكمال لا بالجماع , لأنّ المحرّم هو الإفساد دون الجماع , ولهذا تجب عليه بوطء منكوحته ومملوكته إذا كان بالنّهار لوجود الإفساد , لا باللّيل لعدمه , بخلاف الحدّ , ألا ترى أنّه عليه الصلاة والسلام جعل علّةً لها بقوله : « من أفطر في رمضان . . . » الحديث , فبطل القول بتعلقها بالجماع .
ولا نسلّم أنّ شهوة الفرج أشد هيجاناً ولا الصّبر عن اقتضائه أشد على المرء , بل شهوة البطن أشد , وهو يفضي إلى الهلاك , ولهذا رخّص فيه في المحرّمات عند الضّرورة لئلا يهلك , بخلاف الفرج , ولأنّ الصّوم يضعف شهوة الفرج , ولهذا أمر عليه الصلاة والسلام العزب بالصّوم والأكل يقوّي شهوة البطن , فكان أدعى إلى الزّاجر .
القول الثّاني : عدم وجوب الكفّارة بتعمد الأكل والشرب ونحوهما في نهار رمضان .
وإليه ذهب الشّافعيّة , والحنابلة , وبه قال سعيد بن جبيرٍ والنّخعي وابن سيرين وحمّاد وداود .
واستدلوا بأنّ الأصل عدم الكفّارة إلا فيما ورد به الشّرع , وقد ورد الشّرع بإيجاب الكفّارة في الجماع , وما سواه ليس في معناه , لأنّ الجماع أغلظ , ولهذا يجب به الحد في ملك الغير , ولا يجب فيما سواه فبقي على الأصل , وإن بلغ ذلك السلطان عزّره , لأنّه محرّم ليس فيه حد ولا كفّارة , فثبت فيه التّعزير , كالمباشرة فيما دون الفرج من الأجنبيّة .
وبأنّه أفطر بغير جماعٍ , فلم يوجب ذلك الكفّارة , كبلع الحصاة أو التراب , أو كالرّدّة عند مالكٍ , ولأنّه لا نصّ في إيجاب الكفّارة بهذا , ولا إجماع .
ولا يصح قياسه على الجماع , لأنّ الحاجة إلى الزّجر عنه أمس , والحكم في التّعدّي به آكد , ولهذا يجب به الحد إذا كان محرماً ويختص بإفساد الحجّ دون سائر محظوراته , ووجوب البدنة , ولأنّه في الغالب يفسد صوم اثنين بخلاف غيره .
وجوب الكفّارة بالإكراه على الجماع :
اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة على الرّجل أو المرأة إذا أكرها على الجماع في نهار رمضان :
أ - إذا كان المكرَه رجلاً :
26 - اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة على الرّجل المكرَه على الجماع في نهار رمضان على قولين :
القول الأوّل : عدم وجوب الكفّارة على الرّجل المكره على الجماع في نهار رمضان .
وإليه ذهب الحنفيّة , والمالكيّة , والشّافعيّة , وهو رواية أبي الخطّاب عن الإمام أحمد . واستدلوا بما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » .
وبأنّ الكفّارة إمّا أن تكون عقوبةً أو ماحيةً للذّنب , ولا حاجة إليها مع إكراهٍ , لعدم الإثم فيه .
وبأنّ الشّرع لم يرد بوجوب الكفّارة فيه , ولا يصح قياسه على ما ورد الشّرع فيه , لاختلافهما في وجود العذر وعدمه .
وبأنّ فساد الصّوم يتحقّق بالإيلاج , وهو مكره فيه , لأنّه ليس كل من انتشرت آلته يجامع . القول الثّاني : وجوب الكفّارة على الرّجل المكره على الجماع في نهار رمضان .
وإليه ذهب الحنابلة , وابن الماجشون وابن عبد الملك من المالكيّة .
واستدلوا بحديث أبي هريرة قال : « بينا نحن جلوس عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا جاءه رجل فقال : يا رسول اللّه هلكت ، قال : ما لك ؟ قال : وقعت على امرأتي وأنا صائم ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : هل تجد رقبةً تعتقها ؟ قال : لا ، قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا ، قال : فهل تجد إطعام ستّين مسكيناً ؟ قال : لا ، قال : فمكث النّبي صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك ، أُتِيَ النّبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيها تمر - والعرق المكتل – قال : أين السّائل ؟ فقال : أنا ، قال : خذ هذا فتصدّق به ، فقال الرّجل : على أفقر منّي يا رسول اللّه ؟ فواللّه ما بين لابتيها - يريد الحرّتين - أهل بيتٍ أفقر من أهل بيتي ، فضحك النّبي صلى الله عليه وسلم حتّى بدت أنيابه ، ثمّ قال : أطعمه أهلك » .
ففي الحديث دلالة على وجوب الكفّارة على كلّ من جامع في نهار رمضان مختاراً كان أو مكرهاً لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يستفصل الأعرابي , ولو اختلف الحكم بذلك لاستفصله , لأنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز , والسؤال معاد في الجواب , كأنّه قال : إذا واقعت في صوم رمضان فكفّر .
وبأنّه عبادة يحرم الوطء فيه , فاستوى عمده وغيره كالحجّ .
وبأنّ الإكراه على الوطء لا يمكن , لأنّه لا يطأ حتّى ينتشر , ولا ينتشر إلا عن شهوةٍ , فكان كغير المكره , لأنّه ملتذ بالجماع , لأنّ الانتشار أمارة الاختيار .
ب - إذا كان المكره امرأةً :
27 - اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة على المرأة إذا أكرهت على الجماع في نهار رمضان على قولين :
القول الأوّل : عدم وجوب الكفّارة عليها إذا أكرهت على الجماع في نهار رمضان .
وإليه ذهب الحنفيّة , والشّافعيّة , والحنابلة , وبه قال الحسن والثّوري والأوزاعي . واستدلوا بأنّها لم يوجد منها فعل , فلم تفطر كما لو صبّ في حلقها ماء بغير اختيارها . وبأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر الأعرابيّ الّذي واقع إلا بكفّارة واحدةٍ , مع مساس الحاجة إلى البيان .(/9)
وبأنّ صوم المرأة ناقص , لأنّه يعرض أن يبطل بعروض الحيض , وإذا كان كذلك لم يكن كامل الحرمة , فلم تتعلّق به الكفّارة .
وبأنّ الواجب لو تعلّق بها لأمرت بإخراجه , فعدم أمرها بإخراجه دليل على عدم وجوبه . القول الثّاني : وجوب الكفّارة على المرأة المكرَهة على الجماع في نهار رمضان ويتحمّلها الزّوج عنها .
وإليه ذهب المالكيّة , والشّافعيّة في مقابل الأصحّ عندهم .
واستدلّ المالكيّة ومن وافقهم بأنّ الزّوج بإكراه زوجته على الجماع في نهار رمضان , أوجب على الزّوجة ما لم يكن واجباً عليها , فيتحمّله هو , وتلزمه الكفّارة عنها
وجوب الكفّارة على من طلع عليه الفجر وهو مجامع :
فرّق الفقهاء بين النّزع في الحال مع أوّل طلوع الفجر , وبين استدامة الجماع , وخصوا كلّ حالةٍ بأحكامها .
أ - النّزع مع أوّل طلوع الفجر :
28 - اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة على من نزع مع أوّل طلوع الفجر على قولين : القول الأوّل : لا كفّارة عليه .
وإليه ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة , وبه قال أبو حفصٍ من الحنابلة .
واستدلوا بأنّ النّزع ترك للجماع , فلا يتعلّق به ما يتعلّق بالجماع , لأنّ ما تعلّق بفعل شيءٍ لا يتعلّق بتركه , كما لو حلف لا يدخل داراً وهو فيها , فخرج منها , أو حلف لا يلبس هذا الثّوب وهو عليه فبدأ ينزعه , فلا يحنث فكذلك ها هنا .
وبأنّ الإنزال من مباشرةٍ مباحةٍ , فلم يجب فيه شيء , كما لو قطع يد رجلٍ قصاصاً فمات المقتص منه .
وبأنّ ذلك ممّا لا يستطاع الامتناع عنه , وممّا لا يمكن التّحرز عنه فكان عفواً .
القول الثّاني : عليه الكفّارة .
وبه قال ابن حامدٍ والقاضي وجمهور الحنابلة , وزفر من الحنفيّة .
واستدلوا بأنّه في حال النّزع مباشر للجماع , لأنّ النّزع جماع يتلذّذ به , فتعلّق به ما يتعلّق بالاستدامة .
ب - استدامة الجماع مع طلوع الفجر:
29 - اختلف الفقهاء في الواجب على من طلع عليه الفجر وهو مجامع , فاستدام الجماع على قولين :
القول الأوّل : عليه كفّارة .
وإليه ذهب : المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
واستدلوا بأنّه منع صوم يومٍ من رمضان بجماع من غير عذرٍ , فأثم به لحرمة الصّوم , فوجبت عليه الكفّارة , كما لو وطئ بعد طلوع الفجر أو في أثناء النّهار .
وبأنّ ابتداء الفعل هنا لم يتعلّق به كفّارة , فوجبت الكفّارة باستدامته , لئلا يخلو جماع في نهار رمضان عمداً من كفّارةٍ .
القول الثّاني : لا كفّارة عليه .
وإليه ذهب الحنفيّة .
واستدلوا بأنّ الموجب للكفّارة عندهم هو الفطر على وجهٍ تتكامل به الجناية وذلك لم يوجد فيما إذا طلع الفجر , وهو مخالط لأهله , فداوم على ذلك , لأنّ شروعه في الصّوم لم يصحّ مع المجامعة , والفطر إنّما يكون بعد الشروع في الصّوم , ولم يوجد .
وقالوا أيضاً : ولئن كان الموجب للكفّارة الجماع المعدم للصّوم فالجماع هو إدخال الفرج في الفرج , ولم يوجد منه بعد التّذكر ولا بعد طلوع الفجر إدخال الفرج في الفرج , وإنّما وجد منه الاستدامة وذلك غير الإدخال , ألا ترى أنّ من حلف لا يدخل داراً وهو فيها لم يحنث وإن مكث في الدّار ساعةً , فهذا مثله .
ج - كفّارة من جامع يظن عدم طلوع الفجر :
30 - اختلف الفقهاء فيما يجب على من جامع وهو يظن أنّ الفجر لم يطلع بعد , فتبيّن أنّه قد طلع , على مذهبين :
المذهب الأوّل : لا كفّارة عليه .
وإليه ذهب الحنفيّة , والمالكيّة , والشّافعيّة , وبه قال ابن عبّاسٍ ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم , وعطاء , وسعيد بن جبيرٍ , ومجاهد والثّوري والزهري , وأبو ثورٍ , وإسحاق بن راهويه , وعروة بن الزبير والحسن .
واستدلوا بما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » .
ولأنّ الكفّارة لرفع المأثم وهو محطوط عن المخطئ .
وبأنّه جامع وهو يعتقد أنّه يحل له ذلك , وكفّارة الصّوم عقوبة تجب مع المأثم , فلا تجب مع اعتقاد الإباحة كالحدّ , لأنّه معذور .
وأنّه بنى الأمر على الأصل , فلا تجب الكفّارة لتصور الجناية لأنّه لم يتعمّد انتهاك حرمة الصّوم بالجماع .
المذهب الثّاني : عليه الكفّارة .
وإليه ذهب الحنابلة .
واستدلوا بحديث المجامع المذكور آنفاً حيث أمره النّبي صلى الله عليه وسلم بالتّكفير من غير تفريقٍ ولا تفصيلٍ .
وبأنّه أفسد صوم رمضان بجماع تامٍّ , فوجبت الكفّارة كما لو علم .
أثر العارض في سقوط الكفّارة :
31 - اختلف الفقهاء في سقوط الكفّارة عمّن جامع في أوّل النّهار , ثمّ مرض أو جنّ , أو كانت امرأة فحاضت أو نفست في أثناء النّهار على قولين :
القول الأوّل : عدم سقوط الكفّارة بحدوث العارض .
وإليه ذهب المالكيّة , والحنابلة , والشّافعيّة في الأظهر , وبه قال اللّيث وإسحاق , وابن أبي ليلى , وأبو ثورٍ .
واستدلوا بأنّه معنى طرأ بعد وجوب الكفّارة , فلم يسقطها كالسّفر .
وبأنّه أفسد صوماً واجباً في رمضان بجماع تامٍّ , فاستقرّت الكفّارة عليه كما لو لم يطرأ عذر .
وأنّه قصد هتك حرمة الصّوم أوّلاً بما فعل .
القول الثّاني : سقوط الكفّارة بحدوث العارض , وإليه ذهب الحنفيّة وبه قال الثّوري , وهو القول الآخر عند الشّافعيّة .
واستدلوا بأنّ المرض الطّارئ يبيح الفطر , فتبيّن به أنّ الصّوم لم يقع مستحقاً , لأنّ المرض معنىً يوجب تغير الطّبيعة إلى الفساد , يحدث أوّلاً في الباطن , ثمّ يظهر أثره , فلمّا مرض في ذلك اليوم , ظهر أنّه كان المرخّص موجوداً وقت الفطر , فمنع انعقاده موجباً للكفّارة .
وبأنّ وجود أصل المرض شبهة , والكفّارة لا تجب معها .(/10)
وبأنّ الحيض دم يجتمع في الرّحم شيئاً فشيئاً , حتّى يتهيّأ للبروز فلمّا برز من يومه , ظهر تهيؤُه ويجب الفطر , أو تهيؤُ أصله فيورث الشبهة .
وبأنّ الجنون ينافي الصّوم , فتبيّن بعروضه أنّه لم يكن صائماً في ذلك اليوم .
إلا أنّ الحنفيّة خصوا ذلك بالعارض السّماويّ الّذي لا صنع له فيه ولا في سببه فإن كان العارض بصنعه كالسّفر وجرح نفسه فالمعتمد لزومها .
وجوب الكفّارة بالجماع في صوم غير رمضان :
32 - لا خلاف بين الفقهاء في عدم وجوب الكفّارة على من جامع في صوم التّطوع , أو في صومٍ هو كفّارة الجماع .
وإنّما الخلاف بينهم في وجوبها على من جامع في صوم قضاء رمضان , أو صوم النّذر , على ثلاثة أقوالٍ :
القول الأوّل : لا كفّارة عليه مطلقاً .
وإليه ذهب الحنفيّة , والمالكيّة , والشّافعيّة , والحنابلة .
واستدلوا بأنّ الكفّارة وردت في هتك حرمة رمضان , إذ لا يجوز إخلاؤُه عن الصّوم بخلاف غيره من الزّمان .
وبأنّه جامع في غير رمضان , فلم تلزمه الكفّارة , كما لو جامع في صيام الكفّارة , ويفارق القضاء الأداء , لأنّه متعيّن بزمان محترمٍ فالجماع فيه هتك له , بخلاف القضاء .
القول الثّاني : وجوب الكفّارة على من أفسد قضاء رمضان بالجماع , وبه قال قتادة . واستدلّ على وجوب الكفّارة على من جامع في قضاء رمضان بالمعقول فقال : إنّ قضاء رمضان عبادة تجب الكفّارة في أدائها , فوجبت في قضائها كالحجّ .
القول الثّالث : تجب الكفّارة على من أفطر عامداً في نذر صوم الدّهر كلّه .
وإليه ذهب سحنون , وابن الماجشون من المالكيّة .
واستدلوا بأنّه لمّا أفطر متعمّداً فيما لا يجبر بقضاء , أشبه الفطر في رمضان متعمّداً , فإنّه لا يجبر بقضاء , إذ قد جاء فيه أنّه لا يقضيه بصيام الدّهر وإن صامه .
تعدد الكفّارة بتعدد الجماع في نهار رمضان :
33 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من تكرّر جماعه في نهار يومٍ واحدٍ من رمضان قبل تكفيره , فإنّ الواجب عليه كفّارة واحدة .
كما لا خلاف بينهم في أنّ من كفّر , ثمّ جامع ثانيةً في يومٍ آخر فإنّ الواجب عليه كفّارة ثانية .
وإنّما الخلاف بينهم في تعدد الكفّارة على من جامع في يومين ولم يكفّر .
كما اختلفوا في تعدد الكفّارة على من جامع ثمّ كفّر , ثمّ جامع ثانيةً في نفس اليوم , وإليك ما قاله الفقهاء في ذلك :
أ - تعدد الكفّارة على من جامع في يومين ولم يكفّر :
34 - إذا جامع في يومين من رمضان ولم يكفّر , فقد اختلف الفقهاء فيما يلزمه بذلك على قولين :
القول الأوّل : تلزمه كفّارتان .
وإليه ذهب المالكيّة , والشّافعيّة , وهو قول اللّيث وابن المنذر , وروي ذلك عن عطاءٍ ومكحولٍ , واختاره القاضي وأحمد في أصحّ الرّوايتين عنه .
وقد استدلّ الجمهور بأنّ صوم كلّ يومٍ عبادة منفردة , فإذا وجبت الكفّارة بإفساده , لم تتداخل كفّاراتها , كرمضانين , وكالحجّتين , وكالعمرتين .
القول الثّاني : تجزئه كفّارة واحدة .
وإليه ذهب الحنفيّة , وبه قال الزهري والأوزاعي , وهو ظاهر إطلاق الخرقيّ , واختيار أبي بكرٍ من الحنابلة .
واستدلّ الحنفيّة ومن معهم بأنّها جزاء عن جناياتٍ تكرّر سببها قبل استيفائها فيجب أن تتداخل كالحدّ .
ب - تعدد الكفّارة على من جامع فكفّر ثمّ جامع ثانيةً في نفس اليوم :
35 - إذا جامع في نهار رمضان فكفّر , ثمّ جامع ثانيةً في نفس اليوم فقد اختلف الفقهاء فيما يلزمه بالجماع الثّاني على قولين :
القول الأوّل : لا شيء عليه بذلك الجماع .
وإليه ذهب الحنفيّة , والمالكيّة , والشّافعيّة .
واستدلوا بأنّ الجماع الثّاني لم يصادف صوماً منعقداً , ولم يمنع صحّته , فلم يوجب شيئاً كالجماع في اللّيل , بخلاف الجماع الأوّل .
القول الثّاني : تلزمه كفّارة ثانية , نصّ عليه أحمد .
واستدلّ الحنابلة بأنّ الصّوم في رمضان عبادة تجب الكفّارة بالجماع فيها , فتكرّرت بتكرر الوطء إذا كان بعد التّكفير كالحجّ .
وبأنّه وطء محرّم لحرمة رمضان فأوجب الكفّارة كالأوّل , وفارق الوطء في اللّيل فإنّه غير محرّمٍ .
من تقيّأ عمداً في نهار رمضان :
36 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من ذرعه القيء , لا قضاء عليه ولا كفّارة , وإنّما الخلاف بينهم في وجوب الكفّارة على من تقيّأ عمداً في نهار رمضان على قولين :
القول الأوّل : لا كفّارة عليه , وإنّما عليه القضاء .
وإليه ذهب : الحنفيّة , والمالكيّة , والشّافعيّة , والحنابلة , وبه قال علي وابن عمر وزيد ابن أرقم وعلقمة والزهري وإسحاق والثّوري والأوزاعي .
واستدلوا بما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمداً فليقض » .
ووجه الدّلالة من هذا الحديث : أنّه نص في وجوب القضاء على من استقاء دون الكفّارة , لأنّها لو كانت واجبةً لبيّنها الرّسول صلى الله عليه وسلم لأنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .
وبأنّ الإفطار عمداً في نهار رمضان لم يتحقّق صورةً فقصرت , فانتفت الكفّارة , لأنّ الكفّارة أقصى عقوبةٍ في الإفطار , فيحتاج إلى كمال الجناية , لأنّ في نقصانها شبهة العدم وهي تندرئ بالشبهات .
القول الثّاني : عليه القضاء والكفّارة , وبه قال عطاء وأبو ثورٍ .
رابعاً : محظورات الحجّ أو الإحرام :
37 - قد يعرض لقاصد الحجّ ما يمنعه من إتمامه أو الإتيان به على الوجه الأكمل , كمرض أو عذرٍ أو موتٍ , أو فوات وقتٍ أو تجاوز ميقاتٍ أو غير ذلك , ولجبر ذلك شرعت الكفّارة , والكفّارات الواجبة في ذلك إمّا منصوص عليها , وإمّا غير منصوصٍ عليها .(/11)
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( الإحرام ف 145 - 185 وإحصار ف 33 وحرم ف 13 ) .
تعدد الجزاء بتعدد الصّيد :
38 - لا خلاف بين الفقهاء في تحريم قتل الصّيد والدّلالة عليه في الحرم , كما لا خلاف بينهم على أنّ المحرم إذا قتل الصّيد , أو اصطاد أو دلّ عليه فعليه الجزاء للنّصّ على ذلك . وإنّما اختلف الفقهاء في تعدد الجزاء بتعدد الصّيد على قولين :
القول الأوّل : في كلّ صيدٍ جزاء , وإليه ذهب الحنفيّة , والمالكيّة , والشّافعيّة , وهو أظهر الرّوايتين عن الإمام أحمد وبه قال الثّوري وإسحاق وابن المنذر .
واستدلوا بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } .
ووجه الدّلالة من الآية : أنّها أوجبت الجزاء على العامد بعمومها , وذكر العقوبة في الثّانية لا يمنع الوجوب , كما قال اللّه تعالى : { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
فأثبت أنّ العائد لو انتهى كان له ما سلف وأمره إلى اللّه .
يقول النّووي : وفي هذه الآية دلالتان :
الأولى : أنّ لفظ الصّيد إشارة إلى الجنس , لأنّ الألف واللام يدخلان للجنس أو للعهد , وليس في الصّيد معهود , فتعيّن الجنس وأنّ الجنس يتناول الجملة والأفراد , فقوله تعالى : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم } يعود إلى جملة الجنس وآحاده .
الثّانية : أنّ اللّه تعالى قال : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } وحقيقة المماثلة : أن يفدي الواحد بواحد , والاثنين باثنين , والمائة بمائة , ولا يكون الواحد من النّعم مثلاً لجماعة صيود .
وقالوا إنّ الصّيد نفس تضمن بالكفّارة , فتكرّرت بتكرر القتل , فيستوي فيه المبتدئ والعائد كقتل الآدميّ .
وإنّها غرامة متلفٍ يجب به المثل أو القيمة , فتكرّر بتكرر الإتلاف , كما في الآدميّ .
وإنّه لا يصح قياس جزاء الصّيد على غيره , لأنّ جزاءه مقدّر به ويختلف بصغره وكبره , وإنّما يقاس على من أتلف صيدين معاً , حيث يجب جزاؤُهما عليه , وكذلك إذا تفرّقا .
قال القاضي أبو الطّيّب : ولأنّا أجمعنا على أنّه لو قتل صيدين دفعةً واحدةً لزمه جزاءان , فإذا تكرّر قتلهما معاً , وجب تكرره بقتلهما مرتّباً كالعبدين وسائر الأموال .
القول الثّاني : يجب الجزاء بالصّيد الأوّل دون ما بعده , وهذا مروي عن ابن عبّاسٍ , وبه قال شريح والحسن وسعيد بن جبيرٍ ومجاهد والنّخعي وقتادة وهي الرّواية الثّانية عن أحمد. وعن أحمد رواية أخرى : إن كفّر عن الأوّل فعليه الكفّارة , وإلا فلا شيء للثّاني . واستدلوا بقوله تعالى : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ } ووجه الدّلالة من هذه الآية : أنّ اللّه تعالى علّق وجوب الجزاء على لفظ " مَن " .
قالوا : وما علّق على لفظ " مَن " لا يقتضي تكراراً , كما لو قال : من دخل الدّار فله درهم , أو من دخلت الدّار فهي طالق فإذا تكرّر دخوله لم يستحقّ إلا درهماً بالدخول الأوّل , وإذا تكرّر دخولها لا يقع إلا طلقة بالدخول الأوّل , فلا يتكرّر الجزاء بتكرار القتل , ولأنّ اللّه تعالى قال : { وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ } , ولم يرتّب على العود غير الانتقام , إذ لو كان تكرر الجزاء واجباً لرتّبه على العود مع الانتقام , فكان عدم ذكره دليلاً على عدم وجوبه وتكرره .
صيد حرم المدينة :
39 - اختلف الفقهاء في وجوب الجزاء بقتل صيد حرم المدينة على قولين :
القول الأوّل : لا جزاء فيه .
وإليه ذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو قول الشّافعيّ في الجديد , والرّواية الأولى عن الإمام أحمد .
واستدلوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « المدينة حرم ما بين عيرٍ إلى ثورٍ فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين لا يقبل اللّه منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً » .
ووجه الدّلالة من الحديث : أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنّ المدينة حرم , وبأنّ كلّ من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً استحق الطّرد من رحمة اللّه واستحق الوعيد الشّديد , ولم يذكر كفّارةً , ولو كانت الكفّارة واجبةً لذكرها لأنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .
وبما روي من أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أعطى بعض الصّبيان بالمدينة طائراً , فطار من يده , فجعل يتأسّف على ذلك , ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « يا أبا عميرٍ ما فعل النغير » - اسم ذلك الطّير وهو طير صغير مثل العصفور - فهذا الحديث يدل على عدم وجوب الجزاء بصيد حرم المدينة , لأنّه لو كان لصيد المدينة حرمة الحرم , لما ناوله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صبياً .
وقالوا : إنّ هذه بقعة يجوز دخولها بغير إحرامٍ فلا يجب بصيد حرمها جزاء قياساً على سائر البلدان , بخلاف الحرم فإنّه ليس لأحد أن يدخله إلا محرماً .
القول الثّاني : وجوب الجزاء بقتل صيد حرم المدينة , وهذا مروي عن ابن أبي ذئبٍ وابن المنذر , وهو قول الشّافعيّ في القديم , والرّواية الثّانية عن الإمام أحمد .
واستدلوا بما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّ إبراهيم حرّم مكّة ودعا لأهلها وإنّي حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكّة » .(/12)
ووجه الدّلالة : أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنّه حرّم المدينة , كما حرّم إبراهيم مكّة , فيجب في قتل صيده الجزاء كما يجب في قتل صيد حرم مكّة , لاستوائهما في التّحريم .
تعدد الجزاء بقتل الصّيد والأكل منه :
40 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المحرم إذا قتل صيداً أو ذبحه فأكل منه أثم .
وإنّما الخلاف بينهم في الجزاء الواجب عليه , إذا قتل صيداً أو ذبحه فأكل منه على قولين : القول الأوّل : عليه جزاء واحد .
وإليه ذهب المالكيّة , والشّافعيّة , والحنابلة , وصاحبا أبي حنيفة .
واستدلوا بأنّه صيد مضمون بالجزاء , فلم يضمن ثانياً كما لو أتلفه بغير الأكل .
وبالقياس على صيد الحرم إذا قتله أو أكله .
وبالقياس على ما لو قتله محرم آخر , ثمّ أكل هذا منه .
وبأنّ تحريم أكله لكونه ميتةً , فأشبه سائر الميتات , لأنّ الميتة لا تضمن بالجزاء , وإنّما توجب الاستغفار .
القول الثّاني : عليه جزاءان .
وبه قال أبو حنيفة , وعطاء .
واستدلا بأنّ قتل هذا الصّيد من محظورات إحرامه , والقتل غير مقصودٍ لعينه بل للتّناول من الصّيد , فإذا كان ما ليس بمقصود من محظورات إحرامه يلزمه الجزاء به , فما هو مقصود بذلك أولى .
منشأ الخلاف بين الفقهاء :
ويرجع سبب اختلاف الفقهاء في ذلك إلى اختلافهم في اعتبار أكل الصّيد تعدّياً ثانياً عليه سوى تعدّي القتل أم لا ؟
وإذا كان تعدّياً فهل هو مساوٍ للتّعدّي الأوّل أم لا ؟ .
وقد استدلّ كل فريقٍ بأدلّة تؤيّد ما ذهب إليه .
الجزاء في إتلاف بيض الصّيد :
41 - اختلف الفقهاء في ضمان بيض الصّيد المحرّم على المحرم إذا كسره على قولين : القول الأوّل : وجوب الجزاء فيه .
وإليه ذهب الحنفيّة , والمالكيّة , والشّافعيّة , والحنابلة .
وقال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إنّ الجزاء في إتلاف المحرم بيض الصّيد هو القيمة واستدلوا بما روي من أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « في بيض النّعام يصيبه المحرم ثمنه » , ولأنّ البيض لا مثل له فتجب قيمته , فإن لم تكن له قيمة لكونه مذراً فلا شيء فيه , إلا بيض النّعام فإنّ لقشره قيمةً في الجملة .
وقال المالكيّة : إنّ الجزاء الواجب في إتلاف بيض الصّيد هو عشر قيمة أمّه .
القول الثّاني : لا جزاء في إتلاف المحرم بيض الصّيد , وبه قال المزني من الشّافعيّة واستدلّ بأنّه لا روح فيه فلا جزاء عليه .
إزالة الشّعر :
42 - لا خلاف بين الفقهاء في تحريم إزالة الشّعر قبل التّحلل وأنّه يجب به الفدية والتّفصيل في مصطلح : ( إحرام ف 155 ) .
ما يجب على المحرم بلبس المخيط , وإماطة الأذى من غير ضرورةٍ :
43 - اختلف الفقهاء فيما يجب على المحرم بلبس المخيط وما في معناه وإماطة الأذى من غير ضرورةٍ على قولين :
القول الأوّل : عليه الفدية المنصوص عليها .
وإليه ذهب : المالكيّة , والشّافعيّة , والحنابلة , وبه قال الأوزاعي .
القول الثّاني : عليه دم فقط .
وبه قال الحنفيّة , وهو مروي عن ابن عبّاسٍ ورواية عن الإمام أحمد .
والتّفصيل في مصطلح : ( إحرام ف 152 - 159 ) .
الكفّارات الواجبة بالجماع ودواعيه :
44 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الجماع من مفسدات الحجّ لقوله سبحانه وتعالى : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } .
كما لا خلاف بينهم في أنّ من وطئ قبل الوقوف بعرفة فقد أفسد حجّه , وعليه الكفّارة , وكذلك من وطئ من المعتمرين قبل أن يطوف ويسعى ، ولا خلاف بينهم أيضاً في وجوب الكفّارة بالوطء قبل التّحلل الأكبر في الفرج أو دونه , من آدميٍّ أو بهيمةٍ , أنزل أو لم ينزل .
كما لا خلاف بينهم في وجوب الكفّارة بمباشرة مقدّمات الجماع من القبلة واللّمس والنّظر وتكراره وغيرها من محظورات الإحرام .
وإنّما الخلاف بينهما في وجوب الكفّارة على المرأة إذا طاوعته وفي تعدد الكفّارة بتعدد الجماع ودواعيه وأثر النّسيان والجهل في سقوطها .
وجوب الكفّارة على المرأة الموطوءة :
45 - اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة على المرأة إذا طاوعت زوجها على الوطء على قولين :
القول الأوّل : وجوب الكفّارة عليها كما هي واجبة عليه .
وإليه ذهب الحنفيّة , والمالكيّة , والحنابلة , وبه قال ابن عبّاسٍ وسعيد بن المسيّب والنّخعي والضّحّاك , والحكم وحمّاد وهو قول للشّافعيّة حكاه الخراسانيون .
واستدلوا بما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال : اهد ناقةً ولتهد ناقةً .
ولأنّها أحد المتجامعين من غير إكراهٍ , فلزمها الكفّارة كالرّجل .
القول الثّاني : عدم وجوب الكفّارة عليها , ويجزئهما كفّارة واحدة .
وإليه ذهب أكثر الشّافعيّة وهو الأصح , وروي ذلك عن عطاءٍ , وهو رواية عن الإمام أحمد .
واستدلوا بأنّه جماع واحد فلم يوجب أكثر من كفّارةٍ واحدةٍ كحالة الإكراه .
تعدد الكفّارة بتعدد الجماع ودواعيه :
46 - لا خلاف بين جمهور الفقهاء في تعدد الكفّارة إذا كان الوطء الثّاني بعد التّكفير عن الأوّل .
وإنّما الخلاف بينهم في تعدد الكفّارة بتعدد الجماع ودواعيه قبل التّكفير على قولين :
القول الأوّل : عدم تعدد الكفّارة بتعدد الجماع أو دواعيه .
وإليه ذهب المالكيّة , والحنابلة , وقول للشّافعيّة , وروي ذلك عن عطاءٍ , وبه قال محمّد ابن الحسن من الحنفيّة .
واستدلوا بأنّه جماع موجب للكفّارة , فإذا تكرّر قبل التّكفير عن الأوّل , لم يوجب كفّارةً ثانيةً كالصّيام .
وأنّه إذا لم يكفّر عن الأوّل , تتداخل كفّارته , كما يتداخل حكم المهر والحدّ .
القول الثّاني : تعدد الكفّارة بتعدد الجماع أو دواعيه .(/13)
وإليه ذهب الحنفيّة وهو المشهور عند الشّافعيّة , ورواية عن الإمام أحمد .
واستدلوا بأنّ كلّ وطءٍ سبب للكفّارة بانفراده , فأوجبها كالوطء الأوّل .
وأنّ الإحرام ووجوب الفدية باقيان بارتكاب سائر المحظورات , بخلاف الصّوم , فإنّه بالجماع الأوّل قد خرج عنه .
أثر النّسيان والجهل في سقوط الكفّارة :
47 - اختلف الفقهاء في سقوط الكفّارة عمّن جامع ناسياً أو جاهلاً لإحرامه على قولين : القول الأوّل : عدم سقوط الكفّارة بالجهل أو النّسيان .
وإليه ذهب الحنفيّة , والمالكيّة , والحنابلة , وهو قول الشّافعيّ في القديم .
واستدلوا بأنّ الوطء لا يكاد يتطرّق النّسيان إليه بخلاف غيره .
وأنّ الجماع مفسد للصّوم دون غيره , فاستوى عمده وسهوه , بخلاف ما دونه .
وأنّه سبب يتعلّق به وجوب القضاء في الحجّ , فاستوى عمده وسهوه كالفوات .
وبعدم القياس فيه على الصّوم , لأنّه قياس مع الفارق , فإنّ الصّوم يحصل الفطر فيه قبل تمام حقيقة الجماع , وغير الجماع في الصّوم لا يوجب الكفّارة , وإنّما تجب الكفّارة بخصوص الجماع فافترقا .
وأنّ الحكم تعلّق بعين الجماع , لأنّ المنهيّ عنه في الإحرام الرّفث والرّفث اسم للجماع , وبسبب النّسيان لا ينعدم عين الجماع , وهذا لأنّه قد اقترن بحالة ما يذكره , وهو هيئة المحرمين , فلا يعذر بالنّسيان كما في الصّلاة إذا أكل أو شرب , بخلاف الصّوم فإنّه لم يقترن بحالة ما يذكره , فجعل النّسيان فيه عذراً في المنع من إفساده , بخلاف القياس . القول الثّاني : سقوط الكفّارة عن الجاهل والنّاسي .
وبه قال الشّافعي في الجديد , وهو الأصح عندهم .
واستدلوا بأنّ الحجّ عبادة تتعلّق الكفّارة بإفسادها فيختلف حكمها بالعمد والسّهو كالصّوم .
مجاوزة الميقات بدون إحرامٍ :
48 - لا خلاف بين الفقهاء في تحريم مجاوزة الميقات بدون إحرامٍ سواء كان من أهل تلك النّاحية أو من غيرها , كالشّاميّ يمر بميقات المدينة , وسواء تجاوزه عالماً به أو جاهلاً , علم تحريم ذلك أو جهله , وأنّه يلزمه العود إليه والإحرام منه إن لم يكن له عذر , ولا خلاف بينهم في أنّ من جاوز الميقات بدون إحرامٍ ثمّ عاد إليه قبل أن يحرم فأحرم منه فإنّه لا كفّارة عليه .
وإنّما الخلاف بينهم في وجوب الكفّارة على من جاوز الميقات بدون إحرامٍ ثمّ أحرم على ثلاثة أقوالٍ :
القول الأوّل : عليه الدّم مطلقاً , أي وإن رجع إلى الميقات .
وإليه ذهب المالكيّة , والحنابلة , وابن المبارك , وهو رواية عن الثّوريّ , وبه قال زفر من الحنفيّة .
واستدلوا بما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من ترك نسكاً فعليه دم » , ولأنّه أحرم دون ميقاته فاستقرّ عليه الدّم كما لو لم يرجع .
ولأنّ وجوب الدّم بجنايته على الميقات بمجاوزته إيّاه من غير إحرامٍ , وجنايته لا تنعدم بعوده فلا يسقط الدّم الّذي وجب .
القول الثّاني : وجوب الكفّارة إن أحرم وتلبّس بنسك ثمّ رجع إلى الميقات , فإن لم يتلبّس ورجع إلى الميقات فأحرم منه سقط الدّم عنه في الأصحّ عند الشّافعيّة .
وهو قول أبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة .
واستدلوا على سقوط الدّم إذا لم يتلبّس بنسك بأنّه قطع المسافة من الميقات محرماً وأدّى المناسك كلّها بعده فكان كما لو أحرم منه .
وبأنّ الواجب عليه أن يكون محرماً عند الميقات لا أن ينشئ الإحرام عند الميقات فإنّه لو أحرم قبل أن ينتهي إلى الميقات ثمّ مرّ بالميقات محرماً ولم يلبّ عند الميقات لا يلزمه شيء وكذلك إذا عاد إلى الميقات بعد ما أحرم ولم يلبّ لأنّه تدارك ما هو واجب عليه وهو كونه محرماً عند الميقات .
وعلّلوا عدم سقوط الدّم بعد تلبسه بنسك بأنّ النسك تؤدّى بإحرام ناقصٍ .
القول الثّالث : عدم وجوب الكفّارة إن رجع قبل أن يتلبّس بأعمال الحجّ ولبّى , فإن تلبّس أو رجع ولم يلبّ كان عليه الدّم , وبه قال أبو حنيفة , واستدلّ بما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنه أنّه قال لذلك الرّجل ارجع إلى الميقات وإلا فلا حجّ لك .
ولأنّ المعنى فيه أنّه لمّا انتهى إلى الميقات حلالاً وجب عليه التّلبية عند الميقات والإحرام , فإذا ترك ذلك بالمجاوزة حتّى أحرم وراء الميقات , ثمّ عاد فإن لبّى فقد أتى بجميع ما هو المستحق عليه , فيسقط عنه الدّم , وإن لم يلبّ فلم يأت بجميع ما استحق عليه .
وهذا بخلاف من أحرم قبل أن ينتهي إلى الميقات , لأنّ ميقاته هناك موضع إحرامه , وقد لبّى عنده , فقد خرج الميقات المعهود من أن يكون ميقاتاً للإحرام في حقّه , فلهذا لا يضره ترك التّلبية عنده , بخلاف ما نحن فيه .
وجوب الكفّارة على من غسل رأسه بالخطميّ والسّدر :
49 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز اغتسال المحرم بالماء والانغماس فيه للنّصّ .
كما لا خلاف بينهم في كراهية غسل الرّأس واللّحية بالسّدر والخطميّ ونحوهما .
وإنّما الخلاف بينهم في وجوب الفدية على من غسل رأسه ولحيته بهما أو بأيّهما على قولين :
القول الأوّل : عدم وجوب الفدية .
وإليه ذهب الشّافعيّة , والحنابلة , وبه قال أبو ثورٍ وابن المنذر والثّوري .
واستدلوا بما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال في المحرم الّذي وقصه بعيره : « اغسلوه بماء وسدرٍ ، وكفّنوه في ثوبين - أو قال : ثوبيه - ولا تحنّطوه ، ولا تخمّروا رأسه ، فإنّ اللّه يبعثه يوم القيامة ملبّياً » فقد أمر الرّسول صلى الله عليه وسلم بغسله بالسّدر مع إثبات حكم الإحرام في حقّه , والخطمي كالسّدر , فلا فدية في غسل الرّأس أو اللّحية بهما .(/14)
وقالوا إنّه ليس بطيب , فلم تجب الفدية باستعماله كالتراب .
القول الثّاني : وجوب الفدية .
وإليه ذهب الحنفيّة , والمالكيّة , وهو رواية عن الإمام أحمد .
واستدلوا بأنّ الخطميّ من الطّيب , فله رائحة وإن لم تكن زكيّة , وهو يقتل الهوامّ أيضاً فتتكامل الجناية باعتبار المعنيين , فلهذا يلزمه الدّم .
شم العصفر واستعماله :
50 - اختلف الفقهاء في وجوب الفدية باستعمال العصفر أو ما صبغ به على قولين :
القول الأوّل : عدم وجوب الفدية باستعمال العصفر أو ما صبغ به .
وإليه ذهب المالكيّة , والشّافعيّة , والحنابلة , وهو قول جابرٍ وابن عمر وعبد اللّه بن جعفرٍ وعقيل بن أبي طالبٍ , ورواية عن عائشة وأسماءٍ رضي الله عنهم .
واستدلوا بما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينهى النّساء في إحرامهنّ عن القفّازين والنّقاب وما مسّ الورس والزّعفران من الثّياب , ولتلبس بعد ذاك ما أحبّت من ألوان الثّياب , من معصفرٍ أو خزٍّ أو حليٍّ أو سراويل , أو خفٍّ أو قميصٍ .
وبما روي عن عائشة بنت سعدٍ قالت : « كنّ أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم يحرمن في المعصفرات » .
فقد أباح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للمرأة أن تلبس ما أحبّت من ألوان الثّياب المعصفرة وهي محرِمة , فدلّ ذلك على أنّه لا فدية في لبسه .
ولأنّه قول جماعةٍ من الصّحابة , ولم يعرف لهم مخالف , فكان إجماعاً .
ولأنّه ليس بطيب , فلم يكره ما صبغ به كالسّواد والمصبوغ بالمغرة , ولا يقاس على الورس والزّعفران , لأنّ كلاً منهما طيب بخلاف مسألتنا .
القول الثّاني : وجوب الفدية باستعمال العصفر أو ما صبغ به .
وإليه ذهب الحنفيّة , وبه قال الثّوري .
واستدلوا بما رواه علي رضي الله تعالى عنه : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القسيّ المعصفر » .
وبالقياس على المورّس والمزعفر , لأنّه صبغ طيّب الرّائحة فأشبه ذلك .
وجوب الفدية بلبس السّراويل عند عدم الإزار :
51 - المحرم ممنوع من لبس القمص والعمائم والسّراويلات والخفاف والبرانس وتجب به الفدية , لأنّه فعل محظور في الإحرام فتجب به الفدية كالحلق .
واختلف الفقهاء في وجوب الفدية على من لبس السّراويل عند عدم الإزار على قولين : القول الأوّل : عدم وجوب الفدية .
وإليه ذهب الشّافعيّة , والحنابلة , وبه قال عطاء وعكرمة والثّوري , وإسحاق وأبو ثورٍ وغيرهم .
واستدلوا بما رواه ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات يقول : « من لم يجد النّعلين فليلبس الخفّين ، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل » .
وهو صريح في الإباحة , ظاهر في إسقاط الفدية , لأنّه أمر بلبسه ولم يذكر فيه فديةً .
كما يقتضي تجويز اللبس عند فقد الإزار , والأصل في مباشرة الجائزات نفي المؤاخذة , فدلّ هذا على عدم وجوب الفدية باستعمال السّراويل للمحرم عند عدم وجود الإزار .
وقالوا : لبس السّراويل مختص بحالة عدم وجود غيره " الإزار " فلم تجب به فدية , قياساً على من عدم النّعلين , فإنّ له لبس الخفّين المقطوعين , ولا فدية عليه بالاتّفاق , والفرق بينه وبين ما قاسوا عليه من تحريم لبس القميص إذا لم يجد الرّداء لا يجب عليه لبسه , فلا ضرورة إليه , بخلاف الإزار فإنّه يجب لبسه لستر العورة , فإذا لم يجد عدل إلى السّراويل ولأنّ السّراويل لا يمكنه أن يتّزر به , ويمكنه أن يرتدي القميص " لذا قلنا " لو أمكنه أن يتّزر بالسّراويل لم يجز لبسه .
وقالوا إنّ حديث عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما الّذي ورد فيه النّهي مطلقاً عن لبس هذه الأشياء عام مخصوص بحديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما فيحمل العام على الخاصّ . القول الثّاني : وجوب الفدية .
وإليه ذهب الحنفيّة والمالكيّة .
واستدلوا بالقياس على لبس القميص , فكما يحرم لبسه إذا لم يجد الرّداء وتجب الفدية به , فكذا السّراويل إذا لم يجد الإزار فإنّه تجب الفدية بلبسه .
لبس الخفّين لعدم النّعلين :
52 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز لبس الخفّين عند عدم النّعلين .
وإنّما الخلاف بينهم في وجوب الفدية على من لم يقطعهما إذا لبسهما لعدم النّعلين , وفي وجوبها على من لبسهما مقطوعين مع وجود النّعلين .
وجوب الكفّارة لعدم قطع الخفّين :
53 - اختلف الفقهاء في وجوب الفدية على من لم يقطع الخفّين عند لبسهما لعدم النّعلين على قولين :
القول الأوّل : وجوب الفدية بعدم قطع الخفّين .
وإليه ذهب الحنفيّة , والمالكيّة , والشّافعيّة , وهو الرّواية الثّانية عن الإمام أحمد , وبه قال عروة بن الزبير والنّخعي والثّوري وإسحاق وابن المنذر وهو مروي عن عمر بن الخطّاب وعبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما .
واستدلوا بما روي عن ابن عمر أنّ رجلاً سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم : ما يلبس المحرم من الثّياب ؟ فذكر الحديث إلى أن قال صلى الله عليه وسلم : « إلا أحد لا يجد النّعلين فليلبس الخفّين وليقطعهما أسفل من الكعبين » .
وهو نص في وجوب قطع الخفّين , لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بقطعهما , والأمر للوجوب , فإذا لم يقطعه فقد خالف واجباً من واجبات الحجّ , فتجب عليه الفدية , كما أنّه تضمّن زيادةً على حديث ابن عبّاسٍ , والزّيادة من الثّقة مقبولة .
القول الثّاني : عدم وجوب الفدية بعدم قطع الخفّين .
وإليه ذهب الحنابلة , وهو قول عطاءٍ وعكرمة وسعيد بن سالم القدّاح , وهو مروي عن عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنهما وهو الرّواية المشهورة عن أحمد .(/15)
واستدلوا بحديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « السّراويل لمن لم يجد الإزار والخفّان لمن لم يجد النّعلين » .
وعن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من لم يجد نعلين فليلبس خفّين ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل » .
فقد أباح النّبي صلى الله عليه وسلم لبس الخفّين مطلقاً لمن لم يجد النّعلين , والسّراويل لمن لم يجد الإزار , فدلّ هذا بعمومه على عدم وجوب الفدية على من لم يقطع الخفّين , إذا لبسهما عند عدم النّعلين , ويؤيّد هذا قول عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه قطع الخفّين فساد ، يلبسهما كما هما .
وقالوا إنّه ملبوس أبيح لعدم غيره , فأشبه السّراويل .
وإن قطعه لا يخرجه عن حالة الحظر , فإنّ لبس المقطوع محرّم مع القدرة على النّعلين كلبس الصّحيح .
وإنّ في القطع إتلاف المال وإضاعته , وقد نهى النّبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال .
لبس الخفّين مقطوعين مع وجود النّعلين :
54 - اختلف الفقهاء في وجوب الفدية على من لبس الخفّين مقطوعين مع وجود النّعلين على قولين :
القول الأوّل : وجوب الفدية بلبس المقطوع مع وجود النّعل .
وإليه ذهب المالكيّة , والحنابلة , وهو الأصح عند الشّافعيّة وبه قال أبو ثورٍ .
واستدلوا بالأحاديث السّابقة المرويّة عن ابن عمر وابن عبّاسٍ وجابرٍ رضي الله عنهم , فقد شرط النّبي صلى الله عليه وسلم في إباحة لبس الخفّين عدم النّعلين , فدلّ هذا على أنّه لا يجوز اللبس مع وجودهما .
وقالوا : إنّه مخيط لعضو على قدره , فوجبت على المحرم الفدية بلبسه كالقفّازين , ولأنّه يترفه بلبس الخفّين في دفع الحرّ والبرد والأذى , فتجب به الفدية .
القول الثّاني : عدم وجوب الفدية بلبس المقطوع مع وجود النّعل .
وإليه ذهب الحنفيّة , وبه قال بعض الشّافعيّة .
واستدلوا بأنّه صار كالنّعل بدليل عدم جواز المسح عليه لأنّه بالقطع صار في معنى النّعلين لأنّه لا يستر الكعب .
لبس القفّازين :
55 - لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الفدية على الرّجل بلبس القفّازين .
وإنّما الخلاف بينهم في وجوبها على المرأة إذا لبست القفّازين على قولين :
القول الأوّل : وجوب الفدية على المرأة بلبس القفّازين .
وإليه ذهب المالكيّة , والحنابلة , وهو الأصح عند الشّافعيّة , وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والنّخعي وإسحاق .
واستدلوا بما روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفّازين » .
والحديث نص في تحريم لبس القفّازين على المرأة في حال إحرامها , ويلزم منه وجوب الفدية عليها , لأنّها لبست ما نهيت عن لبسه في الإحرام , فلزمتها الفدية كالنّقاب .
وقالوا : إنّ اليد عضو لا يجب على المرأة ستره في الصّلاة , فلا يجوز لها ستره في الإحرام كالوجه .
وإنّ الرّجل لمّا وجب عليه كشف رأسه تعلّق حكم إحرامه بغيره , فمنع من لبس المخيط في سائر بدنه , كذلك المرأة لمّا لزمها كشف وجهها , ينبغي أن يتعلّق حكم الإحرام بغير ذلك البعض , وهو اليدان .
وإنّ الإحرام تعلّق بيدها تعلقه بوجهها , لأنّ واحداً منهما ليس بعورة .
القول الثّاني : عدم وجوب الفدية على المرأة إذا لبست القفّازين .
وإليه ذهب الحنفيّة , وهو قول للشّافعيّة , وروي ذلك عن عليٍّ وعائشة وسعد بن أبي وقّاصٍ رضي الله عنهم , وبه قال الثّوري .
واستدلوا بما روي أنّه صلى الله عليه وسلم قال : « إحرام المرأة في وجهها » .
وهو صريح في أنّ إحرام المرأة الّذي يجب كشفه إلا لضرورة هو وجهها , وهذا يدل على عدم وجوب الفدية بتغطية ما عدا الوجه لأنّه خصّ الوجه بالحكم , فدلّ على أنّ ما عداه بخلافه .
وبما روي عن سعد بن أبي وقّاصٍ رضي الله عنه أنّه كان يلبس بناته القفّازين وهنّ محرمات .
وقالوا : إنّه عضوٌ يجوز ستره بغير المخيط , فجاز ستره به كالرّجلين .
تخمير المحرم وجهه :
56 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ إحرام المرأة في وجهها , وأنّ لها أن تغطّي رأسها وتستر شعرها , كما لا خلاف بينهم في أنّ الرّجل المحرم لا يخمّر رأسه .
وإنّما الخلاف في وجوب الفدية على الرّجل المحرم بتخمير وجهه على قولين :
القول الأوّل : عدم وجوب الفدية بتخمير الوجه .
وإليه ذهب الشّافعيّة , والحنابلة , وروي ذلك عن عثمان بن عفّان وعبد الرّحمن بن عوفٍ وزيد بن ثابتٍ وابن الزبير وسعد بن أبي وقّاصٍ وجابرٍ رضي الله عنهم والقاسم وطاوسٍ والثّوريّ وأبي ثورٍ .
واستدلوا بما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إحرام المرأة في وجهها وإحرام الرّجل في رأسه » .
وبما روي في حديث ابن عبّاسٍ المذكور آنفاً أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في الرّجل الّذي وقصه بعيره : « خمّروا وجهه ولا تخمّروا رأسه » .
وبما روي أنّ عثمان بن عفّان وزيد بن ثابتٍ رضي الله عنهما ومروان بن الحكم كانوا يخمّرون وجوههم وهم حرم .
وبما ورد عن عبد اللّه بن عامر بن ربيعة قال : رأيت عثمان بن عفّان بالعرج وهو محرم في يومٍ صائفٍ قد غطّى وجهه بقطيفة أرجوانٍ .
يقول ابن قدامة : فبهذا عمل عثمان بن عفّان وزيد بن ثابتٍ ومروان بن الحكم , وهو قول غيرهم ممّن سمّينا من الصّحابة , ولم يعرف لهم مخالف , فكان إجماعاً .
القول الثّاني : وجوب الفدية بتخمير الوجه .
وإليه ذهب الحنفيّة , والمالكيّة , وهو الرّواية الثّانية عن الإمام أحمد .(/16)
واستدلوا بما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما : أنّ رجلاً وقع عن راحلته - وهو محرم - فوقصته , فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « اغسلوه بماء وسدرٍ ، وكفّنوه في ثوبيه ، ولا تخمّروا رأسه ولا وجهه ، فإنّه يبعث يوم القيامة يلبّي » .
فهو نص في أنّ المحرم لا يغطّي رأسه ولا وجهه , فمن فعل خلاف ذلك يكون مرتكباً لمحظور تجب به الفدية .
وروى مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ ما فوق الذّقن من الرّأس لا يخمّره المحرم . وقالوا : إنّ المرأة يحرم عليها تغطية وجهها في إحرامها , فيحرم على الرّجل تغطية رأسه .
خامساً : كفّارة الظّهار :
57 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المسلم الحرّ إذا قال لامرأته : أنت عليّ كظهر أمّي , يكون مظاهراً منها , ويلزمه للعود إليها كفّارة الظّهار .
كما لا خلاف بينهم في عدم وجوب الكفّارة بالظّهار المعلّق على شرطٍ إلا إذا تحقّق الشّرط . ولا خلاف بينهم في أنّ من ظاهر من أربع نسوةٍ له بكلمة واحدةٍ أو بكلمات يكون مظاهراً منهنّ جميعاً .
ولا خلاف بينهم في تعدد الكفّارة على من ظاهر من زوجته فكفّر ثمّ ظاهر .
ولا خلاف بينهم على توافر شرط القدرة على أداء الكفّارة .
ولا خلاف بينهم أيضاً على أنّ المظاهر يحرم عليه وطء زوجته قبل التّكفير , وعلى أنّ من جامع قبل التّكفير يكون آثماً وعاصياً لمخالفته أمر اللّه عزّ وجلّ : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } . واختلفوا فيما عدا ذلك على تفصيلٍ ينظر في مصطلح : ( ظهار ف 8 وما بعدها ) .
وجوب الكفّارة على المرأة إذا ظاهرت من زوجها :
58 - اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة على المرأة إذا ظاهرت من زوجها كأن تقول لزوجها : أنت عليّ كظهر أبي , أو تقول : إن تزوّجت فلاناً فهو عليّ كظهر أبي , وذلك على ثلاثة أقوالٍ :
القول الأوّل : عدم وجوب الكفّارة عليها لعدم صحّة الظّهار منها .
وإليه ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة , وهو رواية عند الحنابلة , وبه قال إسحاق وأبو ثورٍ والثّوري وسالم ويحيى بن سعيدٍ وربيعة وأبو الزّناد .
واستدلوا بقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ } ووجه الدّلالة من الآية : أنّ الخطاب فيها موجّه للرّجال , وليس للنّساء , لأنّ اللّه عزّ وجلّ قال : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ } ولم يقل : واللائي تظاهرن منكم من أزواجهنّ , فدلّ ذلك على أنّ الظّهار إنّما هو خاص بالرّجال .
وقالوا إنّ الظّهار قول يوجب التّحريم في الزّوجة , ويملك الزّوج رفعه , لأنّه مختص بالنّكاح , فاختصّ به الرّجل دون المرأة , لأنّها لا تملك التّحريم بالقول كالطّلاق .
وأضافوا إنّ الحلّ والعقد - التّحليل والتّحريم - في النّكاح بيد الرّجال وليس بيد المرأة منه شيء , فهو حق للرّجل , فلم تملك المرأة إزالته كسائر حقوقه .
القول الثّاني : إنّه ليس بظهار وهذا عند الحنابلة .
قال القاضي : لا تكون مظاهرةً رواية واحدة , واختلف عن أحمد في الكفّارة .
فنقل عنه جماعة : عليها كفّارة الظّهار لما روى الأثرم بإسناده عن إبراهيم أنّ عائشة بنت طلحة قالت : إنّي تزوّجت مصعب بن الزبير فهو عليّ كظهر أبي , فسألت أهل المدينة فرأوا أنّ عليها الكفّارة , ولأنّها زوج أتى بالمنكر من القول والزور فلزمه كفّارة الظّهار . والرّواية الثّانية عن أحمد : ليس عليها كفّارة , لأنّه قول منكر وزور وليس بظهار , فلم يوجب كفّارةً .
والرّواية الثّالثة , عليها كفّارة اليمين : قال ابن قدامة وهذا أقيس على مذهب أحمد وأشبه بأصوله , لأنّه ليس بظهار , ومجرّد القول من المنكر والزور لا يوجب كفّارة الظّهار . القول الثّالث : إنّه ظهار وعليها كفّارة الظّهار , وهذا قول أبي يوسف والحسن بن زيادٍ , لأنّ المعنى في جانب الرّجل تشبيه المحلّلة بالمحرّمة وذلك يتحقّق في جانبها , والحل مشترك بينهما .
سقوط الكفّارة بالاستثناء بالمشيئة :
59 - اختلف الفقهاء في سقوط الكفّارة بالاستثناء بالمشيئة في الظّهار على قولين :
القول الأوّل : سقوط الكفّارة بالاستثناء بالمشيئة في الظّهار وعدم انعقاده .
وإليه ذهب الحنفيّة , والشّافعيّة , والحنابلة , وبه قال أبو ثورٍ واستدلوا بما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من حلف فاستثنى فإن شاء مضى وإن شاء ترك غير حنثٍ ». وفي لفظٍ : « من حلف على يمينٍ فقال إن شاء اللّه فقد استثنى فلا حنث عليه » .
وجه الدّلالة من هذا الحديث : أنّه يدل بعمومه على أنّ قصد التّعليق بالمشيئة يمنع الانعقاد في الطّلاق والظّهار وغيرهما من الأيمان لأنّها داخلة في عموم الحديث .
واستدلوا بقياس الظّهار على اليمين باللّه تعالى بجامع التّكفير في كلٍّ , ولمّا كانت اليمين باللّه تعالى يصح الاستثناء فيها ويمنع انعقادها , فكذلك الظّهار .
القول الثّاني : عدم سقوط الكفّارة بالاستثناء بالمشيئة في الظّهار لانعقاده وإليه ذهب المالكيّة .
واستدلوا بأنّ الطّلاق والعتاق والمشي والصّدقة , وكذلك الظّهار , ليست أيماناً شرعيّةً , بل هي إلزامات , بدليل أنّ حروف القسم لا تدخل عليها وأنّ الحلف بها ممنوع , فلو قال : يلزمه الطّلاق إن شاء اللّه , أو يلزمه الظّهار إن شاء اللّه .
لزمه ولا اعتبار لمشيئته .
سقوط الكفّارة بمضيّ الوقت في الظّهار المؤقّت :
60 - اختلف الفقهاء في سقوط الكفّارة بمضيّ الوقت في الظّهار المؤقّت كأن يقول الزّوج : أنت عليّ كظهر أمّي شهراً , أو حتّى ينسلخ الشّهر أو شهر رمضان على تفصيلٍ ينظر في : ( ظهار ف 6 ) .
تعدد الكفّارة بتعدد الظّهار :(/17)
اختلف الفقهاء في تعدد الكفّارة على من ظاهر من زوجته مراراً ولم يكفّر , وفي تعددها , على من ظاهر من أربع نسوةٍ له بلفظ واحدٍ أو بكلمات .
أ - تعدد الكفّارة على من ظاهر من امرأته مراراً ولم يكفّر :
61 - اختلف الفقهاء في تعدد الكفّارة على من ظاهر من زوجته مراراً ولم يكفّر على قولين :
القول الأوّل : عدم تعدد الكفّارة على من ظاهر من زوجته مراراً ولم يكفّر مطلقاً سواء كان في مجلسٍ أو في مجالس , نوى بذلك التّأكيد أو الاستئناف أو أطلق .
وإليه ذهب المالكيّة , والحنابلة , وبه قال عطاء وجابر بن زيدٍ وطاوس والشّعبي والزهري وإسحاق وأبو عبيدٍ وأبو ثورٍ , واختاره أبو بكرٍ وابن حامدٍ والقاضي , وروي ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه , وهو قول الشّافعيّ في القديم .
واستدلوا بقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ }. ففيها دلالة على عدم تعدد الكفّارة على من ظاهر من زوجته مراراً , لأنّها عامّة تتناول من ظاهر مرّةً واحدةً , ومن ظاهر مراراً كثيرةً , فإنّ اللّه تعالى أوجب عليه تحرير رقبةٍ فتبيّن بذلك أنّ التّكفير الواحد كافٍ في الظّهار , سواء كان مرّةً واحدةً أم مراراً كثيرةً .
كما استدلوا بأنّه قول لم يؤثّر تحريماً في الزّوجة , لأنّها قد حرمت بالقول الأوّل , فلم تجب به كفّارة الظّهار كاليمين باللّه تعالى .
وأنّه لفظ يتعلّق به كفّارة , فإذا كرّره كفاه واحدة , كاليمين باللّه تعالى .
القول الثّاني : تعدد الكفّارة على من ظاهر من زوجته مراراً ولم يكفّر إذا لم يرد به التّأكيد . وإليه ذهب الحنفيّة , وروي ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه , وعمرو بن دينارٍ وقتادة . واستدلّ هؤُلاء بقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } .
وجه الدّلالة من الآية : أنّها تفيد تعدد الكفّارة بتعدد الظّهار لأنّها تقتضي كون الظّهار علّةً لإيجاب الكفّارة , فإذا وجد الظّهار الثّاني وجدت علّة وجوب الكفّارة , وهذا الظّهار الثّاني : إمّا أن يكون علّةً للكفّارة الأولى , أو لكفّارة ثانيةٍ والأوّل باطل لأنّ الكفّارة الأولى وجبت بالظّهار الأوّل , فتكوين الكائن محال , كما أنّ تأخر العلّة عن الحكم محال , فثبت أنّ الظّهار الثّاني يوجب كفّارةً ثانيةً .
كما استدلوا بقياس الظّهار على الطّلاق , فإذا نوى الاستئناف تعلّق بكلّ مرّةٍ حكم كالطّلاق . وأنّ كلّ ظهارٍ يوجب تحريماً لا يرتفع إلا بالكفّارة , فيجب في كلّ ظهارٍ كفّارة .
وأنّ تكرار الظّهار في امرأةٍ واحدةٍ كتكرار اليمين , فكما يجب باعتبار كلّ يمينٍ كفّارةً , فكذلك يجب باعتبار كلّ ظهارٍ كفّارةً .
وإنّما اشترطوا أن لا يقصد به التّأكيد , لأنّ الإنسان قد يكرّر اللّفظ , ويقصد به التّغليظ والتّشديد دون إرادة التّجديد .
ولأنّ الظّهار لا يوجب نقصان العدد في الطّلاق , لأنّه ليس بطلاق ولا يوجب البينونة وإن طالت المدّة , كما أنّه لا يوجب زوال الملك وإنّما يحرم الوطء قبل التّكفير مع قيام الملك . وفصّل الشّافعيّة فقالوا : لو كرّر لفظ الظّهار في امرأةٍ واحدةٍ تكريراً متّصلاً وقصد به تأكيداً فظهار واحد , وإن قصد به استئنافاً فالأظهر الجديد التّعدد , وإن فصل بين ألفاظ الظّهار المكرّر وقصد بتكرير الظّهار استئنافاً فالأظهر التّعدد وكذا لو قصد تأكيداً فإنّه لا يقبل في الأصحّ .
ب - تعدد الكفّارة على من ظاهر من أربع نسوةٍ له بلفظ واحدٍ :
62 - اختلف الفقهاء في تعدد الكفّارة على من ظاهر من أربع نسوةٍ له بلفظ واحدٍ على قولين :
القول الأوّل : عدم تعدد الكفّارة على من ظاهر من أربع نسوةٍ له بلفظ واحدٍ .
وإليه ذهب المالكيّة , والحنابلة , وهو قول عليٍّ وعمر وعروة وطاوسٍ وعطاءٍ وربيعة والأوزاعيّ وإسحاق وأبي ثورٍ , والشّافعيّ في القديم .
وقيّد المالكيّة عدم التّعدد بما إذا لم ينو كفّاراتٍ وإلا تعدّدت .
واستدلّ هذا الفريق بما حكي من عموم قول عمر وعليٍّ رضي الله عنهم حيث قالا : إذا كان تحت الرّجل أربع نسوةٍ فظاهر منهنّ يجزيه كفّارة واحدة , رواه الدّارقطنيّ عن ابن عبّاسٍ عن عمر - رضي اللّه عنهم جميعاً - ورواه الأثرم عن عمر وعليٍّ رضي الله عنهم ولا نعرف لهما في الصّحابة مخالفاً , فكان إجماعاً .
وقالوا : إنّها يمين واحدة , فلم يجب بها أكثر من كفّارةٍ واحدةٍ كاليمين باللّه تعالى .
وإنّ الظّهار كلمة تجب بمخالفتها الكفّارة , فإذا وجدت في جماعةٍ أوجبت كفّارةً واحدةً كاليمين باللّه تعالى .
وإنّ الظّهار هاهنا بكلمة واحدةٍ , والكفّارة الواحدة ترفع حكمها وتمحو إثمها , فلا يبقى لها حكم .
القول الثّاني : تعدد الكفّارة بتعدد النّسوة اللائي ظاهر منهنّ بلفظ واحدٍ .
وإليه ذهب الحنفيّة , والشّافعي في الجديد , وبه قال الحسن , والنّخعي والزهري ويحيى الأنصاري والحكم والثّوريّ .
واستدلوا بقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } .
ووجه الدّلالة من هذه الآية أنّها أفادت تعدد الكفّارة بتعدد اللّواتي ظاهر منهنّ , لأنّها تقتضي كون الظّهار علّةً لإيجاب الكفّارة , فإذا وجد الظّهار وجدت علّة وجوب الكفّارة , فإذا ظاهر منهنّ بكلمة واحدةٍ لزمه كفّارات بعدد اللّواتي ظاهر منهنّ .(/18)
وبيانه : أنّه ظاهر من هذه , فلزمه كفّارة بسبب هذا الظّهار , وظاهر أيضاً من الثّانية , فالظّهار الثّاني لا بدّ وأن يوجب كفّارةً أخرى وهكذا .
وقالوا إنّ الظّهار يوجب تحريماً مؤقّتًا يرتفع بالكفّارة , فإذا أضافه إلى محالٍّ مختلفةٍ , يثبت في كلّ محلٍّ حرمة لا ترتفع إلا بالكفّارة كالتّطليقات الثّلاث لما كانت توجب حرمةً مؤقّتةً ترتفع بزوج آخر , فإذا أوجبها في أربع نسوةٍ بكلمة واحدةٍ , تثبت في حقّ كلّ واحدةٍ منهنّ حرمة لا ترتفع إلا بزوج .
وإنّ الظّهار وإن كان بكلمة واحدةٍ , فإنّها تتناول كلّ واحدةٍ منهنّ على حيالها , فصار مظاهراً من كلّ واحدةٍ منهنّ , والظّهار لا يرتفع إلا بالكفّارة , فإذا تعدّد التّحريم تتعدّد الكفّارة .
وإنّه وجب الظّهار والعود في حقّ كلّ امرأةٍ منهنّ , فوجب عليه عن كلّ واحدةٍ كفّارة , كما لو أفردها به .
ج - تعدد الكفّارة على من ظاهر من نسائه بكلمات :
63 - اختلف الفقهاء في تعدد الكفّارة على من ظاهر من نسائه بكلمات , كأن قال لكلّ واحدةٍ منهنّ : أنت عليّ كظهر أمّي , على قولين :
القول الأوّل : تعدد الكفّارة على من ظاهر من نسائه بكلمات .
وإليه ذهب الحنفيّة , والمالكيّة , والحنابلة , والشّافعيّة .
وبه قال عروة وعطاء والأوزاعي وإسحاق والثّوري وأبو ثورٍ , والحكم ويحيى الأنصاري , وعامّة فقهاء الأمصار .
وفصّل الشّافعيّة فقالوا : لو ظاهر من نسائه الأربع بأربع كلماتٍ فإن لم يوالها كان مظاهراً منهنّ لوجود لفظ الظّهار الصّريح , فإن أمسكهنّ زمناً يسع طلاقهنّ فعائد منهنّ , وتجب عليه أربع كفّاراتٍ لوجود الظّهار والعود في حقّ كلّ واحدةٍ منهنّ .
وإن والاها صار بظهار الثّانية عائداً في الأولى , وبظهار الثّالثة عائداً في الثّانية وبظهار الرّابعة عائداً في الثّالثة , فإن فارق الرّابعة عقب ظهارها فعليه ثلاث كفّاراتٍ , وإلا فأربع . واستدلوا بأنّها أيمان متكرّرة على أعيانٍ متفرّقةٍ فكان لكلّ واحدةٍ كفّارة كما لو كفّر ثمّ ظاهر .
وأنّها أيمان لا يحنث في إحداها بالحنث في الأخرى , فلا تكفّرها كفّارة واحدة كالأصل .
وأنّ الظّهار معنىً يوجب الكفّارة , فتتعدّد الكفّارة بتعدده في المحالّ المختلفة كالقتل .
القول الثّاني : لا تتعدّد الكفّارة وتجزئه كفّارة واحدة .
قال أبو بكرٍ : هو رواية ثانية عن أحمد واختارها , وقال : هذا الّذي قلناه اتّباعاً لعمر بن الخطّاب والحسن وعطاءٍ وإبراهيم وربيعة وقبيصة .
واستدلوا بأنّ كفّارة الظّهار حق للّه تعالى فلم تتكرّر بتكرر سببها كالحدّ .
د - تعدد الكفّارة بالوطء قبل التّكفير :
64 - اختلف الفقهاء في تعدد الكفّارة بالجماع قبل التّكفير , وعدم تعددها على قولين : القول الأوّل : عدم تعدد الكفّارة بالجماع قبل التّكفير .
وإليه ذهب جمهور الفقهاء : الحنفيّة والمالكيّة , والشّافعيّة , والحنابلة , وروي ذلك عن سعيد بن المسيّب وعطاءٍ وطاوسٍ وجابر بن زيدٍ ومورّقٍ العجليّ وأبي مجلزٍ والنّخعيّ وعبد اللّه بن أذينة والثّوريّ والأوزاعيّ وإسحاق وأبي ثورٍ .
واستدلوا بقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } .
فهذه الآية قد دلّت على تعدد الكفّارة بالجماع قبل التّكفير لأنّها أفادت أنّه يجب على المظاهر كفّارة قبل العود , فإذا جامع قبل التّكفير فقد فاتت صفة القبليّة , فيبقى أصل الوجوب , ولأنّه لا دلالة فيها على أنّ ترك تقديم الكفّارة على الجماع , يوجب كفّارةً أخرى .
كما استدلوا بما روي : « أنّ رجلاً ظاهر من زوجته فوقع عليها قبل أن يكفّر , فقال له النّبي صلى الله عليه وسلم : ما حملك على هذا ؟ فقال : رأيت خلخالها في ضوء القمر ، فقال له الرّسول صلى الله عليه وسلم : فاعتزلها حتّى تكفّر عنك » .
فهذا الحديث نص في عدم تعدد الكفّارة بالوطء قبل التّكفير , لأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم أمره باعتزال زوجته حتّى يكفّر ولم يأمره بتكرار التّكفير لجماعه زوجته قبل أن يكفّر عن ظهاره , وإنّما أمره أن يكفّر تكفيراً واحداً , إذ لو كان الواجب متعدّداً لبيّنه له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأنّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة .
القول الثّاني : تعدد الكفّارة بالجماع قبل التّكفير .
وبه قال عمرو بن العاص وسعيد بن جبيرٍ وقبيصة بن ذؤيبٍ والزهري وقتادة وابن شهابٍ وعبد الرّحمن بن مهديٍّ .
واستدلوا بأنّ الكفّارة الأولى للظّهار الّذي اقترن به العود , والثّانية وجبت للوطء المحرّم , كالوطء في نهار رمضان .
وبأنّ الكفّارة تتعدّد عقوبةً له على إقدامه على الحرام .
وجوب الكفّارة بمجرّد الظّهار دون العود :
65 - اختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة بمجرّد الظّهار دون العود على قولين :
القول الأوّل : عدم وجوب الكفّارة دون العود .
وإليه ذهب الحنفيّة , والمالكيّة , والشّافعيّة , والحنابلة , وبه قال عطاء والنّخعي والأوزاعي والثّوري والحسن وأبو عبيدٍ .
واستدلوا بقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } .
ووجه الدّلالة من الآية : أنّها نص في معنى وجوب تعلق الكفّارة بالعود , لأنّ الكفّارة وجبت في الآية بأمرين هما : ظهار وعود , فلا تثبت بأحدهما .
وبقياس كفّارة الظّهار على كفّارة اليمين , فكما أنّ الكفّارة في اليمين إنّما تلزم بالمخالفة أو بإرادة المخالفة , فكذلك الأمر في الظّهار .(/19)
وبأنّ الكفّارة في الظّهار كفّارة يمينٍ , فلا يحنث بغير الحنث كسائر الأيمان , والحنث فيها هو العود .
القول الثّاني : وجوب الكفّارة بمجرّد الظّهار دون العود وبه قال طاوس ومجاهد والشّعبي والزهري وقتادة .
واستدلوا بقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } .
ووجه الدّلالة من الآية : أنّها تفيد وجوب الكفّارة بمجرّد الظّهار , لأنّ اللّه عزّ وجلّ قال : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } والعود : هو العود بالظّهار في الإسلام , لأنّ معنى الآية : أنّ الظّهار كان طلاق الجاهليّة , فنسخ تحريمه بالكفّارة .
وقالوا : إنّ الظّهار سبب للكفّارة , وقد وجد فتجب الكفّارة وأنّه معنىً يوجب الكفّارة العليا , فوجب أن يوجبها بنفسه لا بمعنى زائدٍ , تشبيهاً بكفّارة القتل والفطر .
وإنّ الكفّارة وجبت لقول المنكر والزور , وهذا يحصل بمجرّد الظّهار .
العود الموجب للكفّارة :
66 - اختلف الفقهاء في بيان معنى العود على أربعة أقوالٍ :
القول الأوّل : العود هو العزم على الوطء .
وإليه ذهب الحنفيّة , وهي الرّواية الصّحيحة المشهورة عند أصحاب مالكٍ وبه قال القاضي وأصحابه .
القول الثّاني : العود هو الوطء .
وإليه ذهب الحنابلة , وحكي ذلك عن الحسن وطاوسٍ والزهريّ وهو رواية عن مالكٍ لكنّها ضعيفة عند أصحابه .
القول الثّالث : العود هو أن يمسكها في النّكاح زمناً يمكنه فيه مفارقتها , وإليه ذهب الشّافعيّة .
القول الرّابع : العود هو تكرار لفظ الظّهار وإعادته .
وإليه ذهب بكير بن الأشجّ وأبو العالية , وهو قول الفرّاء .
وقد استدلّ أصحاب القول الأوّل : بقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } .
ووجه الدّلالة من الآية أنّها نص في وجوب الكفّارة عند العزم على الوطء , كأنّه تعالى قال : إذا عزمت على الوطء فكفّر قبله , كما قال سبحانه وتعالى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } .
وقالوا : إنّه قصد بالظّهار تحريمها , فالعزم على وطئها عود فيما قصد .
وإنّ الظّهار تحريم , فإذا أراد استباحتها فقد رجع في ذلك التّحريم , فكان عائداً .
وإنّ المفهوم من الظّهار هو أنّ وجوب الكفّارة فيه , إنّما يكون بإرادته العودة إلى ما حرّم على نفسه بالظّهار , وهو الوطء , وإذا كان ذلك كذلك , وجب أن تكون العودة إمّا الوطء نفسه , أو العزم عليه وإرادته .
واستدلّ أصحاب القول الثّاني : بأنّ العود فعل ضد قوله , ومنه العائد في هبته هو الرّاجع في الموهوب , والعائد في عدته : التّارك للوفاء بها , والعائد فيما نهي عنه : فاعل المنهيّ عنه , قال تعالى : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ } فالمظاهر محرّم للوطء على نفسه , ومانع لها منه , فالعود فعله , أي فعل الوطء الّذي حرّمه على نفسه بظهاره .
وبأنّ الظّهار يمين مكفّرة , فلا تجب الكفّارة بالحنث فيها , وهو فعل ما حلف على تركه كسائر الأيمان وإنّما تجب بالوطء , لأنّها يمين تقتضي ترك الوطء , فلا تجب كفّارتها إلا به كالإيلاء .
واستدلّ أصحاب القول الثّالث : بأنّه لمّا ظاهر فقد قصد التّحريم , فإن وصل ذلك بالطّلاق , فقد تمّم ما شرع فيه من التّحريم , ولا كفّارة عليه , فإذا سكت عن الطّلاق , فذلك يدل على أنّه ندم على ما ابتدأ به من التّحريم , فحينئذٍ تجب عليه الكفّارة .
واستدلّ أصحاب القول الرّابع : بقوله تعالى : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } .
وهذه الآية تدل على أنّ العود هو إعادة ما فعلوه , وهذا لا يكون إلا بالتّكرار , لأنّ العود في الشّيء إعادته .
وقالوا إنّ الّذي يعقل من لغة العرب في العود إلى الشّيء , إنّما هو فعل مثله مرّةً ثانيةً , كما قال تعالى : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } , كما أنّ العود في القول عبارة عن تكراره , قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ } فكان معنى قوله : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } أي يرجعون إلى القول الأوّل فيكرّرونه .
وقد اتّفق أهل التّأويل على أنّ عودهم لما نهوا عنه , هو إتيانهم مرّةً ثانيةً بمثل ما نهوا عنه , وما فعلوه أوّل مرّةٍ .
شروط الكفّارة :
ذكر الفقهاء للكفّارة شروطاً عامّةً وأخرى خاصّةً تتعلّق بكلّ سببٍ من أسبابها :
أوّلاً : الشروط العامّة في الكفّارات :
يشترط في الكفّارات عموماً شروط , منها :
الشّرط الأوّل : النّيّة :
67 - اتّفق الفقهاء على اشتراط النّيّة في الكفّارة لصحّتها ولهم في ذلك تفصيل :
فقال الحنفيّة : من وجبت عليه كفّارتا ظهارٍ فأعتق رقبتين لا ينوي عن إحداهما بعينها جاز عنهما , وكذا إذا صام أربعة أشهرٍ أو أطعم مائةً وعشرين مسكيناً جاز , لأنّ الجنس متّحد فلا حاجة إلى نيّةٍ معيّنةٍ , وإن أعتق عنهما رقبةً واحدةً أو صام شهرين كان له أن يجعل ذلك عن أيّهما شاء , وإن أعتق عن ظهارٍ وقتلٍ لم يجز عن واحدٍ منهما , لأنّ نيّة التّعيين في الجنس المتّحد غير مفيدٍ فتلغو وفي الجنس المختلف مفيد , وقال زفر لا يجزيه عن أحدهما في الفصلين .
وقال المالكيّة : لو أعتق رقبتين عن كفّارتي ظهارٍ أو قتلٍ أو فطرٍ في رمضان وأشرك بينهما في كلّ واحدةٍ منهما لم يجزه .(/20)
وهو بمنزلة من أعتق رقبةً واحدةً عن كفّارتين , وكذلك لو صام عنهما أربعة أشهرٍ حتّى يصوم عن كلّ واحدةٍ منهما شهرين , وقد قيل : إنّ ذلك يجزيه .
ولو ظاهر من امرأتين له فأعتق رقبةً عن إحداهما بغير عينها لم يجز له وطء واحدةٍ منهما حتّى يكفّر كفّارةً أخرى , ولو عيّن الكفّارة عن إحداهما جاز له أن يطأها قبل أن يكفّر الكفّارة عن الأخرى , ولو ظاهر من أربع نسوةٍ فأعتق عنهنّ ثلاث رقابٍ , وصام شهرين , لم يجزه العتق ولا الصّيام , لأنّه إنّما صام عن كلّ واحدةٍ خمسة عشر يوماً , فإن كفّر عنهنّ بالإطعام جاز أن يطعم عنهنّ مائتي مسكينٍ , وإن لم يقدر فرّق بخلاف العتق والصّيام , لأنّ صيام الشّهرين لا يفرّق والإطعام يفرّق .
وقال الشّافعيّة : يشترط لصحّة الكفّارة نيّة الكفّارة بأن ينوي العتق أو الصّوم أو الإطعام عن الكفّارة لأنّها حق مالي يجب تطهيراً كالزّكاة , والأعمال بالنّيّات ولا يشترط تعيينها بأن تقيّد بظهار أو غيره , كما لا يشترط في زكاة المال تعيين المال المزكّى بجامع أنّ كلاً منهما عبادة ماليّة بل تكفي نيّة أصلها , فلو أعتق رقبتين بنيّة الكفّارة وكان عليه كفّارة قتلٍ وظهارٍ أجزأه عنهما , وإن أعتق واحدةً وقعت عن إحداهما , وإنّما لم يشترط تعيينها في النّيّة كالصّلاة لأنّها في معظم خصالها نازعة إلى الغرامات فاكتفي فيها بأصل النّيّة .
وقال الحنابلة : لا يجزئ إطعام وعتق وصوم إلا بنيّة , بأن ينويه عن الكفّارة , لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّما الأعمال بالنّيّات » , ولأنّه حق واجب على سبيل الطهرة فافتقر إلى النّيّة كالزّكاة فإن كانت عليه كفّارة واحدة فنوى عن كفّارتين أجزأه , ولم يلزمه تعيين سببها سواء علمه أو جهله , لأنّ النّيّة تعيّنت لها , ولأنّه نوى عن كفّارته ولا مزاحم لها فوجب تعليق النّيّة بها , وإن كان عليه كفّارات من جنسٍ واحدٍ لم يجب تعيين سببها فلو كان مظاهراً من أربعٍ فأعتق عبداً عن ظهاره أجزأه عن إحداهنّ وحلّت له واحدة من نسائه غير معيّنةٍ , لأنّه واجب من جنسٍ واحدٍ فأجزأته نيّة مطلقة , كما لو كان عليه صوم يومين من رمضان فتخرج بقرعة كما تقدّم في نظائره , فإن كان الظّهار من ثلاث نسوةٍ فأعتق عن ظهار إحداهنّ وصام عن ظهار أخرى لعدم من يعتقه ومرض فأطعم ظهار أخرى أجزأه لما تقدّم وحلّ له الجميع من غير قرعةٍ ولا تعيينٍ , لأنّ التّكفير حصل عن الثّلاث .
وإن كانت الكفّارات من أجناسٍ كظهار وقتلٍ وجماعٍ في نهار رمضان ويمينٍ لم يجب تعيين السّبب أيضاً , لأنّها عبادة واجبة فلم تفتقر صحّة أدائها إلى تعيين سببها كما لو كانت من جنسٍ .
وإن كانت عليه كفّارتان من ظهارٍ بأن قال لكلّ من زوجتيه : أنت عليّ كظهر أمّي أو كان عليه كفّارتان من ظهارٍ وقتلٍ فقال : أعتقت هذا عن هذه الزّوجة أو أعتقت هذا عن هذه الزّوجة الأخرى , أو قال : أعتقت هذا عن كفّارة الظّهار وهذا عن كفّارة القتل أجزأه , أو قال أعتقت هذا عن إحدى الكفّارتين وأعتقت هذا عن الكفّارة الأخرى من غير تعيين أجزأه لما تقدّم , أو أعتقهما أي العبدين عن الكفّارتين معاً أو قال أعتقت كلّ واحدٍ منهما أي من المعنيين عنهما أي الكفّارتين جميعاً أجزأه ذلك لما تقدّم .
الشّرط الثّاني : القدرة :
68 - يشترط قدرة المكفّر على التّكفير , لأنّ إيجاب الفعل على غير القادر ممتنع .
فإذا كانت الكفّارة مرتّبةً فلا يجزئه الانتقال من خصلةٍ إلى ما بعدها حتّى يعجز عن الأولى , فمن ملك رقبةً مثلاً لا يجزئه الانتقال عن العتق إلى الصّيام , ومن استطاع الصّيام لا يمكنه الانتقال إلى الإطعام وذلك في الجملة .
وقد اختلف الفقهاء في الوقت الّذي يعتبر المكفّر فيه قادراً أو عاجزًا عن التّكفير , فذهب الحنفيّة والمالكيّة , والشّافعيّة في أظهر الأقوال إلى أنّ الوقت المعتبر للقدرة واليسار هو وقت الأداء , قالوا : لأنّ الكفّارة عبادة لها بدل من غير جنسها فاعتبر حال أدائها .
وذهب الحنابلة والشّافعيّة في قولٍ إلى أنّ الوقت المعتبر هو وقت الوجوب , لأنّ الكفّارة تجب على وجه الطهرة , فكان الاعتبار بحالة الوجوب كالحدّ .
ثانياً : شروط الكفّارات الخاصّة :
تختلف هذه الشروط باختلاف أسبابها ووجوب الكفّارة :
شروط وجوب كفّارة اليمين :
69 - اتّفق الفقهاء على أنّ البلوغ والعقل والانعقاد شروط لوجوب الكفّارة باليمين فلا كفّارة على صبيٍّ أو مجنونٍ حنث في يمينه , لأنّ القلم - أي التّكليف - مرفوع عنهما لقوله صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاثةٍ : عن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن المبتلى حتّى يبرأ ، وعن الصّبيّ حتّى يكبر » .
كما لا كفّارة على من لغا في يمينه لقوله تعالى : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ } والمراد بالعقد القصد .
واختلفوا بعد ذلك في الإسلام , والاختيار , والعمد , هل تعتبر شروطاً لوجوب الكفّارة أم لا ؟
وتفصيل ذلك في : ( أيمان ف 51 - 54 ) .
شروط وجوب كفّارة الظّهار :
70 - اتّفق الفقهاء على أنّ البلوغ والعقل شرطان في وجوب الكفّارة على المظاهر , لأنّ عبّارة الصّبيّ والمجنون لغوٌ فلا تكون موجبةً لها .
واختلفوا في وجوبها على غير المسلم وعلى المكره وغير العامد .
وتفصيل ذلك في : ( ظهار ف 16 , 21 ) .
شروط وجوب كفّارة القتل الخطأ :
من الشروط المختلف فيها بين الفقهاء ما يلي :
أ - الإسلام :(/21)
71 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى اشتراط الإسلام في القاتل لإيجاب الكفّارة عليه , لأنّها عبادة تحتاج إلى النّيّة , والكفّار ليسوا من أهلها .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى عدم اشتراطه في إيجاب الكفّارة على القاتل , لأنّ الكافر مخاطب بفروع الشّريعة والكفّارة من فروعها .
ب - البلوغ والعقل :
72 - يرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة عدم اشتراط البلوغ والعقل في وجوب الكفّارة على القاتل , فتجب على الصّبيّ والمجنون عندهم .
واحتجوا بأنّ الكفّارة حق مالي فتجب في مالهما , فيعتق الولي عنهما من مالهما ولا يصوم بحال , وإن صام الصّبي المميّز أجزأه .
ولأنّ الكفّارة من خطاب الوضع أي جعل الشّيء سبباً , فالشّارع جعل القتل سبباً لتحرير الرّقبة عند القدرة , والصّوم شهرين متتابعين عند العجز ولم يجعل ذلك على الفور , فالصّبي أهل للصّوم باعتبار المستقبل .
وقالوا : إنّ كفّارة اليمين لم تجب على الصّبيّ والمجنون لأنّ سببها قول والقول غير معتبرٍ منهما , بخلاف كفّارة القتل فإنّ سببها فعل وهو معتبر من الجميع .
ويرى الحنفيّة أنّ البلوغ والعقل شرطان لوجوب الكفّارة في القتل , فلا كفّارة على القاتل الصّبيّ أو المجنون لرفع القلم عنهما ، ولأنّ القتل معدوم منهما حقيقةً .
ج - الاختيار :
73 - اختلف الفقهاء في وجوب هذا الشّرط على قولين :
الأوّل : ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه يشترط في وجوب الكفّارة على القاتل أن يكون مختاراً , وأنّها لا تجب على القاتل المكره لأنّه مسلوب الإرادة , ولقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » , فهذا الحديث يدل على نفي الإثم عن المكره والمخطئ , ونفي الإثم يوجب نفي الكفّارة , لأنّها شرعت لمحوه .
الثّاني : ذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يشترط في وجوب الكفّارة الاختيار فتجب الكفّارة عندهم على المكره لأنّه باشر القتل , ولأنّ الكفّارة عبادة وهو من أهلها .
د - الحرّيّة في القاتل :
74 - اختلف الفقهاء في اشتراط الحرّيّة على قولين :
الأوّل : يرى الحنفيّة والمالكيّة اشتراط حرّيّة القاتل لوجوب الكفّارة عليه لأنّ العبد عندهم ليس من أهل الكفّارة , لأنّه وما ملك ملك لسيّده , والصّوم شهرين متتابعين يضعفه فيضر بسيّده .
الثّاني : يرى الشّافعيّة والحنابلة أنّه لا يشترط حرّيّة القاتل لوجوب الكفّارة عليه فتجب عندهم على العبد كما تجب على غيره , لقوله تعالى { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } الآية , فالآية عامّة لم تفرّق بين الأحرار والعبيد لأنّ " من " من صيغ العموم ولا تخصّص إلا بدليل .
شروط وجوب كفّارة الجماع في نهار رمضان :
75 - اتّفق الفقهاء على أنّ الإسلام والبلوغ والعقل شروط لوجوب الكفّارة بسبب انتهاك حرمة الصّوم بالجماع في نهار رمضان , لأنّ الكافر لا يعتبر صومه شرعاً والمجنون كذلك , أمّا الصّبي فهو وإن كان يصح صومه لكنّه لا يعقل حرمة هذا الشّهر .
كما اتّفقوا على أنّ رمضان شرط في وجوب الكفّارة فلا تجب في غيره كقضائه أو صوم النّذر ونحوه , لأنّ الكفّارة إنّما وجبت لهتك حرمة الشّهر , وليست هذه الحرمة موجودةً في غيره .
76 - واختلفوا في اشتراط العمد والاختيار :
فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ العمد والاختيار شرطان في وجوبها , فلم يوجبوا الكفّارة بالجماع الحادث على وجه الإكراه أو الخطأ .
وذهب الحنابلة : إلى عدم اشتراط العمد والاختيار لوجوب الكفّارة بالجماع في نهار رمضان , فتجب عندهم على من جامع ناسياً أو مكرهاً لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يستفصل السّائل عن حاله ولو كان الحكم يختلف لاستفصله .
وقد سبق القول في ذلك عند ذكر أسباب الكفّارة بالفطر في رمضان : ( ف 25 - 27 ) .
ما يشترط لإجزاء الكفّارات :
وهي الشروط الّتي يجب توافرها في أفراد الكفّارات حتّى تكون مجزئةً .
الشروط الخاصّة بالإطعام في الكفّارات :
أوّلاً : من حيث الكيفيّة :
77 - التّمليك : اختلف الفقهاء في اشتراط التّمليك في الإطعام إلى فريقين :
الفريق الأوّل : وهم المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : يشترطون أن يكون الإطعام على وجه التّمليك , ككلّ الواجبات الماليّة فإذا قدّم المكفّر الطّعام إلى الفقراء والمساكين على وجه الإباحة لم يجزئه .
واستدلوا بأنّ التّكفير واجب مالي فلا بدّ أن يكون معلوم القدر ليتمكّن الفقير من أخذه , والقول بالإباحة والتّمكين لا يفيد ذلك , حيث إنّ الفقير قد يأخذ حقّه كاملاً وقد لا يأخذه لا سيّما وأنّ كلّ مسكينٍ يختلف عن الآخر صغراً وكبراً , جوعاً وشبعاً .
وأنّ الطّعام على سبيل الإباحة يهلك على ملك المكفّر ولا كفّارة بما هلك في ملكه .
الفريق الثّاني : وهم الحنفيّة : لا يشترطون تمليك الطّعام في الكفّارات , بل الشّرط هو التّمكين , فيكفي عندهم دعوة المساكين إلى قوت يومٍ - غداءً وعشاءً - فإذا حضروا وتغدّوا وتعشّوا كان ذلك مجزئاً .
واستدلوا بقوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } والإطعام في اللغة : اسم للتّمكين من الطّعام لا أن يمتلكه , والمسكنة : الحاجة , فهو محتاج إلى أكل الطّعام دون تملكه . وبقوله تعالى : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } , والإطعام للأهل يكون على سبيل الإباحة لا على سبيل التّملك .
ثانياً : من حيث المقدار :(/22)
78 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يشترط أن يعطى كلّ مسكينٍ مداً واحداً من غالب قوت البلد , ولا يجوز إخراج قيمة الطّعام عملاً بنصّ الآية : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } .
ويشترط أن لا ينقص الحصص , فلا يجوز أن يعطى عشرين مسكيناً عشرة أمدادٍ لكلّ واحدٍ منهم نصف مدٍّ إلا أن يكمل لعشرةٍ منهم ما نقص .
كما يشترط أن يكون الإطعام للعشرة فلا يصح التّلفيق , فلو أطعم خمسةً وكسا خمسةً لا يجزئ .
ويشترط أيضاً أن يعطي المدّ لكلّ واحدٍ من العشرة على وجه التّمليك , ولا يجزئ عند المالكيّة تكرر الإعطاء لواحدٍ , فلو أطعم واحداً عشرة أمدادٍ في عشرة أيّامٍ لا يجزئه . وذهب الحنفيّة إلى أنّه يشترط أن يعطى لكلّ مسكينٍ مدّان أي نصف صاعٍ من القمح أو صاع من تمرٍ أو شعيرٍ أو قيمة ذلك من النقود أو من عروض التّجارة , لأنّ المقصود دفع الحاجة , وذلك يمكن تحققه بالقيمة .
أمّا مقدار طعام الإباحة عندهم : فأكلتان مشبعتان , أي يشترط أن يغدّي كلّ مسكينٍ ويعشّيه , وكذلك إذا عشّاهم وسحّرهم , أو غدّاهم غداءين ونحو ذلك , لأنّهما أكلتان مقصودتان .
أمّا إذا غدّى واحداً , وعشّى واحداً آخر لم يصحّ , لأنّه يكون قد فرّق طعام العشرة على عشرين , وهو لا يصح .
كذلك يشترطون أن لا يعطي الكفّارة كلّها لمسكينٍ واحدٍ في يومٍ واحدٍ دفعةً واحدةً أو متفرّقةً على عشر مرّاتٍ .
أمّا لو أطعم مسكيناً واحداً عشرة أيّامٍ غداءً وعشاءً , أو أعطى مسكيناً واحداً عشرة أيّامٍ كلّ يومٍ نصف صاعٍ جاز لأنّ تجدد الحاجة كلّ يومٍ يجعله كمسكينٍ آخر فكأنّه صرف القيمة لعشرة مساكين .
ثالثاً : من حيث الجنس :
79 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ المجزئ في الإطعام هو البر , أو الشّعير , أو التّمر , دقيق كلّ واحدٍ كأصله كيلاً أي نصف صاعٍ في دقيق البرّ وصاع في دقيق الشّعير , وقيل : المعتبر في الدّقيق القيمة , لا الكيل , ويجوز إخراج القيمة من غير هذه الأصناف .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الإطعام يكون من القمح إن اقتاتوه , فلا يجزئ غيره من شعيرٍ أو ذرةٍ أو غيرهما , فإن اقتاتوا غير القمح فما يعدله شبعاً لا كيلاً .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الإطعام يكون من الحبوب والثّمار الّتي تجب فيها الزّكاة , لأنّ الأبدان تقوم بها , ويشترط أن يكون من غالب قوت البلد .
وذهب الحنابلة إلى اشتراط أن يكون الإطعام من البرّ والشّعير ودقيقهما والتّمر والزّبيب ولا يجزئ غير ذلك ولو كان قوت بلده إلا إذا عدمت تلك الأقوات .
ولا يجوز إخراج القيمة عند الجمهور غير الحنفيّة عملاً بقوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } .
وقوله سبحانه : { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً } .
رابعاً : المستحق للإطعام :
80 - اشترط الفقهاء في المحلّ المنصرف إليه الطّعام شروطاً منها :
أ - أن لا يكون من تصرف إليه الكفّارة ممّن يلزم المكفّر نفقته , كالأصول والفروع , لأنّ القصد إشعار المكفّر بألمٍ حين يخرج جزءاً من ماله كفّارةً عن الذّنب الّذي ارتكبه , وهذا المعنى لا يتحقّق إذا أطعم من تلزمه نفقته .
ب - أن يكونوا مسلمين , فلا يجوز عند الجمهور إطعام الكافر من الكفّارات ذمّياً كان أو حربياً , وأجاز أبو حنيفة ومحمّد إعطاء فقراء أهل الذّمّة من الكفّارات , لعموم قوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } , من غير تفرقةٍ بين المؤمن وغيره .
ج - أن لا يكون هاشمياً , لأنّ اللّه تعالى جعل لهم ما يكفيهم من خمس الغنائم .
ما يشترط في التّكفير بالكسوة :
81 - اشترط الفقهاء للتّكفير بالكسوة شروطاً مجملها - على اختلافهم في بعضها - ما يلي :
أ - أن تكون الكسوة على سبيل التّمليك .
ب - أن تكون الكسوة بحيث يمكن الانتفاع بها , فلو كان الثّوب قديماً أو جديداً رقيقاً لا ينتفع به فإنّه لا يجزئ .
ج - أن تكون ممّا يسمّى كسوةً , فتجزئ الملاءة والجبّة والقميص ونحو ذلك , ولا تجزئ العمامة ولا السّراويل على الصّحيح عند الحنفيّة , وكذلك المالكيّة والحنابلة , لأنّ لابسها لا يسمّى مكتسياً عرفاً بل يسمّى عرياناً خلافاً للشّافعيّة الّذين أجازوا الكسوة بالعمامة والسّراويل , لأنّه يقع عليها اسم الكسوة .
د - أن يعطى للمرأة ثوباً ساتراً وخماراً يجزئها أن تصلّي فيه .
ما يشترط في التّكفير بالصّوم :
82 - اشترط الفقهاء لجواز الصّيام في الكفّارات ما يلي :
أ - النّيّة : فلا يجوز صوم الكفّارة من غير نيّةٍ من اللّيل لأنّه صوم واجب .
ب - التّتابع في صوم كفّارة الظّهار والقتل وجماع نهار رمضان فإن قطع التّتابع ولو في اليوم الأخير وجب الاستئناف .
واختلف الفقهاء فيما ينقطع به التّتابع .
والتّفصيل في : ( تتابع ف 3 , 9 - 17 ) .
ما يشترط في التّكفير بالإعتاق :
83 - اشترط الفقهاء في الرّقبة المجزئة في الكفّارة ما يلي :
أ - أن تكون مملوكةً ملكاً كاملاً للمعتق , فلا يجوز إعتاق عبدٍ مملوكٍ للغير , كما لا يجوز للمكفّر أن يعتق نصف عبدٍ مشتركٍ بينه وبين غيره .
ب - أن تكون الرّقبة كاملة الرّقّ , فلا يجوز إعتاق المدبّر , لأنّه سيصبح حراً بعد وفاة سيّده , وكذلك أم الولد .
أمّا المكاتب فيجوز التّكفير به عند الحنفيّة .
ج - أن تكون الرّقبة سليمةً من العيوب المخلّة بالعمل والكسب , فلا يجوز إعتاق مقطوع اليدين أو الرّجلين أو أشلّهما إلى غير ذلك .
د - أن تكون الرّقبة مؤمنةً , خلافاً للحنفيّة حيث يرون جواز إعتاق الرّقبة الكافرة في غير كفّارة القتل .
خصال الكفّارة :(/23)
84 - خصال الكفّارة في الجملة هي : العتق والصّيام والإطعام والكسوة .
وذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ كلاً من كفّارة الصّوم والظّهار والقتل مرتّبة ابتداءً وانتهاءً فعلى المكفّر أن يعتق رقبةً إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً , فإن لم يجد بأن لم يتيسّر له ذلك حساً كأن يكون في مسافة القصر , أو شرعاً كأن لم يقدر على ثمنها زائداً على ما يفي بمؤنه فعليه صيام شهرين متتابعين , فإن عجز المظاهر أو المجامع في نهار رمضان عن الصّوم لهرمٍ أو مرضٍ أو خاف من الصّوم زيادة مرضٍ فعليه إطعام ستّين مسكيناً .
وذهب المالكيّة إلى أنّ كفّارة إفساد الصّوم على التّخيير وأنّ أفضل خصالها الإطعام لكثرة تعدّي نفعه .
وأمّا كفّارتا الظّهار والقتل فهما مرتّبتان .
فإن عجز عن الجميع استقرّت في ذمّته عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والأظهر عند الشّافعيّة وإحدى الرّوايتين لأحمد , وهذا بالنّسبة لكفّارة الصّوم عند الشّافعيّة بخلاف سائر الكفّارات فتستقر عندهم .
وفي إحدى الرّوايتين لأحمد , ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة : أنّ الكفّارة تسقط عنه بالعجز عن الأمور الثّلاثة كزكاة الفطر بدليل أنّ الأعرابيّ لم يأمره النّبي صلى الله عليه وسلم بكفّارةٍ أخرى لمّا دفع إليه التّمر .
أمّا كفّارة القتل فليس فيها إطعام بل هي عتق رقبةٍ , فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين للآية الكريمة .
وقال الفقهاء : إنّ كفّارة اليمين على التّخيير ابتداءً ومرتّبة انتهاءً فيختار في أوّلها بين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبةٍ , فإن لم يجد فعليه صيام ثلاثة أيّامٍ , لقوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } .
وذهب جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجزئ في العتق إلا تحرير رقبةٍ مؤمنةٍ سالمةٍ من العيوب المضرّة بالعمل وذلك في جميع الكفّارات , لقوله تعالى في كفّارة القتل : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } وما عدا كفّارة القتل فبالقياس عليها , ولقوله صلى الله عليه وسلم فيمن أراد أن يعتق أمةً : « أعتقها فإنّها مؤمنة » . وذهب الحنفيّة إلى أنّه يجزئ تحرير رقبةٍ وإن كانت غير مؤمنةٍ إلا في كفّارة القتل لإطلاق النصوص في غير القتل , ولامتناع جواز قياس المنصوص بعضه على بعضٍ , ولأنّ في ذلك إيجاب زيادةٍ في النّصّ وهو يوجب النّسخ عندهم , وإلى هذا ذهب الثّوري والحسن بن صالحٍ .(/24)
كَشْف *
التعريف :
1 - الكشف في اللّغة هو : رفع الحجاب ، وكشف الشيء وكشف عنه كشفاً : رفع عنه مما يواريه ويغطّيه ، ويقال : كشف الأمر وعنه أي أظهره ، وكشف الله غمّه : أزاله ، ومنه قوله تعالى في التنزيل : { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } ، وكشف الثوب عن وجهه ونحوه واكتشفت المرأة : بالغت في إبداء محاسنها .
وكشف فلان : انحسر مقدم رأسه ، وانهزم في الحرب .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ ، وهو : أن يرفع عن الشيء ما يواريه ويغطّيه .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الغطاء :
2 - الغِطاء - بالكسر - في اللّغة الستر ، وهو ما يجعل فوق الشيء من طبق ونحوه ، ومنه غطاء المائدة وغطاء الفراش .
وقد استعير للجهالة ، ومنه قوله تعالى في التنزيل : { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ } .
والعلاقة بين الكشف والغطاء هي التضادّ .
ما يتعلق بالكشف من أحكام :
تتعلق بالكشف الأحكام التالية :
أولاً - كشف العورة في الصلاة :
3 - أجمع الفقهاء على أنّ ستر العورة شرط لصحة الصلاة كالطهارة لها ، وأنّ من ترك ستر عورته وهو قادر على سترها تبطل صلاته ، أو لا تنعقد .
والتفصيل في مصطلح ( صلاة ف / 120 ) .
ثانياً - كشف الرأس والوجه حالة الإحرام :
4 - يجب على الرجل المحرم بحجّ أو عمرة كشف رأسه ويجب على المرأة المحرمة بحجّ وعمرة كشف وجهها ، وكذلك الرجل عند بعض الفقهاء .
والتفصيل في مصطلح ( إحرام ف / 62 ، 65 ) .
ثالثاً - كشف العورة خارج الصلاة :
5 - اتفق الفقهاء على أنّه يحرم على البالغ العاقل أن يكشف عورته أمام غيره ، سواء كانت هذه العورة من العورة المغلظة أو من المخففة ، وأنّ كشف العورة المغلظة أشدّ من كشف العورة المخففة ، سواء كان هذا من الرجل أو من المرأة ، للاتّفاق على أنّها عورة ، وأنّها أفحش من غيرها في الكشف والنظر ، ولهذا سمّي القبل والدّبر - وهما من العورة المغلظة باتّفاق - السوأتين لأنّ كشفهما يسوء صاحبه ، قال الله تعالى : { فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } .
كما اتفقوا على أنّ حرمة النظر إلى العورة المغلظة أشدّ من حرمة النظر إلى العورة المخففة.
6- ويستثنى من ذلك ما يلي :
أ - ما بين الزوجين ، فيجوز باتّفاق الفقهاء أن يكشف كلّ من الزوجين عورته للآخر ، والتفصيل في ( عورة ف / 11 ) .
ب - إذا دعت الضرورة أو الحاجة إلى كشف العورة ، فيجوز للإنسان أن يكشف عورته لأجل الحاجة ، كالعلاج والفصد والحجامة والختان وغير ذلك ، كما يجوز له أن يكشفها للشهادة تحمّلاً وأداءً بشرط أن يكون ذلك كلّه بقدر الحاجة ، فلا يجوز له أن يكشف من عورته أكثر من الحاجة كما لا يجوز للناظر أن ينظر أكثر مما دعت إليه الحاجة ; لأنّها تقدر بقدرها ( ر : عورة ف / 17 - 18 ) .
رابعاً : كشف العورة في الخلوة :
7 - اختلف الفقهاء في حكم كشف العورة في الخلوة .
فقال بعضهم : لا يجوز كشف العورة في الخلوة إلا لحاجة ، كتغوّط واستنجاء وغيرهما ، لإطلاق الأمر بالسّترة ، وهو يشمل الخلوة والجلوة ; ولأنّ الله سبحانه وتعالى أحقّ أن يستحيا منه ، وهو سبحانه وتعالى وإن كان يرى المستور كما يرى المكشوف ، لكنّه يرى المكشوف تاركاً للأدب والمستور متأدباً ، وهذا الأدب واجب مراعاته عند القدرة عليه ، وهذا رأي جمهور الفقهاء .
وذهب بعض الفقهاء إلى جواز كشف العورة في الخلوة من غير حصول حاجة ، قال صاحب الذخائر : يجوز كشف العورة في الخلوة لأدنى غرض ، ولا يشترط حصول الحاجة ، ثم قال: ومن الأغراض كشف العورة للتبريد وصيانة الثوب من الأدناس والغبار عند كنس البيت وغيره .
قال ابن عابدين : وحكى في القنية أقوالاً في تجرّده للاغتسال منفرداً ، منها أنّه يكره ، ومنها : أنّه يعذر إن شاء الله ، ومنها : أنّه يجوز في المدة اليسيرة ، ومنها : أنّه يجوز في بيت الحمام الصغير ، ومنها : أنّه لا بأس(/1)
كَعْب *
التعريف :
1 - الكعب في اللّغة العقدة بين الأنبوبين من القصب ، وكعبا الرجل : هما العظمان الناشزان من جانبي القدم ، قال الأزهريّ : الكعبان : الناتئان في منتهى الساق مع القدم عن يمنة القدم ويسرتها .
وقال ابن الأعرابيّ وجماعة : الكعب هو المفصل بين الساق والقدم والجمع كعوب وأكعب وكعاب ، وأنكر الأصمعيّ قول الناس : إنّ الكعب في ظهر القدم .
والكعب عند جمهور الفقهاء هو : العظم الناتئ عند ملتقى الساق والقدم .
وقال الشافعيّ رحمه الله : لم أعلم مخالفاً في أنّ الكعبين هما العظمان في مجمع مفصل الساق .
وقال الحنفية : الكعب يطلق على ما تقدم من قول الجمهور وعلى العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشّراك ، ويؤخذ المعنى الأول في الوضوء ويؤخذ المعنى الثاني في الإحرام بالحجّ احتياطاً .
الأحكام المتعلّقة بالكعب :
غسل الرّجلين إلى الكعبين في الوضوء :
2 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يجب في الوضوء غسل القدمين إلى الكعبين ، لقول الله تعالى :
{ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ } .
والتفصيل في مصطلح ( وضوء ) .
قطع الخفّين أسفل من الكعبين في الإحرام :
3 - من لم يجد نعلين في الإحرام فإنّه يقطع الخفين أسفل من الكعبين ويلبسهما ، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف ، إلا أحد لا يجد النّعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين » .
وهذا عند الجمهور ، والمعتمد عند الحنابلة أنّه لا يقطع الخفين .
وفسر الجمهور الكعبين اللذين يقطع الخفّ أسفل منهما بأنّهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم ، وفسره الحنفية بالمفصل الذي في وسط القدم عند معقد الشّراك .
والتفصيل في مصطلح ( إحرام ف / 95 ) .
ستر الكعبين بالخفّ الذي يمسح عليه :
4 - من شروط الخفّ الذي يجوز المسح عليه في الوضوء أن يكون ساتراً محل فرض الغسل في الوضوء ، وهو القدم بكعبه من سائر الجوانب .
والتفصيل في مصطلح ( مسح على الخفين ) .
قطع الرّجل من الكعب في السرقة والحرابة :
5 - ذهب أكثر الفقهاء إلى أنّ موضع قطع رجل السارق هو مفصل الكعب ، وفعل عمر رضي الله عنه ذلك .
وحكي عن قوم من السلف : أنّه يقطع من نصف القدم من معقد الشّراك ، ويترك له العقب ، لأنّ عليّاً رضي الله عنه كان يفعل ذلك ويدع له عقباً يمشي عليها ،وحكي هذا عن أبي ثور. ويراعى في كيفية قطع رجل قاطع الطريق ما يراعى في قطع السارق .
ر : ( حرابة ف / 20 ، وسرقة ف / 66 ) .(/1)
كَعْبة *
التعريف :
1 - الكعبة في اللّغة البيت المربع وجمعه كعاب .
قال ابن منظور : والكعبة البيت الحرام . سمّيت بذلك لتربيعها ، والتكعيب : التربيع ، وأكثر بيوت العرب مدورة لا مربعة ، وقيل : سمّيت كعبةً لنتوئها وبروزها ، وكلّ بارز كعب ، مستديرًا أو غير مستدير ، ومنه كعب القدم .
قال تعالى { جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ } الآية .
وفي الاصطلاح تطلق على البيت الحرام ، قال النّوويّ في تهذيب الأسماء واللّغات : والكعبة المعظمة البيت الحرام .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - القبلة :
2 - القبلة - بكسر القاف - في اللّغة : الجهة وكلّ ما يستقبل من الشيء .
وفي الاصطلاح : جهة يُصلّى نحوها مما يحاذي الكعبة أو جهتها ، وغلب هذا الاسم على هذه الجهة حتى صار كالعلم لها وصارت معرفةً عند الإطلاق ، وإنّما سمّيت بذلك لأنّ الناس يقابلونها في صلاتهم والقبلة أعمّ من الكعبة .
ب - المسجد الحرام :
3 - يطلق المسجد الحرام ويراد به الكعبة ، وقد يطلق ويراد به الكعبة وما حولها ، وقد يراد به مكة كلّها ، وقد يراد به مكة كلّها مع الحرم حولها بكماله .
وقد جاءت النّصوص الشرعية بهذه الأقسام الأربعة .
انظر مصطلح ( المسجد الحرام ) .
فعلى الإطلاق الأول وأنّه يراد به الكعبة ، يكون مساوياً لها ، وعلى غيره تكون الكعبة أخص .
ما يتعلق بالكعبة من أحكام :
استقبال الكعبة في الصلاة :
4 - لا خلاف في أنّ من شروط صحة الصلاة استقبال الكعبة لقوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } وقال الفقهاء إنّ من يعاين الكعبة فعليه إصابة عينها ، أي مقابلة ذات بناء الكعبة يقينًا ولا يكفي الاجتهاد ولا استقبال جهتها ، وأما غير المعاين ففيه خلاف بين الفقهاء .
والتفصيل في ( استقبال ف / 9 ، 12 ) .
حكم الصلاة في جوف الكعبة :
5 - قال الشافعية والحنفية : الصلاة في جوف الكعبة جائزة فرضاً كانت أو نفلاً .
واستدلّوا بحديث ابن عمر : « أنّه أتى فقيل له : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة ، فقال ابن عمر : فأقبلت والنبيّ صلى الله عليه وسلم قد خرج وأجد بلالاً قائماً بين البابين فسألت بلالاً فقلت : أصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في الكعبة ؟ قال : نعم ، ركعتين بين الساريتين اللتين على يساره إذا دخلت ، ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين » .
ونص الشافعية على أنّ الصلاة في جوف الكعبة صحيحة إذا استقبل المصلّي جدارها أو بابها مردوداً أو مفتوحاً مع ارتفاع عتبته ثلثي ذراع لأنّه يكون متوجهاً إلى الكعبة أو جزء منها أو إلى ما هو كالجزء منها .
وقال المالكية والحنابلة : الصلاة في جوف الكعبة جائزة نفلاً لا فرضاً .
واستدلّوا بحديث ابن عباس قال : « لما دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلّها ولم يصلّ حتى خرج منه فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال : هذه القبلة » ، فحملوا حديث ابن عباس هذا على الفرض ، وحملوا حديث ابن عمر المتقدّم على النّفل جمعاً بين الأدلة .
وقال ابن جرير وجماعة من الظاهرية وأصبغ بن الفرج من المالكية - وحكي عن ابن عباس - لا تجوز الصلاة في جوف الكعبة لا فرضاً ولا نفلاً .
والتفصيل في مصطلح ( استقبال ف / 12 وما بعدها ) .
الصلاة على ظهر الكعبة :
6 - ذهب المالكية والحنابلة إلى أنّه لا تصحّ الفريضة على ظهر الكعبة ، واستدلّوا بأنّه لم يستقبل شيئاً من الكعبة ، والهواء ليس هو الكعبة والمطلوب استقبالها .
وذهب الحنفية والشافعية وهو رواية عن الحنابلة إلى أنّه تصحّ الفريضة على ظهر الكعبة، واشترط الشافعية والحنابلة في الرّواية الثانية أن يقف آخر السطح أو العرصة ويستقبل الباقي ، أو يقف وسطهما ويكون أمامه شاخص من أجزاء الكعبة بقدر ثلثي ذراع لأنّه إذا كان السطح أمامه كلّه أو كان أمامه شاخص فهو مستقبل للقبلة وإلا لم تصح بدون ما تقدم. واستدل الحنفية بأنّه مستقبل لهوائها والكعبة عندهم هواء لا بناء ، إلا أنّهم نصوا على كراهة الصلاة لما فيه من إساءة الأدب بالاستعلاء عليها وترك تعظيمها .
أما النافلة فتصحّ فوقها عند الحنابلة والشافعية إذا كان أمامه شاخص .
وعن المالكية في النافلة المؤكدة المنع ابتداءً والجواز بعد الوقوع ، وكذا الحنفية يجيزون النافلة عليها من باب أولى ; لأنّهم يجيزون الفرض عليها .
أما الصلاة في الأسطح المجاورة لها والمرتفعات كجبل أبي قبيس وغيره من المواضع العالية فتصحّ وهذا موضع اتّفاق عند الجميع
الصلاة تحت الكعبة :
7 - مقتضى مذهب الحنفية الجواز ، قال الحصكفيّ : والمعتبر في القبلة العرصة لا البناء فهي من الأرض السابعة إلى العرش .
أما الصلاة تحت الكعبة فلا تصحّ عند المالكية مطلقاً فرضاً كانت أو نفلاً لأنّ ما تحت المسجد لا يعطى حكمه بحال ، ألا ترى أنّه يجوز للجنب الدّخول تحته ولا يجوز له الطيران فوقه . وتجوز الصلاة في مكان أسفل من الكعبة عند الحنابلة وعللوا بأنّ الواجب استقبال الكعبة وما يسامتها من فوقها أو تحتها بدليل ما لو زالت الكعبة - والعياذ بالله - أنّه يستقبل محلّها وهذا موضع وفاق لا خلاف فيه .(/1)
كَفّ *
التّعريف :
1 - الكف في اللغة : راحة اليد مع الأصابع , يؤنّث , وزعم بعضهم أنّه يذكّر , وجمعها كفوف وأكفّ , مثل فلسٍ وفلوسٍ وأفلسٍ .
سمّيت بذلك , لأنّها تكف الأذى عن البدن .
وتكفّف الرّجل النّاس واستكفّهم : مدّ كفّه إليهم بالمسألة , ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : « إنّك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكفّفون النّاس » .
وقيل : معنى استكفّ النّاس : أخذ الشّيء بيده .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
الإصبع :
2 - الإصبع اسم يقع على السلامى والظفر والأنملة والأطرة والبرجمة معاً .
ويستعار للأمر الحسّيّ فيقال : لك على فلانٍ إصبع كقولك : لك عليه يد , والجمع أصابع . والإصبع مؤنّثة وكذلك سائر أسمائها مثل الخنصر والبنصر , قال الصّغاني : يذكّر ويؤنّث والغالب التّأنيث .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
والعلاقة بين الكفّ والإصبع الجزئيّة حيث إنّ الإصبع أحد أطراف الكفّ .
الأحكام المتعلّقة بالكفّ :
أوّلاً : غسل الكفّين في أوّل الوضوء :
3 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة غسل الكفّين إلى الكوعين في أوّل الوضوء لفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك , فقد روى عثمان بن عفّان رضي الله عنه وصف وضوء النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : « دعا بإناء فأفرغ على كفّيه ثلاث مرارٍ فغسلهما ثمّ أدخل يمينه في الإناء » .
ولكنّهم اختلفوا في حكم الغسل عند القيام من النوم وذلك بعدما اتّفقوا على أنّ غسلهما من سنن الوضوء لغير القائم من النوم :
فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وهو رواية عن أحمد إلى أنّ غسل الكفّين سنّة من سنن الوضوء سواء قام المتوضّئ من نومٍ أو لم يقم من نومٍ , وسواء كان هذا النّوم من نوم اللّيل أو من نوم النّهار , لأنّ آية الوضوء لم تذكر غسل الكفّين من بين الفروض والواجبات , ولأنّ الحديث يدل على الاستحباب لتعليله بما يقتضي ذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتّى يغسلها ثلاثاً فإنّه لا يدري أين باتت يده » , حيث إنّ طروء الشّكّ على اليقين لا يؤثّر فيه .
والرّواية الأخرى عن أحمد هي وجوب غسل الكفّين عند القيام من النّوم للأمر به في الحديث السّابق , وأمره صلى الله عليه وسلم يقتضي الوجوب .
وإلى هذا ذهب ابن عمر وأبو هريرة والحسن البصري .
ثمّ اختلف الموجبون في أيّ نومٍ يجب منه الغسل ؟
فذهب أحمد في الرّواية عنه بالوجوب إلى أنّ وجوب الغسل يكون عند القيام من نوم اللّيل ولا يجب غسلهما من نوم النّهار بدلالة الحديث على ذلك , حيث قال : « فإنّه لا يدري أين باتت يده » , والمبيت لا يكون إلا بليل , ولأنّ نوم اللّيل مظنّة الاستغراق فإصابته فيه بالنّجاسة أكثر احتمالاً .
وسوّى الحسن بين نوم اللّيل ونوم النّهار في الوجوب لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا استيقظ أحدكم من نومه . . . إلخ » .
ثانياً : غسل الكفّين مع اليدين في الوضوء :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّ غسل الكفّين مع اليدين إلى المرفقين من أركان الوضوء لقول اللّه تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } .
وللأحاديث الواردة في وصف وضوء النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومنها : « أنّه صلى الله عليه وسلم توضّأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثمّ غسل يده اليمنى حتّى أشرع في العضد ثمّ يده اليسرى حتّى أشرع في العضد . . . » .
والتّفصيل في مصطلح : ( وضوء ) .
ثالثاً : مسح الكفّين في التّيمم :
5 - اتّفق الفقهاء على وجوب مسح الكفّين بالتراب عند التّيمم وأنّ هذا ركن من أركان التّيمم , لقوله تعالى : { وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ } , وللأحاديث الواردة في هذا الباب , منها : عن عمّارٍ رضي الله عنه قال : « بعثني النّبي صلى الله عليه وسلم في حاجةٍ فأجنبت فلم أجد الماء فتمرّغت في الصّعيد كما تمرّغ الدّابّة ثمّ أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : إنّما كان يكفيك أنّ تقول بيديك هكذا ثمّ ضرب بيديه الأرض ضربةً واحدةً ثمّ مسح الشّمال على اليمين وظاهر كفّيه ووجهه » .
ولكنّهم اختلفوا في مسح ما عدا الكفّين من السّاعد والمرفق .
وتفصيله في مصطلح : ( تيمم ف 7 - 11 ) .
رابعاً : غسل الكفّين قبل الأكل وبعده :
6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى استحباب غسل الكفّين قبل الأكل وبعده وإن كان على وضوءٍ لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من أحبّ أن يكثر اللّه خير بيته فليتوضّأ إذا حضر غذاؤُه وإذا رفع » .
وعنه صلى الله عليه وسلم : « من بات وفي يده ريح غمرٍ فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه » .
قال العلماء : المراد بالوضوء في هذه الأحاديث هو غسل اليدين لا الوضوء الشّرعي .
وقال الصّاوي من المالكيّة : غسل اليد قبل الطّعام وإنّ لم يكن سنّةً عندنا فهو بدعة حسنة , أمّا بعد الأكل فيندب الغسل .
وفي روايةٍ عن الإمام أحمد : أنّه يكره الغسل قبل الطّعام وبعده , واختاره القاضي , وفي روايةٍ عنه يكره قبله .
خامساً : قطع الكفّ في القصاص :
7 - أجمع الفقهاء على وجوب القصاص في قطع الكفّ إذا توفّرت في الجناية شروط القصاص , لوجوب المماثلة ولإمكان الاستيفاء فيه من غير حيفٍ .(/1)
فإذا قطعت يد المجنيّ عليه من مفصل الكوع وجب القصاص للمجنيّ عليه , وله قطع يد الجانّي من مفصل الكوع , لأنّه أمكنه استيفاء حقّه دون الخوف من حيفٍ .
وقال الفقهاء ليس له التقاط - أي قطع - أصابع الجانّي لأنّ هذا غير محلّ الجناية فلا يجوز الاستيفاء من غيره مع قدرته على محلّ الجناية , ومهما أمكنه المماثلة فليس له العدول عنها .
قال الشّافعيّة : حتّى لو طلب قطع أنملةٍ واحدةٍ لم يمكّن من ذلك فإن فعل وقطع الأصابع عزّر لعدوله عن المستحقّ ولا غرم لأنّ له إتلاف الجملة فلا يلزمه بإتلاف البعض غرم .
والأصح أنّ له قطع الكفّ بعد ذلك .
سادساً : دية الكفّ :
8 - أجمع الفقهاء على وجوب نصف ديةٍ في قطع اليد من مفصل الكفّ الصّحيح إذا كانت الجناية عمداً , وعفي عن القصاص أو كانت خطأً أو شبه عمدٍ لحديث معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه قال : إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « وفي اليدين الدّية » الحديث , ولما ورد في كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزمٍ رضي الله عنه : « وفي اليد خمسون من الإبل » .
والمراد من اليد الّتي تجب فيها الدّية الواردة في الحديثين هي الكف , لأنّ اسم اليد عند الإطلاق ينصرف إليها بدليل : أنّ اللّه تعالى لمّا قال : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } كان الواجب قطعهما من الكوع , ولأنّ فيهما جمالاً ظاهراً ومنفعةً كاملةً , وليس في البدن من جنسهما غيرهما , فكان فيهما الدّية كالعينين , ولأنّ المنفعة المقصودة في اليد من البطش والأخذ والدّفع وغير ذلك تتم بالكفّ , وما زاد تابع للكفّ .
والتّفصيل في مصطلح : ( ديات ف 43 ) .
سابعاً : قطع كفّ السّارق :
9 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ يد السّارق تقطع عند استيفاء شروط السّرقة من مفصل الكفّ وهو الكوع لما روي من أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « قطع يد سارقٍ من المفصل » , ولما روي عن أبي بكرٍ الصّدّيق , وعمر رضي الله عنهما أنّهما قالا : إذا سرق السّارق فاقطعوا يمينه من الكوع , ولما روي عن عمر وعليٍّ رضي الله عنهما : أنّهما قطعا اليد من المفصل .
قال الكاساني : روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قطع يد السّارق من مفصل الزّند , فكان فعله بياناً للمراد من الآية الشّريفة , كأنّه نصّ سبحانه وتعالى فقال : فاقطعوا أيديهما من مفصل الزّند , وعليه عمل الأمّة من لدن رسول اللّه إلى يومنا هذا .
وحكي عن بعض العلماء : أنّ يد السّارق تقطع من المرفق , وقال بعضهم : تقطع من منبت الأصابع .
وقيل : تقطع من المنكب , وأدلّة هؤُلاء جميعاً ظاهر آية السّرقة وهي قوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } الآية , قالوا : إنّ اسم اليد يقع على هذا العضو إلى المنكب بدليل أنّ عمّار بن ياسرٍ رضي الله عنهما فهم هذا المعنى من قوله تعالى : { فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ } , فمسح بالتراب إلى المنكب , ولم يخطأ من طريق اللغة .
والتّفصيل في مصطلح : ( سرقة ف 65 و 66 ) .
ثامناً : قطع كفّ قاطع الطّريق :
10 - ذهب عامّة الفقهاء إلى أنّ يد قاطع الطّريق الّذي تتوفّر فيه شروط القطع تقطع من مفصل الكفّ .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( حد ف 33 ) .(/2)
كَلام *
التّعريف :
1 - الكلام اسم من كلّمته تكليماً , والكلام في أصل اللغة : عبارة عن أصواتٍ متتابعةٍ لمعنىً مفهومٍ .
وفي اصطلاح النّحويّين : هو اسم لما تركّب من مسندٍ ومسندٍ إليه .
قال الفيومي : والكلام في الحقيقة هو المعنى القائم بالنّفس لأنّه يقال في نفسي كلام , وقال اللّه تعالى : { وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ } .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - اللّفظ :
2 - اللّفظ في اللغة له معانٍ , يقال : لفظ ريقه وغيّره لفظاً : رمى به , ولفظ بقولٍ حسنٍ : تكلّم به , وتلفّظ به كذلك , واستعملالمصدر اسماً وجمع على ألفاظٍ .
واللّفظ في اصطلاح الفقهاء : ما ينطق به الإنسان أو من في حكمه مهملاً كان أو مستعملاً . والصّلة بين اللّفظ والكلام : أنّ اللّفظ أعم من الكلام .
ب - الإشارة :
3 - الإشارة في اللغة : التّلويح بشيءٍ يفهم منه ما يفهم من النطق , كالإيماء بالرّأس , والكفّ والعين , ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
والصّلة بين الإشارة والكلام أنّهما وسيلة لإفادة المعنى .
ج - السكوت :
4 - السكوت في اللغة الصّمت وانقطاع الكلام , والسكوت خلاف النطق وهما مصدران , قال الرّاغب الأصفهاني : السكوت مختص بترك الكلام .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
والعلاقة بين السكوت والكلام التّضاد .
د - الخطاب :
5 - الخطاب في اللغة الكلام بين متكلّمٍ وسامعٍ , وفي اصطلاح الفقهاء هو : الكلام المقصود منه إفهام من هو متهيّئ للفهم .
والخطاب أخص من الكلام .
الحكم التّكليفي :
6 - كلام العاقل البالغ مباح في الأصل للقاعدة الفقهيّة الكلّيّة : " الأصل في الأشياء الإباحة " إلا أنّه بالنّظر لما قد يحيط به من قرائن الأحوال تعتريه الأحكام فيكون واجباً , أو مندوباً , أو مكروهاً , أو حراماً , إلى جانب حكمه الأصليّ وهو الإباحة وذلك كما يلي :
فمن الكلام الواجب : النطق بالشّهادتين للدخول في الإسلام لغير المسلم .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( إسلام ف 17 ) .
ومن الكلام الواجب تكبيرة الإحرام .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( تكبيرة الإحرام ف 2 ) .
ومن الكلام المندوب التّسبيح والذّكر في بعض أفعال الصّلاة , كالافتتاح والركوع , والسجود , والتّلبية بعد الإحرام , وغير ذلك .
والتّفصيل في مصطلح : ( تسبيح ف 12 وما بعدها ) .
ومن الكلام المكروه : الكلام أثناء خطبة الجمعة عند بعض الفقهاء , وهو حرام عند البعض الآخر .
والتّفصيل في مصطلح : ( صلاة الجمعة ف 27 ) .
ومن الكلام المحرّم : القذف والتّلفظ بالكفر والسّبّ .
وأمّا كلام المجنون والصّغير غير المميّز فهو لغو ولا حكم له لانعدام التّكليف في حقّهما لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاثةٍ الصّغير حتّى يكبر وعن المجنون حتّى يعقل وعن النّائم حتّى يستيقظ » .
والتّفصيل في : ( أهليّة ف 14 - 27 ) .
اشتراط الكلام في بعض العبادات والمعاملات :
7 - الكلام قد يكون ركناً في بعض العبادات والمعاملات ونحوها كقراءة القرآن في الصّلاة , وتكبيرة الإحرام , والإيجاب والقبول في عقد الزّواج وسائر العقود الأخرى فإنّ الكلام فيها ركن ما دام ممكناً , ولا تصح بدونه ولا تنعقد , فإذا تعذّر الكلام كالأخرس والغائب قامت الكتابة والإشارة مقامه بشروطٍ مخصوصةٍ .
والتّفصيل في مصطلح : ( عقد ف 6 وما بعدها ) .
أنواع الكلام وطرق دلالته على معناه :
8 - للكلام أنواع لدى العلماء تختلف باختلاف علمهم , فعلماء النّحو يقسّمونه إلى اسمٍ وفعلٍ وحرفٍ .
وعلماء أصول الفقه يقسّمون الكلام إلى خبرٍ وإنشاءٍ , ثمّ يقسّمون كلاً منهما إلى أقسامٍ مختلفةٍ , كالأمر والنّهي , والمطلق والمقيّد , كما يقسّمون الكلام من حيث دلالته على معناه إلى حقيقةٍ ومجازٍ وكنايةٍ , ومنهم من يدخل الكناية في الحقيقة أو في المجاز ولا يجعلها قسيماً لها , ثمّ إنّهم يقسّمون الكلام إلى عبارةٍ وإشارةٍ ودلالةٍ , واقتضاءٍ , وإلى مجملٍ ومفصّلٍ , وإلى مشكلٍ ومشتركٍ , وإلى منطوقٍ ومفهومٍ .
وتفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ .
هل يعد السكوت كلاماً ؟ :
9 - الأصل أنّ السكوت لا يعد كلاماً , ولا يبنى عليه حكم شرعي ممّا يبنى على القول للقاعدة الفقهيّة الكلّيّة : " لا ينسب إلى ساكتٍ قول " .
إلا أنّه يستثنى من ذلك أحوال ينزل السّاكت فيها منزلة المتكلّم , ويبنى على سكوته أحكام القائل المتكلّم للقاعدة الفقهيّة الكلّيّة " السكوت في معرض الحاجة بيان " .
فإذا استأذن الأب ابنته البكر العاقلة البالغة في أمر زواجها من شخصٍ معيّنٍ فسكتت , عدّ ذلك دليلاً على رضاها بالزّواج , لحديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « وإذنها صماتها » وذلك ما لم يرافق السكوت من القرائن ما يدل على الرّفض كالبكاء والإعراض , وإلا لم يعدّ رضاً .
والتّفصيل في مصطلح : ( سكوت ف 11 ) .
ما يقوم مقام الكلام :
10 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الإشارة المفهمة والكتابة تقوم مقام العبارة والكلام .
فقال الحنفيّة : الإشارة معتبرة وقائمة مقام العبارة في كلّ شيءٍ .
وقال المالكيّة : ينعقد البيع بالكلام وبغيره من كلّ ما يدل على الرّضا .
وقال الخطيب : إشارة الأخرس وكتابته العقد كالنطق للضّرورة .
وقال الحنابلة : الإشارة كالكلام وتقوم مقام اللّفظ والكلام .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( إشارة ف 4 , وعقد ف 15 ) .
الكلام حال قضاء الحاجة وفي الخلاء :(/1)
11 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى كراهة الكلام أثناء قضاء الحاجة وفي الخلاء ولا يتكلّم إلا لضرورةٍ بأن رأى ضريراً يقع في بئرٍ , أو حيّةً أو غيرها تقصد إنساناً أو غيره من المحترمات فلا كراهة في الكلام في هذه المواضع . وقال ابن سيرين والنّخعي : لا بأس بذكر اللّه , لأنّ اللّه تعالى ذكره محمود على كلّ حالٍ .
الكلام أثناء الوضوء :
12 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ التّكلم بكلام النّاس بغير حاجةٍ أثناء الوضوء خلاف الأولى , وإن دعت إلى الكلام حاجة يخاف فوتها بتركه لم يكن فيه ترك الأدب .
وذهب المالكيّة إلى كراهة الكلام حال الوضوء بغير ذكر اللّه تعالى .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( وضوء ) .
الكلام أثناء الأذان :
13 - صرّح جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بأنّ الفصل بين كلمات الأذان بأيّ شيءٍ كسكوتٍ أو كلامٍ أو غيره إن كان يسيراً فلا يبطل الأذان ويبني على ما مضى .
ويرى جمهور الفقهاء كراهة الكلام اليسير إن كان لغير سببٍ أو ضرورةٍ , وقالوا : يكره الكلام أثناء الأذان حتّى ولو بردّ السّلام ويكره السّلام على المؤذّن , ويرد السّلام بعد فراغه من الأذان , ويبطله الكلام الطّويل لأنّه يقطع الموالاة المشروطة في الأذان عند الجمهور غير الحنفيّة , وأجاز الحنابلة ردّ السّلام في أثناء الأذان .
وانظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( أذان ف 23 ) .
الكلام بين الإقامة والصّلاة :
14 - لا خلاف بين الفقهاء في كراهة الكلام في الإقامة لغير ضرورةٍ إذا كان كثيراً , أمّا إذا كان الكلام في الإقامة لضرورةٍ مثل ما لو رأى أعمى يخاف وقوعه في بئرٍ أو رأى من قصدته حيّة وجب إنذاره ويبني على إقامته .
أمّا الكلام القليل لغير ضرورةٍ فقد اختلف فيه :
فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه لا يكره الكلام بل يؤدّي إلى ترك الأفضل .
وذهب المالكيّة والحنابلة ووافقهم الزهري إلى أنّه يكره الكلام أثناء الإقامة وبين الإقامة والصّلاة , ويبني على إقامته , لأنّ الإقامة حدر وهذا يخالف الوارد ويقطع بين كلماتها . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( إقامة ف 16 ) .
الكلام بعد النّيّة وقبل تكبيرة الإحرام :
15 - اختلف الفقهاء في الكلام بعد النّيّة وقبل تكبيرة الإحرام :
فقال الحنفيّة : ينوي الصّلاة الّتي يدخل فيها بنيّةٍ لا يفصل بينها وبين التّحريمة بعملٍ .
وقال بعض الحنفيّة : إذا قال المؤذّن قد قامت الصّلاة وجب على الإمام التّكبير ممّا يدل على كراهة الكلام بعد النّيّة وقبل تكبيرة الإحرام , هذا إذا كان لغير ضرورةٍ , وأمّا إذا كان لأمرٍ من أمور الدّين فلا يكره .
ويرى المالكيّة : كراهة الكلام حين الإقامة وحرمته بعد إحرام الإمام , ولا يختص ذلك بالجمعة .
وقال الشّافعيّة : الكلام بعد النّيّة وقبل تكبيرة الإحرام لا يجوز ويبطل الصّلاة , ولو قال : نويت أصلّي الظهر اللّه أكبر نويت , بطلت صلاته لأنّ قوله " نويت " بعد التّكبير كلام أجنبي عن الصّلاة وقد طرأ بعد انعقاد الصّلاة فأبطلها .
وقال الحنابلة : ولو تكلّم بعد النّيّة وقبل التّكبير صحّت صلاته لأنّ الكلام لا ينافي العزم المتقدّم ولا يناقض النّيّة المتقدّمة فتستمر إلى أن يوجد مناقض .
الكلام في الصّلاة :
16 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الصّلاة تبطل بالكلام لما روى زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : « كنّا نتكلّم في الصّلاة ، يكلّم الرّجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصّلاة حتّى نزلت { وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام » , وعن معاوية بن الحكم السلميّ رضي الله عنه قال : « بينا أنا أصلّي مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك اللّه ، فرماني القوم بأبصارهم ، فلمّا صلّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمّي ما رأيت معلّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه ، فواللّه ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني ، قال : إنّ هذه الصّلاة لا يصلح فيها شيء من كلام النّاس إنّما هو التّسبيح والتّكبير وقراءة القرآن » .
وتفصيل ذلك في : ( صلاة ف 107 ) .
الكلام أثناء الخطبة وقبلها وبعدها وبين الخطبتين :
17 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في القديم إلى أنّ الكلام يحرم أثناء خطبة الجمعة ويجب الإنصات من حين يأخذ الإمام في الخطبة فلا يجوز الكلام لأحدٍ من الحاضرين , ونهى عن ذلك عثمان وابن عمر , وقال ابن مسعودٍ : إذا رأيته يتكلّم والإمام يخطب فأقرع رأسه بالعصا , واستدلوا بقوله تعالى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } قال أكثر المفسّرين نزلت في الخطبة وسمّيت الخطبة قرآناً لاشتمالها على القرآن الّذي يتلى فيها , ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : « إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت » واللّغو الإثم .
قال الكمال بن الهمام : يحرم في الخطبة كلام وإن كان أمراً بمعروفٍ أو تسبيحاً والأكل والشرب والكتابة , ويكره تشميت العاطس ورد السّلام .
وعن أبي يوسف لا يكره الرّد لأنّه فرض .
وصرّح الدّردير بحرمة ردّ السّلام أثناء الخطبة وتشميت عاطسٍ ، ونهي لاغٍ أو إشارةٍ له وأكلٍ أو شربٍ .(/2)
وقال ابن قدامة : إذا سمع الإنسان متكلّماً لم ينهه بالكلام لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت » ولكن يشير إليه , نصّ عليه أحمد , فيضع أصبعه على فيه , وممّن رأى أن يشير ولا يتكلّم زيد بن صوحان وعبد الرّحمن بن أبي ليلى والثّوري والأوزاعي وابن المنذر , وكره الإشارة طاووس .
وذهب الشّافعي في الجديد وأحمد في روايةٍ أخرى إلى أنّه لا يحرم الكلام , والإنصات سنّة , لما ورد : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليه رجل وهو يخطب يوم الجمعة ، فقال : متى السّاعة ؟ فأومأ النّاس إليه بالسكوت فلم يفعل وأعاد الكلام فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد الثّالثة : ويحك ما أعددت لها ؟ قال : حب اللّه ورسوله ، فقال : إنّك مع من أحببت » .
ولم ينكر عليهم النّبي صلى الله عليه وسلم كلامهم ولو حرم عليهم لأنكره عليهم .
وروى أنس رضي الله عنه قال : « بينما النّبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قام رجل فقال : يا رسول اللّه هلك الكراع وهلك الشّاة فادع اللّه أن يسقينا . . » وذكر الحديث .
وورد أنّ عثمان دخل وعمر يخطب فقال عمر : ما بال رجالٍ يتأخّرون بعد النّداء ، فقال عثمان : يا أمير المؤمنين ما زدت حين سمعت النّداء أن توضّأت , فدلّت الأحاديث على جواز الكلام حال الخطبة .
18 - وقال الشّافعيّة : يجوز الكلام قبل الشروع في الخطبة وبعد الفراغ منها وقبل الصّلاة , وفيما بين الخطبتين خلاف , والظّاهر أنّه لا يحرم وجزم به في المهذّب , هذا في الكلام الّذي لا يتعلّق به غرض مهم , فأمّا إذا رأى أعمى يقع في بئرٍ أو عقرباً تدب على إنسانٍ فأنذره فلا يحرم بلا خلافٍ , وكذا لو أمر بمعروفٍ أو نهى عن منكرٍ فإنّه لا يحرم قطعاً وقد نصّ على ذلك الشّافعي واتّفق عليه الأصحاب .
ووافق الحنابلة الشّافعيّة في جواز الكلام قبل الخطبتين وبعدهما وبينهما إذا سكت الإمام . وقال أبو حنيفة : إذا خرج الإمام يوم الجمعة ترك النّاس الصّلاة والكلام حتّى يفرغ من خطبته .
وقال أبو يوسف ومحمّد : لا بأس بالكلام إذا خرج الإمام قبل أن يخطب وإذا نزل قبل أن يكبّر , واختلفا في جلوسه إذا سكت : فعند أبي يوسف يباح الكلام في هذه الحالة لأنّ الكراهة للإخلال بفرض الاستماع ولا استماع هنا .
وعند محمّدٍ لا يباح الكلام لإطلاق الأمر .
وعند المالكيّة يحرم الكلام بين الخطبتين ويجوز بعد الخطبة .
الكلام في المساجد :
19 - اختلف الفقهاء في الكلام في المساجد :
فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى كراهة الكلام في المساجد بأمرٍ من أمور الدنيا .
قال الحنفيّة : والكلام المباح فيه مكروه يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب فإنّه مكروه والكراهة تحريميّة , لأنّ المساجد لم تبن له .
وقال الحنابلة : ويكره أن يخوض في حديث الدنيا , ويشتغل بالطّاعة من الصّلاة والقراءة والذّكر .
وذهب الشّافعيّة إلى جواز الكلام المباح في المسجد , قال النّووي : يجوز التّحدث بالحديث المباح في المسجد وبأمور الدنيا وغيرها من المباحات وإن حصل فيها ضحك ونحوه ما دام مباحاً لحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مصلاه الّذي يصلّي فيه الصبح حتّى تطلع الشّمس ، فإذا طلعت الشّمس قام ، وكانوا يتحدّثون فيأخذون في أمر الجاهليّة فيضحكون ويتبسّم » .
الكلام عند قراءة القرآن :
20 - ذهب الحنفيّة في ظاهر المذهب إلى حرمة الكلام عند قراءة القرآن فإنّ استماع القرآن والإنصات له أي الإمساك عن الكلام عند قراءته واجب مطلقاً سواء في الصّلاة أو خارجها سواء فهم المعنى أو لا , لقوله تعالى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } .
ويكره السّلام عندهم تحريماً عند قراءة القرآن على القارئ جهراً كان أو خفيةً , أمّا غير القارئ فيكره السّلام عليه إذا كانت القراءة جهراً .
قال الحليمي : يكره الكلام عند قراءة القرآن , ويكره أيضاً قطع القراءة لمكالمة أحدٍ , واستدلّ بما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه كان إذا قرأ القرآن لم يتكلّم حتّى يفرغ منه , ولأنّ كلام اللّه لا ينبغي أن يؤثر عليه كلام غيره .
ويسن الاستماع لقراءة القرآن وترك الكلام واللّغط والحديث لحضور القراءة .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( استماع ف 3 وما بعدها , وتلاوة ف 17 , وقرآن ف 16 ) .
الكلام في الطّواف :
21 - صرّح الحنفيّة بكراهة الكلام أثناء الطّواف لكنّه محمول على ما لا حاجة فيه , لأنّ ذلك يشغله عن الدعاء , وإلى هذا ذهب المالكيّة .
وذهب الشّافعيّة إلى جواز الكلام في الطّواف ولا يبطل به ولا يكره , لكن الأولى والأفضل ترك الكلام في الطّواف إلا أن يكون كلاماً في خيرٍ كأمرٍ بمعروفٍ أو نهيٍ عن منكرٍ أو تعليم جاهلٍ أو جواب فتوى , لحديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الطّواف بالبيت صلاة إلا أنّ اللّه تعالى أحلّ لكم فيه الكلام فمن يتكلّم فلا يتكلّم إلا بخيرٍ » .(/3)
وقال الحنابلة : ويستحب أن يدع الحديث والكلام في الطّواف إلا ذكر اللّه تعالى , أو قراءة القرآن أو أمراً بمعروفٍ أو نهياً عن منكرٍ أو ما لا بدّ منه , لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الطّواف بالبيت صلاة فأقلوا من الكلام » , وفي لفظٍ آخر عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الطّواف حول البيت مثل الصّلاة إلا أنّكم تتكلّمون فيه فمن تكلّم فيه فلا يتكلّمن إلا بالخير » , قال التّرمذي : العمل على هذا عند أكثر أهل العلم , يستحبون أن لا يتكلّم الرّجل في الطّواف إلا لحاجةٍ أو بذكر اللّه تعالى أو من العلم .
والكلام المباح الّذي يحتاج إليه لا بأس به , أمّا الكلام غير المحتاج إليه فإنّه يكره لقول ابن عمر رضي الله عنهما : أقلوا الكلام في الطّواف فإنّما أنتم في صلاةٍ .
وروي عن عطاءٍ قال : طفت خلف ابن عمر وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم فما سمعت واحداً منهما متكلّماً .
الحلف على أن يكلّم أو لا يكلّم , والنّذر كذلك :
22 - إذا حلف إنسان على أنّه لا يكلّم فلاناً أو يكلّمه أو قال : للّه عليّ كذا إذا تكلّمت مع فلانٍ أو لم أتكلّم معه فله حالات .
والتّفصيل في : ( أيمان ف 136 وما بعدها , ونذر ) .
الكلام على الطّعام :
23 - قال ابن الجوزيّ : من آداب الأكل أن لا يسكتوا على الطّعام بل يتكلّمون بالمعروف ويستحب أن يباسط الإخوان بالحديث الطّيّب عند الأكل والحكايات الّتي تليق بالحال إذا كانوا منقبضين ليحصل لهم الانبساط ويطول جلوسهم .
وقال الحنفيّة : ولا يتكلّم بما يستقذر بل يذكر نحو حكايات الصّالحين فإنّ من آداب الأكل الكلام على الطّعام ولا يسكت عن الكلام فإنّ السكوت المحض من سير الأعاجم , بل عليه أن يتحدّث بالمباح وحكايات الصّالحين ومن هذا قيل : الصّمت على الطّعام من سيرة الجهلاء واللّئام , لا من سيرة العلماء الكرام .
وقال الشّافعيّة : يسن الحديث غير المحرّم كحكايات الصّالحين على الطّعام , وتقليل الكلام أولى .
وقال الحنابلة : يكره لمن يأكل مع غيره أن يتكلّم بما يستقذر أو بما يضحكهم أو يخزيهم , ويستحب أن يتكلّم بالحديث الطّيّب أثناء الطّعام .
الكلام عند الجماع :
24 - ذهب جمهور الفقهاء الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى كراهة الكلام عند الجماع .
قال الحنفيّة : يكره الكلام عند الجماع للنّهي عنه , وقيل مكروه تنزيهاً , وقيل تحريماً , وقالوا : يكره الكلام في ثلاثة مواضع :
بعد طلوع الفجر والخلاء وعند الجماع لأنّه أقوى في إساءة الأدب .
وقال الشّافعيّة : المجامع يكره له التّكلم إلا لضرورةٍ , فإن عطس عند قضاء الحاجة أو لجماعٍ حمد اللّه بقلبه ولا يحرّك لسانه .
وقال الحنابلة : وتكره كثرة الكلام حال الوطء .
وقال ابن قدامة : ويكره الإكثار من الكلام حال الجماع لأنّه يكره الكلام حال البول وحال الجماع في معناه .
وروي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه يكره أن يذكر اللّه على حالين على الخلاء والرّجل يواقع أهله .
وقال المالكيّة : للرّجل أن يكلّم امرأته عند الوطء ولا إشكال في جوازه ولا وجه للكراهة . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( وطء ) .
هجر الكلام مع الزّوجة وغيرها :
25 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجوز للزّوج أن يهجر زوجته بالكلام .
فقال الرّملي : يحرم هجر الزّوجة بالكلام فيما زاد على ثلاثة أيّامٍ لكلّ أحدٍ منهما إلا إن قصد به ردّها عن المعصية وإصلاح دينها لا حظّ نفسه , ولا الأمرين فيما يظهر , لجواز الهجر لعذرٍ شرعيٍّ ككون المهجور نحو فاسقٍ أو مبتدعٍ وكصلاح دينه أو دين الهاجر , ولو علم أنّ هجره يحمله على زيادة الفسق فينبغي امتناعه عن الهجر .
وقال الرّحيباني : هجر الزّوجة في الكلام ثلاثة أيّامٍ لا فوقها , لحديث أبي أيوب رضي الله عنه مرفوعاً : « لا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثٍ » .
ويحرم الهجران بين المسلمين فوق ثلاثة أيّامٍ إلا لبدعةٍ في المهجور أو تظاهرٍ بفسقٍ أو نحو ذلك , وقد هجر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الثّلاثة الّذين خلّفوا ونهى الصّحابة عن كلامهم كما جاء في صحيح البخاريّ .
وانظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( هجر , ونشوز ) .
منع الزّوجة من كلام أبويها :
26 - نصّ الحنابلة على أنّه ليس للزّوج منع الزّوجة من كلام أبويها .
قال في كشّاف القناع : ولا يملك الزّوج منعها من كلام أبويها , ولا يملك منعهما من زيارتها , لأنّه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق إلا مع ظنّ حصول ضررٍ يعرف بقرائن الحال بسبب زيارتهما .
وللفقهاء تفصيل في زيارة المرأة لأبويها وسائر أهلها ينظر في : ( زيارة ف 8 ) .
الكلام مع المرأة الأجنبيّة :
27 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا يجوز التّكلم مع الشّابّة الأجنبيّة بلا حاجةٍ لأنّه مظنّة الفتنة , وقالوا إنّ المرأة الأجنبيّة إذا سلّمت على الرّجل إن كانت عجوزاً ردّ الرّجل عليها لفظاً أمّا إن كانت شابّةً يخشى الافتتان بها أو يخشى افتتانها هي بمن سلّم عليها فالسّلام عليها وجواب السّلام منها حكمه الكراهة عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة , وذكر الحنفيّة أنّ الرّجل يرد على سلام المرأة في نفسه إن سلّمت عليه وترد هي في نفسها إن سلّم عليها , وصرّح الشّافعيّة بحرمة ردّها عليه .
والتّفصيل في : ( سلام ف 19 ) .
الغيبة بالكلام :
28 - الغيبة حرام باتّفاق الفقهاء , وهي تكون بالكلام , وتكون بغيره كالإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة وكل ذلك داخل في الغيبة .
وللتّفصيل انظر : ( غيبة ف 7 , 8 ) .
قطع كلام الغير :(/4)
29 - يكره قطع كلام الغير من غير ضرورةٍ لكلامه خصوصاً إذا كان الكلام المقطوع في مذاكرة العلم أو تكرار الفقه فهو أشد كراهةً .
الكلام أثناء الذّكر والتّسبيح :
30 - يكره الكلام أثناء الذّكر والتّسبيح والدعاء وقراءة القرآن وتفسيره وكذا بين السنن والفرائض حتّى قيل : التّكلم بين السنّة والفرض ينقص الثّواب ولا يسقطه .
تخلل الكلام الأجنبيّ بين الإيجاب والقبول :
31 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجب أن لا يتخلّل العقد كلام أجنبي .
وصرّح المالكيّة : بأنّه لا يضر في البيع الفصل بين الإيجاب والقبول إلا أن يخرج عن البيع لغيره عرفاً .
والتّفصيل في مصطلح : ( عقد ف 18 وما بعدها ) .
ما يجب في إذهاب الكلام :
32 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا قصاص في إذهاب الكلام إن بقي اللّسان وذهبت الجناية بالكلام وحده , لعدم إمكان المماثلة في القصاص , وتجب الدّية كاملةً بإذهاب الكلام . والتّفصيل في مصطلح ( ديات ف 57 وجناية على ما دون النّفس ف 22 ) .
كلام القاضي مع أحد الخصمين سراً :
33 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يحرم على القاضي الكلام مع أحد الخصمين سراً دون الآخر لما فيه من كسر قلب صاحبه وربّما أضعفه ذلك عن إقامة حجّته , ولا يجوز له أن يلقّنه حجّته , لأنّ عليه أن يعدل بينهما ولما فيه من الضّرر على صاحبه , وعلى القاضي العدل بين الخصمين في كلّ شيءٍ من الكلام , واللّحظ , واللّفظ , والإشارة والإقبال , والدخول عليه , والإنصات إليهما والاستماع منهما , والقيام لهما , وردّ التّحيّة عليهما , وطلاقة الوجه لهما , قال ابن قدامة : ولا أعلم فيه مخالفاً .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( تسوية ف 9 وقضاء ف 41 ) .(/5)
كَلْب *
التّعريف :
1 - الكلب في اللغة : كل سبعٍ عقورٍ , وهو معروف , وجمعه أكلب وكلاب , وجمع الجمع : أكالب , والأنثى كلبة وجمعها كلاب أيضاً وكلبات .
وفي الاصطلاح : هو ذلك الحيوان النّبّاح .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ – الخنزير :
2 - الخنزير حيوان خبيث ، ويشترك الخنزير مع الكلب في نجاسة العين , ونجاسة كلّ ما نتج عنهما وحرمة أكل لحمهما والانتفاع بألبانهما وأشعارهما وجلودهما ولو بعد الدّبغ عند الجمهور .
ويفترقان في جواز اقتناء الكلب للصّيد والحراسة أمّا الخنزير فلا يجوز اقتناؤُه بحالٍ .
ب – السّبع :
3 - السّبُْع بضمّ الباء وسكونها , وقرئ بهما قوله تعالى : { وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ } أي وما أكل منه السّبع .
ويجمع على سباعٍ , مثل رجلٍ ورجالٍ ولا جمع له غير ذلك .
والسّبع : كل ما له ناب يعدو به ويفترس .
وفي الاصطلاح : هو كل منتهبٍ جارحٍ قاتلٍ عادةً .
والسّبع أعم من الكلب فكل كلبٍ سبع وليس كل سبعٍ كلباً .
الأحكام المتعلّقة بالكلب :
هناك أحكام تتعلّق بالكلب من حيث اقتناؤُه وتعليمه وحل صيده , والتّصرف فيه وغير ذلك ممّا سيرد تفصيله فيما يلي :
اقتناء الكلب :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز اقتناء الكلب إلا لحاجةٍ : كالصّيد والحراسة , وغيرهما من وجوه الانتفاع الّتي لم ينه الشّارع عنها .
وقال المالكيّة : يكره اتّخاذه لغير زرعٍ أو ماشيةٍ أو صيدٍ , وقال بعضهم بجوازه .
وقد ورد عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من اتّخذ كلباً إلا كلب ماشيةٍ أو صيدٍ أو زرعٍ أنتقص من أجره كلّ يومٍ قيراط » .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من اقتنى كلباً إلا كلب صيدٍ أو ماشيةٍ نقص من أجره كلّ يومٍ قيراطان » .
وأمّا اقتناؤُه لحفظ البيوت فقد قال ابن قدامة : لا يجوز على الأصحّ للخبر المتقدّم , ويحتمل الإباحة .
وقال الشّافعيّة : إذا زالت الحاجة الّتي يجوز اقتناء الكلب لها فإنّه يجب زوال اليد عن الكلب بفراغها , وقالوا يجوز تربية الجرو الّذي يتوقّع تعليمه لذلك .
وعند الحنابلة - كما في المغني - أنّ من اقتنى كلباً لصيدٍ , ثمّ ترك الصّيد مدّةً , وهو يريد العود إليه , لم يحرم اقتناؤُه في مدّة تركه , لأنّ ذلك لا يمكن التّحرز منه , وكذلك صاحب الزّرع .
ولو هلكت ماشيته , فأراد شراء غيرها فله إمساك كلبها لينتفع به في الّتي يشتريها .
وإن اقتنى كلباً لصيدٍ من لا يصيد به , احتمل الجواز , لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استثنى كلب الصّيد مطلقاً , واحتمل المنع , لأنّه اقتناه لغير حاجةٍ , أشبه غيره من الكلاب . وقال الرّحيباني : يحرم اقتناؤُه لأمره عليه الصلاة والسلام بقتله , وإذا لم يجز اقتناؤُه لم يجز تعليمه , لأنّ التّعليم إنّما يجوز مع جواز الإمساك , فيكون التّعليم حراماً , والحل لا يستفاد من المحرّم , ولأنّه علّل بكونه شيطاناً , وما قتله الشّيطان لا يباح أكله كالمنخنقة . وتجوز تربية الجرو الصّغير لأحد الأمور الثّلاثة - في أقوى الوجهين - عند الحنابلة , لأنّه قصده لذلك , فيأخذ حكمه , كما يجوز بيع الجحش الصّغير الّذي لا نفع فيه في الحال لمآله إلى الانتفاع , ولأنّه لو لم يتّخذ الصّغير ما أمكن جعل الكلب كذلك , إذ لا يصير معلّماً إلا بالتّعليم , ولا يمكن تعليمه إلا بتربيته واقتنائه مدّةً يعلّمه فيها .
التقاط الكلب :
5 - يباح التقاط كلّ حيوانٍ لا يمتنع بنفسه من صغار السّباع .
وعند المالكيّة : يجوز التقاط الكلب المأذون فيه وعلى ملتقطه أن يعرّفه لمدّة سنةٍ , فإن لم يوجد صاحبه صار ملكاً لملتقطه .
وعند الشّافعيّة : ما ليس بمالٍ ككلبٍ يقتنى , فميل الإمام والآخذين عنه إلى أنّه لا يؤخذ إلا على قصد الحفظ أبداً , لأنّ الاختصاص به بعوضٍ ممتنع , وبلا عوضٍ يخالف وضع اللقطة , وقال الأكثرون : يعرّفه سنةً , ثمّ يختص وينتفع به , فإن ظهر صاحبه بعد ذلك وقد تلف فلا ضمان .
وعند الحنابلة : لا يجوز التقاط ما يقوى على الامتناع بنفسه : لكبر جثّته كالإبل , أو لطيرانه أو لسرعته كالظّباء , أو بنابه كالكلاب والفهود .
الوصيّة بالكلب :
6 - قال الشّافعيّة : تصح الوصيّة بنجاسةٍ يحل الانتفاع بها لثبوت الاختصاص فيها , ككلبٍ معلّمٍ أي قابلٍ للتّعليم بخلاف الكلب العقور .
ولو أوصى بكلبٍ من كلابه المنتفع بها في صيدٍ أو ماشيةٍ أو زرعٍ أعطى للموصى له أحدها بتعيين الوارث أي حسب اختياره , فإن لم يكن للموصي كلب منتفع به لغت وصيّته .
ولو كان له مال وكلاب منتفع بها , ووصّى بها أو ببعضها , فالأصح نفوذها وإن كثرت الكلاب الموصى بها وقلّ المال , لأنّه خير منها , إذ لا قيمة لها .
والثّاني وهو مقابل الأصحّ , لا تنفذ إلا في ثلثها , كما لو لم يكن معها مال , لأنّها ليست من جنسه حتّى تضمّ إليه .
والثّالث : تقوّم بتقدير الماليّة فيها , وتضم إلى المال , وتنفذ الوصيّة في ثلث الجميع , أي في قدره من الكلاب .
وقال الحنابلة : تصح الوصيّة بالكلب الّذي يباح اقتناؤُه , لأنّها نقل لليد فيه من غير عوضٍ , وتصح هبته لذلك , وقال القاضي : لا تصح , لأنّها تمليك في الحياة , أشبه البيع , والأوّل أصح , ويفارق البيع لأنّه يؤخذ عوضه , وهو محرّم .
وقال الرّحيباني : وإن وصّى بكلبٍ وله كلاب , فللورثة إعطاؤُه أيّ كلبٍ شاءوا .(/1)
وإن وصّى لزيدٍ بكلابه , ووصّى لآخر بثلث ماله , فللموصى له بالثلث ثلث المال , وللموصى له بالكلاب ثلثها , إن لم تجز الورثة , لأنّ ما حصل للورثة من ثلثي المال قد جازت الوصيّة فيما يقابله من حقّ الموصى له وهو ثلث المال , ولم يحتسب على الورثة بالكلاب .
سرقة الكلب :
7 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا قطع في سرقة الكلب مطلقاً , ولو كان معلّماً أو لحراسةٍ , لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « نهى عن بيعه » ، بخلاف غيره من الجوارح المعلّمة , ولو كانت قيمته نصاباً .
وعلّله الحنفيّة بأنّه يوجد من جنسه مباح الأصل وباختلاف العلماء في ماليّته فأورث شبهةً . وعلّل الشّافعيّة عدم القطع بأنّه ليس بمالٍ كالخنزير والخمر - ولو من ذمّيٍّ , لأنّ القطع جعل لصيانة الأموال , وهذه الأشياء ليست بمالٍ .
وهذا خلافاً لأشهب من المالكيّة القائل بالقطع في المأذون في اتّخاذه .
غصب الكلب :
8 - مذهب الجمهور أنّ غصب الكلب المأذون فيه مضمون بقيمته ويجب رده , بخلاف غير المأذون فيه , فإنّه لا يغرم إذ لا قيمة له , وعند الحنابلة يجب رد المأذون فيه وإذا أتلفه لم يغرمه .
( ر : مصطلح غصب ف 13 ) .
ما يشترط لحلّ صيد الكلب :
9 - يشترط لحلّ الصّيد أن يكون كلب الصّيد معلّماً باتّفاق الفقهاء , لقوله تعالى : { وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } .
ولحديث عديّ بن حاتمٍ رضي الله عنه قال : « قلت يا رسول اللّه , إنّي أرسل الكلاب المعلّمة فيمسكن عليّ , وأذكر اسم اللّه عليه ، فقال : إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم اللّه عليه فكل ، قلت : وإن قتلن ؟ قال : وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس معها » .
ويعتبر في تعليم الكلب شروط إذا أرسله صاحبه استرسل , وإذا زجره انزجر وإذا أمسك لم يأكل .
( والتّفصيل : في مصطلح صيد ف 38 وما بعدها ) .
الانتفاع بالكلب :
10 - تقدّم جواز اقتناء الكلب لحاجةٍ كالصّيد والحراسة وغيرهما من وجوه الانتفاع به الّتي لم ينه الشّارع عنها
استئجار الكلب :
11 - منع الحنفيّة إجارة الكلب لأنّه لا يمكن حمله على منفعة الحراسة بضربٍ أو غيره , نصّ عليه في الهنديّة , وفي بعض الرّوايات أنّه يجوز إذا بيّن لذلك وقتًا معلوماً .
وقال النّووي : استئجار الكلب المعلّم للصّيد والحراسة باطل على الأصحّ , وقيل يجوز , كالفهد والبازي , والشّبكة للاصطياد , والهرّة لدفع الفأر , وقال ابن قدامة : لا تجوز إجارته نصّ عليه أحمد لأنّه حيوان محرّم بيعه لخبثه , فحرمت إجارته كالخنزير .
والتّفصيل ينظر في : ( مصطلح إجارة ف 101 ) .
بيع الكلب :
12 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى عدم جواز بيع الكلب مطلقاً ، « لنهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب , ومهر البغيّ , وحلوان الكاهن » .
وذهب الحنفيّة وسحنون من المالكيّة إلى جواز بيع الكلب مطلقاً لأنّه مال منتفع به حقيقةً , إلا في روايةٍ عن أبي حنيفة رواها أبو يوسف عنه في الكلب العقور فإنّه لا يجوز بيعه . وحكى في الفواكه الدّواني أنّ عند المالكيّة تفصيلاً بين الكلب المأذون فيه , وبين غيره , فمنعوا باتّفاقٍ بيع غير المأذون فيه , للحديث المرويّ سابقاً .
وأمّا المأذون فيه , ففيه ثلاثة أقوالٍ عندهم : المنع , والكراهة , والجواز .
والمشهور منها عن مالكٍ المنع .
بيع جلد الكلب :
13 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة وهو المشهور عند المالكيّة إلى أنّ جلد الكلب لا يطهر بالدّباغة لأنّه نجس العين فلا يباع ولو دبغ .
وفي روايةٍ عن سحنونٍ وابن عبد الحكم أنّ جلود جميع الحيوانات تطهر بالدّباغة حتّى الخنزير , لحديث : « إذا دبغ الإهاب فقد طهر » فيجوز بيع جلد الكلب بعد الدّباغة . والحنفيّة يقولون بطهارة جلد جميع الحيوانات غير مأكولة اللّحم بالدّبغ ما عدا الخنزير لأنّه نجس العين .
وللتّفصيل : ( ر : بيع منهي عنه ف 12 , دباغة ف 8 , جلد ف 10 وما بعدها ) .
الاستصباح بدهنه وودكه :
14 - جمهور الفقهاء على عدم جواز الاستصباح بما كان نجساً بعينه , في المسجد وغيره .
أمّا ما كان متنجّساً فالجمهور على عدم جواز الاستصباح به في المسجد دون غيره .
وقال الشّافعيّة : يجوز - مع الكراهة - في غير المسجد الاستصباح بالدهن النّجس وكذلك دهن الدّوابّ , كما يجوز له ذلك بالمتنجّس على المشهور , لما روي من أنّه صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرةٍ وقعت في سمنٍ فقال : « إن كان جامداً فألقوها وما حولها وإن كان مائعاً فاستصبحوا به » .
أمّا في المسجد فلا , لما فيه من تنجيسه , كذا جزم به ابن المقري تبعاً للأذرعيّ والزّركشيّ , وصرّح بذلك الإمام ، وهو المعتمد .
قال الرّملي : ومحل ذلك في غير ودك نحو الكلب , فلا يجوز الاستصباح به لغلظ نجاسته . وللتّفصيل : ( ر : مصطلح استصباح ف 4 ) .
نجاسة الكلب :
15 - يرى الحنفيّة أنّ الكلب ليس بنجس العين , ولكن سؤره ورطوباته نجسة .
ويرى المالكيّة : أنّ الكلب طاهر العين لقولهم : الأصل في الأشياء الطّهارة .
فكل حيٍّ - ولو كلباً وخنزيراً - طاهر , وكذا عرقه ودمعه ومخاطه ولعابه , وإلا ما خرج من الحيوان من بيضٍ أو مخاطٍ أو دمعٍ أو لعابٍ بعد موته بلا ذكاةٍ شرعيّةٍ ، فإنّه يكون نجساً , فهذا في الحيوان الّذي ميتته نجسة .
ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّ الكلب نجس العين .
حكم شعر الكلب من حيث الطّهارة والنّجاسة :
16 - اختلف الفقهاء في نجاسة شعر الكلب أو طهارته سواء أخذ منه في حال حياته أو بعد موته :(/2)
فذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو رواية عن أحمد إلى طهارته .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة على المذهب إلى نجاسته .
والتّفصيل في : ( مصطلح شعر وصوف ووبر ف 19 ) .
حكم معضّ كلب الصّيد من حيث النّجاسة والطّهارة :
17 - اختلف الفقهاء في نجاسة معضّ كلب الصّيد , ممّا يصيده فذهب بعضهم إلى طهارة معضّ الكلب .
وذهب آخرون إلى نجاسته .
والتّفصيل في : ( صيد ف 44 ) .
تطهير الإناء من ولوغ الكلب :
18 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجب غسل الإناء سبعاً إحداهنّ بالتراب إذا ولغ الكلب فيه , لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرّاتٍ أولاهنّ بالتراب » .
وذهب المالكيّة إلى أنّه يندب غسل الإناء سبعاً ولا تتريب مع الغسل .
ومذهب الحنفيّة وجوب غسل الإناء ثلاثاً , ولهم قول بغسله ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً .
ويرى بعض الفقهاء أنّ تعدد الغسل تعبد , وهذا هو المشهور من مذهب المالكيّة , لطهارة الكلب .
وقيل : لقذارته , وقيل : لنجاسته , وعليهما فكونه سبعاً , تعبداً , وقيل : لتشديد المنع . واختار ابن رشدٍ كون المنع مخافة أن يكون الكلب كلباً , فيكون قد داخل من لعابه الماء ما يشبه السمّ , قال : ويدل على صحّة هذا التّأويل تحديده بالسّبع , لأنّ السّبع من العدد مستحب فيما كان طريقه التّداوي , لا سيّما فيما يتوقّى منه السم , كقوله صلى الله عليه وسلم : « من تصبّح بسبع تمراتٍ عجوةٍ لم يضرّه ذلك اليوم سم ولا سحر » .
قال ابن عرفة : وردّ عليه بنقل الأطبّاء أنّ الكلب الكلِب يمتنع عن ولوغ الماء .
وأجاب حفيد ابن رشدٍ , أنّه يمتنع إذا تمكّن منه الكلب , أمّا في أوائله , فلا .
( ر : مصطلح تتريب ف 2 ) .
تعدد الولوغ :
19 - قال المالكيّة : لا يتعدّد الغسل سبعاً بسبب ولوغ كلبٍ واحدٍ مرّاتٍ في إناءٍ واحدٍ أو ولوغ كلابٍ في إناءٍ واحدٍ قبل غسله , لتداخل مسبّبات الأسباب المتّفقة في المسبّب كنواقض الوضوء وموجبات الحدود والقصاص .
وذكر النّووي أنّه لو ولغ كلبان , أو كلب واحد مرّاتٍ في إناءٍ ففيه ثلاثة أوجهٍ :
الصّحيح , أنّه يكفيه للجميع سبع مرّاتٍ إحداهنّ بالتراب , والثّاني : يجب لكلّ ولغةٍ سبع , والثّالث : يكفي لولغات الكلب الواحد سبع , ويجب لكلّ كلبٍ سبع .
ولا تقوم الغسلة الثّامنة , ولا غمس الإناء في ماءٍ كثيرٍ ومكثه فيه قدر سبع غسلاتٍ مقام التراب على الأصحّ .
قال الشّيخ زكريّا الأنصاري : وكفت السّبع مع التّتريب في إحداها وإن تعدّدت الكلاب . وقال النّووي : ولو كانت نجاسة الكلب دمه أو روثه , فلم يزل عنه إلا بستّ غسلاتٍ , فهل يحسب ذلك ستّة غسلاتٍ , أم غسلة واحدة , أم لا يحسب من السّبع ؟ ثلاثة أوجهٍ , أصحها واحدة .
مرور الكلب الأسود بين يدي المصلّي :
20 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الصّلاة لا تبطل بمرور شيءٍ بين المصلّي والسترة وقالوا : إنّ المراد بقطع الصّلاة بمرور شيءٍ إنّما هو نقص الصّلاة لشغل قلب المصلّي بما يمر بين يديه وليس المراد إبطال الصّلاة .
ونقل الجماعة عن الإمام أحمد رحمه الله أنّ الصّلاة لا يقطعها إلا الكلب الأسود البهيم , قال الأثرم : سئل أبو عبد اللّه , ما يقطع الصّلاة ؟ قال : لا يقطعها عندي شيء إلا الكلب الأسود البهيم .
والبهيم الّذي ليس في لونه شيء سوى السّواد , وإن كان بين عينيه نكتتان تخالفان لونه لم يخرج بهذا عن كونه بهيماً تتعلّق به أحكام الأسود البهيم , من قطع الصّلاة , وتحريم صيده وإباحة قتله , فإنّه قد ورد في حديث : « عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنّه شيطان ». وقطعه للصّلاة قول عائشة رضي الله عنها , وهو محكي عن طاووسٍ ومجاهدٍ , ومروي عن أنسٍ وعكرمة والحسن وأبي الأحوص .
ووجه هذا القول ما روى أبو هريرة , قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « يقطع الصّلاة المرأة والحمار والكلب ويقي ذلك مثل مؤخّرة الرّحل » .
وعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا قام أحدكم يصلّي فإنّه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرّحل فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرّحل فإنّه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود » .
قال عبد اللّه بن الصّامت : يا أبا ذرٍّ , ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر ؟ قال : يا ابن أخي , سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال : « الكلب الأسود شيطان » .
أكل لحم الكلب :
21 - يرى جمهور الفقهاء حرمة أكل لحم كلّ ذي نابٍ يفترس به , سواء أكانت أهليّةً كالكلب والسّنّور الأهليّ , أم وحشيّةً كالأسد والذّئب .
استدلوا لذلك بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « كل ذي نابٍ من السّباع فأكله حرام » .
وللمالكيّة في أكل لحم الكلب قولان : الحرمة , والكراهة , وصحّح ابن عبد البرّ التّحريم , قال الحطّاب ولم أر في المذهب من نقل إباحة أكل الكلاب .
وللتّفصيل ر : ( أطعمة ف 24 ) .
هبة الكلب :
22 - ذهب المالكيّة والحنابلة وهو مقابل الأصحّ من الوجهين عند الشّافعيّة - كما قال النّووي - إلى صحّة هبة الكلب لأنّها تبرع وأخف من البيع .
والأصح من الوجهين عند الشّافعيّة - كما قال النّووي - بطلان هبة الكلب قياساً على بطلان بيعه .
وقف الكلب :
23 - يرى الحنفيّة والحنابلة عدم جواز وقف الكلب .
وعند المالكيّة يجوز وقف الكلب المأذون في اتّخاذه .(/3)
والأصح عند الشّافعيّة أنّه لا يصح وقف الكلب المعلّم أو الّذي يقبل التّعليم لأنّه غير مملوكٍ , والثّاني يصح على رأيٍ , أمّا غير المعلّم أو القابل للتّعليم فلا يصح عندهم وقفه جزماً .
رهن الكلب :
24 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يصح رهن الكلب لأنّ ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه , وما يجوز بيعه يجوز رهنه .
ومذهب الحنفيّة جواز رهنه باعتباره مالاً .
( ر : رهن ف 9 ) .
ضمان عقر الكلب :
2 - للفقهاء خلاف وتفصيل في ضمان جناية الكلب العقور وكلّ حيوانٍ خطرٍ .
والتّفصيل في مصطلح : ( ضمان ف 109 ) .
قتل الكلب :
26 - قال المالكيّة : يجب قتل كلّ كلبٍ أضرّ وما عداه جائز قتله لأنّه لا منفعة فيه , ولا اختلاف في أنّه لا يجوز قتل كلاب الماشية والصّيد والزّرع .
قال الحطّاب : ذهب كثير من علماء المالكيّة : إلى أنّه لا يقتل من الكلاب أسود ولا غيره , إلا أن يكون عقوراً , مؤذياً , وقالوا : الأمر بقتل الكلاب منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تتّخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً » فعمّ ولم يخصّ كلباً من غيره .
واحتجوا - كذلك - بالحديث الصّحيح في الكلب الّذي كان يلهث عطشاً , فسقاه الرّجل , فشكر اللّه له وغفر له , وقال : قال صلى الله عليه وسلم : « في كلّ كبدٍ رطبةٍ أجر » .
قالوا : فإذا كان الأجر في الإحسان إليه , فالوزر في الإساءة إليه , ولا إساءة إليه أعظم من قتله .
وليس في قوله عليه الصلاة والسلام : « الكلب الأسود شيطان » ما يدل على قتله , لأنّ شياطين الإنس والجنّ كثير , ولا يجب قتلهم .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ ما لا يظهر فيه منفعة ولا ضرر - كالكلب الّذي ليس بعقورٍ - يكره قتله كراهة تنزيهٍ , ومقتضى كلام بعضهم التّحريم .
والمراد الكلب الّذي لا منفعة فيه مباحةً , فأمّا ما فيه منفعة مباحة , فلا يجوز قتله بلا شكٍّ , سواء في ذلك الأسود وغيره . والأمر بقتل الكلاب منسوخ .
ومذهب الحنابلة أنّه : يحرم قتل الكلب المعلّم ، وقاتله مسيء ظالم , وكذلك كل كلبٍ مباح إمساكه , لأنّه محل منتفع به , يباح اقتناؤُه , فحرم إتلافه , كالشّاة .
قال ابن قدامة : ولا نعلم في هذا خلافاً , ولا غرم على قاتله .
قال الرّحيباني : لا يباح قتل شيءٍ من الكلاب سوى الأسود والعقور للنّهي عنه في حديث عبد اللّه بن مغفّلٍ قال : « أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثمّ قال : ما بالهم وبال الكلاب ؟ » ويباح قتل الكلب العقور .
فكل ما آذى النّاس وضرّهم في أنفسهم وأموالهم يباح قتله , لأنّه يؤذي بلا نفعٍ , أشبه الذّئب , وما لا مضرّة فيه لا يباح قتله , وقال الرّحيباني : يجب قتله .
27 - والفقهاء متّفقون على جواز قتل الكلب العقور في الحرم للحديث : « خمس من الدّوابّ كلهنّ فاسق يقتلن في الحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور » . ونصّ الحنابلة على وجوب قتله , عملاً بنصّ الحديث الشّريف .
دفع الضّرر عن الكلب :
28 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يجب دفع الضّرر عن الكلب غير العقور وحفظ حياته لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « بينا رجل يمشي ، فاشتدّ عليه العطش ، فنزل بئراً فشرب منها ثمّ خرج ، فإذا هو بكلبٍ يلهث يأكل الثّرى من العطش ، فقال : لقد بلغ هذا مثل الّذي بلغ بي ، فملأ خفّه ثمّ أمسكه بفيه ، ثمّ رقا فسقى الكلب ، فشكر اللّه له فغفر له ، قالوا : يا رسول اللّه إنّ لنا في البهائم أجراً ؟ قال : في كلّ كبدٍ رطبةٍ أجر » .
وقال جمهور الفقهاء : يجب التّيمم على من معه ماء وخاف - باستعماله - مرضاً , أو زيادته , أو تأخر برءٍ , أو عطش محترمٍ معه أي محرّم قتله , آدمياً كان أو بهيمياً , ومنه كلب الصّيد والحراسة , أي فيجب سقيه , ولو دعاه ذلك إلى التّيمم .
وقال النّووي : كما يجب بذل المال لإبقاء الآدميّ المعصوم يجب بذله لإبقاء البهيمة المحترمة , وإن كانت ملكاً للغير , ولا يجب البذل للحربيّ , والمرتدّ , والكلب العقور .
ولو كان لرجلٍ كلب - غير عقورٍ - جائع , وشاة , لزمه ذبح الشّاة لإطعام الكلب .(/4)
كَنْز *
التّعريف :
1 - يطلق الكنز في اللغة على عدّةٍ معانٍ أوّلها : الجمع والادّخار , ومن ذلك قولهم : ناقة كنّاز اللّحم أي مجتمعة , وكنزت التّمر في وعائه أكنزه , وزمن الكناز هو أوان كنز التّمر وجمعه .
الثّاني : المال المدفون تحت الأرض تسميةً بالمصدر , وجمعه كنوز , مثل فلسٍ وفلوسٍ . الثّالث : كل كثيرٍ مجموعٍ يتنافس فيه .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الرّكاز :
2 - الرّكاز لغةً بمعنى المركوز وهو من الرّكز أي الإثبات , وهو المدفون في الأرض إذا خفي , والرِّكز بكسر الرّاء هو الصّوت الخفي .
وفي الاصطلاح عند الجمهور : ما دفنه أهل الجاهليّة , كما يطلق على كلّ ما كان مالاً على اختلاف أنواعه .
وخصّه الشّافعيّة بالذّهب والفضّة .
وعرّفه الحنفيّة بأنّه مال مركوز تحت أرضٍ أعم من كون راكزه الخالق أو المخلوق . والعلاقة بين الكنز والرّكاز أنّ الكنز أعم من الرّكاز .
( ر : ركاز ف 1 - 3 ) .
ب - المعدن :
3 - المعدن لغةً : مكان كلّ شيءٍ فيه أصله ومركزه , وموضع استخراج الجوهر من ذهبٍ ونحوه .
وهو في الاصطلاح قال الكمال : أصل المعدن المكان بقيد الاستقرار فيه , ثمّ اشتهر في نفس الأجزاء المستقرّة الّتي ركّبها اللّه تعالى في الأرض يوم خلق الأرض حتّى صار الانتقال من اللّفظ إليه ابتداءً بلا قرينةٍ .
أنواع الكنز :
يقسّم الفقهاء الكنز تقسيماتٍ متنوّعةً بالنّظر إلى عديدٍ من الاعتبارات الّتي تؤثّر في الحكم . وفيما يلي تفصيل ما يتعلّق بهذه التّقسيمات .
أوّلاً : تقسيم الكنز بالنّظر لنسبته التّاريخيّة :
أ - الكنوز الإسلاميّة :
أ - الكنوز الإسلاميّة هي الّتي يغلب في الظّنّ نسبتها إلى أحدٍ من المسلمين , وذلك إذا كان عليها نقش من النقوش الإسلاميّة , ككلمة التّوحيد أو الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم , أو اسم ملكٍ من ملوك الإسلام أو أيّة علامةٍ أخرى من العلامات الدّالّة على نسبة الكنز إلى أحدٍ من المسلمين .
وفي الحكم على هذا النّوع اتّجاهان :
أوّلهما : أنّه لا يأخذ حكم اللقطة ويلزم واجده أن يحفظه أبداً , قال النّووي : فعلى هذا يمسكه الواجد أبداً وللسلطان حفظه في بيت المال كسائر الأموال الضّائعة , فإن رأى الإمام حفظه أبداً فعل , وإن رأى اقتراضه لمصلحةٍ فعل , وعلى هذا الوجه لا يملكه الواجد بحالٍ , قال أبو عليٍّ : والفرق بينه وبين اللقطة أنّ اللقطة تسقط من مالكها في مضيعةٍ , فجوّز الشّارع لواجدها تملكها بعد التّعريف ترغيباً للنّاس في أخذها وحفظها , وأمّا الكنز المذكور فمحرز بالدّفن غير مضيّعٍ , فأشبه الإبل الممتنعة من السّباع إذا وجدها في الصّحراء , فإنّه لا يجوز أخذها للتّمليك .
أمّا الاتّجاه الآخر : فهو إلحاق ما يعد من هذه الكنوز باللقطة في الرّدّ على المالك إن عرف , وفي التّعريف , وفي التّصرف فيها التّصرف الواجب في اللقطة , ويوضّح إلحاق الكنز باللقطة عند أكثر الفقهاء إغفالهم للرّأي السّابق وعدم إشارتهم إليه في أكثر الكتب الفقهيّة , جاء في المغني أنّ هذا الكنز بمنزلة اللقطة , فعليه - أي على واجده - أن يعرّف ما يجده منه .
أمّا وجوب التّعريف بها وعدم كتمانها أو إخفائها فلا خلاف فيه بين الفقهاء , إلا أن يضرّ به هذا التّعريف فيعذر عنه فيما نصّ عليه الشبراملسي وأوضحه بقوله : اطّردت العادة في زماننا بأنّ من نسب له شيء من ذلك تسلّطت عليه الظلمة بالأذى واتّهامه أنّ هذا بعض ما وجده , فهل يكون ذلك عذراً في عدم الإعلام , ويكون في يده كالوديعة , فيجب حفظه ومراعاته أبداً , أو يجوز له صرفه مصرف بيت المال كمن وجد مالاً أيس من مالكه , وخاف من دفعه لأمين بيت المال أنّ أمين بيت المال لا يصرفه مصرفه ؟ فيه نظر , ولا يبعد الثّاني للعذر المذكور , وينبغي له إن أمكن دفعه لمن ملك منه تقديمه على غيره إن كان مستحقاً لبيت المال .
ومدّة التّعريف عند الحنفيّة سنة فيما تزيد قيمته على عشرة دراهم , وما قلّت قيمته عن ذلك يعرّف أيّاماً عندهم .
ولا خلاف بين أحدٍ من الفقهاء في وجوب دفع الكنز لصاحبه إن وجد أمّا إن لم يوجد صاحبه فقد اختلفوا في حكمه بناءً على اختلافهم فيما يجب في اللقطة الّتي لا يدرى صاحبها بعد تعريفها التّعريف الواجب .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( لقطة ف 14 ) .
ب - كنوز الجاهليّة :
5 - يطلق اصطلاح كنوز الجاهليّة على ما ينتسب إلى ما قبل ظهور الإسلام , سواء انتسب إلى قومٍ أهل جهلٍ لا يعرفون شيئاً عن الدّين ممّن عاشوا في فترات الرسل , أو انتسب إلى قومٍ من اليهود أو النّصارى , ويتقيّد هذا النّوع من الكنوز بمقتضى هذا الوصف بكونه دفين غير مسلمٍ ولا ذمّيٍّ .
وعلى الرّغم من إشارة أكثر الفقهاء إلى هذا النّوع من الكنوز بأنّه دفين الجاهليّة فإنّ هذا لا يعني اشتراط كونه مدفوناً في باطن الأرض لترتب الأحكام الفقهيّة الخاصّة به , إذ يذكر أكثر الشرّاح فيما نصّ عليه الدسوقي أنّ ما وجد فوق الأرض من أموالهم فهو ركاز , وأنّ التّقييد بالدّفن لأنّه شأن الجاهليّة في الغالب , ومع ذلك فقد ذكر بعض العلماء اشتراط الدّفن لاعتباره من الرّكاز حقيقةً , ولكن غير المدفون من الأموال يلتحق بالمدفون قياساً عليه , يدل على هذا الرّأي ما جاء في حاشية الدسوقيّ : أنّ غير المدفون ليس بركازٍ وإن كان فيه الخمس قياساً عليه .(/1)
وقال الشّافعيّة : لا بدّ أن يكون الموجود مدفوناً , فلو وجده ظاهراً وعلم أنّ السّيل أو السّبع أو نحو ذلك أظهره فركاز , أو علم أنّه كان ظاهراً فلقطة , فإن شكّ كان لقطةً كما لو تردّد في كونه ضرب الجاهليّة أو الإسلام , قاله الماورديّ .
وقد ورد في سنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم الإشارة إلى هذا النّوع من الكنوز بهذا الاصطلاح الّذي اتّبعه الفقهاء فيما بعد , فعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص : « أنّ رجلاً من مزينة سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه الكنز نجده في الخرب وفي الآرام ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : فيه وفي الرّكاز الخمس » .
والضّابط في التحاق ما يكتشف من الأموال بكنوز الجاهليّة أن يعلم أنّها من دفنهم , ولم تدخل في ملك أحدٍ من المسلمين ولا من أهل الذّمّة , وإنّما يظن ذلك ظناً غالباً بأن تكون عليه علاماتهم أو نقوشهم أو أي شيءٍ آخر يدل عليهم , جاء في المغني اعتبار الكنز دفناً جاهلياً بأن ترى عليه علاماتهم كأسماء ملوكهم وصورهم وصلبهم وصور أصنامهم ونحو ذلك .
ومن هذه العلامات فيما نصّ عليه البعض أن يوجد في قبورهم , أو أن يوجد في قلاعهم وخرائبهم .
وحكم هذا الكنز وجوب الخمس فيه باتّفاق الفقهاء إذا توافرت شروطه للنّصّ على هذا الوجوب .
ج - الكنز المشتبه الأصل :
6 - وهو النّوع الثّالث من الكنوز فهي الّتي لا نعرف حقيقتها , بأن لا يوجد عليها أثر مطلقاً كتبرٍ وآنيةٍ وحليٍّ , أو كان عليها أثر لا يكشف عن أصلها , كما إذا كانت نقداً يضرب مثله في الجاهليّة والإسلام .
وإنّما يصدق هذا إذا لم يمكن معرفة حقيقة الكنز من المكان الّذي وجد فيه , كما إذا وجد في قريةٍ لم يسكنها مسلم فإنّه يعد جاهلياً , وإذا كان المسلمون هم الّذين اختطوها ولم يسكنها جاهلي فإنّ الموجود يعد كنزًا إسلامياً .
واختلف الفقهاء في حكم هذا الكنز , فألحقه الحنفيّة في ظاهر المذهب والمالكيّة والحنابلة وهو قول عند الشّافعيّة بكنوز الجاهليّة فيعطى حكم الرّكاز .
وألحقه بعض الحنفيّة والشّافعيّة في الأصحّ بالكنوز الإسلاميّة فيعطى حكم اللقطة .
ثانياً : تقسيم الكنز الجاهليّ بالنّظر إلى الدّار الّتي وجد فيها :
يفرّق الفقهاء بين الكنز الّذي يجده الواجد في دار الإسلام , وبين ذلك الّذي يوجد في دار الحرب , وفيما يلي بيان هذا التّقسيم .
النّوع الأوّل : الكنز الّذي يوجد في دار الإسلام :
7 - تختلف أحكام الكنوز الّتي توجد في دار الإسلام تبعاً لاختلاف ملكيّة الأرض الّتي وجدت فيها وسبيل هذه الملكيّة , ويختلف النّظر الفقهي إلى ما يوجد من هذه الكنوز في أرضٍ لا مالك لها , أو في طريقٍ غير مسلوكٍ , أو في أرضٍ ملكها صاحبها بشراءٍ أو بميراثٍ , أو في أرضٍ ملكها صاحبها بالإحياء , على التّفصيل التّالي بين هذه الأنواع :
أ - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الكنز الجاهليّ الّذي يوجد في مواتٍ أو في أرضٍ لا يعلم لها مالك مثل الأرض الّتي توجد فيها آثار الملك كالأبنية القديمة والتلول وجدران الجاهليّة وقبورهم ، فهذا فيه الخمس ولو وجده في هذه الأرض على وجهها أو في طريقٍ غير مسلوكٍ أو في قريةٍ خرابٍ فهو كذلك في الحكم , لما روى عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه قال : « سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال : ما كان في طريقٍ مأتيٍّ أو في قريةٍ عامرةٍ فعرّفها سنةً ، فإن جاء صاحبها وإلا فلك ، وما لم يكن في طريقٍ مأتيٍّ ولا في قريةٍ عامرةٍ ففيه وفي الرّكاز الخمس » .
ومنه كذلك ما يوجد في بلاد الإسلام في أرضٍ غير مملوكةٍ لأحدٍ كالجبال والمفاوز .
وقال الشّافعيّة : يملك الواجد الرّكاز وتلزمه الزّكاة فيه إذا وجده في مواتٍ أو في خرائب أهل الجاهليّة أو قلاعهم أو قبورهم .
ب - وأمّا ما يوجد من الكنوز في أرضٍ أو دارٍ يملكها الواجد نفسه بشراءٍ أو ميراثٍ أو هبةٍ فالاتّفاق على وجوب الخمس باعتباره كان مال الكفرة استولى عليه على طريق القهر فيخمّس .
وأمّا الأربعة الأخماس الباقية فهي لصاحب الخطّة عند أبي حنيفة ومحمّدٍ إن كان حياً , وإن كان ميّتًا فلورثته إن عرفوا , وإن كان لا يعرف صاحب الخطّة ولا ورثته تكون لأقصى مالكٍ للأرض أو لورثته .
وقال أبو يوسف : أربعة أخماسه للواجد .
وذهب أبو حنيفة ومحمّد إلى أنّ ملكيّة الأخماس الأربعة في الكنز الموجود في أرضٍ مملوكةٍ للواجد أو غيره ليست للواجد ولا لمالك الأرض , وإنّما يرجع هذا الملك إلى المختطّ له الأوّل الّذي انتقلت إليه ملكيّة الأرض بما فيها بعد تقسيم الإمام لها عقب فتحها على أيدي الجيش المسلم , ويعرّف المرغيناني المختطّ له بأنّه هو الّذي ملّكه الإمام هذه البقعة أوّل الفتح , ويعقّب الكمال على هذا بقوله : لا نقول إنّ الإمام يملّك المختطّ له الكنز بالقسمة , بل يملّكه البقعة ويقرّر يده فيها ويقطع مزاحمة سائر الغانمين فيها , وإذا صار مستولياً عليها أقوى الاستيلاءات , وهو بيد خصوص الملك السّابقة فيملك بها ما في الباطن من المال المباح , للاتّفاق على أنّ الغانمين لم يعتبر لهم ملك في هذا الكنز بعد الاختطاط , وإلا لوجب صرفه إليهم أو إلى ذراريّهم , فإن لم يعرفوا وضع في بيت المال واللازم منتفٍ , ثمّ إذا ملكه - أي الكنز - لم يصر مباحاً فلا يدخل في بيع الأرض , فلا يملكه مشتري الأرض كالدرّة في بطن السّمكة يملكها الصّائد لسبق يد الخصوص إلى السّمكة حال إباحتها , ثمّ لا يملكها مشتري السّمكة لانتفاء الإباحة , وما ذكر في السّمكة من الإطلاق ظاهر الرّواية .(/2)
أمّا إن لم يعرف هذا المختط له ولا ورثته فإنّما يستحق الكنز أقصى مالكٍ يعرف في الإسلام , وهو اختيار السّرخسيّ , خلافاً لأبي اليسر البزدويّ الّذي اختار استحقاق بيت المال للكنز , يقول السّرخسي : إن كان المختط له باقياً أو وارثه دفع إليه , وإلا فهو لأقصى مالكٍ يعرف لهذه البقعة في الإسلام , وهذا قول أبي حنيفة ومحمّدٍ , ولعلّ أبا اليسر قد نظر إلى تعذر التّعرف على المختطّ له في عصره فأوجب ملك الأربعة الأخماس لبيت المال .
وقال المالكيّة : إن ملّكت الأرض بإرثٍ فأربعة الأخماس الباقية لمالكها , وإن ملّكت بشراءٍ أو هبةٍ فهي للبائع الأصليّ أو الواهب إن علم وإلا فلقطة , وقيل لمالكها في الحال .
وقالوا : إنّ ملك ما يوجد من الكنوز في أرضٍ مملوكةٍ بشراءٍ أو ما يشبهه يختص بمالك تلك الأرض حكماً وهو الجيش الّذي فتحها عنه , فيدفع الباقي لمن وجد منهم , فإن لم يوجد الجيش فلوارثه إن وجد , فإن انقرض الوارث فقال سحنون : إنّه لقطة فيجوز التّصدق به عن أربابه ويُعمل فيه ما يعمل في اللقطة , وقال بعضهم : إذا انقرض الوارث حلّ محلّه بيت المال من أوّل الأمر , لأنّه مال جهلت أربابه , وهذا هو المعتمد وهو ما مشى عليه الشّارح , وكان مالك يقول : كل كنزٍ وجد من دفن الجاهليّة في بلاد قومٍ صالحوا عليها فأراه لأهل تلك الدّار الّذين صالحوا عليها , وليس هو لمن أصابه , وما أصيب في أرض العتق فأراه لجماعة مسلمي أهل تلك البلاد الّذين افتتحوها , وليس هو لمن أصابه دونهم , لأنّ ما في داخلها بمنزلة ما في خارجها فهو لجميع أهل تلك البلاد , ويخمّس .
وقال الشّافعيّة : إذا كان الرّكاز في أرضٍ انتقلت إلى واجده من غيره لم يحلّ للواجد أخذه , بل يلزمه عرضه على من ملك الأرض عنه , ثمّ الّذي قبله إن لم يدعه , ثمّ هكذا حتّى ينتهي إلى المحيي .
وذهب الحنابلة في الأصحّ إلى أنّ الأربعة الأخماس لواجدها لأنّها مال كافرٍ مظهورٍ عليه في الإسلام , فكان لمن ظهر عليه كالغنائم , وهذا قد ظهر عليه فوجب أن يملكه , وفي روايةٍ ثانيةٍ للحنابلة هي للمالك قبله إن اعترف به , وإن لم يعترف به فهي للّذي قبله كذلك إلى أوّل مالكٍ , فإن لم يعرف له أوّل مالكٍ فهو كالمال الضّائع الّذي لا يعرف له مالك .
ج - ما يوجد من الكنز في بلاد الإسلام في أرضٍ ملكها صاحبها بالإحياء فيخمّس ما يوجد , ويستحق المحيي الأخماس الأربعة الباقية .
ونصّ الحنابلة على أنّ الكنز للواجد إن وجده في أرضٍ ملكها بالإحياء أو انتقلت إليه بميراثٍ أو بيعٍ أو غير ذلك .
د - ما يوجد من الكنز في بلاد الإسلام في أرضٍ موقوفةٍ فالكنز لمن في يده الأرض , كذا ذكره البغوي .
النّوع الثّاني : الكنوز الّتي يجدها المسلم أو الذّمّي في دار الحرب :
8 - فصّل الفقهاء أنواع ما يجده المسلم أو الذّمّي من كنوزٍ في دار الحرب على النّحو التّالي :
فقال المالكيّة والحنابلة : هو كموات دار الإسلام فيه الخمس لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « وفي الرّكاز الخمس » .
وقال الحنفيّة : إذا وجد الكنز في أرضٍ ليست بمملوكةٍ لأحدٍ في دار الحرب فهو للواجد , ولا يخمّس , لأنّه مال أخذه لا عن طريق القهر والغلبة لانعدام غلبة أهل الإسلام على ذلك الموضع فلم يكن غنيمةً , ولا خمس فيه , ويكون الكل له , لأنّه مباح استولى عليه بنفسه فيملكه كالحطب والحشيش , وسواء دخل بأمانٍ أو بغير أمانٍ , لأنّ حكم الأمان يظهر في المملوك لا في المباح .
وفصّل الشّافعيّة فقالوا : إذا وجده في دار الحرب في مواتٍ لا يذبون عنه فهو كموات دار الإسلام فيه الخمس , لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « وفي الرّكاز الخمس » .
وإن وجده في مواتٍ في دار الحرب يذبون عنه ذبّهم عن العمران فالصّحيح أنّه ركاز كالّذي لا يذبون عنه لعموم الحديث .
9 - أمّا إن وجد الكنز في أرضٍ مملوكةٍ لأهل هذه الدّار فيفرّق الفقهاء بين حالين :
أوّلهما : أن يدخل بأمانٍ فلا يحل له أخذ الكنز لا بقتالٍ ولا غيره , وليس له خيانتهم في أمتعتهم , فإن أخذه لزمه رده , قال الحنفيّة : ويرده إلى صاحب الأرض , وإلا ملكه ملكاً خبيثاً , لتمكن خبث الخيانة فيه فسبيله التّصدق به , ولو باعه يجوز بيعه لكن لا يطيب للمشتري , بخلاف بيع المشترى شراءً فاسداً , ويعد سارقاً إن أخذه خفيةً , ومختلساً إن أخذه جهاراً .
والثّاني : أن يكون قد دخل بغير أمانٍ فيحل للواجد أن يأخذ ما يظفر به من كنوزهم ولا شيء فيه عند الحنفيّة إن كان أخذه بغير قتالٍ , أمّا إن كان أخذه على سبيل القهر والغلبة بقتالٍ وحربٍ كما لو دخل جماعة ممتنعون في دار الحرب فظفروا بشيءٍ من كنوزهم يجب فيه الخمس ، لكونه غنيمةً لحصول الأخذ عن طريق القهر والغلبة .
وقال الشّافعيّة : إن وجد في موضعٍ مملوكٍ لهم نظر : إن أخذ بقهرٍ وقتالٍ فهو غنيمة كأخذ أموالهم ونقودهم من بيوتهم فيكون خمسه لأهل خمس الغنيمة وأربعة أخماسه لواجده , وإذا أخذ بغير قتالٍ ولا قهرٍ فهو فيء ومستحقه أهل الفيء , كذا ذكره إمام الحرمين .
ملكيّة الكنز :
تناول الفقهاء أحكام ملكيّة الكنز من حيث طبيعة ملكيّة الخمس وسبب ملكيّة الأربعة أخماس الباقية والعلاقة بين ملكيّة الأرض وملكيّة الكنوز الّتي توجد فيها .
أ - ملكيّة الخمس :
10 - يميّز فقهاء الحنفيّة بين نوعين من الحقوق :
أوّلهما : الحقوق المتعلّقة بذمّة أحدٍ من العباد , كدين القرض في ذمّة المقترض , والثّمن في ذمّة المشتري , والأجرة في ذمّة المستأجر , وقيمة المغصوب أو مثله في ذمّة الغاصب , والمهر والنّفقة في ذمّة الزّوج .(/3)
الثّاني : الحقوق القائمة بنفسها المتعلّقة بالأشياء ذاتها لا في ذمّة أحدٍ , وهي الّتي عرّفها صدر الشّريعة بأنّها حقوق قائمة بنفسها لا تجب في ذمّة أحدٍ كخمس الغنائم والمعادن , فالخمس فيهما مفروض على عين الغنائم والمعادن قبل الاستيلاء أو الكشف , دون نظرٍ إلى شخص الغانم أو الواجد للمعدن . وقد نصّ الحنفيّة على أنّ الخمس للفقراء , والواجد منهم , والأربعة الأخماس للواجد إذا لم تبلغ مائتي درهمٍ , فإن بلغت لم يجز له الأخذ من الخمس .
قال السّرخسي : من أصاب كنزاً أو معدناً وسعه أن يتصدّق بخمسه على المساكين , فإذا اطلع الإمام على ذلك أمضى له ما صنع , لأنّ الخمس حق الفقراء وقد أوصله إلى مستحقّه .
وقال الكاساني : يجوز دفع الخمس إلى الوالدين والمولودين إذا كانوا فقراء بخلاف الزّكاة والعشر , ويجوز للواجد أن يصرفه في مصالحه إذا كان محتاجاً ولا تغنيه الأربعة الأخماس الباقية بأن كانت تقل عن المائتين , أمّا إذا بلغت الأخماس الأربعة المائتين فليس للواجد الأخذ من الخمس لغناه , ولا يقال ينبغي ألا يجب الخمس مع الفقر كاللقطة , لأنّا نقول إنّ النّصّ عام فيتناوله .
وقال المالكيّة : خمس الرّكاز مصرفه ليس كمصرف الزّكاة وإنّما هو كخمس الغنائم يحل للأغنياء وغيرهم , ويجب الخمس في الرّكاز ولو كان الواجد عبداً أو كافراً أو صبياً أو مديناً , وإن احتاج إلى كبير عملٍ في تخليصه وإخراجه من الأرض ففيه الزّكاة ربع العشر , ولا يشترط لوجوب الزّكاة بلوغ النّصاب ولا غيره من شروط الزّكاة .
وقال الشّافعيّة : في الرّكاز الخمس يصرف مصرف الزّكاة على المشهور , لأنّه حق واجب في المستفاد من الأرض , فأشبه الواجب في الزّرع والثّمار , ولا بدّ أن يكون الواجد أهلاً للزّكاة .
والثّاني : أنّه يصرف لأهل الخمس , لأنّه مال جاهلي حصل الظّفر به من غير إيجاف خيلٍ ولا ركابٍ , فكان كالفيء , وعليه فيجب على المكاتب والكافر من غير احتياجٍ لنيّةٍ . وشرطه النّصاب - ولو بالضّمّ - والنّقد أي الذّهب والفضّة وإن لم يكن مضروباً على المذهب , لأنّه مال مستفاد من الأرض فاختصّ بما تجب فيه الزّكاة قدراً ونوعاً كالمعدن . والثّاني : لا يشترطان للخبر المارّ , ولا يشترط الحول بلا خلافٍ .
والمذهب عند الحنابلة : أنّ الخمس يكون مصرفه مصرف الفيء , اختاره ابن أبي موسى والقاضي وابن عقيلٍ , ويجب الخمس على كلّ من وجده من مسلمٍ وذمّيٍّ وحرٍّ وعبدٍ ومكاتبٍ وكبيرٍ وصغيرٍ وعاقلٍ ومجنونٍ , إلا أنّ الواجد له إذا كان عبداً فهو لسيّده , وإن كان صبياً أو مجنوناً فهو لهما ويخرج عنهما وليهما .
وفي روايةٍ عن أحمد : أنّه زكاة , جزم به الخرقي , وإن تصدّق به على المساكين أجزأه لأنّ عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه أمر صاحب الكنز أن يتصدّق به على المساكين . وإذا كان الخمس زكاةً فلا تجب على من ليس من أهلها .
ب - ملكيّة الأخماس الأربعة :
11 - يملك واجد الكنز ما يبقى منه بعد صرف الخمس بالشروط التّالية :
أوّلاً : أن يكون الواجد مسلماً أو ذمّياً , فإن كان حربياً اشترط سبق إذن الإمام له بالعمل في التّنقيب عن الكنوز , ويتقيّد حقه في الكنز باتّفاقه مع الإمام , وقد نصّ فقهاء المذهب الحنفيّ على أنّ الحربيّ إذا عمل في المفاوز بإذن الإمام على شرطٍ فله المشروط .
ثانياً : أن يكون الكنز من دفين الجاهليّة لم يدخل في ملك مسلمٍ ولا ذمّيٍّ وإلا أخذ الكنز حكم اللقطة .
ثالثاً : أن يوجد الكنز في أرضٍ غير مملوكةٍ لأحدٍ كالجبال والمفاوز والطرق المهجورة الّتي لا يأتيها المسلمون ولا أهل الذّمّة .
ونصّ الشّافعيّة على أنّ الواجد يملك الرّكاز , لأنّه كسب له فيملكه بالاكتساب , وإذا ملكه وجبت الزّكاة فيه وهي الخمس لأنّه من أهلها .
ج - ملكيّة الكنز الموجود في أرضٍ مملوكةٍ لغير معيّنٍ :(/4)
12 - قال الحنفيّة : إذا وجد الكنز في أرضٍ مملوكةٍ فإمّا أن تكون مملوكةً لغير معيّنٍ أو مملوكةً لمعيّنٍ , والأراضي المملوكة لغير معيّنٍ هي الّتي آلت إلى المسلمين بلا قتالٍ ولا إيجاف خيلٍ ولا ركابٍ , وكذا الّتي آلت إلى بيت المال لموت المالك من غير وارثٍ , كما صرّح به بعض الفقهاء فيما يتعلّق بأراضي مصر , وتنتقل ملكيّة هذا النّوع من الأرضين إلى بيت المال وتصير أملاك دولةٍ , فيملكها جميع المسلمين , واعتبرها بعض الفقهاء وقفاً , وحكم ما يوجد من كنزٍ في هذا النّوع من الأراضي أن يذهب خمسه لبيت المال أمّا الباقي وهو الأربعة الأخماس فالقياس أن يذهب إلى الواجد على مذهب أبي يوسف والحنابلة , أو إلى المختطّ له الأوّل إن عرف , وإلا فلبيت المال أو للجيش وورثته عند القائلين به حسبما يأتي تفصيله , وفي هذا يذكر ابن عابدين أنّه لم ير حكم ما وجد في أرضٍ مملوكةٍ لغير معيّنٍ , ثمّ يقول : والّذي يظهر لي أنّ الكلّ لبيت المال , أمّا الخمس فظاهر , وأمّا الباقي فلوجود المالك - وهو جميع المسلمين - فيأخذه وكيلهم وهو السلطان. وهو مذهب المالكيّة بناءً على أصلهم في صرف الباقي بعد الخمس أو دفع نسبة الزّكاة إلى مالك الأرض , ويفسّر الخرشي هذا الأصل بقوله : باقي الرّكاز سواء وجب فيه الخمس أو الزّكاة , وهو الأربعة الأخماس في الأوّل والباقي بعد ربع العشر في الثّاني لمالك الأرض , وأراد بالمالك حقيقةً أو حكماً , بدليل قوله : ولو جيشًا , فإنّ الأرض لا تملّك للجيش , لأنّها بمجرّد الاستيلاء تصير وقفاً , فإن لم يوجد فهو مال جهلت أربابه , قال مطرّف وابن الماجشون وابن نافعٍ : لواجده , وحكى ابن شاسٍ عن سحنونٍ أنّه كاللقطة , ومفاده أنّ الأربعة الأخماس تذهب إلى مالك الأرض , سواء كان معيّناً أو غير معيّنٍ .
ملكيّة الكنوز الإسلاميّة :
13 - تأخذ هذه الكنوز حكم اللقطة في المذاهب المختلفة , لأنّها مال مسلمٍ لا يعرف على التّعيين , من حيث وجوب الالتقاط , والتّعريف ومدّته والتّملك والانتفاع بها , وضمانها بعد التّصدق , وما إلى ذلك .
( ر : لقطة ) .
مسائل فقهيّة خاصّة بالكنز :
أ - حكم التّنقيب عن الكنوز :
14 - بحث الفقهاء المسلمون حكم التّنقيب عن الكنوز ولم يروا حرمته فيما نصوا عليه , لإيجاب الشّريعة الخمس فيما خرج منها , ممّا يدل بوجه الاقتضاء على حلّ استخراجه وجواز البحث عنه , وما روي عنهم من الكراهة أو الحرمة فإنّما هو لمعنىً آخر , من ذلك أنّ مالكاً قد كره الحفر في القبور ولو كانت لموتى الجاهليّة تعظيماً لحرمة الموت , ففي المدوّنة : قال مالك : أكره حفر قبور الجاهليّة والطّلب فيها ولست أراه حراماً , فما نيل فيها من أموال الجاهليّة ففيه الخمس , وذلك - كما جاء في حاشية الدسوقيّ - لإخلاله بالمروءة , وخوف مصادفة قبر صالحٍ من نبيٍّ أو وليٍّ , واعلم أنّ مثل قبر الجاهليّ في كراهة الحفر لأجل أخذ ما فيه من المال قبر من لا يعرف هل هو من المسلمين أو الكفّار , وكذا قبور أهل الذّمّة , أي الكفّار تحقيقاً , وأمّا نبش قبور المسلمين فحرام , وحكم ما وجد فيها حكم اللقطة , وقد خالف أشهب في هذا , ورأى جواز نبش قبر الجاهليّ وأخذ ما فيه من مالٍ وعرضٍ , وفيه الخمس , وهو مذهب الأحناف , فعندهم أنّه لا بأس بنبش قبور الكفّار طلباً للمال .
ولا يشترط إذن الإمام في التّنقيب عن الكنوز والمعادن ليأخذ الواجد حقّه عند الأحناف , ففي السّير : أنّه إن أصاب الذّمّي أو العبد أو المكاتب أو الصّبي أو المرأة معدناً في دار الإسلام أو ركازاً خمّس ما أصاب , وكانت البقيّة لمن أصابه , إن كان ذلك بغير إذن الإمام , لأنّ هؤلاء يثبت لهم في الغنيمة حق وإن أصابوها بغير إذن الإمام , فإنّهم لو غزوا مع عسكرٍ من المسلمين بغير إذن الإمام رضخ لهم من الغنيمة , فكذلك ثبت لهم حق فيما أصابوا في دار الإسلام .
ولو أذن الإمام لأحدٍ في استخراج المعادن أو الكنوز على شرطٍ لزم هذا الشّرط , فكل شيءٍ قدّره الإمام صار كالّذي ظهر تقديره بالشّريعة , فيما لا يصادم نصاً ولا أصلاً من الأصول الشّرعيّة , ولذا لا يجوز للإمام الاتّفاق على إسقاط شيءٍ من الخمس الّذي أوجبه الشّارع لحظّ الفقراء , فلو أنّ مسلماً حراً أو عبداً أو مكاتباً أو امرأةً أذن له الإمام في طلب الكنوز والمعادن من الذّهب والفضّة وغير ذلك على أنّ ما أصاب من ذلك فهو له لا خمس فيه فأصاب مالاً كثيراً من المعادن فليس ينبغي للإمام أن يسلّم ذلك له إن كان موسراً , لأنّ ما يصاب من الرّكاز والمعدن هو غنيمة , والخمس حق الفقراء في الغنيمة , ولا يجوز له أن يبطل حقّ الفقراء , فإن كان الّذي أصابه محتاجاً عليه دين كثير لا يصير غنياً بالأربعة الأخماس فرأى الإمام أن يسلّم ذلك الخمس له جاز , لأنّ الخمس حق الفقراء , هذا الّذي أصابه فقير , فقد صرف الحقّ إلى مستحقّه فيجوز , والدّليل عليه ما روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنّه قال لذلك الرّجل الّذي أصاب الرّكاز : إن وجدتها في أرضٍ خربةٍ فالخمس لنا وأربعة أخماسه لك ، ثمّ قال : وسنتمها لك , وإنّما قال ذلك لأنّه رآه أهلاً للصّدقة , ولو اشترط الزّيادة على الخمس لم يجز هذا الشّرط , ففي السّير الكبير أنّ الإمام إذا أذن لمسلمٍ أو ذمّيٍّ في طلب الكنوز والمعادن على أنّ له النّصف وللمسلمين النّصف فأصاب كنزاً أو أموالاً من المعادن , فإنّ الإمام يأخذ منه الخمس وما بقي فهو لمن أصابه , وهذا لأنّ استحقاقه بالإصابة لا بالشّرط , ولذا لا يعتبر الشّرط .
احتفار الذّمّيّ والمستأمن للكنوز :(/5)
15 - الذّمّي كالمسلم في إيجاب الخمس وفي عدم اشتراط إذن الإمام لاستحقاق الملك . يقول الشّيباني : وما أصاب الذّمّي من ركازٍ في دار الإسلام أو معدنٍ ذهبٍ أو فضّةٍ أو رصاصٍ أو زئبقٍ فهو والمسلم فيه سواء , يخمّس ما أصاب وما بقي فهو له , سواء كان بإذن الإمام أو بغير إذن الإمام , لأنّه من أهل دارنا ويجري عليه حكمنا فكان بمنزلة المسلم أمّا الحربي المستأمن فقال الشّيباني : إذا دخل الحربي دار الإسلام بأمانٍ فأصاب ركازاً أو معدناً , فاستخرج منه ذهباً أو ورقاً أو حديداً فإنّ إمام المسلمين يأخذه منه كلّه , ولا يكون له شيء , لأنّ هذا غنيمة , فإنّ المسلمين أوجفوا عليها الخيل , ألا ترى أنّ المسلم لو كان هو الّذي أصاب يخمّس والباقي له , ولو لم يكن غنيمةً لكان لا خمس فيه , والحربي لا حقّ له في غنائم المسلمين , فإن كان الحربي المستأمن استأذن إمام المسلمين في طلب ذلك والعمل فيه حتّى يستخرجه فأذن له في ذلك , فعمل فأصاب شيئاً خمّس ما أصاب وكان ما بقي للحربيّ المستأمن , لأنّ الحربيّ المستأمن لو قاتل المشركين بإذن الإمام صار له في الغنيمة نصيب , حتّى أنّه يرضخ له كما يرضخ للذّمّيّ .
وقال : لو أنّ الحربيّ المستأمن استأذن الإمام في طلب الكنوز والمعادن , فأذن له الإمام على أنّ للمسلمين ممّا يصيب النّصف وله النّصف , فعمل على هذا فأصاب ركازاً معدناً فإنّ الإمام يأخذ نصف ما أصاب والحربي نصفه , وذلك لأنّ الحربيّ المستأمن إنّما يستحق من الرّكاز الّذي أصابه في دار الإسلام ما استحقه بشرط إذن الإمام , فإنّه لو أصابه بعد إذن الإمام أخذ منه , وإذا كان استحقاقه بالشّرط ، والإمام شرط له النّصف فلا يستحق أكثر من النّصف .
ثمّ الإمام يأخذ خمس ما أصاب الحربي من النّصف الّذي أخذه من الحربيّ فيجعله للفقراء , ويجعل النّصف للمقاتلة , وذلك لأنّ إذن الإمام يصيّر ما أصابه الحربي غنيمةً يجب فيها الخمس .
ب - الاستئجار على العمل في استخراج الكنوز :
1 - أجاز جمهور الفقهاء الاستئجار على العمل في استخراج الكنوز شريطة استجماع شروط صحّة الإجارة , وهي أن تكون الأجرة معلومةً وأن يكون العمل مضبوطاً بزمنٍ أو غيره ممّا يحصل به الضّبط , كحفر كذا وإزالة جدارٍ أو نقل قدرٍ معيّنٍ من التراب , ويستحق العامل الأجر ويذهب ما يخرج من الكنوز إلى المستأجر , جاء في البحر الرّائق : أنّه إذا استأجر أجراء للعمل في المعدن فالمصاب للمستأجر لأنّهم يعملون له .
وفي حاشية الدسوقيّ أنّه يجوز دفعه أي المعدن لمن يعمل فيه بأجرةٍ معلومةٍ يأخذها من العامل في نظير أخذه ما يخرجه من المعدن بشرط كون العمل مضبوطاً بزمنٍ أو عملٍ خاصٍّ كحفر قامةٍ أو قامتين نفياً للجهالة في الإجارة , وسمّي العوض المدفوع أجرةً لأنّه ليس في مقابلة ذاتٍ , بل في مقابلة إسقاط الاستحقاق , ويرى المالكيّة أنّه إذا استأجره على أنّ ما يخرج لربّه والأجرة يدفعها ربه للعامل فيجوز ولو بأجرة نقدٍ .
وفي جواز دفع المعدن بجزءٍ للعامل ممّا يخرج منه كنصفٍ أو ربعٍ كالقراض ومنعه . . قولان رجّح كل منهما .
وإنّما جازت الإجارة في استخراج الكنوز لجواز المعاوضة على هذه المنفعة , يقول السّرخسي : وإذا تقبّل الرّجل من السلطان معدناً ثمّ استأجر فيه أجراء , واستخرجوا منه مالاً قال يخمّس , وما بقي فهو للمتقبّل , لأنّ عمل أجرائه كعمله بنفسه , ولأنّ عملهم صار مسلّماً إليه حكماً بدليل وجوب الأجرة لهم عليه , وإن كان عملوا فيه بغير أمره فالأربعة الأخماس لهم دونه , لأنّهم وجدوا المال , والأربعة الأخماس للواجد , والتّقبل من السلطان لم يكن صحيحاً , لأنّ المقصود منه ما هو عين , والتّقبل في مثله لا يصح , كمن تقبّل أجمةً فاصطاد فيها السّمك غيره كان للّذي اصطاده , وكذلك من تقبّل بعض المقانص من السلطان فاصطاد فيها غيره كان الصّيد لمن أخذه , ولا يصح ذلك التّقبل منه , فهذا مثله .
ومعنى التّقبل الالتزام بالعمل بعقدٍ .
( ر : تقبل ف 1 ) .
لكن لو فسدت الإجارة فالقياس ألا تجب الأجرة للأجير وأن يكون عمله في استخراج الكنوز لنفسه , وقد نصّ ابن عابدين فيما لو لم يتّفقا على تعيين العمل بما لا يضبطه - كأن لا يذكرا وقتاً يحدّدانه لهذا العمل - أنّ الرّكاز هنا للعامل أيضاً , إذا لم يوقّتا , لأنّه إذا فسد الاستئجار بقي مجرّد التّوكيل , والتّوكيل في أخذ المباح لا يصح بخلاف ما إذا حصّله أحدهما بإعانة الآخر , فإنّ للمعين أجر مثله , لأنّه عمل له غير متبرّعٍ , هذا ما ظهر لي فتأمّله .
ج - الاشتراك في استخراج الكنوز :
17 - انقسم الفقهاء في حكم الاشتراك في استخراج الكنوز إلى فريقين :(/6)
الأوّل : الحكم بفساد الشّركة في استخراج الكنوز ورجوع ما يستخرجه كل شريكٍ من الشركاء لنفسه وهو مذهب الحنفيّة , قال الحصكفي : لو عمل رجلان في طلب الرّكاز فهو للواجد , قال ابن عابدين : ظاهره أنّه لا شيء عليه للآخر وهذا ظاهر فيما إذا حفر أحدهما مثلاً , ثمّ جاء آخر وأتمّ الحفر واستخرج الرّكاز , أمّا لو اشتركا في طلب ذلك فسيذكر في باب الشّركة الفاسدة أنّها لا تصح في احتشاشٍ واصطيادٍ واستقاءٍ وسائر مباحاتٍ كاجتناء ثمارٍ من جبالٍ وطلب معدنٍ من كنزٍ وطبخ آجرٍّ من طينٍ مباحٍ لتضمنها الوكالة , والتّوكيل في أخذ المباح لا يصح , وما حصّله أحدهما فله , وما حصّلاه معاً فلهما نصفين إن لم يعلم ما لكلٍّ , وما حصّله أحدهما بإعانة صاحبه فله , ولصاحبه أجر مثلٍ بالغاً ما بلغ عند محمّدٍ , وعند أبي يوسف لا يجاوز به نصف ثمن ذلك , وإنّما كانت شركةً في تحصيل المعادن الخلقيّة أو الكنوز الجاهليّة فاسدةً عند الحنفيّة لأنّ هذه الأموال من المباحات فلا تقبل التّوكيل في أخذها , والشّركة إنّما تقوم على معنى الوكالة , فكل من الشّريكين وكيل عن الآخر في التّقبل والعمل حتّى يشتركا في الرّبح الحاصل لهما , ولا فرق في ذلك بين الاشتراك في التّحصيل بآلةٍ يستخدمها كل منهما في عمله أو بآلاتٍ مشتركةٍ .
الثّاني : جواز الاشتراك في استخراج المعادن والكنوز , وهو مذهب المالكيّة والحنابلة , خلافاً لاتّجاه الحنفيّة , ففي حاشية الدسوقيّ جواز الاشتراك في الحفر على الرّكاز والمعدن والآبار والعيون وكذا البنيان بشرط اتّحاد الموضع , فلا يجوز أن يحفر هذا في غارٍ فيه معدن وهذا في غارٍ آخر , وقد ذكر ابن قدامة جواز الاشتراك في المباح كالحطب والحشيش والثّمار المأخوذة من الجبال والمعادن والتّلصص على دار الحرب , فهذا جائز , نصّ عليه أحمد .
ويستدل الحنابلة لمذهبهم من المنقول بما روي عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال : اشتركت أنا وعمّار وسعد يوم بدرٍ فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمّار بشيءٍ , قال ابن قدامة : ومثل هذا لا يخفى عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد أقرّهم عليه .
أمّا من المعقول فيستدلون بأنّ العمل أحد جهتي المضاربة وصحّة الشّركة عليه كالمال .
د - الاختصاص والمزاحمة :
18 - لا يتوقّف العمل في استخراج الكنوز والمعادن على إذن الإمام إلا عند المالكيّة الّذين اشترطوا إذن الإمام للعمل في المعادن منعاً للهرج والنّزاع بين العامّة , وذلك لأنّ المعادن قد يجدها شرار النّاس , فلو لم يكن حكمه إلى الإمام لأدّى ذلك إلى الفتن والهرج ولا يعني عدم اشتراط إذن الإمام في العمل في الكنوز والمعادن إثبات حقّ كلّ أحدٍ في مزاحمة العامل فيها , فلا تجوز مزاحمته فيما أختصّ به بسبق يده عليه , جاء في الأصل للشّيبانيّ فيما لو كان الرّجل يعمل في المكان يوماً فيجئ آخر من الغد فيعمل في ذلك المكان ويصيب منه المال معتبراً أحقّيّته , قال محمّد : يخمّس وما بقي بعد الخمس فهو للّذي عمل فيه بعد ذلك أخيراً , إذ فرض المسألة أنّ المستخرج الأوّل ترك مكان الحفر في الفترة الّتي عمل فيها الآخر .
أمّا إذا لم ينقطع عن العمل فيه فإنّه لا حقّ لأحدٍ في مزاحمته , لسبق اختصاصه به ومقتضاه أنّ مجرّد العمل في مكانٍ للبحث عمّا فيه من كنوزٍ أو معادن لا يوجب ملك ما يوجد فيه , إذ الواقع أنّ من ملك أن يملك لم يعد مالكاً , طبقاً لما حرّره القرافي .
إقطاع المعادن :
19 - اختلف الفقهاء في حكم إقطاع المعادن وهي البقاع الّتي أودعها اللّه تعالى جواهر الأرض , بعد أن قسّموها إلى معادن ظاهرةٍ ومعادن باطنةٍ , فأجاز ذلك بعضهم ومنعه آخرون , وفرّق بعضهم بين المعادن الظّاهرة والمعادن الباطنة .
والتّفصيل في : ( إقطاع ف 17 , 18 ومعدن ) .
أثر النّفقة في وجوب الخمس :
20 - يرى المالكيّة في المعتمد طبقاً لما ذكره الدسوقي أنّ الرّكاز فيه الخمس إلا في حالتين وهما : إذا ما توقّف إخراجه من الأرض على كبير نفقةٍ , أو عملٍ , وأمّا فيهما فالواجب إخراج ربع العشر , ويخالف ابن يونس في هذا التّفسير ويوجب الخمس في الرّكاز مطلقاً , سواء افتقر إخراجه من الأرض إلى كبير نفقةٍ وإلى كبير جهدٍ وعملٍ أم لم يفتقر . وقال الشّافعيّة : الواجب في الرّكاز الخمس , ولا اعتبار بالنّفقة أو العمل في الحصول عليه حيث إنّه لا نفقة لتحصيله غالباً , لأنّه يصل إلى الواجد من غير نفقةٍ ولا تعبٍ , أو بقليلٍ من ذلك خلافاً للذّهب والفضّة المستخرجين من المعدن فاعتبرت النّفقة والعمل في مقدار ما يجب فيهما , لأنّ الواجب يزداد بقلّة المؤنة وينقص بكثرتها كالمعشّرات .
نوع وجوب الخمس :
21 - اختلف الفقهاء في تكييف الخمس الّذي يجب في الكنز , هل هو كالزّكاة أو كخمس الغنيمة ؟
فقال بعضهم : إنّه من قبيل الغنيمة , وقال آخرون : إنّه من قبيل الزّكاة .
والتّفصيل في : ( ركاز ف 10 - 15 ) .
شروط وجوب الخمس :
أ - التّمول والتّقوم :
22 - ذهب الفقهاء إلى اشتراط تمول الخارج من الأرض لوجوب الخمس فيه , أمّا ما لا يتموّله النّاس في العادة ولا يبذلون الأثمان للحصول عليه فلا شيء فيه .
واختلفوا في اشتراط كون الخارج من الأثمان لوجوب الخمس فيه أو في عدم اشتراط ذلك : فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو مقابل المذهب عند الشّافعيّة إلى أنّه لا يشترط في الكنز الّذي يجب فيه الخمس كونه من الأثمان بل قالوا : إنّ الخمس يجب في الخارج عيناً كان أو عرضاً كنحاسٍ وحديدٍ وجوهرٍ ورخامٍ وصخورٍ .(/7)
وقال الشّافعيّة : يشترط لوجوب الخمس في الخارج من الأرض أن يكون نقداً أي ذهباً وفضّةً , سواء أكانا مضروبين أم غير مضروبين كالسّبائك على المذهب , لأنّه مال مستفاد من الأرض , فاختصّ بما تجب فيه الزّكاة قدراً ونوعاً كالمعدن .
ب - سبق اليد الجاهليّة على ملك الكنز :
23 - يشترط لاعتبار المال المدفون في باطن الأرض من الكنوز الّتي يجب تخميسها أن يغلب على الظّنّ أنّها كانت ملكاً لأهل الجاهليّة والمراد بالجاهليّة ما قبل مبعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم , وليس المقصود أن يكون المال من ضرب الجاهليّة وصناعتهم , بل أن يكون من دفنهم , ليعلم أنّه كان في ملكهم .
ج - استخراج الكنز من دار الإسلام لا من دار الحرب :
24 - أوجب الحنفيّة والحنابلة استخراج الكنز من دار الإسلام لوجوب الخمس فيه , فعندهم أنّه لا يخمّس ركاز معدناً كان أو كنزاً وجد في صحراء دار الحرب , بل كله للواجد , ولو مستأمناً , لأنّه كالمتلصّص .
ويخالف المالكيّة والشّافعيّة في هذا , فيخمّس عند المالكيّة ما يوجد من الكنوز في أرضٍ غير مملوكةٍ لأحدٍ كموات أرض الإسلام وأرض الحرب , ولواجده الباقي بعد الخمس , وفي نهاية المحتاج أنّ الرّكاز هو الموجود الجاهلي في مواتٍ مطلقاً , سواء كان بدار الإسلام أم بدار الحرب إن كانوا يذبونا عنه , وسواء أحياه الواجد أم أقطعه أم لا .
د - الاستخراج من البرّ لا من البحر :
25 - اشترط بعض الفقهاء أخذ الكنز من البرّ لوجوب الخمس فيه على حين لم يشترط بعضهم هذا الشّرط , ومبناه اختلافهم في إلحاق الكنوز بالغنيمة أو بالزروع والثّمار وفي تحقيق الاستيلاء على الكنوز , وهي في البحر , على النّحو الّذي يرد توضيحه فيما يلي : يحكي الكاساني اختلاف الحنفيّة في حكم ما يستخرج من البحر بقوله : أمّا المستخرج من البحر كاللؤلؤ والمرجان والعنبر وكلّ حليةٍ تستخرج من البحر فلا شيء فيه في قول أبي حنيفة ومحمّدٍ , وهو للواجد .
وعند أبي يوسف فيه الخمس , واحتجّ بما روي أنّ عامل عمر رضي الله عنه كتب إليه في لؤلؤةٍ وجدت ما فيها قال فيها الخمس , وروي عنه أنّه أيضاً أخذ الخمس من العنبر . . ولأنّ المعنى هو كون ذلك مالاً منتزعاً من أيدي الكفّار بالقهر , إذ الدنيا كلها برها وبحرها كانت تحت أيديهم , انتزعناها من بين أيديهم , فكان ذلك غنيمةً فيجب الخمس كسائر الغنائم , ولهما ما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه سئل عن العنبر فقال هو شيء دسره البحر لا خمس فيه , ولأنّ يد الكفرة لم تثبت على باطن البحار الّتي يستخرج منها اللؤلؤُ والعنبر , فلم يكن المستخرج منها مأخوذاً من أيدي الكفرة على سبيل القهر , فلا يكون غنيمةً فلا يكون فيه الخمس , وعلى هذا قال أصحابنا : إن استخرج من البحر ذهباً أو فضّةً فلا شيء فيه .
وما روي عن عمر رضي الله عنه في اللؤلؤ والعنبر محمول على لؤلؤٍ وعنبرٍ وجد في خزائن ملوك الكفرة , فكان مالاً مغنوماً فأوجب فيه الخمس , وهذا هو الرّاجح في المذهب , ففي حاشية ابن عابدين : والحاصل أنّ الكنز يخمّس كيف كان ، سواء كان من جنس الأرض أو لا بعد أن كان مالاً متقوّماً , ويستثنى منه جميع ما يستخرج من البحر من حليةٍ ولو ذهباً كان كنزاً في قعر البحر ، أي ولو كان ما يستخرج من البحر ذهباً مكنوزًا بصنع العباد في قعر البحر , فإنّه لا خمس فيه , وكله للواجد ، لأنّه لم يرد عليه القهر , فلم يكن غنيمةً .
والظّاهر أنّ هذا مخصوص فيما ليس عليه علامة الإسلام .
وذهب الحنابلة إلى أنّه لا زكاة في المستخرج من البحر كاللؤلؤ والمرجان ونحوه في ظاهر قول الخرقيّ واختيار أبي بكرٍ , وروي نحو ذلك عن ابن عبّاسٍ , وبه قال عمر بن عبد العزيز وعطاء والثّوري وابن أبي ليلى والحسن بن صالحٍ وأبو ثورٍ وأبو عبيدٍ , وعن أحمد رواية أخرى أنّ فيه الزّكاة لأنّه خارج من معدنٍ فأشبه الخارج من معدن البرّ والرّاجح عندهم أنّه لا زكاة فيما يخرج من البحر لأنّه لم تأت فيه سنّة صحيحة , والأصل عدم الوجوب .
وقال المالكيّة : ما لفظه البحر كعنبرٍ ممّا لم يسبق عليه ملك لأحدٍ فلواجده بلا تخميسٍ , فإن تقدّم ملك عليه فإن كان لجاهليٍّ أو شكّ فيه فركاز , وإن كان لمسلمٍ أو ذمّيٍّ فلقطة .
هـ - النّصاب :
26 - لا يشترط جمهور الفقهاء النّصاب لوجوب الخمس في الكنوز فكل ما يوجد منه , قليلاً أو كثيراً محل لوجوب الخمس فيه كالغنيمة في ذلك , نصّ عليه الحنفيّة والحنابلة وهو مقابل المذهب عند الشّافعيّة , وهو المشهور عند المالكيّة , ومقابله ما قاله ابن سحنونٍ من أنّ اليسير الّذي يقل عن النّصاب لا يخمّس .
والمذهب عند الشّافعيّة اشتراط النّصاب , ولو بالضّمّ لأنّه مال مستفاد من الأرض فاختصّ بما تجب فيه الزّكاة قدراً ونوعاً كالمعادن .
و - حولان الحول :
27 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا يشترط لوجوب الخمس حولان الحول على الخارج لحصوله دفعةً واحدةً كالزّرع والثّمار فلم يناسبه الحول لأنّ اشتراط الحول للنّماء وهذا كله نماء .
ز - إسلام الواجد :
28 - لا يشترط جمهور الفقهاء إسلام الواجد لوجوب الخمس , فمذهب الحنفيّة أنّه إن أصاب الذّمّي أو المسلم كنزاً خمّس ما أصاب وكانت البقيّة لمن أصابه , ويستوي - كما قال السّرخسي - أن يكون الواجد مسلماً أو ذمّياً , صبياً أو بالغاً , لأنّ استحقاق هذا المال كاستحقاق الغنيمة , ولجميع من سمّينا حق في الغنيمة إمّا سهماً وإمّا رضخاً .
وفي المدوّنة أنّه يخمّس ما يصيب الرّجل من كنوزٍ ولا يلتفت إلى دينه , وفي الإنصاف أنّه يجب أن يخمّس كل أحدٍ وجد ذلك من مسلمٍ أو ذمّيٍّ .(/8)
واختار ابن حامدٍ أن يؤخذ الرّكاز كله من الذّمّيّ لبيت المال ولا خمس عليه , والمذهب هو الأوّل وهو أنّه لا فرق بين المسلم والذّمّيّ في وجوب الخمس .
وقد ذكر النّووي أنّ حكم الذّمّيّ في الرّكاز حكمه في المعدن . فلا يمكّن من أخذه في دار الإسلام , فإن وجده ملكه على المذهب .
واشترط الشّافعيّة لوجوب الخمس في الرّكاز كون واجده مسلماً لأنّ خمس الرّكاز يصرف مصرف الزّكاة عندهم , وليس غير المسلم كالذّمّيّ من أهل الزّكاة فلا يجب عليه .
وأوجب الخراسانيون من الشّافعيّة على الذّمّيّ الخمس بناءً على أنّ مصرفه مصرف الفيء , فلا يشترط أن يكون من أهل الزّكاة لوجوب الخمس عليه .
ح - أهليّة الواجد :
29 - يقصد بهذه الأهليّة صلاحية الواجد للاستحقاق من الغنيمة , وهذا هو تفسير الحنفيّة ومن وافقهم من المالكيّة والحنابلة , ولذا يجب الخمس على الواجد وأربعة أخماسه له لتعلق الواجب بالعين , فيستوي عندهم أن يكون الواجد حراً أو عبداً مسلماً أو ذمّياً صبياً أو بالغاً رجلاً أو امرأةً , فإنّه يؤخذ منه الخمس , والباقي يكون للواجد , سواء وجده في أرض العشر أو أرض الخراج , لأنّ استحقاق هذا المال كاستحقاق الغنيمة , ولجميع من سمّينا حق في الغنيمة إمّا سهماً وإمّا رضخاً فإنّ الصّبيّ والعبد والذّمّيّ والمرأة يرضخ لهم , ويستدل الجمهور على مذهبهم بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « وفي الرّكاز الخمس », ولأنّه أشبه بالغنيمة في تعلق الواجب بعينها , ولأنّه اكتساب مالٍ فكان لمكتسبه حراً أو عبداً صغيراً أو كبيراً أو امرأةً .
موانع وجوب الخمس في الكنز :
يمتنع وجوب الخمس أو بعضه لعدّة أسبابٍ أهمها :
تلف الكنز بعد خروجه تلفاً جزئياً أو كلّياً وظهور مالكه , واشتراط الإمام على الواجد العمل في احتفار الكنوز واستخراجها لبيت المال , وما إلى ذلك , وفيما يلي توضيح هذه الموانع بوجه الإجمال والإيجاز :
أ - تلف الكنز جزئياً أو كلّياً :
30 - يرى المالكيّة أنّ الرّكاز يأخذ مأخذ الزّكاة إذا احتاج لكبير نفقةٍ أو عملٍ في تخليصه فإذا تلف بعضه أو كله بعد إمكان الأداء لا تسقط عنه الزّكاة , وإن كان التّلف قبل التّمكن من الأداء فلا شيء عليه .
وقال الشّافعيّة : إذا تلف الرّكاز قبل التّمكن من إخراج الواجب فيه , وكان التّلف بدون تفريطٍ في حفظه , فلا يجب الخمس , قياساً على المال المزكّى قبل أن يتمكّن المالك من إخراج زكاته .
وللتّفصيل : ( ر : زكاة 139 - 140 ) .
ب - مديونيّة الواجد :
31 - لا يمنع الدّين على الواجد وجوب الخمس عند الحنفيّة والمالكيّة , وعند الحنفيّة يجوز للواجد أن يكتم الخمس لنفسه ولا يخرجه إذا كان فقيراً أو مديناً محتاجاً , بمعنى أنّه يتأوّل أنّ له حقاً في بيت المال ونصيباً في الفيء فأجازوا له أن يأخذ الخمس لنفسه عوضاً عن ذلك , لا أنّهم أسقطوا الخمس عن المعادن .
أمّا الشّافعيّة فأظهر الأقوال عندهم أنّ الدّين لا يمنع وجوب الزّكاة , والمرجوح عندهم أنّ الدّين يمنع الواجب في المال الباطن وهو النّقد , والرّكاز والعرض , ولا يمنع في الظّاهر , وهو الماشية والزروع والثّمار والمعدن , والفرق أنّ الظّاهر ينمو بنفسه , والباطن إنّما ينمو بالتّصرف فيه , والدّين يمنع من ذلك ويحوج إلى صرفه في قضائه , ومحل الخلاف كما جاء في حاشية الجمل ألا يزيد المال على الدّين بمقدار النّصاب , فإن زاد بما يبلغ النّصاب زكّى الزّائد , وألا يكون له ما يؤدّي دينه منه غير المال المزكّى , فإن كان لم يمنع قطعاً عند جمهورهم .
وعند الحنابلة : الدّين يمنع وجوب الزّكاة في الأموال الباطنة روايةً واحدةً , وهي الأثمان وعروض التّجارة , وبه قال عطاء وسليمان بن يسارٍ والحسن والنّخعي واللّيث والثّوري والأوزاعي وإسحاق وأبو ثورٍ , وقال ربيعة وحمّاد بن أبي سليمان لا يمنع , لأنّه حر مسلم ملك نصاباً حولاً فوجبت عليه الزّكاة كمن لا دين عليه , ودليل القول بمنع الدّين زكاة ما يقابله قوله صلى الله عليه وسلم : « لا صدقة إلا عن ظهر غنىً » .
أمّا الأموال الظّاهرة وهي المواشي والحبوب والثّمار ففيها روايتان :
إحداهما أنّ الدّين يمنع وجوب الزّكاة فيها لما ذكرنا , قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم : يبتدئ بالدّين فيقضيه ثمّ ينظر ما بقي عنده بعد إخراج النّفقة فيزكّيه , ولا يكون على أحدٍ دينه أكثر من ماله , صدقة في إبلٍ أو بقرٍ أو غنمٍ أو زرعٍ , وهذا قول عطاءٍ والحسن والنّخعيّ وسليمان بن يسارٍ والثّوريّ واللّيث وإسحاق .
والرّواية الثّانية : لا يمنع الزّكاة فيها , وهو قول الأوزاعيّ .
والرّواية الثّالثة : أنّه لا يمنع الدّين الزّكاة في الأموال الظّاهرة إلا في الزروع والثّمار فيما استدانه للإنفاق عليها خاصّةً , وهذا ظاهر كلام الخرقيّ .
وللتّفصيل : ( ر : زكاة ف 33 - 34 ) .
ج - الشّرط والاتّفاق مع الإمام :
32 - إذا لم يأذن الإمام في العمل لاستخراج الكنوز إلا بشروطٍ خاصّةٍ كأن يأخذ الواجد أجرةً معيّنةً ويكون الخارج لبيت مال المسلمين فإنّ مثل هذا الشّرط يصح ويجب الوفاء به لأنّ المسلمين على شروطهم .(/9)
يقول الكاساني : في الرّكاز الخمس ، سواء كان الواجد حراً أو عبداً مسلماً أو ذمّياً كبيراً أو صغيراً . . إلا إذا كان ذلك بإذن الإمام وقاطعه على شيءٍ فله أن يفي بشرطه لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « المسلمون على شروطهم » , ولأنّه إذا قاطعه على شيءٍ فقد جعل المشروط أجرةً لعمله فيستحقه بهذا الطّريق , ويذكر الخرشي اعتبار هذا النّوع من الاتّفاق - هبةً للثّواب - حتّى لا ينازع في صحّة الإجارة لجهالة الأجرة أو المأجور عليه .
كنز المال :
33 - اتّجه الفقهاء في تحديد مفهوم كنز المال اتّجاهاتٍ ثلاثةً :
الاتّجاه الأوّل : تعريف الكنز بأنّه هو : " ما فضل عن الحاجة " , وأشهر من دعا إلى هذا الاتّجاه أبو ذرٍّ رضي الله عنه .
قال الرّازيّ : المال الكثير إذا جمع فهو الكنز المذموم سواء أدّيت زكاته أو لم تؤدّ لعموم قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } فظاهر الآية دليل على المنع من جمع المال , ولما روى ثوبان لمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « تباً للذّهب والفضّة ، قالوا يا رسول اللّه فأي مالٍ نكنز ؟ قال : قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجةً صالحةً » .
الاتّجاه الثّاني : تعريف الكنز بأنّه جمع المال الّذي لا تؤدّى زكاته , أمّا ما تؤدّى زكاته فليس بكنزٍ , قال ابن عمر ما أدّي زكاته فليس بكنزٍ وإن كان تحت سبع أرضين وكل ما لم تؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض .
وهو الكنز المذموم كما قال الأكثرون .
واستدلوا بما قال ابن عبّاسٍ في قوله تعالى : { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ } , يريد الّذين لا يؤدون زكاة أموالهم , وبعموم قوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } , فإنّ ذلك يدل على أنّ كلّ ما اكتسبه الإنسان فهو حقه , وبقوله عليه الصلاة والسلام : « نعم المال الصّالح للمرء الصّالح » .
الاتّجاه الثّالث : تعريف الكنز للمال بأنّه ما لم تؤدّ منه الحقوق العارضة كفكّ الأسير وإطعام الجائع وغير ذلك .(/10)
كُفْر *
التّعريف :
1 - الكفر في اللغة : السّتر , يقال : كفر النّعمة , أي : غطّاها , مستعار من كفر الشّيء : إذا غطّاه , وهو أصل الباب .
والكفر نقيض الإيمان , والكفر : كفر النّعمة , وهو نقيض الشكر , وكَفَر النّعمة وبالنّعمة : جحدها , وكفر بكذا تبرّأ منه , وفي التّنزيل : { إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } , ويقال : كفر بالصّانع : نفاه وعطّل , وهو الدّهري الملحد , وكفّره – بالتّشديد - : نسبه إلى الكفر , وكفّر عن يمينه : إذا فعل الكفّارة , وأكفرته إكفاراً : جعلته كافراً .
والكفر شرعاً : هو إنكار ما علم ضرورةً أنّه من دين محمّدٍ صلى الله عليه وسلم كإنكار وجود الصّانع , ونبوّته عليه الصّلاة والسّلام , وحرمة الزّنا ونحو ذلك .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الرّدّة :
2 - الرّدّة لغةً : الرجوع عن الشّيء .
وفي الاصطلاح : هي كفر المسلم بقول صريحٍ أو لفظٍ يقتضيه أو فعلٍ يتضمّنه .
والكفر أعم من الرّدّة , لأنّه قد يكون كفراً أصلياً بخلاف الرّدّة .
ب - الإشراك :
3 - الإشراك مصدر أشرك , وهو : اتّخاذ الشّريك , يقال : أشرك باللّه , جعل له شريكاً في ملكه ، والاسم : الشّرك .
والفقهاء يستعملون الإشراك بمعنى الاشتراك في المعاملات , وبمعنى الكفر باللّه تعالى . والإشراك أعم من الكفر , لأنّه يشمل الإشراك في المعاملات ويشمل الكفر باللّه تعالى .
ج - الإلحاد :
4 - الإلحاد في اللغة : الميل والعدول عن الشّيء .
وفي الاصطلاح : قال ابن عابدين : الإلحاد في الدّين : هو الميل عن الشّرع القويم إلى جهةٍ من جهات الكفر .
ومن الإلحاد : الطّعن في الدّين مع ادّعاء الإسلام , أو التّأويل في ضرورات الدّين لإجراء الأهواء .
والصّلة بين الكفر والإلحاد : أنّ الإلحاد قد يكون نوعاً من الكفر .
الحكم التّكليفي :
5 - الكفر حرام وهو أعظم الذنوب قال اللّه تعالى : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْم عَظِيم } , وفي الحديث أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر الإشراك باللّه وعقوق الوالدين » .
جزاء الكافر في الآخرة والدنيا :
6 - جزاء الكافر في الآخرة الخلود في النّار لقول اللّه تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
وأمّا في الدنيا فيختلف حكم الكافر في حالة العهد عنه في غير حالة العهد : ففي غير حالة العهد يجوز قتل المقاتلين من الكفّار , لأنّ كلّ من يقاتل يجوز قتله .
( ر : أهل الحرب ف 11 ) .
ولا يجوز قتل النّساء والصّبيان والمجانين والخنثى المشكل باتّفاق الفقهاء , وكذلك لا يجوز قتل الشيوخ عند جمهور الفقهاء .
وصرّح الحنابلة بأنّ الفلاح الّذي لا يقاتل لا ينبغي أنّ يقتل لما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه قال : اتّقوا اللّه في الفلاحين الّذين لا ينصبون لكم الحرب .
وقال الأوزاعي : لا يقتل الحرّاث إذا علم أنّه ليس من المقاتلة .
( ر : جهاد ف 29 ) .
وأمّا في حالة العهد فيعصم دم الكافر وماله بتفصيل في مصطلحات : ( أهل الذّمّة , مستأمن , هدنة ) .
الإكراه على الكفر :
7 - من أكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر لم يصر كافراً لقول اللّه تعالى : { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِن بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَب مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَاب عَظِيم } .
وورد أنّ عمّاراً رضي الله عنه أخذه المشركون فلم يتركوه حتّى سبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير ثمّ أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له النّبي : « إنّ عادوا فعد » .
قال ابن قدامة : وروي أنّ الكفّار كانوا يعذّبون المستضعفين من المؤمنين فما منهم أحد إلا أجابهم إلا بلالاً فإنّه كان يقول : أحد أحد , وقال النّبي صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » , ولأنّه قول أكره عليه بغير حقٍّ فلم يثبت حكمه , كما لو أكره على الإقرار .
وهذا أصل متّفق عليه , إلا أنّ للفقهاء تفصيلاتٍ وقيوداً تختلف من مذهبٍ إلى مذهبٍ وبيانها كما يأتي :
ذهب الحنفيّة إلى أنّ الإكراه على الكفر لا بدّ أن يكون إكراهاً تامّاً , جاء في الهداية وشروحها : إن أكره على الكفر باللّه تعالى - والعياذ باللّه - أو سبّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقيد أو حبسٍ أو ضربٍ لم يكن ذلك إكراهاً حتّى يكره بأمر يخاف منه على نفسه , أو على عضوٍ من أعضائه , فإذا خاف على ذلك وسعه أنّ يظهر ما أمر به .
وجاء في الدرّ المختار وحاشية ابن عابدين عليه : ويورّي وقلبه مطمئن بالإيمان , ثمّ إن ورّى لا يكفر كما إذا أكره على السجود للصّليب , أو سبّ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم ففعل وقال : نويت به الصّلاة للّه تعالى ومحمّداً آخر غير النّبيّ , وبانت منه امرأته قضاءً لا ديانةً .
وإن خطر بباله التّورية ولم يورّ كفر وبانت منه زوجته ديانةً وقضاءً , لأنّه أمكنه دفع ما أكره عليه عن نفسه ووجد مخرجاً عمّا أبتلي به ثمّ لمّا ترك ما خطر على باله وشتم محمّداً صلى الله عليه وسلم كان كافراً , وإن وافق المكره فيما أكرهه , لأنّه وافقه بعدما وجد مخرجاً عمّا أبتلي به , فكان غير مضطرٍّ .
وإنّ لم يخطر بباله شيء وفعل ما يكفر به وقلبه مطمئن بالإيمان لم يكفر ولم تبن زوجته لا قضاءً ولا ديانةً , لأنّه تعيّن ما أكره عليه ولم يمكنه دفعه عن نفسه إذ لم يخطر بباله غيره .(/1)
ويقول الحنفيّة : إنّ الكفر محرّم في نفسه مع ثبوت الرخصة به فأثر الرخصة في تغير حكم الفعل وهو المؤاخذة , لا في تغير وصفه وهو الحرمة , لأنّ كلمة الكفر ممّا لا يحتمل الإباحة بحال فكانت الحرمة قائمةً , إلا أنّه سقطت المؤاخذة لعذر الإكراه لقوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِن بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَب مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَاب عَظِيم } .
وقال المالكيّة : لا يجوز للمكره الإقدام على الكفر إلا إذا كان الإكراه بالقتل فقط , فمن خاف على نفسه أنّ يقتل جاز له الإقدام على الكفر ما دام قلبه مطمئنّاً بالإيمان .
أمّا الإكراه بغير القتل كالضّرب وقتل الولد ونهب المال وقطع عضوٍ فلا يجوز معه الإقدام على الكفر , ولو فعل ذلك كان مرتدّاً .
وقال الشّافعيّة : يباح بالإكراه التّكلم بكلمة الكفر ما دام قلبه مطمئنّاً بالإيمان لقوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِن بِالإِيمَانِ } .
وقال الأذرعي يظهر القول بالوجوب في بعض الأحوال على بعض الأشخاص إذا كان فيه صيانة للحرم والذرّيّة وعلم منه أنّ الصّبر يؤدّي إلى استباحتهم أو استئصالهم , وقس على هذا ما في معناه أو أعظم منه .
وعند الحنابلة قال ابن قدامة : من أكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر لم يصر كافراً لقوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِن بِالإِيمَانِ } , ثمّ قال : من كان محبوساً عند الكفّار ومقيّداً عندهم في حالة خوفٍ , وقامت عليه بيّنة أنّه نطق بكلمة الكفر لم يحكم بردّته , لأنّ ذلك ظاهر في الإكراه وإن شهدت البيّنة أنّه كان آمناً حال نطقه حكم بردّته .
ومن نطق بكلمة الكفر لإكراه وقع عليه , ثمّ زال عنه الإكراه أمر بإظهار إسلامه , فإن أظهره فهو باقٍ على إسلامه , وإن أظهر الكفر حكم أنّه كفر من حين نطق به , لأنّنا تبيّنّا بذلك أنّه كان منشرح الصّدر بالكفر من حين نطق به مختاراً له .
8 - ويتّفق الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو الأصح عند الشّافعيّة على أنّ الصّبر والثّبات على الإيمان مع الإكراه ولو كان بالقتل أفضل من الإقدام على الكفر حتّى لو قتل كان مأجوراً , لما ورد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « قد كان من قبلكم يؤخذ الرّجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشّط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه » .
ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة أوجه :
أحدها : الأفضل الإتيان بكلمة الكفر صيانةً لنفسه .
والثّاني : إن كان من العلماء المقتدى بهم فالأفضل الثبوت .
والثّالث : إن كان يتوقّع منه الإنكاء والقيام بأحكام الشّرع فالأفضل أن ينطق بها لمصلحة بقائه , وإلا فالأفضل الثبوت .
أصناف الكفّار :
9 - ذكر الكاساني أنّ الكفرة أصناف أربعة :
صنف منهم ينكرون الصّانع أصلاً , وهم الدّهريّة المعطّلة .
وصنف منهم يقرون بالصّانع , وينكرون توحيده , وهم الوثنيّة والمجوس .
وصنف منهم يقرون بالصّانع وتوحيده , وينكرون الرّسالة رأساً , وهم قوم من الفلاسفة . وصنف منهم يقرون الصّانع وتوحيده والرّسالة في الجملة , لكنّهم ينكرون رسالة نبيّنا محمّدٍ صلى الله عليه وسلم وهم اليهود والنّصارى .
ما أتفق على اعتباره كفراً وما اختلف فيه :
10 - الكفر قسمان : قسم يكون بأحد أمورٍ متّفقٍ عليها , وقسم يكون بأمور مختلفٍ فيها . فالأوّل : نحو الشّرك باللّه وجحد ما علم من الدّين بالضّرورة , كجحد وجوب الصّلاة والصّوم ونحوهما , والكفر الفعلي كإلقاء المصحف في القاذورات , وكذلك جحد البعث أو النبوّات .
والقسم الثّاني : فمنه ما يكون بالاعتقاد أو بالقول أو بالفعل أو بالتّرك .
والتّفصيل في : ( ردّة ف 10 - 21 ) .
مخاطبة الكفّار بفروع الشّريعة :
11 - قال الزّركشي : حصول الشّرط العقليّ من التّمكن والفهم ونحوهما شرط في صحّة التّكليف , أمّا حصول الشّرط الشّرعيّ فلا يشترط في صحّة التّكليف بالمشروط خلافاً للحنفيّة وهي - المسألة - مفروضة في تكليف الكفّار بالفروع وإن كانت أعمّ منه .
والجمهور على جواز خطاب الكفّار بالفروع عقلاً .
أمّا خطاب الكفّار بالفروع شرعاً ففيه - كما قال الزّركشي - مذاهب :
القول الأوّل : أنّ الكفّار مخاطبون بفروع الشّريعة مطلقاً في الأوامر والنّواهي بشرط تقديم الإيمان بالمرسل كما يخاطب المحدث بالصّلاة بشرط تقديم الوضوء .
والدّليل على ذلك قوله تعالى : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } , فأخبر سبحانه وتعالى أنّه عذّبهم بترك الصّلاة وحذّر المسلمين به , وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ ََلا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَََلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إََِلا بِالْحَقِّ وَََلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً ، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
فالآية نصّ في مضاعفة عذاب من جمع بين الكفر والقتل والزّنا , لا كمن جمع بين الكفر والأكل والشرب .
وكذلك ذمّ اللّه تعالى قوم شعيبٍ بالكفر ونقص المكيال , وذمّ قوم لوطٍ بالكفر وإتيان الذكور . كما استدلوا بانعقاد الإجماع على تعذيب الكافر على تكذيب الرّسول صلى الله عليه وسلم كما يعذّب على الكفر باللّه تعالى .
وقد ذهب إلى هذا القول الشّافعيّة والحنابلة في الصّحيح , وهو مقتضى قول مالكٍ وأكثر أصحابه , وهو قول المشايخ العراقيّين من الحنفيّة .(/2)
القول الثّاني : إنّ الكفّار غير مخاطبين بالفروع وهو قول الفقهاء البخاريّين من الحنفيّة , وبهذا قال عبد الجبّار من المعتزلة والشّيخ أبو حامدٍ الإسفراييني من الشّافعيّة , وقال الإبياري : إنّه ظاهر مذهب مالكٍ , وقال الزّركشي : اختاره ابن خويزمنداد المالكي .
قال السّرخسي : لا خلاف أنّهم مخاطبون بالإيمان والعقوبات والمعاملات في الدنيا والآخرة , وأمّا في العبادات فبالنّسبة إلى الآخرة كذلك .
أمّا في حقّ الأداء في الدنيا فهو موضع الخلاف .
واستدلّ القائلون بعدم مخاطبتهم بالفروع بأنّ العبادة لا تتصوّر مع الكفر , فكيف يؤمر بها فلا معنى لوجوب الزّكاة وقضاء الصّلاة عليه مع استحالة فعله في الكفر ومع انتفاء وجوبه لو أسلم , فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله ؟ .
القول الثّالث : إنّ الكفّار مخاطبون بالنّواهي دون الأوامر , لأنّ الانتهاء ممكن في حالة الكفر , ولا يشترط فيه التّقرب فجاز التّكليف بها دون الأوامر , فإنّ شرط الأوامر العزيمة , وفعل التّقريب مع الجهل بالمقرّب إليه محال فامتنع التّكليف بها .
وقد حكى النّووي في التّحقيق أوجهاً , وقال الزّركشي : ذهب بعض أصحابنا إلى أنّه لا خلاف في تكليف الكفّار بالنّواهي وإنّما الخلاف في تكليفهم بالأوامر .
ونقل ذلك القول صاحب اللباب من الحنفيّة عن أبي حنيفة وعامّة أصحابه .
وقيل : إنّهم مخاطبون بالأوامر فقط .
وقيل : إنّ المرتدّ مكلّف دون الكافر الأصليّ .
وقيل : إنّهم مكلّفون بما عدا الجهاد .
وقيل : بالتّوقف .
واجب المسلمين تجاه الكفّار :
12 - يجب على المسلمين دعوة الكفّار إلى الإسلام لقول اللّه تبارك وتعالى : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } , ولا يقاتلون قبل الدّعوة إلى الإسلام لأنّ قتال الكفّار لم يفرض لعين القتال بل للدّعوة إلى الإسلام .
والدّعوة دعوتان : دعوة بالبنان وهي القتال ودعوة بالبيان وهو اللّسان , وذلك بالتّبليغ , والدّعوة بالبيان أهون من الدّعوة بالقتال لأنّ في القتال مخاطرة الروح والنّفس والمال , وليس في دعوة التّبليغ شيء من ذلك , فإذا احتمل حصول المقصود بأهون الدّعوتين لزم الافتتاح بها , وقد روي : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقاتل الكفرة حتّى يدعوهم إلى الإسلام » .
ثمّ إذا دعاهم المسلمون إلى الإسلام فإن أسلموا كفوا عنهم القتال لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أمرت أن أقاتل النّاس حتي يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّ الإسلام وحسابهم على اللّه » , فإن أبوا الإجابة إلى الإسلام دعوهم إلى الذّمّة إن كانوا ممّن تقبل منهم الجزية , فإن أجابوا كفوا عنهم لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم » وإن أبوا استعانوا باللّه سبحانه وتعالى على قتالهم ووثقوا بنصر اللّه سبحانه وتعالى لهم بعد أن بذلوا جهدهم واستفرغوا وسعهم .
وينظر تفصيل ذلك في : ( جزية ف 25 - 30 , وجهاد ف 24 ) .
ما يلزم الكافر إذا أسلم :
13 - قال القرافي : أحوال الكافر مختلفة إذا أسلم , فيلزمه ثمن البياعات وأجر الإجارات ودفع الديون الّتي اقترضها ونحو ذلك .
ولا يلزمه من حقوق الآدميّين القصاص ولا الغصب ولا النّهب إن كان حربياً , وأمّا الذّمّي فيلزمه جميع المظالم وردها لأنّه عقد الذّمّة وهو راضٍ بمقتضى عقد الذّمّة , وأمّا الحربي فلم يرض بشيء , فلذلك أسقطنا عنه الغصوب والنهوب والغارات ونحوها .
وأمّا حقوق اللّه تعالى فلا يلزمه - ولو كان ذمّياً - ممّا تقدّم في كفره لا ظهار ولا نذر ولا يمين من الأيمان ولا قضاء الصّلوات ولا الزّكوات ولا شيء فرّط فيه من حقوق اللّه تعالى لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الإسلام يهدم ما كان قبله » .
وحقوق العباد قسمان : قسم منها رضي به حال كفره واطمأنّت نفسه بدفعه لمستحقّه , فهذا لا يسقط بالإسلام , لأنّ إلزامه إيّاه ليس منفّراً له عن الإسلام لرضاه .
أمّا ما لم يرض بدفعه لمستحقّه كالقتل والغصب ونحوه فإنّ هذه الأمور إنّما دخل عليها معتمداً على أنّه لا يوفّيها أهلها , فهذا كله يسقط , لأنّ في إلزامه ما لم يعتقد لزومه تنفيراً له عن الإسلام فقدّمت مصلحة الإسلام على مصلحة ذوي الحقوق .
وأمّا حقوق اللّه تعالى فتسقط مطلقاً رضي بها أم لم يرض , والفرق بينها وبين حقوق الآدميّين من وجهين :
أحدهما : أنّ الإسلام حقّ للّه تعالى , والعبادات ونحوها حقّ للّه تعالى كذلك , ولمّا كان الحقّان لجهة واحدةٍ ناسب أن يقدّم أحدهما على الآخر , ويسقط أحدهما الآخر لحصول الحقّ الثّاني لجهة الحقّ السّاقط .
وأمّا حق الآدميّين فلجهة الآدميّين والإسلام ليس حقّاً لهم , بل لجهة اللّه تعالى فناسب أن لا يسقط حقهم بتحصيل حقّ غيرهم .
وثانيهما : أنّ اللّه تعالى كريم جواد تناسب رحمته المسامحة , والعبد بخيل ضعيف فناسب ذلك التّمسك بحقّه , فسقطت حقوق اللّه تعالى مطلقاً وإن رضي بها كالنذور والأيمان , أو لم يرض بها كالصّلوات والصّيام , ولا يسقط من حقوق العباد ما تقدّم الرّضا به .
معاملة الأبوين الكافرين :
14 - أمر الإسلام ببرّ الوالدين والإحسان إليهما سواءً أكان الوالدان مسلمين أم كافرين . والتّفصيل في مصطلح : ( بر الوالدين ف 3 ) .
نجاسة الكافر وطهارته :(/3)
15 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الكافر الحيّ طاهر لأنّه آدميّ , والآدمي طاهر سواء أكان مسلماً أم كافراً , لقول اللّه سبحانه وتعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } , وليس المراد من قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس } , نجاسة الأبدان وإنّما المراد نجاسة ما يعتقدونه , وقد ربط النّبي صلى الله عليه وسلم الأسير في المسجد .
مس الكافر المصحف :
16 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز للكافر مس المصحف لأنّ في ذلك إهانةً للمصحف .
وقال محمّد بن الحسن : لا بأس أن يمسّ الكافر المصحف إذا اغتسل , لأنّ المانع هو الحدث وقد زال بالغسل , وإنّما بقي نجاسة اعتقاده وذلك في قلبه لا في يده .
وقال المالكيّة : يمنع الكافر من أن يحمل حرزاً من قرآنٍ ولو بساتر لأنّه يؤدّي إلى امتهانه .
دخول الكافر المسجد :
17 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد من الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز للكافر دخول المسجد الحرام لقول اللّه تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } والمسجد الحرام مراد به الحرم لقول اللّه تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى } , وإنّما أسري به من بيت أمّ هانئٍ من خارج المسجد .
أمّا المساجد الأخرى غير المسجد الحرام فقد ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يحل لهم دخولها بغير إذن المسلمين لما روى عياض الأشعري أنّ أبا موسى رضي الله عنه وفد إلى عمر رضي الله عنه ومعه نصرانيّ فأعجب عمر خطه فقال قل لكاتبك هذا يقرأ لنا كتاباً فقال إنّه لا يدخل المسجد فقال لم ؟ أجنب هو ؟ قال لا هو نصرانيّ قال فانتهره عمر .
فإن دخل من غير إذنٍ عزّر لما روت أم غرابٍ قالت رأيت علياً كرّم اللّه وجهه على المنبر وبصر بمجوسيّ فنزل فضربه وأخرجه من باب كندة .
وإن وفد قوم من الكفّار ولم يكن للإمام موضع ينزلهم فيه جاز أن ينزلهم في المسجد , لما روي : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنزل سبي بني قريظة والنّضير في مسجد المدينة » « وربط ثمامة بن أثالٍ في المسجد » .
وعند المالكيّة يمنع الكافر من دخول المسجد وإن أذن له مسلم في الدخول , وهذا ما لم تدع ضرورة لدخوله بأن لم يوجد نجّار أو بنّاء وغيره والمسجد محتاج إلى ذلك , أو وجد مسلم لكن كان الكافر أتقن للصّنعة , فلو وجد مسلم مماثل له في إتقان الصّنعة لكن كانت أجرة المسلم أزيد من أجرة الكافر فإن كانت الزّيادة يسيرةً لم يكن هذا من الضّرورة وإلا كان منها على الظّاهر .
وإذا دخل الكافر المسجد للعمل فيندب أن يدخل من جهة عمله .
وما ذهب إليه المالكيّة هو رواية عند الحنابلة , قال ابن قدامة : وفيه رواية أخرى : ليس لهم دخوله بحال .
وعند الحنفيّة يجوز للكافر دخول المسجد , سواء أكان المسجد الحرام أم غيره من المساجد , لما روي : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيفٍ في مسجده وهم كفّار » , ولأنّ الخبث في اعتقادهم فلا يؤدّي إلى تلويث المسجد , وقوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } محمول على الحضور استيلاءً واستعلاءً , أو طائفين عراةً كما كانت عادتهم في الجاهليّة فليس الممنوع نفس الدخول .
تلقين الكافر المحتضر :
18 - قال الإسنوي : لو كان - أي المحتضر - كافراً لقّن الشّهادتين وأمر بهما , لما روى أنس رضي الله عنه قال : « كان غلام يهودي يخدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النّبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له : أسلم فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له : أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فأسلم فخرج النّبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : الحمد للّه الّذي أنقذه من النّار » .
وتلقين الكافر المحتضر الشّهادة يكون وجوباً إن رجي إسلامه , وإن لم يرج إسلامه فيندب ذلك .
قال الجمل : وظاهر هذا أنّه يلقّن إن رجي إسلامه وإن بلغ الغرغرة ولا بعد فيه , لاحتمال أن يكون عقله حاضراً وإن ظهر لنا خلافه وإن كنّا لا نرتّب عليه أحكام المسلمين حينئذٍ .
ولاية الكافر على المسلم وولاية المسلم على الكافر :
19 - لا يعتبر الكافر من أهل الولاية بالنّسبة للمسلم لقول اللّه تعالى : { وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } , وليس للمسلم ولاية بالنّسبة للكافر إلا بالسّبب العامّ كولاية السلطان أو نائبه وهذا في الجملة .
ومن أمثلة ذلك :
أ - لا يجوز للكافر أنّ يزوّج ابنته المسلمة , ولا للمسلم أنّ يزوّج ابنته الكافرة لأنّ الموالاة منقطعة بينهما لقوله تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } , وقوله تعالى : { وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } .
ب - القضاء من الولايات العامّة , ويشترط في القاضي أن يكون مسلماً , ولا يجوز تولية الكافر القضاء لقوله تعالى : { وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } , وسواء أكانت تولية الكافر القضاء بين المسلمين , أم بين أهل دينه .
وأجاز أبو حنيفة أن يتولّى الكافر القضاء بين أهل دينه .
وينظر تفصيل ذلك في : ( قضاء ف 22 ) .
أنكحة الكفّار :(/4)
20 - أنكحة الكفّار صحيحة ويقرون عليها إن أسلموا , أو تحاكموا إلينا إذا كانت المرأة ممّن يجوز ابتداء نكاحها في الحال , ولا ينظر صفة عقدهم وكيفيّته , ولا يعتبر له شروط أنكحة المسلمين من الوليّ والشهود وصيغة الإيجاب والقبول وأشباه ذلك .
قال ابن عبد البرّ : أجمع العلماء على أنّ الزّوجين إذا أسلما في الحال معاً أنّ لهما المقام على نكاحهما ما لم يكن بينهما نسب ولا رضاع , وقد أسلم خلق كثير في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم , فأقرّهم على أنكحتهم ولم يسألهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن شروط النّكاح ولا كيفيّته , وهذا أمر عرف بالتّواتر والضّرورة فكان يقيناً , ولكن ينظر في الحال فإن كانت المرأة على صفةٍ يجوز له ابتداء نكاحها أقرّ , وإن كانت ممّا لا يجوز ابتداء نكاحها كإحدى المحرّمات بالنّسب أو السّبب أو المعتدّة والمرتدّة والوثنيّة والمجوسيّة والمطلّقة ثلاثاً لم يقرّ .
وإن أسلم الحر وتحته أكثر من أربع نسوةٍ وأسلمن معه لزمه أن يختار أربعاً منهنّ ويفارق ما زاد على ذلك لأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم لغيلان لمّا أسلم على تسع نسوةٍ : « أن يختار منهنّ أربعاً » .
وللفقهاء تفصيل في ذلك وفيما إذا أسلم أحد الزّوجين ولم يسلم الآخر أو أسلم أحدهما ثمّ أسلم الآخر في العدّة أو بعدها , وينظر تفصيل ذلك في : ( نكاح وإسلام ف 5 ) .
نكاح المسلم كافرةً ونكاح الكافر مسلمةً :
21 - يحرم على المسلم أن يتزوّج ممّن لا كتاب لها من الكفّار لقول اللّه تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } وهذا باتّفاق .
قال ابن قدامة : لا خلاف بين أهل العلم في تحريم نسائهم وذبائحهم .
والعلّة في تحريم نكاح المشركات كما يقول الكاساني : إنّ ازدواج الكافرة والمخالطة معها مع قيام العداوة الدّينيّة لا يحصل السكن والمودّة الّتي هي قوام مقاصد النّكاح .
22 - ويجوز للمسلم زواج الحرائر من نساء أهل الكتاب وهم اليهود والنّصارى لقول اللّه تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } , ولأنّ الصّحابة رضي الله تعالى عنهم تزوّجوا من أهل الذّمّة فتزوّج عثمان رضي الله عنه نائلة بنت الفرافصة الكلبيّة وهي نصرانيّة وأسلمت عنده , وتزوّج حذيفة رضي الله تعالى عنه بيهوديّة من أهل المدائن . وإنّما جاز نكاح الكتابيّة لرجاء إسلامها , لأنّها آمنت بكتب الأنبياء والرسل في الجملة . ومع الحكم بجواز نكاح الكتابيّة , فإنّه يكره الزّواج منها , لأنّه لا يؤمن أن يميل إليها فتفتنه عن الدّين , أو يتولّى أهل دينها , فإن كانت حربيّةً فالكراهية أشد , لأنّه لا تؤمن الفتنة أيضاً , ولأنّه يكثر سواد أهل الحرب , ولأنّه لا يؤمن أن يسبى ولده منها فيسترق .
وقد قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه للّذين تزوّجوا من نساء أهل الكتاب : طلّقوهنّ فطلّقوهنّ إلا حذيفة رضي الله عنه ، فقال له عمر : طلّقها قال : تشهد أنّها حرام ؟ قال : هي خمرة طلّقها ، قال : تشهد أنّها حرام ؟ قال : هي خمرة ، قال : قد علمت أنّها خمرة ولكنّها لي حلال ، فلمّا كان بعد طلّقها ، فقيل له : ألا طلّقتها حين أمرك عمر ؟ قال : كرهت أن يرى النّاس أنّي ركبت أمراً لا ينبغي لي .
وقد كره ذلك أيضاً مالك لأنّها تتغذّى بالخمر والخنزير , وتغذّي ولده بهما , وهو يقبّلها ويضاجعها وليس له منعها من ذلك التّغذّي , ولو تضرّر برائحته , ولا من الذّهاب للكنيسة , وقد تموت وهي حامل فتدفن في مقبرة الكفّار وهي حفرة من حفر النّار .
23 - ولا يجوز للكافر أنّ يتزوّج مسلمةً لقول اللّه تعالى : { وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ } , ولأنّ في نكاح المؤمنة الكافر خوف وقوع المؤمنة في الكفر , لأنّ الزّوج يدعوها إلى دينه , والنّساء في العادات يتبعن الرّجال فيما يؤثرون من الأفعال ويقلّدنهم في الدّين , وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في آخر الآية بقوله عزّ وجلّ : { أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } لأنّهم يدعون المؤمنات إلى الكفر , والدعاء إلى الكفر دعاء إلى النّار , لأنّ الكفر يوجب النّار , فكان نكاح الكافر المسلمة سبباً داعياً إلى الحرام فكان حراماً , والنّص وإن ورد في المشركين لكن العلّة وهي الدعاء إلى النّار تعم الكفرة أجمع , فيعم الحكم بعموم العلّة .
24 - واختلف الفقهاء في زواج المسلم من المجوسيّة باعتبار شبهها بأهل الكتاب .
كما اختلفوا في الزّواج من السّامرة والصّابئة .
واختلفوا فيما إذا كان أحد أبويّ الكافرة كتابياً والآخر وثنياً .
وكذلك فيما إذا تزوّج كتابيّةً فانتقلت إلى دينٍ آخر من أهل الكتاب , أو من غير أهل الكتاب . وينظر تفصيل ذلك في : ( نكاح ) .
وصيّة الكافر والوصيّة له :
25 - إسلام الموصي ليس بشرط لصحّة الوصيّة باتّفاق فتصح الوصيّة من الكافر بالمال للمسلم والكافر , لأنّ الكفر لا ينافي أهليّة التّمليك , ولأنّه يصح بيعه وهبته فكذا وصيّته . وكما جازت الوصيّة من الكافر فإنّها تجوز له من مسلمٍ أو كافرٍ في الجملة , وروي ذلك أيضاً عن شريحٍ والشّعبيّ والثّوريّ وإسحاق .
والتّفصيل في مصطلح : ( وصيّة ) .
الإجارة والاستئجار من الكافر :
26 - قال الكاساني : إسلام العاقد في الإجارة ليس بشرط أصلاً , فتجوز الإجارة والاستئجار من المسلم والذّمّيّ والحربيّ والمستأمن لأنّ هذا من عقد المعاوضات فيملكه المسلم والكافر جميعاً كالبياعات .
وينظر تفصيل ذلك في : ( إجارة ف 98 ) .(/5)
27 - أمّا استئجار الذّمّيّ للمسلم فإن كان في عملٍ معيّنٍ في الذّمّة كخياطة ثوبٍ وقصارته جاز , قال ابن قدامة : بغير خلافٍ نعلمه , لأنّ علياً رضي الله عنه أجّر نفسه من يهوديٍّ يسقي له كلّ دلوٍ بتمرة وأخبر النّبي صلى الله عليه وسلم بذلك فلم ينكره .
أمّا إجارته لخدمته فقد نصّ أحمد في رواية الأثرم : أنّه لا يجوز , لأنّه عقد يتضمّن حبس المسلم عند الكافر وإذلاله له واستخدامه .
وينظر تفصيل ذلك في : ( إجارة ف 104 ) .
الشّركة بين المسلم والكافر :
28 - أجاز المالكيّة والحنابلة الشّركة بين المسلم والكافر بشرط أن لا يتصرّف الكافر إلا بحضور شريكه المسلم , لأنّ ارتكابه المحظورات الشّرعيّة في تصرفاته للشّركة يؤمن حينئذٍ .
وذهب الشّافعيّة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى الجواز أيضاً لكن مع الكراهة , لأنّ الكافر لا يهتدي إلى وجوه التّصرفات المشروعة في الإسلام , وعند أبي حنيفة ومحمّدٍ : لا تجوز الشّركة بين المسلم والكافر , لأنّ الكافر يسعه أن يشتري الخمر والخنزير ويبيعهما , وليس كذلك المسلم .
والتّفصيل في : ( شركة ف 41 ) .
الاستعانة بالكافر في الجهاد :
29 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا يجوز الاستعانة بالكفّار في الجهاد في غير حاجةٍ لما روت عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبل بدرٍ فلمّا كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين رأوه فلمّا أدركه قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم : جئت لأتبعك وأصيب معك فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أتؤمن باللّه ورسوله ؟ قال : لا ، قال : فارجع فلن أستعين بمشرك ، قالت ثمّ مضى حتّى إذا كنّا بالشّجرة أدركه الرّجل فقال له كما قال له أوّل مرّةٍ فقال له النّبي صلى الله عليه وسلم كما قال أوّل مرّةٍ : قال : فارجع فلن أستعين بمشرك ، قال ثمّ رجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أوّل مرّةٍ : تؤمن باللّه ورسوله ؟ قال : نعم ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : فانطلق » .
وأمّا إذا احتاج المسلمون إلى الاستعانة بالكافر ففي ذلك تفصيل ينظر في : ( استعانة ف 5 , أهل الكتاب ف 11 , جهاد ف 26 ) .
الوقف من الكافر وله :
30 - ذهب الفقهاء إلى جواز وقف الكافر على المسلم وغير المسلم بشرط أن لا يكون في معصيةٍ .
كما يجوز وقف المسلم على الذّمّيّ في غير معصيةٍ .
والتّفصيل في مصطلح : ( وقف ) .(/6)
كُوع *
التّعريف :
1 - الكوع في اللغة : طرف الزّند الّذي يلي الإبهام , والجمع أكواع , والكاع لغة , قال الأزهري : الكوع طرف العظم الّذي يلي رسغ اليد المحاذي للإبهام , وهما عظمان متلاصقان في السّاعد , أحدهما أدق من الآخر وطرفاهما يلتقيان عند مفصل الكفّ , فالّذي يلي الخنصر يقال له : الكرسوع , والّذي يلي الإبهام يقال له : الكوع , وهما عظما ساعد الذّراع .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الأحكام المتعلّقة بالكوع :
أ - غسل الكوع في الوضوء :
2 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة غسل الكفّين إلى الكوعين في أوّل الوضوء لفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
والتّفصيل في مصطلح : ( كف ف 3 ) .
ب - مسح اليدين إلى الكوعين في التّيمم :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّ من أركان التّيمم مسح الوجه واليدين ثمّ اختلفوا في الحدّ الّذي يبلغه بالتّيمم في اليدين :
فيرى الحنفيّة والشّافعيّة والثّوري وابن أبي سلمة واللّيث بلوغ المرفقين بالتّيمم فرضاً واجباً , وبه قال محمّد بن عبد اللّه بن عبد الحكم وابن نافعٍ , وإليه ذهب إسماعيل القاضي .
وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان , وروي هذا عن عليّ بن أبي طالبٍ والأوزاعيّ وعطاءٍ والشّعبيّ في روايةٍ , وبه قال إسحاق بن راهويه والطّبري , وقال ابن شهابٍ : يبلغ به إلى المناكب .
وحكي عن الدّراورديّ : أنّ الكوعين فرض والآباط فضيلة .
وللتّفصيل : ( ر : تيمم ف 11 ) .
ج - قطع اليد من الكوع في السّرقة :
4 - يرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ أوّل ما يقطع من السّارق يده اليمنى من مفصل الكفّ وهو الكوع , وروي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قطع يد سارقٍ من المفصل - الكوع - , وقد ورد عن أبي بكرٍ الصّدّيق وعمر رضي الله عنهما أنّهما قالا : إذا سرق سارق فاقطعوا يمينه من الكوع ولا مخالف لهما في الصّحابة , ولأنّ كلّ من قطع من الأئمّة قطع من الرسغ فصار إجماعاً سكوتياً فلا يجوز خلافه .
والتّفصيل في مصطلح : ( سرقة ف 66 ) .(/1)
لاحِق *
التّعريف :
1 - اللاحق في اللغة : اسم فاعلٍ من لحق , يقال : لحقت به ألحق لَحاقاً : أدركته , وألحقت زيداً بعمرٍو : أتبعته إيّاه .
وفي الاصطلاح : عرّفه الحنفيّة - وهو اصطلاح خاص بهم - بأنّه من فاتته الرّكعات كلها أو بعضها بعد اقتدائه بعذرٍ , كغفلةٍ وزحمةٍ وسبق حدثٍ ونحوها , أو بغير عذرٍ بأن سبق إمامه في ركوعٍ وسجودٍ .
وعرّفه بعضهم بأنّه هو الّذي أدرك أوّل الصّلاة وفاته من الآخر بسبب النّوم أو الحدث .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - المسبوق :
2 - المسبوق - عند الحنفيّة - من سبقه الإمام بكلّ الرّكعات , بأن اقتدى به بعد ركوع الرّكعة الأخيرة , أو ببعضها بأن اقتدى به بعد ركوع الرّكعة الأولى .
والفرق بين اللاحق والمسبوق أنّ المسبوق تفوته ركعة أو أكثر من أوّل الصّلاة , واللاحق تفوته ركعة أو أكثر من آخر الصّلاة أو وسطها , وهذا إذا كان اقتداؤُه في أوّل الصّلاة , وأمّا إن كان اقتداؤُه في الرّكعة الثّانية ثمّ فاته بعض الصّلاة بالنّوم أو نحوه يكون لاحقاً مسبوقاً , كما حرّره ابن عابدين .
ب - المدرك :
3 - المدرك - عند الحنفيّة - من صلّى الصّلاة كاملةً مع الإمام , أي أدرك جميع ركعاتها معه , سواء أدرك معه التّحريمة , أو أدركه في جزءٍ من ركوع الرّكعة الأولى إلى أن قعد معه القعدة الأخيرة .
فالمدرك لم يفته شيء من ركعات صلاته بخلاف اللاحق والمسبوق .
الحالات الّتي يشملها حكم اللاحق :
4 - ذكر الحنفيّة أنّ اللاحق يشمل حالاتٍ مختلفةً في بعضها يكون التّخلف بعذرٍ , كما إذا نام المؤتم بعد الاقتداء بالإمام نوماً لا ينقض به الوضوء , أو زوحم بسبب كثرة النّاس في الجمعة فلم يقدر على أداء الرّكعة الأولى مع الإمام وقدر على الباقي , أو سبقه حدث فخرج من الصّفّ للوضوء ففاتته ركعة أو أكثر ثمّ عاد , أو الطّائفة الأولى في صلاة الخوف الّذين صلّى بهم الإمام أوّل الصّلاة فرجعوا إلى مكان الطّائفة الثّانية أو نحو ذلك .
ويكون التّخلف في بعض الحالات بغير عذرٍ كما إذا سبق إمامه في ركوعٍ وسجودٍ فيقضي ركعةً , لأنّ الركوع والسجود قبل الإمام لغو فينتقل ما في الرّكعة الثّانية إلى الأولى فبقيت عليه ركعة هو لاحق فيها , كما ذكره ابن عابدين .
الأحكام المتعلّقة باللاحق :
أوّلاً : كيفيّة إتمام صلاة اللاحق :
5 - اختلف الفقهاء في كيفيّة إتمام المأموم الصّلاة إذا سبقه الإمام بركنٍ أو ركعةٍ أو أكثر وهما في الصّلاة ويسمّيه الحنفيّة لاحقاً بينما لا يصطلح سائر الفقهاء على هذه التّسمية , وفيما يلي حكم المسألة عند الحنفيّة بوصفه لاحقاً , وعند غيرهم بدون هذا الوصف .
6 - قال الحنفيّة : اللاحق في حكم المصلّي خلف الإمام فيصلّي على ترتيب صلاة الإمام , فيبدأ بقضاء ما فاته بعذرٍ بلا قراءةٍ , ولا يسجد للسّهو إذا سها فيه , ثمّ يتابع الإمام إن لم يكن قد فرغ عكس المسبوق , فإنّه يتابع إمامه ثمّ يقضي ما فاته ويقرأ ويسجد للسّهو إذا سها فيه , ولا يتغيّر فرض اللاحق بنيّة الإقامة لو كان مسافراً بخلاف المسبوق .
ووجه التّفرقة في هذه المسائل أنّ اللاحق في حكم المصلّي خلف الإمام فحكمه حكم المؤتمّ , والمؤتم لا قراءة عليه , وإذا سها لا يسجد للسّهو وأمّا المسبوق إذا سها فيما يقضي وجبت عليه السّجدة والقراءة لأنّه في حكم المنفرد .
وإذا كان اللاحق مسبوقاً أيضاً بأن اقتدى في أثناء صلاة الإمام وسبق بركعةٍ يصلّي ما سبق به في آخر صلاته , قال ابن عابدين نقلاً عن شرح المنية : لو سبق بركعةٍ من ذوات الأربع , ونام في ركعتين يصلّي أوّلاً ما نام فيه , ثمّ ما أدركه مع الإمام ثمّ ما سبق به فيصلّي ركعةً ممّا نام فيه مع الإمام ويقعد متابعةً له لأنّها ثانية إمامه , ثمّ يصلّي الأخرى ممّا نام فيه ويقعد لأنّها ثانيته ثمّ يصلّي الّتي انتبه فيها , ويقعد متابعةً لإمامه لأنّها رابعة , وكل ذلك بغير قراءةٍ , لأنّه مقتدٍ , ثمّ يصلّي الرّكعة الّتي سبق بها بقراءة الفاتحة وسورةٍ . وهذا التّرتيب في إتمام صلاة اللاحق واجب عند الحنفيّة وليس بفرضٍ - خلافاً لزفر - حتّى لو صلّى الرّكعة الّتي أدركها مع الإمام ثمّ ما نام فيه , ثمّ ما سبق به , أو صلّى أوّلاً ما سبق به ثمّ ما نام فيه ثمّ ما أدركه مع الإمام أو عَكَس جاز مع الكراهة ولا تفسد صلاته عندهم خلافاً لزفر .
7 - وقال المالكيّة : إن زوحم مؤتم عن ركوعٍ مع إمامٍ حتّى رفع الإمام رأسه منه معتدلاً مطمئناً قبل إتيان المأموم بأدنى الركوع , أو نعس أي نام المؤتم نوماً خفيفاً لا ينقض الوضوء أو حصل له نحوه كسهوٍ وإكراهٍ وحدوث مرضٍ منعه من الركوع مع إمامه اتّبع المأموم الإمام أي فعل ما فاته به إمامه ليدركه فيما هو فيه من سجودٍ أو جلوسٍ بين السّجدتين وجوباً , وهذا إذا حصل المانع للمأموم في غير الرّكعة الأولى , لثبوت مأموميّته بإدراك الرّكعة الأولى ما لم يرفع الإمام رأسه من سجود غير الأولى بأن اعتقد أو ظنّ أنّه يدرك الإمام في ثانية سجدتيه , فإن اعتقد ذلك أو ظنّه فاتّبعه فرفع الإمام من السّجدة الثّانية قبل أن يلحقه فيها ألغى ما فعله وانتقل مع الإمام فيما هو فيه , ويقضي ركعةً بعد سلام الإمام , هذا في غير الأولى .
أمّا في الأولى فمتى رفع الإمام من الركوع معتدلاً مطمئناً ترك الركوع الّذي فاته معه فيخر ساجداً إن كان الإمام متلبّساً به , ويقضي ركعةً بعد سلام الإمام , فإن خالف وركع ولحقه بطلت إن اعتدّ بالرّكعة لأنّه قضاء في صلب صلاة الإمام , وإن ألغاه لم تبطل ويحمله عنه الإمام .(/1)
وإذا زوحم عن سجدةٍ أو سجدتين من الأولى أو غيرها فلم يسجدها حتّى قام الإمام لما تليها فإن لم يطمع في سجودها قبل عقد إمامه الرّكعة الّتي تليها تمادى وجوباً على ترك السّجدة أو السّجدتين وتبع إمامه فيما هو فيه , وقضى ركعةً بعد سلام إمامه , وإن طمع فيها قبل عقد إمامه سجدها وتبعه في عقد ما بعدها , فإن تخلّف ظنه فلم يدركه بطلت عليه الرّكعة الأولى لعدم الإتيان بسجودها , والثّانية لعدم إدراك ركوعها معه .
وإن تمادى على ترك السّجدة وقضى ركعةً لا سجود عليه بعد سلامه لزيادة ركعة النّقص إذ الإمام يحملها عنه , وذلك إن تيقّن أنّه تركه , وأمّا إن شكّ في تركها وقضى الرّكعة فإنّه يسجد بعد السّلام لاحتمال زيادة الرّكعة الّتي أتى بها بعد سلام إمامه .
ولا فرق بين الغفلة والنعاس والمزاحمة عند أشهب وابن وهبٍ في أنّه يباح معها قضاء ما فات , ونقل الموّاق عن عبد الملك أنّ المزاحم أعذر , لأنّه مغلوب .
وذهب ابن القاسم إلى أنّ المزاحمة بخلاف الغفلة والنعاس , فلا يباح معها قضاء ما فات من الركوع , لأنّ الزّحام فعل آدميٍّ يمكن الاحتراز منه فعدّ المزاحم عن الركوع مقصّراً فتلغى تلك الرّكعة , والنّاعس والغافل مغلوبان بفعل اللّه سبحانه وتعالى فعذرا .
8 - وقال الشّافعيّة : إن تخلّف بركنٍ فعليٍّ عامداً بلا عذرٍ بأن فرغ الإمام منه وهو فيما قبله , كأن رفع الإمام رفع الاعتدال والمأموم في قيام القراءة لم تبطل صلاته في الأصحّ , لأنّه تخلف يسير , سواء أكان طويلاً كالمثال المتقدّم أم قصيراً كأن رفع الإمام رأسه من السّجدة الأولى وهوى من الجلسة بعدها للسجود والمأموم في السّجدة الأولى .
والقول الثّاني وهو مقابل الأصحّ : تبطل لما فيه من المخالفة من غير عذرٍ .
أمّا إذا تخلّف بدون ركنٍ , كأن ركع الإمام دون المأموم ثمّ لحقه قبل أن يرفع رأسه من الركوع , أو تخلّف بركنٍ بعذرٍ لم تبطل صلاته قطعاً .
وإن تخلّف بركنين فعليّين بأن فرغ الإمام منهما وهو فيما قبلهما فإن لم يكن عذر , كأن تخلّف لقراءة السورة أو لتسبيحات الركوع والسجود بطلت صلاته , لكثرة المخالفة , سواء أكانا طويلين أو طويلاً وقصيراً .
وإن كان عذر بأن أسرع الإمام قراءته مثلاً , أو كان المأموم بطيء القراءة وركع الإمام قبل إتمام المأموم الفاتحة فقيل يتبعه لتعذر الموافقة , وتسقط البقيّة للعذر فأشبه المسبوق , والصّحيح : لا يتبعه بل يتمها وجوباً , ويسعى خلف الإمام على نظم صلاة نفسه ما لم يسبق بأكثر من ثلاثة أركانٍ بل بثلاثةٍ فما دونها - كما قال الشّربيني الخطيب - مقصودة في نفسها وهي الطّويلة أخذاً من صلاته صلى الله عليه وسلم بعسفان , فلا يعد منهما القصير , وهو الاعتدال والجلوس بين السّجدتين , فإن سبق بأكثر من الثّلاثة فقيل : يفارقه بالنّيّة لتعذر الموافقة .
والأصح : لا تلزمه المفارقة بل يتبعه فيما هو فيه , ثمّ يتدارك بعد سلام الإمام ما فاته كالمسبوق .
ولو لم يتمّ المأموم الفاتحة لشغله بدعاء الافتتاح أو التّعوذ وقد ركع الإمام فمعذور في التّخلف لإتمامها كبطيء القراءة فيأتي فيه ما مرّ .
9 - وصرّح الحنابلة بأنّ الإمام إذا سبق المأموم بركنٍ كاملٍ , مثل أن يركع ويرفع قبل ركوع المأموم لعذرٍ من نعاسٍ أو غفلةٍ أو زحامٍ أو عجلة الإمام فإنّ المأموم يفعل ما سبق به ويدرك إمامه ولا شيء عليه , نصّ عليه أحمد , وحكى في المستوعب روايةً أنّه لا يعتد بتلك الرّكعة .
وإن سبقه بركعةٍ كاملةٍ أو أكثر فإنّه يتبع إمامه , ويقضي ما سبقه به كالمسبوق , قال أحمد في رجلٍ نعس خلف الإمام حتّى صلّى ركعتين : قال كأنّه أدرك ركعتين , فإذا سلّم الإمام صلّى ركعتين , وعنه : يعيد الصّلاة .
وإن سبقه بأكثر من ركنٍ وأقلّ من ركعةٍ ثمّ زال عذره فالمنصوص عن أحمد أنّه يتبع إمامه , ولا يعتد بتلك الرّكعة .
قال ابن قدامة : وظاهر هذا أنّه إن سبقه بركنين بطلت تلك الرّكعة , وإن سبقه بأقلّ من ذلك فعله وأدرك إمامه , ثمّ نقل عن بعض الحنابلة فيمن زحم عن السجود يوم الجمعة أنّه ينتظر زوال الزّحام ثمّ يسجد ويتبع الإمام ما لم يخف فوات الركوع في الثّانية مع الإمام , فعلى هذا يفعل ما فاته وإن كان أكثر من ركنٍ .
حكم صلاة اللاحق بمحاذاة المرأة :
10 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه إن حاذت المقتدي مشتهاة في صلاةٍ مطلقةٍ مشتركةٍ تحريمةً وأداءً في مكانٍ واحدٍ بلا حائلٍ تفسد صلاته , والمدرك واللاحق في ذلك سواء , لأنّ اللاحق بانٍ تحريمته على تحريمة الإمام حقيقةً لالتزامه متابعته , كما أنّه بانٍ أداءه فيما يقضيه على أداء الإمام تقديراً بالتزامه المتابعة , فتثبت الشّركة بينهما ما لم تنته أفعال الصّلاة فاللاحق فيما يقضي كأنّه خلف الإمام تقديراً , ولهذا لا يقرأ ولا يلزمه السجود بسهوه . بخلاف ما إذا كانا مسبوقين وحاذته فيما يقضيان حيث لا تفسد صلاته وإن كانا بانيين في حقّ التّحريمة , لأنّهما منفردان فيما يقضيان , ولهذا يقرآن , ويلزمهما السجود بسهوهما .
استخلاف اللاحق :(/2)
11 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لو صلّى الإمام ركعةً ثمّ أحدث فاستخلف رجلاً نام عن هذه الرّكعة وقد أدرك أوّلها أو كان ذهب ليتوضّأ جاز لكن لا ينبغي للإمام أن يقدّمه , ولا لذلك الرّجل أن يتقدّم , وإن قدّم ينبغي أن يتأخّر , ويقدّم هو غيره , لأنّ غيره أقدر على إتمام صلاة الإمام , فإنّه يحتاج إلى البداية بما فاته , فإن لم يفعل وتقدّم جاز , لأنّه قادر على الإتمام في الجملة , وإذا تقدّم ينبغي أن يشير إليهم بأن ينتظروه ليصلّي ما فاته وقت نومه أو ذهابه للتّوضؤ , ثمّ يصلّي بهم بقيّة الصّلاة , لأنّه مدرك فينبغي أن يصلّي الأوّل فالأوّل . ( ر : استخلاف ف 27 - 31 ) .(/3)
ليلة القدر *
التّعريف :
1 - ليلة القدر تتركّب من لفظين : أوّلهما : ليلة وهي في اللغة : من غروب الشّمس إلى طلوع الفجر , ويقابلها النّهار .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي له عن المعنى اللغويّ .
وثانيهما : القدر , ومن معاني القدر في اللغة : الشّرف والوقار , ومن معانيه : الحكم والقضاء والتّضييق .
واختلف الفقهاء في المراد من القدر الّذي أضيفت إليه اللّيلة فقيل : المراد به التّعظيم والتّشريف , ومنه قوله تعالى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } , والمعنى : أنّها ليلة ذات قدرٍ وشرفٍ لنزول القرآن فيها , ولما يقع فيها من تنزل الملائكة , أو لما ينزل فيها من البركة والرّحمة والمغفرة , أو أنّ الّذي يحييها يصير ذا قدرٍ وشرفٍ .
وقيل : معنى القدر هنا التّضييق كمثل قوله تعالى : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } ومعنى التّضييق فيها إخفاؤُها عن العلم بتعيينها , أو لأنّ الأرض تضيق فيها عن الملائكة , وقيل : القدر هنا بمعنى القدَر - بفتح الدّال - وهو مؤاخي القضاء : أي بمعنى الحكم والفصل والقضاء , قال العلماء : سمّيت ليلة القدر لما تكتب فيها الملائكة من الأرزاق والآجال وغير ذلك ممّا سيقع في هذه السّنة بأمر من اللّه سبحانه لهم بذلك , وذلك ما يدل عليه قول اللّه تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } , حيث ذهب جمهور العلماء إلى أنّ اللّيلة المباركة الواردة في هذه الآية هي ليلة القدر , وليست ليلة النّصف من شعبان كما ذهب إليه بعض المفسّرين .
قال ابن قدامة : ليلة القدر هي ليلة شريفة مباركة معظّمة مفضّلة ثمّ قال : وقيل : إنّما سمّيت ليلة القدر لأنّه يقدّر فيها ما يكون في تلك السّنة من خيرٍ ومصيبةٍ , ورزقٍ وبركةٍ .
الأحكام المتعلّقة بليلة القدر :
فضل ليلة القدر :
2 - ذهب الفقهاء إلى أنّ ليلة القدر أفضل اللّيالي , وأنّ العمل الصّالح فيها خير من العمل الصّالح في ألف شهرٍ ليس فيها ليلة القدر , قال تعالى : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } , وأنّها اللّيلة المباركة الّتي يفرق فيها كل أمرٍ حكيمٍ , والّتي ورد ذكرها في قوله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } .
وورد في فضلها أيضاً بالإضافة إلى ما سبق قول اللّه تعالى : { تَنَزَّلُ الْمَََلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ } , قال القرطبي : أي تهبط من كلّ سماءٍ ومن سدرة المنتهى فينزلون إلى الأرض ويؤمّنون على دعاء النّاس إلى وقت طلوع الفجر , وتنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بالرّحمة بأمر اللّه تعالى وبكلّ أمرٍ قدّره اللّه وقضاه في تلك السّنة إلى قابلٍ .
وفي فضل ليلة القدر أيضاً قال اللّه تعالى : { سَََلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } أي أنّ ليلة القدر سلامة وخير كلها لا شرّ فيها إلى طلوع الفجر , قال الضّحّاك : لا يقدّر اللّه في تلك اللّيلة إلا السّلامة وفي سائر اللّيالي يقضي بالبلايا والسّلامة , وقال مجاهد : هي ليلة سالمة لا يستطيع الشّيطان أن يعمل فيها سوءاً ولا أذىً .
إحياء ليلة القدر :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّه يندب إحياء ليلة القدر لفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقد روى أبو سعيدٍ الخدري رضي الله تعالى عنه : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جاور في العشر الأواخر من رمضان » , ولما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كان إذا دخل العشر أحيا اللّيل وأيقظ أهله وشدّ المئزر » , والقصد منه إحياء ليلة القدر ولقوله صلى الله عليه وسلم : « من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه » .
ويكون إحياء ليلة القدر بالصّلاة وقراءة القرآن والذّكر والدعاء , وغير ذلك من الأعمال الصّالحة , وأن يكثر من دعاء : اللّهمّ إنّك عفوٌّ تحب العفو فاعف عنّي , لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : « قلت : يا رسول اللّه أرأيت إن علمت أيّ ليلةٍ ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال : قولي اللّهمّ إنّك عفوٌّ كريم تحب العفو فاعف عنّي » , قال ابن علان : بعد ذكر هذا الحديث : فيه إيماء إلى أنّ أهمّ المطالب انفكاك الإنسان من تبعات الذنوب وطهارته من دنس العيوب , فإنّ بالطّهارة من ذلك يتأهّل للانتظام في سلك حزب اللّه وحزب اللّه هم المفلحون .
اختصاص الأمّة المحمّديّة بليلة القدر :
4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ ليلة القدر خاصّة بالأمّة المحمّديّة ولم تكن في الأمم السّابقة , واستدلوا بما روي عن مالك بن أنسٍ : أنّه سمع من يثق به من أهل العلم يقول : « إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أري أعمار النّاس قبله ، أو ما شاء اللّه من ذلك ، فكأنّه تقاصر أعمار أمّته أن لا يبلغوا من العمل مثل الّذي بلغ غيرهم في طول العمر ، فأعطاه اللّه ليلة القدر خير من ألف شهرٍ » .
وبما روي : « أنّ رجلاً من بني إسرائيل لبس السّلاح في سبيل اللّه تعالى ألف شهرٍ فعجب المسلمون من ذلك فأنزل اللّه عزّ وجلّ : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } » .(/1)
وذهب بعضهم إلى أنّ ليلة القدر كانت في الأمم السّابقة واحتجوا بحديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه وفيه : « قلت يا رسول اللّه أخبرني عن ليلة القدر أفي كلّ رمضان هي ؟ قال : نعم ، قلت أفتكون مع الأنبياء فإذا رفعوا رفعت أو إلى يوم القيامة ؟ قال : بل هي إلى يوم القيامة » .
بقاء ليلة القدر :
5 - اختلف العلماء في بقاء ليلة القدر :
فذهب الجمهور إلى أنّ ليلة القدر باقية إلى يوم القيامة لحديث أبي ذرٍّ في المسألة السّابقة وللأحاديث الكثيرة الّتي تحث المسلم على طلبها والاجتهاد في إدراكها , ومنها قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه » , وقوله صلى الله عليه وسلم : « تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان » .
وذهب بعض العلماء إلى أنّ ليلة القدر رفعت أصلاً ورأساً , قال ابن حجرٍ : حكاه المتولّي في التّتمّة عن الرّوافض والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفيّة وكأنّه خطأ , والّذي حكاه السروجي أنّه قول الشّيعة .
وقد روى عبد الرّزّاق عن عبد اللّه بن يحنس قلت لأبي هريرة رضي الله عنه : زعموا أنّ ليلة القدر رفعت ، قال : كذب من قال ذلك , وعن عبد اللّه بن شريكٍ قال : ذكر الحجّاج ليلة القدر فكأنّه أنكرها فأراد زر بن حبيشٍ أن يحصبه فمنعه قومه .
محل ليلة القدر :
6 - اختلف الفقهاء في محلّ ليلة القدر :
فذهب جمهورهم وهو المذهب عند الحنفيّة إلى أنّ محلّ ليلة القدر في رمضان دائرة معه , لأنّ اللّه سبحانه وتعالى أخبر أنّه أنزل القرآن في ليلة القدر بقوله : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ } .
وأخبرنا كذلك أنّه أنزل القرآن في شهر رمضان بقوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } , الآية , ممّا يدل على أنّ ليلة القدر منحصرة في شهر رمضان دون سائر ليالي السّنة الأخرى .
كما استدلوا بالأحاديث الصّحيحة والّتي سبق نقلها وهي تدل على أنّ محلّ ليلة القدر في شهر رمضان .
وذهب بعض العلماء ومنهم عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه وأبو حنيفة في المشهور عنه إلى أنّ محلّ ليلة القدر في جميع السّنة تدور فيها , قد تكون في رمضان وقد تكون في غير رمضان فقد روي عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه أنّه كان يقول : " من يقم الحول يصب ليلة القدر " مشيراً إلى أنّها في السّنة كلّها , ولمّا بلغ قوله هذا إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال : يرحم اللّه أبا عبد الرّحمن أما إنّه علم أنّها في العشر الأواخر من شهر رمضان ولكنّه أراد ألا يتّكل النّاس .
7 - واختلف جمهور الفقهاء الّذين ذهبوا إلى أنّ ليلة القدر في شهر رمضان في محلّها من الشّهر وذلك بعدما قالوا : يستحب طلب ليلة القدر في جميع ليالي رمضان وفي العشر الأواخر آكد , وليالي الوتر من العشر الأواخر من رمضان آكد , للأحاديث السّابقة .
وفيما يلي أقوال العلماء في محلّها :
القول الأوّل : الصّحيح المشهور لدى جمهور الفقهاء , وهم المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة , والأوزاعي وأبو ثورٍ : أنّها في العشر الأواخر من رمضان لكثرة الأحاديث الّتي وردت في التماسها في العشر الأواخر من رمضان , وتؤكّد أنّها في الأوتار ومنحصرة فيها .
والأشهر والأظهر عند المالكيّة أنّها ليلة السّابع والعشرين .
وبهذا يقول الحنابلة , فقد صرّح البهوتي بأنّ أرجاها ليلة سبعٍ وعشرين نصاً .
القول الثّاني : قال ابن عابدين : ليلة القدر دائرة مع رمضان , بمعنى أنّها توجد كلّما وجد , فهي مختصّة به عند الإمام وصاحبيه , لكنّها عندهما في ليلةٍ معيّنةٍ منه , وعنده لا تتعيّن . وقال الطّحطاوي : ذهب الأكثر إلى أنّ ليلة القدر ليلة سبعٍ وعشرين , وهو قول ابن عبّاسٍ وجماعةٍ من الصّحابة رضي الله عنهم , ونسبه العيني في شرح البخاريّ إلى الصّاحبين . القول الثّالث : قال النّووي : مذهب الشّافعيّة وجمهور أصحابنا أنّها منحصرة في العشر الأواخر من رمضان مبهمة علينا , ولكنّها في ليلةٍ معيّنةٍ في نفس الأمر لا تنتقل عنها ولا تزال من تلك اللّيلة إلى يوم القيامة , وكل ليالي العشر الأواخر محتملة لها , لكن ليالي الوتر أرجاها , وأرجى الوتر عند الشّافعيّ ليلة الحادي والعشرين , وقال الشّافعي في موضعٍ إلى ثلاثةٍ وعشرين , وقال البندنيجي : مذهب الشّافعيّ أنّ أرجاها ليلة إحدى وعشرين , وقال في القديم : ليلة إحدى وعشرين أو ثلاثٍ وعشرين فهما أرجى لياليها عنده , وبعدهما ليلة سبعٍ وعشرين .
هذا هو المشهور في المذهب أنّها منحصرة في العشر الأواخر من رمضان .
وقال الشّربيني الخطيب : .. وقال ابن عبّاسٍ وأبيّ رضي الله عنهم : هي ليلة سبعٍ وعشرين وهو مذهب أكثر أهل العلم .
القول الرّابع : أنّها أوّل ليلةٍ من رمضان , وهو قول أبي رزينٍ العقيليّ الصّحابيّ لقول أنسٍ رضي الله عنه : ليلة القدر أوّل ليلةٍ من رمضان , نقلها عنهما ابن حجرٍ .(/2)
القول الخامس : أنّها ليلة سبع عشرة من رمضان , روى ابن أبي شيبة والطّبراني من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : ما أشك ولا أمتري أنّها ليلة سبع عشرة من رمضان ليلة أنزل القرآن , وروي ذلك عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه بحجّة أنّها هي اللّيلة الّتي كانت في صبيحتها وقعة بدرٍ ونزل فيها القرآن لقوله تعالى : { وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } , وهو ما يتوافق تماماً مع قوله تعالى في ليلة القدر : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } .
القول السّادس : أنّها مبهمة في العشر الأوسط , حكاه النّووي وقال به بعض الشّافعيّة وهو قول للمالكيّة وعزاه الطّبريّ إلى عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه والحسن البصريّ . القول السّابع : أنّها ليلة تسع عشرة , قال ابن حجرٍ : رواه عبد الرّزّاق عن عليٍّ رضي الله عنه وعزاه الطّبريّ لزيد بن ثابتٍ وابن مسعودٍ رضي الله عنهما ووصله الطّحاوي عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه .
القول الثّامن : أنّها متنقّلة في ليالي العشر الأواخر تنتقل في بعض السّنين إلى ليلةٍ وفي بعضها إلى غيرها , وذلك جمعاً بين الأحاديث الّتي وردت في تحديدها في ليالٍ مختلفةٍ من شهر رمضان عامّةً ومن العشر الأواخر خاصّةً , لأنّه لا طريق إلى الجمع بين تلك الأحاديث إلا بالقول بأنّها متنقّلة , وأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجيب على نحو ما يسأل , فعلى هذا كانت في السّنة الّتي رأى أبو سعيدٍ رضي الله عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطّين ليلة إحدى وعشرين , وفي السّنة الّتي أمر عبد اللّه ابن أنيسٍ بأن ينزل من البادية ليصلّي في المسجد ليلة ثلاثٍ وعشرين , وفي السّنة الّتي رأى أبي بن كعبٍ رضي الله عنه علامتها ليلة سبعٍ وعشرين , وقد ترى علامتها في غير هذه اللّيالي , وهذا قول مالكٍ وأحمد والثّوريّ وإسحاق وأبي ثورٍ وأبي قلابة والمزنيّ وصاحبه أبي بكرٍ محمّد ابن إسحاق بن خزيمة والماورديّ وابن حجرٍ العسقلانيّ من الشّافعيّة , وقال النّووي : وهذا هو الظّاهر المختار , لتعارض الأحاديث الصّحيحة في ذلك ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلا بانتقالها , وقيل : إنّ ليلة القدر متنقّلة في شهر رمضان كلّه .
قال بعض أهل العلم : أبهم اللّه تعالى هذه اللّيلة على الأمّة ليجتهدوا في طلبها , ويجدوا في العبادة طمعاً في إدراكها كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليكثروا من الدعاء في اليوم كلّه , وأخفى اسمه الأعظم في الأسماء , ورضاه في الطّاعات ليجتهدوا في جميعها , وأخفى الأجل وقيام السّاعة ليجدّ النّاس في العمل حذراً منهما .
ما يشترط لنيل فضل ليلة القدر :
8 - نصّ فقهاء المالكيّة والشّافعيّة على مسألة اشتراط العلم بليلة القدر لنيل فضلها أو عدم اشتراطه واختلفوا في ذلك :
فذهب بعض المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه لا ينال فضل ليلة القدر إلا من أطلعه اللّه عليها , فلو قام إنسان ولم يشعر بها لم ينل فضلها .
وقال آخرون من فقهاء المذهبين : إنّه لا يشترط لنيل فضل ليلة القدر العلم بها , ويستحب التّعبد في كلّ ليالي العشر الأواخر من رمضان حتّى يحوز الفضيلة على اليقين .
ورجّح فقهاء المذهبين الرّأي الثّاني وقالوا : ومع ذلك فإنّ حال من اطّلع على ليلة القدر أكمل وأتم في الفضل إذا قام بوظائفها .
علامات ليلة القدر :
9 - قال العلماء : لليلة القدر علامات يراها من شاء اللّه من عباده في كلّ سنةٍ من رمضان , لأنّ الأحاديث وأخبار الصّالحين ورواياتهم تظاهرت عليها :
فمنها ما ورد من حديث عبادة بن الصّامت رضي الله عنه مرفوعاً : « إنّها صافية بلجة كأنّ فيها قمراً ساطعاً ساكنة ساجية لا برد فيها ولا حرّ ولا يحل لكوكب أن يُرمى به فيها حتّى تصبح وأنّ من أمارتها أنّ الشّمس صبيحتها تخرج مستويةً ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ولا يحل للشّيطان أن يخرج معها يومئذٍ » .
وعن أبي بن كعبٍ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ الشّمس تطلع يومئذٍ لا شعاع لها » .
ومنها ما ورد من قول ابن مسعودٍ رضي الله عنه : أنّ الشّمس تطلع كلّ يومٍ بين قرني شيطانٍ إلا صبيحة ليلة القدر .
كتمان ليلة القدر :
10 - اتّفق العلماء على أنّه يستحب لمن رأى ليلة القدر أن يكتمها .
والحكمة في كتمانها كما ذكرها ابن حجرٍ نقلاً عن الحاوي أنّها كرامة والكرامة ينبغي كتمانها بلا خلافٍ بين أهل الطّريق من جهة رؤية النّفس , فلا يأمن السّلب , ومن جهةٍ أن لا يأمن الرّياء , ومن جهة الأدب فلا يتشاغل عن الشكر للّه بالنّظر إليها وذكرها للنّاس , ومن جهةٍ أنّه لا يأمن الحسد فيوقع غيره في المحذور .
قال ابن حجرٍ العسقلاني : ويستأنس له بقول يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لابنه يوسف عليه السلام : { يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } .(/3)
لَبَن *
التّعريف :
1 - اللّبن في اللغة : سائل أبيض يكون في إناث الآدميّين والحيوان , وهو اسم جنسٍ , والجمع ألبان , وواحدته لبنة .
واللّبأ : أوّل اللّبن عند الولادة , ولبن كلّ شجرةٍ : ماؤُها على التّشبيه , وشاة لبون : ذات اللّبن غزيرةً كانت أو بكيئةً .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
ما يتعلّق باللّبن من أحكامٍ :
يتعلّق باللّبن أحكام متعدّدة منها :
الطّاهر والنّجس من الألبان وما يحل شربه منها :
2 - اللّبن إمّا أن يكون من حيوانٍ أو من آدميٍّ فإن كان من حيوانٍ حيٍّ مأكول اللّحم كالبقر والغنم فهو طاهر بلا خلافٍ , لقوله تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } .
إلا أنّ الفقهاء اختلفوا في طهارة لبن بعض الحيوانات , تبعاً لاختلافهم في حلّ أكلها , فما حلّ أكله كان لبنه طاهراً , ومن أمثلة ذلك :
أ - لبن الفرس :
3 - لبن الفرس طاهر حلال عند الشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة ، واختلف النّقل عن أبي حنيفة فروى الحسن عنه الكراهة في سؤره كما في لبنه , وقيل : لا بأس بلبنه , لأنّه ليس في شربه تقليل آلة الجهاد .
ولبن الفرس نجس عند المالكيّة بناءً على تبعيّة اللّبن للّحم , فقد قالوا : لبن غير الآدميّ تابع للحمه في الطّهارة بعد التّذكية فإن كان لحمه طاهراً بعد التّذكية وهو المباح والمكروه الأكل فلبنه طاهر وإن كان نجساً بعد التّذكية وهو محرّم الأكل فلبنه نجس , والفرس من الحيوانات المحرّمة عندهم .
ب - لبن الحمر الأهليّة :
4 - رخّص في ألبان الحمر الأهليّة عطاء وطاووس والزهري , بينما هي نجسة محرّمة عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وهي مكروهة عند الحنفيّة .
ج - لبن الجلالة :
5 - الجلالة ذات اللّبن ممّا يؤكل لحمه كالإبل أو البقر أو الغنم الّتي يكون أغلب أكلها النّجاسة كره شرب لبنها الحنفيّة والحنابلة وهو الأصح عند الشّافعيّة - كما قال النّووي - إذا ظهر نتن ما تأكله في ريحها وعرقها .
ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة أنّ شرب لبنها حرام , والأصل في ذلك ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها » .
ولأنّ لحمها إذا تغيّر يتغيّر لبنها .
وعند المالكيّة لبن الجلالة طاهر , ولا يكره شربه , كما رخّص الحسن في لحومها وألبانها , لأنّ الحيوانات لا تنجس بأكل النّجاسات بدليل أنّ شارب الخمر لا يحكم بتنجيس أعضائه .
د - لبن ميتة مأكول اللّحم :
6 - لبن ميتة مأكول اللّحم من الحيوان نجس وذلك عند المالكيّة والشّافعيّة , وهو ظاهر المذهب عند الحنابلة , وهو قول أبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة , وذلك لأنّ اللّبن مائع في وعاءٍ نجسٍ فكان نجساً كما لو حلب في وعاءٍ نجسٍ .
وعند أبي حنيفة وهو رواية عند الحنابلة لبن ميتة مأكول اللّحم طاهر لقول اللّه تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } , وصف اللّبن مطلقاً بالخلوص والسيوغ مع خروجه من بين فرثٍ ودمٍ , وهذا آية الطّهارة , وكذا الآية خرجت مخرج الامتنان , والمنّة في موضع النّعمة تدل على الطّهارة , والصّحابة رضي الله تعالى عنهم أكلوا الجبن لمّا دخلوا المدائن , وهو يعمل بالإنفحة , وهي تؤخذ من صغار المعز فهو بمنزلة اللّبن , وذبائحهم ميتة .
ما سبق إنّما هو بالنّسبة للحيوان الحيّ المأكول اللّحم وميتته .
7 - وذهب الفقهاء إلى أنّ لبن الحيوانات المتّفق على حرمة أكلها نجس حيّةً كانت أو ميّتةً , يقول ابن قدامة : حكم الألبان حكم اللّحمان , وفي نهاية المحتاج : لبن ما لا يؤكل كلبن الأتان نجس لكونه من المستحيلات في الباطن فهو نجس , وفي جواهر الإكليل : لبن غير الآدميّ المحلوب في حال الحياة أو بعد موته تابع للحمه في الطّهارة وعدمها , وفي الفتاوى الهنديّة : الحمار الأهلي لحمه حرام فكذلك لبنه .
لبن الآدميّ :
8 - لبن الآدميّ الحيّ طاهر باتّفاقٍ , سواء أكان من امرأةٍ أم من رجلٍ إذ لا يليق بكرامته أن يكون منشؤُه نجساً .
أمّا لبن الآدميّ الميّت فهو طاهر عند الحنفيّة والشّافعيّة وهو الظّاهر من مذهب الحنابلة , لأنّ اللّبن لا ينجس بالموت بل هو طاهر بعد الموت وإن تنجّس الوعاء الأصلي له , ونجاسة الظّرف إنّما توجب نجاسة المظروف إذا لم يكن الظّرف معدناً للمظروف وموضعاً له في الأصل , فأمّا إذا كان في الأصل موضعه ومظانه فنجاسته لا توجب نجاسة المظروف .
وقال المالكيّة : إنّ لبن الآدميّ الميّت نجس , وقيل : إنّه طاهر .
بيع اللّبن :
9 - بيع لبن الحيوان المأكول اللّحم بعد حلبه جائز بلا خلافٍ بين الفقهاء , لأنّه طاهر منتفع به مقدور على تسليمه .
واختلف الفقهاء في عدّة مسائل .
أ - بيع اللّبن في الضّرع :
10 - ذهب جمهور الفقهاء الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى عدم جواز بيع اللّبن في الضّرع .
وقد علّله الشّافعيّة والحنابلة بأنّه مجهول الصّفة والمقدار , فقد يرى امتلاء الضّرع من السّمن فيظن أنّه من اللّبن , ولأنّ اللّبن قد يكون صافياً وقد يكون كدراً , وذلك غرر من غير حاجةٍ فلم يجز , ولأنّه بيع عينٍ لم تخلق .(/1)
وعلّل الحنفيّة المنع بأنّ اللّبن لا يجتمع في الضّرع دفعةً واحدةً , بل شيئاً فشيئاً فيختلط المبيع بغيره على وجهٍ يتعذّر التّمييز بينهما , فكان المبيع معجوز التّسليم عند البيع فلا ينعقد البيع , وقد روى ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « نهى أن يباع صوف على ظهر غنمٍ أو لبن في ضرعٍ » .
وأجاز المالكيّة بيع اللّبن في الضّرع لشياهٍ بأعيانها في إبّان لبنها إذا سمّى شهراً أو شهرين أو ثلاثةً وكان قد عرف وجه حلابها وكانت الغنم كثيرةً .
أمّا إن كان الشّاة أو الشّاتين فاشترى رجل حلابها على كذا وكذا شهراً بكذا وكذا درهماً فلا , إلا أن يبيع لبنها كيلاً كل قسطٍ بكذا وكذا .
وكذلك أجاز بيع اللّبن في الضّرع الحسن وسعيد بن جبيرٍ ومحمّد بن مسلمة , وكرهه طاووس ومجاهد .
بيع لبن الآدميّ :
11 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة وهو الأصح عند الحنابلة إلى جواز بيع لبن الآدميّة إذا حلب , لأنّه لبن طاهر منتفع به , ولأنّه لبن أبيح شربه , فأبيح بيعه قياساً على سائر الأنعام , ولأنّه يجوز أخذ العوض عنه في إجارة الظّئر , فأشبه المنافع .
ولا يجوز بيعه عند الحنفيّة وهو قول جماعةٍ من الحنابلة , لأنّ اللّبن ليس بمالٍ فلا يجوز بيعه , والدّليل على أنّه ليس بمالٍ إجماع الصّحابة رضي الله عنهم والمعقول , أمّا إجماع الصّحابة فما روي عن عمر وعليٍّ رضي الله تعالى عنهما أنّهما حكما في ولد المغرور بالقيمة وبالعقر بمقابلة الوطء , وما حكما بوجوب قيمة اللّبن بالاستهلاك , ولو كان مالاً لحكما , وكان ذلك بمحضرٍ من الصّحابة ولم ينكر عليهما أحد فكان إجماعاً , وأمّا المعقول فلأنّه لا يباح الانتفاع به شرعاً على الإطلاق , بل لضرورة تغذية الطّفل , وما حرم الانتفاع به شرعاً إلا لضرورةٍ لا يكون مالاً , والدّليل عليه أنّ النّاس لا يعدونه مالاً , ولا يباع في سوقٍ من الأسواق , ولأنّه جزء من الآدميّ , والآدمي بجميع أجزائه محترم مكرّم , وليس من الكرامة والاحترام ابتذاله بالبيع والشّراء .
وكره بيعه أحمد .
وفي ظاهر الرّواية عند الحنفيّة لا فرق بين لبن الحرّة ولبن الأمة في عدم جواز البيع , لأنّ الآدميّ لم يجعل محلاً للبيع إلا بحلول الرّقّ فيه , والرّق لا يحل إلا في الحيّ , واللّبن لا حياة فيه , فلا يحله الرّق , فلا يكون محلاً للبيع .
وعند أبي يوسف يجوز بيع لبن الأمة لأنّه جزء من آدميٍّ هو مال , فكان محلاً للبيع كسائر أجزائه .
السّلم في اللّبن :
12 - يجوز السّلم في اللّبن عند الشّافعيّة , وفي الأصحّ عند الحنابلة , ويشترط ذكر جنس حيوانه ونوعه ومأكوله من مرعىً أو علفٍ معيّنٍ بنوعه .
واللّبن المطلق يحمل على الحلو وإن جفّ .
ويصح السّلم في اللّبن كيلاً ووزناً عند الشّافعيّة والحنابلة , ويوزن برغوته , ولا يكال بها لأنّها لا تؤثّر في الميزان .
ونقل المروزيّ عن أحمد أنّه يجوز السّلم في اللّبن إذا كان كيلاً أو وزناً .
قال ابن قدامة : وهذا أصح إن شاء اللّه تعالى , لأنّ الغرض معرفة قدره وخروجه من الجهالة وإمكان تسليمه من غير تنازعٍ , فبأيّ قدرٍ قدّره جاز .
وعند الشّافعيّة لا يصح السّلم في حامض اللّبن لأنّ حموضته عيب إلا في مخيضٍ لا ماء فيه , فيصح فيه ولا يضر وصفه بالحموضة لأنّها مقصودة فيه .
ويصح السّلم في المخيض عند الحنابلة ولو كان فيه ماء , لأنّ الماء يسير يترك لأجل المصلحة , وقد جرت العادة به , فلم يمنع صحّة السّلم فيه .
وعند المالكيّة نقل الموّاق عن المدوّنة : لا بأس بالسّلم في اللّبن والجصّ والزّرنيخ وشبه ذلك .
واختلفت النقول عند الحنفيّة , ففي البدائع : يشترط في المسلم فيه أن يكون موجوداً من وقت العقد إلى وقت الأجل , فإن لم يكن موجوداً عند العقد أو عند محلّ الأجل , أو كان موجوداً فيهما لكنّه انقطع من أيدي النّاس فيما بين ذلك كالثّمار والفواكه واللّبن وأشباه ذلك , لا يجوز السّلم عندنا .
بينما جاء في الفتاوى الهنديّة : إذا أسلم في اللّبن في حينه كيلاً أو وزناً معلوماً إلى أجلٍ معلومٍ جاز .
الانتفاع بلبن ماشية الغير :
13 - ذهب الشّافعيّة وهو قول المالكيّة ورواية عن أحمد إلى أنّ من مرّ بماشية غيره وهو غير مضطرٍّ لم يكن له أن يحلبها ليشرب لبنها إلا بإذن صاحبها , لما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحلبن أحد ماشية امرئٍ بغير إذنه ، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته فينتقل طعامه ، فإنّما تخزن لهم ضروع ماشيتهم أطعماتهم ، فلا يحلبن أحد ماشية أحدٍ إلا بإذنه » وفي روايةٍ : « فإنّ ما في ضروع مواشيهم مثل ما في مشاربهم » , ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفسٍ » .
واستثنى كثير من السّلف ما إذا علم بطيب نفس صاحبه وإن لم يقع منه إذن خاص ولا عام .
وفي الرّواية الثّانية لأحمد وهو قول عند المالكيّة أنّه يجوز لمن مرّ بماشية أن يحلب ويشرب ولا يحمل معه شيئاً , لما روى الحسن عن سمرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أتى أحدكم على ماشيةٍ فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه ، فإن أذن له فليحتلب وليشرب ، وإن لم يكن فيها أحد فيصوّت ثلاثاً فإن أجابه أحد فليستأذنه ، فإن لم يجبه أحد فليحتلب وليشرب ولا يحمل » .
وقال ابن حجرٍ : ذهب كثير من السّلف إلى الجواز مطلقاً في الأكل والشرب , سواء علم بطيب نفس صاحبه أو لم يعلم .(/2)
والأقوال الّتي ردّت عند المالكيّة هي بالنّسبة لغير المحتاج , أما بالنّسبة للمحتاج فقد قالوا : إن كان محتاجاً جاز له ذلك من غير خلافٍ - أي بين فقهاء المذهب - .
بيع اللّبن بعضه ببعض :
14 - الألبان من الرّبويّات الّتي لا يجوز بيع بعضها ببعض إذا كانت جنساً واحداً إلا مثلاً بمثل يداً بيد .
وقد اختلف الفقهاء فيما يعتبر جنساً واحداً من الألبان وما لا يعتبر .
فعند جمهور الفقهاء الحنفيّة وهو الأظهر عند الشّافعيّة وفي روايةٍ عند الحنابلة الألبان أجناس , لأنّها تتولّد من الحيوان , والحيوان أجناس , فالضّأن والمعز جنس واحد لا يباع أحدهما بالآخر إلا مثلاً بمثل يداً بيد , والبقر والجواميس جنس واحد لا يباع أحدهما بالآخر إلا مثلاً بمثل , وعلى ذلك يجوز بيع لبن البقر بلبن الغنم متفاضلاً .
وعند المالكيّة والرّواية الثّانية عند الحنابلة ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة أنّ الألبان جنس واحد , ألبان الضّأن والمعز والبقر والجواميس فلا يباع بعضها ببعض إلا مثلاً بمثل يداً بيد .(/3)
لَحْم *
التّعريف :
1 - اللّحْم واللّحَم لغتان , وهو من جسم الحيوان والطّير : الجزء العضلي الرّخو بين الجلد والعظم .
ولحم كلّ شيءٍ لبه , واللّحمة القطعة منه , وجمعه ألحم ولحوم ولحام ولحمان .
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى .
الألفاظ ذات الصّلة :
الطّعام :
2 - الطّعام لغةً : كل ما يؤكل مطلقاً .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
والطّعام يعم اللّحم وغيره .
الحكم التّكليفي :
3 - الأصل في اللحوم الحل ولا يصار إلى التّحريم إلا لدليل خاصٍّ لقوله تعالى : { خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } , وقوله تعالى : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ } .
وقد اختلف الفقهاء في حكم بعض اللحوم من حيث الحلّ والحرمة والطّهارة والنّجاسة , وبيان ذلك فيما يلي :
اللّحم المقطوع من حيوانٍ :
4 - اتّفق الفقهاء في الجملة على أنّ ما أبين أو قطع من حيوانٍ حيٍّ مأكولٍ - غير الصوف والشّعر - فهو كميتته فلا يجوز أكله لنجاسته .
لحديث : « ما قطع من البهيمة وهي حيّة فهي ميتة » .
وفي المسألة تفصيل ينظر في مصطلح : ( أطعمةٍ ف 74 ) .
أكل اللّحم النّتن :
5 - ذهب الحنفيّة إلى حرمة أكل اللّحم إذا أنتن لأنّه يضر لا لأنّه نجس .
والمذهب عند الحنابلة عدم كراهة أكل اللّحم المنتن كما جزم به صاحب المنتهى , وكره المرداوي أكل اللّحم المنتن .
واللّحم المنتن إن كان لحم جلالةٍ فالأصح عند الشّافعيّة أنّه يكره , وقيل : يحرم .
وإن كان لحم غير الجلالة وذكّي تذكيةً شرعيّةً فإنّه يكره على الصّحيح إذا نتن وتروّح كما قال الشّربيني الخطيب .
اللّحم المطبوخ بنجس :
6 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة في الرّاجح عندهم والحنابلة في الصّحيح من المذهب إلى أنّ اللّحم المطبوخ بنجس لا يطهر لأنّ أجزاء النّجاسة قد تأصّلت فيه .
وفي قولٍ للمالكيّة وروايةٍ عند الحنابلة أنّه يطهر , ولهم تفصيل في كيفيّة التّطهير ينظر في مصطلح : ( طهارةٍ فقرة 31 ) .
وقال الشّافعيّة : لو طبخ لحم بماء نجسٍ كفى غسله , قال النّووي وهو الّذي اختاره الشّاشي وهو المنصوص .
وقال أبو يوسف : يطبخ بالماء ثلاث مرّاتٍ ويجفّف في كلّ مرّةٍ .
الوضوء من أكل لحم الجزور :
7 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وأحمد في روايةٍ إلى أنّ أكل لحم الجزور لا ينقض الوضوء لما رواه جابر قال : « كان آخر الأمرين من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء ممّا غيّرت النّار » .
وذهب الحنابلة في المذهب والشّافعي في القديم وأبو بكر بن خزيمة إلى أنّه ينقض الوضوء , لما روى جابر بن سمرة : « أنّ رجلاً سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أأتوضّأ من لحوم الغنم ؟ قال : إن شئت فتوضّأ وإن شئت فلا توضّأ ، قال : أتوضّأ من لحوم الإبل ؟ قال : نعم فتوضّأ من لحوم الإبل » , ومقتضى الأمر الإيجاب .
والتّفصيل في مصطلح : ( وضوءٍ ) .
لحم الأضحيّة :
8 - ذهب الفقهاء إلى أنّه من مسنونات الأضحيّة أن يأكل المضحّي من لحم أضحيّته ويطعم ويدّخر , والأفضل أن يتصدّق بالثلث ويتّخذ الثلث ضيافةً لأقاربه وأصدقائه ويدّخر الثلث . أما الأضحيّة المنذورة فلا يجوز الأكل منها عند الحنفيّة والشّافعيّة , وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ المنذورة كغيرها في جواز الأكل .
وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح : ( أضحيّةٍ ف 59 ) .
لحم العقيقة :
9 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يستحب طبخ لحم العقيقة كلّها حتّى ما يتصدّق به . وذهب الحنفيّة إلى أنّه يجوز في العقيقة تفريقها نيئةً ومطبوخةً .
انظر : ( عقيقة ف 13 ) .
لحم الخيل :
10 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة وهو قول للمالكيّة إلى إباحة أكل لحم الخيل لحديث جابرٍ قال : « نهى النّبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهليّة ورخّص في لحوم الخيل » .
وذهب الحنفيّة - وعليه الفتوى عندهم - وهو قول ثانٍ للمالكيّة إلى حلّ أكلها مع الكراهة التّنزيهيّة لاختلاف الأحاديث المرويّة في الباب لاختلاف السّلف .
والمذهب عند المالكيّة أنّ أكل لحم الخيل محرّم .
والتّفصيل في مصطلح : ( أطعمةٍ ف 44 ) .
لحم الحمار الأهليّ :
11 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو القول الرّاجح للمالكيّة إلى حرمة أكل لحم الحمار الأهليّ , واستدلوا بحديث جابرٍ رضي الله عنه : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهليّة » .
والقول الثّاني للمالكيّة أنّ لحم الحمار الأهليّ يؤكل مع الكراهة التّنزيهيّة .
والتّفصيل في مصطلح : ( أطعمةٍ ف 46 ) .
لحم الخنزير :
12 - اتّفق الفقهاء على حرمة أكل لحم الخنزير لقوله تعالى : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } . انظر مصطلح : ( خنزيرٍ ف 3 ) .
لحم البغل :
13 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى حرمة أكل لحم البغل لأنّه متولّد من أصلين اجتمع فيهما الحل والحرمة فيغلّب جانب الحرمة احتياطاً .
وعند الحنفيّة البغل يتبع أمّه في الحلّ والحرمة .
والمالكيّة يقولون بقاعدة التّبعيّة للأمّ في الحكم , مع بعض الاختلاف .
والتّفصيل في مصطلح : ( أطعمةٍ ف 59 - 60 ) .
لحم الكلب :
14 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو قول المالكيّة - صحّحه ابن عبد البرّ - إلى حرمة أكل لحم الكلب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « كل ذي نابٍ من السّباع فأكله حرام » .
والقول الآخر للمالكيّة أنّه يكره أكل لحم الكلب .(/1)
وفي المسألة تفصيل ينظر في مصطلح : ( أطعمةٍ ف 24 - 29 ) ومصطلح : ( كلبٍ ) .
لحم الإنسان في غير حالة الضّرورة :
15 - أجمع الفقهاء على حرمة أكل لحم الإنسان لقوله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } وورد الخلاف في حكم أكل المضطرّ لحم الإنسان .
وتفصيله في مصطلح : ( ضرورةٍ ف 10 ) .
غسل الفم واليد من أكل اللّحم :
16 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى استحباب غسل اليدين بعد الطّعام لحديث : « من بات وفي يده ريح غمرٍ فأصابه شيء فلا يلومنّ إلا نفسه » .
وصرّح بعض المالكيّة باستحباب غسل الفم واليد من أكل اللّحم خاصّةً , لما جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أنّه تمضمض من السّويق » , وهو أيسر من اللّحم , ولما ورد عن عثمان بن عفّانٍ رضي الله عنه أنّه غسل يده من اللّحم وتمضمض منه .
والتّفصيل في مصطلح : ( أكلٍ ف 14 - 15 , ويدٍ ) .
الحلف على عدم أكل اللّحم :
17 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الحالف على ترك اللّحم يحنث بأكل ما ليس بلحم من الشّحم ونحوه لأنّه لحم حقيقةً ويتّخذ منه ما يتّخذ من اللّحم .
واستثنى الحنفيّة شحم الإلية إلا إذا نواه في اليمين .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يحنث لأنّه لا يسمى لحماً وينفرد عنه باسمه وصفته .
بيع اللّحم بالحيوان :
18 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى عدم جواز بيع اللّحم بحيوان من جنسه كلحم شاةٍ بشاة حيّةٍ لحديث : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان باللّحم » . وأجاز الحنفيّة هذا البيع , ولهم تفصيل في ذلك ينظر في مصطلح : ( بيع منهي عنه ف 60 ) .
وهناك خلاف بين الفقهاء في بيع اللّحم بحيوان من غير جنسه وبحيوان غير مأكولٍ ينظر في مصطلح : ( بيع منهي عنه ف 60 - 62 ) .
السّلم في اللّحم :
19 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو قول أبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة إلى صحّة السّلم في اللّحم بشرط ضبط صفاته بذكر الجنس والنّوع والصّفة , وذلك لحديث : « من أسلف في شيءٍ ففي كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ إلى أجلٍ معلومٍ » , ولأنّه إذا جاز السّلم في الحيوان فاللّحم أولى .
وذهب أبو حنيفة إلى عدم صحّة السّلم في اللّحم لوجود الجهالة .
بيع اللّحم باللّحم :
20 - اختلف الفقهاء في بيع اللّحم باللّحم وهو خلاف مبني على كون اللّحم جنساً واحداً أو أجناساً مختلفةً , فمن قال بأنّ اللّحم جنس واحد لم يجز عنده بيع لحمٍ بلحم إلا متماثلاً , ومن جعله أجناساً مختلفةً جاز عنده بيعه متفاضلاً , على تفصيلٍ في كلّ مذهبٍ ينظر في مصطلح : ( رباً ف 27 - 30 ) .(/2)
لَحْن *
التّعريف :
1 - اللّحن : في اللغة يطلق على معانٍ عدّةٍ .
يقال : لحن فلان لفلان لحناً : قال له قولاً يفهمه عنه , ويخفى على غيره , ويطلق على الخطأ في الإعراب ومخالفة الصّواب فيه , يقال : لحن القارئ في القراءة والمتكلّم في كلامه , يلحن لحناً : أخطأ في الإعراب , وخالف وجه الصّواب .
ويطلق على الفطنة , ففي الأثر : « إنّكم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعضٍ . . » أي أفطن بحجّته , قال ابن حجرٍ : المراد أنّه إذا كان أفطن كان قادراً على أن يكون أبلغ في حجّته من الآخر , ويطلق على الأصوات المصوغة الموضوعة الّتي فيها تغريد , وتطريب , وجمعه ألحان , ولحون , ويقال : لحن القول أي فحواه ومعناه .
وفي اصطلاح النّحويّين هو : الخطأ في إعراب الكلمة , أو تصحيح المفرد .
وعند القرّاء هو : خلل يطرأ على اللّفظ فيخل بالمعنى .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الأحكام المتعلّقة باللّحن :
تعمد اللّحن في قراءة القرآن :
2 - القرآن كلام اللّه المعجز المنزّل على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المنقول بالتّواتر , فيحرم تعمد اللّحن فيه , سواء أغيّر المعنى أم لم يغيّر , لأنّ ألفاظه توقيفيّة نقلت إلينا بالتّواتر , فلا يجوز تغيير لفظٍ منه بتغيير الإعراب أو بتغيير حروفه بوضع حرفٍ مكان آخر .
ولأنّ في تعمد اللّحن عبثاً بكلام اللّه , واستهزاءً بآياته , وهو كفر بواح , قال تعالى : { قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } .
قال جمهور الفقهاء بجواز قراءة القرآن بالألحان إذا لم تتغيّر الكلمة عن وضعها , ولم يحصل باللّحن تطويل بحيث يصير الحرف حرفين , أو يصل به إلى ما لم يقله أحد من القرّاء بل كان لمجرّد تحسين الصّوت , وتزيين القراءة , بل يستحب ذلك , وفي أثرٍ عن عمر رضي الله عنه : " تعلّموا الفرائض واللّحن والسنن كما تعلّمون القرآن " .
ونقل النّووي عن الماورديّ أنّه قال : القراءة بالألحان الموضوعة إن أخرجت لفظ القرآن عن صيغته بإدخال حركاتٍ فيه أو إخراج حركاتٍ منه أو قصر ممدودٍ أو مدّ مقصورٍ , أو تمطيطٍ يخفى به بعض اللّفظ ويلتبس المعنى فهو حرام يفسق به القارئ ويأثم به المستمع , لأنّه عدل به عن نهجه القويم إلى الاعوجاج واللّه تعالى يقول : { قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } .
قال : وإن لم يخرجه اللّحن عن لفظه وقراءته على ترتيله كان مباحاً , لأنّه زاد بألحانه في تحسينه .
ونقل ابن حجرٍ الهيتمي عن الشّاشيّ أنّه نسب في حليته إلى الشّافعيّ ما قاله الماورديّ . وقال في الفتاوى الهنديّة : إن قرأ بالألحان في غير الصّلاة إن غيّر الكلمة ويقف في موضع الوصل أو فصل في موضع الوقف يكره وإلا لا يكره .
والتّفصيل في مصطلحات : ( قراءةٍ ف 9 , غناءٍ ف 11 ) .
اللّحن في القراءة في الصّلاة :
3 - ذهب الفقهاء إلى أنّ تعمد اللّحن في الصّلاة إن كان في الفاتحة يبطل الصّلاة واختلفوا فيه إذا لم يتعمّد , أو كان في غير الفاتحة :
قال الشّافعيّة والحنابلة : إن كان اللّحن لا يغيّر المعنى كرفع هاء الحمد للّه كانت إمامته مكروهةً كراهةً تنزيهيّةً وصحّت صلاته وصلاة من اقتدى به .
وإن غيّر المعنى كضمّ " تاء " أنعمت , وكسرها , وكقوله : اهدنا الصّراط المستقين بدل " المستقيم " .
فإن كان يمكن له التّعلم فهو مرتكب للحرام , ويلزمه المبادرة بالتّعلم , فإن قصّر , وضاق الوقت لزمه أن يصلّي , ويقضي , ولا يصح الاقتداء به , وإن لم يمكنه التّعلم لعجز في لسانه , أو لم تمض مدّة يمكن له التّعلم فيها فصلاته صحيحة , وكذا صلاة من خلفه , هذا إذا وقع اللّحن في الفاتحة , وإن لحن في غير الفاتحة كالسورة بعد الفاتحة صحّت صلاته , وصلاة كلّ أحدٍ صلّى خلفه , لأنّ ترك السورة لا يبطل الصّلاة فلا يمنع الاقتداء به .
وقال الحنفيّة : تفسد الصّلاة باللّحن الّذي يغيّر المعنى تغييراً يكون اعتقاده كفراً سواء وجد مثله في القرآن أم لا , إلا ما كان في تبديل الجمل مفصولاً بوقف تامٍّ , وإن لم يكن مثله في القرآن , والمعنى بعيد , ويتغيّر به المعنى تغييراً فاحشًا تفسد الصّلاة به أيضاً , كـ " هذا الغبار " بدل " هذا الغراب " وكذا إن لم يوجد مثله في القرآن , ولا معنى له مطلقاً , كالسّرائل , بدل " السّرائر " .(/1)
وإن كان في القرآن مثله وكان المعنى بعيداً ولكن لا يغيّر المعنى تغييراً فاحشاً تفسد الصّلاة به عند أبي حنيفة ومحمّدٍ , وقال بعض الحنفيّة : لا تفسد لعموم البلوى , وهو قول أبي يوسف وإن لم يكن في القرآن ولكن لم يتغيّر به المعنى نحو : " قيّامين " بدل : " قوّامين " فالخلاف بينهم بالعكس : فالمعتبر في عدم الفساد عند عدم تغير المعنى كثيراً وجود المثل في القرآن عند أبي يوسف ، والموافقة في المعنى عند أبي حنيفة ومحمّدٍ , فهذه قواعد المتقدّمين من أئمّة الحنفيّة , وأمّا المتأخّرون : كابن مقاتلٍ , وابن سلامٍ , وإسماعيل الزّاهد , وأبي بكرٍ البلخيّ , والهندوانيّ , وابن الفضل فاتّفقوا على أنّ الخطأ في الإعراب لا يفسد الصّلاة مطلقاً , وإن أدّى اعتقاده كفراً , ككسر " ورسوله " , في قوله تعالى : { أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } لأنّ أكثر النّاس لا يميّزون بين وجوه الإعراب , وإن كان الخطأ بإبدال حرفٍ بحرف : فإن أمكن الفصل بينهما بلا كلفةٍ كالصّاد مع الطّاء بأن قرأ الطّالحات , بدل " الصّالحات " فهو مفسد باتّفاق أئمّتهم , وإن لم يمكن التّمييز بينهما إلا بمشقّة كالظّاء مع الضّاد والصّاد مع السّين فأكثرهم على عدم الفساد لعموم البلوى , ولم يفرّق الحنفيّة بين أن يقع اللّحن في القراءة في الصّلاة في الفاتحة أو في غيرها .
وقال المالكيّة في أصحّ الأقوال عندهم : لا تبطل الصّلاة بلحن في القراءة ولو بالفاتحة , وإن غيّر المعنى , وأثم المقتدي به إن وجد غيره , ممّن يحسن القراءة .
اللّحن بمعنى التّغريد والتّطريب :
4 - اللّحن بهذا المعنى إن كان بلا آلةٍ , ولم يكن في ألفاظه ما يحرم كوصف امرأةٍ , أو أمرد معيّنين حيّين , ووصف الخمر المهيّج إليها وهجاء مسلمٍ , أو ذمّيٍّ فهو مكروه في الجملة لشغله عن ذكر اللّه , ولما فيه من لهوٍ , وإن كان فيه شيء ممّا ذكر من آلةٍ , وفحش القول فهو حرام .
وإن كان فيه حكم , ومواعظ وخلا من الآلة فلا بأس به , وإن قصد منه الاستشهاد , أو ليعلم فصاحته , وبلاغته , أو أنشد في خلوةٍ وحده ليطرد عن نفسه الملل , فلا بأس به أيضاً .
والتّفصيل في : ( غناءٍ , شعرٍ ف 17 , تشبيبٍ ف 2 - 3 ) .(/2)
لَمْس *
التّعريف :
1 - اللّمس لغةً : الجس والإدراك بظاهر البشرة كالمسّ , ويكنى به وبالملامسة عن الجماع , وقرئ : { لاَمَسْتُمُ } و { لَمَسْتُمُ النِّسَاء } حملاً على المسّ وعلى الجماع , وقيل : اللّمس : المس باليد .
واللّمس اصطلاحاً هو : ملاقاة جسمٍ لجسم لطلب معنىً فيه كحرارة أو برودة أو صلابةٍ أو رخاوةٍ أو علم حقيقةٍ , كأن يلمس ليعلم هل هو آدمي أو لا .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - المس :
2 - من معاني المسّ في اللغة : اللّمس والجنون , ويكنى به عن النّكاح .
والمس في الاصطلاح : ملاقاة جسمٍ لآخر على أيّ وجهٍ كان .
والفرق بين اللّمس والمسّ : أنّ المسّ التقاء الجسمين , سواء كان لقصد معنىً أو لا , واللّمس هو المس لطلب معنىً .
فاللّمس أخص من المسّ .
ب - المباشرة :
3 - المباشرة في اللغة : الإفضاء بالبشرتين , يقال : باشر الرّجل زوجته : تمتّع ببشرتها , وباشر الأمر تولاه ببشرته وهي يده .
قال ابن منظورٍ : مباشرة المرأة ملامستها , وكنّى بها عن الجماع في قوله تعالى : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ لهذا اللّفظ عن معناه اللغويّ .
ويرادف اللّمس المباشرة في بعض إطلاقاتها .
الأحكام المتعلّقة باللّمس :
لمس المرأة بالنّسبة لنقض الوضوء :
4 - اختلف الفقهاء في حكم لمس المرأة بالنّسبة لنقض الوضوء :
فيرى الحنفيّة وأحمد في روايةٍ أنّ لمس الرّجل المرأة والمرأة الرّجل لا ينقض الوضوء , وروي ذلك عن عليٍّ وابن عبّاسٍ وعطاءٍ وطاوسٍ والحسن ومسروقٍ .
ثمّ اختلف الحنفيّة في المباشرة الفاحشة وهو أن يباشر الرّجل المرأة بشهوة وينتشر لها وليس بينهما ثوب ولم ير بللاً , فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنّه يكون حدثاً استحساناً , والقياس أن لا يكون حدثاً وهو قول محمّدٍ , وهل تشترط ملاقاة الفرجين وهي مماسّتهما ؟ على قولهما لا يشترط ذلك في ظاهر الرّواية وشرطه في النّوادر , وذكر الكرخي ملاقاة الفرجين أيضاً .
وقال المالكيّة : ينتقض الوضوء بلمس المتوضّئ البالغ لشخص يلتذ به عادةً من ذكرٍ أو أنثى ولو كان الملموس غير بالغٍ سواء أكان اللّمس لزوجته أو أجنبيّةٍ أو محرماً أم كان اللّمس لظفر أو شعرٍ أم من فوق حائلٍ كثوب , وسواء أكان الحائل خفيفاً يحس اللامس معه بطراوة البدن أم كان كثيفاً , وسواء أكان اللّمس بين الرّجال أم بين النّساء , فاللّمس بلذّة ناقض .
والنّقض باللّمس مشروط بشروط ثلاثةٍ :
أن يكون اللامس بالغاً , وأن يكون الملموس ممّن يشتهى عادةً , وأن يقصد اللامس اللّذّة أو يجدها .
ولا ينقض الوضوء بلذّة من نظرٍ أو فكرٍ , ولو حدث إنعاظ ما لم يمذ بالفعل , ولا بلمس صغيرةٍ لا تشتهى أو بهيمةٍ أو رجلٍ ملتحٍ , إذ الشّأن عدم التّلذذ به عادةً إذا كملت لحيته . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا التقت بشرتا رجلٍ وامرأةٍ أجنبيّةٍ تشتهى , انتقض وضوء اللامس منهما , سواء كان اللامس الرّجل أو المرأة , وسواء كان اللّمس بشهوة أم لا , تعقبه لذّة أم لا , وسواء قصد ذلك أم حصل سهواً أو اتّفاقاً , وسواء استدام اللّمس أم فارق بمجرّد التقاء البشرتين , وسواء لمس بعضو من أعضاء الطّهارة أو بغيره , وسواء كان الملموس أو الملموس به صحيحاً أو أشلّ , زائداً أو أصلياً , فكل ذلك ينقض الوضوء , وهل ينقض وضوء الملموس ؟ فيه قولان مشهوران , وذكر الماورديّ والقاضي حسين والمتولّي وغيرهم أنّ القولين مبنيّان على القراءتين , فمن قرأ : { لَمَسْتُمُ } لم ينقض الملموس لأنّه لم يلمس , ومن قرأ : { لاَمَسْتُمُ } نقضه لأنّها مفاعلة , واختلف في الأصحّ من القولين فصحّح الروياني والشّاشي عدم الانتقاض , وصحّح الأكثرون الانتقاض . والمشهور من مذهب أحمد أنّ لمس النّساء لشهوة ينقض الوضوء ولا ينقضه لغير شهوةٍ , وهذا قول علقمة وأبي عبيدة والنّخعيّ والحكم وحمّادٍ والثّوريّ وإسحاق والشّعبيّ .
ولا ينقض مس الرّجل الطّفلة ولا المرأة الطّفل , أي من دون سبعٍ .
ولا يختص اللّمس النّاقض باليد بل أي شيءٍ منه لاقى شيئاً من بشرتها مع الشّهوة انتقض وضوءه به سواء كان عضواً أصلياً أو زائداً .
ولا ينقض مس شعر المرأة ولا ظفرها ولا سنها ولا ينقض لمسها لشعره ولا سنّه ولا ظفره .
أثر لمس الفرج في انتقاض الوضوء :
5 - لمس الفرج لا ينتقض به الوضوء عند الحنفيّة وينتقض به عند الجمهور , وللتّفصيل: ( ر : فرج ف 40 ) .
لمس الحائض والنفساء والجنب للمصحف :
6 - يحرم على المحدث والحائض والنفساء والجنب مس المصحف لقوله تعالى : { لا يَمَسُّهُ إََِلا الْمُطَهَّرُونَ } , ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يمس القرآن إلا طاهر » . وللتّفصيل : ( ر : جنابة ف 10 وحدث ف 26 , ومصحف ) .
مس الصّائم للمرأة :
7 - يرى جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - أنّ الصّائم إذا تعمّد إنزال المنيّ باللّمس والتّقبيل ونحوهما فإنّه يوجب القضاء دون الكفّارة .
وعند المالكيّة يوجب القضاء والكفّارة عند حصول الإنزال .
والتّفصيل في : ( صوم ف 41 ) .
لمس المحرم للمرأة وأثره على النسك :
8 - إذا لمس المحرم المرأة بشهوة أو قبّل أو باشر بغير جماعٍ فيجب عليه الدّم , سواء أنزل منياً أم لم ينزل , ولا يفسد حجه اتّفاقاً بين الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
إلا أنّ الحنابلة قالوا إن أنزل وجب عليه بدنة .
وقال المالكيّة : إن أنزل منياً فسد حجه , وعليه ما على المجامع , وإن لم ينزل فعليه بدنة .
وللتّفصيل : ( ر : إحرام ف 176 ) .
اللّمس بين الرّجل والمرأة للعلاج :(/1)
9 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى عدم جواز لمس الرّجل شيئاً من جسد المرأة الأجنبيّة الحيّة , إلا أنّهم أجازوا للطّبيب المسلم إن لم توجد طبيبة أن يداوي المريضة الأجنبيّة المسلمة وينظر منها ويلمس ما تلجئ الحاجة إلى نظره ولمسه , ويجيزون للطّبيبة أن تنظر وتلمس من المريض ما تدعو الحاجة الملجئة إلى نظره ولمسه إن لم يوجد طبيب يقوم بمداواة المريض .
وللتّفصيل : ( ر : عورة ف 15 , 18 ) .
قيام اللّمس مقام الرؤية في حصول العلم بالمبيع :
10 - يرى الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة أنّه يحصل العلم بحقيقة المبيع باللّمس .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ كلّ عقدٍ يشترط فيه الرؤية لا يصح بدونها , ويؤخذ من عباراتهم أنّهم لا يعتبرون اللّمس وسيلةً لحصول العلم بحقيقة المبيع .
أثر اللّمس في ثبوت حرمة المصاهرة :
11 - اختلف الفقهاء فيما لو لمس الرّجل امرأةً بشهوة هل يحل له الزّواج بأصولها وفروعها ؟ يرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في الجملة أنّ لمس أجنبيّةٍ سواء كان لشهوة أو لغيرها لا ينشر حرمة المصاهرة .
وذهب الحنفيّة إلى ثبوت حرمة المصاهرة باللّمس والتّقبيل والنّظر إلى الفرج بشهوة كما تثبت بالوطء .
ولا فرق عند الحنفيّة في ثبوت الحرمة باللّمس بين كونه عامداً أو ناسياً أو مكرهاً أو مخطئاً .
الرّجعة باللّمس :
12 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى صحّة الرّجعة باللّمس بشهوة وسائر مقدّمات الجماع , إلا أنّ المالكيّة يشترطون لصحّة الرّجعة أن ينوي الزّوج باللّمس الرّجعة .
ويرى الشّافعيّة والحنابلة في المذهب عدم صحّة الرّجعة باللّمس وبغيره من مقدّمات الجماع .
لمس الزّوج زوجته المظاهر منها :
13 - ذهب الحنفيّة وأكثر المالكيّة وأحمد في إحدى الرّوايتين عنه إلى حرمة دواعي الجماع من تقبيلٍ أو لمسٍ أو مباشرةٍ فيما دون الفرج قبل التّكفير .
ويرى الشّافعيّة في الأظهر وبعض المالكيّة وأحمد في روايةٍ إباحة دواعي الوطء فلا يحرم عندهم لمس الزّوج زوجته المظاهر منها ولا تقبيلها ولا مباشرتها فيما دون الفرج .
وللتّفصيل : ( ر : ظهار ف 22 ) .(/2)
لَون *
التّعريف :
1 - اللّون في اللغة : هيئة كالسّواد والحمرة , ولوّنته فتلوّن , والألوان : الضروب , واللّون : النّوع , وفلان متلوّن : إذا كان لا يثبت على خلقٍ واحدٍ .
وفي الاصطلاح يستعمل الفقهاء اللّون صفةً للشّيء فيقولون : يشترط في المسلم فيه بيان صفاته فيشترط بيان اللّون في الحيوان والثّياب كالبياض والحمرة والسّواد .
الأحكام الّتي تتعلّق باللّون :
يتعلّق باللّون أحكام متعدّدة منها :
أثر تغير لون الماء في الطّهارة :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ الماء إذا تغيّر لونه بنجس كدم فإنّه يصير نجساً , قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيّرت للماء لوناً أو طعماً أو رائحةً أنّه نجس ما دام كذلك , وقد روى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الماء لا ينجّسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه » .
أمّا إذا تغيّر لون الماء بسبب اختلاطه بشيء طاهرٍ , فإن كان الطّاهر الّذي خالط الماء فتغيّر به ممّا يمكن الاحتراز منه بأن كان يفارق الماء غالباً كزعفران وتمرٍ ودقيقٍ وصابونٍ ولبنٍ وعسلٍ وغير ذلك ممّا يمكن الاحتراز منه فلا تجوز الطّهارة به من وضوءٍ وغسلٍ , أي أنّه لا يستعمل في العبادات , وإنّما لا يجوز استعماله في العبادات لأنّه ماء تغيّر بمخالطة ما ليس بطهور يمكن الاحتراز منه فلم يجز الوضوء به كماء الباقلاء المغليّ , ولأنّه زال عن إطلاقه فأشبه المغليّ .
وهذا ما ذهب إليه المالكيّة والشّافعيّة وهو رواية عن الإمام أحمد , قال القاضي أبو يعلى : هذه الرّواية عن أحمد هي الأصح .
والرّواية الثّانية عن أحمد أنّه يجوز الطّهارة بالماء الّذي اختلط بطاهر ممّا يمكن الاحتراز منه , قال ابن قدامة : لأنّ اللّه تعالى قال : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ } , وهذا عام في كلّ ماءٍ فلا يجوز التّيمم مع وجوده , وقد قال النّبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذرٍّ رضي الله تعالى عنه : « إنّ الصّعيد الطّيّب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين » , وهذا واجد للماء , ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون وغالب أسقيتهم الأدم , والغالب أنّها تغيّر الماء فلم ينقل عنهم تيمم مع وجود شيءٍ من تلك المياه , ولأنّه طهور خالطه طاهر لم يسلبه اسم الماء .
وقال الحنفيّة : الماء المطلق إذا خالطه شيء من المائعات الطّاهرة كاللّبن والخلّ ونقيع الزّبيب ونحو ذلك على وجهٍ زال عنه اسم الماء بأن صار مغلوباً به فهو بمعنى الماء المقيّد , ثمّ ينظر إن كان الّذي خالطه ممّا يخالف لونه لون الماء كاللّبن وماء العصفر والزّعفران ونحو ذلك تعتبر الغلبة في اللّون هذا إذا لم يكن الّذي خالطه ممّا يقصد منه زيادة نظافةٍ , فإن كان ممّا يقصد منه ذلك ويطبخ به أو يخالط به كماء الصّابون والأشنان فإنّه يجوز التّوضؤُ به وإن تغيّر لون الماء , لأنّ اسم الماء باقٍ وازداد معناه وهو التّطهير , وكذلك جرت السنّة في غسل الميّت بالماء المغليّ بالسّدر والحُرُض - الأشنان - فيجوز الوضوء به إلا إذا صار غليظاً كالسّويق المخلوط لأنّه حينئذٍ يزول عنه اسم الماء ومعناه أيضاً .
وإن كان الطّاهر الّذي اختلط بالماء فغيّر لونه ممّا لا يمكن الاحتراز منه بأن كان لا يفارق الماء غالباً , سواء أكان متولّداً من الماء كالطحلب , أم كان في القرار ويجري عليه الماء كالملح والطّين والشّبّ والكبريت والقار وغير ذلك ممّا لا يمكن صون الماء عنه فإنّه يجوز التّطهر به من وضوءٍ وغسلٍ لأنّه لا يمكن صون الماء عنه .
ومثل ذلك ما إذا تغيّر لون الماء بما يسقط فيه من ورق الشّجر أو تحمله الرّيح فتلقيه فيه , فإنّه تجوز الطّهارة به لأنّه يشق الاحتراز منه .
وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة في الأظهر والمعتمد والشّافعيّة والحنابلة في الجملة .
والأصح عند الحنفيّة تقييد جواز التّطهر بهذا الماء بحالة ما إذا لم تذهب رقّته , إلا أنّ أحمد ابن إبراهيم الميدانيّ من الحنفيّة سئل عن الماء الّذي يتغيّر لونه لكثرة الأوراق الواقعة من الشّجر فيه حتّى يظهر لون الأوراق في الكفّ إذا رفع الماء منه هل يجوز التّوضؤُ به ؟ قال : لا , ولكن يجوز شربه وغسل الأشياء به لأنّه طاهر , وأمّا الوضوء فلأنّه لمّا غلب عليه لون الأوراق صار ماءً مقيّداً كماء الباقلاء .
وفي قولٍ عند المالكيّة أنّ ماء البئر إذا تغيّر لونه بورق شجرٍ أو تبنٍ ألقته الرّيح فيه غير طهورٍ فلا تجوز الطّهارة به .
والماء الآجن وهو الّذي يتغيّر بطول مكثه في المكان من غير مخالطة شيءٍ يغيّره باقٍ على إطلاقه في قول أكثر أهل العلم .
قال ابن قدامة : يروى : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم توضّأ من بئرٍ كأنّ ماءه نقاعة الحنّاء » , ولأنّه تغيّر من غير مخالطةٍ .
حكم إزالة لون النّجاسة :
3 - إذا أصاب الثّوب أو البدن نجاسة فإنّه يجب إزالتها , فإن كانت النّجاسة مرئّيةً ولها لون كالدّم والصّبغ المتنجّس فالحكم في إزالة لون النّجاسة ما يأتي :(/1)
ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ إزالة لون النّجاسة إن كان سهلاً ومتيسّراً وجب إزالته لأنّ بقاءه دليل على بقاء عين النّجاسة , فإن تعسّر زوال اللّون وشقّ ذلك أو خيف تلف ثوبٍ فإنّ المحلّ يطهر بالغسل ولا يضر بقاء اللّون لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : « أنّ خولة بنت يسارٍ قالت : يا رسول اللّه إنّه ليس لي إلا ثوب واحد وأنا أحيض فيه ، قال : إذا طهرت فاغسليه ثمّ صلّي فيه ، قالت : فإن لم يخرج الدّم ؟ قال : يكفيك غسل الدّم ولا يضرك أثره » .
أما الحنفيّة فلهم قولان في التّفريق بين ما إذا كان يعسر زوال النّجاسة أو لا يعسر زوالها والأرجح عندهم اشتراط زوال اللّون ما لم يشقّ كما عند الجمهور .
4 - ولا يجب عند جميع الفقهاء استعمال أشنانٍ ولا صابونٍ ولا تسخين ماءٍ لإزالة اللّون أو الرّيح المتعسّر إزالته .
لكن يسن ذلك عند الشّافعيّة إلا إذا تعيّن إزالة الأثر بذلك فإنّه يجب .
وقال الحنابلة : إن استعمل في زوال الأثر شيئاً يزيله كالملح وغيره فحسن .
5 - والمصبوغ بصبغ نجسٍ , قال الحنفيّة : يطهر بغسله ثلاثاً , والأولى غسله إلى أن يصفو الماء .
وقال المالكيّة : إذا غسل بالماء فإنّه يطهر ولا يضر بقاء لون النّجاسة إذا تعذّر إزالتها . وللشّافعيّة تفصيل آخر , قالوا : يطهر بالغسل مصبوغ بمتنجّس انفصل عنه ولم يزد المصبوغ وزناً بعد الغسل على وزنه قبل الصّبغ وإن بقي اللّون لعسر زواله , فإن زاد وزنه لم يطهر , وإن لم ينفصل عنه لتعقده به لم يطهر لبقاء النّجاسة فيه .
أثر اللّون في لبس الثّياب :
6 - للّون أثر في لبس الثّياب من حيث الحكم بالإباحة أو الكراهة أو التّحريم .
وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح : ( ألبسة ف 6 وما بعدها ) .
أثر تغير اللّون في الجناية :
7 - اختلف الفقهاء فيما يجب بتغير اللّون في الجناية :
فقال الحنفيّة : من جنى على سنّ شخصٍ ولم تقلع وإنّما تغيّر لونها , فإن كان التّغير إلى السّواد أو إلى الحمرة أو إلى الخضرة ففيها الأرش تامّاً , لأنّه ذهبت منفعتها , وذهاب منفعة العضو بمنزلة ذهاب العضو , وإن كان التّغير إلى الصفرة ففيها حكومة العدل , لأنّ الصفرة لا توجب فوات المنفعة , وإنّما توجب نقصانها فتوجب حكومة العدل , وقال زفر في الصفرة الأرش تامّاً كما في السّواد , لأنّ كلّ ذلك يفوّت الجمال .
وروي عن أبي يوسف أنّه إن كانت الصفرة كثيرةً حتّى تكون عيباً كعيب الحمرة والخضرة ففيها عقلها تامّاً , قال الكاساني : ويجب أن يكون هذا قولهم جميعاً , ولو سقطت السّن بالجناية فنبتت مكانها سن أخرى متغيّرة بأن نبتت سوداء أو حمراء أو خضراء أو صفراء فحكمها حكم ما لو كانت قائمةً فتغيّرت بالضّربة لأنّ النّابت قام مقام الذّاهب , فكأنّ الأولى قائمةً وتغيّرت .
والظفر إذا جنى عليه شخص فقلعه فنبت مكانه ظفر آخر : فإن نبت أسود ففيه حكومة عدلٍ عند أبي يوسف لما أصاب من الألم بالجراحة الأولى .
ولو حلق شخص رأس رجلٍ شعره أسود فنبت الشّعر أبيض فقال أبو يوسف فيه حكومة عدلٍ , لأنّ المقصود من الشّعر الزّينة , والزّينة معتبرة فلا يقوم النّابت مقام الفائت , وقال أبو حنيفة : لا شيء فيه , لأنّ الشّيب ليس بعيب , بل هو جمال وكمال فلا يجب به أرش . وقال المالكيّة : إن جنى على سنٍّ وكانت بيضاء فتغيّر لونها إلى السّواد ففيها خمس من الإبل وإن تغيّر لونها إلى الحمرة أو إلى الصفرة فإن كانت الحمرة أو الصفرة كالسّواد في إذهاب الجمال ففيها خمس من الإبل كالتّغير إلى السّواد وإن لم تكن الحمرة أو الصفرة كالسّواد في إذهاب الجمال ففيها بحساب ما نقص , وفي سماع ابن القاسم : إن اصفرّت السّن ففيها بقدر شينها لا يكمل عقلها حتّى تسودّ لا بتغيرها , وقال أصبغ : في اخضرارها أكثر ممّا في احمرارها وفي احمرارها أكثر ممّا في اصفرارها .
ومن أطعمت زوجها ما اسودّ به لونه فعند بعض المالكيّة عليها الدّية قياساً على ما في المدوّنة من تسويد السّنّ , وقال بعض المالكيّة إنّ هناك فارقاً بين الأمرين , وذلك لأنّ الشّأن في السّنّ البياض وأمّا الآدمي ففي بعض أفراده الأسود .
ومن ضرب إنساناً أو فعل به فعلاً اسودّ به جسده بعد أن كان غير أسود , وهو نوع من البرص ففيه الدّية .
وقال الشّافعيّة : إن ضرب شخص سنّ غيره فاصفرّت أو احمرّت وجبت فيها الحكومة لأنّ منافعها باقية , وإنّما نقص بعض جمالها , فوجب فيها الحكومة , فإن ضربها فاسودّت فقد قالوا في موضعٍ : تجب فيها الحكومة , وقالوا في موضعٍ آخر : تجب الدّية , وليست على قولين وإنّما هي على اختلاف حالين , فالّذي قال تجب فيها الدّية إذا ذهبت المنفعة , والّذي قال تجب فيها الحكومة إذا لم تذهب المنفعة .
وذكر المزني أنّها على قولين , واختار أنّه يجب فيها الحكومة , والصّحيح هو الطّريق الأوّل .
وإن قلع شخص سنّ غيره فنبت مكانها سن صفراء أو خضراء وجبت عليه الحكومة لنقصان الكمال , وإن لطم رجلاً أو لكمه أو ضربه بمثقّل فإن لم يحصل به أثر لم يلزمه أرش لأنّه لم يحصل به نقص في جمالٍ ولا منفعة فلم يلزمه أرش , وإن حصل به شين بأن اسودّ أو اخضرّ وجبت فيه الحكومة لما حصل به من الشّين , فإن قضى فيه بالحكومة ثمّ زال الشّين سقطت الحكومة كما لو جنى على عينٍ فابيضّت ثمّ زال البياض .
وقال الحنابلة : من اعتدى على غيره فقلع ظفره فعاد أسود ففيه خمس دية الأصبع نصاً عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما ذكره ابن المنذر ولم يعرف له مخالف من الصّحابة .(/2)
وقال البهوتي : في تسويد سنٍّ وظفرٍ وتسويد أنفٍ وتسويد أذنٍ بحيث لا يزول التّسويد دية ذلك العضو كاملةً لإذهاب جماله .
لكن ابن قدامة فصّل في تسويد السّنّ فقال : حكي عن أحمد روايتان :
إحداهما : تجب ديتها كاملةً وهو ظاهر كلام الخرقيّ ويروى هذا عن زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه , وبه قال سعيد بن المسيّب والحسن وابن سيرين وشريح والزهري وعبد الملك بن مروان والنّخعيّ وعبد العزيز بن أبي سلمة واللّيث والثّوري , لأنّه أذهب الجمال على الكمال فكملت ديتها .
والرّواية الثّانية عن أحمد أنّه إن أذهب منفعتها من المضغ عليها ونحوه ففيها ديتها , وإن لم يذهب نفعها ففيها حكومة وهو قول القاضي .
أما إن اصفرّت السّن أو احمرّت لم تكتمل ديتها , لأنّه لم يذهب الجمال على الكمال وفيها حكومة , وإن اخضرّت احتمل أن يكون كتسويدها لأنّه يذهب بجمالها , واحتمل أن لا يجب فيها إلا حكومة , لأنّ ذهاب جمالها بتسويدها أكثر فلم يلحق به غيره كما لو حمّرها .
وقال البهوتي : من جنى على سنٍّ صغيرٍ فقلعه ولم يعد , أو عاد أسود واستمرّ أسود , أو عاد أبيض ثمّ اسودّ بلا علّةٍ ففيها خمس من الإبل , روي ذلك عن عمر وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم , وإن عاد السّن أبيض ثمّ اسودّ لعلّة ففيها حكومة لأنّها أرش كلّ ما لا مقدّر فيه . ومن ضرب وجه إنسانٍ فاسودّ الوجه ولم يزل سواده ففيه الدّية كاملةً , لأنّه فوّت الجمال على الكمال فضمنه بديته كقطع أذن الأصمّ , وإن زال السّواد يرد ما أخذه لزوال سبب الضّمان , وإن زال بعضه وجبت فيه حكومة وردّ الباقي .
وإن صار الوجه أحمر أو أصفر ففيه حكومة كما لو سوّد بعضه , لأنّه لم يذهب الجمال على الكمال .
أثر اللّون في ضمان المغصوب :
تلوين الغاصب المغصوب بلون من عنده :
1 - لو غيّر الغاصب المغصوب فلوّنه بلون غير لونه الأصليّ فللفقهاء في ذلك تفصيل بيانه ما يلي :
ذهب المالكيّة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة إلى أنّ من غصب من إنسانٍ ثوباً فصبغه الغاصب بصبغ نفسه بأيّ لونٍ كان , أسود أو أحمر أو أصفر بالعصفر والزّعفران وغيرهما من الألوان فصاحب الثّوب بالخيار إن شاء أخذ الثّوب من الغاصب , لأنّ الثّوب ملكه لبقاء اسمه ومعناه , ولكنّه يضمن ما زاد الصّبغ فيه فيعطيه للغاصب , لأنّ للغاصب عين مالٍ متقوّمٍ قائمٍ فلا سبيل إلى إبطال ملكه عليه من غير ضمانٍ فكان الأخذ بضمانه رعايةً للجانبين .
وإن شاء المغصوب منه ترك الثّوب على الغاصب وضمّنه قيمة ثوبه أبيض يوم الغصب لأنّه لا سبيل إلى جبره على أخذ الثّوب , إذ لا يمكنه أخذه إلا بضمان , وهو قيمة ما زاد الصّبغ فيه , ولا سبيل إلى جبره على الضّمان لانعدام مباشرة سبب وجوب الضّمان منه .
وإن نقصت قيمة الثّوب بصبغه فيخيّر ربه في أخذه مع أرش نقصه , أو أخذ قيمة الثّوب يوم غصبه .
وفرّق أبو حنيفة في الألوان , فوافق أبا يوسف ومحمّداً فيما لو كان الغاصب صبغه أحمر أو أصفر أما لو صبغه أسود فقال أبو حنيفة : صاحب الثّوب بالخيار إن شاء تركه على الغاصب وضمّنه قيمة ثوبه أبيض , وإن شاء أخذ الثّوب ويضمن الغاصب النقصان , وهذا بناءً على أنّ السّواد نقصان عند أبي حنيفة .
وللحنفيّة قول آخر , قيل : إنّ لصاحب الثّوب خياراً ثالثاً وهو أنّ له ترك الثّوب على حاله وكان الصّبغ فيه للغاصب فيباع الثّوب ويقسم الثّمن على قدر حقّهما , لأنّ التّمييز متعذّر فصارا شريكين .
وقال الحنفيّة أيضاً : لو غصب عصفراً وثوباً من رجلٍ واحدٍ فصبغه أي الثّوب به فالمغصوب منه يأخذ الثّوب مصبوغاً ويبرئ الغاصب من الضّمان في العصفر والثّوب استحساناً , لأنّ المغصوب منه واحد , ولأنّ خلط مال الإنسان بماله لا يعد استهلاكاً له بل يكون نقصاناً , فإذا اختار أخذ الثّوب فقد أبرأه عن النقصان , والقياس أن يضمن الغاصب عصفراً مثله , ثمّ يصير كأنّه صبغ ثوبه بعصفر نفسه , فيثبت الخيار لصاحب الثّوب . وقالوا كذلك : لو غصب من إنسانٍ ثوباً ومن إنسانٍ صبغاً فصبغه به : فإنّ الغاصب يضمن لصاحب الصّبغ صبغاً مثل صبغه , ويصبح مالكاً للصّبغ بالضّمان , وصاحب الثّوب بعد ذلك بالخيار إن شاء أخذ الثّوب من الغاصب وأعطاه ما زاد الصّبغ فيه وإن شاء ترك الثّوب على الغاصب وضمّنه قيمة ثوبه أبيض يوم الغصب , وقيل يباع الثّوب ويقسم الثّمن على قدر حقّهما .
وقال الشّافعيّة : لو صبغ الغاصب الثّوب بصبغه وأمكن فصله منه بأن لم ينعقد الصّبغ به أجبر على الفصل وإن خسر كثيراً أو نقصت قيمة الصّبغ بالفصل في الأصحّ كالبناء والغراس , وله الفصل قهراً على المالك وإن نقص الثّوب به لأنّه يغرم أرش النّقص فإن لم يحصل به نقص فكالتّزويق فلا يستقل الغاصب بفصله ولا يجبره المالك عليه , ومقابل الأصحّ لا , لما فيه من ضرر الغاصب لأنّه يضيع بفصله .
وخرج بصبغه صبغ المالك فالزّيادة كلها له والنّقص على الغاصب , ويمتنع فصله بغير إذن المالك وله إجباره عليه مع أرش النّقص , وصبغ مغصوبٍ من آخر فلكلّ من مالكي الثّوب والصّبغ تكليفه فصلاً أمكن مع أرش النّقص , فإن لم يمكن فهما في الزّيادة والنّقص كما في قوله .(/3)
وإن لم يمكن فصله لتعقده فإن لم تزد قيمته ولم تنقص بأن كان يساوي عشرةً قبله وساواها بعده مع أنّ الصّبغ قيمته خمسة لا لانخفاض سوق الثّياب بل لأجل الصّبغ فلا شيء للغاصب فيه ولا عليه , إذ غصبه كالمعدوم حينئذٍ وإن نقصت قيمته بأن صار يساوي خمسةً لزمه الأرش لحصول النّقص بفعله , وإن زادت قيمته بسبب العمل والصّبغ اشتركا في الثّوب هذا بصبغه وهذا بثوبه أثلاثاً , ثلثاه للمغصوب منه وثلث للغاصب , أما إذا زاد سعر أحدهما فقط بارتفاعه فالزّيادة لصاحبه , وإن نقص عن الخمسة عشر قيمتها كأن ساوى اثني عشر , فإن كان النّقص بسبب انخفاض سعر الثّياب فهو على الثّوب , أو سعر الصّبغ أو بسبب الصّنعة فعلى الصّبغ , قاله في الشّامل والتّتمّة , وبهذا أي اختصاص الزّيادة عن ارتفاع سعر ملكه يعلم أنّه ليس معنى اشتراكهما كونه على وجه الشيوع بل هذا بثوبه وهذا بصبغه .
ولو بذل صاحب الثّوب للغاصب قيمة الصّبغ ليتملّكه لم يجب إليه أمكن فصله أم لا , ولو أراد أحدهما الانفراد ببيع ملكه لثالث لم يصحّ , إذ لا ينتفع به وحده كبيع دارٍ لا ممرّ لها , نعم لو أراد المالك بيع الثّوب لزم الغاصب بيع صبغه معه لأنّه متعدٍّ فليس له أن يضرّ بالمالك , بخلاف ما لو أراد الغاصب بيع صبغه لا يلزم مالك الثّوب بيعه معه لئلا يستحقّ المتعدّي بتعدّيه إزالة ملك غيره .
ولو طيّرت الرّيح ثوباً إلى مصبغة آخر فانصبغ فيها اشتركا في المصبوغ ولم يكلّف أحدهما البيع ولا الفصل ولا الأرش وإن حصل نقص إذ لا تعدّي .
وقال الحنابلة : إن غصب ثوباً فصبغه الغاصب بصبغه فنقصت قيمة الثّوب والصّبغ أو نقص قيمة أحدهما ضمن الغاصب النّقص لأنّه حصل بتعدّيه فضمنه , كما لو أتلف بعضه , وإن كان النّقص بسبب تغير الأسعار لم يضمنه , وإن لم تنقص قيمتهما ولم تزد أو زادت قيمتهما فهما أي رب الثّوب والصّبغ شريكان في الثّوب وصبغه بقدر ملكيهما , فيباع ذلك ويوزّع الثّمن على قدر القيمتين , وإن زادت قيمة أحدهما من ثوبٍ أو صبغٍ فالزّيادة لصاحبه يختص بها , لأنّ الزّيادة تبع للأصل , هذا إذا كانت الزّيادة لغلوّ سعرٍ , فإن حصلت الزّيادة بالعمل فهي بينهما , لأنّ ما عمله الغاصب في العين المغصوبة لمالكها حيث كان أثراً , وزيادة مال الغاصب له , وإن أراد مالك الثّوب أو الغاصب قلع الصّبغ من الثّوب لم يجبر الآخر عليه , لأنّ فيه إتلافاً لملكه , وإن أراد مالك الثّوب بيع الثّوب فله ذلك لأنّه ملكه وهو عين , وصبغه باقٍ للغاصب , ولو أبى الغاصب بيع الثّوب فلا يمنع منه مالكه , لأنّه لا حجر له عليه في ملكه , وإن أراد الغاصب بيع الثّوب المصبوغ لم يجبر المالك لحديث : « إنّما البيع عن تراضٍ » , وإن بذل الغاصب لربّ الثّوب قيمته ليملكه , أو بذل رب الثّوب قيمة الصّبغ للغاصب ليملكه , لم يجبر الآخر لأنّها معاوضة لا تجوز إلا بتراضيهما .
وصحّح الحارثي أنّ لمالك الثّوب تملك الصّبغ بقيمته , ليتخلّص من الضّرر .
وإن وهب الغاصب الصّبغ لمالك الثّوب لزم المالك قبوله لأنّه صار من صفات العين , فهو كزيادة الصّفة في المسلم فيه .
وإن غصب صبغاً فصبغ به الغاصب ثوبه فهما شريكان بقدر حقّيهما في ذلك فيباع ويوزّع الثّمن على قدر الحقّين , لأنّه بذلك يصل كل منهما لحقّه , ويضمن الغاصب النّقص إن وجد لحصوله بفعله , ولا شيء له إن زاد المغصوب في نظير عمله لتبرعه به .
وإن غصب ثوباً وصبغاً من واحدٍ فصبغه به ردّه الغاصب وردّ أرش نقصه إن نقص لتعدّيه به ولا شيء له في زيادته بعمله فيه , لأنّه متبرّع به , وإن كان من اثنين اشتركا في الأصل والزّيادة بالقيمة , وما نقص من أحدهما غرمه الغاصب , وإن نقص السّعر لنقص سعر الثّياب أو الصّبغ أو لنقص سعرهما لم يضمنه الغاصب , ونقص كلّ واحدٍ منها من صاحبه , وإن أراد أحدهما قلع الصّبغ لم يجبر الآخر .
أثر اختلاف اللّون في ضمان الأجير :
9 - ذكر الحنفيّة أنّ من دفع ثوباً إلى صبّاغٍ ليصبغه لوناً معيّناً فصبغه لوناً آخر فصاحب الثّوب بالخيار : إن شاء ضمّنه قيمة ثوبٍ أبيض وسلّم الثّوب للأجير وذلك لفوات غرضه , لأنّ الأغراض تختلف باختلاف الألوان , فله أن يضمّنه قيمة ثوبٍ أبيض لتفويته عليه منفعةً مقصودةً , فصار متلفاً الثّوب عليه فكان له أن يضمّنه , وإن شاء أخذ الثّوب وأعطى الأجير ما زاد الصّبغ فيه , لأنّ الضّمان وجب حقاً له فله أن يسقط حقّه , ولا أجر للصّبّاغ , لأنّه لم يأت بما وقع عليه العقد رأساً حيث لم يوفّ العمل المأذون فيه أصلاً فلا يستحق الأجر , ويعطيه ما زاد الصّبغ فيه إن كان الصّبغ ممّا يزيد كالحمرة والصفرة ونحوهما , لأنّه عين مالٍ قائمٍ بالثّوب فلا سبيل إلى أخذه مجّاناً بلا عوضٍ , فيأخذه ويعطيه ما زاد الصّبغ فيه رعايةً للحقّين ونظراً من الجانبين .
وإن كان الصّبغ ممّا لا يزيد كالسّواد فعند أبي يوسف ومحمّدٍ له قيمة وحكمه حكم سائر الألوان , وعند أبي حنيفة السّواد لا قيمة له عنده فلا يزيد بل ينقص , وعلى هذا الأساس لو اختار صاحب الثّوب أخذه لا يعطيه شيئاً نظير الصّبغ بل يضمّنه نقصان الثّوب عند أبي حنيفة .
وإذا أمر رجلاً أن يحمّر له بيتاً فخضّره قال محمّد : أعطيه ما زادت الخضرة فيه ولا أجرة له , لأنّه لم يعمل ما استأجره عليه رأساً فلا يستحق الأجرة , ولكن يستحق قيمة الصّبغ الّذي زاد في البيت .(/4)
وإن دفع إلى صبّاغٍ ثوباً ليصبغه بصبغ مسمّىً فصبغ بصبغ آخر لكنّه من جنس ذلك اللّون فصاحب الثّوب مخيّر بين أن يضمّنه قيمته أبيض ويسلّم إليه الثّوب وإن شاء أخذ الثّوب وأعطاه أجر مثله لا يجاوز به ما سمّى , وإنّما وجب الأجر هنا في هذه المسألة خلافاً لما سبق , لأنّ الخلاف في الصّفة لا يخرج العمل من أن يكون معقوداً عليه فقد أتى بأصل المعقود عليه إلا أنّه لم يأت بوصفه .
وقال المالكيّة : من دفع إلى صبّاغٍ ثوباً ليصبغه فصبغه لكن صاحب الثّوب ادّعى أنّه طلب صبغه بلون آخر وقال الصّبّاغ : إنّه اللّون الّذي طلبه منه صاحب الثّوب فالقول قول الصّبّاغ إن كان اللّون الّذي صبغه به يشبه ما يناسب مالك الثّوب في استعماله .
وكل هذا ما لم تقم قرينة قويّة تؤيّد قول المالك .
وإن كان قول الصّبّاغ لم يشبه ما يناسب مالك الثّوب في استعماله فإنّ ربّ الثّوب يحلف ويثبت له الخيار في أخذه ودفع أجرة المثل أو تركه وأخذ قيمته غير مصبوغٍ , فإن نكل رب الثّوب اشتركا هذا بقيمة ثوبه غير مصبوغٍ وهذا بقيمة صبغه .
وقال الشّافعيّة : من دفع إلى صبّاغٍ ثوباً ليصبغه أحمر فصبغه أخضر , فقال : أمرتك أن تصبغه أحمر فقال الصّبّاغ : بل أمرتني أن أصبغه أخضر فإنّهما يتحالفان , قال أبو إسحاق الشّيرازي : واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرقٍ :
فمنهم من قال فيه ثلاثة أقوالٍ :
أحدها : أنّ القول قول الصّبّاغ .
والثّاني : القول قول ربّ الثّوب .
والثّالث : أنّهما يتحالفان .
ومن أصحابنا من قال : المسألة على القولين الأوّلين فقط .
ومن أصحابنا من قال : المسألة على قولٍ واحدٍ وهو أنّهما يتحالفان , قال الشّيرازي : وهو الصّحيح لأنّ كلّ واحدٍ منهما مدّعٍ ومدّعى عليه , وإذا تحالفا لم تجب الأجرة .
وقال الحنابلة : إذا اختلف صاحب الثّوب والصّبّاغ في لون الصّبغ فقال الصّبّاغ : أذنت لي في صبغه أسود , وقال رب الثّوب بل أحمر , فالقول قول الصّبّاغ وله أجرة مثله .(/5)
لُكْنة *
التّعريف :
1 - اللكنة في اللغة : العِي , وهو : ثقل اللّسان , ولَكَنَ لكناً : صار كذلك فالذّكر ألكن , والأنثى لكناء , ويقال : الألكن الّذي لا يفصح بالعربيّة .
ويؤخذ تعريف اللكنة عند الفقهاء من تعريفهم للألكن , قال الزرقاني : الألكن هو من لا يستطيع إخراج بعض الحروف من مخارجها سواء كان لا ينطق بالحرف البتّة أو ينطق به مغيّراً أو بزيادته أو تكراره , والمالكيّة هم أكثر الفقهاء استعمالاً لهذا اللّفظ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - اللثغة :
2 - اللُثْغة - بضمّ اللام وسكون الثّاء - تحرك اللّسان من السّين إلى الثّاء , ومن الرّاء إلى الغين ونحوه , وعرّفها البعض بأنّها : حبسة في اللّسان حتّى تغيّر الحروف .
واللكنة أعم من اللثغة لأنّها تشمل اللثغة وغيرها .
ب - التّمتمة :
3 - التّمتمة هي تكرار التّاء , والتّمتام الّذي يكرّر التّاء .
واللكنة أعم من التّمتمة .
ج - الفأفأة :
4 - الفأفأة هي تكرار الفاء , والفأفاء الّذي يكرّر الفاء واللكنة أعم من الفأفأة .
الأحكام المتعلّقة باللكنة :
الاقتداء بالألكن في الصّلاة :
5 - ذهب الشّافعيّة في الجديد وأكثر الحنابلة إلى أنّه لا يصح الاقتداء بألكن يترك حرفاً من حروف الفاتحة أو يبدّله بغيره , وبهذا يقول الحنفيّة على المذهب إلا أنّهم لا يحصرون الحكم في الإخلال بحرف من الفاتحة أو إبداله بغيره , بل يقولون بعدم جواز إمامة من لا يتكلّم ببعض الحروف , سواء كانت من الفاتحة أو غيرها .
ويرى هؤُلاء الفقهاء أنّ الألكن إن تمكّن من إصلاح لسانه وترك الإصلاح والتّصحيح فصلاته في نفسه باطلة , فلا يجوز الاقتداء به , وإن لم يتمكّن من الإصلاح والتّصحيح : بأن كان لسانه لا يطاوعه , أو كان الوقت ضيّقاً ولم يتمكّن قبل ذلك فصلاته في نفسه صحيحة , فإن اقتدى به من هو في مثل حاله صحّ اقتداؤُه لأنّه مثله فصلاته صحيحة .
وقد صرّح الشّافعيّة بأنّه لو كانت اللثغة يسيرةً , بأن لم تمنع أصل مخرج الحرف وإن كان غير صافٍ لم تؤثّر , وقواعد الحنفيّة لا تأبى هذا الحكم , فقد سئل الخير الرّملي الحنفي عما إذا كانت اللثغة يسيرةً ؟ فأجاب بأنّه لم يرها لأئمّتنا , وصرّح بها الشّافعيّة بأنّه لو كانت يسيرةً بأن يأتي بالحرف غير صافٍ لم تؤثّر , قال : وقواعدنا لا تأباه .
وفي الفتاوى الهنديّة : وأمّا الّذي لا يقدر على إخراج الحروف إلا بالجهد ولم يكن له تمتمة أو فأفأة , فإذا أخرج الحروف أخرجها على الصّحّة لا يكره أن يكون إماماً لغيره .
ويرى المالكيّة في المذهب وبعض الحنفيّة وأبو ثورٍ وعطاء وقتادة صحّة الاقتداء بالألكن , وهذا ما اختاره المزني إلا أنّه قيّد صحّة الاقتداء به بأن لم يطاوعه لسانه , أو طاوعه ولم يمض زمن يمكن فيه التّعلم , وإلا فلا يصح الاقتداء به .
جاء في الشّرح الصّغير : جاز إمامة ألكن , وقال الحطّاب : ظاهر كلام المصنّف - خليل - أنّ إمامته جائزة من غير كراهةٍ , ويقول ابن رشدٍ بكراهة الائتمام بالألكن , إلا أن لا يوجد من لا يرضى سواه .
قال الطّحطاوي من الحنفيّة نقلاً عن الخانيّة : ذكر الشّيخ أبو بكرٍ محمّد بن الفضل : تصح إمامته لغيره لأنّ ما يقوله صار لغةً له .
ويرى الشّافعيّة في القديم صحّة الاقتداء بالألكن في السّريّة دون الجهريّة , بناءً على أنّ المأموم لا يقرأ في الجهريّة , بل يتحمّل الإمام عنه فيها .
وظاهر كلام ابن البنّا من الحنابلة صحّة إمامة الألثغ - الألكن - مع الكراهة .
هذا حكم الاقتداء بالألكن الّذي يترك حرفاً من الحروف , أو يبدّله بغيره , أو لا يفصح ببعض الحروف .
6 - أما إذا كانت اللكنة متمثّلةً في عدم القدرة على التّلفظ بحرف من الحروف إلا بتكرار , فقد اختلف الفقهاء في حكم الاقتداء بصاحب هذه اللكنة .
فقال الشّافعيّة والحنابلة : تكره إمامة التّمتام والفأفاء وتصح الصّلاة خلفهما , لأنّهما يأتيان بالحروف على الكمال , ويزيدان زيادةً هما مغلوبان عليها فعفي عنها , ويكره تقديمهما لهذه الزّيادة .
وصرّح الشّافعيّة بأنّه لا فرق بين أن يكون هذا التّكرار في الفاتحة أو غيرها .
ويرى الحنفيّة أنّ من لا يقدر على التّلفظ بحرف من الحروف إلا بتكرار فيتحتّم عليه بذل الجهد لإصلاح لسانه وتصحيحه , فإن لم يبذل لا يؤُم إلا مثله , ولا تصح صلاته إن أمكنه الاقتداء بمن يحسنه أو ترك جهده أو وجد قدر الفرض خالياً عن ذلك .
وعند المالكيّة جاز إمامة الألكن لسالم ولمثله , وهو من لا يستطيع إخراج بعض الحروف من مخارجها , سواء كان لا ينطق بالحرف ألبتّة , أو ينطق به مغيّراً ولو بزيادته أو تكراره .
وللتّفصيل : ( ر : قراءة ف 9 ) .(/1)
لِباس المرأة *
التّعريف :
1 - اللّباس ما يستر الجسم ، جمعه ألبسة ولُبُس .
يقال : لبس الثّوب لبساً استتر به , والزّوج والزّوجة كل منهما لباس للآخر , وفي التّنزيل العزيز : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } ، ولباس كلّ شيءٍ غشاؤُه , ولباس التّقوى الإيمان أو الحياء أو العمل الصّالح .
ويقال : رجل لباس : كثير اللّباس وكثير اللبس .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
الزّينة :
2 - الزّينة في اللغة ما يتزيّن به , ويوم الزّينة يوم العيد , والزّين ضد الشّين , ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
والزّينة أعم من اللّباس .
الحكم التّكليفي :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجب على المرأة أن تلبس من الملابس ما يغطّي جميع عورتها لقول اللّه عزّ وجلّ : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَََلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إََِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَََلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إََِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَََلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
قال ابن كثيرٍ : قوله تعالى : { وَََلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إََِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي لا يظهرن شيئاً من الزّينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤُه , قال ابن مسعودٍ : كالرّداء والثّياب يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنّعة الّتي تجلّل ثيابها وما يبدو من أسافل الثّياب فلا حرج عليها فيه لأنّ هذا لا يمكن إخفاؤُه .
ولحديث عائشة رضي الله عنها : « أنّ أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله تعالى عنهما دخلت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق ، فأعرض عنها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، وقال : يا أسماء إنّ المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفّيه » .
وقد اختلف الفقهاء في عورة المرأة الحرّة .
والتّفصيل في : ( ستر العورة ف 2 وما بعدها ، و عورة ف 3 وما بعدها ) .
اللّباس الّذي يصف أو يشف :
4 - لباس المرأة قد يكشف عن العورة , وقد يسترها ولكنّه يصف حجمها , وهو في كلتا الحالتين غير شرعيٍّ .
فإن كان يكشف عنها بحيث يرى لون الجلد من تحته , فإمّا أن يكون ذلك أمام زوجها وإمّا أن يكون أمام الأجانب , وإمّا أن يكون في الصّلاة أو خارجها .
والتّفصيل في مصطلح : ( ألبسة ف 15 ، وستر العورة ف 2 وما بعدها , و صلاة ف 120, و عورة ف 3 وما بعدها ) .
اللّباس المنسوج بالذّهب والفضّة :
5 - يجوز للمرأة أن تلبس اللّباس المنسوج بالذّهب والفضّة سواء للحاجة أو لغيرها , وسواء كثر أو قلّ , وسواء زاد الطّرز على قدر أربع أصابع أو لا , وسواء أكان المطرّز قدر العادة أم لا .
واستدلّ الفقهاء على ذلك بما ورد عن أبي موسى رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « أحلّ الذّهب والحرير لإناث أمّتي وحرّم على ذكورها » .
ففي هذا الحديث دليل على جواز استعمال الذّهب وكذلك الحرير للنّساء بسائر وجوه الاستعمال .
تشبه النّساء بالرّجال في اللّباس :
6 - يحرم تشبه النّساء بالرّجال في زيّهنّ فلا يجوز للمرأة أن تلبس لباساً خاصاً بالرّجال , لأنّه صلى الله عليه وسلم : « لعن المتشبّهين من الرّجال بالنّساء والمتشبهات من النّساء بالرّجال » .
وقال الشّافعيّة : فلو اختصّت النّساء أو غلب فيهنّ زي مخصوص في إقليمٍ , وغلب في غيره تخصيص الرّجال بذلك الزّيّ - كما قيل إنّ نساء قرى الشّام يتزيّنّ بزيّ الرّجال الّذين يتعاطون الحصاد والزّراعة ويفعلن ذلك - فهل يثبت في كلّ إقليمٍ ما جرت عادة أهله به , أو ينظر لأكثر البلاد ؟ فيه نظر , والأقرب الأوّل .
وقد صرّح الإسنوي بأنّ العبرة في لباس وزيّ كلٍّ من النّوعين حتّى يحرم التّشبه بهنّ فيه بعرف كلّ ناحيةٍ حسن .
لباس المرأة أمام الخاطب :
7 - المخطوبة أجنبيّة عن الخاطب وعلى ذلك يجب عليها أن تلبس ما يستر جميع بدنها خلا القدر الّذي يباح للخاطب أن ينظر إليه .
وقد اختلف الفقهاء في هذا القدر , والتّفصيل في مصطلح : ( خطبة ف 29 ) .
لباس المرأة في الإحداد :
8 - اختلف الفقهاء في لبس المرأة المحدّة لبعض الثّياب على وجه الزّينة , وفي لبس الحليّ .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( إحداد ف 13 وما بعدها ) .
لباس المرأة في الصّلاة :
9 - يجب ستر العورة في الصّلاة للرّجل والمرأة في حال توفر السّاتر , لقوله تعالى : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } , قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما : المراد بالزّينة الثّياب في الصّلاة , ولقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يقبل اللّه صلاة حائضٍ إلا بخمارٍ » أي البالغة .
والتّفصيل في مصطلح : ( عورة ف 13 ) .
لباس المرأة في الإحرام :
10 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يحرم على المرأة المحرمة لبس ما يغطّي وجهها .(/1)
قال ابن قدامة : لا نعلم في هذا خلافاً بين أهل العلم , إلا ما روي عن أسماء أنّها كانت تغطّي وجهها وهي محرمة , ويحتمل أنّها كانت تغطّيه بالسّدل عند الحاجة فلا يكون اختلافاً والتّفصيل في مصطلح : ( إحرام ف 66 وما بعدها ) .(/2)
لِثام *
التّعريف :
1 - اللّثام في اللغة هو ما على الفم أو الشّفة من النّقاب , والجمع لُثم , والتّلثم هو شد اللّثام , والمَلْثَم : موضع اللّثم وهو الأنف ما حوله .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - القناع :
2 - القناع والمقنعة ما تتقنّع به المرأة من ثوبٍ تغطّي رأسها ومحاسنها .
والتّقنع - كما عرّفه العيني - هو تغطية الرّأس وأكثر الوجه برداء أو غيره .
ب - الخِمار :
3 - الخِمار بكسر الخاء هو ما تغطّي به المرأة رأسها , وكل ما ستر شيئاً فهو خمار .
الحكم الإجمالي :
شد اللّثام في الصّلاة :
4 - لا خلاف بين الفقهاء في كراهة التّلثم - وهو تغطية الأنف والفم - في الصّلاة .
قال ابن المنذر : كل من أحفظ عنه من أهل العلم يكره التّلثم وتغطية الفم في الصّلاة إلا الحسن , فإنّه كره التّلثم ورخّص في تغطية الفم .
وكره ابن عمر وسعيد والحسن البصري والأوزاعي ومالك وأحمد وإسحاق التّلثم في الصّلاة .
وللتّفصيل : ( ر : صلاة ف 86 ) .
شد اللّثام للمرأة المحرمة :
5 - ذهب الفقهاء إلى أنّ إحرام المرأة في وجهها فلا يجوز لها ستر وجهها , وإذا احتاجت إلى ستر الوجه لمنع أبصار الأجانب سدلت ثوباً على وجهها متجافياً عن بشرة الوجه , قالت عائشة رضي الله عنها : « كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم محرماتٍ ، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها ، فإذا جاوزنا كشفناه » وقالت كذلك : « المحرمة تلبس من الثّياب ما شاءت إلا ثوباً مسّه ورس أو زعفران ، ولا تتبرقع ولا تلثّم وتسدل الثّوب على وجهها إن شاءت » .
وللتّفصيل ( ر : إحرام ف 67 ) .(/1)
لِحْية *
التّعريف :
1 - اللّحية لغةً : الشّعر النّابت على الخدّين والذّقن , والجمع اللِّحى واللُّحى .
ورجل ألحى ولحياني : طويل اللّحية , واللّحي واحد اللّحيين وهما : العظمات اللّذان فيهما الأسنان من الإنسان والحيوان , وعليهما تنبت اللّحية .
واللّحية في الاصطلاح , قال ابن عابدين : المراد باللّحية كما هو ظاهر كلامهم الشّعر النّابت على الخدّين من عِذارٍ , وعارضٍ , والذّقن .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - العِذار :
2 - العذاران كما في لسان العرب : جانبا اللّحية , وكان الفقهاء أكثر تحديداً للعذار من أهل اللغة , فقد فسّره ابن حجرٍ الهيتمي من الشّافعيّة , وابن قدامة والبهوتي من الحنابلة بأنّه الشّعر النّابت على العظم النّاتئ المحاذي لصماخ الأذن - أي خرقها - يتّصل من الأعلى بالصدغ , ومن الأسفل بالعارض , وقال القليوبيّ : الّذي تصرّح به عباراتهم أنّه إذا جعل خيط مستقيم على أعلى الأذن وأعلى الجبهة فما تحت ذلك الخيط من الملاصق للأذن , المحاذي للعارض هو العذار , وما فوقه هو الصدغ , ويقول ابن عابدين : هو القدر المحاذي للأذن .
ويصرّح ابن عابدين بأنّ العذار جزء من اللّحية , وعليه فتنطبق عليه أحكامها .
وقال البهوتيّ : لا يدخل منتهى العذار - أي أعلاه الّذي فوق العظم النّاتئ - لأنّه شعر متّصل بشعر الرّأس لم يخرج عن حدّه , أشبه الصدغ , والصدغ من الرّأس - وليس من الوجه - لحديث الرّبيع أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « مسح برأسه وصدغيه مرّةً واحدةً » , ولم ينقل أحد أنّه غسله مع الوجه .
والصّلة بينهما العموم والخصوص المطلق فكل عذارٍ لحية ولا عكس .
ب - العارض :
3 - العارض في اللغة : الخد , وعارضتا الإنسان : صفحتا خدّيه .
وعند الفقهاء العارض الشّعر النّابت على الخدّ ويمتد من أسفل العذار حتّى يلاقي الشّعر النّابت على الذّقن , قال ابن قدامة : العارض هو ما نزل عن حدّ العذار , وهو الشّعر النّابت على اللّحيين , ونقل عن الأصمعيّ والمفضّل بن سلمة : ما جاوز وتد الأذن عارض , فالعارضان من اللّحية .
وقيل له العارض - فيما أشار إليه ابن الأثير - لأنّه ينبت على عرض اللّحي فوق الذّقن . ج - الذّقن :
4 - الذّقَن والذّقْن : مجتمع اللّحيين من أسفلهما .
د - العنفقة :
5 - العنفقة : ما بين الشّفة السفلى والذّقن .
قال ابن منظورٍ : سمّيت بذلك لخفّة شعرها , والعنفق : قلّة الشّيء وخفّته .
وقيل : العنفقة ما نبت على الشّفة السفلى من الشّعر .
ويجاوز العنفقة يميناً وشمالاً الفنيكان , وهما : الموضعان الخفيفا الشّعر بين العنفقة والعارضين وقيل : هما جانبا العنفقة .
هـ - السّبال :
6 - السّبال لغةً : جمع السَّبلة , وسبلة الرّجل : الدّائرة الّتي في وسط شفته العليا , وقيل : السّبلة ما على الشّارب من الشّعر , وقيل : طرفه , وقيل : هي مقدّم اللّحية , وقيل : هي اللّحية , وعلى كونه بمعنى ما على الشّارب من الشّعر ورد الحديث : « قصوا سبالكم ووفّروا عثانينكم وخالفوا أهل الكتاب » , وعلى كونه بمعنى اللّحية ورد قول جابرٍ : " كنّا نعفي السّبال إلا في حجٍّ أو عمرةٍ " .
أمّا الفقهاء فقد جعلوا السّبال مفرداً , وهو عندهم : طرف الشّارب .
قال ابن عابدين : السّبالان طرفا الشّارب , قال : قيل : وهما من الشّارب , وقيل من اللّحية .
وقال ابن حجرٍ مثل ذلك .
الأحكام المتعلّقة باللّحية :
تتعلّق باللّحية أحكام منها :
إعفاء اللّحية :
7 - إعفاء اللّحية مطلوب شرعاً اتّفاقاً , للأحاديث الواردة بذلك , منها حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « خالفوا المشركين وفّروا اللّحى وأحفوا الشّوارب » , ومثله حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بلفظ : « جزوا الشّوارب وأرخوا اللّحى خالفوا المجوس » , ومنها حديث عائشة رضي الله عنها عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « عشر من الفطرة » , فعدّ منها إعفاء اللّحية .
قال ابن حجرٍ : المراد بقوله صلى الله عليه وسلم : « خالفوا المشركين » مخالفة المجوس فإنّهم كانوا يقصون لحاهم , ومنهم من كان يحلقها , وقال : ذهب الأكثرون إلى أن " أعفوا" بمعنى كثّروا , أو وفّروا , ونقل عن ابن دقيق العيد : تفسير الإعفاء بالتّكثير من إقامة السّبب مقام المسبّب لأنّ حقيقة الإعفاء التّرك , وترك التّعرض للّحية يستلزم تكثيرها .
وقال ابن عابدين من الحنفيّة : إعفاء اللّحية تركها حتّى تكثّ وتكثر .
تكثير اللّحية بالمعالجة :
8 - قال ابن دقيق العيد : لا أعلم أحداً فهم من الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم : « أعفوا اللّحى » تجويز معالجتها بما يغزرها , كما يفعله بعض النّاس , قال : وكأنّ الصّارف عن ذلك قرينة السّياق في قوله في بقيّة الخبر : « وأحفوا الشّوارب »
قال ابن حجرٍ : ويمكن أن يؤخذ ذلك من بقيّة طرق الحديث الدّالّة على مجرّد التّرك .
الأخذ من اللّحية :
9 - ذهب بعض الفقهاء , منهم النّووي إلى أن لا يتعرّض للحيّة , فلا يؤخذ من طولها أو عرضها لظاهر الخبر في الأمر بتوفيرها , قال : المختار تركها على حالها , وأن لا يتعرّض لها بتقصير ولا غيره .
وذهب آخرون منهم الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه إذا زاد طول اللّحية عن القبضة يجوز أخذ الزّائد , لما ثبت أنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا حلق رأسه في حجٍّ أو عمرةٍ أخذ من لحيته وشاربه , وفي روايةٍ كان إذا حجّ أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه .(/1)
قال ابن حجرٍ : الّذي يظهر أنّ ابن عمر كان لا يخص هذا بالنسك بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة الّتي تتشوّه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللّحية أو عرضه .
قال الحنفيّة : إنّ أخذ ما زاد عن القبضة سنّة , جاء في الفتاوى الهنديّة : القص سنّة فيها , وهو أن يقبض الرّجل على لحيته , فإن زاد منها عن قبضته شيء قطعه , كذا ذكره محمّد رحمه الله عن أبي حنيفة , قال : وبه نأخذ .
وفي قولٍ للحنفيّة : يجب قطع ما زاد عن القبضة ومقتضاه كما نقله الحصكفيّ , الإثم بتركه .
وقال الحنابلة : لا يكره أخذ ما زاد عن القبضة منها , ونصّ عليه أحمد , ونقلوا عنه أنّه أخذ من عارضيه .
وذهب آخرون من الفقهاء إلى أنّه لا يأخذ من اللّحية شيئاً إلا إذا تشوّهت بإفراط طولها أو عرضها , نقله الطّبريّ عن الحسن وعطاءٍ , واختاره ابن حجرٍ وحمل عليه فعل ابن عمر , وقال : إنّ الرّجل لو ترك لحيته لا يتعرّض لها حتّى أفحش طولها أو عرضها لعرّض نفسه لمن يسخر به , وقال عياض : الأخذ من طول اللّحية وعرضها إذا عظمت حسن , بل تكره الشهرة في تعظيمها كما تكره في تقصيرها , ومن الحجّة لهذا القول ما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها » , أمّا الأخذ من اللّحية وهي دون القبضة لغير تشوهٍ ففي حاشية ابن عابدين : لم يبحه أحد .
حلق اللّحية :
10 - ذهب جمهور الفقهاء : الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة , وهو قول عند الشّافعيّة , إلى أنّه يحرم حلق اللّحية لأنّه مناقض للأمر النّبويّ بإعفائها وتوفيرها , وتقدّم قول ابن عابدين في الأخذ منها وهي دون القبضة : لم يبحه أحد , فالحلق أشد من ذلك .
وفي حاشية الدسوقيّ المالكيّ : يحرم على الرّجل حلق لحيته , ويؤدّب فاعل ذلك , وقال أبو شامة من الشّافعيّة : قد حدث قوم يحلقون لحاهم , وهو أشد ممّا نقل عن المجوس أنّهم كانوا يقصونها .
ثمّ قد جاء في الفتاوى الهنديّة : ولا يحلق شعر حلقه , ونصّ الحنابلة كما في شرح المنتهى على أنّه لا يكره أخذ الرّجل ما تحت حلقه من الشّعر أي لأنّه ليس من اللّحية .
والأصح عند الشّافعيّة : أنّ حلق اللّحية مكروه .
قصّ السّبالين :
11 - تقدّم أنّ السّبالين قد اختلف فيهما هل هما من الشّاربين أم من اللّحية , وعليه ينبني الخلاف فيهما , قال ابن عابدين : أمّا طرفا الشّارب وهما السّبالان , فقيل : هما من الشّارب وقيل : من اللّحية , وعليه فقد قيل : لا بأس بتركهما , وقيل : يكره لما فيه من التّشبه بالأعاجم وأهل الكتاب , قال : وهذا أولى بالصّواب .
وقال ابن حجرٍ : اختلف في السّبالين فقيل : هما من الشّارب ويشرع قصهما معه , وقيل : هما من جملة شعر اللّحية , وأمّا القص فهو الّذي في أكثر الأحاديث .
وذهب الحنابلة إلى أنّ السّبالين من الشّارب فيشرع قصهما معه .
قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المجوس فقال : « إنّهم يوفون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم » قال : فكان ابن عمر يستعرض سبلته فجزّها .
العناية باللّحية :
12 - العناية باللّحية بأخذ ما طال منها وتشوّه أمر مشروع على ما تقدّم تفصيله .
ويسن إكرامها لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من كان له شعر فليكرمه » , قال الغزالي والنّووي : ويكره للرّجل ترك لحيته شعثةً إيهاماً للزهد .
لما روي عن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما قال : « أتانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فرأى رجلاً شعثاً قد تفرّق شعره ، فقال : أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره » .
ويسن ترجيلها , قال ابن بطّالٍ : التّرجيل تسريح شعر الرّأس واللّحية ودهنه , وهو من النّظافة وقد ندب الشّرع إليه , وقال اللّه تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ }, وفي حديث عائشة رضي الله عنها : « كان لا يفارق النّبيّ صلى الله عليه وسلم سواكه ومشطه ، وكان ينظر في المرآة إذا سرّح لحيته » .
ويسن تطييبها لقول عائشة رضي الله عنها : « كنت أطيّب النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأطيب ما يجد ، حتّى أجد وبيص الطّيب في رأسه ولحيته » .
وفي الفتاوى الهنديّة : لا بأس بغالية الرّأس واللّحية , والغالية : طيب يجمع طيوباً .
وانظر : ( ترجيل ف 2 وما بعدها , شعر ف 16 ) .
صبغ اللّحية :
13 - يسن صبغ اللّحية بغير السّواد إذا ظهر فيها الشّيب , أمّا بالسّواد فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يكره صبغها بالسّواد في غير الحرب , وقال الشّافعيّة : تحرم لغير المجاهدين .
وانظر مصطلح : ( اختضاب ف 9 - 11 ) .
أمور تكره في اللّحية :
14 - قال ابن حجرٍ : ذكر النّووي ممّا يكره : تبييض اللّحية استعجالاً للشّيخوخة لقصد التّعاظم على الأقران , ونتفها إبقاءً للمرودة وكذا تحذيفها ونتف الشّيب , ورجّح النّووي تحريمه لثبوت الزّجر عنه , وتصفيفها طاقةً فوق طاقةٍ تصنعاً ومخيلةً , وعقدها لحديث رويفع بن ثابتٍ رضي الله عنه مرفوعاً : « من عقد لحيته فإنّ محمّداً منه بريء » , قال الخطّابيّ : قيل : المراد عقدها في الحرب , وهو من زيّ الأعاجم , وقيل : المراد معالجة الشّعر حتّى ينعقد وذلك من فعل أهل التّأنيث .
غسل اللّحية في الوضوء :(/2)
15 - تتّفق المذاهب الأربعة على أنّه يجب في الوضوء غسل بشرة الوجه من شعر اللّحية إن كان خفيفاً تظهر البشرة من تحته , فيغسل البشرة ويغسل اللّحية ظاهراً وباطناً , والمراد بظهور البشرة ظهورها في مجلس المخاطبة , ووجه الوجوب أنّ اللّه تعالى فرض في الوضوء غسل الوجه , والوجه من المواجهة , والمواجهة تحصل في اللّحية ذات الشّعر الخفيف ببشرة الوجه وبالشّعر الّذي عليها .
وهذا الاتّفاق إنّما هو فيما كان من الشّعر في حيّز دائرة الوجه , دون المسترسل من اللّحية تحت الذّقن طولاً , ودون الخارج عن حدّ الوجه عرضاً , فإنّ في هذا خلافاً يأتي بيانه .
أمّا اللّحية الكثيفة فتتّفق الأقوال المعتمدة في المذاهب الأربعة على أنّه لا يجب في الوضوء غسل باطنها ولا إيصال الماء إلى البشرة ومنابت الشّعر , لعدم حصول المواجهة به لأنّه لا يرى في مجلس المخاطبة , فلا يكون من الوجه المأمور بغسله , وفي نيل المآرب : لو اجتزأ بغسل باطنها عن غسل ظاهرها لم يجزئه , ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أخذ غرفةً من ماءٍ فغسل بها وجهه » ، قالوا : والغرفة لا تكفي لغسل الوجه وظاهر اللّحية الكثيفة وباطنها , وفي هذه الحال ينتقل حكم ما تحت اللّحية إليها عند الجمهور , فيجب غسل ظاهر ما في حدّ الوجه منها .
ولا يسن غسل باطن اللّحية الكثيفة على ما صرّح به الحنفيّة والحنابلة لما فيه من العسر , على ما قال ابن قدامة من الحنابلة , ورجّح صاحب الإنصاف من الحنابلة أنّ غسل باطنها مكروه وتبعه صاحب الإقناع .
وفي روايةٍ عن أبي حنيفة وروايةٍ عن أحمد : لا يغسل اللّحية الكثيفة في الوضوء ولا يغسل ما تحتها أيضاً , لأنّ اللّه تعالى إنّما أمر بغسل الوجه , والوجه اسم للبشرة الّتي تحصل بها المواجهة , والشّعر ليس ببشرة , وما تحته من البشرة لا تحصل به المواجهة .
وقد نقل ابن عابدين أنّ الرّواية الأولى هي المذهب الصّحيح المفتى به , وما عداها مرجوع عنه , كما أنّ ابن قدامة ضعّف رواية عدم الغسل عن أحمد وأوّلها .
ونقل ابن قدامة عن عطاءٍ وأبي ثورٍ أنّه يجب غسل البشرة وباطن اللّحية الكثيفة - كغير الكثيفة - في الوضوء كما في الغسل , لأنّ اللّه تعالى أمر بغسل الوجه , وهو حقيقة في البشرة , وتدخل اللّحية تبعاً , ونقل القرافي قولاً مثل هذا للمالكيّة .
قال : لأنّ الخطاب متناول له بالأصالة , ولغيره بالرخصة , والأصل عدمها .
وعلى القول الأوّل , وهو قول الأكثرين , يكون غسل ظاهر اللّحية - على ما نصّ عليه الحنفيّة على الأصحّ عندهم - بإمرار الماء على ظاهرها , وقال المالكيّة : المراد بغسل ظاهرها إمرار اليد عليها بالماء وتحريكها به لأنّ الشّعر يدفع بعضه عن بعضٍ , فإذا حرّكه حصل الاستيعاب , قالوا : وهذا التّحريك خلاف التّخليل .
ما استرسل من اللّحية أو خرج عن حدّ الوجه :
16 - اختلف الفقهاء في غسل ما خرج عن حدّ الفرض من اللّحية في الوضوء :
فذهب الحنفيّة والمالكيّة في قولٍ والشّافعيّة في قولٍ , وهو رواية عن أحمد , إلى أنّه لا يجب غسله ولا مسحه ولا تخليله , لأنّه ليس من الوجه , لأنّه شعر خارج عن محلّ الفرض , فأشبه ما نزل من شعر الرّأس عن الرّأس , لا يجب مسحه مع مسح الرّأس .
ثمّ قد قال الحنفيّة : إنّ غسل هذا الشّعر المسترسل من اللّحية مسنون .
وذهب المالكيّة في قولٍ ذكره القرافي والشّافعيّة في المعتمد , وهو ظاهر مذهب أحمد الّذي عليه أصحابه , إلى وجوب غسل ظاهر اللّحية الكثيفة كلّها ممّا هو نابت في محلّ الفرض سواء حاذى محلّ الفرض أو جاوزه , قال الشّافعيّة : وإنّما يجب غسل ما جاوز محلّ الفرض بالتّبع , وقال الحنابلة : لأنّ اللّحية تشارك الوجه في معنى التّوجه والمواجهة , بخلاف ما نزل من شعر الرّأس عنه , فإنّه لا يشارك الرّأس في التّرؤُّس .
حلق شعر اللّحية بعد غسله في الوضوء :
إذا توضّأ فغسل ظاهر لحيته , أو ظاهرها وباطنها , ثمّ أزالها بحلق أو غيره لم يلزمه إعادة الوضوء على ما صرّح به الحنفيّة وهو الرّاجح عند المالكيّة .
وانظر : ( وضوء ) .
تخليل اللّحية الكثيفة في الوضوء :
17 - يسن لغير المحرم تخليل اللّحية الكثيفة في الوضوء عند كلٍّ من الشّافعيّة والحنابلة , وهو قول أبي يوسف من الحنفيّة وقول للمالكيّة , وذلك للحديث الوارد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كان إذا توضّأ خلّل لحيته » , وفعله ابن عمر وابن عبّاسٍ وأنس والحسن رضي الله عنهم , وقال أبو حنيفة ومحمّد : هو فضيلة ، قال ابن عابدين : ورجّح في المبسوط قول أبي يوسف , والأدلّة ترجّحه وهو الصّواب . ا هـ .
وقد وردّ التّرخيص في ترك التّخليل عن ابن عمر والحسن بن عليٍّ وطاووسٍ والنّخعيّ وغيرهم , وقال من لم يوجبه : إنّ اللّه تعالى أمر بغسل الوجه ولم يأمر بالتّخليل , وإنّ أكثر من حكى وضوء النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحك أنّه خلّل لحيته مع أنّه كان كثيفها , فلو كان واجباً لما أخلّ به .
وفي قولٍ للمالكيّة : التّخليل مكروه , وهو الرّاجح عندهم على ظاهر ما في المدوّنة من قول مالكٍ : تحرّك اللّحية من غير تخليلٍ .
والقول الثّالث للمالكيّة , وهو قول إسحاق بن راهويه : التّخليل واجب , والتّخليل عند من قال به يكون مع غسل الوجه , إلا أنّ الحنابلة نقلوا عن نصّ أحمد أنّ التّخليل يكون مع غسل الوجه أو إن شاء مع مسح الرّأس .
وصفته على ما في شرح منتهى الإرادات أن يأخذ كفاً من ماءٍ يضعه من تحتها فيخلّلها بأصابعه مشتبكةً , أو يضعه من جانبيها ويعرّكها به .
غسل العنفقة في الوضوء :(/3)
18 - يجب في الوضوء غسل العنفقة والبشرة تحتها إن كانت خفيفةً , فإن كانت كثيفةً فالأكثر من العلماء على أنّه يجب غسل ظاهرها فقط , كاللّحية , وقيل : يجب غسلها ظاهراً وباطناً بكلّ حالٍ لأنّها لا تستر ما تحتها عادةً , وإن وجد ذلك كان نادراً فلا يتعلّق به حكم .
غسل اللّحية في الغسل من الجنابة :
19 - يجب في الغسل من الجنابة عند جمهور الفقهاء غسل البشرة تحت اللّحية سواء كان الشّعر كثيفاً أو خفيفاً , وذلك لما روي عن عليٍّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من ترك موضع شعرةٍ من جنابةٍ لم يغسلها فعل به كذا وكذا من النّار » ، قال علي : فمن ثمّ عاديت شعري ، وكان يجز شعره , ولحديث أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ تحت كلّ شعرةٍ جنابة فاغسلوا الشّعر ، وأنقوا البشر » .
والشّعر نفسه يجب غسله وإيصال الماء إلى أثنائه حتّى ما استرسل منه , وفي وجهٍ عند الحنابلة : لا يجب ذلك , ويجب عند المالكيّة تخليل شعر اللّحية .
وانظر مصطلح : ( غسل ف 24 ) .
مسح اللّحية في التّيمم :
20 - يجب في التّيمم مسح اللّحية مع مسح الوجه عند جميع الفقهاء , فيمسح على ظاهر الشّعر سواء كان الشّعر خفيفاً أو كثيفاً , فلا يجب ولا يندب إيصال التراب إلى الشّعر الباطن ولا إلى البشرة لعسره , ولأنّ المسح مبني على التّخفيف .
واشترط الحنفيّة على الصّحيح عندهم , والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة استيعاب ظاهر شعر الوجه , قال في الدرّ المختار : حتّى لو ترك شعرةً لم يجز , قال المالكيّة : ويجب مسح ما طال من اللّحية , ولا يخلّلها لأنّ المسح مبني على التّخفيف .
ما يتعلّق باللّحية من الأحكام في الإحرام :
21 - لا يجوز للمحرم حلق لحيته في الإحرام ولا الأخذ منها كثيراً أو قليلاً , إلا لعذر إجماعاً , وقياساً على تحريم حلق الرّأس المنصوص عليه في قوله تعالى : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } .
فإن حلق لحيته وهو محرم لعذر أو لغير عذرٍ فعليه دم , وإن أخذ أقلّ من ذلك ففيه تفصيل وخلاف يرجع إليه في مصطلح : ( إحرام ف 71 , 155 ) .
ويحرم على المحرم دهن لحيته ولو بدهن غير مطيّبٍ , ويحرم عليه أيضاً تطييبها .
وانظر مصطلح : ( إحرام ف 73 , 76 , 153 ) .
الأخذ من اللّحية عند التّحلل من الإحرام :
22 - ذهب الشّافعيّة إلى أنّه يندب للمحرم عند تحلله من الإحرام إذا لم يكن برأسه شعر أن يأخذ من شاربه أو من شعر لحيته .
وروي عن عطاءٍ وطاووسٍ أنّه يستحب لو أخذ من لحيته شيئاً .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه يستحب للمحرم عند تحلله قص أظافره وشاربه واستحداده بعد حلق رأسه ولا يأخذ من لحيته شيئاً , ولكن إن أخذ منها لم يجب عليه شيء .
الدّية أو الأرش في إتلاف شعر اللّحية :
23 - تتّفق المذاهب الأربعة على أنّ من أزال لحية رجلٍ عمداً أو خطأً , بحلق أو نتفٍ أو معالجةٍ بدواء أو غير ذلك , فإنّه إن عاد الشّعر فنبت كما كان فلا شيء من ديةٍ أو غيرها إلا الأدب في العمد .
أمّا إن لم ينبت الشّعر , لفساد منبته , كما لو صبّ عليه ماءً حاراً , فقد اختلف الفقهاء فيه :
فذهبت الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ فيها ديةً كاملةً إن أذهبها كلّها , سواء كانت خفيفةً أو كثيفةً , قالوا : لأنّه أزال الجمال على الكمال , وفي نصفها نصف الدّية .
ثمّ قال الحنفيّة : وما كان أقلّ من ذلك ففيه حكومة عدلٍ , وفي قولٍ عندهم : تجب كل الدّية لأنّه في الشّين فوق من لا لحية له أصلاً , قال في شرح الكافي : هو الصّحيح .
وقال الحنابلة : يعتبر قدر الذّاهب منها بالمساحة , فيعطى من الدّية بنسبة ذلك .
قال الحنفيّة : ولا شيء في إذهاب لحية كوسجٍ على ذقنه شعرات معدودة , قالوا : لأنّها تشينه ولا تزينه .
ولو كان على خدّه أيضاً ولكنّه غير متّصلٍ فحكومة عدلٍ لأنّ فيه بعض الجمال , ولو متّصلاً ففيه كل الدّية , لأنّه ليس بكوسج وفيه معنى الجمال .
وقال الحنابلة : إن أزالها وبقي منها ما لا جمال فيه فعليه الدّية كاملةً لإذهابه المقصود منه كلّه .
واستدلوا على إيجاب الدّية في شعر اللّحية بقول عليٍّ وزيد بن ثابتٍ رضي الله عنهما : في الشّعر الدّية .
ويؤجّل سنةً ليتحقّق من عدم نباتها , فإن مات فيها فعند أبي حنيفة تسقط الدّية , وقال الصّاحبان : فيها حكومة عدلٍ .
وإن نبت الشّعر أبيض قال أبو حنيفة كذلك : لا شيء فيها , وقال الصّاحبان : فيها حكومة عدلٍ .
فإن عاد الشّعر فنبت بعد أن أخذ المجني عليه ما فيه من ديةٍ أو بعضها أو حكومة العدل ردّه , وإن لم يعد ورجي عوده انتظر ما يقوله أهل الخبرة .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه لا تجب الدّية في إذهاب شعر اللّحية بل فيه حكومة عدلٍ .
التّعزير بحلق اللّحية :
24 - لا يجوز التّعزير بحلق اللّحية لكونه أمراً محرّماً في ذاته عند الجمهور , والّذين قالوا بأنّ الحلق في ذاته مكروه , وهو الأصح عند الشّافعيّة , قالوا : لا يجوز التّعزير بحلقها .
لحية الميّت :
25 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه يكره تسريح لحية الميّت أو قص شعره أو حلقه لعدم الحاجة إليه .
وقال المالكيّة : يكره حلق شعر الميّت الّذي لا يحرم حلقه حال الحياة كشعر الرّأس , فإن كان يحرم حلقه حال الحياة - وهو شعر اللّحية - حرم , قال الدّردير : وهو بدعة قبيحة لم تعهد من السّلف .
وقال الحنابلة : يكره تسريح شعره رأساً كان أو لحيةً لأنّه يقطعه من غير حاجةٍ إليه .
قالوا : ويحرم حلق رأسه ولحيته .(/4)
أمّا الشّافعيّة فيرون أنّ تسريح لحية الميّت غير المحرم حسن لإزالة ما في أصول الشّعر من الوسخ أو بقايا السّدر , ويكون ذلك بمشط واسع الأسنان , برفق ليقلّ الانتتاف .
ثمّ إن أزيل بعض الشّعر بحلق أو قصٍّ أو تسريحٍ يجعل الزّائد مع الميّت في كفنه .(/5)
مائع *
التّعريف :
1 - المائع في اللغة : السّائل والذّائب .
وماع الجسم يميع ميعاً وموعاً - من بابي باع وقال - ذاب وسال .
ويتعدّى بالهمزة فيقال : أمعته , ويقال ماع الشّيء انماع أي سال , ومنه قول سعيد بن المسيّب : في جهنّم وادٍ يقال له ويل لو سيّرت فيه جبال الدنيا لانماعت من شدّة حرّه ، أي : ذابت وسالت .
ومعناه الاصطلاحي لا يخرج عن معناه اللغويّ .
الأحكام المتعلّقة بالمائع :
يتعلّق بالمائع أحكام مختلفة في عدّة مواضع منها :
أ - التّطهير بالمائع :
2 - اختلف الفقهاء في رفع المائع للحدث وإزالته للخبث عن الجسد والثّياب :
فقال جمهور الفقهاء : لا يرفع الحدث ولا يزيل الخبث إلا الماء المطلق , وقال غيرهم : يرفع الحدث ويزيل الخبث كل مائعٍ طاهرٍ قالع في الجملة .
والتّفصيل في مصطلح : ( طهارة ف 9 وما بعدها , ومياه , ونجاسة , ووضوء ) .
ب - تنجس المائعات :
3 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في أولى الرّوايات عندهم إلى أنّ ما سوى الماء المطلق من المائعات كالخلّ وماء الورد , واللّبن والزّيت والعسل والسّمن والمرق والعصير وغيرها تتنجّس بملاقاة النّجاسة سواء كان هذا المائع قليلاً لا يبلغ القلّتين أو كثيراً يبلغ القلّتين وسواء أعسر الاحتراز منها أم لم يعسر , لأنّه ليس لهذه المائعات خاصّيّة دفع الخبث كما هو شأن الماء لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الفأرة تموت في السّمن : « إن كان جامداً فألقوها وما حولها , وإن كان مائعاً فلا تقربوه وفي روايةٍ فأريقوه » , ولأنّ الماء يدفع الخبث عن نفسه ولا يحملها , لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الماء لا ينجّسه شيء إلا ما غلب ريحه وطعمه ولونه » , وهذا ليس في المائعات الأخرى فهي كالماء القليل , فكل ما نجّس الماء القليل نجّس المائع , وإن كان المائع كثيراً , أو كان جارياً , أمّا ما لم ينجّس الماء القليل فإنّه لا ينجّس المائع أيضاً وذلك كالميتة الّتي لا نفس لها سائلة إذا وقعت في المائع لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه فإنّ في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء » وفي روايةٍ : « فليغمسه ثمّ لينزعه » .
قال النّووي : الدود المتولّد في الأطعمة والماء كدود التّين , والتفّاح والباقلاء والجبن والخلّ وغيرها لا ينجّس ما مات فيه بلا خلافٍ .
وذهب الحنفيّة وهو رواية عن أحمد إلى أنّ المائع كالماء لا ينجس إلا بما ينجس به الماء . قال ابن عابدين : وحكم سائر المائعات كالماء في الأصحّ - في القلّة والكثرة - حتّى لو وقع بول في عصيرٍ عشر في عشرٍ لم يفسد , ولو سال دم رجله مع العصير لا ينجس ما لم يطهّر فيه أثر الدّم - فكل ما لا يفسد الماء لا يفسد غير الماء - من سائر المائعات , وقال الكاساني : ذكر الكرخي عن أصحابنا أنّ كلّ ما لا يفسد الماء لا يفسد غير الماء ثمّ قال : ثمّ الحيوان إذا مات في المائع القليل فلا يخلو إمّا أن يكون له دم سائل أو لا يكون , ولا يخلو إمّا أن يكون برّياً أو مائياً , ولا يخلو إمّا أن يموت في الماء أو في غير الماء , فإن لم يكن له دم سائل كالذباب والزنبور والعقرب والسّمك والجراد ونحوها لا ينجس بالموت , ولا ينجّس ما يموت فيه من المائع سواء كان ماءً أو غيره من المائعات كالخلّ واللّبن والعصير وأشباه ذلك , وسواء كان برّياً أو مائياً كالعقرب ونحوه , وسواء كان السّمك طافياً أو غير طافٍ لأنّ نجاسة الميتة ليست لعين الموت , فإنّ الموت موجود في السّمك والجراد ولا يوجب التّنجيس ولكن لما فيها من الدّم المسفوح ولا دم في هذه الأشياء , وإن كان له دم سائل فإن كان برّياً ينجس بالموت , وينجّس المائع الّذي يموت فيه سواء كان ماءً أو غيره, وسواء مات في المائع أو في غيره ثمّ وقع فيه كسائر الحيوانات الدّمويّة , لأنّ الدّم السّائل نجس فينجّس ما يجاوره , وإن كان مائياً كالضفدع المائيّ والسّرطان ونحو ذلك فإن مات في الماء لا ينجّسه في ظاهر الرّواية وإن مات في غير الماء فإن قيل : إنّ العلّة أنّ هذا ممّا يعيش في الماء فلا يمكن صيانة المياه عن موت هذه الحيوانات يوجب التّنجيس لأنّه يمكن صيانة سائر المائعات عن موتها فيها , وإن قيل : إنّ العلّة أنّها إذا كانت تعيش في الماء لا يكون لها دم إذ الدّموي لا يعيش في الماء فلا يوجب التّنجيس لانعدام الدّم المسفوح . والرّواية الثّانية عن أحمد : أنّ المائعات لا يتنجّس منها ما بلغ القلّتين إلا إذا تغيّر .
قال حرب : سألت أحمد قلت : كلب ولغ في سمنٍ أو زيتٍ ؟ قال : إذا كان في آنيةٍ كبيرةٍ مثل حبٍّ أو نحوه رجوت أن لا يكون به بأس ويؤكل , لأنّه كثير فلم ينجس بالنّجاسة من غير تغيرٍ كالماء , وإن كان في آنيّةٍ صغيرةٍ فلا يعجبني ذلك .
وهناك رأي آخر للحنابلة وهو : ما أصله الماء - من المائعات - كالخلّ التّمريّ يدفع النّجاسة لأنّ الغالب فيه الماء , وما لا يكون أصله الماء فلا يدفع النّجاسة .
تطهير المائع المتنجّس :
4 - اختلف الفقهاء في إمكانيّة تطهير المائعات المتنجّسة أو عدم إمكان ذلك :(/1)
فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لو تنجّس مائع غير الماء كاللّبن والخلّ ونحوهما تعذّر تطهيره , إذ لا يأتي الماء على كلّه , لأنّه بطبعه يمنع إصابة الماء ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم عندما سئل في فأرةٍ وقعت في سمنٍ : « إن كان جامداً فألقوها وما حولها وإن كان مائعاً فلا تقربوه » وفي روايةٍ : « فأريقوه » , فلو أمكن تطهيره شرعاً , أو كان إلى تطهيره طريق لم يأمر بالابتعاد عنه , أو بإراقته , بل أمر بغسله وبيّن لهم طريقة تطهيره , لما في ذلك من إضاعة المال .
وعليه فإذا تنجّس لبن أو مرق أو زيت أو سمن مائع أو دهن من سائر الأدهان أو غير ذلك من المائعات فلا طريق لتطهيرها للحديث المتقدّم , ولأنّه لا يمكن غسله .
واستثنى بعض الشّافعيّة والحنابلة من هذا الزّئبق , فإنّ المتنجّس منه إن أصابته نجاسة ولم ينقطع بعد إصابتها طهّر بصبّ الماء عليه , وإن انقطع فهو كالدهن ولا يمكن تطهيره على الأصحّ .
وقال ابن عقيلٍ من الحنابلة : الزّئبق لقوّته وتماسكه يجري مجرى الجامد .
كما استثني في قولٍ عند كلٍّ من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة الزّيت والسّمن وسائر الأدهان وقالوا : إنّها تطهر بالغسل قياساً على الثّوب , قالوا : وطريق تطهيرها أن نجعل الدهن في إناءٍ ويصب عليه الماء ويكاثر به ويحرّك بخشبة ونحوها تحريكاً يغلب على الظّنّ أنّه وصل إلى جميع أجزائه , ثمّ يترك حتّى يعلو الدهن على الماء فيأخذه , أو يفتح أسفل الإناء فيخرج الماء ويطهر الدهن ويسد الفتحة بيده أو بغيرها , وذكر ابن عرفة - من المالكيّة - في كيفيّة التّطهير أنّه يطبخ - الزّيت المخلوط بالنّجس - بالماء مرّتين أو ثلاثاً , قال الحطّاب بعد ذكر هذا القول : وقال في التّوضيح كيفيّته - أي التّطهير - على القول به أن يؤخذ إناء فيوضع فيه شيء من الزّيت ويوضع عليه ماء أكثر منه , وينقب الإناء من أسفله ويسده بيده أو بغيرها ثمّ يمخّض الإناء ، ثمّ يفتح الإناء فينزل الماء , ويبقى الزّيت يفعل ذلك مرّةً بعد مرّةٍ حتّى ينزل الماء صافياً , قال المالكيّة والشّافعيّة : محل الخلاف إذا كانت النّجاسة الّتي أصابت المائع الدهنيّ غير دهنيّةٍ كالبول مثلاً أما إذا كانت دهنيّةً كودك الميتة فلا تقبل التّطهر بلا خلافٍ لممازجتها له .
والفتوى عند الحنفيّة على أنّه يطهر لبن وعسل ودبس ودهن يغلى ثلالاً , وقال في الدرر : ولو تنجّس العسل فتطهيره أن يصبّ فيه ماء بقدره فيغلى حتّى يعود إلى مكانه والدهن يصب عليه الماء فيغلي فيعلو الدهن الماء فيرفع بشيء هكذا ثلاث مرّاتٍ .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( نجاسة ) .
ج - الانتفاع بالمائعات النّجسة :
5 - ذهب الحنفيّة , والمالكيّة , والحنابلة إلى أنّه لا يجوز الانتفاع بودك الميتة أو شحمها في طلي السفن ونحوها , أو الاستصباح بها أو لأيّ وجهٍ آخر من وجوه الاستعمال ما عدا جلدها إذا دبغ , لعموم النّهي عن ذلك في حديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما أنّه سمع رسول اللّه يقول عام الفتح وهو بمكّة : « إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ، فقيل : يا رسول اللّه أرأيت شحوم الميتة فإنّه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها النّاس ؟ فقال : لا هو حرام ، ثمّ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عند ذلك : قاتل اللّه اليهود إنّ اللّه عزّ وجلّ لمّا حرّم عليهم شحومها أجملوه ثمّ باعوه فأكلوا ثمنه » إلا أنّ ابن قدامة قال : ولبن الميتة وإنفَحتها روي أنّها طاهرة وهو قول أبي حنيفة لأنّ الصّحابة رضي الله عنهم : أكلوا الجبن لمّا دخلوا المدائن وهو يعمل بالإنفَحة وهي تؤخذ من صغار المعز فهو بمنزلة اللّبن وذبائحهم ميّتة . وذهب أحمد بن حنبلٍ , وأحمد بن صالحٍ وابن الماجشون من المالكيّة , وابن المنذر وهو مقابل المشهور عند الشّافعيّة إلى أنّه لا يجوز الانتفاع بشيء من ذلك كلّه في شيءٍ من الأشياء للحديث المتقدّم , ولما على الإنسان من التّعبد في اجتناب النّجاسة , ولأجل دخان النّجاسة - بالنّسبة للاستصباح - فإنّه قد يصيب بدنه أو ثوبه عند القرب من السّراج ، نقل عن ابن الماجشون من المالكيّة : أنّه لا ينتفع بشيء من النّجاسات في وجهٍ من الوجوه . وقال الشّافعيّة : يحل مع الكراهة في غير المسجد الاستصباح بالدهن النّجس عينه كودك ميتةٍ , أو بعارض كزيت ونحوه وقعت فيه نجاسة على المشهور في المذهب , لأنّه صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرةٍ وقعت في سمنٍ ؟ فقال : « إن كان جامداً فألقوها وما حولها , وإن كان مائعاً فاستصبحوا به أو فانتفعوا به » , وعلى هذا يعفى عمّا يصيب الإنسان من دخان المصباح لقلّته .
ومقابل المشهور : أنّه لا يجوز لأجل دخان النّجاسة فإنّه قد يصيب بدنه أو ثوبه عند القرب من السّراج .
أمّا في المسجد فلا يجوز لما فيه من تنجيسه كما جزم ابن المقري تبعاً للأذرعيّ والزّركشيّ, وإن كان ميل الإسنويّ إلى الجواز .
ويستثنى أيضاً ودك نحو الكلب كما قاله في البيان ونقله الغزّيّ عن الإمام .
قال الغزّيّ : ويجوز أن يجعل الزّيت المتنجّس صابوناً أيضاً للاستعمال أي لا للبيع .
قال في المجموع : ويجوز طلي السفن بشحم الميتة وإطعامها للكلاب والطيور وإطعام الطّعام المتنجّس للدّوابّ .(/2)
وفرّق المالكيّة بين نجس العين كالبول وبين المتنجّس فقالوا : بجواز الانتفاع بالمتنجّس لغير المسجد والبدن قال خليل : وينتفع بمتنجّس لا نجسٍ في غير مسجدٍ وآدميٍّ ، قال الحطّاب في شرحه : مراده بالمتنجّس ما كان طاهراً في الأصل وأصابته نجاسة كالزّيت والسّمن تقع فيه فأرة أو نجاسة , وبالنّجس ما كانت عينه نجسةً كالبول والعذرة والميتة والدّم .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( نجاسة ) .(/3)
مسْجِد إبراهيم *
التّعريف :
1 - مسجد إبراهيم مركّب من كلمتين : مسجد وإبراهيم , فالمسجد في اللغة : بيت الصّلاة, وموضع السجود من بدن الإنسان .
والمسجد في الاصطلاح : الأرض الّتي جعلها المالك مسجداً وأذن بالصّلاة فيها .
قال الشّافعيّة : وإبراهيم هو نبي اللّه إبراهيم عليه السّلام على الصّحيح .
وقيل : إنّ إبراهيم هو أحد أمراء بني العبّاس وهو الّذي ينسب إليه باب إبراهيم بمكّة .
الألفاظ ذات الصّلة :
مقام إبراهيم :
2 - المقام - بفتح الميم - اسم مكان من قام يقوم قوماً وقياماً : أي انتصب , وقال أكثر الفقهاء والمفسّرين : إنّ مقام إبراهيم : الحجر الّذي تعرفه النّاس اليوم , يصلون عنده ركعتي الطّواف .
والصّلة بين مقام إبراهيم ومسجد إبراهيم أنّ كلاً منهما منسوب إلى نبيّ اللّه إبراهيم , غير أنّ مقام إبراهيم عند الكعبة , وتسن ركعتا الطّواف عنده , ومسجد إبراهيم عند عرفات .
الحكم الإجمالي :
يتعلّق بمسجد إبراهيم أحكام منها .
أ - الوقوف بمسجد إبراهيم
3 - قال أبو محمّد الجويني من الشّافعيّة : إنّ مقدم مسجد إبراهيم في طرف وادي عرنة لا في عرفات , وآخره في عرفات قال : فمن وقف في مقدم المسجد المسمّى بمصلّى إبراهيم لا يصح وقوفه , ومن وقف في آخره صحّ .
ب - لقطة مسجد إبراهيم :
4 - قال الزّركشي في إعلام السّاجد نقلاً عن الحاوي : إنّ لقطة عرفة ومصلّى إبراهيم " أي مسجد إبراهيم " فيها وجهان :
أحدهما : حل لقطتها قياساً على الحلّ , والثّاني : أنّه كالحرم لا تحل إلّا لمنشد , لأنّه مجمع الحاجّ وينصرف القصّاد منه إلى سائر البلاد كالحرم .
وأمّا جمهور الفقهاء فقالوا : لا فرق بين لقطة الحلّ ولقطة الحرم .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( حرم ف / 19 ) .
ج - صلاة الظهر والعصر يوم عرفة بمسجد إبراهيم :
5 - يندب إذا قصد الحجيج عرفات للوقوف بها أن يتوجّهوا إلى مسجد إبراهيم عليه السّلام- ويسمّى الآن مسجد نمرة ويصلوا الظهر والعصر جمعاً بعد خطبتين يلقيهما الإمام . وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( عرفات ف / 2 )(/1)
مصحف *
التّعريف :
1 - المُصحف بضمّ الميم , ويجوز المِصحف بكسرها , وهي لغه تميمٍ , وهو لغةً : اسم لكلّ مجموعةٍ من الصحف المكتوبة ضمّت بين دفّتين , قال الأزهري : وإنّما سمّي المصحف مصحفاً لأنّه أُصْحِف , أي جعل جامعاً للصحف المكتوبة بين الدّفّتين .
والمصحف في الاصطلاح : اسم للمكتوب فيه كلام اللّه تعالى بين الدّفّتين .
ويصدق المصحف على ما كان حاوياً للقرآن كلّه , أو كان ممّا يسمى مصحفاً عرفاً ولو قليلاً كحزبٍ , على ما صرّح به القليوبي , وقال ابن حبيبٍ : يشمل ما كان مصحفاً جامعاً أو جزءاً أو ورقةً فيها بعض سورةٍ أو لوحاً أو كتفاً مكتوبةً .
الألفاظ ذات الصّلة :
القرآن :
1 - القرآن لغةً : القراءة , قال اللّه تعالى : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } .
وهو في الاصطلاح : اسم لكلام اللّه تعالى المنزّل على رسوله محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم المتعبّد بتلاوته , المكتوب في المصاحف المنقول إلينا نقلاً متواتراً .
فالفرق بينه وبين المصحف : أنّ المصحف اسم للمكتوب من القرآن الكريم المجموع بين الدّفّتين والجلد , والقرآن اسم لكلام اللّه تعالى المكتوب فيه .
الأحكام المتعلّقة بالمصحف :
تتعلّق بالمصحف أحكام منها :
لمس الجنب والحائض للمصحف :
2 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا يجوز للمحدث حدثاً أكبر أن يمسّ المصحف , روي ذلك عن ابن عمر رضي اللّه عنهما , والقاسم بن محمّدٍ والحسن وقتادة وعطاءٍ والشّعبيّ , قال ابن قدامة : ولا نعلم مخالفاً في ذلك إلا داود .
وسواء في ذلك الجنابة والحيض والنّفاس , فلا يجوز لأحدٍ من أصحاب هذه الأحداث أن يمسّ المصحف حتّى يتطهّر , إلا ما يأتي استثناؤه .
واستدلوا بقوله تعالى : { لا يَمَسُّهُ إََِلا الْمُطَهَّرُونَ } .
وبما في كتاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لعمرو بن حزمٍ رضي اللّه عنه إلى أهل اليمن , وهو قوله : « لا يمس القرآن إلا طاهر » , وقال ابن عمر : قال النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « لا يمس القرآن إلا طاهر » .
لمس المحدث حدثاً أصغر للمصحف :
4 - ذهب عامّة الفقهاء إلى أنّه لا يجوز للمحدث حدثاً أصغر أن يمسّ المصحف , وجعله ابن قدامة ممّا لا يعلم فيه خلافاً عن غير داود .
وقال القرطبي : وقيل : يجوز مسه بغير وضوءٍ , وقال القليوبي من الشّافعيّة : وحكى ابن الصّلاح قولاً غريباً بعدم حرمة مسّه مطلقاً .
ولا يباح للمحدث مس المصحف إلا إذا أتمّ طهارته , فلو غسل بعض أعضاء الوضوء لم يجز مس المصحف به قبل أن يتمّ وضوءه , وفي قولٍ عند الحنفيّة : يجوز مسه بالعضو الّذي تمّ غسله .
مس الجنب والمحدث للمصحف بغير باطن اليد :
5 - يسوّي عامّة الفقهاء بين مسّ المصحف بباطن اليد , وبين مسّه بغيرها من الأعضاء , لأنّ كلّ شيءٍ لاقى شيئاً , فقد مسّه إلا الحكم وحمّاداً , فقد قالا : يجوز مسه بظاهر اليد وبغير اليد من الأعضاء , لأنّ آلة المسّ اليد .
وفي قولٍ عند الحنفيّة : يمنع مسه بأعضاء الطّهارة ولا يمنع مسه بغيرها , ونقل في الفتاوى الهنديّة عن الزّاهديّ أنّ المنع أصح .
مس جلد المصحف وما لا كتابة فيه من ورقه :
6 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يمتنع على غير المتطهّر مس جلد المصحف المتّصل , والحواشي الّتي لا كتابة فيها من أوراق المصحف , والبياض بين السطور , وكذا ما فيه من صحائف خاليةٍ من الكتابة بالكلّيّة , وذلك لأنّها تابعة للمكتوب وحريم له , وحريم الشّيء تبع له ويأخذ حكمه .
وذهب بعض الحنفيّة والشّافعيّة إلى جواز ذلك .
حمل غير المتطهّر للمصحف وتقليبه لأوراقه وكتابته له :
7 - ذهب الحنفيّة والحنابلة , وهو قول الحسن وعطاءٍ والشّعبيّ والقاسم والحكم وحمّادٍ , إلى أنّه لا بأس أن يحمل الجنب أو المحدث المصحف بعلاقة , أو مع حائلٍ غير تابعٍ له , لأنّه لا يكون ماساً له فلا يمنع منه كما لو حمله في متاعه , ولأنّ النّهي الوارد إنّما هو عن المسّ ولا مسّ هنا , قال الحنفيّة : فلو حمله بغلاف غير مخيطٍ به , أو في خريطةٍ - وهي الكيس - أو نحو ذلك , لم يكره .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة والأوزاعي , وهو رواية خرّجها القاضي عن أحمد إلى أنّه لا يجوز ذلك , قال المالكيّة : ولا يحمله غير الطّاهر ولو على وسادةٍ أو نحوها , ككرسيّ المصحف , أو في غلافٍ أو بعلاقة , وكذا قال الشّافعيّة في الأصحّ عندهم : لا يجوز له حمل ومس خريطةٍ أو صندوقٍ فيهما مصحف , أي إن أعدّا له , ولا يمتنع مس أو حمل صندوقٍ أعدّ للأمتعة وفيه مصحف .
ولو قلّب غير المتطهّر أوراق المصحف بعود في يده جاز عند كلٍّ من الحنفيّة والحنابلة , ولم يجز عند المالكيّة على الرّاجح , وعند الشّافعيّة صحّح النّووي جواز ذلك لأنّه ليس بمسّ ولا حملٍ , قال : وبه قطع العراقيون من أصحاب الشّافعيّ .
وقال التّتائي من المالكيّة : لا يجب أن يكون الّذي يكتب القرآن على طهارةٍ لمشقّة الوضوء كلّ ساعةٍ .
ونقل عن محمّد بن الحسن أنّه كره أن يكتب المصحف المحدث ولو من غير مسٍّ باليد , لأنّه يكون ماساً بالقلم .
وفي تقليب القارئ غير المتطهّر أوراق المصحف بكمّه أو غيره من الثّياب الّتي هو لابسها عند الحنفيّة اختلاف .
قال ابن عابدين : والمنع أولى لأنّ الملبوس تابع للابسه وهو قول الشّافعيّة .(/1)
وقال الحنفيّة : لو وضع على يده منديلاً أو نحوه من حائلٍ ليس تابعاً للمصحف ولا هو من ملابس الماسّ فلا بأس به , ومنعه المالكيّة والشّافعيّة ولو استخدم لذلك وسادةً أو نحوها . على أنّه يباح لغير المتطهّر عند المانعين حمل المصحف ومسه للضّرورة , قال الشّافعيّة : يجوز للمحدث حمله لخوف حرقٍ أو غرقٍ أو تنجسٍ أو خيف وقوعه في يد كافرٍ أو خيف ضياعه أو سرقته , ويجب عند إرادة حمله التّيمم أي حيث لا يجد الماء , وصرّح بمثل ذلك المالكيّة .
من يستثنى من تحريم مسّ المصحف على غير طهارةٍ :
أ - الصّغير :
8 - ذهب الحنفيّة وهو قول عند المالكيّة إلى أنّه يجوز للصّغير غير المتطهّر أن يمسّ المصحف , قالوا : لما في منع الصّبيان من مسّه إلا بالطّهارة من الحرج , لمشقّة استمرارهم على الطّهارة , ولأنّه لو منعوا من ذلك لأدّى إلى تنفيرهم من حفظ القرآن وتعلمه , وتعلمه في حال الصّغر أرسخ وأثبت .
قال الحنفيّة : ولا بأس للكبير المتطهّر أن يدفع المصحف إلى صبيٍّ .
وذهب المالكيّة في قولٍ آخر عندهم إلى أنّ الصّغير لا يمس المصحف إلا بالطّهارة كالبالغ . وقال الشّافعيّة : لا يمنع الصّبي المميّز المحدث ولو حدثاً أكبر من مسّ ولا من حمل لوحٍ ولا مصحفٍ يتعلّم منه , أي لا يجب منعه من ذلك لحاجة تعلمه ومشقّة استمراره متطهّراً , بل يستحب .
قالوا : وذلك في الحمل المتعلّق بالدّراسة فإن لم يكن لغرض , أو كان لغرض آخر منع منه جزماً .
أمّا الصّبي غير المميّز فيحرم تمكينه من ذلك لئلا ينتهكه .
وذهب الحنابلة في المذهب إلى أنّه لا يجوز للصّبيّ مس المصحف , أي لا يجوز لوليّه تمكينه من مسّه , وذكر القاضي روايةً بالجواز وهو وجه في الرّعاية وغيرها .
وأمّا الألواح المكتوب فيها القرآن فلا يجوز على الصّحيح من المذهب عندهم مس الصّبيّ المكتوب في الألواح , وعنه يجوز , وأطلقهما في التّلخيص .
وأمّا مس الصّبيّ اللّوح أو حمله فيجوز على الصّحيح من المذهب .
ب - المتعلّم والمعلّم ونحوهما :
9 - يرى المالكيّة أنّه يجوز للمرأة الحائض الّتي تتعلّم القرآن , أو تعلّمه حال التّعليم مسّ المصحف سواء كان كاملاً أو جزءاً منه أو اللّوح الّذي كتب فيه القرآن , قال بعضهم : وليس ذلك للجنب , لأنّ رفع حدثه بيده ولا يشق , كالوضوء , بخلاف الحائض فإنّ رفع حدثها ليس بيدها , لكنّ المعتمد عندهم أنّ الجنب رجلاً كان أو امرأةً , صغيراً كان أو بالغاً يجوز له المس والحمل حال التّعلم والتّعليم للمشقّة .
وسواء كانت الحاجة إلى المصحف للمطالعة , أو كانت للتّذكر بنيّة الحفظ .
مس المحدث كتب التّفسير ونحوها ممّا فيه قرآن :
10 - اختلف الفقهاء في حكم مسّ المحدث كتب التّفسير , فذهب بعضهم إلى حرمة ذلك , وذهب غيرهم إلى الجواز .
والتّفصيل في مصطلح : ( مس ف 7 ) .
مس غير المتطهّر المصحف المكتوب بحروف أعجميّةٍ
وكتب ترجمة معاني القرآن:
11 - المصحف إن كتب على لفظه العربيّ بحروف غير عربيّةٍ فهو مصحف وله أحكام المصحف , وبهذا صرّح الحنفيّة ففي الفتاوى الهنديّة وتنوير الأبصار : يكره عند أبي حنيفة لغير المتطهّر مس المصحف ولو مكتوباً بالفارسيّة , وكذا عند الصّاحبين على الصّحيح . وعند الشّافعيّة مثل ذلك , قال القليوبي : تجوز كتابة المصحف بغير العربيّة لا قراءته بها , ولها حكم المصحف في المسّ والحمل .
أمّا ترجمة معاني القرآن باللغات الأعجميّة فليست قرآناً , بل هي نوع من التّفسير على ما صرّج به المالكيّة , وعليه فلا بأس أن يمسّها المحدث , عند من لا يمنع مسّ المحدث لكتب التّفسير .
صيانة المصحف عن الاتّصال بالنّجاسات :
12 - يحرم تنجيس المصحف , فمن ألقى المصحف في النّجاسات أو القاذورات متعمّداً مختاراً يحكم بردّته , قال الشّافعيّة : يحرم وضع أوراق المصحف على نجسٍ , ومسها بشيء نجسٍ ولو عضواً من أعضائه , ويجب غسل المصحف إن تنجّس ولو أدّى غسله إلى تلفه , ولو كان لمحجور عليه , ويحرم كتابته بشيء نجسٍ , وصرّح بمثل ذلك الحنابلة . وذكر الشّافعيّة والحنابلة أنّه يحرم مس المصحف بعضو نجسٍ قياساً على مسّه مع الحدث , أمّا إن كانت النّجاسة على عضوٍ ومسّه بعصو آخر طاهرٍ فلا يحرم , وذكر الحنابلة أيضاً أنّه يحرم كتابة القرآن بحيث يتنجّس ببول حيوانٍ أو نحو ذلك .
ويحرم كتابة المصحف في ورقٍ نجسٍ أو بمداد نجسٍ .
دخول الخلاء بمصحف :
13 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه يكره - ولا يحرم - أن يدخل الخلاء ومعه خاتم عليه اسم اللّه تعالى أو شيء من القرآن تعظيماً له , قال القليوبي : هو مكروه وإن حرم من حيث الحدث , وهو ظاهر كلام الحنابلة , لما ورد أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : « كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه » , قال في شرح المنتهى : وجزم بعضهم بتحريمه في المصحف , وقال صاحب الإنصاف : لا شكّ في تحريمه قطعاً من غير حاجةٍ .
وذهب المالكيّة إلى أنّه يحرم دخول الخلاء سواء أكان كنيفاً أو غيره بمصحف , كاملٍ أو بعض مصحفٍ , قالوا : لكن إن دخله بما فيه بعض من الآيات لا بال له - أي من حيث الكثرة - فالحكم الكراهة لا التّحريم .
قالوا : وإن خاف ضياعه جاز أن يدخل به معه بشرط أن يكون في ساترٍ يمنع وصول الرّائحة إليه , ولا يكفي وضعه في جيبه , لأنّه ظرف متّسع .
جعل المصحف في قبلة الصّلاة :(/2)
14 - يكره عند المالكيّة والحنابلة جعل المصحف في قبلة المصلّي لأنّه يلهيه , قال أحمد : كانوا يكرهون أن يجعلوا في القبلة شيئاً حتّى المصحف , لكنّ المكروه عند المالكيّة تعمد جعله في القبلة ليصلّي إليه , ولا يكره إن لم يتعمّده , كما لو كان ذاك موضعه الّذي يعلّق فيه عادةً .
ولا يكره ذلك عند الحنفيّة إن لم يكن جعله ليقرأ منه , قالوا : لأنّ الكراهة فيما يكره استقباله في الصّلاة باعتبار التّشبه بعبادها , والمصحف لم يعبده أحد , واستقبال أهل الكتاب مصاحفهم للقراءة منها لا لعبادتها , ومن هنا كره أبو حنيفة القراءة في الصّلاة من المصحف .
القراءة من المصحف في الصّلاة وغيرها :
15 - ذهب أبو حنيفة إلى أنّه ليس للمصلّي أن يقرأ من المصحف , فإن قرأ بالنّظر في المصحف فسدت صلاته مطلقاً , أي قليلاً كان ما قرأه أو كثيراً , إماماً كان أو منفرداً , وكذا لو كان ممّن لا يمكنه القراءة إلا منه لكونه غير حافظٍ .
وقد اختلف الحنفيّة في تعليل قوله , فقيل : لأنّ حمل المصحف والنّظر فيه وتقليب الأوراق عمل كثير , وقيل : لأنّه تلقّن من المصحف , فصار كما إذا تلقّن من غيره , وصحّح هذا الوجه في الكافي تبعاً لتصحيح السّرخسيّ , وعليه فلو لم يكن قادراً على القراءة إلا من المصحف فصلّى بلا قراءةٍ فإنّها تجزئه .
وذهب الصّاحبان إلى تجويز القراءة للمصلّي من المصحف مع الكراهة لما في ذلك من التّشبه بأهل الكتاب .
وذهب المالكيّة إلى أنّه يكره للمصلّي القراءة من المصحف في فرضٍ أو نفلٍ لكثرة الشّغل بذلك , لكنّ كراهته عندهم في النّفل إن قرأ في أثنائه , ولا يكره إن قرأ في أوّله , لأنّه يغتفر في النّفل ما لا يغتفر في الفرض , قال ابن قدامة : ورويت الكراهية في ذلك عن ابن المسيّب والحسن ومجاهدٍ والرّبيع .
وأجاز الحنابلة القراءة في المصحف في قيام رمضان إن لم يكن حافظاً , لما ورد عن عائشة رضي اللّه عنها في مولىً لها اسمه ذكوان كان يؤمها من المصحف , ويكره في الفرض على الإطلاق , لأنّ العادة أنّه لا يحتاج إليه فيه , ويكره للحافظ حتّى في قيام رمضان , لأنّه يشغل عن الخشوع وعن النّظر إلى موضع السجود .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ المصلّي لو قرأ في مصحفٍ ولو قلّب أوراقه أحياناً لم تبطل صلاته , لأنّ ذلك يسير أو غير متوالٍ لا يشعر بالإعراض .
أمّا في غير الصّلاة فإنّ القراءة من المصحف مستحبّة لاشتغال البصر بالعبادة , وقد ذهب بعض الفقهاء إلى تفضيل القراءة من المصحف على القراءة عن ظهر قلبٍ , لأنّه يجمع مع القراءة النّظر في المصحف , وهو عبادة أخرى , لكن قال النّووي : إن زاد خشوعه وحضور قلبه في القراءة عن ظهر قلبٍ فهو أفضل في حقّه .
اتّباع رسم المصحف الإمام :
16 - ذهب جمهور فقهاء الأمّة إلى وجوب الاقتداء في رسم المصاحف برسم مصحف عثمان رضي اللّه عنه , لكونه قد أجمع الصّحابة عليه .
سئل الإمام مالك : أرأيت من استكتب مصحفاً اليوم , أترى أن يكتب على ما أحدث النّاس من الهجاء اليوم ؟ فقال : لا أرى ذلك , ولكن يكتب على الكِتْبَة الأولى , وروي أنّه سئل عن الحروف الّتي تكون في القرآن مثل الواو والألف , أترى أن تغيّر من المصحف إذا وجدت فيه كذلك ؟ فقال : لا , قال الدّانيّ : يعني الواو والألف الزّائدتين في الرّسم المعدومتين في اللّفظ ، قال : ولا مخالف لمالك في ذلك من علماء الأمّة , وقال أحمد : تحرم مخالفة مصحف الإمام في واوٍ أو ياءٍ أو ألفٍ أو غير ذلك .
وقال البيهقيّ في شعب الإيمان : من كتب مصحفاً فينبغي أن يحافظ على الهجاء الّذي كتبوا به هذه المصاحف ولا يخالفهم فيه , ولا يغيّر ممّا كتبوا شيئاً , فإنّهم كانوا أكثر علماً وأصدق لساناً وأعظم أمانةً منّا , فلا ينبغي أن نظنّ بأنفسنا استدراكاً عليهم .
ومن هنا صرّح الحنابلة وغيرهم أنّه لا ينبغي أن يقرأ في الصّلاة بما يخرج عن مصحف عثمان كقراءة ابن مسعودٍ رضي اللّه عنه وغيرها , لأنّ القرآن ثبت بالتّواتر , وهذه لم يثبت التّواتر بها , فلا يثبت كونها قرآناً , واختلفوا في صحّة صلاته إذا قرأ بشيء منها ممّا صحّت به الرّواية , كبعض ما روي من قراءة ابن مسعودٍ رضي اللّه عنه .
وصحّح المحقّقون من أئمّة القراءة بأنّ القراءة الصّحيحة لا بدّ أن توافق رسم مصحف عثمان رضي اللّه عنه ولو احتمالاً .
والخلاف في هذه المسألة منقول عن عزّ الدّين بن عبد السّلام فقد نقل عنه الزّركشي قوله : لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسوم الأولى باصطلاح الأئمّة لئلا يوقع في تغيير الجهّال .
وتعقّبه الزّركشي بقوله : لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه لئلا يؤدّي إلى دروس العلم , وشيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاةً لجهل الجاهلين , ولن تخلو الأرض من قائمٍ للّه بالحجّة .
ونقل عن أبي بكرٍ الباقلانيّ مثل قول ابن عبد السّلام .
آداب كتابة المصحف :
17 - استحبّ العلماء كتابة المصاحف , وتحسين كتابتها وتجويدها , والتّأنق فيها . واستحبوا تبيين الحروف وإيضاحها وتفخيمها , والتّفريج بين السطور , وتحقيق الخطّ وكان ابن سيرين يكره أن تمدّ الباء من بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إلى الميم حتّى تكتب السّين , قال : لأنّ في ذلك نقصاً .
ونقلت : كراهة كتابة المصحف بخطّ دقيقٍ , وتصغير حجم المصحف عن عمر بن الخطّاب وعليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنهما .
ويحرم أن يكتب المصحف بمداد نجسٍ أو في ورقٍ أو شيءٍ نجسٍ .(/3)
ونقل أبو عبيدٍ بسنده عن ابن عبّاسٍ وأبي ذرٍّ وأبي الدّرداء رضي اللّه عنهم أنّهم كرهوا كتابته بالذّهب , ونقل السيوطيّ عن الغزاليّ أنّه استحسن كتابته بالذّهب , وأجاز البرزليّ والعدويّ والأجهوريّ من المالكيّة ذلك , والمشهور عند المالكيّة كراهة ذلك لأنّه يشغل القارئ عن التّدبر .
إصلاح ما قد يقع في كتابة بعض المصاحف من الخطأ :
18 - ينص الحنفيّة والشّافعيّة على أنّ إصلاح ما قد يقع في بعض المصاحف من الخطأ في كتابتها واجب , وإن ترك إصلاحه أثم , حتّى لو كان المصحف ليس له بل كان عاريّةً عنده , فعليه إصلاحه ولو لم يعلم رضا صاحبه بذلك , وقال ابن حجرٍ : لا يجوز ذلك إلا برضا مالكه , وقال القليوبي : محل الجواز إذا كان بخطّ مناسبٍ وإلا فلا .
النّقط والشّكل ونحو ذلك في المصاحف :
19 - نقل عن بعض السّلف من الصّحابة والتّابعين كراهة إدخال شيءٍ من النّقط ونحوه , وأمروا بتجريد المصحف من ذلك , فعن ابن مسعودٍ رضي اللّه عنه أنّه قال : جرّدوا المصحف ولا تخلطوه بشيء , وكره النّخعيّ نقط المصاحف , وكره ابن سيرين النّقط والفواتح والخواتم .
وكان المصحف العثماني خالياً من النّقط حتّى إنّ الباء والتّاء والثاء مثلاً كانت بصورة واحدةٍ لا تتميّز في الكتابة , وإنّما يعرفها القارئ بالمعنى .
والنّقط كان أوّلاً لبيان إعراب الحروف , أي حركاتها , وهو الّذي عمله أبو الأسود الدؤليّ , ثمّ استعملت علامات الشّكل الّتي اخترعها الخليل بن أحمد , واستخدم النّقط لتمييز الحروف المتشابهة بعضها عن بعضٍ كالباء والتّاء والثّاء .
وورد عن بعض التّابعين وتابعيهم التّرخيص في ذلك , قال ربيعة بن أبي عبد الرّحمن : لا بأس بشكله ، وقال مالك : لا بأس بالنّقط في المصاحف الّتي تتعلّم فيها العلماء , أمّا الأمّهات فلا .
وقال ابن مجاهدٍ والدّانيّ : لا يُشْكَل إلا ما يُشْكِل .
وقال النّووي : نقط المصحف وشكله مستحب لأنّه صيانة له من اللّحن والتّحريف , قال : وأمّا كراهة الشّعبيّ والنّخعيّ النّقط فإنّما كرهاه في ذلك الزّمان خوفاً من التّغيير فيه , وقد أمن من ذلك اليوم فلا منع .
وعلى هذا استقرّ العمل منذ أمدٍ طويلٍ في المصاحف , وأمّا في غيرها فالعمل على قول ابن مجاهدٍ والدّانيّ .
التّعشير والتّحزيب والعلامات الأخرى في المصاحف :
20 - التّعشير : أن يجعل علامةً عند انتهاء كلّ عشر آياتٍ , والتّخميس : أن يجعل علامةً عند انتهاء كلّ خمسٍ , والتّحزيب أن يجعل علامةً عند مبتدأ كلّ حزبٍ .
ومن أوّل العلامات الّتي أدخلت في المصاحف جعل ثلاث نقاطٍ عند رءوس الآي , قال يحيى ابن كثيرٍ : ما كانوا يعرفون شيئاً ممّا أحدث في المصاحف إلا النقط الثّلاث عند رءوس الآي , وقال غيره : أوّل ما أحدثوا النقط عند آخر الآي , ثمّ الفواتح والخواتم , أي فواتح السور وخواتمها , وقد أنكره بعض السّلف ( انظر : تعشير ف 3 ) , ورخّص فيه غيرهم واستقرّ العمل على إدخال تلك العلامات لنفعها لقرّاء القرآن , وأدخلت أيضاً علامات السّجدات والوقوف وأسماء السور وعدد الأجزاء وعدد الآيات وغير ذلك , لكن بوضع يميّزها عمّا هو كلام اللّه تعالى .
أخذ الأجر على كتابة المصحف :
21 - اختلف النّقل عن السّلف في أخذ الأجرة على كتابة المصحف , فقد أخرج ابن أبي داود في كتاب المصاحف عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما أنّه كره أخذ الأجرة على كتابة المصاحف , ومثله عن أيوب السّختيانيّ ومحمّد بن سيرين .
وأخرج عن سعيد بن جبيرٍ وابن المسيّب والحسن أنّهم قالوا : لا بأس بذلك .
وإلى هذا الأخير ذهب الحنفيّة , ففي الفتاوى الهنديّة : لو استأجر رجلاً ليكتب له مصحفاً وبيّن الخطّ جاز .
تحلية المصاحف :
22 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى جواز تحلية المصاحف بالذّهب والفضّة سواء كانت للرّجال أو النّساء لما في ذلك من تعظيم القرآن , لكن قال المالكيّة : إنّ الّذي يجوز تحليته جلده من خارجٍ لا كتابته بالذّهب , وأجازه بعضهم , وأجازوا أيضاً كتابته في الحرير وتحليته به .
وذهب الشّافعيّة في المعتمد عندهم إلى جواز تحلية المصحف بالفضّة مطلقاً , وبالذّهب للنّساء والصّبيان , وتحريمه بالذّهب في مصاحف الرّجال .
وذهب الحنابلة إلى كراهة تحليته بشيء من النّقدين , وهو قول أبي يوسف من الحنفيّة . وذهب الشّافعيّة في قولٍ إلى تحريم تحلية القرآن بالذّهب , وقال ابن الزّاغونيّ من الحنابلة : يحرم سواء حلاه بذهب أو فضّةٍ .
بيع المصحف وشراؤه :
23 - اختلف العلماء سلفاً وخلفاً في بيع المصاحف وشرائها , فذهب البعض إلى كراهة بيعها وشرائها تعظيماً لها وتكريماً , لما في تداولها بالبيع والشّراء من الابتذال , وهو قول المالكيّة وقول للشّافعيّة , ورويت كراهية بيعها عن ابن عمر وابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهم وسعيد بن جبيرٍ وإسحاق والنّخعيّ , قال ابن عمر : وددت أنّ الأيدي تقطع في بيعها , وورد عن عبد اللّه بن شقيقٍ أنّه قال : كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يشدّدون في بيع المصاحف .
وذهب بعض السّلف إلى إجازة بيعها , منهم محمّد بن الحنفيّة , والحسن , وعكرمة , والشّعبي , لأنّ البيع يقع على الورق والجلد وبدل عمل يد الكاتب , وبيع ذلك مباح , قال الشّعبي : لا بأس ببيع المصحف , إنّما يبيع الورق وعمل يديه .(/4)
وفرّق الشّافعيّة في الأصحّ - ونقلوه عن نصّ الشّافعيّ - والحنابلة في معتمدهم بين البيع والشّراء , فكرهوا البيع - وفي روايةٍ عند الحنابلة يحرم ويصح - وأجازوا الشّراء والاستبدال , وروي عن ابن عبّاسٍ قال : اشتر المصاحف ولا تبعها , ووجه ذلك أنّ في البيع ابتذالاً بخلاف الشّراء , ففيه استنقاذ المصحف وبذل للمال في سبيل اقتنائه وذلك إكرام , قالوا : ولا يلزم من كراهة البيع كراهة الشّراء , كشراء دور مكّة ورباعها , وشراء أرض السّواد , لا يكره , ويكره للبائع .
إجارة المصحف :
24 - ذهب الحنفيّة والحنابلة وابن حبيبٍ من المالكيّة إلى عدم جواز إجارة المصحف .
أمّا الحنفيّة فعلّة المنع عندهم أنّه ليس في القراءة في المصحف أكثر من النّظر إليه , ولا تجوز الإجارة لمثل ذلك , كما لا يجوز أن يستأجر سقفاً لينظر إلى ما فيه من النقوش أو التّصاوير , أو يستأجر كرماً لينظر فيه للاستئناس من غير أن يدخله , ومن أجل ذلك لا تجوز عندهم أيضاً إجارة سائر الكتب .
وأمّا الحنابلة في الوجه المعتمد عندهم فقد بنوا تحريم إجارته على تحريم بيعه , قالوا : ولما في إجارته من الابتذال له .
وأمّا ابن حبيبٍ فقد منع إجارته على الرّغم من أنّه يرى جواز بيعه , لأنّ الأجرة تكون كالثّمن للقرآن , أمّا بيعه فهو ثمن للورق والجلد والخطّ .
وذهب المالكيّة إلى جواز إجارة المصحف للقراءة فيه , قالوا : ما لم يقصد بإجارته التّجارة , وإلا كرهت .
ووجه الجواز عندهم أنّه نفع مباح تجوز الإعارة فيه , فجازت فيه الإجارة كسائر الكتب الّتي يجوز بيعها .
رهن المصحف :
25 - القاعدة : أنّ ما جاز بيعه جاز رهنه , وما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه , ولذا يصح رهن المصحف عند كلّ من جوّز بيعه , لأنّه يمكن بيعه واستيفاء الدّين من ثمنه , وأمّا من لم يجوّز بيعه فلا يجوز عنده رهنه لعدم الفائدة في ذلك , وهو المعتمد عند الحنابلة نصّ عليه أحمد .
وقف المصحف :
26 - يجوز وقف المصاحف للقراءة فيها عند محمّد بن الحسن , استثناءً من عدم جواز وقف المنقولات لجريان التّعارف بوقف المصاحف , وإلى قوله هذا ذهب عامّة مشايخ الحنفيّة وعليه الفتوى عندهم , وهو مقتضى قول غيرهم بجواز وقف المنقولات .
وذهب أبو حنيفة إلى عدم جواز وقفها كسائر المنقولات غير آلات الجهاد .
ثمّ إن وقفه على مسجدٍ معيّنٍ يجوز , ويقرأ به في هذا المسجد خاصّةً , نصّ عليه الحنفيّة , وفي قولٍ عندهم : لا يكون مقصوراً على هذا المسجد بعينه .
إرث المصحف :
27 - يورث المصحف على القول المفتى به عند الحنفيّة وهو مقتضى قواعد غيرهم من أنّ كلّ مملوكٍ يورث عن مالكه .
وفي قولٍ عندً الحنفيّة : لا يورث , وهو قول النّخعيّ , فلو كان للميّت ولدان أحدهما قارئ والآخر غير قارئٍ , يعطى المصحف للقارئ .
القطع بسرقة المصحف :
28 - ذهب الحنفيّة , وهو قول أبي بكرٍ والقاضي أبي يعلى من الحنابلة إلى أنّ سارق المصحف لا يقام عليه الحد , قال ابن عابدين : لأنّ آخذه يتأوّل في أخذه القراءة والنّظر فيه , ولأنّه لا ماليّة له لاعتبار المكتوب فيه وهو كلام اللّه تعالى , وهو لا يجوز أخذ العوض عنه , وإنّما يقتنى المصحف لأجله , لا لأجل أوراقه أو جلده .
ويسري ذلك عند الحنفيّة على ما على المصحف من الحلية لكونه في حكم التّابع له , وللتّابع حكم المتبوع , كمن سرق صبياً عليه ثياب قيمتها أكثر من نصابٍ فلا يقطع بها , لأنّها تابعة للصّبيّ ولا قطع في سرقته , وفي الفتاوى الهنديّة نقل عن السّراج الوهّاج : لا قطع في سرقة المصحف ولو كان عليه حلية تساوي ألف دينارٍ .
واختار أبو الخطّاب , وهو ما استظهره ابن قدامة من كلام الإمام أحمد إلى أنّه يقطع بسرقة المصحف , لعموم آية السّرقة , ولأنّه متقوّم تبلغ قيمته نصاباً فوجب القطع بسرقته , ككتب الفقه والتّاريخ وغيرها .
منع الكافر من تملك المصحف والتّصرف فيه :
29 - لا يجوز أن يشتري الكافر مصحفاً , لما في ذلك من الإهانة فإن اشتراه فالشّراء فاسد , واحتجّ الفقهاء لذلك بحديث ابن عمر : « نهى النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوّ مخافة أن تناله أيديهم » .
والشّافعيّة يرون حرمة بيع المصحف للكافر , لكن إن باعه له ففي صحّة البيع عندهم وجهان :
أظهرهما : لا يصح البيع , والثّاني : يصح ويؤمر في الحال بإزالة ملكه عنه .
قال القليوبي : ولو وكّل الكافر مسلماً بشراء مصحفٍ لم يصحّ لأنّ الملك له يقع , ولو وكّل المسلم كافراً بالشّراء صحّ لأنّه يقع للمسلم , وكذا لو قارض مسلم كافراً فاشترى الكافر مصحفاً للقراض صحّ , لأنّه للقراض , ولا ملك للمضارب فيه .
ولا تصح هبة الكافر مصحفاً ولا الوصيّة له به .
ولا يصح وقف المصحف على كافرٍ .
ويحرم أن يعطي كافراً مصحفاً عاريّةً ليقرأ فيه ويردّه , ولا تصح الإعارة , وقال الرّملي : تصح الإعارة فيه مع الحرمة .
مس الكافر المصحف وعمله في نسخ المصاحف وتصنيعها :
30 - يمنع الكافر من مسّ المصحف , كما يمنع منه المسلم الجنب , بل الكافر أولى بالمنع , ويمنع منه مطلقاً , أي سواء اغتسل أو لم يغتسل , وفي الفتاوى الهنديّة : أنّ أبا حنيفة قال : إن اغتسل جاز أن يمسّه , وحكي في البحر عن أبي حنيفة وأبى يوسف المنع مطلقاً .
ويمنع الكافر من العمل في تصنيع المصاحف , ومن ذلك ما قال القليوبي : يمنع الكافر من تجليد المصحف وتذهيبه , لكن قال البهوتيّ : يجوز أن ينسخ الكافر المصاحف دون مسٍّ أو حملٍ .
السّفر بالقرآن إلى أرض العدوّ :(/5)
31 - لا يجوز أن يخرج المسلم بالمصحف إلى بلد العدوّ الكافر , سواء كان في جهادٍ أو غيره , لئلا يقع في أيديهم فيهينوه أو يمسوه وهم على كفرهم , وإلى هذا ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة , لحديث ابن عمر رضي اللّه عنهما مرفوعاً : « لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدوّ مخافة أن تناله أيديهم » .
قال ابن عبد البرّ من المالكيّة : أجمع الفقهاء أن لا يسافر بالمصحف في السّرايا والعسكر الضّعيف المخوف عليه .
أمّا إن كان يؤمن على المصحف في ذلك السّفر من نيل العدوّ له فقد اختلف الفقهاء في ذلك , فأجاز الحنفيّة السّفر به , وذكروا من ذلك صورتين :
الأولى : أن يكون الخارج به في جيشٍ كبيرٍ يؤمن عليه فلا كراهة حينئذٍ .
الثّانية : إذا دخل إليهم مسلم بأمان , وكانوا يوفون بالعهد , جاز أن يحمل المصحف معه . وقال المالكيّة : يحرم أيضاً لنصّ الحديث ولو في جيشٍ آمنٍ , لأنّه قد يسقط منهم ولا يشعرون به فيأخذه العدو فتناله الإهانة , وقال المالكيّة أيضاً : ولو أنّ العدوّ طلب أن يرسل إليهم مصحف ليتدبّروه , حرم إرساله إليهم خشية إهانتهم له , فلو أرسل إليهم كتاب فيه آية أو نحوها لم يحرم ذلك , وقد أرسل النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى هرقل كتاباً في ضمنه الآية : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } الآية .
استثناء المصحف من جزاء الغالّ بحرق متاعه :
32 - إن غلّ أحد الغانمين في الجهاد شيئاً من الغنيمة فقد ذهب الأوزاعي والحنابلة - خلافاً للجمهور - إلى أنّه يحرق متاعه , لكن لا يحرق المصحف , لما روى صالح بن محمّد بن زائدة , قال : دخلت مع مسلمة بن عبد الملك أرض الروم , فأتي برجل قد غلّ , فسأل سالماً عنه فقال : سمعت أبي يحدّث عن عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « إذا وجدتم الرّجل قد غلّ فأحرقوا متاعه واضربوه » , قال : فوجدنا في متاعه مصحفاً , فسأل سالماً عنه فقال : بعه وتصدّق بثمنه .
الرّدّة بإهانة المصحف :
33 - إذا أهان المسلم مصحفاً متعمّداً مختاراً يكون مرتداً ويقام عليه حد الرّدّة .
وقد اتّفق الفقهاء على ذلك , فمن صور ذلك ما قال الحنفيّة : لو وطئ برجله المصحف استخفافاً وإهانةً يكون كافراً , وكذا من أمر بوطئه يكون كافراً .
ولو ألقى مصحفاً في قاذورةٍ متعمّداً قاصداً الإهانة فقد ارتدّ عند الجميع , قال الشّافعيّة : وكذا لو مسّه بالقاذورة ولو كانت طاهرةً كالبصاق والمخاط .
فإن كان ذلك عن سهوٍ أو غفلةٍ أو في نومٍ لم يكفر .
وكذا إن كان مكرهاً أو مضطراً ففعله لا يكفر .
الحلف بالمصحف :
34 - يرى الحنفيّة أنّ الحلف بالمصحف ليس بيمين لأنّه الورق والجلد وليس صفةً للّه تعالى ولا اسماً له , وقد قال النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « من كان حالفاً فلا يحلف إلا باللّه » .
وعلى هذا لو حلف به لا تنعقد يمينه وليس فيها كفّارة إن لم يف , وقال ابن عابدين : إن تعارف النّاس الحلف بالمصحف ورغب العوام في الحلف به لم يكن يميناً أيضاً , وإلا لكان الحلف بالنّبيّ والكعبة يميناً لأنّه متعارف , وكذا بحياة رأسك ونحوه , ولم يقل بذلك أحد , قال ابن عابدين : لكن لو أقسم بما في هذا المصحف من كلام اللّه تعالى يكون يميناً .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الحلف بالمصحف يمين .
قال النّووي في الرّوضة : يندب وضع المصحف في حجر الحالف به وأن يقرأ عليه : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً } .
وقال ابن قدامة : ولم يكره ذلك إمامنا وإسحاق لأنّ الحالف بالمصحف إنّما قصد الحلف بالمكتوب فيه وهو كلام اللّه تعالى , ونقل عن قتادة أنّه كان يحلف بالمصحف .
آداب تناول المصحف وتكريمه وحفظه :
35 - اختلف العلماء في تقبيل المصحف فقيل : هو جائز , وقيل : يستحب تقبيله تكريماً له , وقيل : هو بدعة لم تعهد عن السّلف , وانظر : ( تقبيل ف 17 ) .
وأمّا القيام للمصحف فقال النّووي وصوّبه السيوطيّ : يستحب القيام للمصحف إذا قدم به عليه , لما فيه من التّعظيم وعدم التّهاون به , ولأنّ القيام مستحب للفضلاء من العلماء والأخيار , فالمصحف أولى , وقال الشّيخ عز الدّين بن عبد السّلام : هو بدعة لم تعهد في الصّدر الأوّل .
وذكر العلماء أنواعاً من تكريم المصحف :
فمن ذلك تطييبه , وجعله على كرسيٍّ لئلا يوضع بالأرض , وإن كان معه كتب أخرى يوضع فوقها ولا يوضع تحت شيءٍ منها .
وأمّا توسد المصحف فقال الشّافعيّة والحنابلة : يحرم توسد المصحف لأنّ ذلك ابتذال له , وأضاف الشّافعيّة : ولو خاف سرقته أي فالحكم كذلك .
وقال الحنفيّة : يكره وضع المصحف تحت رأسه إلا لحفظه من سارقٍ وغيره .
وأمّا مد رجليه إلى جهة المصحف فقال الحنفيّة - كما ذكر ابن عابدين - يكره تحريماً مد رجليه أو رجلٍ واحدةٍ , سواء كان من البالغ أو الصّبيّ عمداً ومن غير عذرٍ .
وفي الفتاوى الهنديّة : مد الرّجلين إلى جانب المصحف إن لم يكن بحذائه لا يكره , وكذلك لو كان المصحف معلّقاً في الوتد .
وقال الشّافعيّة : يجوز مد رجله إلى جهة المصحف لا بقصد الإهانة في ذلك .
وقال الحنابلة : يكره مد الرّجلين إلى جهة المصحف .
ما يصنع بالمصحف إذا بلي :(/6)
36 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ المصحف إذا بلي وصار بحال لا يقرأ فيه يجعل في خرقةٍ طاهرةٍ ويدفن في محلٍّ غير ممتهنٍ لا يوطأ , كما أنّ المسلم إذا مات يدفن إكراماً له , وقال الحنفيّة : ولا يهال عليه التراب إلا إذا جعل فوقه سقف بحيث لا يصل إليه التراب .
وقالوا : ولا يجوز إحراقه بالنّار , ونقل ذلك عن إبراهيم النّخعيّ , ووافقهم القاضي حسين من الشّافعيّة , وقال النّووي : يكره ذلك .
وقال المالكيّة : يجوز إحراقه , بل ربّما وجب , وذلك إكرام له , وصيانة عن الوطء بالأقدام , قال القرطبي من المالكيّة : قد فعله عثمان رضي اللّه عنه حين كتب المصاحف وبعث بها إلى الأمصار , فقد أمر بما سواها من صحيفةٍ أو مصحفٍ أن يحرق , ووافقه الصّحابة رضوان اللّه عليهم على ذلك .
وقال الحنابلة : لو بلي المصحف أو اندرس دفن نصاً , ذكر أحمد أنّ أبا الجوزاء بلي له مصحف فحفر له في مسجده فدفنه , وفي البخاريّ أنّ الصّحابة حرّقته لمّا جمعوه , وقال ابن الجوزيّ ذلك لتعظيمه وصيانته , وذكر القاضي أنّ أبا بكر بن أبي داود روى بإسناده عن طلحة بن مصرّفٍ قال : دفن عثمان المصاحف بين القبر والمنبر , وبإسناده عن طاووسٍ أنّه لم يكن يرى بأساً أن تحرق الكتب , وقال : إنّ الماء والنّار خلق من خلق اللّه .(/7)
منىً *
التّعريف :
1 - مِنىً بالكسر والتّنوين : بليدة على فرسخ من مكّة المكرّمة , سمّيت بذلك لما يمنى بها من الدّماء , أي : يراق , وحدها : ما بين وادي محسّر وجمرة العقبة وهي شعب طوله نحو ميلين , وعرضه يسير , والجبال محيطة به : ما أقبل منها عليه فهو من منىً , وما أدبر منها فليس من منىً .
ويرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ وادي محسّر وجمرة العقبة ليسا من منىً , وقال المالكيّة : إنّ جمرة العقبة من منىً , وباقي العقبة ليس منها , وقيل : إنّ العقبة كلّها من منىً .
الأحكام المتعلّقة بمنى :
منىً من شعائر اللّه , يؤدّي الحجّاج فيها عدداً من مناسك الحجّ , وهي :
رمي الجمار :
2 - ترمى جمرة العقبة يوم النّحر بعد دفع الحجّاج من مزدلفة إلى منىً , ثمّ ترمى الجمار الثّلاث في أيّام التّشريق بعده , وترمى كل جمرة بسبع حصياتٍ , والرّمي واجب من واجبات الحجّ .
وللتّفصيل أنظر مصطلح ( حجٌّ ف / 59 - 66 ) .
ذبح الهدي يوم النّحر :
3 - يجوز ذبح الهدي في مكّة والحرم , لكن في منىً أفضل , إلّا ما يذبح في فدية الأذى فيجب ذبحه في مكّة عند الجمهور .
وللتّفصيل أنظر مصطلح ( حرم ف / 26 ، و حجٌّ ف / 82 ، و هديٌ ) .
الحلق والتّقصير لشعر الرّأس :
4 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ الحلق أو التّقصير لشعر الرّأس واجب من واجبات الحجّ . وذهب الشّافعيّة في الرّاجح عندهم إلى أنّه ركن من أركان الحجّ .
وأكثر ما يفعله الحجّاج في منىً , للإسراع في التّحلل , والسنّة عند الجمهور فعله في الحرم أيّام النّحر .
وذهب أبو حنيفة إلى أنّ الحلق أو التّقصير يختص بمنطقة الحرم وأيّام النّحر .
ر : ( حجٌّ ف / 67 - 68 ) .
المبيت بمنى ليلة يوم عرفة :
5 - يسن للحاجّ أن يخرج من مكّة إلى منىً يوم التّروية " الثّامن من ذي الحجّة " بعد طلوع الشّمس فيصلّي خمس صلواتٍ وهي : الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر , ثمّ يخرج إلى عرفة بعد طلوع الشّمس , وكل ذلك سنّة اتّفاقاً .
ر : ( حجٌّ ف / 97 ) .
المبيت بمنى ليالي أيّام التّشريق :
6 - ذهب جمهور الفقهاء , ومنهم المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وعروة وإبراهيم وعطاء إلى وجوب المبيت بمنى ليالي أيّام التّشريق .
ويلزم الفداء لمن تركه بغير عذر , وهو دم لترك جلّ ليلة فأكثر عند المالكيّة , ولتركه كلّه عند الشّافعيّة والحنابلة , ولترك ليلة مد , ولترك ليلتين مدّان عند الشّافعيّة والحنابلة . وذهب الحنفيّة إلى أنّ المبيت بمنى سنّة , وروي ذلك عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما والحسن .
وقد استدلّ الجمهور بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ العبّاس بن عبد المطّلب رضي الله عنه « استأذن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكّة ليالي منىً من أجل سقايته , فأذن له » ولولا أنّه واجب لما احتاج إلى إذن .
وبحديث عائشة رضي الله عنها : « أفاض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلّى الظهر , ثمّ رجع إلى منىً , فمكث بها ليالي أيّام التّشريق » , وفعله صلى الله عليه وسلم يدل بظاهره على الوجوب هنا .
وجعل الحنفيّة هذه دلالةً على السنّيّة .
والتّفصيل في ( حجٌّ ف / 69 , 44 - 46 , 128 ) .
شروط المبيت بمنى :
7 - للمبيت في منىً شروط هي :
أ - سبق الإحرام بالحجّ , لأنّه أصل كلّ أعمال الحجّ .
ب - سبق الوقوف بعرفة , لأنّ المبيت مرتّب عليه , ولأنّه لا حجّ بلا وقوف .
ج - الزّمان , وهو ليالي أيّام التّشريق الثّلاثة لمن تأخّر , والأولى والثّانية لمن تعجّل فرمى الجمار الثّلاث وغادر منىً قبل غروب ثاني أيّام التّشريق , أو قبل فجر ثالثها , على تفصيل في ذلك .
انظر مصطلح ( رميٌ ف / 6 ) .
د - المكان : وهو منىً في الحدود المقرّرة لها .
ركن المبيت بمنى :
8 - ركن المبيت هو مكث أكثر اللّيل , فإذا مكث بمنى مدّةً تزيد على نصف اللّيلة فقد أدّى واجب المبيت .
( ر : حجٌّ ف / 128 ) .
الإعفاء من المبيت بمنى :
9 - يسقط المبيت بمنى عن ذوي الأعذار كأهل السّقاية ورعاء الإبل والمرضى ومن في حكمهم .
على تفصيل ينظر في مصطلح ( حجٌّ ف / 128 ) .
مستحبّات المبيت بمنى :
10 - يستحب للحاجّ أيّام منىً الإكثار من الذّكر والدعاء والتّكبير , لما جاء في الحديث :
« أيّام التّشريق أيّام أكل وشرب وذكر اللّه » .
أي هي أيّام إفطار لا يجوز الصّيام فيها , وأيّام إكثار من ذكر اللّه تعالى بأنواع الذّكر .(/1)
مَبارِك الإِبل *
التّعريف :
1 - المبارك جمع مبركٍ , وهو موضع البروك , يقال : برك البعير بروكاً : وقع على بركه وهو صدره , ويقال : أبركته أنا , والأكثر : أنخته فبرك .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ , وبعض الفقهاء يسوون بين المبارك والمعاطن .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - المرابض :
2 - المرابض جمع مربضٍ , وهو مأوى الغنم , وهو كالمبرك للإبل .
والصّلة بينهما المغايرة والمباينة .
ب - المرابد :
3 - المرابد , جمع مِربد , بوزن مِقود , وهو موقف الإبل , أو الّذي تحبس فيه الإبل والمربد أعم من المبرك .
الأحكام المتعلّقة بمبارك الإبل :
أ - الصّلاة في مبارك الإبل :
4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الصّلاة في مبارك الإبل مكروهة ولو طاهرةً أو فرشت بفراش طاهرٍ , وعن أحمد روايتان : إحداهما أنّ الصّلاة لا تصح فيها بحال , وتلزم الإعادة إن صلّى فيها , والرّواية الثّانية كالجمهور والصّلاة صحيحة , ما لم تكن المبارك نجسةً . والتّفصيل في مصطلح : ( صلاة ف 105 ) .
ب - علّة النّهي عن الصّلاة في مبارك الإبل :
5 - قال الحنفيّة والشّافعيّة : علّة النّهي عن الصّلاة في مبارك الإبل ما في الإبل من النفور , فربّما نفرت وهو في الصّلاة فتؤدّي إلى قطعها , أو أذىً يحصل منها , أو تشوش الخاطر الملهي عن الخشوع في الصّلاة .
وقال المالكيّة : النّهي تعبدي لا لعلّة معقولةٍ , وهو قول عند الحنابلة , وفي قولٍ عندهم : إنّ المنع معلّل بأنّها مظنّة للنّجاسات , لأنّ البعير البارك كالجدار يمكن أن يستتر به ويبول , وهذا لا يتحقّق في حيوانٍ سواها , لأنّه في حالٍ ربضه يستر , وفي حال قيامه لا يثبت , ولا يستر , وقد ورد أنّ ابن عمر رضي الله عنهما : أناخ راحلته , مستقبل القبلة ثمّ جلس يبول إليها .(/1)
مَبْطُون *
التّعريف :
1 - المبطون في اللغة : هو عليل البطن ، من البطَن بفتح الطّاء يقال : بطِن - بكسر الطّاء - بطناً إذا أصابه مرض البطن ، ويقال بُطِنَ بصيغة البناء للمفعول : اعتلّ بطنه فهو مبطون .
وفي الاصطلاح : قال النّووي : المبطون صاحب داء البطن وهو الإسهال وقيل : هو الّذي به الاستسقاء وانتفاخ البطن وقيل : هو الّذي يشتكي بطنه وقيل : هو الّذي يموت بداء بطنه مطلقاً ، أي شاملاً لجميع أمراض البطن ، وقال ابن عبد البرّ : قيل هو صاحب الإسهال ، وقيل : إنّه صاحب القولنج والبطين : العظيم البطن .
الحكم الإجمالي :
2 - المبطون مريض ومعذور فتجري عليه أحكام المرضى وأصحاب الأعذار .
وتفصيل ذلك في مصطلحات : ( مرض وتيسير ف 32 ) .
وقد نصّ الفقهاء على عدّ المبطون شهيداً إذا مات في بطنته لقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : « الشهداء خمسة : المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشّهيد في سبيل اللّه عزّ وجلّ » .
وقسّموا الشهداء إلى أقسامٍ ثلاثةٍ :
الأوّل : شهيد الدنيا والآخرة .
والثّاني : شهيد الدنيا .
والثّالث : شهيد الآخرة .
واتّفقوا على أنّ المبطون من شهداء الآخرة .
واتّفقوا على تغسيل المبطون مع عدّه شهيداً .
والتّفصيل في مصطلح : ( شهيد ف 3 ،5 وتغسيل الميّت ف 21 ) .(/1)
مَحَلّ *
التّعريف :
1 - المحَل في اللغة : - بفتح الحاء - مصدر ميمي , وهو المكان الّذي يحل فيه , ومنه محل الإعراب في النّحو وهو ما يستحقه اللّفظ الواقع فيه من الإعراب لو كان معرباً . والمحِل - بكسر الحاء - المكان الّذي يحل فيه , والأجل , فمحل الدّين أجله , ومحل الهدي يوم النّحر .
وقال الزّمخشريّ : في قوله تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } أي وجوب نحرها , أو وقت وجوب نحرها في الحرم منتهيةً إلى البيت .
والمحلّة : المكان ينزله القوم .
وفي الاصطلاح : يذكر الفقهاء أنّ المحلّ - بكسر الحاء - هو الوقت والأجل , وبفتح الحاء الموضع والمكان , كما يطلق على الشّيء الّذي يقع عليه التّصرف .
ما يتعلّق بالمحلّ من أحكامٍ :
أولا : المحل بمعنى الموضع والمكان :
يأتي المحل بهذا المعنى في عدّة مواضع منها :
أ - تطهير محلّ النّجاسة :
2 - اختلف الفقهاء فيما يحصل به طهارة محلّ النّجاسة :
فذهب الحنفيّة إلى التّفريق بين النّجاسة المرئيّة وغير المرئيّة , فإذا كانت مرئيّةً طهر المحل المتنجّس بها بزوال عينها , وإذا كانت غير مرئيّةٍ طهر المحل بغسلها ثلاثاً وجوباً مع العصر كلّ مرّةٍ .
وذهب المالكيّة إلى أنّ محلّ النّجاسة يطهر بغسله من غير تحديد عددٍ مع زوال طعم النّجاسة ولو عسر , وزوال اللّون والرّيح إن تيسّر .
وفرّق الشّافعيّة بين أن تكون النّجاسة عيناً أو ليست بعين .
فإن كانت النّجاسة عيناً وجب بعد زوال عينها إزالة الطّعم , فإن عسر زواله بحتّ أو قرصٍ ثلاث مرّاتٍ عفي عنه ما دام العسر , ويجب إزالته إذا قدر , ولا يضر بقاء اللّون أو الرّيح إن تعسّر زوالهما .
وذهب الحنابلة إلى أنّه تطهر المتنجّسات بسبع غسلاتٍ منقيةٍ .
والتّفصيل في مصطلح : ( طهارة ف 11 ) .
ب - في الوضوء :
2 - الأصل أنّه يجب غسل أو مسح محلّ الفرض في الوضوء , كما يسن غسل أو مسح ما هو سنّة , وهذا أصل متّفق عليه .
وقد اختلف الفقهاء فيما يشمله محل الفرض أو السنّة :
ويسن عند جمهور الفقهاء الزّيادة على محلّ الفرض في الوضوء في اليدين والرّجلين لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ أمّتي يأتون يوم القيامة غراً محجّلين من أثر الوضوء , فمن استطاع منكم أن يطيل غرّته فليفعل » .
وقال المالكيّة : يكره الزّيادة على محلّ الفرض لأنّه من الغلوّ في الدّين .
وتفصيل أحكام محلّ الوضوء ينظر في مصطلح : ( وضوء ) .
ج - النّظر إلى محلّ السجود في الصّلاة :
4 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يسن للمصلّي أن ينظر إلى موضع سجوده في جميع صلاته لقول أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : كان أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم إلى السّماء في الصّلاة , فلمّا أنزل اللّه تعالى : { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } رمقوا بأبصارهم إلى موضع سجودهم , لأنّ جمع النّظر في موضعٍ أقرب إلى الخشوع , وموضع سجودهم أشرف وأسهل .
قال أحمد في رواية حنبلٍ : الخشوع في الصّلاة أن يجعل نظره إلى موضع سجوده , وروي ذلك عن مسلمة بن يسارٍ وقتادة .
قال الشّافعيّة : وهذا في غير صلاة الجنازة , أمّا في صلاة الجنازة فإنّه ينظر إليها . واستثنى الشّافعيّة من النّظر إلى موضع السجود في الصّلاة حالة التّشهد , فإنّ السنّة إذا رفع مسبّحته أن لا يجاوز بصره إشارته .
قال الخطيب الشّربيني : وعن جماعةٍ أنّ المصلّي في المسجد الحرام ينظر إلى الكعبة , لكن صوّب البلقينيّ أنّه كغيره , وقال الإسنوي : إنّ استحباب نظره إلى الكعبة في الصّلاة وجه ضعيف .
وجزم البغويّ والمتولّي بأنّ المصلّي ينظر في القيام إلى موضع سجوده , وفي الركوع إلى ظهر قدميه , وفي السجود إلى أنفه , وفي القعود إلى حجره , لأنّ امتداد البصر يلهي فإذا قصّر كان أولى .
وقد روي عن بعض الصّحابة أنّه قال : « قلت يا رسول اللّه : أين أجعل بصري في الصّلاة ؟ قال : موضع سجودك , قال : قلت يا رسول اللّه , إنّ ذلك لشديد , لا أستطيع ؟ قال : ففي المكتوبة إذاً » .
واستثنى الحنابلة من النّظر إلى موضع السجود ما إذا كان المصلّي في صلاة خوفٍ ونحوه , كخائف ضياع مالٍ ونحوه , فينظر إلى جهة العدوّ وإلى جهة ماله لحاجته إلى ذلك دفعاً للضّرر .
وعدّ الحنفيّة النّظر إلى موضع السجود وغيره من الآداب , جاء في الدرّ المختار : من آداب الصّلاة نظر المصلّي إلى موضع سجوده حال قيامه , وإلى ظهر قدميه حال ركوعه , وإلى أرنبة أنفه حال سجوده , وإلى حجره حال قعوده , وإلى منكبه الأيمن عند التّسليمة الأولى , وإلى منكبه الأيسر عند التّسليمة الثّانية وذلك لتحصيل الخشوع .
قال ابن عابدين : إذا كان في هذه المواضع ما ينافي الخشوع فإنّه يعدل إلى ما يحصل فيه الخشوع , ثمّ نبّه ابن عابدين إلى أنّ المنقول في ظاهر الرّواية أن يكون منتهى بصره في صلاته إلى محلّ سجوده .
وقال المالكيّة على ما جاء في منح الجليل والخرشيّ : يكره النّظر إلى موضع سجوده لتأديته لانحنائه برأسه وإنّما يجعل بصره أمامه , قال ابن رشدٍ : الّذي ذهب إليه مالك أن يكون بصر المصلّي أمام قبلته من غير أن يلتفت إلى شيءٍ أو ينكس رأسه , وهو إذا فعل ذلك خشع بصره ووقع في موضع سجوده على ما جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وليس بضيّق عليه أن يلحظ بصره الشّيء من غير التفاتٍ إليه , فقد جاء ذلك عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم .(/1)
وقال ابن العربيّ : قال مالك : ينظر أمامه فإنّه إذا أحنى رأسه ذهب بعض القيام المفروض عليه في الرّأس وهو أشرف الأعضاء , وإن أقام رأسه وتكلّف النّظر ببعض بصره إلى الأرض فتلك مشقّة عظيمة وحرج , وإنّما أمرنا أن نستقبل جهة الكعبة , وإنّما المنهي عنه أن يرفع المصلّي رأسه إلى السّماء لأنّه إعراض عن الجهة الّتي أمر بالنّظر إليها , لما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السّماء في الصّلاة أو لا ترجع إليهم » .
لكن بعض فقهاء المالكيّة جعل نظر المصلّي إلى موضع سجوده من المستحبّات .
د - اشتراط المحرم التّحلل في محلّ الإحصار :
5 - اختلف الفقهاء في مشروعيّة الاشتراط في الإحرام , وهو أن يقول المحرم عند الإحرام : إنّي أريد الحجّ أو العمرة , فإن حبسني حابس فمحلّي حيث حبستني .
فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الاشتراط في الإحرام غير مشروعٍ , ولا أثر له في إباحة التّحلل .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى مشروعيّة الاشتراط في الإحرام وأنّ له أثراً في التّحلل . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( إحصار ف 45 وما بعدها ) .
هـ - في الوديعة :
5 - قال المالكيّة : يضمن المودَع الوديعة إن سافر وأودعها لغير زوجةٍ , إلا إذا كان يخشى ضياعها ببقائها في محلّها كانهدام الدّار ومجاورة من يخشى شرّه , ولا تضمن إن سافر بالوديعة وردّها لمحلّ إيداعها ثمّ تلفت .
ويجوز للمودع أخذ أجرة المحلّ الّذي تحفظ فيه .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( وديعة ) .
ثانياً : المحل بمعنى الأجل والزّمان :
يأتي المحل بهذا المعنى في عدّة مواضع منها :
أ - في السّلم :
7 - من شروط السّلم أن يكون الأجل فيه معلوماً والمسلم فيه مقدور التّسليم عند الأجل , وقد عبّر بعض الفقهاء - كالشّافعيّة والحنابلة - عن أجل التّسليم ووقت حلوله بالمحلّ . والتّفصيل في : ( سلم ف 23 وما بعدها ) .
بـ - في الشفعة :
8 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة في الأظهر الجديد إلى أنّه لو بيعت دار بثمن مؤجّلٍ إلى أجلٍ معلومٍ فإنّه لا يحق للشّفيع أن يأخذ في الحال بالثّمن المؤجّل , وإنّما هو مخيّر بأن يعجّل الثّمن للمشتري ويأخذ المشفوع فيه في الحال , أو يصبر إلى المحلّ - وهو وقت الحلول - ويأخذ عند ذلك , وليس له أن يأخذها في الحال بثمن مؤجّلٍ , قال الحنفيّة : لأنّ الشّفيع إنّما يأخذ بما وجب بالبيع , والأجل لم يجب بالبيع , وإنّما وجب بالشّرط , والشّرط لم يوجد في حقّ الشّفيع , وقال الشّافعيّة : لو جوّزنا له الأخذ في الحال بالثّمن المؤجّل لأضررنا بالمشتري لأنّ الذّمم تختلف , وإن ألزمناه الأخذ في الحال بنظيره من الحال أضررنا بالشّفيع , لأنّ الأجل يقابله قسط من الثّمن , فكان ذلك دافعاً للضّررين وجامعاً للحقّين . وروي عن أبي يوسف في شراء الدّار بثمن مؤجّلٍ : أنّه يجب على الشّفيع أن يطلب الشفعة عند علمه بالبيع , فإن سكت إلى محلّ الأجل فذلك تسليم منه , ثمّ رجع وقال : إذا طلب عند حلّ الأجل فله الشفعة .
وذهب المالكيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة إلى أنّه إن كان الثّمن عن الشّقص المشفوع مؤجّلاً إلى أجلٍ معلومٍ فللشّفيع أن يأخذه بالأجل إن كان مليئاً , فإن كان معسراً أقام كفيلاً مليئاً وأخذه بالثّمن المؤجّل , لأنّ الشّفيع يستحق الأخذ بقدر الثّمن وصفته والتّأجيل من صفته .
قال المالكيّة : فإن لم يكن الشّفيع موسراً ولا ضمنه مليء فإنّه لا شفعة له , إلا أن يعجّل الثّمن على ما اختاره اللّخميّ إلا إذا كان الشّفيع مثل المشتري في العدم , فإنّه يأخذ بالشفعة إلى ذلك الأجل .
وعند الشّافعيّة : إذا كان الثّمن مؤجّلاً ورضي المشتري بدفع الشّقص وتأجيل الثّمن إلى محلّه وأبى الشّفيع إلا الصّبر إلى المحلّ بطلت الشفعة على الأصحّ .
ج - في الرّهن :
9 - قال الشّافعيّة : لو شرط المرتهن كون المرهون مبيعاً له عند حلول الدّين فسد الرّهن لتأقيته وفسد البيع لتعليقه , والمرهون في هذه الصورة قبل المحلّ - أي وقت الحلول - أمانة , لأنّه مقبوض بحكم الرّهن الفاسد , وبعده مضمون بحكم الشّراء الفاسد .
وقال الحنابلة : لا يصح البيع إن رهن شيئاً واتّفق مع المرتهن أنّه إن جاءه بحقّه في محلّه - أي حلول أجله - وإلا فالرّهن للمرتهن لحديث : « لا يغلق الرّهن من صاحبه . . . » . ولأنّه بيع معلّق على شرطٍ .
ثالثاً : المحل بمعنى الشّيء الّذي يقع عليه التّصرف :
10 - محل العقد ما يقع عليه العقد وتظهر فيه أحكامه وآثاره ويختلف باختلاف العقود فقد يكون المحل عيناً ماليّةً كالمبيع والموهوب والمرهون , وقد يكون المحل عملاً كعمل الأجير والزّارع والوكيل , وقد يكون منفعةً كمنفعة المأجور والمستعار , وقد يكون غير ذلك كما في النّكاح والكفالة ونحوها .
وللمحلّ شروط مختلفة تفصيلها في مصطلح : ( عقد ف 33 - 42 ) .
أثر فوات المحلّ :
11 - يترتّب على فوات محلّ التّصرف بطلانه أو الضّمان , ولذلك فروع وأحوال مختلفة تفصيلها في مصطلحات : ( بيع ف 59 ، وعقد ف 60 ، وفسخ ف 17 ، وضمان ف 19 وما بعدها ) .(/2)
مَحْرَم *
التّعريف :
1 - المحرم في اللغة : الحرام , والحرام : ضد الحلال , ويقال : هو ذو محرمٍ منها : إذا لم يحلّ له نكاحها ورحم محرم : محرّم تزوجها , وفي المعجم الوسيط : المحرم : ذو الحرمة . ومن النّساء والرّجال الّذي يحرم التّزوج به لرحمه وقرابته وما حرّم اللّه تعالى , والجمع محارم .
وفي الاصطلاح : المحرم من لا يجوز له مناكحتها على التّأبيد بقرابة أو رضاعٍ أو صهريّةٍ . الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الرّحم :
2 - الرّحِم في اللغة - بكسر الحاء وتسكينها - وهو في الأصل : موضع تكوين الجنين ووعاؤه في البطن , ثمّ أطلق على القرابة وأسبابها , وعلى الأقارب الّذين ليسوا من العصبة ولا من ذوي الفروض , كبنات الإخوة وبنات الأعمام , وهو يذكّر ويؤنّث , وجمعه أرحام . ولأنّ الرّحم نوعان : محرم , وغير محرمٍ , فهو إذاً أعم من محرمٍ .
( ر : أرحام ف 1 ) .
ب - القريب :
3 - القريب في اللغة : الدّاني في المكان أو الزّمان أو النّسب .
والجمع أقرباء وقرابى , وفي مختار الصّحاح : القرابة والقربى : القرب في الرّحم .
أمّا في الاصطلاح : فقد تعدّدت اتّجاهات الفقهاء في تعريف القرابة وتفصيلها في مصطلح : ( قرابة ف 1 ) .
والصّلة بين القريب والمحرم العموم والخصوص .
ج - النّسب :
4 - النّسب : القرابة , ويقال : نسبه في بني فلانٍ ، هو منهم ، والجمع أنساب .
ويقال : رجل نسيب : شريف معروف حسبه وأصوله .
وهو نسيبه أي قريبه .
وفي اصطلاح الفقهاء : النسب هو القرابة والرحم .
وقصره بعضهم على غير ذوي الأرحام ، وحصره آخرون في البنوّة والأبوّة والأخوّة والعمومة وما تناسل منها .
( ر : قرابة ف 2 ) .
ويمكن القول أن بين " نسب " و " محرم " عموم وخصوص وجهي ، فالنّسب أحد أسباب التحريم أو المحرمية بين الرجل و المرأة ،أي أنهما – النّسب ، المحرم – يلتقيان في هذا الجانب ، ثمّ يفترقان فيما عداه ، على اعتبار أنّ النّسب أو القرابة النسبية أعم من المحرم وأقوى ، ولذلك لا يقاس المحرم بالرّضاع على النّسب في جميع أحكامه .
والمحرم من جانب آخر أعم من النّسب ، ذلك أنّ التحريم كما يكون بسبب لحمة النّسب أو قرابة الدّم يكون كذلك بالرّضاع والمصاهرة .
د – الرضاع :
5 – الرّضاع في الّلغة : اسم لمص الثّدي أو الضّرع ، يقال : رضع أمّه رضعاً ورضاعاً ورضاعة : امتص ثديها أو ضرعها .
ويقال : بينهما رضاع الّلبن : إخوة من الرضاع ، وفلان رضيعي : أخي من الرّضاع .
وفي الاصطلاح : يطلق الرّضاع على مصّ الرّضيع الّلبن من ثدي أمّه بشرائط مخصوصة ، أو هو اسم لوصول لبن امرأة أو ما حصل من لبنها في جوف طفل بشروط مخصوصة .
( ر : قرابة ف 6 ) .
والصلة بين الرّضاع والمحرم السببيّة ، فإنّ الرّضاع من أسباب التّحريم .
هـ - الصّهر :
6 – الصهر : القريب بالزّواج ، وجمعه أصهار ، كما يطلق على المصاهرة ،وفي التنزيل العزيز : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً } .
ولا يخرج الصّهر في الاصطلاح عن معناه الّلغوي .
والعلاقة بين الصّهر والمحرم : أنّ الصّهر أنّ الصّهر أحد المحارم .
ما يتعلّق بالمحرم من أحكامٍ :
تتّصل بالمحرم أحكام كثيرة , وهي تختلف بحسب موضوعها أو متعلّقها , وبيان ذلك فيما يلي :
أسباب المحرميّة :
7 - سبب المحرميّة إمّا قرابة النّسب , أو الرّضاع , أو المصاهرة وثمّة اختلاف حول ثبوت حرمة المصاهرة بالزّنا , حتّى المس بشهوة .
وهناك من فرّق أيضاً بين النّكاح الصّحيح والنّكاح الفاسد في ثبوت هذه الحرمة أو عدم ثبوتها .
النّظر إلى المحرم :
8 - أباح الفقهاء نظر الرّجل إلى مواضع الزّينة من المحرم , لقوله تعالى : { وَََلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إََِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } .
أمّا حدود الزّينة الّتي يحل النّظر إليها ولمسها , فقد ذهب الفقهاء إلى حرمة النّظر إلى ما بين السرّة والركبة للمحارم , وما عدا ذلك اختلفوا فيه على أقوالٍ تفصيلها في مصطلح : ( عورة ف 6 ) .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه يجوز للرّجل أن ينظر من محرمه إلى الرّأس والوجه والصّدر والسّاق والعضد إن أمن شهوته , وشهوتها أيضاً , وأصله قوله تعالى : { وَََلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إََِلا لِبُعُولَتِهِنَّ ... } الآية ، وتلك المذكورات مواضع الزّينة , بخلاف المظهر ونحوه .
قال في الفتاوى الهنديّة : ولا بأس للرّجل أن ينظر من أمّه وابنته البالغة وأخته وكلّ ذي رحمٍ محرمٍ منه كالجدّات والأولاد وأولاد الأولاد والعمّات والخالات إلى شعرها وصدرها وذوائبها وثديها وعضدها وساقها , ولا ينظر إلى ظهرها وبطنها , ولا إلى ما بين سرّتها إلى أن يجاوز الركبة وكذلك كل ذات محرمٍ برضاع أو مصاهرةٍ كزوجة الأب والجدّ وإن علا , وزوجة الابن وأولاد الأولاد وإن سفلوا , وابنة المرأة المدخول بها , فإن لم يكن دخل بأمّها فهي أجنبيّة .
وإنّ كانت حرمة المصاهرة بالزّنى اختلفوا فيها :
قال بعضهم : لا يثبت فيها إباحة النّظر والمسّ .
وقال السّرخسي : تثبت إباحة النّظر والمسّ لثبوت الحرمة المؤبّدة كذا في فتاوى قاضيخان وهو الصّحيح كذا في المحيط .(/1)
أمّا المالكيّة فيرون جواز النّظر من المحرم إلى الذّراعين والشّعر وما فوق النّحر وأطراف القدمين , ففي شرح الزرقانيّ : وعورة الحرّة مع رجلٍ محرمٍ لها نسباً أو صهراً أو رضاعاً غير الوجه والأطراف أيّ أطراف الذّراعين والقدمين وما فوق النّحر , وهو شامل لشعر الرّأس والذّراع من المنكب إلى طرف الأصبع الوسطى , فليس له أن يرى ثديها ولا صدرها ولا ساقها بخلاف شعرها , وترى المرأة من المحرم نسباً أو صهراً أو رضاعاً مسلماً أو كافراً كرجل مع مثله , فترى ما عدا ما بين السرّة والركبة .
وقال المالكيّة أيضاً : لا يجوز ترداد النّظر وإدامته إلى شابّةٍ من محارمه أو غيرهنّ إلا لحاجة أو ضرورةٍ كشهادة ونحوها , ويقيّد أيضاً بغير شهوةٍ وإلا حرم حتّى لبنته وأمّه .
أما الشّافعيّة فيجوز عندهم النّظر إلى جميع البدن - عدا ما بين السرّة والركبة - بشرط أمن الفتنة .
وفي قولٍ آخر للشّافعيّة : أنّه يجوز له النّظر إلى ما يبدو منها عند المهنة فقط , ولا ضرورة إلى النّظر إلى ما زاد على ذلك , ففي شرح منهاج الطّالبين : ولا ينظر من محرمه بين سرّةٍ وركبةٍ , أي يحرم نظر ذلك ويحل نظر ما سواه , قال تعالى : { وَََلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إََِلا لِبُعُولَتِهِنَّ ... } الآية ، والزّينة مفسّرة بما عدا ما بين السرّة والركبة , وقيل : يحل نظر ما يبدو في المهنة , أي الخدمة فقط كالرّأس والعنق والوجه والكفّ والسّاعد وطرف السّاق , إذ لا ضرورة إلى غيره , وسواء فيما ذكر المحرم بالنّسب والمصاهرة والرّضاع . وعند الحنابلة يباح للرّجل أن ينظر من ذوات محارمه إلى ما يظهر غالباً كالوجه والرّقبة والرّأس واليدين إلى المرفقين والسّاق .
وفي الإنصاف : وهذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب .
ويكره عندهم النّظر إلى السّاق والصّدر للتّوقّي لا للتّحريم , قال ابن قدامة : ويجوز للرّجل أن ينظر من ذوات محارمه إلى ما يظهر غالباً , كالرّقبة والرّأس والكفّين والقدمين ونحو ذلك , وليس له النّظر إلى ما يستر غالباً , كالصّدر والظّهر ونحوهما .
قال الأثرم : سألت أبا عبد اللّه عن الرّجل ينظر إلى شعر امرأة أبيه أو امرأة ابنه ؟ فقال : هذا في القرآن : { وَََلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } إلا لكذا وكذا ، قلت : فينظر إلى ساق امرأة أبيه وصدرها ؟ قال : لا ما يعجبني ، ثمّ قال : أنا أكره أن ينظر من أمّه وأخته إلى مثل هذا , وإلى كلّ شيءٍ لشهوة , وقال أبو بكرٍ : كراهية أحمد النّظر إلى ساق أمّه وصدرها على التّوقّي ، لأنّ ذلك يدعو إلى الشّهوة . يعني أنّه يكره ولا يحرم .
ومنع الحسن والشّعبي والضّحّاك النّظر إلى شعر ذوات المحارم .
أمّا نظر المرأة إلى الرّجل ففيه روايتان إحداهما : لها النّظر إلى ما ليس بعورة , والأخرى : لا يجوز لها النّظر من الرّجل إلا إلى مثل ما ينظر إليه منها .
مس ذوات المحارم :
9 - ذهب الفقهاء إلى أنّ ما يجوز النّظر إليه من المحرم يجوز مسه إذا أمنت الشّهوة , لما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « كان إذا قدم من سفرٍ قبّل ابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها » .
هل الكافر أو الذّمّي محرم ؟
10 - لم يشترط الفقهاء في المحرم أن يكون مسلماً .
إلا أنّ بعض الفقهاء استثنى بعض الأحكام ومنهم الإمام أحمد حيث إنّه يعد الكافر محرماً في النّظر دون السّفر , قال البهوتيّ : لا تسافر المسلمة مع أبيها الكافر , لأنّه ليس محرماً لها في السّفر نصاً , وإن كان محرماً في النّظر , ومقتضاه إلحاق سائر القرابة المحرميّة الكفّار بالأب لوجود العلّة .
واستدلّ الحنابلة بأنّ إثبات المحرميّة يقتضي الخلوة بها , فيجب أن لا تثبت لكافر على مسلمةٍ , كالحضانة للطّفل , ولأنّه لا يؤمن عليها أن يفتنها عن دينها كالطّفل .
كما استدلوا بأنّ أبا سفيان أتى المدينة وهو مشرك فدخل على ابنته أمّ حبيبة رضي الله عنها فطوت فراش رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لئلا يجلس عليه ولم تحتجب منه , ولا أمرها بذلك النّبي صلى الله عليه وسلم .
واستثنى الحنفيّة المجوسيّ من السّفر مع محرمه , قال الموصلي : المحرم : كل من لا يحل له نكاحها على التّأبيد لقرابة أو رضاعٍ أو صهريّةٍ , والعبد والحر والمسلم والذّمّي سواء , إلا المجوسيّ الّذي يعتقد إباحة نكاحها , والفاسق لأنّه لا يحصل به المقصود .
نظر العبد إلى سيّدته :
11 - للفقهاء في هذه المسألة قولان :
الأوّل : أنّ العبد كالأجنبيّ بالنّسبة لسيّدته , فلا يحل له أن ينظر إليها , لأنّه ليس بمحرم , وبهذا يقول الحنفيّة , وفي قولٍ عند المالكيّة , وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة , وهو رواية عن أحمد .
جاء في المبسوط : والعبد فيما ينظر من سيّدته كالحرّ الأجنبيّ , معناه أنّه لا يحل له أن ينظر إلا إلى وجهها وكفّيها عندنا .
وفي مغني المحتاج : الأصح أنّ نظر العبد إلى سيّدته كالنّظر إلى محرمٍ , والثّاني يحرم نظرهما إلى بعضهما كغيرهما .
وقال ابن قدامة : إنّ العبد ليس محرماً لسيّدته لأنّه غير مأمونٍ عليها , ولا تحرم عليه على التّأبيد , فهو كالأجنبيّ .
وقد روي عن نافعٍ عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « سفر المرأة مع خادمها ضيعة » .
القول الثّاني : إنّ عبد المرأة كالمحرم لها , فيجوز أن ينظر إلى وجهها وكفّيها , وهذا عند الحنابلة , وهو قول عند المالكيّة , وهو الأصح عند الشّافعيّة , يقول المرداوي : الصّحيح من المذهب أنّ للعبد النّظر من مولاته إلى ما ينظر إليه الرّجل من ذوات محارمه .(/2)
واستدلوا بما روى أنس رضي الله عنه : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد وهبه لها , قال : وعلى فاطمة رضي الله عنها ثوب إذا قنّعت به رأسها لم يبلغ رجليها , وإذا غطّت به رجليها لم يبلغ رأسها , فلمّا رأى النّبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال : إنّه ليس عليك بأس , إنّما هو أبوك وغلامك » .
المحرم وغسل الميّت ودفنه :
12 - جمهور الفقهاء على أنّ المحارم يقدّمون على غيرهم في الأمور الّتي تجب للميّت من غسلٍ وصلاةٍ عليه ودفنٍ , إلا أنّ بعضهم يقدّم الزّوجين , ومنهم من يقدّم الوصيّ عليهم , وقد يختلف الحكم في الصّلاة عليه وفي الغسل والدّفن .
وتفصيل هذه الأحكام في مصطلح : ( جنائز ف 41 و تغسيل الميّت ف 11 و دفن ف 6 ) .
لمس المحرم وأثره على الوضوء :
13 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة في المشهور , وهو الأظهر عند الشّافعيّة إلى أنّ لمس الرّجل امرأةً محرماً لا ينقض الوضوء .
وكذلك الحكم عند الحنابلة إن كان لغير شهوةٍ .
أمّا إن كان بشهوة فإنّه ينقض الوضوء عند الحنابلة وفي قولٍ للمالكيّة .
وفي قولٍ عند الشّافعيّة ينتقض الوضوء بلمس المحرم مطلقاً .
وينظر تفصيل ذلك في : ( مسٍّ - لمسٍ - وضوءٍ ) .
سفر المرأة بدون محرمٍ :
أ - سفر المرأة لغير الفرض بدون محرمٍ :
14 - ذهب الفقهاء إلى أنّه ليس للمرأة أن تسافر لغير الفرض كحجّ التّطوع والزّيارة والتّجارة والسّيّاحة وطلب العلم , ونحو هذا من الأسفار الّتي ليست واجبةً إلا مع زوجٍ أو محرمٍ .
قال النّووي : اتّفق العلماء على أنّه ليس لها أن تخرج في غير الحجّ والعمرة إلا مع ذي محرمٍ , إلا الهجرة من دار الحرب , فاتّفقوا على أنّ عليها أن تهاجر منها إلى دار الإسلام وإن لم يكن معها محرم , والفرق بينهما أنّ إقامتها في دار الكفر حرام إذا لم تستطع إظهار الدّين وتخشى على دينها ونفسها , وليس كذلك التّأخر عن الحجّ فإنّهم اختلفوا في الحجّ هل هو على الفور أم على التّراخي .
ومستند ذلك ما وردّ عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا يخلونّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرمٍ , ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرمٍ , فقام رجل فقال : يا رسول اللّه إنّ امرأتي خرجت حاجّةً , وإنّي اكتتبت في غزوة كذا وكذا ، قال : فانطلق فحجّ مع امرأتك » .
ولفظ المرأة عام بالنّسبة إلى سائر النّساء , هذا ما اتّفق عليه الجمهور .
واستثنى بعض المالكيّة المتجالّة أي العجوز الّتي لا تشتهى فلها أن تسافر كيف شاءت . وللتّفصيل : ( ر : سفر ف 17 ) .
ب - سفر المرأة للحجّ بدون محرمٍ :
15 - اختلف الفقهاء في وجوب حجّ الفريضة على المرأة إذا لم يكن لها زوج أو محرم أو رفقة مأمونة :
فذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى وجوب الحجّ عليها إذا وجدت زوجاً أو محرماً أو رفقةً مأمونةً .
وذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ الحجّ لا يجب على المرأة إلا إذا وجدت زوجاً أو محرماً , ولا يعتد بالرفقة المأمونة .
إلا أنّ للحنفيّة قولين في حكم المحرم : قول أنّه شرط وجوبٍ , وقول أنّه شرط وجوب أداءٍ . كما اختلفوا في وجوب نفقة المحرم عليها إذا امتنع عن مرافقتها بدونها .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( حجّ ف 28 ) .
المحرم والمعاملات :
أ - التّفريق بين المحارم في البيع :
16 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه لا يفرّق في البيع بين صغيرٍ غير بالغٍ وذي رحمٍ محرمٍ منه .
وخصّ المالكيّة المنع من البيع بالتّفريق بين الأمّ وولدها خاصّةً .
وذهب الشّافعيّة إلى المنع من البيع إذا كان فيه تفريق بين الوالدين والمولودين وإن سفلوا .
والتّفصيل في مصطلح : ( رق ف 39 ) .
ب - الرجوع في الهبة لذوي الرّحم المحرم :
17 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز للواهب الرجوع في هبته بعد القبض إذا كان الموهوب له ذا رحمٍ محرمٍ من الواهب .
وذهب المالكيّة والحنابلة إلى عدم جواز الرجوع في الهبة إلى الرّحم المحرم إلا أن يكون ابناً , فيجوز للأب الرجوع فيما وهبه لابنه وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يجوز للواهب أن يرجع في هبته لذي رحمٍ محرمٍ إلا أن يكون ابناً له وإن نزل , فيجوز للأصول الرجوع فيما وهبوه لفروعهم دون سائر المحارم , وهذا في الجملة .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( أرحام ف 140 و هبة ) .
نكاح المحارم :
18 - اتّفق الفقهاء على حرمة نكاح المحارم , فإنّ تزوّج ذات محرمه فالنّكاح باطل بالإجماع , فإن وطئها فعليه الحد في قول أكثر أهل العلم , منهم الحسن وجابر بن زيدٍ ومالك والشّافعي وأبو يوسف ومحمّد وإسحاق وأبو أيوب وابن أبي خيثمة ، وقال أبو حنيفة والثّوري : لا حدّ عليه , لأنّه وطء تمكّنت الشبهة منه للعقد .
والتّفصيل في مصطلح : ( نكاح ومحرّمات النّكاح ) .
الجمع بين المحارم في النّكاح :
19 - اتّفق الفقهاء على حرمة الجمع بين المحارم في النّكاح سواء كان ذلك بالعقد أو بملك اليمين , فلا يجوز للرّجل أن يجمع بين امرأتين في عقدٍ , أو أمّتين في وطءٍ لو فرضت كل منهما ذكراً لم تحلّ للأخرى , كالمرأة وعمّتها , والمرأة وخالتها , والمرأة وأختها , لقوله تعالى : { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } .
وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تنكح المرأة على عمّتها ولا على خالتها » .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( نكاح , ومحرّمات النّكاح ) .
حضانة المحرم :(/3)
20 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه يشترط في الحاضن الذّكر مع اختلاف الجنس بينه وبين محضونه أن يكون محرماً لها إذا كانت المحضونة مشتهاةً كالعمّ , فإن لم يكن محرماً لها كابن العمّ أو كانت مشتهاةً فلا حقّ له في حضانتها .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ ابن العمّ إذا لم يكن للمحضونة غيره فلا تسقط حضانته , وإنّما يعيّن أمينةً توضع عندها .
أمّا الحاضن الأنثى فيشترط فيه مع اختلاف الجنس أن تكون ذات رحمٍ محرمٍ من المحضون وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة , ولا يشترط ذلك عند الشّافعيّة والحنابلة .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( حضانة ف 9 وما بعدها ) .
تغليظ الدّية بقتل المحرم :
21 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه من المواضع الّتي تغلظ فيها دية القتل الخطأ قتل ذي رحمٍ محرمٍ .
وخالف في ذلك الحنفيّة والمالكيّة ولم يقولوا بالتّغليظ في قتل الرّحم المحرم .
وينظر تفصيل ذلك في : ( ديات ف 14 ) .
قطع المحرم بالسّرقة :
22 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يقام الحد على السّارق إذا كان ذا رحمٍ محرمٍ من المسروق منه , أصلاً كان أو فرعاً أو غيرهما كالعمّ والخال .
أمّا المحرم غير الرّحم كالأخ من الرّضاع فقد ذهب أبو حنيفة ومحمّد إلى وجوب إقامة الحدّ على السّارق , وذهب أبو يوسف إلى عدم القطع .
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا فرق في إقامة حدّ السّرقة بين الأقارب وغيرهم , إلا أن يكون السّارق أصلاً للمسروق منه كالأب والجدّ .
فإن كان السّارق فرعاً للمسروق منه فلا يقطع عند الشّافعيّة والحنابلة , ويقطع عند المالكيّة .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( سرقة ف 15 ) .(/4)
مَذْي *
التّعريف :
1 - المَذْي والمَذِيّ لغةً : ماء رقيق يخرج عند الملاعبة أو التّذكر ويضرب إلى البياض , وقال الرّافعي : فيه ثلاث لغاتٍ , الأولى : سكون الذّال , والثّانية : كسرها مع التّثقيل - تثقيل الياء - , والثّالثة : الكسر مع التّخفيف , والمذّاء فعّال للمبالغة في كثرة المذي من مذى يمذي .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - المني :
2 - المنيّ في اللغة مشدّد الياء : ماء الرّجل والمرأة , وجمعه مُنْيٌ , وفي التّنزيل : { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى } .
وقال صاحب الزّاهر : سمّي المني منياً لأنّه يمنى أي يراق ويدفق , ومن هذا سمّيت منىً : لما يمنى بها , أي يراق من دماء النسك .
وفي الاصطلاح : هو الماء الغليظ الدّافق الّذي يخرج عند اشتداد الشّهوة .
وقال صاحب دستور العلماء : المني هو الماء الأبيض الّذي ينكسر الذّكر بعد خروجه ويتولّد منه الولد .
والفرق بين المذي والمنيّ أنّ المنيّ يخرج بشهوة مع الفتور عقيبه , وأمّا المذي فيخرج عن شهوةٍ لا بشهوة ولا يعقبه فتور .
ب - الودي :
3 - الودي بإسكان الدّال المهملة وتخفيف الياء وتشديدها الماء الثّخين الأبيض الّذي يخرج في إثر البول .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
والصّلة أنّ المذي يخرج عند الشّهوة ويكون ماءً رقيقاً , أمّا الودي فلا يخرج عند الشّهوة وإنّما عقب البول ويكون ثخيناً .
ما يتعلّق بالمذي من أحكامٍ :
أ - نجاسته :
4 - ذهب الفقهاء إلى نجاسة المذي للأمر بغسل الذّكر منه والوضوء لحديث عليٍّ رضي الله عنه حيث قال : « كنت رجلاً مذّاءً وكنت أستحي أنّ أسأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته , فأمرت المقداد بن الأسود , فسأله فقال : يغسل ذكره ويتوضّأ » .
ولأنّه - كما قال الشّيرازي - خارج من سبيل الحدث لا يخلق منه طاهر فهو كالبول .
ب - كيفيّة التّطهر من المذي :
5 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة في الأظهر وهو رواية عند الحنابلة وقول عند المالكيّة إلى جواز إزالة المذي بالاستنجاء بالماء أو الاستجمار بالأحجار منه كغيره من النّجاسات لما روى سهل بن حنيفٍ قال : « كنت ألقى من المذي شدّةً وعناءً فكنت أكثر منه الغسل , فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : إنّما يجزئُك من ذلك الوضوء » .
ولأنّه خارج لا يوجب الاغتسال أشبه الودي .
وفي روايةٍ عند الحنابلة ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة : أنّه لا يجزئُ بالحجر فيتعيّن غسله بالماء , فعلى هذا يجزئه غسله مرّةً واحدةً .
وقال المالكيّة : لو خرج المذي بلذّة معتادةٍ يغسل وجوباً وإلا كفى فيه الحجر ما لم يكن سلساً لازماً كلّ يومٍ ولو مرّةً وإلا عفي عنه .
ج - نقض الوضوء به :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ خروج المذي ينقض الوضوء , وقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ خروج المذي من الأحداث الّتي تنقض الطّهارة وتوجب الوضوء ولا توجب الغسل , لحديث عليٍّ رضي الله عنه فيما سبق , ولحديث سهل بن حنيفٍ قال : « كنت ألقى من المذي شدّةً وعناءً وكنت أكثر منه الغسل فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : إنّما يجزئُك من ذلك الوضوء ، فقلت : يا رسول اللّه , كيف بما يصيب ثوبي منه ؟ قال : يكفيك أن تأخذ كفاً من ماءٍ فتنضح به ثوبك حيث ترى أنّه قد أصاب منه » .
د - الغسل منه :
7 - إذا استيقظ إنسان من نومه ووجد في ثوبه أو فخذه بللاً ولم يتذكّر احتلاماً فقد نصّ الحنفيّة على أنّه يجب عليه الغسل لاحتمال انفصاله عن شهوةٍ ثمّ نسي ورقّ هو بالهواء . وقال أبو يوسف : لا يجب عليه الغسل , ولو تيقّن أنّه مذي لا يجب اتّفاقاً , قال أبو عليٍّ الدّقّاق : لو أغشي عليه فأفاق فوجد مذياً , أو كان سكران فأفاق فوجد مذياً لا غسل عليه , ولا يشبه النّائم إذا استيقظ فوجد على فراشه مذياً حيث كان عليه الغسل إن تذكّر الاحتلام بالإجماع لأنّه في النّوم ظهر تذكر , ثمّ إنّه يحتمل أنّه مني رقّ بالهواء أو للغذاء فاعتبرناه منياً احتياطاً ولا كذلك السّكران والمغشي عليه , لأنّه لم يظهر فيهما هذا السّبب .
وقال المالكيّة : إن شكّ من وجد بفرجه أو ثوبه أو فخذه شيئاً من بللٍ أو أثر مذيٍ أو منيٍّ وكان شكه مستوياً اغتسل وجوباً للاحتياط كمن تيقّن الطّهارة وشكّ في الحدث , وهذا هو المشهور , وروي عن ابن زيادٍ أنّه لا يلزمه إلا الوضوء مع غسل ذكره وإن ترجّح لديه أحدهما عمل بمقتضى الرّاجح .
ونصّ الشّافعيّة على أنّه إن احتمل كون الخارج منياً أو غيره كودي أو مذيٍ تخيّر بين الغسل والوضوء على المعتمد , فإن جعله منياً اغتسل أو غيره توضّأ وغسل ما أصابه , لأنّه إذا أتى بمقتضى أحدهما برئ منه يقيناً والأصل براءته من الآخر .
وعند الحنابلة قال ابن قدامة : قال أحمد : إذا وجد بلّةً اغتسل إلا أن يكون به أبردة أو لاعب أهله فإنّه ربّما خرج منه المذي فأرجو ألا يكون به بأس وكذلك إن كان انتشر من أوّل اللّيل بتذكر أو رؤيةٍ لا غسل عليه لأنّه مشكوك فيه يحتمل أنّه مذي وقد وجد سببه فلا يوجب الغسل مع الشّكّ , وإن لم يكن وجد ذلك فعليه الغسل , لخبر عائشة , ولأنّ الظّاهر أنّه احتلام , ثمّ قال ابن قدامة : وقد توقّف أحمد في هذه المسألة في مواضع .
هـ - أثره في الصّوم :
8 - إذا أمذى الصّائم بأيّ سببٍ كقبلة أو نظرٍ أو فكرٍ فقد اختلف الفقهاء في فطره بذلك على أقوالٍ , وقد سبق تفصيلها في مصطلح : ( صوم ف 44 ) .(/1)
مَرارَة *
التّعريف :
1 - للمرارة في اللغة إطلاقات منها : أنّها كيس لاصق بالكبد تختزن فيه الصّفراء , وقد تكون لكلّ ذي روحٍ إلا النّعام والإبل .
أو هي : المائع الأصفر المر المختزن في الكيس اللاصق بالكبد , وهي تساعد على هضم الموادّ الدهنيّة .
وتجمع المرارة على مرائر .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لكلمة مرارةٍ عن هذين الإطلاقين .
الحكم الإجمالي :
1 - طهارة المرارة وأكلها :
2 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ مرارة كلّ حيوانٍ كبوله , فإن كان بوله نجساً مغلّظاً أو مخفّفاً فهي كذلك خلافاً ووفاقاً , ومن فروعه ما ذكروا : لو أدخل في أصبعه مرارة مأكول اللّحم يكره عند أبي حنيفة لأنّه لا يبيح التّداوي ببوله , ولا يكره عند أبي يوسف لأنّه يبيحه , وبه أخذ أبو اللّيث للحاجة وعليه الفتوى في المذهب الحنفيّ .
وكذلك قياس قول محمّدٍ عدم الكراهة مطلقاً لطهارة بول مأكول اللّحم عنده .
وقال المالكيّة بطهارة مرارة الحيوان المذكّى مطلقاً لأنّها من أجزاء بدن الحيوان .
وفرّق الشّافعيّة بين الجلدة , والمائع الأصفر فقالوا : بطهارة الجلدة , لأنّها جزء الحيوان المذكّى , ونجاسة المائع الأصفر لأنّه ليس جزأه .
وأمّا حكم أكل المرارة فقد سبق الكلام عليه في مصطلح : ( أطعمة ف 76 , 77 , 78 ) . 2 - المسح على ظفرٍ عليه مرارة :
3 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجوز المسح على ظفرٍ عليه مرارة إن ضرّ نزعها , أو تعذّر قلعها للضّرورة .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( جبيرة ف 4 , مسح ) .(/1)
مَرَض *
التّعريف :
1 - المرض في اللغة : السّقم , نقيض الصّحّة يكون للإنسان والحيوان .
والمرض أيضاً : حالة خارجة عن الطّبع ضارّة بالفعل , قال ابن الأعرابيّ : أصل المرض النقصان .
وقال الفيروز آبادي : المرض إظلام الطّبيعة واضطرابها بعد صفائها واعتدالها .
وفي اصطلاح الفقهاء : حالة غير طبيعيّةٍ في بدنٍ الإنسان تكون بسببها الأفعال الطّبيعيّة والنفسانية والحيوانية غير سليمةٍ .
وقيل : المرض ما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاصّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الصّحّة :
2 - الصّحّة في البدن حالة طبيعيّة تجرى الأفعال معها على المجرى الطّبيعيّ , ورجل صحيح الجسد خلاف مريضٍ , وجمعه أصحّاء .
والصّحّة عند الفقهاء كون الفعل مسقطاً للقضاء في العبادات , أو سبباً لترتب ثمراته المطلوبة عليه شرعاً في المعاملات , وبإزائه البطلان .
والعلاقة بين المرض والصّحّة البدنيّة الضّدّيّة .
ب - مرض الموت :
3 - مرض الموت مركّب من كلمتين : مرض وموت .
أمّا المرض فقد سبق تعريفه , والموت : هو مفارقة الروح الجسد .
واختلف الفقهاء في تعريف مرض الموت اصطلاحاً , ولكنّهم متّفقون على أن يكون المرض مخوفاً : أي يغلب الهلاك منه عادةً أو يكثر , وأن يتّصل المرض بالموت , سواء وقع الموت بسببه أم بسبب آخر خارجيٍّ عن المرض كقتل أو غرقٍ أو حريقٍ أو غير ذلك . وعلاقة المرض بمرض الموت عموم وخصوص , إذ مرض الموت مرض وليس العكس .
ج - التّداوي :
4 - التّداوي لغةً : مصدر تداوى أي : تعاطى الدّواء , وأصله دوى يدوي دوياً أي مرض , وأدوى فلاناً يدويه بمعنى : أمرضه , وبمعنى عالجه أيضاً , فهي من الأضداد .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لكلمة التّداوي عن هذا المعنى .
والصّلة أنّ التّداوي قد يكون بإذن اللّه تعالى سبباً للشّفاء وزوال المرض .
أقسام المرض :
5 - قال ابن قدامة : الأمراض على أربعة أقسامٍ :
القسم الأوّل : مرض غير مخوفٍ مثل : وجع العين , والضّرس والصداع اليسير , وحمّى ساعةٍ , فهذا حكم صاحبه حكم الصّحيح لأنّه لا يخاف منه في العادة .
القسم الثّاني : الأمراض الممتدّة كالجذام وحمّى الرّبع - وهي الّتي تأخذ يوماً وتذهب يومين وتعود في الرّابع - والفالج في انتهائه , والسل في ابتدائه , والحمّى الغب , فهذا القسم : إن كان صاحبها يذهب ويجيء , ولم يكن صاحب فراشٍ فعطاياه كالصّحيح من جميع المال , وإن أضنى صاحبها على فراشه فهي مخوفة عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في المذهب , وبه يقول الأوزاعي وأبو ثورٍ لأنّه مريض صاحب فراشٍ يخشى التّلف فأشبه صاحب الحمّى الدّائمة .
وذهب الشّافعي في صاحب الأمراض الممتدّة وهو وجه عند أبي بكرٍ من الحنابلة أنّ عطيّته من صلب المال , لأنّه لا يخاف تعجيل الموت فيه وإن كان لا يبرأ , فهو كالهرم .
القسم الثّالث : مرض مخوف يتحقّق تعجيل الموت بسببه فينظر فيه : فإن كان عقله قد اختلّ مثل من ذبح أو أبينت حشوته , فهذا كميّت لا حكم لكلامه ولا لعطيّته , لأنّه لا يبقى له عقل ثابت , وإن كان ثابت العقل كمن خرقت حشوته أو اشتدّ مرضه ولكن لم يتغيّر عقله صحّ تصرفه وتبرعه , وكان تبرعه من الثلث , فإن عمّر رضي الله عنه خرجت حشوته فقبلت وصيّته ولم يختلف في ذلك أحد , وعلي رضي الله عنه بعد ضرب ابن ملجمٍ أوصى وأمر ونهى فلم يحكم ببطلان قوله .
القسم الرّابع : مرض مخوف لا يتعجّل موت صاحبه يقيناً لكنّه يخاف ذلك كالبرسام - هو بخار يرتقي إلى الرّأس , ويؤثّر في الدّماغ , فيختل عقل صاحبه - ووجع القلب والرّئة وأمثالها , فإنّها لا تسكن حركتها , فلا يندمل جرحها , فهذه كلها مخوفة سواء كان معها حمّى أو لم يكن .
وأمّا ما أشكل أمره فصرّح جمهور الفقهاء بأنّه يرجع إلى قول أهل المعرفة , وهم الأطبّاء , لأنّهم أهل الخبرة بذلك والتّجربة والمعرفة , ولا يقبل إلا قول طبيبين , مسلمين , ثقتين , بالغين , لأنّ ذلك يتعلّق به حق الوارث وأهل العطايا فلم يقبل فيه إلا ذلك .
وخلاصة القول : أنّ المرض المخوف بأنواعه إن اتّصل به الموت كان مرض الموت ويجري عليه أحكام مرض الموت , وأمّا إن لم يتّصل به الموت , بأن صحّ من مرضه , ثمّ مات بعد ذلك فحكمه حكم الصّحيح , لأنّه لمّا صحّ بعد المرض تبيّن أنّ ذلك لم يكن مرض الموت .
ولتفصيل الأحكام المترتّبة على مرض الموت , والحالات الّتي تلحق به يرجع إلى مصطلح : ( مرض الموت ) .
أحكام المرض :
الرخص المتعلّقة بالمرض :
6 - الأصل أنّ المرض لا ينافي أهليّة الحكم - أي ثبوت الحكم ووجوبه على الإطلاق - سواء كان من حقوق اللّه أو العباد , ولا أهليّة العبارة - أي التّصرفات المتعلّقة بالحكم - إذ لا خلل في الذّمّة والعقل اللّذين هما مناط الأحكام , ولهذا صحّ نكاح المريض وطلاقه وإسلامه , وانعقدت تصرفاته كالبيع والشّراء وغير ذلك - كما سيأتي - إلا أنّه لمّا كان فيه نوع من العجز شرعت العبادات فيه على حسب القدرة الممكنة , وأخّر ما لا قدرة عليه أو ما فيه حرج .
وفيما يلي بيان ذلك :
أوّلاً : جواز التّيمم مع وجود الماء للمرض :
7 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المريض إذا تيقّن التّلف باستعمال الماء في الطّهارة فإنّه يجوز له التّيمم , واختلفوا في الخوف المبيح للتّيمم .
والتّفصيل في : ( تيمم ف 21 وما بعدها ) .
ثانياً : المسح على الجبيرة :
8 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز المسح على الجبيرة بشروطها .
وينظر تفصيل ذلك , وكذلك كيفيّة تطهر واضع الجبيرة وما ينقض المسح على الجبيرة , والفرق بين المسح على الجبيرة والمسح على الخفّ في مصطلح : ( جبيرة ف 4 - 8 ) .(/1)
ثالثاً : كيفيّة صلاة المريض واستقبال القبلة :
9 - الأصل في المصلّي أن يصلّي قائماً غير مستندٍ إلى شيءٍ , فإن تعذّر عليه القيام لمرض صلّى قائماً مستنداً , ثمّ جالساً مستقبلاً , ثمّ جالساً مستنداً , ثمّ مضطجعاً على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه , ثمّ مستلقياً على ظهره مستقبل القبلة برجليه , ثمّ مضطجعاً على جنبه الأيسر , ويومئ بالركوع والسجود في الاضطجاع والاستلقاء . فإن لم يقدر على شيءٍ وكان عقله ثابتاً : فذهب المالكيّة والشّافعيّة وجمهور الحنابلة في المذهب إلى أنّه ينوي الصّلاة بقلبه مع الإيماء بطرفه لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » , ولوجود مناط التّكليف الّذي هو العقل .
وذهب الحنفيّة - ما عدا زفر - وهو قول عند المالكيّة , ورواية عن أحمد اختارها ابن تيميّة إلى أنّه إن تعذّر الإيماء برأسه تسقط عنه الصّلاة لأنّ مجرّد العقل لا يكفي لتوجه الخطاب .
وقال - زفر من الحنفيّة - إنّه إن تعذّر الإيماء برأسه يومئ بحاجبيه فإن عجز فبعينيه , وإن عجز فبقلبه .
إلا أنّ سقوط الصّلاة عند جمهور الحنفيّة مقيّد بكثرة الفوائت على يومٍ وليلةٍ , أمّا لو كانت يوماً وليلةً أو أقلّ وهو يعقل فلا تسقط بل تقضى إذا صحّ اتّفاقاً , ولو مات ولم يقدر على الصّلاة لم يلزمه القضاء حتّى لا يلزمه الإيصاء بها , كالمسافر إذا أفطر ومات قبل الإقامة . وكذلك لو اشتبه على المريض أعداد الرّكعات والسّجدات بأن وصل إلى حالٍ لا يمكنه ضبط ذلك , فصرّح الحنفيّة على أنّه لا يلزمه الأداء , ولو أدّاها بتلقين غيره فينبغي أن يجزئه . وصرّح الحنفيّة بأنّ المريض يفعل في صلاته من القراءة والتّسبيح والتّشهد ما يفعله الصّحيح , لأنّ مفارقة المريض الصّحيح فيما هو عاجز عنه , وأمّا فيما يقدر عليه فهو كالصّحيح .
وإن قضى المريض فوائت الصّحّة في المرض , قضاها كما قدر قاعداً أو مومئاً .
وإن صلّى قبل الوقت خطأً أو عمداً مخافة أن يشغله المرض عن الصّلاة إذا حان الوقت , لم يجزئه , وكذلك لو صلّى بغير قراءةٍ أو بغير وضوءٍ .
وإذا كان المريض على فراشٍ نجسٍ إن كان لا يجد فراشًا طاهراً , أو يجده لكن لا يجد أحداً يحوّله إلى فراشٍ طاهرٍ , يصلّي على الفراش النّجس , وإن كان يجد أحداً يحوّله , ينبغي أن يأمره بذلك , فإن لم يأمره , وصلّى على الفراش النّجس لا تجوز صلاته .
وإن كانت تحته ثياب نجسة , وكان بحال لا يبسط شيء إلا ويتنجّس من ساعته يصلّي على حاله , وكذا إذا لم يتنجّس الثّاني لكن تلحقه زيادة مشقّةٍ بالتّحويل .
وتفصيل الكلام على كيفيّة صلاة المريض من قيامٍ وجلوسٍ واضطجاعٍ وغيرها وكذلك الكلام على العجز المؤقّت , وطمأنينة المريض سبق ذكره في مصطلح : ( صلاة المريض ف 2 - 16 ) .
وأمّا العجز عن استقبال القبلة لأجل المرض فينظر في مصطلح : ( استقبال ف 38 , صلاة المريض ف 11 ) .
رابعاً : التّخلف عن الجماعة وصلاة الجمعة والعيدين :
10 - قال ابن المنذر : لا أعلم خلافاً بين أهل العلم : أنّ للمريض أنّ يتخلّف عن الجماعات من أجل المرض , واستدلوا بما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من سمع المنادي فلم يمنعه من اتّباعه عذر , قالوا : وما العذر ؟ قال : خوف أو مرض لم تقبل منه الصّلاة الّتي صلّى » .
وقد كان بلال رضي الله عنه يؤذّن بالصّلاة , ثمّ يأتي النّبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض فيقول : « مروا أبا بكرٍ فليصلّ بالنّاس » .
وكل ما أمكن تصوره في الجمعة من الأعذار المرخّصة في ترك الجماعة , يرخّص في ترك الجمعة , إذ لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الصّحّة شرط من شروط وجوب صلاة الجمعة . والمراد بالمرض هنا بصفة عامّةٍ هو المرض الّذي يشق معه الإتيان إلى المسجد , وأمّا إن شقّ عليه معه الإتيان ماشياً لا راكباً فاختلف الفقهاء على النّحو التّالي :
صرّح المالكيّة والشّافعيّة ومحمّد من الحنفيّة بأنّه يلزمه الإتيان , وقيّده المالكيّة بما إذا كانت الأجرة غير مجحفةٍ وإلا لم تجب عليه .
وذهب جمهور الحنفيّة إلى أنّه لا يجب عليه الحضور إلى الجماعة والجمعة في هذه الحالة , وقيل : لا يجب عند الحنفيّة اتّفاقاً كالمقعد .
وفرّق الحنابلة بين الجمعة والجماعة فقالوا : إن تبرّع أحد بأن يركبه لزمته الجمعة لعدم تكررها دون الجماعة .
ولو حضر المريض الجمعة , تنعقد به , وإذا أدّاها أجزأه عن فرض الوقت , لأنّ سقوط فرض السّعي عنه لم يكن لمعنىً في الصّلاة بل للحرج والضّرر , فإذا تحمّل , التحق في الأداء بغيره , وصار كمسافر صام .
وصرّح الشّافعيّة : بأنّه لا يجوز له الانصراف إذا حضر الجامع بعد دخول الوقت بل تلزمه الجمعة , لأنّ المانع من وجوب الجمعة المشقّة في حضور الجامع وقد حضر متحمّلاً لها , وإن كان يتخلّل زمن بين دخول الوقت والصّلاة , فإن لم يلحقه مزيد مشقّةٍ في الانتظار لزمه وإلا لا .
ويندب للمريض الّذي يتوقّع الخفّة قبل فوات الجمعة تأخير ظهره إلى اليأس من إدراك الجمعة , ويحصل اليأس برفع الإمام رأسه من ركوع الثّانية , لأنّه قد يزول عذره قبل ذلك فيأتي بها كاملاً , فلو لم يؤخّر , وزال عذره بعد فعله الظهر لم تلزمه الجمعة وإن تمكّن منها .
ويندب لغيره ممّن لا يمكن زوال عذره كالمرأة والزّمن تعجيل الظهر ليحوز فضيلة أوّل الوقت .
والمرضى إذا فاتتهم الجمعة يصلونها ظهراً فرادى , وتكره لهم الجماعة .
وخصّ بعض الفقهاء بعض الأمراض بالذّكر في التّخلف عن الجماعة :(/2)
فقال المالكيّة : يجوز للجذم ترك الجماعة إن كان رائحتهم تضر بالمصلّين , وكانوا لا يجدون موضعاً يتميّزون فيه , أمّا لو وجدوا موضعاً يصح فيه الجمعة ويتميّزون فيه بحيث لا يلحق ضررهم بالنّاس فإنّها تجب عليهم اتّفاقاً , لإمكان الجمع بين حقّ اللّه تعالى , وحقّ النّاس , وما قيل في الجذام يقال في البرص .
وقال الشّافعيّة : ويندب للإمام منع صاحب البرص والجذام من المساجد , ومخالطة النّاس والجمعة والجماعات .
11 - وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الممرّض يلحق بالمريض في التّخلف عن الجمعة والجماعات , واختلفوا في التّفاصيل :
فقال الحنفيّة في الأصحّ : يجوز للممرّض التّخلف إن بقي المريض ضائعاً بخروجه .
وقيّده المالكيّة بالقريب الخاصّ وقالوا : يجوز تخلف ممرّض القريب الخاصّ عن الجماعة مطلقاً , كولد , ووالدٍ وزوجٍ , وتخلف ممرّض الأجنبيّ عنها بشرطين : أن لا يكون له من يقوم به , وأن يخشى عليه الضّيعة لو ترك , كالعطش أو الجوع , أو الوقوع في نارٍ أو مهواةٍ , أو التّمرغ في نجاسةٍ .
وألحق المالكيّة في المعتمد ممرّض القريب غير الخاصّ - كالعمّ وابن العمّ - بالأجنبيّ , خلافاً لابن الحاجب حيث جعل تمريض القريب مطلقاً عذراً لإباحة ترك الجماعة من غير اعتبار شيءٍ من القيدين المعتبرين في تمريض الأجنبيّ .
وقال الشّافعيّة : يجوز التّخلف عن الجمعة والجماعة لممرّض مريضٍ قريبٍ بلا متعهّدٍ , أو له متعهّد , لكنّ المريض يأنس به لتضرر المريض بغيبته , فحفظه أو تأنيسه أفضل من حفظ الجماعة , والمملوك والزّوجة وكل من له مصاهرة , والصّديق , والأستاذ كالقريب , بخلاف الأجنبيّ الّذي له متعهّد , أمّا الأجنبي الّذي لا متعهّد له , فالحضور عنده عذر لجواز التّخلف عن الجماعة , وكذلك إذا كان المتعهّد مشغولاً بشراء الأدوية - مثلاً - عن الخدمة فوجوده كالعدم .
ويرى الحنابلة أنّه يعذر بترك الجمعة والجماعة ممرّض القريب أو الرّفيق وقيّدوه بأن لا يكون معه من يقوم مقامه , لأنّ ابن عمر استصرخ على سعيد بن زيدٍ وهو يتجمّر للجمعة فأتاه بالعقيق وترك الجمعة , قال الرّحيبانيّ : قال في الشّرح : ولا نعلم في ذلك خلافاً .
قال ابن قدامة : وهذا مذهب عطاءٍ والحسن والأوزاعيّ .
12 - ويباح للمرضى التّخلف عن صلاة العيدين كالجمعة والجماعة عند من يقول : إنّها واجبة على الأعيان وهم الحنفيّة , أو سنّة مؤكّدة على الأعيان وهم المالكيّة , وجمهور الشّافعيّة ورواية عن الحنابلة .
ولا يتأتّى ذلك عند الحنابلة في ظاهر المذهب إذ أنّها فرض على الكفاية .
خامساً : الجمع بين الصّلاتين للمرض :
13 - اختلف الفقهاء في جواز الجمع بين الصّلاتين للمريض :
فذهب الحنفيّة والشّافعيّة في المشهور من المذهب إلى عدم الجواز , واستدلّ الحنفيّة بما روي في الصّحيحين عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال : « ما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلّى صلاةً إلا لميقاتها إلا صلاتين : صلاة المغرب والعشاء بجمع وصلّى الفجر يومئذٍ قبل ميقاتها » ، ولأنّ أوقات الصّلاة قد ثبتت بلا خلافٍ , ولا يجوز إخراج صلاةٍ عن وقتها إلا بنصّ غير محتملٍ , إذ لا ينبغي أن يخرج عن أمرٍ ثابتٍ بأمر محتملٍ .
وقال الشّافعيّة في المشهور عندهم : لا يجمع لمرض لأنّه لم ينقل , ولخبر المواقيت فلا يخالف إلا بصريح .
وذهب الحنابلة وجمهور المالكيّة وبعض الشّافعيّة - وهو ما اختاره النّووي - إلى جواز الجمع بين الصّلاتين للمريض , واستدلوا بما ورد عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنه ما قال : « جمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر , والمغرب والعشاء من غير خوفٍ ولا مطرٍ » وفي روايةٍ : « من غير خوفٍ ولا سفرٍ » .
والمراد بالمرض المبيح للجمع عند الحنابلة كما صرّح به ابن القيّم هو ما يلحقه بتأدية كلّ صلاةٍ في وقتها مشقّة وضعف .
وعند المالكيّة : يجمع إن خاف أن يغلب على عقله , أو إن كان الجمع أرفق به .
وقال الدّردير : من خاف إغماءً أو حمّى نافضاً أو دوخةً عند دخول وقت الصّلاة الثّانية - العصر أو العشاء - قدّم الثّانية عند الأولى جوازاً على الرّاجح , فإن سلم من الإغماء وما بعده وكان قد قدّم الثّانية أعاد الثّانية بوقت ضروريٍّ .
وعند الشّافعيّة القائلين بجواز الجمع للمرض يشترط أن يكون المرض ممّا يبيح الجلوس في الفريضة على الأوجه .
وقال ابن حبيبٍ وابن يونس من المالكيّة : يجمع جمعاً صورياً , وهو أن يجمع آخر وقت الظهر وأوّل وقت العصر , ويحصل له فضيلة أوّل الوقت .
والمريض - عند الحنابلة والشّافعيّة القائلين بجوار الجمع - مخيّر في التّقديم والتّأخير وله أن يراعي الأرفق بنفسه , فإن كان يحم مثلاً في وقت الثّانية قدّمها إلى الأولى بشروطها , وإن كان يحم في وقت الأولى , أخّرها إلى الثّانية .
سادساً : الفطر في رمضان :
14 - اتّفق الفقهاء على أنّ المرض من مبيحات الإفطار في الجملة , والأصل فيه قوله تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
واختلفوا في تحديد المرض الّذي يبيح الإفطار :
قال ابن قدامة : المرض لا ضابط له , فإنّ الأمراض تختلف : منها ما يضر صاحبه الصّوم , ومنها ما لا أثر للصّوم فيه كوجع الضّرس , وجرحٍ في الأصبع , والدمّل , والقرحة اليسيرة , والجرب وأشباه ذلك , فلم يصلح المرض ضابطاً , وأمكن اعتبار الحكمة , وهو ما يخاف منه الضّرر .(/3)
ويقرب من هذا ما قاله الكاساني : إنّ مطلق المرض ليس بسبب للرخصة , لأنّ الرخصة بسبب المرض والسّفر لمعنى المشقّة بالصّوم تيسيراً للمريض والمسافر وتخفيفاً عليهما , ومن الأمراض ما ينفعه الصّوم ويخفه , ويكون الصّوم على المريض أسهل من الأكل , بل الأكل يضره ويشتد عليه , ومن التّعبد التّرخص بما يسهل على المريض تحصيله , والتّضييق بما يشتد عليه .
وكذلك اختلفوا فيما إذا نوى المريض في رمضان واجباً آخر :
فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة , وأبو يوسف ومحمّد وقيل وهو الأصح عند أبي حنيفة إلى أنّه لا يجوز لمريض أبيح له الفطر أن يصوم في رمضان عن غيره من قضاءٍ ونذرٍ وغيرهما , لأنّ الفطر أبيح تخفيفاً ورخصةً , فإذا لم يؤدّه , لزمه الإتيان بالأصل , ولأنّ الرخصة لاحتمال تضرره وعجزه , فإذا صام انتفى ذلك فصار كالصّحيح , ولأنّ أيّام رمضان متعيّنة لصومه , فله التّرخص بالفطر أو الصّيام عن رمضان .
إلا أنّه عند الجمهور يلغو صومه ولا يجزئ عن واحدٍ منهما , وعند الحنفيّة يقع عن رمضان سواء نوى واجباً آخر أو لم ينو .
وذهب أبو حنيفة في رواية الكرخيّ إلى أنّه إن نوى واجباً آخر وقع عنه , وإلا وقع عن رمضان , لأنّ الشّارع خصّ له ليصرفه إلى ما هو الأهم عنده من الصّوم أو الفطر , فصار كشعبان في حقّ غيره , فلمّا نوى واجباً آخر تبيّن أنّه الأهم عنده , فيقع عنه .
والكلام على خوف المريض زيادة مرضه بالصّوم , أو إبطاء البرء أو فساد عضوٍ , وخوف الصّحيح المرض أو الشّدّة أو الهلاك وحكم الإفطار في كلّ حالةٍ , وكيفيّة القضاء بالنّسبة لمن فاته صوم رمضان , سبق ذكره في مصطلح : ( صوم ف 26 , 55 , 56 , 86 , 87 ) .
وألحق بالمريض الحامل والمرضع فيجوز لهما الفطر بشروط معيّنةٍ ينظر تفصيلها في مصطلح : ( صوم ف 62 ) .
الخروج من الاعتكاف لعيادة المريض :
15 - ذهب الأئمّة الثّلاثة وهو رواية عن أحمد وبه قال عطاء وعروة ومجاهد والزهري إلى أنّه لا يجوز للمعتكف اعتكافاً واجباً أن يخرج من معتكفه لعيادة المريض , واستدلوا بما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : « كان النّبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف , فيمر كما هو ولا يعرّج يسأل عنه » .
وفي رواية الأثرم ومحمّد بن الحكم عن أحمد : يجوز له أن يعود المريض ولا يجلس , قال ابن قدامة : وهو قول عليٍّ رضي الله تعالى عنه وبه قال سعيد بن جبيرٍ والنّخعيّ والحسن واستدلوا بما روى عاصم بن خمرة عن عليٍّ رضي الله عنه قال : إذا اعتكف الرّجل فليشهد الجمعة , وليعد المريض , وليحضر الجنازة , وليأت أهله , وليأمرهم بالحاجة وهو قائم . وأمّا إن كان الاعتكاف تطوعاً ففي المذهب الحنفيّ روايتان :
أ - يفسد الاعتكاف , وهو رواية الحسن بن زيادٍ عن أبي حنيفة لأنّه مقدّر بيوم كالصّوم , ولهذا قال : إنّه لا يصح بدون الصّوم كالاعتكاف الواجب , ولأنّ الشروع في التّطوع موجب للإتمام على أصل الحنفيّة صيانةً للمؤدّى عن البطلان كما في صوم التّطوع , وبه قال المالكيّة .
ب - لا يفسد وهو رواية الأصل , لأنّ اعتكاف التّطوع غير مقدّرٍ , فله أن يعتكف ساعةً من نهارٍ , أو نصف يومٍ أو ما شاء من قليلٍ أو كثيرٍ ويخرج , فيكون معتكفاً ما أقام , تاركاً ما خرج .
وقال الحنابلة : يجوز الخروج لعيادة المريض , لأنّ كلّ واحدٍ منهما تطوع فلا يتحتّم واحد منها , لكنّ الأفضل المقام على اعتكافه , لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرّج على المريض , ولم يكن الاعتكاف واجباً عليه .
وأمّا الخروج من الاعتكاف للمرض ونحوه فتفصيله في مصطلح : ( اعتكاف : ف 33 , 36 , 37 ) .
الاستنابة في الحجّ والعمرة للمرض :
16 - اتّفق الفقهاء على أنّ سلامة البدن من الأمراض والعاهات الّتي تعوق عن الحجّ شرط لوجوب الحجّ .
واختلفوا هل هي شرط لأصل الوجوب كما قال به أبو حنيفة ومالك وهو رواية عن محمّدٍ وأبي يوسف ، أو شرط للأداء بالنّفس كما قال به الشّافعيّة والحنابلة وهو ظاهر الرّواية عن الصّاحبين .
وعلى هذا فمن وجدت فيه شروط وجوب الحجّ , ولكن كان عاجزاً عنه لمانع لا يرجى زواله , كزمانة أو مرضٍ لا يرجى برؤه , أو كان مهزول الجسم لا يقدر على الثبوت على الرّاحلة إلا بمشقّة غير محتملةٍ ، فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يلزمه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر إذا وجد من ينوب عنه , ومالاً يستنيبه به .
واستدلوا بما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما : « أنّ امرأةً من خثعمٍ قالت : يا رسول اللّه إنّ فريضة اللّه على عباده في الحجّ أدركت أبي شيخًا كبيراً لا يثبت على الرّاحلة أفأحج عنه ؟ قال : نعم وذلك في حجّة الوداع » .
وقال مالك وأبو حنيفة في روايةٍ : لا حجّ عليه إلا أن يستطيع بنفسه , واستدلوا بقوله تعالى : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } , وهذا غير مستطيعٍ , ولأنّ هذه عبادة لا تدخلها النّيابة مع القدرة , فلا تدخلها مع العجز كالصّوم والصّلاة .
وإذا عوفي من مرضه بعد ما أحجّ غيره عن نفسه , يلزمه حج آخر عند الحنفيّة والشّافعيّة وابن المنذر من الحنابلة , لأنّ هذا الحجّ بدل إياسٍ , فإذا برأ تبيّن أنّه لم يكن مأيوساً منه , فلزمه الأصل , قياساً على الآيسة إذا اعتدّت بالشهور , ثمّ حاضت لا يجزئها تلك العدّة . وذهب الحنابلة إلى أنّه لم يجب عليه الحج , وبه قال إسحاق لأنّه أتى بما أمر به , فخرج من العهدة كما لو لم يبرأ , ولأنّه أدّى حجّة الإسلام بأمر الشّارع فلم يلزمه حج ثانٍ كما لو حجّ بنفسه .(/4)
وإن لم يجد مالاً يستنيب به فلا حجّ عليه بغير خلافٍ , لأنّ الصّحيح لو لم يجد ما يحج به لم يجب عليه فالمريض أولى .
17 - وأمّا إن كان مريضاً يرجى زوال مرضه :
فقال الحنفيّة : حج الفرض يقبل النّيابة عند العجز فقط لكن بشرط دوام العجز إلى الموت لأنّه فرض العمر حتّى تلزم الإعادة بزوال العذر الّذي يرجى زواله كالمرض .
هذا بالنّسبة لحجّة الإسلام والحجّة المنذورة , وأمّا الحج النّفل فيقبل النّيابة من غير اشتراط عجزٍ فضلاً عن دوامه .
وقال الشّافعيّة : ليس له أن يستنيب من يحج عنه فإن استناب فحجّ النّائب فشفي لم يجزئه قطعاً وإن مات فقولان : أظهرهما لا يجزئه .
ولو كان غير مرجوّ الزّوال فأحجّ عنه ثمّ شفي فطريقان : أصحهما طرد القولين , والثّاني : القطع بعدم الإجزاء .
وقالوا : إنّ حجّ التّطوع لا يجوز الاستنابة فيه عن القادر قطعاً .
وذهب الحنابلة إلى أنّه ليس له أن يستنيب , فإن فعل لم يجزئه وإن لم يبرأ , لأنّه يرجو القدرة على الحجّ بنفسه فلم يكن له الاستنابة , ولا تجزئه إن فعل كالفقير , ولأنّ النّصّ إنّما ورد في الحجّ عن الشّيخ الكبير وهو ممّن لا يرجى منه الحج بنفسه , فلا يقاس عليه إلا من كان مثله .
18 - وإذا مرض المأمور بالحجّ في الطّريق , فصرّح الحنفيّة بأنّه ليس له دفع المال إلى غيره ليحجّ عن الآمر , إلا إذا أذن له بذلك , بأن قيل له وقت الدّفع : اصنع ما شئت , فيجوز له ذلك مرض أو لا , لأنّه يصير وكيلاً مطلقاً .
وللنّيابة في الحجّ شروط تنظر في مصطلح : ( نيابة ) .
19 - وأمّا النّيابة عن المريض في الرّمي فيجوز في الجملة .
وتفصيله في : ( حج ف 66 ) .
20 - وحكم طواف المريض سبق في مصطلح : ( طواف ف 11 , 16 ) , وكذا حكم سعيه في مصطلح : ( سعي ف 14 ) .
جهاد المريض :
21 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجب الجهاد على من به مرض يمنعه من القتال وما يلزم له .
والتّفصيل في مصطلح : ( جهاد ف 21 ) .
التّأخير في إقامة الحدود للمرض :
22 - المرض إمّا أن يكون ممّا يرجى برؤه أو ممّا لا يرجى برؤه , والحد بالنّسبة للمريض إمّا أن يكون الرّجم , أو الجلد أو القطع : فإن كان الحد الرّجم فالصّحيح الّذي قطع به الجمهور هو أنّه لا يؤخّر مطلقاً أياً كان نوع المرض , لأنّ نفسه مستوفاة , فلا فرق بينه وبين الصّحيح .
وإن كان الحد الجلد أو القطع والمرض ممّا يرجى برؤه : فيرى الأئمّة الثّلاثة والخرقيّ من الحنابلة تأخيره , وقال جمهور الحنابلة : يقام الحد ولا يؤخّر .
وإن كان المرض ممّا لا يرجى برؤه , أو كان الجاني ضعيفاً بالخلقة لا يحتمل السّياط فهذا يقام عليه الحد في الحال ولا يؤخّر , ويضرب بسوط يؤمن معه التّلف كالقضيب الصّغير , وشمراخ النّخل , فإن خيف عليه من ذلك جمع ضغثاً فيه مائة شمراخٍ فضرب به ضربةً واحدةً .
قال ابن قدامة : وأنكره مالك استدلالاً بقوله تعالى : { فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } وهذا ضربة واحدة .
هذا فيما إذا كان الواجب هو الجلد , وأمّا في السّرقة فقد صرّح الشّافعيّة بأنّه يقطع في هذه الحالة على الصّحيح لئلا يفوت الحد .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلحي : ( حدود ف 41 , وجلد ف 13 ) .
التّأخير في استيفاء القصاص للمرض :
23 - فرّق المالكيّة بين قصاص النّفس والأطراف في التّأخير , فقالوا : يجب تأخير القصاص من الجاني فيما دون النّفس لبرء المجنيّ عليه من مرضٍ خيف من القطع معه الموت , لاحتمال أن يأتي جرحه على النّفس , فتؤخذ النّفس فيما دونها .
وكذلك تؤخّر دية الجرح الخطأ لبرئه , خوف سريانه للموت , فيجب دية كاملة , وتندرج فيها دية الجرح .
ولا يؤخّر القصاص في النّفس , وهذا في غير المحارب , لأنّ المحارب إذا اختير قطعه من خلافٍ , فلا يؤخّر بل يقطع من خلافٍ , ولو أدّى لموته , إذ القتل أحد حدوده .
وقال الشّافعيّة : يجوز للمستحقّ أن يقتصّ على الفور في النّفس جزماً وفي الطّرف على المذهب لأنّ القصاص موجب الإتلاف فيتعجّل كقيم المتلفات , والتّأخير أولى لاحتمال العفو . ويقتص في المرض , وكذا لا يؤخّر الجلد في القذف .
إمامة المريض والاقتداء به :
24 - فرّق الفقهاء بين إمامة من هو عاجز عن أداء ركنٍ من أركان الصّلاة كالركوع أو السجود أو القيام , ومن لا يقدر على ذلك بل يصلّي بالإيماء , واختلفوا في كلٍّ على أقوالٍ سبق تفصيله في مصطلح : ( اقتداء ف 40 ) .
زكاة مال المريض :
25 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المرض ليس مانعاً من وجوب الزّكاة , لأنّ الصّحّة ليست شرطاً لوجوب الزّكاة بصفة عامّةٍ .
واختلفوا في وجوبه في مال المجنون , والجنون أيضاً مرض , بل من أصعب أمراض النّفوس جنونها - كما ذكره ابن عابدين - :
فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الزّكاة تجب في مال المجنون , وذلك لوجود الشّرائط الثّلاثة فيه وهي : الحرّيّة والإسلام وتمام الملك .
وروي ذلك عن عمر وعليٍّ وابن عمر وعائشة والحسن بن عليٍّ وجابرٍ رضي الله عنهم وبه قال جابر بن زيدٍ وابن سيرين وعطاء ومجاهد وربيعه وإسحاق وأبو عبيدٍ وأبو ثورٍ وغيرهم من أهل العلم .
ويخرج الزّكاة عن المجنون وليه في ماله , لأنّ ذلك حق تدخله النّيابة , فقام الولي فيه مقام المولّى عليه كالنّفقات والغرامات .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا تجب الزّكاة في أموال المجنون ويجب العشر في زروعه , وصدقة الفطر عليه , وبه قال الحسن وسعيد بن المسيّب وسعيد بن جبيرٍ وأبو وائلٍ والنّخعيّ وغيرهم .(/5)
وفيه قول ثالث حكاه ابن قدامة عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه والثّوريّ والأوزاعيّ وهو أنّه تجب الزّكاة ولا تخرّج حتّى يفيق .
وفي الموضوع تفصيل ينظر في مصطلح : ( زكاة ف 11 , وجنون ف 14 ) .
أثر مرض أحد الزّوجين في خلوة النّكاح :
26 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا تصح الخلوة إن كان أحد الزّوجين مريضاً , والمراد من المرض عندهم في جانبها : ما يمنع الجماع , أو يلحقه به ضرر , فالمرض يتنوّع في جانب المرأة بلا خلافٍ , وأمّا من جانبه فقد قيل : إنّه يتنوّع أيضاً , وقيل : إنّه غير متنوّعٍ , وإنّه يمنع صحّة الخلوة على كلّ حالٍ , وجميع أنواعه في ذلك على السّواء , قال البابرتيّ نقلاً عن الصّدر الشّهيد : إنّه هو الصّحيح , لأنّ مرض الزّوج لا يعرّى عن تكسرٍ وفتورٍ عادةً , قال الموصليّ : وكذا إذا كان يخاف زيادة المرض .
ولا يتأتّى ذلك على المذاهب الأخرى : لأنّه لا عبرة للخلوة الصّحيحة في وجوب كمال المهر عند الشّافعيّة في الجديد , ولا عبرة للموانع عند المالكيّة سواء كانت الخلوة خلوة الاهتداء , أو خلوة الزّيارة , وكذلك عند الحنابلة في المشهور من المذهب يجب كمال المهر بالخلوة مطلقاً ولا عبرة للموانع أياً كانت .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( خلوة في 14 - 17 ) .
قسم الزّوج المريض والقسم للزّوجة المريضة :
27 - اتّفق الفقهاء على أنّ الزّوج المريض يقسم بين زوجاته كالصّحيح , لأنّ القسم للصحبة والمؤانسة وذلك يحصل من المريض كما يحصل من الصّحيح .
واختلفوا فيما لو شقّ على المريض الطّواف بنفسه على زوجاته .
وتفصيله في مصطلح : ( قسم بين الزّوجات ف 10 ) .
وكذلك اتّفق الفقهاء على أنّ المريضة والصّحيحة في القسم سواء .
التّفريق بين الزّوجين بسبب المرض :
28 - ذهب الفقهاء إلى مشروعيّة التّفريق بين الزّوجين لعيوب منها المرض المنصوص عليه فيها .
وذلك على خلافٍ بينهم وتفصيلٍ ينظر في : ( طلاق ف 93 وما بعدها , وجنون ف 22 , وجذام ف 4 , وبرص ف 3 ) .
طلاق المريض :
29 - اتّفق الفقهاء على صحّة طلاق المريض مطلقاً سواء أكان مرض موتٍ أم غيره ما دام لا أثر له في القوى العقليّة للمريض , فإن أثّر فيها دخل في باب الجنون والعته وغيرهما من عوارض الأهليّة .
إلا أنّ المريض مرض موتٍ بخاصّة إذا طلّق زوجته المدخول بها في مرضه بغير طلبٍ منها أو رضاً طلاقاً بائناً ثمّ مات وهي في عدّتها من طلاقه هذا فإنّه يعد فاراً من إرثها حكماً . وللفقهاء في ذلك تفصيل ينظر في مصطلح : ( طلاق ف 24 , 66 , مرض الموت ) .
خلع المريض :
30 - اتّفق الفقهاء على أنّ مرض الزّوجة أو الزّوج لا يمنع من صحّة الخلع , وإن كان المرض مرض الموت .
واختلفوا في القدر الّذي يأخذه الزّوج في مقابل الخلع إذا خالعته في مرضها وماتت , مخافة أن تكون الزّوجة راغبةً في محاباته على حساب الورثة .
وللفقهاء في ذلك تفصيل ينظر في مصطلح : ( خلع ف 18 , 19 مرض الموت ) .
حضانة المريض :
31 - الحضانة من الولايات , والغرض منها صيانة المحضون ورعايته وهذا لا يتأتّى إلا إذا كان الحاضن أهلاً لذلك .
ولهذا يشترط الفقهاء شروطاً خاصّةً لا تثبت الحضانة إلا لمن توفّرت فيه , ومنها القدرة على القيام بشأن المحضون , فلا حضانة لمن كان عاجزاً عن ذلك لمرض يعوق هذه القدرة أو عاهةٍ كالعمى والخرس والصّمم .
ومنها أن لا يكون بالحاضن مرض معدٍ أو منفّر يتعدّى ضرره إلى المحضون كالجذام , والبرص وشبه ذلك .
والتّفصيل في : ( حضانة ف 14 ) .
إيلاء المريض :
32 - ذهب الفقهاء إلى أنّ المريض الّذي يتأتّى منه الوطء , وينعقد إيلاؤه بأن يكون من أهل الطّلاق , إذا آلى من زوجته وعجز عن الفيء إليها بالفعل - وهو الجماع - فإنّ الفيء يتأتّى منه بالقول , وذلك بشروط تفصيلها في مصطلح : ( إيلاء ف 24 ) .
نفقة الزّوجة المريضة والأولاد المرضى والقريب المريض :
33 - المذهب الصّحيح والمفتى به عند الحنفيّة وجوب النّفقة للزّوجة المريضة قبل النّقلة أو بعدها , أمكنه جماعها أو لا , معها زوجها أو لا , حيث لم تمنع نفسها إذا طلب نقلتها , فلا فرق بينها وبين الصّحيحة لوجود التّمكين من الاستمتاع كما في الحائض والنفساء , إلا إذا كان مرضها مانعاً من النّقلة فلا نفقة لها , وإن لم تمنع نفسها , لعدم التّسليم بالكلّيّة . وإن أمكن نقلها إلى بيت الزّوج فلم تنتقل فلا نفقة لها , لمنع نفسها عن النّقلة مع القدرة , بخلاف ما إذا لم تقدر أصلاً .
وبوجوب النّفقة للزّوجة المريضة إذا بذلت نفسها البذل التّامّ , والتّسليم الممكن , وأمكنته من الاستمتاع بها من بعض الوجوه , قال الشّافعيّة والحنابلة , وهو المتبادر من كلام المالكيّة .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( نفقة ) .
34 - وأمّا نفقة الأولاد الكبار المرضى فصرّح الحنفيّة والشّافعيّة بأنّه تجب النّفقة للولد الكبير العاجز عن الكسب كمن به مرض مزمن يمنعه من الكسب , وهو المشهور عند المالكيّة .
وقيل : تنتهي النّفقة عند المالكيّة إلى البلوغ كالصّحيح .
وتجب نفقة الأنثى مطلقاً , وإن كانت غير مريضةٍ , لأنّ مجرّد الأنوثة عجز .
35 - وذهب الحنفيّة إلى أنّه يلزم القريب نفقة كلّ ذي رحمٍ محرّمٍ إذا كان عاجزاً عن الكسب , واختاره ابن تيميّة من الحنابلة ، لأنّه من صلة الرّحم وهو عام .
أمّا الأقارب الّذين يرثون بفرض أو تعصيبٍ فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يلزم نفقة القريب لنقص في الخلقة كالزّمن والمريض .
وقال المالكيّة لا تجب نفقة القريب على القريب ما عدا الأبوين بشرط أن يكونا فقيرين , ولا يشترط عجزهما عن الكسب , ولا يجب ما وراء ذلك .(/6)
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( نفقة ) .
إقرار المريض وقضاؤه :
36 - الأصل أنّ المرض ليس بمانع من صحّة الإقرار في الجملة , إذ الصّحّة ليست شرطاً في المقرّ لصحّة الإقرار , لأنّ صحّة إقرار الصّحيح برجحان جانب الصّدق على جانب الكذب , وحال المريض أدل على الصّدق فكان إقراره أولى بالقبول .
والتّفصيل في مصطلح : ( إقرار ف 24 ) .
37 - وأمّا قضاء المريض فاختلف الفقهاء في تولية المريض وكذلك عزله وطريقة عزله , ينظر في مصطلح : ( قضاء ف 18 , 63 , 65 ) .
الحجر على المريض :
38 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المرض المتّصل بالموت سبب من أسباب الحجر , وتحجر على صاحب هذا المرض تبرعاته فيما زاد عن ثلث تركته , فإذا تبرّع بما زاد عن الثلث كان له حكم الوصيّة إذا مات .
والتّفصيل في : ( مرض الموت ) .
عيادة المريض :
39 - اختلف الفقهاء في حكم عيادة المريض على أقوالٍ :
فذهب الجمهور إلى أنّها سنّة أو مندوبة , وقد تصل إلى الوجوب في حقّ بعض الأفراد . وقال المالكيّة : إنّها مندوبة إذا قام بها الغير وإلا وجبت لأنّها من الأمور الواجبة على الكفاية , إلا على من تجب نفقته عليه فتجب عيادته عليه عيناً .
والتّفصيل في : ( عيادة ف 2 ) .
ما يستحب للمريض :
40 - قال الرّمليّ : يندب للمريض ندباً مؤكّداً أن يذكر الموت بقلبه ولسانه , بأن يجعله نصب عينيه , وأن يستعدّ له بالتّوبة بترك الذّنب , والنّدم عليه , وتصميمه على أن لا يعود إليه , والخروج من المظالم كأداء دينٍ وقضاء فوائت وغيرهما , ومعنى الاستعداد لذلك المبادرة إليه لئلا يفاجئه الموت المفوّت له .
ويسن له الصّبر على المرض , أي ترك التّضجر منه وأن يتعهّد نفسه بتلاوة القرآن , والذّكر , وحكايات الصّالحين وأحوالهم وأن يوصي أهله بالصّبر وترك النّوح ونحوه , وأن يحسّن خلقه , وأن يجتنب المنازعة في أمور الدنيا , وأن يسترضي من له به علقة كخادم وزوجةٍ , وولدٍ , وجارٍ , ومعاملٍ , وصديقٍ .
ويكره للمريض كثرة الشّكوى , إلا إذا سأله طبيب أو قريب , أو صديق عن حاله فأخبره بما هو فيه من الشّدّة , لا على صورة الجزع .
ولا يكره له الأنين لكنّ اشتغاله بنحو التّسبيح أولى منه , فالأنين خلاف الأولى .
قال ابن قدامة : إذا مرض استحب له أن يصبر ويكره الأنين لما روي عن طاووسٍ أنّه كرهه .
تداوي المريض :
41 - التّداوي مشروع من حيث الجملة .
واختلف الفقهاء في حكمه :
فذهب جمهور الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ التّداوي مباح .
وذهب الشّافعيّة والقاضي وابن عقيلٍ وابن الجوزيّ من الحنابلة إلى استحبابه .
ومحل الاستحباب عند الشّافعيّة عند عدم القطع بإفادته , أمّا لو قطع بإفادته كعصب محلّ الفصد فإنّه واجب .
وجمهور الحنابلة على أنّ ترك التّداوي أفضل لأنّه أقرب إلى التّوكل .
والتّفصيل في مصطلح : ( تداوي ف 5 وما بعدها ) .
عدوى المرض :
42 - اختلف الفقهاء في إثبات عدوى المرض أو نفيها على أقوالٍ ثلاثةٍ :
فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المرض لا يعدي بطبعه , وإنّما بفعل اللّه تعالى وقدره .
وذهب فريق إلى القول بنفي العدوى .
ويرى فريق آخر القول بإثبات العدوى .
والتّفصيل في مصطلح : ( عدوى ف 3 ) .
التّضحية بالمريضة :
43 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يشترط في الأضحيّة سلامتها من العيوب الفاحشة وهي العيوب الّتي من شأنها أنّ تنقص الشّحم أو اللّحم , ومنها المرض البيّن .
والتّفصيل في مصطلح : ( أضحيّة ف 26 وما بعدها ) .
أخذ المريضة في الزّكاة :
44 - ذهب الفقهاء إلى أنّه ينبغي أن يكون المأخوذ في الزّكاة من وسط مال الزّكاة , وهذا يقتضي أمرين :
الأوّل : أن يتجنّب السّاعي طلب خيار المال , ما لم يخرجه المالك طيّبةً به نفسه .
الأمر الثّاني : أن لا يكون المأخوذ من شرار المال ومنه المعيبة والهرمة والمريضة , لكن إن كانت كلها معيبةً أو هرمةً أو مريضةً , فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنّه يجوز إخراج الواجب منها , وقيل : يكلّف شراء صحيحةٍ , وقيل : يخرج صحيحةً مع مراعاة القيمة .
حبس المريض :
45 - اختلف الفقهاء في حبس المريض , وإخراجه من السّجن إذا خيف عليه .
والتّفصيل في مصطلح : ( حبس ف 109 - 110 ) .(/7)
مَسّ *
التّعريف :
1 - المس في اللغة : من مسِسْته من باب تعب , وفي لغة مَسسته مساً من باب قتل : أفضيت إليه بيدي من غير حائل هكذا قيّدوه - والاسم : المسيس مثل كريم .
ومسّ امرأته من باب تعب مساً ومسيساً : كناية عن الجماع , وماسّها مماسّةً .
وتماسّا : مسَّ كلّ واحد الآخر , والمس : مسك الشّيء بيدك .
والمس : الجنون , ورجل ممسوس : به مس من الجنون كما قال تعالى : { كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } .
وفي اصطلاح الفقهاء : المس ملاقاة جسم لآخر على أيّ وجهٍ كان .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - اللّمس :
2 - اللّمس لغةً : الجس من بابي قتل وضرب أفضى إليه باليد .
واللّمس في الاصطلاح : ملاقاة جسم لجسم لطلب معنىً فيه كحرارة أو برودة أو صلابة أو رخاوة أو علم حقيقة ليعلم هل هو آدمي أو لا .
والصّلة بين اللّمس والمسّ هي أنّ اللّمس أخص من المسّ .
ج - المباشرة :
3 - المباشرة في اللغة من باشر الرّجل زوجته : تمتّع ببشرتها وباشر الأمر : تولّاه ببشرته وهي يده وباشر الرّجل امرأته : أي جامعها ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } , قال ابن عابدين : المباشرة أن تكون بتماسّ الفرجين مع الانتشار ولو بلا بلل .
والمس أعم من المباشرة .
الأحكام المتعلّقة بالمسّ :
مس المحدث والجنب المصحف :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّه يحرم مس المصحف لغير الطّاهر طهارةً كاملةً من الحدثين الأصغر والأكبر , لكن تختلف عباراتهم في الشروط والتّفصيل .
فقال الحنفيّة : يحرم مس المصحف كلّه أو بعضه أي مسّ المكتوب منه , ولو آيةً على نقود درهم أو غيره أو جدار , لأنّ حرمة المصحف كحرمة ما كتب منه فيستوي فيه الكتابة في المصحف وعلى الدّراهم , كما يحرم مس غلاف المصحف المتّصل به , لأنّه تبع له , فكان مسه مسّاً للقرآن .
ولا يحرم مس الغلاف المنفصل عن القرآن كالكيس والصندوق , ويجوز مس المصحف بنحو عود أو قلم أو غلاف منفصل عنه , ويكره لمسه بالكمّ والحائل كالخريطة في الصّحيح, والمقصود بالخريطة الوعاء من جلد أو غيره , ولا تحرم كتابة آية على ورقة , لأنّ المحرّم هو مس المكتوب باليد , أمّا القلم فهو واسطة منفصلة كالثّوب المنفصل الّذي يمس به القرآن , لأنّ المفتى به جواز مسّ المصحف بغلاف منفصل أو بصرّة .
وقال المالكيّة : لا يجوز مس المصحف , سواء كان مصحفاً جامعاً معاً أو جزءاً أو ورقةً فيها بعض سورة أو لوحاً أو كتفاً مكتوبةً , ويمنع غير الطّاهر من حمل المصحف ولو على وسادة أو بعلّاقة أو ثوب أو كرسيٍّ تحته , ويحرم المس ولو كان المس بحائل أو عود , وإن قصد حمل المصحف مع الأمتعة حرم الحمل , وإن قصد الأمتعة بالحمل جاز .
ويجوز المس والحمل لمعلّم ومتعلّم بالغ وإن كان حائضاً أو نفساء لعدم قدرتهما على المانع, ولا يجوز ذلك للجنب لقدرته على إزالة المانع بالغسل أو التّيمم .
وقال الشّافعيّة : يحرم على المحدث مس المصحف وحمله سواء حمله بعلّاقته أو في كمّه أو على رأسه , وحكى القاضي والمتولّي وجهاً أنّه يجوز حمله بعلّاقته وهو شاذ في المذهب وضعيف وسواء مسّ نفس الأسطر أو ما بينها أو الحواشي أو الجلد فكل ذلك حرام .
وفي مسّ الجلد وجهٌ ضعيف أنّه يجوز , وحكى الدّارمي وجهاً شاذّاً بعيداً أنّه لا يحرم مس الجلد ولا الحواشي ولا ما بين الأسطر ولا يحرم إلّا نفس المكتوب , والصّحيح الّذي قطع به جمهور الشّافعيّة تحريم الجميع .
وفي مسّ العلّاقة والخريطة والصندوق إذا كان المصحف فيها وجهان مشهوران :
أصحهما يحرم وبه قطع المتولّي والبغوي لأنّه متّخذ للمصحف منسوب إليه كالجلد .
والثّاني : يجوز في مسّ الصندوق .
وأمّا حمل الصندوق وفيه المصحف فاتّفقوا على تحريمه .
وكذا يحرم تحريكه من مكان إلى مكان .
وأمّا إذا تصفّح أوراقه بعود ففيه وجهان مشهوران أصحهما يجوز والثّاني لا يجوز ورجّحه الخراسانيون لأنّه حمل الورقة وهي بعض المصحف .
وقال الحنابلة : يحرم مس المصحف على الصّحيح من المذهب , ويحرم مس كتابته وجلده وبعضه وحواشيه لشمول اسم المصحف ولو آيةً منه , ولا يجوز مسه بشيء من جسده لأنّه من جسده فأشبه يده , ويجوز مسه بحائل أو عود طاهرين , وحمله بعلّاقة أو وعاء , ولو كان المصحف مقصوداً بالحمل , وكتابته ولو لذمّيّ من غير مس , وحمله بحرز ساتر طاهر , وإن احتاج المحدث إلى مسّ المصحف عند عدم الماء , تيمّم وجاز مسه وما يحرم على المحدث حدثاً أصغر يحرم على المحدث حدثاً أكبر " الجنب , والحائض , والنفساء " بطريق الأولى لأنّ الحدث الأكبر أغلظ من الحدث الأصغر .
واستدلّ الفقهاء على حرمة مسّ المصحف بالكتاب والسنّة .
أمّا الكتاب فهو قوله تعالى : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ، لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ، تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } , دلّت الآية الكريمة على أنّ اللّه تعالى نهى عن مسّ المصحف لغير الطّاهر .
وأنّ المحدث ليس بطاهر , فدلّ على عدم جواز مسّه , ثمّ إنّ اللّه تعالى وصف القرآن بالتّنزيل .
وظاهره أنّ المقصود هو القرآن الموجود بين أيدينا فلا يصرف عن ظاهره إلّا بصارف شرعيٍّ , وأنّ الخبر فيه النّهي عن مسّه .
وأمّا السنّة فحديث ابن عمر رضي اللّه عنهما أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال :(/1)
« لا يمس القرآن إلّا طاهر » ولأنّ تعظيم القرآن واجب وليس من التّعظيم مس المصحف بيد حلّها الحدث , وكتاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لعمرو بن حزم رضي اللّه عنه : « أن لا تمسّ القرآن إلّا على طهر » .
واتّفقوا على جواز تلاوة القرآن لمن كان محدثاً حدثاً أصغر بغير مس وانظر مصطلح :
( مصحف , حدث , ف / 26 , 27 ) .
وما سبق من أحكام مسّ المصحف بالنّسبة للمحدث إنّما هو إذا كان مكتوباً بالعربيّة أمّا التّرجمات غير العربيّة للقرآن الكريم فقد اختلف الفقهاء في حكم مسّها على أقوال .
تنظر في مصطلح ( ترجمة ف / 7 ) .
مس الصّبيّ المصحف بغير طهارة :
5 - ذهب الفقهاء إلى جواز مسّ الصّبيان القرآن بغير طهارة .
قال الحنفيّة : يجوز للصّبيّ مس القرآن أو لوح فيه قرآن للضّرورة من أجل التّعلم والحفظ ولأنّ الصّبيان لا يخاطبون بالطّهارة ولكن أمروا به تخلقاً واعتياداً .
وقال مالك في المختصر : أرجو أن يكون مس الصّبيان للمصاحف للتّعليم على غير وضوء جائزاً , وقيل : إنّ الصّغير لا يمس المصحف الكامل وهو قول ابن المسيّب .
وقال الشّافعيّة : لا يمنع صبي مميّز من مسّ وحمل مصحف أو لوح يتعلّم منه لحاجة تعلمه ومشقّة استمراره متطهّراً , وقال النّووي : أبيح حمل الصّبيان الألواح للضّرورة للحاجة وعسر الوضوء لها .
وقال الحنابلة : وفي مسّ صبيان الكتاتيب ألواحهم الّتي فيها القرآن وجهان أحدهما : الجواز لأنّه موضع حاجة فلو اشترطنا الطّهارة أدّى إلى تنفيرهم من حفظه , قال في الإنصاف : وفي مسّ الصّبيان كتابة القرآن روايتان واقتصر عليه , وعنه : لا يجوز وهو وجهٌ .
قال في الفروع : ويجوز في رواية مس صبيٍّ لوحاً كتب فيه قرآن , قال ابن رزين وهو أظهر .
كتابة المحدث المصحف :
6 - يرى جمهور الفقهاء أنّه لا يجوز للمحدث كتابة المصحف لكن تختلف عباراتهم في الشروط والتّفصيل .
فقال الحنفيّة : يكره للمحدث الكتابة ومس الموضع المكتوب من القرآن وأسماء اللّه تعالى على ما يفرش لما فيه من ترك التّعظيم , وكذا على المحاريب والجدران لما يخاف من سقوط الكتابة .
وقال المالكيّة : لا يجوز للمحدث كتبه على الرّاجح أي ليس للنّاسخ أن يكتب ويمسّ المصحف محدثاً , وقيل : يجوز كتابة المحدث لمشقّة الوضوء كلّ ساعة .
وقال الشّافعيّة : لا يجوز كتابة القرآن بشيء نجس وإذا كتب المحدث أو الجنب مصحفاً نظر إن حمله أو مسّه في حال كتابته حرم , وإلّا فالصّحيح جوازه لأنّه غير حامل ولا ماس , وفيه وجهٌ مشهور يحرم , ووجهٌ ثالث يحرم على الجنب دون المحدث .
وإذا كتب القرآن في لوح فله حكم المصحف فيحرم مسه وحمله على البالغ المحدث هذا هو المذهب الصّحيح وبه قطع الأكثرون , وفيه وجهٌ مشهور أنّه لا يحرم لأنّه لا يراد للدّوام بخلاف المصحف فعلى هذا يكره ولا فرق بين أن يكون المكتوب قليلاً أو كثيراً فيحرم على الصّحيح قال إمام الحرمين : لو كان على اللّوح آية أو بعض آية كتب للدّراسة حرم مسه وحمله , ويكره نقش الحيطان والثّياب بالقرآن وبأسماء اللّه تعالى قال القاضي حسين والبغوي وإذا كتب قرآناً على حلوى فلا بأس بأكله . وإن كان على خشبة كره إحراقها . وقال الحنابلة كما في الإنصاف : يجوز كتابة المصحف من غير مس على الصّحيح من المذهب جزم به المصنّف وهو مقتضى كلام الخرقيّ .
وقاله القاضي وغيره , وعنه يحرم وأطلقهما في الفروع . وقيل : هو كالتّقليب بالعود . وقيل لا يجوز وإن جاز التّقليب بالعود . وللمجد احتمال بالجواز للمحدث دون الجنب .
مس المحدث كتب التّفسير :
7 - اختلف الفقهاء في مسّ المحدث كتب التّفسير :
قال الحنفيّة : لا يجوز مس كتب التّفسير لأنّه يصير بمسّه ماساً للقرآن وقال في الفتاوى الهنديّة : ويكره مس كتب التّفسير والفقه والسنّة ولا بأس بمسّها بالكمّ .
وقال المالكيّة : يجوز مس كتب التّفسير وحملها والمطالعة فيها للمحدث ولو كان جنباً , لأنّ المقصود من التّفسير معاني القرآن لا تلاوته وظاهره ولو كتبت فيه آيات كثيرة متوالية وقصدها , خلافاً لابن عرفة القائل بمنع مسّ تلك التّفاسير الّتي فيها الآيات الكثيرة متوالية مع قصد الآيات بالمسّ .
وقال الشّافعيّة : بحرمة حمل التّفسير ومسّه إذا كان القرآن أكثر من التّفسير , وكذلك إن تساويا على الأصحّ , ويحل مسه إذا كان التّفسير أكثر على الأصحّ , وفي رواية : يحرم لإخلاله بالتّعظيم , وقال النّووي : إن كان التّفسير أكثر ففيه أوجهٌ أصحها لا يحرم , لأنّه ليس بمصحف .
وقال الحنابلة : بجواز مسّ كتاب التّفسير ونحوه على الصّحيح من المذهب وعليه الأصحاب وحكى القاضي روايةً بالمنع والصّحيح جواز مسّ كتب التّفسير بدليل « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كتب إلى قيصر كتاباً فيه آية » , ولأنّها لا يقع عليها اسم المصحف ولا تثبت لها حرمته .
مس المحدث كتب الفقه وغيرها :
8 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة : إلى جواز مسّ المحدث كتب الفقه وغيرها وإن كان فيها آيات من القرآن الكريم .
وهو أصح وجهين مشهورين عند الشّافعيّة .
غير أنّ أبا حنيفة قال : والمستحب له أن لا يفعل .
واستدلوا بحديث ابن عبّاس رضي اللّه عنهما « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كتب إلى قيصر كتاباً قال فيه آيةً » , ولأنّها لا يقع عليها اسم المصحف , ولا تثبت لها حرمته .
مس المحدث كتب الحديث :
9 - ذهب الفقهاء إلى جواز مسّ المحدث كتب الحديث وإن كان فيها آيات من القرآن في الجملة .(/2)
جاء في الفتاوى الهنديّة : ويكره للجنب والحائض مس كتب التّفسير والفقه والسنن , ولا بأس بمسّها بالكمّ لأنّها لا تخلو عن آيات القرآن .
وقال المالكيّة : يجوز مس كتب الحديث والتّفسير والفقه .
وقال الشّافعيّة : وأمّا كتب حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأطلق الماورديّ والقاضي حسين والبغوي وغيرهم جواز مسّها وحملها مع الحدث , وقال المتولّي والروياني: يكره , والمختار ما قاله آخرون : إن لم يكن فيها شيء من القرآن جاز , والأولى أن لا يفعل إلّا بطهارة , وإن كان فيها قرآن فعلى الوجهين .
وقال الحنابلة : يجوز مس كتب الحديث وإن كان فيها آيات من القرآن على الصّحيح من المذهب وعليه الأصحاب , وحكى القاضي روايةً بالمنع .
واستدلّ الجمهور لجواز مسّ كتب الحديث « بأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كتب إلى قيصر كتاباً فيه آية » , ولأنّها لا يقع عليها اسم المصحف ولا تثبت لها حرمته .
مس المحدث للنقود المكتوب عليها شيء من القرآن :
10 - اختلف الفقهاء في حكم مسّ المحدث الدّراهم والدّنانير الّتي عليها شيء من القرآن فأجاز ذلك المالكيّة وهو الأصح عند الشّافعيّة , وفي وجهٍ عند الحنابلة وهو الرّاجح عندهم . واستدلوا بحديث ابن عبّاس رضي اللّه عنهما , « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كتب كتاباً إلى هرقل وفيه آية { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ } » , ولم يأمر حاملها بالمحافظة على الطّهارة ولأنّ هذه الأشياء لا تقصد بإثبات القرآن فيها قراءته فلا تجري عليها أحكام القرآن , ولأنّ الدّراهم لا يقع عليها اسم المصحف فأشبهت كتب الفقه , ولأنّ في الاحتراز منها مشقّةً أشبهت ألواح الصّبيان وقال في الفروع : لا يجوز مس الدّراهم بيده وإن كانت في صرّة فلا بأس .
وذهب الحنفيّة والحنابلة في الوجه الثّاني إلى عدم جواز مسّ شيء مكتوب فيه شيء من القرآن من لوح أو دراهم أو غير ذلك إذا كان آيةً تامّةً , ولو كان القرآن مكتوباً بالفارسيّة يكره لهم مسه عند أبي حنيفة وكذا عندهما على الصّحيح , لأنّ حرمة المصحف كحرمة ما كتب فيه فيستوي فيه الكتابة في المصحف وعلى الدّراهم , وكره ذلك عطاء والقاسم والشّعبي , لأنّ القرآن مكتوب عليها فأشبهت الورق .
مس الكافر المصحف :
11 - ذهب جمهور الفقهاء إلى منع الكافر من مسّ المصحف لأنّ الكافر نجس فيجب تنزيه المصحف عن مسّه .
وخالف في ذلك محمّد من أصحاب أبي حنيفة فقال : لا بأس أن يمسّ القرآن إذا اغتسل لأنّ المانع هو الحدث وقد زال بالغسل , وإنّما بقي نجاسة اعتقاده وذلك في قلبه لا في يده .
مس المحدث التّوراة والإنجيل :
12 - ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز مسّ المحدث التّوراة والإنجيل والزّبور في الجملة . قال الحنفيّة : لا مانع من مسّ الكتب السّماويّة الأخرى المبدّلة , لكن يكره للحائض والجنب قراءة التّوراة والإنجيل والزّبور لأنّ الكلّ كلام اللّه تعالى إلّا ما بدّل منها , وما بدّل منها غير معيّن .
وقال المالكيّة : يجوز للمحدث مس التّوراة والإنجيل والزّبور ولو كانت غير مبدّلة .
وقال الشّافعيّة : يجوز للمحدث مس التّوراة والإنجيل وحملهما وكذا قطع به الجمهور وذكر الماورديّ والروياني فيه وجهين :
أحدهما : لا يجوز , والثّاني : قالا - وهو قول جمهور أصحابنا - : يجوز لأنّها مبدّلة منسوخة , قال المتولّي : فإن ظنّ أنّ فيها شيئاً غير مبدّل كره مسه ولا يحرم .
وقال الحنابلة : وله مس التّوراة والإنجيل والزّبور وصحف إبراهيم إن وجدت لأنّها ليست قرآناً , وقال في الإنصاف : يجوز مس المنسوخ تلاوته والمأثور عن اللّه تعالى والتّوراة والإنجيل على الصّحيح من المذهب , وقيل : لا يجوز ذلك .
مس الطّيب للمحرم :
13 - ذهب جمهور الفقهاء إلى تحريم مسّ الطّيب للمحرم بمعنى استعماله بأيّة صفة كانت. وتفصيل ذلك في مصطلح ( إحرام ف / 74 وما بعدها ) .
المس والإنزال للصّائم :
14 - ذهب الفقهاء إلى فساد الصّوم بالإنزال بالمسّ .
قال الحنفيّة : يفسد الصّوم بالإنزال عن المسّ ولا يفسد بالإنزال عن النّظر إلى الفرج .
وقال المالكيّة : إن مسّ أو قبّل أو باشر فسلم فلا شيء عليه , وإن أنزل فثلاثة أقوال : الأوّل : أنّ عليه القضاء والكفّارة مطلقاً , والثّاني : قول أشهب - وهو أصح الأقوال - لا كفّارة عليه إلّا أن ينزل , والثّالث : الفرق بين المسّ والقبلة والمباشرة فيكفّر مطلقاً , وبين التّذكر والنّظر فلا كفّارة عليه , وقال في المدوّنة : إن أمذى من مس أو قبلة يفسد صومه وعليه القضاء . وقال أشهب : والمس باليد أيسر منها , والقبلة أيسر من المباشرة , والمباشرة أيسر من العبث بالفرج , وترك ذلك كلّه أحب إلينا , وقال في مواهب الجليل : إن أمذى فسد صومه ويقضي .
وقال الشّافعيّة : يحرم المس في الصّيام لأنّ المسّ أبلغ في إثارة الشّهوة إذ لو أنزل به أفطر وفسد صومه وإن خرج المني بمسّ أو قبلة أو مضاجعة بلا حائل يفطر به الصّائم .
وقال الحنابلة : إذا مسّ أو قبّل فأمذى فسد صومه . هذا الصّحيح من المذهب نصّ عليه وعليه أكثر الأصحاب , وقال في الإنصاف : لو هاجت شهوته فأمنى أو أمذى ولم يمسّ ذكره لم يفطر على الصّحيح من المذهب .
وقال أيضاً : إذا قبّل أو لمس فأمنى فسد صومه , هذا المذهب وعليه الأصحاب . ووجهٌ في الفروع احتمالاً بأنّه لا يفطر .
أثر المسّ في وجوب الصّداق :
15 - اتّفق الفقهاء على أنّ الصّداق يجب كله بالدخول أو الموت , واختلفوا في وجوب المهر بالمسّ .
والتّفصيل في مصطلح ( مهر ) .(/3)
أثر المسّ في حرمة المصاهرة :
16 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المسّ بغير شهوة لا يؤثّر في حرمة المصاهرة فمن مسّ امرأةً بغير شهوة أو قبّلها فله أن يتزوّج بنتها أو أمّها ويجوز لها الزّواج بأصوله أو فروعه , وكذلك من مسّ أمّ امرأته أو قبّلها بغير شهوة لا تحرم عليه امرأته .
أمّا المس بشهوة فاختلفوا في انتشار الحرمة به فقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إنّ المسّ والمباشرة في غير الفرج والتّقبيل ولو بشهوة لا يحرّم أصول من مسّها أو قبّلها ولا فروعها , زوجةً كانت أم أجنبيّةً لعموم قوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ المسّ بشهوة يوجب حرمة المصاهرة فمن مسّته امرأة بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها , ولا تحل له أصولها ولا فروعها , وحرم عليها أصوله وفروعه , ومن مسّ أو قبّل أمّ امرأته بشهوة حرمت عليه امرأته .
وقال الحنفيّة : إنّ الأسباب الدّاعية إلى الوطء في إثبات الحرمة كالوطء في إثباتها , وإنّ المسّ والنّظر سبب داع إلى الوطء فيقام مقامه في موضع الاحتياط ثمّ المس بشهوة أن تنتشر الآلة ثمّ شرط الحرمة بالنّظر أو المسّ أن لا ينزل , فإن أنزل لا تثبت الحرمة , واشترط الحنفيّة الشّهوة حال المسّ , فلو مسّ بغير شهوة ثمّ اشتهى بعد ذلك المسّ لا تحرم عليه , إذ تبيّن أنّ المسّ بالإنزال غير مفض إلى الوطء , والمس المفضي إليه هو المحرّم , ومعنى قولهم : المس بشهوة لا يوجب الحرمة بالإنزال هو أنّ الحرمة عند ابتداء المسّ بشهوة كان حكمها موقوفاً إلى أن تبيّن بالإنزال فإن أنزل لم تثبت وإلّا ثبتت .
واستدلوا بقوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم } , قالوا : المراد من النّكاح الوطء , والمس والتّقبيل بشهوة داع إلى الوطء فيقام مقامه احتياطاً للحرمة .
أثر المسّ في الظّهار :
17 - ذهب الحنفيّة وأكثر المالكيّة وهو إحدى الرّوايتين عن الإمام أحمد إلى حرمة دواعي الوطء من مس أو مباشرة أو تقبيل قبل التّكفير في الظّهار لقوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } .
دلّت الآية على أنّه أمر المظاهر بالكفّارة قبل التّماسّ , والتّماس يصدق على المسّ باليد وغيرها من أجزاء الجسم , كما يصدق على الوطء , والوطء قبل التّكفير حرام بالاتّفاق , فالمس باليد وما في معناه يكون حراماً مثله ولأنّ المسّ والتّقبيل بشهوة والمباشرة دون الفرج تدعو إلى الوطء , ومتى كان الوطء حراماً كانت الدّواعي إليه حراماً أيضاً بناءً على القاعدة الفقهيّة " ما أدّى إلى الحرام حرام " .
وذهب الشّافعيّة في الأظهر وبعض المالكيّة وأحمد في الرّواية الثّانية إلى إباحة الدّواعي في الوطء , ووجه ذلك : أنّ المراد من المسّ في قوله تعالى : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } الجماع : وذلك كما في قوله تعالى : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } , فلا يحرم ما عداه من المسّ بشهوة والمباشرة والتّقبيل فيما دون الفرج , ولأنّ تحريم الوطء بالظّهار يشبه تحريم الوطء بالحيض من ناحية أنّ كلاً منهما وطء محرّم ولا يخل بالنّكاح , وتحريم الوطء في الحيض لا يقتضي تحريم الدّواعي إليه , فكذلك تحريم الوطء بالظّهار لا يقتضي تحريم الدّواعي إليه بالقياس عليه .
مس الذّكر في نقض الوضوء :
18 - يرى جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة وأحمد في رواية وهو الصّحيح من مذهبه وعليه جماهير أصحابه أنّ مسّ الذّكر ينقض الوضوء .
وقال مالك والشّافعي : لا ينقض مسه إلّا بباطن كفّه ولا ينقض بظهر الكفّ لأنّ ظاهر الكفّ ليس بآلة المسّ فأشبه ما لو مسّه بفخذه .
ولا فرق عند الحنابلة بين بطن الكفّ وظاهره .
وللتّفصيل يراجع ( مصطلح وضوء ) .
مس الأجنبيّ أو الأجنبيّة :
19 - ذهب جمهور الفقهاء في الجملة إلى عدم جواز مسّ الرّجل شيئاً من جسد المرأة الأجنبيّة الحيّة , سواء كانت شابّةً أم عجوزاً غير أنّ الحنفيّة قالوا : لا بأس بمصافحة العجوز ومسّ يدها لانعدام خوف الفتنة .
واستدلّ الجمهور بحديث عائشة رضي اللّه عنها قالت : « ما مسّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بيده امرأةً قط » , ولأنّ المسّ أبلغ من النّظر في اللّذّة وإثارة الشّهوة .
وقال الشّافعيّة : لا يحل لرجل مس وجه أجنبيّة وإن حلّ نظره بنحو خطبة أو شهادة أو تعليم, ولا لسيّدة مس شيء من بدن عبدها وعكسه وإن حلّ النّظر .
مس المرأة للعلاج :
20 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجوز للطّبيب المسلم إن لم توجد طبيبة أن يداوي المريضة الأجنبيّة المسلمة وينظر منها ويمسّ ما تلجئ الحاجة إلى نظره , ومسّه فإن لم توجد طبيبة ولا طبيب مسلم جاز للطّبيب الذّمّيّ ذلك , وتقدّم المرأة الكافرة مع وجود طبيب مسلم لأنّ نظر الكافرة ومسّها أخف من الرّجل . ويجوز للطّبيبة أن تنظر وتمسّ من المريض ما تدعو الحاجة الملجئة إلى نظره ومسّه إن لم يوجد طبيب يقوم بمداواة المريض , وقد اشترط بعض الفقهاء شروطاً لذلك .
فقال الشّافعيّة : ويباحان أي النّظر والمس لفصد وحجامة وعلاج للحاجة لكن بحضرة مانع خلوة كمحرم أو زوج أو امرأة ثقة لحلّ خلوة رجل بامرأتين ثقتين , وشرط الماورديّ أن يأمن الافتنان ولا يكشف إلّا قدر الحاجة .(/4)
وقال الشّافعيّة كذلك : يحرم النّظر دون المسّ كأن أمكن لطبيب معرفة العلّة بالمسّ فقط . وقال الحنابلة : ولطبيب نظر ومس ما تدعو الحاجة إلى نظره ولمسه نصّ عليه , حتّى فرجها وباطنه لأنّه موضع حاجة وظاهره ولو ذمّياً , وليكن ذلك مع حضور محرم أو زوج , لأنّه لا يأمن مع الخلوة مواقعة المحظور , ويستر منها ما عدا موضع الحاجة لأنّها على الأصل في التّحريم , وكالطّبيب من يلي خدمة مريض أو مريضة في وضوء واستنجاء وغيرهما وكتخليصها من غرق وحرقٍ ونحوهما , وكذا لو حلق عانة من لا يحسن حلق عانته , وكذا لمعرفة بكارة وثيوبة وبلوغ , وأمّا المس لغير شهوة كمسّ يدها ليعرف مرضها فليس بمكروه بحال(/5)
مَسْبُوق *
التّعريف :
1 - المسبوق في اللغة : اسم مفعول , فعله سبق , يقال : سبقه إذا تقدّمه والمسبوق في الاصطلاح : مَنْ سبقه الإمام ببعض ركعات الصّلاة أو بجميعها , أو هو الّذي أدرك الإمام بعد ركعة أو أكثر .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - المُدرك :
2 - المدرك في اللغة : اسم فاعل فعله أدرك , يقال : أدركه إذا لحقه وتداركوا : تلاحقوا , أي لحق آخرهم أوّلهم , ومنه قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً } .
وفي الاصطلاح : هو الّذي يدرك الإمام بعد تكبيرة الافتتاح , أي يدرك جميع ركعات الإمام . فالمدرك من لم يفته شيء من ركعات صلاته بخلاف المسبوق .
ب - اللَّاحِق :
3 - اللَّاحِق في اللغة : اسم فاعل من لحق , يقال : لَحِقه : أدركه .
وفي الاصطلاح اللّاحق : من فاتته الرّكعات كلها أو بعضها بعد الاقتداء بالإمام .
والفرق بين اللّاحق والمسبوق : أنّ المسبوق تفوته ركعة أو أكثر من أوّل الصّلاة , واللّاحق تفوته ركعة أو أكثر من آخر الصّلاة أو وسطها .
الأحكام المتعلّقة بالمسبوق :
تتعلّق بالمسبوق أحكام منها :
متابعة المسبوق إمامه في الصّلاة :
4 - ذهب الفقهاء إلى أنّ المسبوق إذا تخلّف في صلاته بركعة أو أكثر فإنّه يتبع إمامه فيما بقي من الصّلاة , ثمّ يأتي بما فاته من صلاته .
وقال ابن عابدين : لو قضى المسبوق ما سُبق به ثمّ تابع إمامه ففيه قولان مصحّحان , واستظهر في البحر القول بالفساد , لقولهم : إنّ الانفراد في موضع الاقتداء مفسد , ونقل عن البزّازيّة أنّ عدم الفساد أقوى لسقوط التّرتيب , وعن جامع الفتاوى : يجوز عند المتأخّرين وعليه الفتوى , وقالوا : يكره له ذلك لأنّه خالف السنّة .
وقال الحنفيّة أيضاً : المسبوق إذا أدرك الإمام في القراءة في الرّكعة الّتي يجهر فيها لا يأتي بالثّناء , سواء كان بعيداً أو قريباً أو لا يسمع لصممه , فإذا قام إلى قضاء ما سبق يأتي بالثّناء ويتعوّذ للقراءة , وفي صلاة المخافتة يأتي به , ويسكت المؤتم عن الثّناء إذا جهر الإمام وهو الصّحيح , وإن أدرك الإمام في الركوع أو السجود يتحرّى إن كان أكبر رأيه أنّه لو أتى به أدركه في شيء من الركوع أو السجود يأتي به قائماً , وإلّا يتابع الإمام ولا يأتي به , وإذا لم يدرك الإمام في الركوع أو السجود لا يأتي بهما , وإن أدرك الإمام في القعدة لا يأتي بالثّناء بل يكبّر للافتتاح ثمّ للانحطاط ثمّ يقعد .
وقالوا إنّ المسبوق ببعض الرّكعات يتابع الإمام في التّشهد الأخير , وإذا أتمّ التّشهد لا يشتغل بما بعده من الدّعوات , قال ابن الشجاع : إنّه يكرّر التّشهد إلى قوله : أشهد أن لا إله إلّا اللّه وهو المختار , والصّحيح أنّ المسبوق يترسّل في التّشهد حتّى يفرغ من التّشهد عند سلام الإمام .
وقال الشّافعيّة : لو أدرك المسبوق الإمام في غير القيام لا يأتي بدعاء الاستفتاح , حتّى قال أبو محمّد الجويني في التّبصرة : لو أدرك الإمام رافعاً من الركوع حين كبّر للإحرام لم يأت بدعاء الاستفتاح , بل يقول : سمع اللّه لمن حمده ربّنا لك الحمد ... إلى آخره موافقةً للإمام , وإن أدركه في القيام وعلم أنّه يمكنه دعاء الاستفتاح والتّعوذ والفاتحة أتى به , نصّ عليه الشّافعي في الأمّ , وقاله الأصحاب , وقال أبو محمّد في التّبصرة : ويستحب أن يعجّل في قراءته ويقرأ إلى قوله : وأنا من المسلمين , ثمّ ينصت لقراءة إمامه .
وإن علم أنّه لا يمكنه الجمع , أو شكّ لم يأت بدعاء الاستفتاح , وإن علم أنّه يمكنه أن يأتي ببعض دعاء الاستفتاح مع التّعوذ والفاتحة ولا يمكنه كله ,أتى بالممكن , نصّ عليه في الأمّ.
وقالوا : ولو أدرك المسبوق الإمام في التّشهد الأخير , فكبّر وقعد , فسلّم مع أوّل قعوده قام, ولا يأتي بدعاء الاستفتاح لفوات محلّه , وذكر البغويّ وغيره أنّه لو سلّم الإمام قبل قعود المسبوق لا يقعد ويأتي بدعاء الاستفتاح .
وقال النّووي : إذا حضر المسبوق فوجد الإمام في القراءة , وخاف ركوعه قبل فراغه من الفاتحة فينبغي أن لا يقرأ دعاء الاستفتاح والتّعوذ , بل يبادر إلى الفاتحة , لأنّها فرض فلا يشتغل عنه بالنّفل , وإن غلب على ظنّه أنّه إذا قال الدعاء والتّعوذ أدرك تمام الفاتحة أستحبّ الإتيان بهما .
ولو ركع الإمام وهو في أثناء الفاتحة فثلاثة أوجهٍ : أحدها : يتم الفاتحة , والثّاني : يركع ويسقط عنه قراءتها لأنّ متابعة الإمام آكد , ولهذا لو أدركه راكعاً سقط عنه فرض القراءة , قال البندنيجي : وهو المذهب , والثّالث : هو الأصح وهو قول أبي زيد المروزيّ وصحّحه القفّال : أنّه إن لم يقل شيئاً من دعاء الاستفتاح والتّعوذ ركع وسقط عنه بقيّة الفاتحة , وإن قال شيئاً من ذلك لزمه أن يقرأ من الفاتحة بقدره لتقصيره بالتّشاغل .
وقال : ولو سلّم الإمام فمكث المسبوق بعد سلامه جالساً وطال جلوسه , إن كان في موضع تشهده الأوّل جاز ولا تبطل صلاته , لأنّه جلوس محسوب من صلاته , ولأنّ التّشهد الأوّل يجوز تطويله لكنّه يكره , وإن لم يكن موضع تشهده لم يجز أن يجلس بعد تسليمه , لأنّ جلوسه كان للمتابعة وقد زالت , فإن جلس متعمّداً بطلت صلاته , وإن كان ساهياً لم تبطل ويسجد للسّهو .
ولو كان المأموم مسبوقاً بركعة أو شاكاً في ترك ركن كالفاتحة , فقام الإمام إلى الخامسة لم يجز للمأموم متابعته فيها .
وقت قيام المسبوق لقضاء ما فاته :(/1)
5 - قال الحنفيّة : لا يقوم المسبوق إلى القضاء بعد التّسليمتين أو التّسليمة , بل ينتظر فراغ الإمام , ويمكث حتّى يقوم الإمام إلى تطوّعه إن كان صلاة بعدها تطوع , أو يستدبر المحراب إن كان لا تطوع بعدها , أو ينتقل عن موضعه , أو يمضي من الوقت مقدار ما لو كان عليه سهوٌ لسجد .
ولا يقوم المسبوق قبل سلام الإمام بعد قدر التّشهد إلّا في مواضع : إذا خاف المسبوق الماسح زوال مدّته , أو خاف صاحب العذر خروج الوقت , أو خاف المسبوق في صلاة الجمعة دخول وقت العصر , أو دخول الظهر في العيدين , أو في الفجر طلوع الشّمس , أو خاف أن يسبقه الحدث , فله أن لا ينتظر فراغ الإمام ولا سجود السّهو , وكذلك إذا خاف المسبوق أن يمرّ النّاس بين يديه لو انتظر الإمام قام إلى قضاء ما سبق قبل فراغه .
وقال المالكيّة : يقوم المسبوق لقضاء ما فاته بعد سلام إمامه , فإن قام له قبل سلام الإمام بطلت صلاته .
وقال الشّافعيّة : يستحب للمسبوق أن لا يقوم ليأتي بما بقي عليه إلّا بعد فراغ الإمام من التّسليمتين , فإن قام بعد فراغه من قوله : السّلام عليكم في الأولى جاز , لأنّه خرج بالأولى, فإن قام قبل شروع الإمام في التّسليمتين بطلت صلاته , ولو قام بعد شروعه في السّلام قبل أن يفرغ من قوله : عليكم فهو كما لو قام قبل شروعه .
وقال الحنابلة : يقوم المسبوق لقضاء ما فاته بعد سلام إمامه من الثّانية , فإن قام قبل سلام إمامه ولم يرجع ليقوم بعد سلامها انقلبت صلاته نفلاً .
تدارك المسبوق الرّكعة :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ المسبوق إذا أدرك الإمام في الركوع فقد أدرك الرّكعة , لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « من أدرك الركوع فقد أدرك الرّكعة » .
وقال الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة : وهذا إذا أدرك المسبوق إمامه في جزء من الركوع ولو دون الطمأنينة .
وقال الشّافعيّة : هذا إذا أدرك الإمام في طمأنينة الركوع , أو انتهى إلى قدر الإجزاء من الركوع قبل أن يزول الإمام عن قدر الإجزاء , فهذا يعتد له بالرّكعة ويكون مدركاً لها , فإذا أدرك المسبوق الإمام بعد فوات الحدّ المجزئ من الركوع فإنّه لا يكون مدركاً للرّكعة , لكن يجب عليه متابعة الإمام فيما أدرك وإن لم يحسب له .
وقال الشّافعيّة : إذا قام الإمام إلى خامسة جاهلاً , فاقتدى به مسبوق عالماً بأنّها خامسة , فالصّحيح المشهور الّذي قطع به الأصحاب في معظم الطرق : أنّه لا تنعقد صلاته , لأنّه دخل في ركعة يعلم أنّها لغوٌ .
7 - وذهب جمهور الفقهاء " الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة " إلى أنّ ما أدرك المسبوق من الصّلاة مع الإمام فهو آخر صلاته , وما يقضيه أوّلها .
وصرّح الحنفيّة : أنّ ما يقضيه المسبوق أوّل صلاته حكماً لا حقيقةً , بمعنى أنّه أوّلها في حقّ القراءة وآخرها في حقّ التّشهد .
وفي الفتاوى الهنديّة : المسبوق يقضي أوّل صلاته في حقّ القراءة وآخرها في التّشهد , حتّى لو أدرك ركعةً من المغرب قضى ركعتين , ويفصل بقعدة فيكون بثلاث قعدات , وقرأ في كل فاتحةً وسورةً , ولو ترك القراءة في إحداهما تفسد صلاته .
وقال المالكيّة : إذا قام المسبوق لقضاء ما فاته قضى القول والمراد به خصوص القراءة وصفتها من سر أو جهر , بأن يجعل ما فاته قبل دخوله مع الإمام بالنّسبة إليه أوّل صلاته وما أدركه معه آخرها , وبنى الفعل , والمراد بالفعل ما عدا القراءة بصفتها فيشمل التّسميع والتّحميد والقنوت , بأن يجعل ما أدركه معه أوّل صلاته بالنّسبة للأفعال , وما فاته آخرها , فيكون فيه كالمصلّي وحده , وإذا كان كذلك فمدرك ثانية الصبح مع الإمام يقنت في ركعة القضاء , لأنّها آخرته بالنّسبة للفعل الّذي منه القنوت , ويجمع بين التّسميع والتّحميد , لأنّها آخرته وهو فيها كالمصلّي وحده .
فمن أدرك أخيرة المغرب قام بلا تكبير لأنّه لم يجلس في ثانيته , ويأتي بركعة بأمّ القرآن وسورة جهراً لأنّه قاضي القول , أي يجعل ما فاته أوّل صلاته وأوّلها بالفاتحة والسورة جهراً , ويجلس للتّشهد , لأنّه باني الفعل أي جعل ما أدركه معه أوّل صلاته وهذه الّتي أتى بها هي الثّانية , والثّانية يجلس بعدها , ثمّ بركعة بأمّ القرآن وسورة جهراً لأنّها الثّانية بالنّسبة للقول - أي القراءة - ويجمع بين سمع اللّه لمن حمده وربّنا ولك الحمد لأنّه بَانٍ كالمصلّي وحده في الأفعال .
ومن أدرك أخيرة العشاء أتى بعد سلام الإمام بركعة بأمّ القرآن وسورة جهراً لأنّها أوّل صلاته بالنّسبة للقول , فيقضي كما فات ويجلس للتّشهد لأنّها ثانيته بالنّسبة للأفعال , ثمّ بركعة بأمّ القرآن وسورة جهراً لأنّها ثانيته بالنّسبة للأقوال , ولا يجلس بعدها لأنّها ثانيته بالنّسبة للأقوال , ولا يجلس بعدها لأنّها ثالثته بالنّسبة للأفعال , ثمّ بركعة بالفاتحة فقط سراً لأنّها آخر صلاته ,ومن أدرك الأخيرتين منها أتى بركعتين بأمّ القرآن وسورة جهراً لما تقدّم. وقال الشّافعيّة : ما أدركه المسبوق مع الإمام فهو أوّل صلاته , وما يفعله بعد سلام إمامه آخرها , لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا » , وإتمام الشّيء لا يكون إلّا بعد أوّله , وعلى هذا إذا صلّى مع الإمام الرّكعة الثّانية من الصبح وقنت مع الإمام , فإنّه يعيد القنوت , ولو أدرك ركعةً من المغرب مع الإمام تشهّد في ثانيته ندباً , لأنّها محل تشهده الأوّل , وتشهده مع الإمام للمتابعة , وذلك حجّة على أنّ ما يدركه أوّل صلاته .
سجود المسبوق للسّهو :(/2)
8 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ المسبوق يسجد مع إمامه مطلقاً , سواء كان السّهو قبل الاقتداء أو بعده ثمّ يقضي ما فاته ولو سها فيه سجد ثانياً .
ولو قام المسبوق إلى قضاء ما سبق به , وعلى الإمام سجدتا سهوٍ قبل أن يدخل معه فقالوا: إنّ المسبوق عليه أن يعود فيسجد مع الإمام ما لم يقيّد الرّكعة بسجدة , فإن لم يعد حتّى سجد يمضي , وعليه أن يسجد في آخر صلاته , بخلاف المنفرد لا يلزمه السجود لسهو غيره .
وقال المالكيّة : بطلت الصّلاة بسجود المسبوق عمداً مع الإمام سجوداً بعدياً مطلقاً أو قبلياً إن لم يلحق معه ركعة بسجدتيها , وإلّا بأن لحق ركعةً سجد القبليّ معه قبل قضاء ما عليه إن سجده الإمام قبل السّلام .
وقال الشّافعيّة : إذا سها المأموم خلف الإمام لم يسجد , ويتحمّل الإمام سهوه ولو سها بعد سلام الإمام , لم يتحمّل لانقطاع القدوة , وكذا المنفرد إذا سها في صلاته , ثمّ دخل في جماعة , وجوَّزنا ذلك , فلا يتحمّل الإمام سهوه ذلك .
أمّا إذا ظنّ المأموم أنّ الإمام سلّم , فسلّم , ثمّ بان أنّه لم يسلّم , فسلّم معه , فلا سجود عليه , لأنّه سها في حال القدرة .
ولو تيقّن في التّشهد , أنّه ترك الركوع أو الفاتحة من ركعة ناسياً , فإذا سلّم الإمام , لزمه أن يأتي بركعة أخرى , ولا يسجد للسّهو , لأنّه سها في حال الاقتداء .
ولو سلّم الإمام , فسلّم المسبوق سهوًا , ثمّ تذكّر , بنى على صلاته , وسجد , لأنّ سهوه بعد انقطاع القدوة .
ولو ظنّ المسبوق أنّ الإمام سلّم , بأن سمع صوتاً ظنّه سلامه , فقام ليتدارك ما عليه , وكان ما عليه ركعة مثلاً , فأتى بها وجلس , ثمّ علم أنّ الإمام لم يسلّم بعد تبين أنّ ظنّه كان خطأً , فهذه الرّكعة غير معتد بها , لأنّها مفعولة في غير موضعها , فإنّ وقت التّدارك بعد انقطاع القدوة , فإذا سلّم الإمام , قام إلى التّدارك , ولا يسجد للسّهو , لبقاء حكم القدوة . ولو كانت المسألة بحالها , فسلّم الإمام وهو قائم , فهل يجوز له أن يمضي في صلاته أم يجب عليه أن يعود إلى القعود , ثمّ يقوم ؟ وجهان : أصحهما : الثّاني .
فإن جوّزنا المضيّ , فلا بدّ من إعادة القراءة , فلو سلّم الإمام في قيامه , لكنّه لم يعلم به حتّى أتمّ الرّكعة - إن جوّزنا المضيّ - فركعته محسوبة , ولا يسجد للسّهو , وإن قلنا : عليه القعود , لم يحسب , ويسجد للسّهو للزّيادة بعد سلام الإمام .
ولو كانت المسألة بحالها , وعلم في القيام أنّ الإمام لم يسلّم بعد , فقال إمام الحرمين : إن رجع فهو الوجه , وإن أراد أن يتمادى وينوي الانفراد قبل سلام الإمام , ففيه الخلاف في قطع القدوة , فإن منعناه تعيّن الرجوع , وإن جوّزناه فوجهان : أحدهما : يجب الرجوع , لأنّ نهوضه غير معتد به , فيرجع , ثمّ يقطع القدوة إن شاء , والثّاني : لا يجب الرجوع , لأنّ النهوض ليس مقصوداً لعينه , وإنّما المقصود القيام فما بعده , هذا كلام الإمام , فلو لم يرد قطع القدوة فمقتضى كلام الإمام : وجوب الرجوع .
وقال الغزالي : هو مخيّر , إن شاء رجع , وإن شاء انتظر قائماً سلام الإمام , وجواز الانتظار قائمة مشكل , للمخالفة الظّاهرة , فإن كان قرأ قبل تبين الحال , لم يعتدّ بقراءته في جميع هذه الأحوال , بل عليه استئنافها .
قال النّووي : الصّحيح : وجوب الرجوع في الحالتين .
وقال الحنابلة : لو كان المأموم مسبوقاً وسها الإمام فيما لم يدركه المسبوق فيه , بأن كان الإمام سها في الأولى وأدركه في الثّانية مثلاً , فيسجد معه متابعةً له , لأنّ صلاته نقصت حيث دخل مع الإمام في صلاة ناقصة وكذا لو أدركه فيما لا يعتدّ له به , لأنّه لا يمنع وجوب المتابعة في السجود , كما لم يمنعه في بقيّة الرّكعة .
وقالوا : لو قام المسبوق بعد سلام إمامه ظاناً عدم سهو إمامه , فسجد إمامه رجع المسبوق فسجد معه لأنّه من تمام صلاة الإمام , أشبه السجود قبل السّلام , فيرجع وجوباً قبل أن يستتمّ , فإن استتمّ فالأولى أن لا يرجع كمن قام عن التّشهد الأوّل , ولا يرجع إن شرع في القراءة , لأنّه تلبّس بركن مقصود فلا يرجع إلى واجب .
وإن أدرك المسبوق إمامه في آخر سجدتي السّهو سجد المسبوق مع الإمام , فإن سلّم الإمام أتى المسبوق بالسّجدة الثّانية ليوالي بين السّجدتين ثمّ قضى صلاته , وإن أدرك المسبوق إمامه بعد سجدتي السّهو وقبل السّلام لم يسجد المسبوق لسهو إمامه , لأنّه لم يدرك معه بعضاً منه فيقضي الغائب , وبعد السّلام لا يدخل معه , لأنّه خرج من الصّلاة .
كيفيّة جلوس المسبوق :
9 - قال الشّافعيّة : إذا جلس المسبوق مع الإمام في آخر صلاة الإمام ففيه أقوال :
القول الأوّل : وهو الصّحيح المنصوص في الأمّ , وبه قال أبو حامد والبندنيجيّ والقاضي أبو الطّيّب والغزالي : يجلس المسبوق مُفْتَرِشاً , لأنّه ليس بآخر صلاته .
والثّاني : المسبوق يجلس مُتورِّكاً متابعةً للإمام , حكاه إمام الحرمين والرّافعي .
والثّالث : إنّ كان جلوسه في محلّ التّشهد الأوّل للمسبوق افترش , وإلّا تورّك , لأنّ جلوسه حينئذ لمجرّد المتابعة فيتابع في الهيئة , حكاه الرّافعي .
وإذا جلس مَنْ عليه سجود سهوٍ في آخره , فوجهان : أحدهما : يجلس متورّكاً لأنّه آخر صلاته , والثّاني : وهو الصّحيح يفترش وبه قطع صاحب العدّة ونقله إمام الحرمين عن أكثر الأئمّة , لأنّه مستوفز ليتمّ صلاته , فعلى هذا إذا سجد سجدتي السّهو تورّك ثمّ يسلّم .
استخلاف المسبوق :(/3)
10 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى جواز استخلاف الإمام في الصّلاة , وإلى جواز استخلاف المسبوق وذلك على التّفصيل المبيّن في مصطلح ( استخلاف ف / 28 وما بعدها ) .(/4)
مَسْجِد *
التّعريف :
1 - المسجد في اللغة : بيت الصّلاة , وموضع السجود من بدن الإنسان والجمع مساجد . وفي الاصطلاح : عرّف بتعريفات كثيرة منها : أنّها البيوت المبنيّة للصّلاة فيها للّه فهي خالصة له سبحانه ولعبادته .
وكل موضع يمكن أن يعبد اللّه فيه ويسجد له , لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً » .
وخصّصه العرف بالمكان المهيّأ للصّلوات الخمس , ليخرج المصلّى المجتمع فيه للأعياد ونحوها , فلا يعطى حكمه , وكذلك الربط والمدارس فإنّها هيّئت لغير ذلك .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الجامع :
2 - من معاني الجامع في اللغة : أنّه المسجد الّذي تصلّى فيه الجمعة , وسمّي بذلك لأنّه جمع النّاس لوقت معلوم .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن هذا المعنى .
والصّلة بينهما هي أنّ الجامع أخص من المسجد .
ب - المُصَلَّى :
3 - المصلّى في اللغة بصيغة اسم المفعول : موضع الصّلاة أو الدعاء .
ويراد به في الاصطلاح الفضاء والصّحراء , وهو المجتمع فيه للأعياد ونحوها .
والصّلة بين المسجد والمصلّى أنّ المصلّى أخص من المسجد .
ج - الزّاوية :
4 - الزّاوية في اللغة : واحدة الزّوايا , وزاوية البيت اسم فاعل من ذلك لأنّها جمعت قطرين منه ويطلق على المسجد غير الجامع ليس فيه منبر .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي لهذا اللّفظ عن معناه اللغويّ .
والصّلة بينهما أنّ المسجد أعم .
بناء المساجد وعمارتها ووظائفها :
5 - يجب بناء المساجد في الأمصار والقرى والمحالّ - جمع محلّة - ونحوها حسب الحاجة وهو من فروض الكفاية .
والمساجد هي أحب البقاع إلى اللّه تعالى في الأرض وهي بيوته الّتي يوحّد فيها ويعبد , يقول سبحانه : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } , قال ابن كثير : أي أمر اللّه تعالى بتعاهدها وتطهيرها من الدّنس واللّغو والأقوال والأفعال الّتي لا تليق فيها , كما قال ابن عبّاس : نهى اللّه سبحانه عن اللّغو فيها , وقال قتادة : هي هذه المساجد أمر اللّه سبحانه وتعالى ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها , وقد ذكر لنا أنّ كعباً كان يقول : مكتوب في التّوراة : أنّ بيوتي في الأرض المساجد وأنّه من توضّأ فأحسن وضوءه ثمّ زارني في بيتي أكرمته وحق على المزور كرامة الزّائر .
وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد واحترامها وتوقيرها وتطييبها وتبخيرها .
فعن عثمان بن عفّان رضي اللّه عنه قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « من بنى مسجداً يبتغي به وجه اللّه بنى اللّه له مثله في الجنّة » .
وعن عائشة رضي اللّه عنها قالت : « إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر بالمساجد أن تبنى في الدور وأن تطهّر وتطيّب » .
وعن واثلة بن الأسقع رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسلّ سيوفكم واتّخذوا على أبوابها المطاهر المراحيض وجمّروها في الجمع » .
وقد بنيت المساجد لذكر اللّه وللصّلاة فيها كما قال النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم للأعرابيّ الّذي بال في طائفة المسجد : « إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنّما هي لذكر اللّه عزّ وجلّ والصّلاة وقراءة القرآن فهي بيوت اللّه في أرضه ومواطن عبادته وشكره وتوحيده وتنزيهه » .
وهذا داخل في قوله تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
ولذا يستحب لزومها والجلوس فيها لما في ذلك من إحياء البقعة وانتظار الصّلاة , وفعلها في أوقاتها على أكمل الأحوال , قال أبو الدّرداء رضي اللّه عنه لابنه : يا بنيّ ليكن المسجد بيتك فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « المساجد بيوت المتّقين وقد ضمن اللّه عزّ وجلّ لمن كان المساجد بيوته الرّوح والرّحمة والجواز على الصّراط » .
فضل المساجد الثّلاثة :
6 - تفضل المساجد الثّلاثة " المسجد الحرام بمكّة المسجد النّبوي بالمدينة , المسجد الأقصى بالقدس " غيرها من المساجد الأخرى بأنّها الّتي تشد إليها الرّحال دون غيرها , وقد ورد ذلك في أحاديث كثيرة منها حديث أبي هريرة , وأبي سعيد رضي اللّه عنهما أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « لا تشد الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى » .
ولذا قال العلماء : من نذر صلاةً في مسجد لا يصل إليه إلّا برحلة وراحلة فلا يفعل ويصلّي في مسجده إلّا في الثّلاثة المساجد المذكورة , فإنّ من نذر صلاةً فيها خرج إليها , ومن نذر المشي لمسجد غير هذه المساجد الثّلاثة لاعتكاف أو صوم فإنّه لا يلزمه الإتيان لذلك المسجد ويفعل تلك العبادة بمحلّه , أمّا من نذر الإتيان لمسجد من المساجد الثّلاثة لأجل صوم أو صلاة أو اعتكاف فإنّه يلزمه الإتيان إليه .(/1)
أمّا أنّ الرّحال لا تشد لغيرها من المساجد فلأنّ غيرها من المساجد ليس في معناها , إذ هي متماثلة , ولا بلد إلّا وفيه مسجد ولا معنى للرّحلة إلى مسجد آخر , وعلى هذا وكما قال العلماء لو عيّن مسجداً غير المساجد الثّلاثة لأداء فريضة أو نافلة لم يتعيّن عليه ذلك , لأنّه لم يثبت لبعضها فضل على بعض , فلم يتعيّن لأجل ذلك منها ما عيّنه وهو المشهور عند الشّافعيّة .
كما تفضل هذه المساجد الثّلاثة بزيادة ثواب الصّلاة فيها عنه في غيرها وإن كانت تتفاضل في هذا الثّواب فيما بينها .
فعن أبي الدّرداء رضي اللّه عنه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « فضل الصّلاة في المسجد الحرام على غيره بمائة ألف صلاة وفي مسجدي ألف صلاة وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة » .
قال الزّركشي : إنّ هذه المضاعفة في المسجدين لا تختص بالفريضة , بل تعم النّفل والفرض كما قال النّوويّ في شرح مسلم : إنّه المذهب , قلت : وهو لازم للأصحاب من استثنائهم النّفل بمكّة من الوقت المكروه لأجل زيادة الفضيلة .
وقال الطّحاويّ من الحنفيّة في شرح الآثار : وهو مختصٌّ بالفرض وأنّ فعل النّوافل في البيت أفضل من المسجد الحرام , وكذلك ذكره ابن أبي زيد من المالكيّة , وقال ابن أبي الصّيف اليمنيّ : هذا التّضعيف في الصّلوات يحتمل أن يعمّ الفرض والنّفل , وهو ظاهر الأخبار , ويحتمل أن يختصّ به الفرض دون النّفل , لأنّ النّفل دونه .
والمسجد الحرام هو أوّل مسجد وضع للنّاس في الأرض للتّعبد فيه , قال تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } , ولذلك كان أفضل المساجد , فهو قبلة المصلّين وكعبة الزّائرين وفيه الأمن والأمان .
وعن أبي ذر رضي اللّه عنه قال : « قلت يا رسول اللّه أي مسجد وضع في الأرض أوّل قال المسجد الحرام قلت ثمّ أي قال المسجد الأقصى قلت كم كان بينهما قال أربعون سنةً ثمّ أينما أدركتك الصّلاة بعد فصلّه فإنّ الفضل فيه » .
وأمّا مسجد المدينة فقال الزّركشي : أنشأ أصله سيّد المرسلين والمهاجرون الأوّلون والأنصار المتقدّمون خيار هذه الأمّة , وفي ذلك من مزيد الشّرف على غيره ما لا يخفى , واشتمالها على بقعة هي أفضل بقاع الأرض بالإجماع , وهو الموضع الّذي ضمّ أعضاء النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم , حكى الإجماع القاضي عياض وغيره , وفي ذلك قال : بعضهم - وهو أبو محمّد بن عبد اللّه البسكريّ المغربي - :
جزم الجميع بأنّ خير الأرض ما قد حاط ذات المصطفى وحواها
ونعم لقد صدقوا بساكنها علت كالنّفس حين زكت زكا مأواها
ولذا ندب الشّارع إلى زيارته والصّلاة فيه وللمسجد الأقصى قداسته وعراقته وله مكانته في الإسلام حيث كان قبلة المسلمين في فترة من الزّمان , وكان إليه مسرى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة أسري به من المسجد الحرام إليه , قال تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } .
فهذه الآية تعظّم قدره بإسراء سيّدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إليه من المسجد الحرام بمكّة , وصلاته فيه بالأنبياء إماماً قبل عروجه إلى السّماء وبعد أن صلّى فيه ركعتين, هذا إلى إخبار اللّه تعالى بالبركة حوله , إمّا بأن جعل حوله من الأنبياء المصطفين الأخيار , وإمّا بكثرة الثّمار ومجاري الأنهار , فعن أنس بن مالكٍ رضي اللّه عنه قال : « إنّ الجنّة تحن شوقاً إلى بيت المقدس وصخرة بيت المقدس من جنّة الفردوس وهي صرّة الأرض » .
آداب الدخول إلى المساجد الثّلاثة وغيرها :
7 - إذا عاين داخل المسجد الحرام البيت ووقع بصره عليه رفع يديه وقال : اللّهمّ زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابةً وزد من شرفه وكرمه وعظمه ممّن حجّه أو اعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبراً .
وعن عطاء أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول إذا لقي البيت : « أعوذ بربّ البيت من الدّين والفقر وضيق الصّدر وعذاب القبر » ، ويرفع يديه ويقول : « اللّهمّ أنت السّلام ومنك السّلام فحيّنا ربّنا بالسّلام » .
ومن السنّة أن يبدأ حين دخوله بتقديم الرّجل اليمنى وليس ذلك بالنّسبة للمسجد الحرام فقط, بل بالنّسبة للمساجد كلّها .
ويستحب أن يقول : " اللّهمّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك " , ويقول كذلك : اللّهمّ أنت ربّي وأنا عبدك جئت لأؤدّي فرضك وأطلب رحمتك وألتمس رضاك , متبعاً لأمرك راضياً بقضائك , أسألك مسألة المضطرّين المشفقين من عذابك أن تستقبلني اليوم بعفوك تحفظني برحمتك وتتجاوز عنّي بمغفرتك وتعينني على أداء فرائضك , اللّهمّ افتح لي أبواب رحمتك وأدخلني فيها وأعذني من الشّيطان الرّجيم .
وله أن يدعو بكلّ لفظ فيه التّضرع والخشوع .
ويستحب له أن يدخل المسجد من باب بني شيبة المعروف الآن بباب السّلام إذ منه « دخل عليه الصّلاة والسّلام » , هذا ما انعقد إجماع الأئمّة عليه .(/2)
8 - ولا يختلف دخول مسجد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة عن دخول غيره من المساجد من حيث تقديم الدّاخل رجله اليمنى قائلاً : " اللّهمّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك " , ويدخل من باب جبريل أو غيره ويقصد الرّوضة الشّريفة وهي بين المنبر والقبر الشّريف فيصلّي تحيّة المسجد مستقبلاً السّارية الّتي تحتها الصندوق بحيث يكون عمود المنبر حذاء منكبه الأيمن إن أمكنه وتكون الحنيّة الّتي في قبلة المسجد بين عينيه فذلك موقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيما قيل قبل أن يغيّر المسجد , ثمّ يأتي القبر الشّريف فيستقبل جداره ويستدبر القبلة على نحو أربعة أذرع من السّارية الّتي عند رأس القبر في زاوية جداره , ثمّ يقول في موقفه : السّلام عليك يا رسول اللّه , السّلام عليك يا خير خلق اللّه , السّلام عليك يا خيرة اللّه من جميع خلقه , السّلام عليك يا حبيب اللّه , السّلام عليك يا سيّد ولد آدم , السّلام عليك أيّها النّبي ورحمة اللّه وبركاته , يا رسول اللّه إنّي أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له وأنّك عبده ورسوله وأشهد أنّك يا رسول اللّه قد بلّغت الرّسالة وأدّيت الأمانة ونصحت الأمّة وكشفت الغمّة فجزاك اللّه عنّا خيراً , جازاك اللّه عنّا أفضل ما جازى نبياً عن أمّته , اللّهمّ أعط سيّدنا عبدك ورسولك محمّداً الوسيلة والفضيلة والدّرجة العالية الرّفيعة وابعثه المقام المحمود الّذي وعدّته , وأنزله المنزل المقرّب عندك إنّك سبحانك ذو الفضل العظيم , ويسأل اللّه تعالى حاجته .
هذا ما عليه عامّة الفقهاء مع اختلاف يسير في صيغ بعض الأدعية .
9 - وآداب دخول بيت المقدس لا تختلف عن آداب دخول غيره من المساجد فقد دخله الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة أسري به برجله اليمنى وصلّى فيه ركعتي تحيّة المسجد وأمّ الأنبياء .
10 - ثمّ آداب دخول المساجد في غير ما ذكر أن يقدّم الدّاخل رجله اليمنى في الدخول واليسرى في الخروج لحديث أنس رضي اللّه عنه : « من السنّة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى » .
قال البخاري : وكان ابن عمر يبدأ برجله اليمنى فإذا خرج بدأ برجله اليسرى , وذلك لقاعدة الشّرع أنّ ما كان من باب التّشريف والتّكريم يندب فيه التّيامن وما كان بضدّه يندب فيه التّياسر , وإذا أخرج يسراه من المسجد وضعها على ظاهر نعله , ويخرج يمناه ويقدّمها في اللبس , وعند الدخول يخلع يسراه ويضعها على ظاهر نعله , ثمّ يخرج اليمنى ويقدّمها دخولاً .
وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللّهمّ افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل اللّهمّ إنى أسألك من فضلك » .
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « إذا دخل أحدكم المسجد فليسلّم على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وليقل اللّهمّ افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلّم على النّبيّ وليقل اللّهمّ اعصمني من الشّيطان الرّجيم » .
وعن فاطمة رضي اللّه عنها بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قالت : « كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا دخل المسجد صلّى على محمّد وسلّم ثمّ قال ربّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج صلّى على محمّد وسلّم ثمّ قال ربّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك » .
تحيّة المسجد :
11 - يرى جمهور الفقهاء أنّه يسن لكلّ من يدخل مسجداً غير المسجد الحرام - يريد الجلوس به وكان متوضّئاً - أن يصلّي ركعتين أو أكثر قبل الجلوس .
أمّا تحيّة المسجد الحرام فهي عندهم الطّواف للقادم لمكّة .
والتّفصيل في مصطلح ( تحيّة ف / 5 وما بعدها ) .
البناء للسّكن فوق المسجد وتحته وبناؤُه على القبر والدّفن فيه :
12 - أجاز المالكيّة اتّخاذ منزل للسّكن فيه تحت المسجد ولم يجيزوا اتّخاذه فوقه .
ولم يجيزوا الدّفن فيه لأنّه يؤدّي لنبشه إلّا لمصلحة تعود على الميّت .
وقال الحنابلة - كما نقل ابن مفلح عن المستوعب - إن جعل أسفل بيته مسجداً لم ينتفع بسطحه , وإن جعل سطحه مسجداً انتفع بأسفله , نصّ عليه , وقال أحمد : لأنّ السّطح لا يحتاج إلى أسفل .
وحرّموا الدّفن بالمساجد وكذا بناء المساجد على القبر لقول ابن عبّاس رضي اللّه عنهما : «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم زائرات القبور والمتّخذين عليها المساجد والسرج ».
ويقول الحنفيّة : إذا جعل السفل مسجداً وعلى ظهره مسكن فهو مسجد لأنّ المسجد ممّا يتأبّد وذلك يتحقّق في السفل دون العلو , وعن محمّد على عكس هذا لأنّ المسجد معظّم , وإذا كان فوقه مسكن أو مستغل يتعذّر تعظيمه , وعن أبي يوسف أنّه جوّز في الوجهين حين قدم بغداد ورأى ضيق المنازل فكأنّه اعتبر الضّرورة , وعن محمّد أنّه حين دخل الرّيّ أجاز ذلك كلّه .
وروي عن أبي حنيفة أنّه إذا جعل السفل مسجداً دون العلو جاز لأنّه يتأبّد بخلاف العلو . قال ابن عابدين : لو جعل تحته سرداباً لمصالحه جاز .
وكره الشّافعيّة بناء مسجد على القبر , فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم « اللّهمّ لا تجعل قبري وثناً لعن اللّه قوماً اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد » , قال الشّافعي رحمه اللّه : وأكره أن يعظّم مخلوق حتّى يجعل قبره مسجداً مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من النّاس , وعن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما « أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لعن زائرات القبور والمتّخذين عليها المساجد والسرج » .(/3)
ونقل الزّركشي عن مالكٍ أنّه كره أن يبني مسجداً ويتّخذ فوقه مسكناً يسكن فيه بأهله , قال الزّركشي : وفي فتاوى البغويّ ما يقتضي منع مكث الجنب فيه لأنّه جعل ذلك هواء المسجد وهواء المسجد حكمه حكم المسجد .
بناء المسجد بمتنجّس :
13 - نقل الزّركشي عن القاضي أبي الطّيّب الطّبريّ قوله : لا يجوز بناء المسجد باللّبن المعجون بالماء النّجس بناءً على نجاسته ويطهر بالغسل ظاهره دون باطنه على الجديد الأصحّ .
ترميم المساجد :
14 - للتّرميم في اللغة معان , منها : الإصلاح , يقال : رمّمت الحائط وغيره ترميماً : أصلحته , ويقال : رمَّمْت الشّيء أرُمُّه وأرِمُّه رَمّاً ومرمَّةً إذا أصلحته .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
والتّرميم قد يكون بقصد التّقوية إذا كان الشّيء معرّضاً للتّلف , وقد يكون بقصد التّحسين . وترميم المساجد لا يخرج في معناه أو الغرض منه عمّا سبق .
15 - وترميم المساجد من عمارتها المأمور بها شرعاً , والعمارة فرض كفاية إن قام بها بعض المسلمين سقط الإثم عن الباقين . قال اللّه تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } .
قال القرطبي : أثبت الإيمان في الآية لمن عمّر المساجد بالصّلاة فيها وتنظيفها وإصلاح ما وهي منها وآمن باللّه .
وقال القليوبيّ : عمارة المسجد هي البناء والتّرميم والتّجصيص للإحكام ونحو ذلك , وأجرة القيّم ومصالحه تشمل ذلك .
وقال : لو زاد ريع ما وقف على المسجد لمصالحه أو مطلقاً ادّخر لعمارته , وله شراء شيء به ممّا فيه زيادة غلّته ولو زاد ريع ما وقف لعمارته ولم يشتر منه شيء , ويقدّم عمارة عقاره على عمارته وعلى المستحقّين وإن لم يشترطه الواقف , كذا في العباب . وللتّفصيل ( ر : وقف )
تزويق المساجد :
16 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا بأس بنقش المسجد خلا محرابه فإنّه يكره لأنّه يلهي المصلّي, وكرهوا التّكلف بدقائق النقوش ونحوها خصوصاً في جدار القبلة .
وقيل : يكره في المحراب دون السّقف وظاهره أنّ المراد بالمحراب جدار القبلة .
والمراد بالنّقش هنا ما كان بالجصّ وماء الذّهب لو كان بمال النّاقش , أمّا لو كان من مال الوقف فهو حرام ويضمن متولّيه لو فعله .
وإن اجتمعت أموال المسجد وخاف المتولّي الضّياع بطمع الظّلمة لا بأس به حينئذ .
وليس بمستحسن كتابة القرآن على المحاريب والجدران ممّا يخاف من سقوط الكتابة وأن توطأ , ولا يجوز للقيّم شراء المصلّيات لتعليقها بالأساطين ويجوز للصّلاة عليها , ولكن لا تعلّق بالأساطين ولا يجوز إعارتها لمسجد آخر , قال في القنية : هذا إذا لم يعرف حال الواقف , أمّا إذا أمر بتعليقها وأمر بالدّرس فيه وبناه للدّرس وعاين العادة الجارية في تعليقها بالأساطين في المساجد الّتي يدرّس فيها فلا بأس بشرائها بمال الوقف في مصلحته إذا أحتيج إليها ولا يضمن إن شاء اللّه تعالى .
وكره المالكيّة تزويق حيطان المسجد وسقفه وخشبه والسّاتر بالذّهب والفضّة إذا كان بحيث يشغل المصلّي وإلّا فلا , كما يكره كذلك عندهم تزويق القبلة بالذّهب وغيره , وكذلك الكتابة فيها , وأمّا إتقان المسجد بالبناء والتّجصيص فمندوب .
وعند الشّافعيّة : قال الزّركشي : يكره نقش المسجد , ولا شكّ أنّه لا يجوز صرف غلّة ما وقف على عمارته في ذلك , وعبارة القاضي الحسين : لا يجوز صرفها إلى التّجصيص والتّزويق , وقد روي أنّ ابن مسعود رضي اللّه عنه مرّ بمسجد مزخرف فقال : لعن اللّه من زخرفه أو قال لعن اللّه من فعل هذا المساكين أحوج من الأساطين .
وما يفعله جهلة النظّار من ذلك سفهٌ مضمّن أموالهم .
وقال البغويّ في شرح السنّة : لا يجوز تنقيش المسجد بما لا إحكام فيه , وقال في الفتاوى فإن كان في إحكام فلا بأس , فإنّ عثمان رضي اللّه عنه بنى المسجد بالقَصّة - الجصّ والجير - والحجارة المنقوشة , قال البغويّ : ومن زوّق مسجداً أي تبرعاً لا يعد من المناكير الّتي يبالغ فيها كسائر المنكرات , لأنّه يفعله تعظيماً لشعائر الإسلام , وقد سامح فيه بعض العلماء , وأباحه بعضهم , ثمّ قال في موضع آخر : لا يجوز نقش المسجد من غلّة الوقف ويغرم القيمة إن فعله , فلو فعله رجل بماله كره , ولأنّه يشغل قلب المصلّين . وأطلق غيره عدم الجواز , لأنّه بدعة منهي عنه , ولأنّ فيه تشبهاً بالكفّار , فقد ورد مرفوعاً : « ما ساء عمل قوم قط إلّا زخرفوا مساجدهم » .
وإذا وقف على النّقش والتّزويق لا يصح على الأصحّ لأنّه منهي عنه , ولأنّه من أشراط السّاعة , لأنّه ممّا يلهي عن الصّلاة بالنّظر إليه , وقيل : يصح لما فيه من تعظيم المسجد وإعزاز الدّين .
ويكره زخرفتها , قال ابن عبّاس : لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنّصارى , وعن أنس رضي اللّه عنه : أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « لا تقوم السّاعة حتّى يتباهى النّاس في المساجد » .
وورد أنّ عمر رضي اللّه عنه أمر ببناء مسجد وقال : " أكِنَّ النّاس من المطر وإيّاك أن تحمّر أو تصفّر فتفتن النّاس " , وقال أبو الدّرداء : إذا حليتم مصاحفكم وزخرفتم مساجدكم فالدَّبار الهلاك عليكم , وقال علي رصّي اللّه عنه : إنّ القوم إذا رفعوا مساجدهم فسدت أعمالهم .(/4)
ويكره أن يكتب في قبلة المسجد آية من القرآن أو شيئاً منه قاله مالك , وجوّزه بعض العلماء وقال : لا بأس به لقوله تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية , ولما روي من فعل عثمان ذلك بمسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم , ولم ينكر ذلك .
وقال الزّركشي : وفي تحلية المساجد بالذّهب والفضّة وتعليق قناديلها وجهان , أصحهما : التّحريم فإنّه لم ينقل عن السّلف , والثّاني : الجواز كما يجوز ستر الكعبة بالدّيباج , ويحل الحرير لإلباس الكعبة , وأمّا باقي المساجد فقال الشّيخ عز الدّين بن عبد السّلام : لا بأس بستر المسجد بالثّياب من غير الحرير , وأمّا الحرير فيحتمل أن يلحق بالتّزيين بقناديل الذّهب والفضّة , ويحتمل أن يكون قولاً واحداً لأنّ أمره أهون , ولم تزل الكعبة تستر بالحرير فلا يبعد إلحاق غيرها بها . قلت : وفي فتاوى الغزاليّ : لا فرق في الإباحة بين الكعبة وغيرها , لأنّ الحرير إنّما حرّم على الرّجال لا على النّساء فكيف الجمادات والمساجد, ثمّ رأيت في فتاوى قاضي القضاة أبي بكر الشّاميّ أنّه لا يجوز أن يعلّق على حيطان المسجد ستوراً من حرير ولا من غيره , ولا يصح وقفها عليه وهي باقية على ملك الواقف .
ويستحب فرش المساجد وتعليق القناديل والمصابيح , ويقال : أوّل من فعل ذلك عمر ابن الخطّاب رضي اللّه عنه لمّا جمع النّاس على أبي بن كعب في صلاة التّراويح , ولمّا رأى علي رضي اللّه عنه اجتماع النّاس في المسجد على الصّلاة والقناديل تزهر وكتاب اللّه يتلى: قال : نوّرت مساجدنا نوّر اللّه قبرك يا بن الخطّاب , وروي عن ميمونة مولاة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم , « قلت يا رسول اللّه أفتنا في بيت المقدس قال أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه فإنّ صلاةً فيه كألف صلاة في غيره قلت أرأيت إن لم أستطع أن أتحمّل إليه قال فتهدي له زيتاً يسرج فيه فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه » .
ويقرب من ذلك مذهب الحنابلة فقد قالوا : تحرم زخرفة المسجد بذهب أو فضّة , وتجب إزالته إن تحصّل منه شيء بالعرض على النّار , وأوّل من ذهّب الكعبة في الإسلام وزخرفها وزخرف المساجد الوليد بن عبد الملك .
ويكره أن يزخرف المسجد بنقش وصبغ وكتابة وغير ذلك , ممّا يلهي المصلّي عن صلاته غالباً , وإن فعل ذلك من مال الوقف حرم فعله , ووجب ضمان مال الوقف الّذي صرفه فيه, لأنّه لا مصلحة فيه , وإن كان من ماله لم يرجع به على جهة الوقف , وفي الغنية : لا بأس بتجصيصه , أي يباح تجصيص حيطانه أي تبييضها , وصحّحه القاضي سعد الدّين الحارثي , ولم يره أحمد , وقال : هو من زينة الدنيا , قال في الشّرح : ويكره تجصيص المساجد وزخرفتها , فعليه يحرم من مال الوقف , ويجب الضّمان لا على الأوّل .
ويصان عن تعليق مصحف وغيره في قبلته دون وضعه بالأرض , قال أحمد : يكره أن يعلّق في القبلة شيء يحول بينه وبين القبلة , ولم يكره أن يوضع في المسجد المصحف أو نحوه.
تعليم الصّبيان في المسجد :
17 - قال ابن الهمام من الحنفيّة : هؤُلاء المكتّبون الّذين يجتمع عندهم الصّبيان في المساجد للتّعليم فإنّه لا يجوز لهم , إذ هم لا يقصدون العبادة بل الارتزاق , ومعلّم الصّبيان القرآن كالكاتب إن كان بالأجر لا يجوز وحسبةً للّه فلا بأس به , ومنهم من فصّل هذا , إن كان لضرورة الحرّ وغيره لا يكره وإلّا فيكره , وسكت عن كونه بأجر أو غيره فينبغي حمله على ما إذا كان حسبةً , فأمّا إن كان بأجر فلا شكّ في الكراهة , وعلى هذا فإذا كان حسبةً ولا ضرورة يكره , لأنّ نفس التّعليم ومراجعة الأطفال لا تخلو عمّا يكره في المسجد .
وقال ابن عابدين : وفي الخلاصة تعليم الصّبيان في المسجد لا بأس به .
وكره المالكيّة تعليم الصّبيّ في المسجد إلّا أنّ ابن القاسم روى إن بلغ الصّبي مبلغ الأدب فلا بأس أن يؤتى به المسجد , وإن كان صغيراً لا يقر فيه ويعبث فلا أحب ذلك .
والمذهب عندهم منع تعليم الصّبيان فيه مطلقاً سواء كان مظنّةً للعبث والتّقدير أم لا , لأنّ الغالب عدم تحفظهم من النّجاسة .
وأمّا إحضار الصّبيّ المسجد فأجازوه حيث لا يعبث به ويكف عن العبث إذا نهي عنه , فإن كان من شأنه العبث أو عدم الكفّ فلا يجوز إحضاره فيه , لحديث : « جنّبوا مساجدكم مجانينكم وصبيانكم » .
ونقل الزّركشي عن القفّال أنّه سئل عن تعليم الصّبيان في المسجد ؟ فقال : الأغلب من الصّبيان الضّرر بالمسجد فيجوز منعهم .
وقال الجراعيّ الحنبلي : يسن أن يصان المسجد عن عمل صنعة , ونقل عن السّامريّ قوله: سواء كان الصّانع يراعي المسجد أو لم يكن , وقال في رواية الأثرم : ما يعجبني مثل الخيّاط والإسكاف وما أشبهه وسهّل في الكتابة فيه .
وقال القاضي سعد الدّين : خصّ الكتابة لأنّها نوع تحصيل للعلم فهي في معنى الدّراسة , وهذا يوجب التّقيد ممّا لا يكون تكسباً .
ونقل الجراعيّ عن ابن الصّيرفيّ أنّه قال في النّوادر : لا يجوز التّعليم في المساجد .
وقال أبو العبّاس في الفتاوى المصريّة : لا يجوز - وقد سئل عنها - يصان المسجد ممّا يؤذيه ويؤذي المسلمين حتّى رفع الصّبيان أصواتهم فيه , كذلك توسيخهم لحصره ونحو ذلك, لا سيّما إن كان ذلك وقت الصّلوات فإنّه من أعظم المنكرات , وقال في موضع آخر منها : وأمّا تعليم الصّبيان في المسجد بحيث يؤذون المسجد فيكونون يرفعون أصواتهم ويشغلون المصلّي فيه فهذا ممّا يجب النّهي عنه والمنع منه .(/5)
وأضاف الجراعيّ : وقال صاحب الفروع - ابن مفلح - عقيب كلام القاضي سعد الدّين المتقدّم وينبغي أن يخرّج على هذا تعليم الصّبيان للكتابة في المسجد بالأجرة , وتعليمهم تبرعاً جائز كتلقين القرآن , وتعليم العلم , وهذا كله بشرط أن لا يحصل ضرر وما أشبه ذلك.
رفع الصّوت في المسجد والجهر فيه :
18 - قال الحنفيّة بكراهة رفع الصّوت بذكر في المسجد إلّا للمتفقّه , وفي حاشية الحمويّ عن الشّعّرانيّ : أجمع العلماء سلفاً وخلفاً على استحباب ذكر الجماعة في المساجد وغيرها, إلّا أن يشوّش جهرهم على نائم أو مصل أو قارئ .
وصرّحوا بكراهة الكلام المباح في المسجد وقيّده في الظّهيريّة بأن يجلس لأجله لأنّ المسجد ما بني لأمور الدنيا .
وفي صلاة الجلّابيّ - كما نقل عنه ابن عابدين - الكلام المباح من حديث الدنيا يجوز في المساجد وإن كان الأولى أن يشتغل بذكر اللّه تعالى , وقال ابن عابدين في تعليقه على قول الجلّابيّ : فقد أفاد أنّ المنع خاصٌّ بالمنكر من القول أمّا المباح فلا .
وقال المالكيّة : يكره رفع الصّوت في المسجد بذكر وقرآن وعلم فوق إسماع المخاطب ولو بغير مسجد , ومحل كراهة رفع الصّوت في المسجد ما لم يخلّط على مصل وإلّا حرم , بخلاف مسجد مكّة ومنى فيجوز رفع الصّوت فيهما على المشهور .
وقال الزّركشي : يكره اللّغط ورفع الصّوت في المسجد .
وقال ابن مفلح : يسن أن يصان عن لغطٍ وكثرة حديثٍ لاغ ورفع صوت بمكروه , وظاهر هذا أنّه لا يكره ذلك إذا كان مباحاً أو مستحباً .
ونقل عن الغنية أنّه يكره إلّا بذكر اللّه تعالى .
ونقل عن ابن عقيل أنّه لا بأس بالمناظرة في مسائل الفقه والاجتهاد في المساجد إذا كان القصد طلب الحقّ , فإن كان مغالبةً ومنافرةً دخل في حيّز الملاحاة والجدال فيما لا يعني ولم يجز في المسجد , وأمّا الملاحاة في غير العلوم فلا تجوز في المسجد .
ونقل عنه أيضاً أنّه يكره كثرة الحديث واللّغط في المساجد .
التّقاضي في المسجد :
19 - أجاز الحنفيّة والحنابلة التّقاضي في المسجد , فللقاضي أن يجلس فيه للفصل في الخصومات جلوساً ظاهراً « فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يفصل بين الخصوم في المسجد » , وكذا الخلفاء الرّاشدون من بعده , ولئلّا يشتبه على الغرباء مكانه فإن كان الخصم حائضاً أو نفساء خرج القاضي إلى باب المسجد فنظر في خصومتها أو أمر من يفصل بينهما كما لو كانت المنازعة في دابّة فإنّه يخرج لاستماع الدّعوى والإشارة إليها في الشّهادة .
وللمالكيّة طريقتان : الأولى استحباب الجلوس في الرّحاب وكراهته في المسجد , والثّانية استحباب جلوسه في نفس المسجد .
وكره الشّافعيّة للقاضي أن يجلس للقضاء في المسجد , لما روي أنّ معاذاً رضي اللّه عنه قال : قال النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم وحدودكم وسلّ سيوفكم وشراءكم وبيعكم » .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( قضاء ف / 38 ) .
إقامة الحدود والتّعازير فيه :
20 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا تقام الحدود في المساجد لقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وشراءكم وبيعكم وإقامة حدودكم وجمّروها في جمعكم وضعوا على أبوابها المطاهر » .
ولأنّه لا يؤمن خروج النّجاسة من المحدود فيجب نفيه عن المسجد إذ بالضّرب قد ينشقّ الجلد فيسيل منه الدّم فيتنجّس المسجد .
والتّفصيل في مصطلح ( حدود ف / 44 ) .
الأكل والنّوم في المسجد :
21 - كره الحنفيّة الأكل في المسجد والنّوم فيه وقيل : لا بأس للغريب أن ينام فيه , وأمّا بالنّسبة للمعتكف فله أن يشرب ويأكل وينام في معتكفه لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لم يكن يأوي في اعتكافه إلّا إلى المسجد , ولأنّه يمكن قضاء هذه الحاجة في المسجد فلا ضرورة إلى الخروج .
وأجاز المالكيّة إنزال الضّيف بمسجد بادية وإطعامه فيه الطّعام النّاشف كالتّمر لا إن كان مقذّراً كبطّيخ أو طبيخ فيحرم إلّا بنحو سفرة تجعل تحت الإناء فيكره , ومثل مسجد البادية مسجد القرية الصّغيرة وأمّا التّصنيف في مسجد الحاضرة فيكره ولو كان الطّعام ناشفاً كما هو ظاهر كلامهم .
كما أجازوا النّوم فيه بقائلة أي نهاراً وكذا بليل لمن لا منزل له أو عسر الوصول إليه .
أمّا المعتكف : فاستحبوا له أن يأكل في المسجد أو في صحنه أو في منارته وكرهوا أكله خارجه , وأمّا النّوم فيه مدّة الاعتكاف فمن لوازمه , إذ يبطل اعتكافه بعدم النّوم فيه .
وقال الشّافعيّة : يجوز أكل الخبز والفاكهة والبطّيخ وغير ذلك في المسجد , فقد روي عن عبد اللّه بن الحارث بن جزء الزبيديّ قال : « كنّا نأكل على عهد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في المسجد الخبز واللّحم » .
قال : وينبغي أن يبسط شيئاً خوفاً من التّلوث ولئلّا يتناثر شيء من الطّعام فتجتمع عليه الهوام , هذا إذا لم يكن له رائحة كريهة , فإن كانت كالثوم والبصل والكرّاث ونحوه فيكره أكله فيه ويمنع آكله من المسجد حتّى يذهب ريحه , فإن دخل المسجد أخرج منه لحديث :
« من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته » .
وقالوا أيضاً بجواز النّوم في المسجد فقد نصّ عليه الشّافعي في الأمّ , فعن نافع أنّ عبد اللّه بن عمر أخبره : « أنّه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم » , وأنّ عمرو بن دينار قال : كنّا نبيت على عهد ابن الزبير في المسجد وأنّ سعيد بن المسيّب والحسن البصريّ وعطاءً والشّافعيّ رخّصوا فيه .(/6)
أمّا المعتكف فأكله ومبيته في مسجد اعتكافه , وأجيز له أن يمضي إلى البيت ليأكل فيه , ولا يبطل اعتكافه وهو المنصوص عليه عند الشّافعيّة لأنّ الأكل في المسجد ينقص من المروءة فلم يلزمه .
وعند الحنابلة قال ابن مفلح : لا يجوز دخول المسجد للأكل ونحوه , ذكره ابن تميم وابن حمدان , وذكر في الشّرح والرّعاية وغيرهما بأنّ للمعتكف الأكل في المسجد وغسل يده في طست , وذكر في الشّرح في آخر باب الأذان : أنّه لا بأس بالاجتماع في المسجد والأكل فيه والاستلقاء فيه .
وقال ابن قدامة : لا بأس أن يأكل المعتكف في المسجد ويضع سفرةً يسقط عليها ما يقع منه كيلا يلوّث المسجد .
الغناء والتّصفيق والرّقص في المسجد :
22 - قال ابن مفلح : يسن أن يصان المسجد عن الغناء فيه والتّصفيق .
وأمّا لعبُ الحبشة بِدَرَقهم وحرابهم في المسجد يوم عيد وجعل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يستر عائشة وهي تنظر إليهم وقوله لهم : « دونكم يا بني أرفدة » " بنو أرفدة : جنس من الحبشة يرقصون " , فقد قال النّووي في شرح مسلم : فيه جواز اللّعب بالسّلاح ونحوه من آلات الحرب في المسجد , ويلحق به ما في معناه من الأسباب المعينة على الجهاد , وفيه بيان ما كان عليه صلّى اللّه عليه وسلّم من الرّأفة والرّحمة وحسن الخلق والمعاشرة بالمعروف .
ولمسلم وغيره : « جاء حبشٌ يزفنون " أي يرقصون " في يوم عيد في المسجد » , ونقل ابن مفلح عن شرح مسلم : حمله العلماء على التّوثب بسلاحهم ولعبهم بحرابهم على قريب من هيئة الرّاقص لأنّ معظم الرّوايات إنّما فيها لعبهم بحرابهم فتتأوّل هذه اللّفظة .
وعن أبي هريرة قال : « بينما الحبشة يلعبون عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بحرابهم إذ دخل عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه فأهوى إلى الحصباء يحصبهم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دعهم يا عمر » , قال في شرح مسلم وهو محمول على أنّه ظنّ أنّ هذا لا يليق بالمسجد وأنّ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام لم يعلم به .
قال المهلّب بن أبي صفرة شارح البخاريّ : المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين , وكل ما كان من الأعمال الّتي تجمع منفعة الدّين وأهله , واللّعب بالحراب من تدريب الجوارح على معاني الحروب فهو جائز في المسجد وغيره .
الخروج من المسجد بعد الأذان :
23 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ من دخل مسجداً قد أذّن فيه يكره له أن يخرج منه حتّى يصلّي إلّا لعذر كانتقاض طهارة أو خوف فوات رفقة , وقال الحنفيّة : وكذلك إذا كان ممّن ينتظم به أمر جماعة , لقوله عليه الصّلاة والسّلام : « لا يخرج من المسجد بعد النّداء إلّا منافق إلّا رجل يخرج لحاجته وهو يريد الرّجعة إلى الصّلاة » وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « من أدركه الأذان في المسجد ثمّ خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرّجعة فهو منافق » , وعن أبي الشّعثاء قال : « كنّا مع أبي هريرة رضي اللّه عنه في المسجد , فخرج رجل حين أذّن المؤذّن للعصر فقال أبو هريرة : أمّا هذا فقد عصى أبا القاسم » .
وأضاف الحنفيّة أنّه إن كان قد صلّى وكانت الظهر أو العشاء فلا بأس بأن يخرج لأنّه أجاب داعي اللّه مرّةً , إلّا إذا أخذ المؤذّن في الإقامة لأنّه يتّهم بمخالفة الجماعة عياناً , وإن كانت العصر أو المغرب أو الفجر خرج وإن أذّن المؤذّن فيها لكراهة التّنفل بعدها .
وقالوا : إنّ من دخل مسجداً قد أذّن فيه فإمّا أن يكون قد صلّى أو لا , فإن لم يكن قد صلّى, فإمّا أن يكون مسجد حيّه أو لا , فإن كان مسجد حيّه كره له أن يخرج قبل الصّلاة لأنّ المؤذّن دعاه ليصلّي فيه , وإن لم يكن مسجد حيّه فإن صلّى في مسجد حيّه فكذلك لأنّه صار بالدخول فيه من أهله , وإن لم يصلّ فيه وهو يخرج لأن يصلّي فيه لا بأس به لأنّ الواجب عليه أن يصلّي في مسجد حيّه .
وإن كان قد صلّى وكانت الظهر أو العشاء فلا بأس بالخروج .
وقال الحنابلة : يحرم الخروج من المسجد بعد الأذان بلا عذر أو نيّة رجوع لحديث عثمان بن عفّان رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « من أدركه الأذان في المسجد ثمّ خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرّجعة فهو منافق » , وقال صالح : لا يخرج, ونقل أبو طالب : لا ينبغي , ونقل ابن الحكم : أحب إليّ أن لا يخرج , وكرهه أبو الوفاء وأبو المعالي وقال ابن تميم : يجوز للمؤذّن أن يخرج بعد أذان الفجر , قال الشّيخ : إن كان التّأذين للفجر قبل الوقت لم يكره الخروج من المسجد قبل الصّلاة .
صلاة النّوافل في المسجد :
24 - ذهب الفقهاء إلى أنّ صلاة النّوافل في البيت أفضل منها في المسجد فقد قال النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « عليكم بالصّلاة في بيوتكم فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة » وقال : « اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتّخذوها قبوراً » , وقال : « أفضل صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة » .
واستثنوا من ذلك ما شرعت له الجماعة كالتّراويح فإنّها تصلّى في المسجد , واستثنى المالكيّة الرّواتب أيضاً .
الصّلاة على الجنازة في المسجد :
25 - اختلف الفقهاء في جواز الصّلاة على الجنازة في المسجد فكرهها الحنفيّة والمالكيّة وأجازها الشّافعيّة والحنابلة .
والمعتمد عند الشّافعيّة أنّها مستحبّة فيه , وقال الحنابلة بجوازها في المسجد وقيّد الحكم بأمن تلويث المسجد , وإلّا كره .
وللتّفصيل انظر مصطلح ( جنائز ف / 38 ) .
السّكن والبناء في المسجد :
26 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه ليس لقيّم المسجد أن يجعله سكناً لأنّه إن فعل ذلك تسقط حرمته.(/7)
وإذا أراد أن يبني حوانيت في المسجد أو في فنائه لا يجوز له أن يفعل , لأنّ الفناء تبع للمسجد .
وأجاز للمالكيّة لرجل تجرّد للعبادة السكنى بالمسجد وذلك ما لم يحجر فيه ويضيّق على المصلّين وإلّا منع , لأنّ السكنى في المسجد على غير وجه التّجرد للعبادة ممتنعة , لأنّها تغيير له عمّا حبّس له , وليس ذلك للمرأة , فيحرم عليها أو يكره ولو تجرّدت للعبادة لأنّها قد تحيض وقد يلتذ بها أحد من أهل المسجد فتنقلب العبادة معصيةً حتّى ولو كانت عجوزاً لا إرب للرّجال فيها , قال الدسوقيّ : لأنّ كلّ ساقطة لها لاقطة .
الاعتكاف في المسجد :
27 - أجمع الفقهاء على أنّه لا يصح للرّجل أن يعتكف إلّا في المسجد لقوله تعالى :
{ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } , « ولأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لم يعتكف إلّا في المسجد » .
وأمّا المرأة فقد ذهب الجمهور إلى أنّها كالرّجل لا يصح أن تعتكف إلّا في المسجد , ما عدا الحنفيّة فإنّهم يقولون إنّها تعتكف في مسجد بيتها لأنّه هو موضع صلاتها , ولو اعتكفت في مسجد الجماعة جاز مع الكراهة التّنزيهيّة .
والتّفصيل في مصطلح ( اعتكاف ف / 14 وما بعدها ) .
عقد النّكاح في المسجد :
28 - استحبّ جمهور الفقهاء عقد النّكاح في المسجد للبركة , ولأجل شهرته فعن عائشة رضي اللّه عنها قالت : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « أعلنوا هذا النّكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف » .
وأضاف المالكيّة في إجازتهم لعقد النّكاح في المسجد أن يكون بمجرّد الإيجاب والقبول من غير ذكر شروطٍ ولا رفع صوت أو تكثير كلام وإلّا كره فيه .
وزاد الحنفيّة في المختار عندهم : أنّ الزّفاف به لا يكره إذا لم يشتمل على مفسدة دينيّة فإن اشتمل عليها كره فيه .
البصاق في المسجد :
29 - لا خلاف بين الفقهاء في استحباب صيانة المسجد عن البصقة فيه إذ هي فيه خطيئة وكفّارتها دفنها لما فيها من تقزز النّاس منها .
والتّفصيل في مصطلح ( بصاق ف / 4 ) .
البيع في المسجد :
30 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه يكره لغير المعتكف البيع والشّراء في المسجد لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسلّ سيوفكم واتّخذوا على أبوابها المطاهر وجمّروها في الجمع » .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه « أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عن الشّراء والبيع في المسجد وأن تنشد فيه ضالّة وأن ينشد فيه شعر » , وأمّا بالنّسبة للمعتكف فإنّه لا بأس أن يبيع ويبتاع في المسجد ما كان من حوائجه الأصليّة من غير أن يحضر السّلعة لأنّه قد يحتاج إلى ذلك بأن لا يجد من يقوم بحاجته , إلّا أنّهم قالوا يكره إحضار السّلعة للبيع والشّراء , لأنّ المسجد محرّر عن حقوق العباد وفيه شغله بها .
وكذلك الحال عند المالكيّة في كراهة البيع والشّراء في المسجد بغير سمسرة لما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح اللّه تجارتك » .
فإن كان بسمسرة أي بمناداة على السّلعة بأن جلس صاحب السّلعة في المسجد وأتاه المشتري يقلّبها وينظر فيها ويعطي فيها ما يريد من ثمن حرم لجعل المسجد سوقاً , ثمّ إنّ محلّ الكراهة إذا جعل المسجد محلاً للبيع والشّراء بأن أظهر السّلعة فيه معرضاً لها للبيع , وأمّا مجرّد عقدهما فلا يكره .
والمختار عند الشّافعيّة القول بكراهة البيع والشّراء فيه , لما روى أبو هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح اللّه تجارتك » .
نشدان الضّالّة في المسجد :
31 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في المشهور عندهم إلى كراهة نشدان الضّالّة في المسجد فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه « أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عن الشّراء والبيع في المسجد أو ينشد فيه ضالّة أو ينشد فيه شعر » .
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح اللّه تجارتك وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالّةً فقولوا لا ردّها اللّه عليك » , وعنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « من سمع رجلاً ينشد ضالّةً في المسجد فليقل لا ردّها اللّه عليك فإنّ المساجد لم تبن لهذا » .
صلاة العيدين في المسجد :
31 - ذهب الحنفيّة في الأصحّ والحنابلة إلى أنّ صلاة العيدين سنّة في المصلّى - والمراد الفضاء والصّحراء - وقال المالكيّة : إنّها مندوبة , لحديث أبي سعيد رضي اللّه عنه :(/8)
« كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلّى » , وكذا الخلفاء بعده وكرهوا صلاتهما في المسجد لغير ضرورة داعية إلى الصّلاة فيه , وذلك كقيام عذر يمنع الخروج إلى المصلّى من مطر أو وحل أو خوف من لصوصٍ أو غيره , فإن وجد شيء من هذه الأعذار ومثيلاتها فإنّها تصلّى في المسجد الجامع بلا كراهة لوجود الضّرورة الدّاعية لذلك , لما روى أبو هريرة رضي اللّه عنه قال : « أصابنا مطر في يوم عيد فصلّى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المسجد » , وروي أنّ عمر وعثمان رضي اللّه عنهما صلّيا في المسجد في المطر , وأمّا بمكّة فتندب صلاة العيدين بالمسجد الحرام لمشاهدة الكعبة , وهي عبادة لخبر : « إنّ اللّه تعالى ينزّل كلّ يوم وليلة عشرين ومائةً رحمةً ينزل على هذا البيت ستون للطّائفين وأربعون للمصلّين وعشرون للنّاظرين » .
وقال الشّافعيّة : إنّ المسجد إن كان واسعاً فهو أفضل من المصلّى لأنّ الأئمّة لم يزالوا يصلون صلاة العيد بمكّة في المسجد , ولأنّ المسجد أشرف وأنظف , وإن صلّى في الصّحراء فلا بأس , لأنّه إذا ترك المسجد وصلّى في الصّحراء لم يكن عليهم ضرر , وقيل : فعلها في الصّحراء أفضل , لأنّها أرفق بالرّاكب وغيره , إلّا لعذر كمطر ونحوه فالمسجد أفضل , وإن كان المسجد ضيّقاً فصلّى فيه ولم يخرج إلى المصلّى كره ذلك لتأذّي النّاس بالزّحام , وربّما فات بعضهم الصّلاة .
وقال المالكيّة : والحكمة في صلاة العيدين في المصلّى هي من أجل المباعدة بين الرّجال والنّساء , لأنّ المساجد وإن كبرت يقع الازدحام فيها وفي أبوابها بين الرّجال والنّساء دخولاً وخروجاً , فتتوقّع الفتنة في محلّ العبادة .
33 - وهل للمصلّى حكم المسجد : سئل الغزالي من الشّافعيّة في فتاويه عن المصلّى الّذي بني لصلاة العيد خارج البلد فقال : لا يثبت له حكم المسجد في الاعتكاف ومكث الجنب وغيره من الأحكام , لأنّ المسجد هو الّذي أعدّ لرواتب الصّلاة وعيّن لها , حتّى لا ينتفع به في غيرها , وموضع صلاة العيد معد للاجتماعات ولنزول القوافل ولركوب الدّوابّ ولعب الصّبيان ولم تجر عادة السّلف بمنع شيء من ذلك فيه , ولو اعتقدوه مسجداً لصانوه عن هذه الأسباب , ولقصد لإقامة سائر الصّلوات , وصلاة العيد تطوع وهو لا يكثر تكرره , بل يبنى لقصد الاجتماع والصّلاة تقع فيه بالتّبع .
صلاة النّساء في المساجد :
34 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يستحب للنّساء أن تكون صلاتهنّ في بيوتهنّ , فذلك لهنّ أفضل من صلاتهنّ في المسجد , فعن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهنّ خير لهنّ » , فإن أرادت المرأة حضور المسجد مع الرّجال : فإن كانت شابّةً أو كبيرةً يشتهى مثلها كره لها الحضور وإن كانت عجوزاً لا تشتهى لم يكره لها , لما روي عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال : " والّذي لا إله غيره ما صلّت امرأة صلاةً قط خير لها من صلاة تصلّيها في بيتها إلّا أن يكون المسجد الحرام أو مسجد الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم إلّا عجوزاً في منقلها " , وذلك حيث تقل الرّغبة فيها , ولذا يجوز لها حضور المساجد كما في العيد .
وإن كانت شابّةً غير فارهة في الجمال والشّباب جاز لها الخروج لتصلّي في المسجد , بشرط عدم الطّيب , وأن لا يخشى منها الفتنة , وأن تخرج في رديء ثيابها , وأن لا تزاحم الرّجال , وأن تكون الطّريق مأمونةً من توقّع المفسدة , فإن لم تتحقّق فيها تلك الشروط كره لها الصّلاة فيه , فقد كانت النّساء يباح لهنّ الخروج إلى الصّلوات , ثمّ لمّا صار سبباً للوقوع في الفتنة منعن عن ذلك , جاء في تفسير قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ } , أنّها نزلت في شأن النّسوة حيث كان المنافقون يتأخّرون للاطّلاع على عوراتهنّ , وقول عائشة رضي اللّه عنها في الصّحيح : « لو أدرك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما أحدث النّساء لمنعهنّ كما منعت نساء بني إسرائيل » , وعن عائشة رضي اللّه عنها ترفعه « أيها النّاس أنهوا نساءكم عن لبس الزّينة والتّبختر في المساجد فإنّ بني إسرائيل لم يلعنوا حتّى لبس نساؤُهم الزّينة وتبختروا في المساجد » , وفي حديث أمّ سلمة رضي اللّه عنها : « خير مساجد النّساء قعر بيوتهنّ » .
دخول الجنب والحائض والنفساء في المسجد وعبورهم له :
35 - قال الحنفيّة والمالكيّة : إنّه يحرم على الجنب والحائض والنفساء دخول المسجد لما روت عائشة رضي اللّه عنها قالت : « جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال وجّهوا هذه البيوت عن المسجد ثمّ دخل ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن تنزل فيهم رخصة فخرج عليهم فقال وجّهوا هذه البيوت عن المسجد فإنّي لا أحل المسجد لحائض ولا جنب » .
وقال الشّافعيّة والحنابلة : يحرم عليهم المكث في المسجد , كما يحرم على الحائض والنفساء العبور فيه إن خيف تلويث المسجد وإن لم يخف التّلويث جاز العبور .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( حيض ف / 41 , وجنابة ف / 18 , ودخول ف / 6 ) .
حيض المرأة وجنابة الرّجل في المسجد :
36 - اتّفق الفقهاء على أنّه ليس للمرأة إذا حاضت , والرّجل إذا أجنب , وهما في المسجد أن يبقيا فيه وهما على ما هما عليه , وعليهما أن يخرجا منه حتّى يطهر كل منهما , فقد روت عائشة رضي اللّه عنها قول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : « لا أحل المسجد لحائض ولا جنب » .(/9)
ونصّ الحنفيّة على أنّ الاعتكاف لا يفسد بالاحتلام , ثمّ إن أمكنه الاغتسال في المسجد من غير أن يتلوّث المسجد فلا بأس به , وإلّا فيخرج ويغتسل ويعود إلى المسجد .
وقال المالكيّة : إذا حاضت المرأة وهي في مسجد اعتكافها - قبل إتمام ما نوته أو نذرته - خرجت وجوباً منه وعليها حرمة الاعتكاف , فلا تفعل ما لا يفعله المعتكف من جماع أو مقدّماته أو غير ذلك , فإذا طهرت من حيضها رجعت فوراً لمعتكفها للبناء , والمراد بالبناء: الإتيان ببدل ما حصل فيه المانع وتكميل ما نذرته ولو أخّرت رجوعها إليه ولو ناسيةً أو مكرهةً بطل اعتكافها وعليها أن تستأنفه .
وإذا أجنب الرّجل في المسجد وكان معتكفاً فسد اعتكافه وابتدأه بعد أن يغتسل , إذ يحرم على المعتكف من أهله باللّيل ما يحرم عليه منهنّ بالنّهار , ولا يحل لرجل أن يمسّ امرأته وهو معتكف , لقوله تعالى : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } .
ويقول الشّافعيّة : إذا طرأ الحيض وجب الخروج , وكذا الجنابة إن تعذّر الغسل في المسجد لحرمة المكث فيه على الحائض والجنب , فلو أمكن الغسل فيه جاز الخروج له ولا يلزم , بل يجوز الغسل فيه ويلزمه أن يبادر به كيلا يبطل تتابع اعتكافه , ولا يحسب زمن الحيض ولا الجنابة في المسجد من الاعتكاف لمنافاتهما له .
وقال الزّركشي : إذا أجنب الرّجل في المسجد أستحبّ له أن يراعي أقرب الطرق إلى الخروج .
ويقول الحنابلة : إنّه على الحائض المعتكفة أن تتحيّض في خباء في رحبة المسجد إن كان له رحبة وأمكن ذلك بلا ضرر وإلّا ففي بيتها , فإن طهرت وكان الاعتكاف منذوراً رجعت فأتمّت اعتكافها وقضت ما فاتها ولا كفّارة عليها .
وقال ابن مفلح : وفي جواز مبيت الجنب فيه مطلقاً بلا ضرورة روايتان , وقيل : يجوز إن كان مسافراً أو مجتازاً , وإلّا فلا .
وإذا خاف الجنب على نفسه أو ماله , أو لم يمكنه الخروج من المسجد , أو لم يجد مكاناً غيره , أو لم يمكنه الغسل ولا الوضوء تيمّم ثمّ أقام في المسجد , وإذا توضّأ الجنب فله اللبث في المسجد , وقال أكثر أهل العلم : لا يجوز له ذلك .
تخطّي الرّقاب في المسجد :
37 - لتخطّي الرّقاب في المسجد أحكام تختلف بالنّظر إلى المتخطّي إن كان إماماً أو غيره , أو كان للصّلاة أو لغيرها , ومع وجود فرجة أو عدم وجودها .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( تخطّي الرّقاب ف / 2 وما بعدها ) .
وقف المسجد والوقف عليه :
38 - أجمع الفقهاء على جواز وقف المسجد والوقف عليه ممّن كان من أهل التّبرع , لأنّه قربة وعلى جهة بر , إلّا أنّهم وضعوا قواعد لزوال ملك واقفه عنه ولزومه .
وفي هذا يقول الحنفيّة : إنّ من بنى مسجداً لم يزل ملكه عنه حتّى يفرزه عن ملكه بطريقه, ويأذن للنّاس بالصّلاة فيه , فإذا صلّى فيه واحد زال عن ملكه عند أبي حنيفة ومحمّد في إحدى روايتين عنهما , وفي الأخرى : لا يزول إلّا بصلاة جماعة , وعند أبي يوسف يزول ملكه عنه بمجرّد قوله : جعلته مسجداً , لأنّ التّسليم عنده ليس بشرط , كما يصح الوقف عليه والمسجد جعل للّه تعالى على الخلوص محرّراً عن أن يملك العباد فيه شيئاً غير العبادة فيه وما كان كذلك خرج عن ملك الخلق أجمعين .
ومتى زال ملكه عنه ولزم فليس له أن يرجع فيه ولا يبيعه ولا يورث عنه , لأنّه تجرّد عن حقّ العباد وصار خالصاً للّه تعالى , وهذا لأنّ الأشياء كلّها للّه وإذا أسقط العبد ما ثبت له من الحقّ رجع إلى أصله فانقطع تصرفه عنه كما في الإعتاق .
ويقول المالكيّة : إنّ من بنى مسجداً , وخلّى بينه وبين النّاس للصّلاة فيه صحّ وقفه ولزم , فإذا لم يخل الواقف بينه وبين النّاس بطل وقفه , كما يصح الوقف عليه .
ويقول الشّافعيّة : إنّ من بنى مسجداً وصلّى فيه , أو أذن للنّاس بالصّلاة , وقال : وقفته مسجداً للصّلاة فيه صحّ وقفه , وإن لم يقل ذلك لم يصر مسجداً , لأنّه إزالة ملكٍ على وجه القربة فلم يصحّ من غير قول مع القدرة كالعتق .
فإذا صحّ لزم وانقطع تصرف الواقف فيه, لما روى ابن عمر رضي اللّه عنهما أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال لعمر رضي اللّه عنه : « إن شئت حبست أصلها وتصدّقت بها قال فتصدّق بها عمر إنّه لا يباع ولا يوهب ولا يورث » , ويزول ملكه عن العين في الصّحيح عندهم .
ويقول الحنابلة : إنّ من بنى مسجداً وأذن للنّاس بالصّلاة فيه إذناً عاماً كان لازماً ومؤبّداً لا يباع ولا يوهب ولا يورث .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( وقف ) .
الوصيّة للمسجد :
39 - الوصيّة للمسجد أجازها الفقهاء ويصرف الموصى به في مصالحه كوقوده وعمارته, لأنّه مقصود النّاس بالوصيّة له .
وقال الدسوقي : إن اقتضى العرف صرفها للمجاورين كالجامع الأزهر صرف لهم لا لمرمّته وحصره , ونحوهما .
والتّفصيل في مصطلح ( وصيّة ) .
دخول الذّمّيّ المسجد :
40 - يرى الحنفيّة أنّه لا بأس بدخول الذّمّيّ المسجد الحرام أو غيره من المساجد , لما روي « أنّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنزل وفد ثقيف في المسجد وكانوا كفّاراً وقال إنّه ليس على الأرض من أنجاس النّاس شيء إنّما أنجاس النّاس على أنفسهم » , وتأويل الآية أنّهم لا يدخلون مستولين أو طائفين عراةً كما كانت عادتهم .
ومنع المالكيّة دخول الذّمّيّ المسجد , وإن أذن له مسلم في الدخول ما لم تدع ضرورة لدخوله كعمارة وإلّا فلا .
وقال الزّركشي : يمكّن الكافر من دخول المسجد واللبث فيه وإن كان جنباً , فإنّ الكفّار كانوا يدخلون مسجده صلّى اللّه عليه وسلّم ولا شكّ أنّ فيهم الجنب .(/10)
وأطلق الرّافعي والنّووي رحمهما اللّه أنّه يجوز للكافر أن يدخل مساجد غير الحرم بإذن المسلم , فإذا لم يأذن له المسلم في ذلك فليس له الدخول على الصّحيح , فإن دخل بغير إذن عزّر إلّا أن يكون جاهلاً بتوقّفه على الإذن فلا يعزّر .
ويرى الحنابلة : أنّه ليس للذّمّيّ دخول مساجد الحلّ " وهي كل مسجد خارج نطاق حرم مكّة" بغير إذن المسلمين , وفي قول آخر لهم دخوله .
وقف الذّمّيّ على المسجد :
41 - اختلف الفقهاء في وقف الذّمّيّ على المسجد , فذهب الجمهور إلى صحّته لعموم أدلّة الوقف , ومنعه المالكيّة .
والتّفصيل في مصطلح : ( وقف ) .
الزّكاة للمسجد :
42 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا يجوز صرف الزّكاة في بناء المسجد , لانعدام التّمليك . وللتّفصيل انظر مصطلح ( زكاة ف / 181 ) .
ونقل الإمام فخر الدّين الرّازيّ عن القفّال في تفسيره آية الزّكاة عن بعض الفقهاء أنّهم أجازوا صرف الصّدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد لأنّ قوله تعالى : { وَفِي سَبِيلِ اللّهِ } عام في الكلّ .
الصّدقة على السّائلين في المسجد :
43 - قال الزّركشي : لا بأس أن يعطى السّائل في المسجد شيئاً لحديث عبد الرّحمن بن أبي بكر رضي اللّه عنهما قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « هل منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً فقال أبو بكر دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل فوجدت كسرة خبزٍ في يد عبد الرّحمن فأخذتها منه فدفعتها إليه » .
ونقل الزّركشي عن كتاب الكسب لمحمّد بن الحسن أنّ المختار أنّه إن كان السّائل لا يتخطّى رقاب النّاس ولا يمر بين يدي المصلّي , ولا يسأل النّاس إلحافاً فلا بأس بالسؤال والإعطاء, لأنّ السؤّال كانوا يسألون على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المسجد حتّى يروى أنّ علياً رضي اللّه عنه تصدّق بخاتمه وهو في الركوع . فمدحه اللّه بقوله : { وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } , وإن كان يتخطّى رقاب النّاس ويمر بين يدي المصلّي فيكره إعطاؤُه , لأنّه إعانة له على أذى النّاس حتّى قيل : هذا فلس واحد يحتاج إلى سبعين فلساً لكفّارته .
وقال ابن مفلح : قال بعض أصحابنا يكره السؤال والتّصدق في المساجد , ومرادهم - واللّه أعلم - التّصدق على السؤّال لا مطلقاً , وقطع به ابن عقيل , وأكثرهم لم يذكر الكراهة , وقد نصّ أحمد رحمه اللّه على أنّ من سأل قبل خطبة الجمعة ثمّ جلس لها تجوز الصّدقة عليه , وكذلك إن تصدّق على من لم يسأل أو سأل الخطيب الصّدقة على إنسان جاز .
ونقل ابن مفلح عن البيهقيّ أنّ عليّ بن محمّد بن بدر قال : صلّيت يوم الجمعة فإذا أحمد بن حنبل بقرب منّي , فقام سائل فسأل فأعطاه أحمد قطعةً .
وكره الحنفيّة التّخطّي للسؤال فلا يمر السّائل بين يدي المصلّي ولا يتخطّى رقاب النّاس ولا يسأل النّاس إلحافاً إلّا إذا كان لأمر لا بدّ منه .
استبدال المسجد :
44 - ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جواز استبدال المسجد .
قال الحنفيّة : لو باع كرماً فيه مسجد قديم إن كان عامراً يفسد البيع وإلّا لا , ولو اشترى داراً بطريقها ثمّ أستحقّ الطّريق : إن شاء أمسكها بحصّتها , وإن شاء ردّها إن كان الطّريق مختلطاً بها , وإن كان متميّزاً لزمه الدّار بحصّتها , ومعنى اختلاطه كونه لم يذكر له الحدود, وفي المنتقى : إذا لم يكن الطّريق محدوداً فسد البيع , والمسجد الخاص كالطّريق المعلوم ولو كان مسجد جماعة فسد البيع في الكلّ , وفي بعض النسخ ولو كان مسجد جامع فسد في الكلّ , وكذا لو كان مهدوماً أو أرضاً ساحةً لا بناء فيها بعد أن يكون أصله مسجداً جامعاً كذا في المجتبى , والظّاهر أنّ هذا متفرّع على قول أبي يوسف في المسجد : إلّا إن كان من ريعه معلوم يعاد به , ولو باع قريةً وفيها مسجد واستثني المسجد جاز البيع .
وفي هذا يقول المالكيّة : أمّا المسجد فلا خلاف في عدم جواز بيعه مطلقاً سواء خرب أم لا , وإن انتقلت العمارة عن محلّه , ومثل عدم جواز بيع المسجد نقضه , فلا يجوز بيع نقض المسجد بمعنى أنقاضه .
وإذا كان المسجد محفوفاً بوقوف فافتقر إلى توسعة جاز أن يبتاع منها ما يوسّع به , يعني أنّ المسجد إذا كان محفوفاً بوقوف وكان هذا المسجد في حاجة إلى توسعة ولم يوجد ما يوسّعه إلّا ببيع بعض تلك الأوقاف أو كلّها فإنّه يجوز أن تباع لتوسعة المسجد , وعلى هذا فإنّه لا يجوز بيع الحبس ولو صار خرباً إلّا في هذه المسألة , وهي ما إذا ضاق المسجد بأهله , أو احتاج إلى توسعة , وبجانبه عقار حبس أو ملكٍ فإنّه يجوز بيع الحبس لأجل توسعة المسجد , وإن أبى صاحب الحبس أو صاحب الملك بيع ذلك فالمشهور أنّهما يجبران على بيع ذلك ويشترى بثمن الحبس ما يجعل حبساً كالأوّل , ومثل توسعة المسجد توسعة طريق المسلمين ومقبرتهم .
وفي الموّاق : قال سحنون : لم يجز أصحابنا بيع الحبس بحال إلّا داراً بجوار مسجد أحتيج أن تضاف إليه ليتوسّع بها , فأجازوا بيع ذلك ويشترى بثمنها دار تكون حبساً , وقد أدخل في مسجد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم دور محبسة كانت تليه , وعن مالكٍ أنّ ذلك إنّما يجوز في مساجد الجوامع إن أحتيج إلى ذلك لا في مساجد الجماعات , إذ ليست الضّرورة فيها كالجوامع .(/11)
ويقول الشّافعيّة : لو انهدم مسجد وتعذّرت إعادته لم يبع بحال لإمكان الصّلاة فيه في الحال, ويقول القليوبي تعليقاً على قول صاحب المنهاج " وتعذّرت إعادته " : أي بنقضه , ثمّ إن رجي عوده حفظ نقضه وجوباً - ولو بنقله إلى محل آخر إن خيف عليه لو بقي - وللحاكم هدمه ونقل نقضه إلى محل أمين إن خيف على أخذه لو لم يهدم , فإن لم يرج عوده بني به مسجد آخر لا نحو مدرسة , وكونه بِقُرْبِهِ أولى , فإن تعذّر المسجد بني به غيره .
وأمّا غلّته الّتي ليس لأرباب الوظائف وحصره وقناديله فكنقضه وإلّا فهي لأربابها , وإن تعذّرت , لعدم تقصيرهم .
وعند الحنابلة : إذا تعطّلت منافع المسجد بخراب أو غيره , كخشب تشعّث وخيف سقوطه , ولم يوجد ما يعمر به , فيباع ويصرف ثمنه في مثله أو بعض مثله , نصّ عليه أحمد قال : وإذا كان في المسجد خشبات لا قيمة لها جاز بيعها وصرف ثمنها عليه , وقال : يحوّل المسجد خوفاً من اللصوص وإذا كان موضعه قذراً , قال أبو بكر المعروف بالخلّال : وروي عنه أنّ المساجد لا تباع إنّما تنقل آلتها , قال : وبالقول الأوّل أقول , لإجماعهم على جواز بيع الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو , فإن لم يبلغ ثمن الفرس أعين به في فرس حبيس , لأنّ الوقف مؤبّد , فإذا لم يمكن تأبيده بعينه استبقينا الفرس - وهو الانتفاع على الدّوام - في عين أخرى واتّصال الأبدال يجري مجرى الأعيان وجمودنا على العين مع تعطلها تضييع للغرض كذبح الهدي إذا أعطب في موضعه مع اختصاصه بموضع آخر , فلمّا تعذّر تحصيل الغرض بالكلّيّة استوفى منه ما أمكن , قاله ابن عقيل وغيره .
وبمجرّد شراء البدل يصير وقفاً , وكذا حكم المسجد لو ضاق على أهله ولم تمكن توسعته في موضعه , أو خربت محلّته أو أستقذر موضعه , قال القاضي : يعني إذا كان ذلك يمنع من الصّلاة فيه فيباع .
ويجوز نقل آلته وحجارته لمسجد آخر احتاج إليها , وذلك أولى من بيعه لما روي أنّ عمر رضي اللّه عنه كتب إلى سعد لمّا بلغه أنّ بيت المال الّذي في الكوفة نقب أن أنقل المسجد الّذي بالتّمّارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد فإنّه لن يزال في المسجد مصل , وكان هذا بمشهد من الصّحابة ولم يظهر خلافه فكان كالإجماع .
بيع المسجد أو أنقاضه دون أرضه :
45 - جمهور الفقهاء على أنّ المسجد لا يباع , وفي هذا يقول الحنفيّة : من اتّخذ أرضه مسجداً واستوفى شروط صحّة وقفه لم يكن له أن يرجع فيه ولا يبيعه ولا يورث عنه , لأنّه تجرّد عن حقّ العباد وصار خالصاً للّه تعالى , وهذا لأنّ الأشياء كلّها للّه تعالى وإذا أسقط العبد ما ثبت له من الحقّ رجع إلى أصله فانقطع تصرفه عنه كما في الإعتاق .
ولو خرب ما حول المسجد واستغني عنه يبقى مسجداً عند أبي يوسف لأنّه إسقاط منه فلا يعود إلى ملكه , وعند محمّد يعود إلى ملك الباني " الواقف " إن كان حيّاً أو إلى وارثه بعد موته , وإن لم يعرف بانيه ولا ورثته كان لهم بيعه والاستعانة بثمنه في بناء مسجد آخر لأنّه عيّنه لنوع قربة , وقد انقطعت , فصار كحصير المسجد وحشيشه إذا أستغني عنه , إلّا أنّ أبا يوسف يقول في الحصر والحشيش إنّه ينقل إلى مسجد آخر .
ولو ضاق المسجد وبجنبه أرض وقف عليه أو حانوت جاز أن يؤخذ ويدخل فيه , ولو كان ملك رجل أخذ بالقيمة كرهاً , فلو كان طريقاً للعامّة أدخل بعضه بشرط أن لا يضرّ بالطّريق . وفي كتاب الكراهية من الخلاصة عن الفقيه أبي جعفر عن هشام عن محمّد أنّه يجوز أن يجعل شيء من الطّريق مسجداً , أو يجعل شيء من المسجد طريقاً للعامّة , يعني إذا احتاجوا إلى ذلك .
ولأهل المسجد أن يجعلوا الرّحبة مسجداً وكذا على القلب , ويحوّلوا الباب أو يحدثوا له باباً آخر , ولو اختلفوا ينظر أيهما أكثر ولايةً له ذلك .
ولهم أن يهدموه ويجدّدوه , وليس لمن ليس من أهل المحلّة ذلك , وكذا لهم أن يضعوا الحباب ويعلّقوا القناديل ويفرشوا الحصر كل ذلك من مال أنفسهم , وأمّا من مال الوقف فلا يفعل غير المتولّي إلّا بإذن القاضي .
ومن كتاب التّجنيس : قيّم المسجد إذا أراد أن يبني حوانيت في المسجد أو في فنائه لا يجوز له أن يفعل , لأنّه إذا جعل المسجد سكناً تسقط حرمة المسجد , وأمّا الفناء فلأنّه تبع للمسجد , ولو خرب ما حول المسجد واستغنى عنه أي استغنى عن الصّلاة فيه أهل تلك المحلّة أو القرية بأن كان في قرية فخربت وحوّلت مزارع يبقى مسجداً على حاله عند أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة .
ويقول المالكيّة : لا يجوز بيع المسجد مطلقاً سواء خرب أم لا ولو انتقلت العمارة عن محلّه, ومثل عدم جواز بيع المسجد نقضه , فلا يجوز بيع نقض المسجد بمعنى أنقاضه . وفي القرطبيّ : لا يجوز نقض المسجد ولا بيعه ولا تعطيله وإن خربت المحلّة .
ويقول الشّافعيّة : من وقف مسجداً فخرب المكان وانقطعت الصّلاة فيه لم يعد إلى الملك ولم يجز التّصرف فيه , لأنّ ما زال الملك فيه لحقّ اللّه تعالى ولا يعود إلى الملك بالاختلال كما لو أعتق عبداً ثمّ زمن .
وإن وقف جذوعاً على مسجد فتكسّرت ففيه وجهان أحدهما : لا يجوز بيعه , والثّاني : يجوز بيعه , لأنّه لا يرجى منفعته , فكان بيعه أولى من تركه بخلاف المسجد , فإنّ المسجد يمكن الصّلاة فيه مع خرابه , وقد يعمر الموضع فيصلّى فيه .
وإن وقف شيئاً على مسجد فاختلّ المكان حفظ الارتفاع " الغلّة " ولا يصرف إلى غيره لجواز أن يرجع كما كان .(/12)
ويقول الحنابلة بتحريم بيع المسجد إلّا أن تتعطّل منافعه بخراب أو غيره كخشب تشعّث وخيف سقوطه ولم يوجد ما يعمر به , فيباع ويصرف ثمنه في مثله أو بعض مثله نصّ عليه أحمد , قال : وإذا كان في المسجد خشبات لها قيمة جاز بيعها وصرف ثمنها عليه .
غرس الشّجر في المسجد والزّرع فيه وحفر بئر فيه :
46 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز غرس الأشجار في المسجد إلّا إذا كان ذا نزٍّ , والأسطوانات لا تستقر به , فيجوز لتشرب ذلك الماء فيحصل بها النّفع , ولا يحفر فيه بئر , ولو كانت قديمةً - كبئر زمزم - تركت , ولو حفر فتلف فيه شيء إن حفر أهل المسجد أو غيرهم بإذنهم لا يضمن , وإن كان بغير إذنهم ضمن أضرّ ذلك بأهله أو لا .
وحرّم الحنابلة حفر البئر وغرس الشّجر بالمساجد لأنّ البقعة مستحقّة للصّلاة فتعطيلها عدوان , فإن فعل طمّت البئر وقلعت الشّجرة , نصّ عليه , قال : هذه غرست بغير حقٍّ والّذي غرسها ظالم غرس فيما لا يملك .
وتحريم حفر البئر في المسجد حيث لم يكن فيه مصلحة , فإن كان في حفره مصلحة ولم يحصل به ضيق لم يكره أحمد حفرها فيه , والزّرع فيه مكروهٌ .
وقال ابن قدامة : لا يجوز أن يغرس في المسجد شجرة وإن كانت النّخلة في أرض فجعلها صاحبها مسجداً والنّخلة فيها فلا بأس ويجوز أن يبيعها من الجيران , وفي رواية : لا تباع وتجعل للمسلمين وأهل الدّرب يأكلونها , وقيل : إنّ المسجد إذا احتاج إلى ثمن ثمرة الشّجرة بيعت وصرف ثمنها في عمارته , أمّا إن قال صاحبها : هذه وقف على المسجد فينبغي أن يباع ثمرها ويصرف إليه .
والمالكيّة لا يجيزون ذلك في المسجد وإن وقع قلع .
والشّافعيّة قالوا بكراهة غرس الشّجر والنّخل وحفر الآبار في المساجد لما فيه من التّضييق على المصلّين , ولأنّه ليس من فعل السّلف , والصّحيح تحريمه لما فيه من تحجير موضع الصّلاة والتّضييق وجلب النّجاسات من ذرق الطيور , وقال الغزالي : لا يجوز الزّرع فيه , وإن غرس غرساً يستظل به فهلك به إنسان فلا ضمان .
وقال الرّافعي في كتاب الوقف : ولا ينبغي أن يغرس في المسجد شجر لأنّه يمنع المصلّين , قال في الرّوضة في باب السّجدات : فإن غرس قلعه الإمام , وقال القاضي حسين في تعليقه في الصّلاة : لا يجوز الغرس في المسجد ولا الحفر فيه ; لأنّ ذلك ممّا يشغل المصلّي .
وقال في آخر كتاب الوقف : سئل أبو عليٍّ عبد اللّه الحنّاطي عن رجل غرس شجرةً في المسجد كيف يصنع بثمارها ؟ فقال : إن جعلها للمسجد لم يجز أكلها من غير عوض , ويجب صرفها إلى مصالح المسجد , ولا ينبغي أن يغرس في المساجد الأشجار لأنّها تمنع الصّلاة , فإن غرسها مسبّلةً للأكل جاز أكلها بلا عوض وكذا إن جهلت نيّته حيث جرت العادة به .
انتفاع جار المسجد بوضع خشبة على جداره :
47 - للمالكيّة قولان في أنّه هل لناظر وقف المسجد أن يعير جار المسجد موضعاً لغرز خشبة فيه أو ليس له هذا الحقّ ؟ أحدهما بإعطائه هذا الحقّ , والآخر بمنعه من ذلك وهو الرّاجح عندهم .
ويشترط الحنابلة لجواز وضع تلك الخشبة على جدار المسجد أن لا تضرّ بحائطه فيضعف عن حملها , وأن لا يمكن التّسقيف بدون وضعها وأن لا يكون عند صاحبها غناء بوضعها على غير جدار المسجد , وأن تكون الحاجة داعيةً إلى وضع تلك الخشبة على جداره , فمتى كان ذلك جاز وضع تلك الخشبة على جداره , وقيل : يشترط للجواز أن يكون له ثلاثة حيطان ولجاره حائط واحد .
فإن كان غرزها في جدار المسجد يضرّ بحائطه فيضعفه عن حملها , أو أمكن التّسقيف بدون وضعها عليه , أو كان عنده غناء بوضعها على غير جداره , أو لم تدع الحاجة إلى وضعها على جداره لم يجز وضعها عليه .
إغلاق المسجد في غير أوقات الصّلاة :
48 - ذهب جمهور الفقهاء وهو قول للحنفيّة إلى أنّه لا بأس بإغلاق المساجد في غير أوقات الصّلاة , صيانةً لها وحفظاً لما فيها من متاع , وتحرزاً عن نقب بيوت الجيران منها, وخوفاً من سرقة ما فيها .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه يكره تحريماً إغلاق باب المسجد لأنّه يشبه المنع من الصّلاة والمنع من الصّلاة حرام لقوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } .
تعطيل المساجد :
49 - قال الزّركشي : إذا تعطّل المسجد بتفرق النّاس عن البلد أو خرابها أو بخراب المسجد فلا يعود مملوكاً ولا يجوز بيعه بحال ولا التّصرف فيه , كما لو أعتق عبداً ثمّ زمن لا يعود مملوكاً .
ثمّ إن خيف أن تنقضه الشّياطين , نقض وحفظ , وإن رأى القاضي أن يبني بنقضه مسجداً آخر , قال القاضي وابن الصّبّاغ والمتولّي : يجوز , وقال المتولّي : الأولى أن ينقل إلى أقرب الجهات إليه , فإن نقل إلى البعيد جاز , ولا يصرف النّقض إلى غير المسجد كالرّباطات والقناطر والآبار , كما لا يجوز عكسه , لأنّ الوقف لازم , وقد دعت الضّرورة إلى تبديل المحلّ دون الجهة .
وقال القرطبي : لا يجوز نقض المسجد ولا بيعه ولا تعطيله وإن خربت المحلّة .
وإذا تعطّلت منافع المسجد بخراب أو غيره كخشب تشعّث وخيف سقوطه ولم يوجد ما يعمر به فيباع ويصرف ثمنه في مثله أو بعض مثله نصّ عليه أحمد , قال : إذا كان في المسجد خشبات لها قيمة جاز بيعها وصرف ثمنها عليه , وقال يحوّل المسجد خوفاً من اللصوص , وإذا كان موضعه قذراً .(/13)
مَسْح على الخُفّين *
التّعريف :
1 - المسح لغةً مصدر مسح , ومعناه : إمرار اليد على الشّيء بسطاً .
والمسح على الخفّين : إصابة البلّة لخفّ مخصوصٍ في محل مخصوصٍ وزمن مخصوصٍ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الغسل :
2 - الغسل لغةً بفتح الغين مصدر غسل , وهو سيلان الماء على الشّيء مطلقاً .
وفي الاصطلاح : إفاضة الماء الطّهور على الشّيء على وجهٍ مخصوصٍ .
والصّلة أنّ كلاً من المسح على الخفّين والغسل يكون سبباً لإزالة الحدث .
مشروعيّة المسح على الخفّين :
2 - ثبتت مشروعيّة المسح على الخفّين بالسنّة النّبويّة المطهّرة , ومنها : ما رواه علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه لو كان الدّين بالرّأي لكان أسفل الخفّ أولى بالمسح من أعلاه , « وقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يمسح على ظاهر خفّيه » .
وما رواه جرير بن عبد اللّه البجلي رضي اللّه تعالى عنه « أنّه بال ثمّ توضّأ ومسح على خفّيه فقيل له أتفعل هذا فقال نعم رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بال ثمّ توضّأ ومسح على خفّيه » , وإسلام جرير كان بعد نزول المائدة الّتي فيها قول اللّه تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ } , والّتي قيل إنّها ناسخة للمسح .
وقد روى مشروعيّة المسح على الخفّين أكثر من ثمانين من الصّحابة رضوان اللّه عليهم منهم العشرة .
الحكم التّكليفي للمسح على الخفّين :
4 - الأصل في المسح على الخفّين الجواز , والغسل أفضل عند جمهور الفقهاء , وهو رخصة من الشّارع , واللّه سبحانه يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تجتنب نواهيه . وعند الحنابلة : الأفضل المسح على الخفّين أخذاً بالرخصة ولأنّ كلاً من الغسل والمسح أمر مشروع .
وقد يجب المسح على الخفّين كأن خاف فوت عرفة أو إنقاذ أسير أو انصبّ ماؤُه عند غسل رجليه ووجد برداً لا يذوب يمسح به , أو ضاق الوقت ولو اشتغل بالغسل لخرج الوقت , أو خشي أن يرفع الإمام رأسه من الركوع الثّاني في الجمعة , أو تعيّن عليه الصّلاة على ميّت وخيف انفجاره لو غسل أو كان لابس الخفّ بشرطه محدثاً ودخل الوقت وعنده ما يكفي المسح فقط .
حكمة المسح على الخفّين :
5 - الحكمة من المسح على الخفّين التّيسير والتّخفيف عن المكلّفين الّذين يشقّ عليهم نزع الخفّ وغسل الرّجلين خاصّةً في أوقات الشّتاء والبرد الشّديد , وفي السّفر وما يصاحبه من الاستعجال ومواصلة السّفر .
مدّة المسح على الخفّين في الحضر والسّفر :
6 - اختلف الفقهاء في توقيت مدّة المسح على رأيين :
الأوّل : يرى جمهور الفقهاء الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة توقيت مدّة المسح على الخفّين بيوم وليلة في الحضر , وثلاثة أيّام ولياليها للمسافر , واستدلوا بما رواه علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال : « جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثلاثة أيّام ولياليهنّ للمسافر ويوماً وليلةً للمقيم » وسواء كان سفر طاعة أو سفر معصية عند الحنفيّة أمّا الشّافعيّة والحنابلة فيرون أنّ المسافر سفر معصية يمسح يوماً وليلةً فقط كالمقيم , لأنّ ما زاد يستفيده بالسّفر وهو معصية فلا يجوز أن يستفاد بها رخصة .
الثّاني : يرى المالكيّة أنّه يجوز المسح على الخفّين في الحضر والسّفر ولو لمعصية على المعتمد من غير توقيت بزمان , فلا ينزعهما إلّا لموجب الغسل , ويندب للمكلّف نزعهما في كلّ أسبوع مرّةً يوم الجمعة ولو لم يرد الغسل لها , ونزعهما مرّةً في كلّ أسبوع في مثل اليوم الّذي لبسهما فيه , فإذا نزعهما لسبب أو لغيره وجب غسل الرّجلين .
واستدلوا بما رواه أبي بن عمارة قال : « قلت يا رسول اللّه أمسح على الخفّين قال نعم قلت يوماً قال يوماً قلت يومين قال يومين قلت وثلاثةً : قال وما شئت » .
ولأنّه مسح في طهارة فلم يتوقّت بوقت كمسح الرّأس في الوضوء والمسح على الجبائر , ولأنّ التّوقيت لا يؤثّر في نقض الطّهارة , إنّما النّاقض للطّهارة الحدث من البول والغائط والجنابة .
شروط المسح على الخفّين :
7 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجوز المسح على الخفّين لمن وجب عليه الغسل , بل يجب عليه نزع الخفّ والاغتسال , كما ذهبوا إلى جواز المسح على الخفّين من الحدث الأصغر بشروط معيّنة , وهذه الشروط تنقسم إلى قسمين , شروط متّفق عليها , وشروط مختلف فيها , اشترطها البعض , ولم يشترطها البعض الآخر .
الشروط المتّفق عليها :
8 - أ - أن يلبس الخفّين على طهارة كاملة , لحديث المغيرة بن شعبة قال : « كنت مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في سفر فأهويت لأنزع خفّيه فقال دعهما فإنّي أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما » .
وقد اختلف الفقهاء في بعض جزئيّات هذا الشّرط , فالجمهور غير الشّافعيّة يشترطون أن تكون الطّهارة بالماء من وضوء أو غسل , أما الشّافعيّة فيجوّزون أن تكون الطّهارة بالماء أو بالتّيمم , ولكن ليس لفقد الماء مثلاً , بل لعدم القدرة على استعماله .
ويرى الجمهور غير الحنفيّة أن تكون الطّهارة كاملةً بأن يلبسهما بعد تمام الطّهارة بالوضوء أو بالغسل , بينما يرى الحنفيّة أن تكون الطّهارة كاملةً ولو لم يراع فيها التّرتيب وقت الحدث بعد اللبس , إذ أنّ التّرتيب في الوضوء ليس شرطاً عندهم , وهو شرط عند الجمهور , فلو غسل رجليه أوّلاً ثمّ مسح رأسه , وغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ثمّ لبس الخفّ فيجوز له المسح عند انتقاض وضوئه عند الحنفيّة دون الجمهور .(/1)
ب - أن يكون الخف طاهراً , فلا يجوز المسح على خف نجس كجلد الميتة قبل الدّبغ عند الحنفيّة والشّافعيّة , ولا بعد الدّبغ عند المالكيّة والحنابلة , لأنّ الدّباغ مطهّر عند الأوّلين غير مطهّر عند الآخرين , والنّجس منهي عنه .
ج - أن يكون الخف ساتراً للمحلّ المفروض غسله في الوضوء فلا يجوز المسح على خف غير ساتر للكعبين مع القدم .
د - إمكانيّة متابعة المشي فيهما , وتفصيل هذا الشّرط على النّحو التّالي :
يرى الحنفيّة إمكانيّة متابعة المشي المعتاد فيهما فرسخاً فأكثر , وفي قول : مدّة السّفر الشّرعيّ للمسافر , فلا يجوز المسح على الخفّ الرّقيق الّذي يتخرّق من متابعة المشي في هذه المسافة , كما لا يجوز اتّخاذ الخفّ من الخشب أو الزجاج أو الحديد , كما لا يجوز المسح على الخفّ الّذي لا يستمسك على الرّجل من غير شد .
ويرى المالكيّة لجواز المسح على الخفّين إمكانيّة متابعة المشي فيه عادةً فلا يجوز المسح على خف واسع لا يستمسك على القدم .
ويرى الشّافعيّة لجواز المسح على الخفّين إمكانيّة التّردد فيهما لقضاء الحاجات مدّة المسح المقرّرة في الحضر والسّفر سواء في ذلك المتّخذ من جلد أو غيره كلبد وزجاج ونحوهما . ويرى الحنابلة أن يكون الخفّان من جلد أو خشب أو نحوه , بشرط إمكانيّة متابعة المشي فيهما عرفاً , بشرط أن يستمسك على القدم .
الشروط المختلف فيها :
9 - أ - أن يكون الخف سليماً من الخروق , وقد اختلفوا بعد ذلك في مقدار الخرق الّذي منع من المسح على النّحو التّالي :
يرى الحنفيّة والمالكيّة جواز المسح على الخفّ الّذي به خرق يسير دفعاً للحرج عن المكلّفين , إذ أنّ الخفاف لا تخلو عن خرقٍ في العادة , ومقدار ثلاث أصابع من أصغر أصابع القدم أو قدر ثلث القدم مقدار معفوٌّ عنه عندهما على التّوالي :
ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّه لا يجوز المسح على خف به خرق مهما كان صغيراً لأنّه عندئذ لا يكون ساتراً لجميع القدم , وما انكشف من القدم حكمه الغسل وما استتر حكمه المسح , ولا يجوز الجمع بين الغسل والمسح في آن واحد .
ب - أن يكون الخف من الجلد , وهذا الشّرط عند المالكيّة فقد تمسّكوا بهذا الشّرط فلا يجوز عندهم المسح على الخفّ المتّخذ من القماش كما لا يصح المسح على الجوارب المصنوعة من الصوف أو القطن أو نحو ذلك إلّا إذا كسيت بالجلد , كما اشترطوا أن يكون الجلد مخروزاً أو مخيطاً , فلا يجوز المسح على الّذي يتماسك باللّزق .
ويرى الجمهور غير المالكيّة جواز المسح على الخفّ المصنوع من الجلد أو من غيره , بشرط أن يكون الخف مانعاً من وصول الماء إلى القدم مع بقيّة الشروط الأخرى , لأنّ الغالب في الخفّ كونه كذلك , سواء كان يستمسك على القدم بنفسه أو بالشّدّ بواسطة العرى والسيور والرّباط .
ج - أن يكون الخف مفرداً , بأن يلبسه وحده , فلو لبس فوقه غيره كما هو الحال بالنّسبة للجرموق - وهو الشّيء الّذي يلبس فوق الخفّ - ففي ذلك تفصيل عند الفقهاء .
يرى الحنفيّة وهو الرّاجح عند المالكيّة جواز المسح على الجرموق لحديث رؤية بلال بن رباح رضي اللّه عنه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يمسح على موقيه وهو الجرموق عندهم . ويشترط الحنفيّة ثلاثة شروطٍ لصحّة المسح على الجرموق :
الأوّل : أن يكون الأعلى من الجلد , فإن كان غير جلد صحّ المسح عليه إن وصل الماء إلى الأسفل .
الثّاني : أن يكون الأعلى صالحاً للمشي فيه وحده .
الثّالث : أن يلبسا على طهارة , فكما لبس الأسفل على طهارة يجب أن يلبس الأعلى على طهارة كذلك .
وعند الشّافعيّة قال النّووي : الجرموق : هو الّذي يلبس فوق الخفّ لشدّة البرد غالباً - فإذا لبس خفاً فوق خف , فله أربعة أحوال .
أحدها : أن يكون الأعلى صالحاً للمسح عليه دون الأسفل , لضعفه أو لخرقه , فالمسح على الأعلى خاصّةً .
الثّاني : عكسه , فالمسح على الأسفل خاصّةً , فلو مسح الأعلى فوصل البلل إلى الأسفل , فإن قصد مسح الأسفل أجزأه , وكذا إن قصدهما على الصّحيح , وإن قصد الأعلى لم يجز . وإن لم يقصد واحداً , بل قصد المسح في الجملة , أجزأه على الأصحّ , لقصده إسقاط فرض الرّجل بالمسح .
الثّالث : أن لا يصلح واحد منهما فيتعذّر المسح .
الرّابع : أن يصلحا كلاهما , ففي المسح على الأعلى وحده قولان : القديم جوازه , والجديد منعه .
قلت : الأظهر عند الجمهور الجديد , وصحّح القاضي أبو الطّيّب في شرح " الفروع " القديم.(/2)
وقال الحنابلة : وإن لبس خفاً فلم يحدث حتّى لبس عليه آخر وكان الخفّان صحيحين مسح أيّهما شاء , إن شاء مسح الفوقانيّ لأنّه خف ساتر ثبت بنفسه , أشبه المنفرد , وإن شاء مسح التّحتانيّ , بأن يدخل يده من تحت الفوقانيّ فيمسح عليه لأنّ كلّ واحد منهما محل للمسح فجاز المسح عليه , ولو لبس أحد الجرموقين في أحد الرّجلين فوق خفّها دون الرّجل الأخرى فلم يلبس فيها جورباً بل الخفّ فقط جاز المسح على الجورب الّذي لبسه فوق الخفّ وعلى الخفّ الّذي في الرّجل الأخرى لأنّ الحكم تعلّق به وبالخفّ الّذي في الرّجل الأخرى , فهو كما لو لم يكن تحته شيء , فإن كان أحد الخفّين صحيحاً والآخر مفتّقاً جاز المسح على الفوقانيّ لأنّهما كخفّ واحد , وكذا إن لبس على صحيح مخرّقاً نصّ عليه , ولا يجوز المسح على الخفّ التّحتانيّ إذا كان أحد الخفّين صحيحاً والآخر مفتّقاً إلّا أن يكون التّحتاني هو الصّحيح فيصح المسح عليه , لأنّه ساتر بنفسه أشبه ما لو انفرد , بخلاف ما إذا كان الفوقاني هو الصّحيح فلا يصح المسح على التّحتانيّ , لأنّه غير ساتر بنفسه , قال في الإنصاف : وكل من الخفّ الفوقانيّ والتّحتانيّ بدل مستقل من الغسل على الصّحيح , وإن كان الخفّان مخرّقين وليس أحدهما فوق الآخر وسترا محلّ الفرض لم يجز المسح عليهما ولا على أحدهما , لأنّ كلّ واحد منهما غير صالح للمسح على انفراده , كما لو لبس مخرّقاً فوق لفافة وإن نزع الفوقانيّ قبل مسحه لم يؤثّر كما لو انفرد , وإن توضّأ ولبس خفاً ثمّ أحدث ثمّ لبس الخفّ الآخر لم يجز المسح عليه , لأنّه لبسه على غير طهارة , بل يمسح على الأسفل أو مسح الخفّ الأوّل بعد حدثه ثمّ لبس الخفّ الثّاني ولو على طهارة لم يجز المسح على الثّاني , لأنّ الخفّ الممسوح بدل عن غسل ما تحته , والبدل لا يجوز له بدل آخر , بل يمسح على الأسفل لأنّ الرخصة تعلّقت به , وإن لبس خفاً على آخر قبل الحدث ومسح الأعلى , ثمّ نزع الممسوح الأعلى لزمه نزع التّحتانيّ وإعادة الوضوء , لأنّه محل المسح , ونزعه كنزعهما , والرخصة تعلّقت بهما , فصار كانكشاف القدم .
د - أن يكون لبس الخفّ مباحاً : وهذا الشّرط عند المالكيّة والحنابلة ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة , فهم لا يجوّزون المسح على الخفّ المغصوب أو المسروق أو المتّخذ من جلد الخنزير أو الحرير , ولو كان لبس المحرّم لضرورة البرد والثّلج كما يرى ذلك الحنابلة , وعند الحنفيّة والشّافعيّة في الأصحّ يجوز المسح على الخفّ ولو لم يكن مباحاً , ولا يجوز عند الحنابلة المسح للمحرم بحجّ أو عمرة لأنّه منهي عن لبس المخيط .
هـ - أن لا يكون شفّافاً تظهر القدم من خلاله على تفصيل بين الفقهاء في ذلك على النّحو التّالي .
يشترط الحنفيّة في الخفّ أن يكون مانعاً من وصول الماء إلى القدم سواء أكان رقيقاً أم سميكاً , لأنّ الأصل عدم وصول الماء .
ويرى المالكيّة أنّه لا بدّ أن يكون الخف من جلد كما سبق .
ويرى الحنابلة أنّه يشترط في الخفّ أن لا يصف البشرة لصفائه أو خفّته .
و - أن يبقى من محلّ الغسل في الوضوء من القدم شيء .
قال الحنابلة : من له رجل واحدة لم يبق من فرض الرّجل الأخرى شيء فلبس ما يصح المسح عليه في الباقية جاز له المسح عليه لأنّه ساتر لفرضه .
قال البهوتي : وعلم منه أنّه لو لبس خفاً في إحدى رجليه مع بقاء الأخرى أو بعضها وأراد المسح عليه وغسل الأخرى أو ما بقي منها لم يجز له ذلك , بل يجب غسل ما في الخفّ تبعاً للّتي غسلها ; لئلّا يجمع بين البدل والمبدل في محل واحد .
كيفيّة المسح على الخفّين ومقداره :
10 - يرى الحنفيّة أنّ الواجب المسح بقدر ثلاث أصابع من أصغر أصابع اليد على ظاهر الخفّ فقط مرّةً واحدةً .
وكيفيّته أن يبدأ بالمسح على الخفّين من أصابع القدم خطوطاً إلى جهة السّاق , فيضع أصابع يده اليمنى على مقدّم خفّ رجله اليمنى , ويضع أصابع يده اليسرى على مقدّم خفّ رجله اليسرى , ويفرّج بين أصابع يده قليلاً , بحيث يعم المسح أكبر قدر ممكن من الخفّ , ولذلك لا يصح المسح على باطن القدم ولا على جوانبه ولا على عقبه ولا ساقه , كما لا يسن تكرار المسح .
ويرى المالكيّة وجوب مسح جميع ظاهر الخفّ , كما يستحب مسح أسفله أيضاً , فيضع أصابع يده اليمنى فوق أطراف أصابع رجله اليمنى ويضع أصابع يده اليسرى تحت أصابع رجله اليمنى , ويمر بكلتا يديه على خفّ رجله اليمنى باتّجاه الكعبين , ويضع أصابع يده اليسرى فوق أطراف رجله اليسرى ويده اليمنى تحت أصابعها , ويمر بكلتا يديه على خفّ رجله اليسرى باتّجاه الكعبين كذلك , فيكون قد مسح جميع الخفّ ظاهره وباطنه .
ويرى الشّافعيّة أنّ المسح الواجب هو ما يصدق عليه مسمّى مسح في محلّ الفرض , وهو مسح ظاهر الخفّ , فلا يمسح أسفله ولا عقبه ولا جوانبه , لإطلاق المسح بدون تقدير , فيكتفى بما يطلق عليه اسم المسح , إلّا أنّ السنّة أن يعمّم المسح على ظاهر وباطن الخفّ خطوطاً , كالمالكيّة .
ويرى الحنابلة أنّ الواجب في مسح الخفّ هو مسح أكثر مقدّم ظاهر الخفّ خطوطاً بالأصابع, ولا يسن مسح أكثر من ذلك من باطن الخفّ أو جوانبه أو عقبه أو ساقه , لأنّ لفظ المسح ورد مطلقاً في الأحاديث وفسّره النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم بفعله في حديث المغيرة بن شعبة رضي اللّه عنه قال : « توضّأ النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومسح على الخفّين فوضع يده اليمنى على خفّه الأيمن ووضع يده اليسرى على خفّه الأيسر ثمّ مسح أعلاهما مسحةً واحدةً حتّى كأنّي انظر إلى أثر أصابعه على الخفّين » .
نواقض المسح على الخفّين :(/3)
11 - ينتقض المسح على الخفّين في الحالات التّالية :
أ - نواقض الوضوء , فكل ما ينقض الوضوء ينقض المسح على الخفّين , لأنّ المسح بدل عن بعض الوضوء , والبدل ينقضه ناقض الأصل , فإذا انتقض وضوء من مسح على الخفّين توضّأ من جديد ومسح على خفّيه إن كانت مدّة المسح باقيةً , وإلّا خلع خفّيه وغسل رجليه .
ب - وجود موجب للغسل كالجنابة والحيض والنّفاس , فإذا وجد أحد هذه الموجبات انتقض المسح على الخفّين ووجب نزعهما وغسل جميع البدن , ويجدّد المسح على خفّيه بعد لبسهما بعد تمام الطّهارة إن أراد ذلك .
ج - نزع الخفّين أو أحدهما , فإذا خرجت رجلاه أو إحداهما بنزع الخفّ أو بخروج قدميه أو إحداهما أو خروج أكثر القدم خارج الخفّ انتقض المسح , وذلك لمفارقة محلّ المسح - القدمين - مكانه , والأكثر له حكم الكلّ من باب التّغليب , وفي هذه الحالة يجب غسل قدميه جميعاً عند الجمهور غير الحنابلة لبطلان طهرهما بزوال البدل وهو المسح , وبزوال البدل نرجع إلى الأصل وهو الغسل .
وعند الحنابلة : إذا نزع خفّيه أو أحدهما أو خرجت قدماه أو إحداهما أو أكثرها من الخفّ وجب إعادة الوضوء كلّه , لأنّ المسح أقيم مقام الغسل فإذا أزال الممسوح بطلت الطّهارة في القدمين فتبطل في جميعها لكونها لا تتبعّض .
د - مضي المدّة : فإذا مضت مدّة المسح وهي يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيّام بلياليها للمسافر, انتقض المسح على الخفّين , ووجب نزعهما وغسل الرّجلين فقط عند الحنفيّة والشّافعيّة إذا ظلّ متوضّئاً ومسح على الخفّين , لأنّ الحدث اقتصر على موضع الخفّ وهو القدمان فقط .
وعند الحنابلة يجب إعادة الوضوء كلّه إذا انقضت مدّة المسح الّتي ينتقض معها الوضوء لانتقاضه في القدمين , لأنّ الحدث كل لا يتبعّض , وهو أحد القولين عند الشّافعيّة .
هـ - ظهور الرّجلين أو بعضهما بتخرق الخفّين أو بسقوطهما عن موضوع المسح , وينتقض كذلك بظهور قدر ثلاث أصابع من أصابع أحد الرّجلين كما يرى ذلك الحنفيّة , أو بظهور قدر ثلث القدم كما يرى ذلك المالكيّة , وفي هذه الحالة يجب غسل الرّجلين عند الجمهور غير الحنابلة لاقتصار النّقض على محلّه وهو الرّجلين .
وعند الحنابلة يجب إعادة الوضوء كلّه لأنّه كل لا يتبعّض .
و - إصابة الماء للرّجلين معاً أو لأكثر إحداهما في الخفّ , فيعتبر ذلك ناقضاً للمسح على الخفّين عند الحنفيّة , ويجب نزعهما وغسل الرّجلين إذا ظلّ متوضّئاً , للاقتصار على محلّ الحدث .
وعند المالكيّة والشّافعيّة لا يعتبر وصول الماء إلى القدم أو إلى كليهما ناقضاً للمسح إذا كان الماء طاهراً .
مكروهات المسح على الخفّين :
12 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه تكره الزّيادة على المرّة الواحدة في المسح لأنّ الأحاديث النّبويّة حدّدت المسح بمرّة واحدة , كما يكره غسل الخفّين .
وقال المالكيّة : يجزئ غسل الخفّين بدل مسحهما إذا نوى بذلك رفع الحدث عن رجليه ولو مع نيّة إزالة الوسخ , أما إذا نوى قلع نجاسة علقت بالخفّ من غير أن ينوي رفع الحدث فلا يجزئه .
أما عند الحنفيّة فإن غسل الخفّ لقلع النّجاسة يجزئ عن المسح عليه ولو لم ينو المسح لإتيانه بالواجب من المسح وزيادة في محلّه .
المسح على الجوربين :
13 - الجورب هو ما يلبسه الإنسان في قدميه سواء كان مصنوعاً من الصوف أو القطن أو الكتّان أو نحو ذلك .
وقد ذهب جمهور الفقهاء على جواز المسح على الجوربين في حالتين .
أ - أن يكون الجوربان مجلّدين , يغطّيهما الجلد لأنّهما يقومان مقام الخفّ في هذه الحالة . ب - أن يكون الجوربان منعّلين , أي لهما نعل وهو يتّخذ من الجلد , وفي الحالتين لا يصل الماء إلى القدم , لأنّ الجلد لا يشف الماء .
ويرى الإمام أحمد بن حنبل والصّاحبان من الحنفيّة جواز المسح على الجورب بشرطين : الأوّل : أن يكون ثخيناً لا يبدو منه شيء من القدم .
الثّاني : أن يمكن متابعة المشي فيه وأن يثبت بنفسه من غير شد بالعرى ونحوها , ولم يشترط الحنابلة أن يكونا منعولين .
واستدلوا بالآتي :
أ - ما رواه المغيرة بن شعبة : « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مسح على الجوربين والنّعلين » .
وهذا يدل على أنّ النّعلين لم يكونا عليهما , لأنّهما لو كانا كذلك لم يذكر النّعلين فإنّه لا يقال مسحت على الخفّ ونعله .
واستدلوا كذلك على جواز المسح على الجوربين بأنّ الصّحابة مسحوا على الجوارب ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعاً .(/4)
مَسْح *
التّعريف :
1 - للمسح في اللغة معان يقال مسح الشّيء المتلطّخ أو المبتلّ مسحاً : أمرّ يده عليه لإذهاب ما عليه من أثر ماء ونحوه , ومسح على الشّيء بالماء أو الدهن : أمرّ يده عليه به, ويقال : مسح بالشّيء , وفي التّنزيل العزيز : { وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ } , ومسح اللّه العلّة عن العليل : شفاه , وغير ذلك .
والمسح في الاصطلاح لا يخرج عن المعنى اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الغسل :
2 - الغسل لغةً : بفتح الغين , مصدر غسل , والاسم : الغُسْل وهو تمام غسل الجسد كلّه . وفي الاصطلاح : قال الشّربيني الخطيب : هو سيلان الماء على جميع البدن بنيّة .
ب - التّيمم :
3 - التّيمم التّيمم لغةً : القصد والتّوخّي والتّعمد , يقال : تيمّمه بالرمح , تقصّده وتوخّاه وتعمّده دون من سواه , ومثله تأمّمه , ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} .
وأمّا في الاصطلاح : فهو مسح الوجه واليدين بتراب طهور على وجهٍ مخصوصٍ كما قال الحنابلة .
والمسح أعم من التّيمم .
أحكام المسح :
للمسح أحكام منها :
أوّلاً : مسح الرّأس في الوضوء :
الكلام على مسح الرّأس في مواضع كما يلي :
أ - مسح الرّأس في الوضوء
4 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ مسح الرّأس مطلقاً من فرائض الوضوء , لقوله تعالى : { وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ } .
ب - القدر المجزئ في مسح الرّأس :
5 - اختلف الفقهاء في مسح القدر المجزئ , فذهب الحنفيّة في أشهر الرّوايات عندهم إلى أنّ القدر المجزئ هو مسح ربع الرّأس , كما رواه الحسن عن أبي حنيفة , وهو قول زفر أيضاً , قال ابن عابدين : إنّ المعتمد رواية الربع وعليه مشى المتأخّرون .
ووجه التّقدير بالربع أنّه قد ظهر اعتبار الربع في كثير من الأحكام كما في حلق ربع الرّأس أنّه يحل به المحرم , ولا يحل بدونه .
والرّواية الثّانية : مقدار النّاصية , ذكرها الكرخي والطّحاوي وبه قال القاضي من الحنابلة , واختاره القدوري , وفي الهداية : وهي الربع , والتّحقيق أنّ النّاصية أقل من الربع .
ووجه التّقدير بالنّاصية , أنّ مسح جميع الرّأس ليس بمراد من الآية بالإجماع , فلا يمكن حمل الآية على جميع الرّأس , ولا على بعض مطلقٍ , فلا بدّ من الحمل على مقدار يسمّى المسح عليه مسحاً في المتعارف , وذلك غير معلوم , لكن بيّنه النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم: بفعله وهو ما ورد عن المغيرة بن شعبة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : « أنّه بال وتوضّأ ومسح على ناصيته » . فصار فعله عليه الصّلاة والسّلام بياناً لمجمل الكتاب .
والرّواية الثّالثة : مقدار ثلاثة أصابع , رواها هشام , وقيل هي ظاهر الرّواية , وذكر في الظّهيريّة أنّ عليها الفتوى .
ووجه هذه الرّواية : أنّ الأمر بالمسح يقتضي آلةً , إذ المسح لا يكون إلّا بالآلة , وآلة المسح هي أصابع اليد عادةً , وثلاث أصابع اليد أكثرها , وللأكثر حكم الكلّ , فصار كأنّه نصّ على الثّلاث .
وذهب المالكيّة في المشهور والحنابلة في المذهب إلى أنّ الواجب مسح جميع الرّأس . واستدلّ المالكيّة بقوله تعالى : { وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ } .
والباء في الآية زائدة للتّأكيد , والمعنى وامسحوا رءوسكم .
كما استدلّ الحنابلة بنفس الآية وقالوا : إنّ الآية تفيد الاستيعاب , وفعل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وقع بياناً للآية , والباء في الآية للإلصاق أي إلصاق الفعل بالمفعول .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يجزئ في فرض الوضوء مسمّى مسح لبعض بشرة رأسه أو بعض شعر ولو واحدةً أو بعضها في حدّ الرّأس بأن لا يخرج الشّعر بالمدّ عنه فلو خرج به عنه من جهة نزوله لم يكف , قال اللّه تعالى : { وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ } وورد « أنّه صلّى اللّه عليه وسلّم مسح بناصيته وعلى العمامة » , واكتفى بمسح البعض لأنّه المفهوم من المسح عند إطلاقه .
وللفقهاء في كيفيّة مسح الرّأس وتكرار المسح وغسل الرّأس بدل المسح وغير ذلك تفصيل ينظر في ( وضوء ) .
ثانياً : مسح الأذنين :
6 - اختلف الفقهاء في مسح الأذنين هل هو سنّة أو فريضة , وهل يجدّد لهما الماء على تفصيل ينظر في مصطلح ( وضوء ) .
ثالثاً : مسح الرّقبة :
7 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة ما عدا الرّافعيّ إلى أنّه لا يندب مسح الرّقبة بل يكره , لأنّه من الغلوّ في الدّين , وقال النّووي : إنّه بدعة .
ويرى الحنفيّة أنّه يستحب مسح الرّقبة , وتفصيل ذلك في مصطلح ( رقبة ف / 2 ) .
رابعاً : المسح على العمامة :
8 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز المسح على العمامة لقوله تعالى : { وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} , ولأنّه لا تلحقه المشقّة في نزعها فلم يجز المسح عليها كالكمّين , لأنّ المسح على الخفّين للحرج ولا حرج في نزع العمامة , وقال محمّد في موطّئه : بلغنا أنّ المسح على العمامة كان ثمّ ترك , وبهذا قال عروة , والنّخعيّ , والشّعبي , والقاسم .
وعند المالكيّة لا يجوز المسح على العمامة إلّا إذا خيف بنزعها ضرر ولم يقدر على مسح ما هي ملفوفة عليه كالقلنسوة , ولو أمكنه مسح بعض الرّأس أتى به وكمّل على العمامة وجوباً على المعتمد .(/1)
وعند الشّافعيّة لا يجوز المسح على العمامة لأداء فرض مسح الرّأس في الوضوء بل لا بدّ من مسح شيء من شعر الرّأس والأفضل أن لا يقتصر على أقلّ من النّاصية , ثمّ يجوز لأداء سنّة مسح كلّ الرّأس مسح ما ذكر والتّكميل على العمامة بشروط ذكرها الجمل هي : أن لا يكون عليها نحو دم البراغيث , وأن لا يمسح منه ما حاذى القدر المسموح من الرّأس وأن لا يكون عاصياً بلبس العمامة .
ويرى الحنابلة جواز المسح على العمامة , قال ابن المنذر : وممّن مسح على العمامة أبو بكر الصّدّيق رضي اللّه عنه , وبه قال عمر بن عبد العزيز , والحسن وقتادة ومكحول , والأوزاعي , وأبو ثور , واستدلوا بما ورد عن المغيرة بن شعبة قال : « توضّأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومسح على الخفّين والعمامة » , ولأنّه حائل في محلّ ورود الشّرع بمسحه , فجاز المسح عليه كالخفّين , ولأنّ الرّأس عضوٌ يسقط فرضه في التّيمم , فجاز المسح على حائله كالقدمين , والمذهب أنّه يجزئ مسح أكثر العمامة لأنّها أحد الممسوحين على وجه البدل .
شروط المسح على العمامة :
9 - ويشترط لجواز المسح على العمامة عند من يقول به ما يلي :
أ - أن تكون ساترةً لجميع الرّأس إلّا ما جرت العادة بكشفه كمقدّم الرّأس والأذنين , لأنّ هذا الكشف جرت العادة به لمشقّة التّحرز عنه , وإذا كان بعض الرّأس مكشوفاً ممّا جرت العادة بكشفه أستحبّ أن يمسح عليه مع العمامة , نصّ عليه أحمد لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مسح على عمامته وناصيته في حديث المغيرة بن شعبة رضي اللّه عنه .
وهل الجمع بينهما واجب ؟ توقّف أحمد عنه , فيخرّج في المسألة وجهان :
أحدهما : وجوبه للخبر , ولأنّ العمامة نابت عمّا استتر , فبقي الباقي على مقتضى الأصل كالجبيرة , والثّاني : لا يجب : لأنّ العمامة نابت عن الرّأس , فتعلّق الحكم بها , وانتقل الفرض إليها , فلم يبق لما ظهر حكم , ولأنّ وجوبهما معاً يفضي إلى الجمع بين بدل ومبدل في عضوٍ واحد , فلم يجز من غير ضرورة كالخفّ .
فإن كان تحت العمامة قلنسوة يظهر بعضها , فالظّاهر جواز المسح عليهما لأنّهما صارا كالعمامة الواحدة .
ب - أن تكون على صفة عمائم المسلمين , بأن تكون تحت الحنك منها شيء , لأنّ هذه عمائم العرب , وهي أكثر ستراً من غيرها ويشقّ نزعها , فيجوز المسح عليها , سواء كانت لها ذؤابة , أو لم يكن تحت الحنك منها شيء .
ج - أن لا تكون العمامة محرّمةً كعمامة الحرير والمغصوبة .
د - أن يكون لابس العمامة رجلاً , فلا يجوز للمرأة المسح على العمامة لأنّها منهيّة عن التّشبه بالرّجال , فكانت محرّمةً في حقّها , وإن كان لها عذر فهذا يندر , ولا يرتبط الحكم بالنّادر .
التّوقيت في مسح العمامة :
10 - التّوقيت في مسح العمامة كالتّوقيت في مسح الخفّ , لما روى أبو أمامة : أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « يمسح على الخفّين والعمامة ثلاثاً في السّفر ويوماً وليلةً للمقيم » , ولأنّه ممسوح على وجه الرخصة فتوقّت بذلك كالخفّ .
نزع العمامة بعد المسح :
11 - نصّ الحنابلة على أنّه إن نزع العمامة بعد المسح عليها بطلت طهارته , وكذلك إن انكشف رأسه , إلّا أن يكون يسيراً , وكذلك إن انتقضت بعد مسحها ,لأنّ ذلك بمنزلة نزعها. وإن انتقض بعضها ففيه روايتان : إحداهما : لا تبطل طهارته , لأنّه زال بعض الممسوح عليه مع بقاء العضو مستوراً , فلم تبطل الطّهارة ككشط الخفّ مع بقاء البطانة .
والأخرى تبطل طهارته , قال القاضي : ولو انتقض منها كور واحد بطل المسح , لأنّه زال الممسوح عليه , فأشبه نزع الخفّ .
خامساً : المسح على القلنسوة في الوضوء :
12 - ذهب الحنفيّة والحنابلة في المذهب إلى أنّه لا يجوز المسح في الوضوء على القلنسوة بدلاً من الرّأس لعدم الحرج في نزعها .
وقال المالكيّة : يجوز المسح على القلنسوة إن خيف من نزعها ضرر .
وقال الشّافعيّة : إن عسر رفع قلنسوة أو لم يرد ذلك كمّل بالمسح عليها وحصل له سنّة مسح جميع الرّأس وإن لبسها على حدثٍ .
سادساً : المسح على القفّازين :
13 - نصّ الحنفيّة على أنّه لا يجوز المسح على القفّازين لأنّ المسح شرع دفعاً للحرج لتعذر النّزع , ولا حرج في نزع القفّازين .
سابعاً : مسح المرأة على الخمار :
14 - ذهب الحنفيّة والحنابلة في رواية إلى أنّه لا يجوز للمرأة أن تمسح على خمارها , لما روي عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها « أنّها أدخلت يدها تحت الخمار ومسحت برأسها وقالت بهذا أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم » , وبه قال نافع والنّخعيّ وحمّاد بن أبي سليمان , والأوزاعي , وسعيد بن عبد العزيز , لأنّه ملبوس لرأس المرأة , فلم يجز المسح عليه كالوقاية والوقاية لا يجزئ المسح عليها بلا خلاف كالطّاقيّة للرّجل .
قال ابن قدامة : ولا نعلم فيه خلافاً لأنّ الوقاية لا يشقّ نزعها , إلّا إذا كان الخمار رقيقاً ينفذ الماء إلى شعرها , فيجوز عند الحنفيّة لوجود الإصابة .
وعند الحنابلة يصح المسح على خمر النّساء المدارة تحت حلوقهنّ « لأنّ أمّ سلمة كانت تمسح على خمارها » , وعن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم « أنّه أمر بالمسح على الخفّين والخمار » , ولأنّه ملبوس للرّأس معتاد يشقّ نزعه فأشبه العمامة .
ثامناً : المسح على الجبيرة :
15 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة المسح على الجبائر في حالة العذر نيابةً عن الغسل أو المسح الأصليّ في الوضوء أو الغسل أو التّيمم .(/2)
والأصل في ذلك ما روي عن عليٍّ رضي اللّه تعالى عنه أنّه قال : « كسر زندي يوم أحد فسقط اللّواء من يدي فقال النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم اجعلوها في يساره فإنّه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة فقلت يا رسول اللّه ما أصنع بالجبائر فقال امسح عليها » .
والتّفصيل في : ( جبيرة ف / 4 وما بعدها ) .
كيفيّة المسح في التّيمم :
16 - اتّفق الفقهاء على أنّ مسح الوجه واليدين من أركان التّيمم , لقوله تعالى : { فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ } .
وللتّفصيل انظر مصطلح : ( تيمم فقرة / 11 ) .
ما يطهر بالمسح :
أ - الجسم الصّقيل :
17 - في طهارة الجسم الصّقيل بالمسح إذا أصابه نجاسة خلاف وتفصيل على النّحو التّالي:
ذهب الحنفيّة والمالكيّة في قول نقله الباجي عن مالكٍ إلى أنّه يطهر بالمسح كل صقيل لا مسامّ له كمرآة , وظفر , وعظم , وزجاج , وآنية مدهونة , سواء أصابه نجس له جرم أو لا , رطباً كان أو يابساً , لأنّه لصلابتها لا يتداخلها شيء من النّجاسة , فيزول بالمسح , ولأنّ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كانوا يقتلون الكفّار بسيوفهم , ثمّ يمسحونها, ويصلون معها , ولأنّه لا تتداخلها النّجاسة , وما على ظاهره يزول بالمسح . وأمّا الحديد إذا كان عليه صدأ أو كان منقوشاً فلا يطهر بالمسح لأنّه غير صقيل , وكذلك الثّوب الصّقيل لا يطهر بالمسح لأنّ له مساماً .
والمعتمد عند المالكيّة أنّه يعفى ما أصاب كلّ صقيل لا مسامّ له كسيف , ومرآة وجوهر سواء مسحه من الدّم أم لا , وعلّلوا الحكم بفساد هذه الأشياء بالغسل , وبكون الدّم مباحاً كدم جهاد وقصاصٍ وذبح وعقر صيد فإذا كان دم عدوان يجب الغسل .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا أصابت النّجاسة شيئاً صقيلاً كسيف وسكّين ومرآة لم يطهر بالمسح بل لا بدّ من غسله .
ب - موضع الحجامة :
18 - صرّح الحنفيّة بأنّه يطهر بالمسح موضع الحجامة إذا مسحها بثلاث خرقٍ رطبات نظاف , وقاس صاحب الفتح عليه ما حول محلّ الفصد إذا تلطّخ , ويخاف من الإسالة السّريان إلى الثقب .
ويقرب من هذا ما صرّح به المالكيّة في موضع الحجامة بقولهم : يعفى عن أثر دم موضع الحجامة أو الفصادة إذا كان ذلك الموضع مسح عنه الدّم , لتضرر المحتجم من وصول الماء لذلك المحلّ , ويستمر العفو إلى أن يبرأ ذلك الموضع , فإذا برئ غسل الموضع , ثمّ إنّ محلّ العفو إذا كان أثر الدّم الخارج أكثر من درهم , وإلّا فلا يعتبر في العفو مسح . ؟
ج - الخف والنّعل :
19 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه إن أصاب الخفّ والنّعل نجاسة : فإن كانت رطبةً لا تزول إلّا بالغسل كيفما كانت , وروي عن أبي يوسف أنّه يطهر بالمسح على التراب كيفما كانت : متجسّدةً أو مائعةً , وإن كانت يابسةً : فإن لم يكن لها جرم كالبول , والخمر , والماء النّجس , لا يطهر إلّا بالغسل , وإن كان لها جرم كثيف : فإن كان منياً فإنّه يطهر بالحتّ بالإجماع , وإن كان غيره كالعذرة والدّم الغليظ , والرّوث يطهر بالمسح عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمّد لا يطهر إلّا بالغسل .
وللفقهاء في المسألة تفصيل وخلاف ينظر في : ( طهارة ف / 24 ) .(/3)
مَشَقَّة *
التّعريف :
1 - المشقّة في اللغة : بمعنى الجهد والعناء والشّدّة والثّقل , يقال : شقّ عليه الشّيء يشقّ شقاً ومشقّةً إذا أتعبه , ومنه قوله تعالى : { لَمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ } معناه : إلّا بجهد الأنفس , والشّقّ : المشقّة , وقال في المصباح المنير : وشقّ الأمر علينا يشقّ من باب قتل أيضاً فهو شاق , وشقّ عليّ الأمر يشقّ شقاً ومشقّةً أي ثقل عليّ والمشقّة اسم منه .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الحَرَج :
2 - الحرج في اللغة : بمعنى الضّيق , وحرج صدره حرجاً من باب تعب : ضاق .
وفي الاصطلاح : الحرج ما فيه مشقّة فوق المعتاد .
والصّلة بين المشقّة والحرج هي : أنّ الحرج أخص من المشقّة .
ب - الرخصة :
3 - الرخصة في اللغة : اليسر والسهولة يقال : رخص السّعر إذا تراجع وسَهل الشّراء . واصطلاحاً : عبارة عمّا وسِّع للمكلّف في فعله لعذر وعجز عنه مع قيام السّبب المحرّم : كتناول الميتة عند الاضطرار , وجواز الفطر في رمضان للمسافر .
والصّلة بين المشقّة والرخصة : هي أنّ المشقّة سبب للرخصة .
ج - الضّرورة :
4 - الضّرورة اسم من الاضطرار .
وفي الشّرع : بلوغ الإنسان حداً إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب .
والصّلة هي أنّ المشقّة أعم من الضّرورة .
د - الحاجة :
5 - الحاجة تطلق على الافتقار , وعلى ما يفتقر إليه مع محبّته .
واصطلاحاً : ما يفتقر إليها من حيث التّوسعة ورفع الضّيق المؤدّي في الغالب إلى الحرج والمشقّة اللّاحقة بفوت المطلوب .
والفرق بين المشقّة والحاجة أنّ الحاجة وإن كانت حالة جهد فهي دون المشقّة ومرتبتها أدنى منها .
الأحكام المتعلّقة بالمشقّة :
أوّلاً : أوجه المشقّة :
6 - يترتّب على المشقّة أحكام شرعيّة ورخصٌ متعدّدة , تعتمد على نوع المشقّة ودرجتها . ولا تخلو جميع التّكاليف في الشّريعة الإسلاميّة من جنس المشقّة أصلاً , بل إنّ التّكليف ما سمّي بهذا إلّا لأنّه طلب ما فيه كلفة ومشقّة , فلا يخلو شيء من التّكاليف من المشقّة وبيان ذلك في أنّ أوجه المشقّة أربعة .
الوجه الأوّل : مشقّة ما لا يطاق :
7 - وهي المشقّة الّتي لا يقدر العبد على حملها أصلاً , فهذا النّوع لم يرد التّكليف به في الشّرع أصلاً , إذ لا قدرة للمكلّف عليه في العادة فلا يقع التّكليف به شرعاً , وإن جاز عقلاً, فتكليف ما لا يطاق يسمّى مشقّةً من حيث كان تكلف الإنسان نفسه بحمله موقعاً في عناء وتعب لا يجدي , كالمقعد إذا تكلّف القيام , والإنسان إذا تكلّف الطّيران في الهواء , وما أشبه ذلك فحين اجتمع مع المقدور عليه الشّاقّ الحمل إذا تحمّل في نفس المشقّة سمّي العمل شاقاً والتّعب في تكلف حمله مشقّة .
الوجه الثّاني : المشقّة الّتي تطاق لكن فيها شدّة :
8 - المشقّة الّتي تطاق ويمكن احتمالها , لكن فيها شدّة , وهذا الوجه يكون خاصّاً بالمقدور عليه إلّا أنّه خارج عن المعتاد في الأعمال العادية , بحيث يشوّش على النّفوس في تصرفها ويقلقها في القيام بما فيه تلك المشقّة .
إلّا أنّ هذا الوجه على ضربين :
أحدهما : أن تكون المشقّة مختصّةً بأعيان الأفعال المكلّف بها , بحيث لو وقعت مرّةً واحدةً لوجدت فيها , وهذا هو الموضع الّذي وضعت له الرخص المشهورة في اصطلاح الفقهاء , كالصّوم في المرض والسّفر , والإتمام في السّفر وما أشبه ذلك .
والثّاني : أن لا تكون مختصّةً ولكن إذا نظر إلى كلّيّات الأعمال والدّوام عليها صارت شاقّةً ولحقت المشقّة العامل بها , ويوجد هذا في النّوافل وحدها إذا تحمّل الإنسان منها فوق ما يحتمله على وجهٍ ما إلّا أنّه في الدّوام يتعبه .
ولذلك فإنّ الشّارع لم يقصد إلى التّكليف بالشّاقّ والإعنات فيه , والدّليل على ذلك النصوص الدّالّة على ذلك كقوله تعالى : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } , وقوله تعالى : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } وقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } وقوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } , وقوله تعالى : { يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا } , وجاء في الحديث عن عائشة رضي اللّه عنها أنّ النّبيّ - صلّى اللّه عليه وسلّم : « ما خيّر بين أمرين إلّا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً » وإنّما قالت : « ما لم يكن إثماً » لأنّ ترك الإثم لا مشقّة فيه من حيث كان مجرّد تركٍ إلى أشباه ذلك ممّا في هذا المعنى ولو كان قاصداً للمشقّة لما كان مريداً لليسر ولا للتّخفيف ولكان مريداً للحرج والعسر وذلك باطل .(/1)
كما يستدل على ذلك بما ثبت أيضاً من مشروعيّة الرخص , وهو أمر مقطوع به وممّا علم منه دين الأمّة بالضّرورة : كرخص السّفر , والفطر , والجمع , وتناول المحرّمات في الاضطرار , فإنّ هذا نمط يدل قطعاً على مطلق رفع الحرج والمشقّة , وكذلك بما جاء في النّهي عن التّعمق والتّكلف والتّسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال , ولو كان الشّارع قاصداً للمشقّة في التّكليف لما كان ثمّ ترخيصٌ ولا تخفيف وهو يدل على عدم قصد الشّارع إليه , فإنّه لا ينازع في أنّ الشّارع قاصد للتّكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقّة ما , ولكن لا تسمّى في العادة المستمرّة مشقّةً كما لا يسمّى في العادة مشقّةً طلب المعاش بالتّحرف وسائر الصّنائع, لأنّه ممكن معتاد لا يقطع ما فيه من الكلفة عن العمل في الغالب المعتاد , وإلى هذا المعنى يرجع الفرق بين المشقّة الّتي لا تعد مشقّةً عادةً , والّتي تعد مشقّةً , وهو أنّه إن كان العمل يؤدّي الدّوام عليه إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه وإلى وقوع خلل في صاحبه في نفسه أو مال , أو حال من أحواله فالمشقّة هنا خارجة عن المعتاد , وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب فلا يعد في العادة مشقّةً وإن سمّيت كلفةً .
فما تضمّن التّكليف الثّابت على العباد من المشقّة المعتادة أيضاً ليس بمقصود الطّلب للشّارع من جهة نفس المشقّة , بل من جهة ما في ذلك من المصالح العائدة على المكلّف .
الوجه الثّالث : الزّيادة في الفعل على ما جرت به العادة :
9 - وهو إذا كان الفعل خاصّاً بالمقدور عليه , وليس فيه من التّأثير في تعب النّفس خروج عن المعتاد في الأعمال العاديّة , ولكن نفس التّكليف به زيادة على ما جرت به العادات قبل التّكليف شاقٌ على النّفس , ولذلك أطلق عليه لفظ التّكليف , وهو في اللغة يقتضي معنى المشقّة لأنّ العرب تقول : كلّفته تكليفاً إذا حمّلته أمراً يشقّ عليه وأمرته به , وتكلّفت الشّيء : إذا تحمّلته على مشقّة , وحملت الشّيء تكلّفته : إذا لم تطقه إلّا تكلفاً , فمثل هذا يسمّى مشقّةً بهذا الاعتبار , لأنّه إلقاء بالمقاليد ودخول أعمال زائدة على ما اقتضته حياة الدنيا .
الوجه الرّابع : أن يكون ملزماً بما قبله :
10 - وهو أن يكون التّكليف خاصّاً بما يلزم ما قبله , فإنّ التّكليف إخراج المكلّف عن هوى نفسه , ومخالفة الهوى شاقّة على صاحب الهوى مطلقاً , ويلحق الإنسان بسببها تعب وعناء , وذلك معلوم في العادات الجارية في الخلق , وذلك أنّ مخالفة ما تهوى الأنفس شاق عليها , والشّارع إنّما قصد بوضع شريعة إخراج المكلّف عن اتّباع هواه حتّى يكون عبداً للّه , فإذاً مخالفة الهوى ليست من المشقّات المعتبرة في التّكليف .
ثانياً : القواعد الفقهيّة المنظّمة لأحكام المشقّة :
11 - وضع الفقهاء مجموعةً من القواعد الفقهيّة لضبط أحكام المشقّة , ومن هذه القواعد " المشقّة تجلب التّيسير " يعني أنّ الصعوبة تصير سبباً للتّسهيل , ويلزم التّوسيع في وقت المضايقة .
ويتفرّع على هذا الأصل كثير من الأحكام الفقهيّة كالقرض والحوالة والحجر وغير ذلك , وما جوّزه الفقهاء من الرخص والتّخفيفات في الأحكام الشّرعيّة مستنبط من هذه القاعدة : وتعتبر المشقّة سبباً هاماً من أسباب الرخص , وهي تختلف بالقوّة والضّعف , بحسب الأحوال , وبحسب قوّة العزائم وضعفها , وبحسب الأعمال , فليس للمشقّة المعتبرة في التّخفيفات ضابط مخصوصٌ , ولا حد محدود يطّرد في جميع النّاس , ولذلك أقام الشّرع السّبب مقام العلّة واعتبر السّفر لأنّه أقرب مظَانّ وجود المشقّة .. وليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصليٍّ , ولا ضابطٍ مأخوذ باليد , بل هي إضافيّة بالنّسبة إلى كلّ مخاطب في نفسه .
والأصل في هذه القاعدة قوله تعالى : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } .
وقوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } , وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم :
« بعثت بالحنيفيّة السّمحاء » , وفي لفظ آخر : « أحب الأديان إلى اللّه الحنيفيّة السّمحة ». وروى أبو هريرة رضي اللّه عنه وغيره قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « إنّما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين » .
وقالت عائشة رضي اللّه عنها : « ما خيّر رسول اللّه بين أمرين إلّا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً » .
ويتخرّج على هذه القاعدة جميع رخص الشّرع وتخفيفاته .
هذا وقد خرج عن هذه القاعدة ما نصّ عليه وإن كان فيه مشقّة وعمّت به البلوى , قال ابن نجيم : المشقّة والحرج إنّما يعتبران في موضع لا نصّ فيه وأمّا مع النّصّ بخلافه فلا . وبمعنى قاعدة : المشقّة تجلب التّيسير قول الشّافعيّ رحمه اللّه : " إذا ضاق الأمر اتّسع " ومعناها : إذا ظهرت مشقّة في أمر يرخّص فيه ويوسّع , فعكس هذه القاعدة " إذا اتّسع الأمر ضاق " , ومن فروع هذه القاعدة شهادة النّساء والصّبيان في الحمّامات والمواضع الّتي لا يحضرها الرّجال دفعاً لحرج ضياع الحقوق .
ومنها قبول شهادة القابلة
المشاقّ الموجبة للتّخفيفات الشّرعيّة :
قال العز بن عبد السّلام : المشاقّ ضربان :(/2)
12 - أحدهما : مشقّة لا تنفك العبادة عنها كمشقّة الوضوء والغسل في شدّة البرد , وكمشقّة إقامة الصّلاة في الحرّ والبرد ولا سيّما في صلاة الفجر , وكمشقّة الصّوم في شدّة الحرّ وطول النّهار , وكمشقّة السّفر والحجّ والجهاد الّتي لا انفكاك عنها غالباً , وكمشقّة الاجتهاد في طلب العلم والرّحلة فيه , وكذلك المشقّة في رجم الزناة وإقامة الحدود على الجناة ولا سيّما في حقّ الآباء والأمّهات والبنين والبنات , فإنّ في ذلك مشقّةً عظيمةً على مقيم هذه العقوبات بما يجده من الرّقّة والمرحمة بها للسرّاق والزناة والجناة من الأجانب والأقارب البنين والبنات , ولمثل هذا قال تعالى : « ولا تأخذكم بهما رأفة في دين اللّه » , وقال عليه الصّلاة والسّلام : « لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها » وهو صلّى اللّه عليه وسلّم أولى بتحمل هذه المشاقّ من غيره ; لأنّ اللّه سبحانه وتعالى وصفه في كتابه العزيز بقوله : { بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } فهذه المشاقّ كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطّاعات .
13 - الضّرب الثّاني : مشقّة تنفك عنها العبادات غالباً وهي أنواع :
النّوع الأوّل : مشقّة عظيمة فادحة كمشقّة الخوف على النّفوس والأطراف ومنافع الأطراف, فهذه مشقّة موجبة للتّخفيف والتّرخيص لأنّ حفظ المهج والأطراف لإقامة مصالح الدّارين أولى من تعريضها للفوات في عبادة أو عبادات ثمّ تفوت أمثالها .
النّوع الثّاني : مشقّة خفيفة كأدنى وجع في إصبع أو أدنى صداع أو سوء مزاج خفيف , فهذا لا أثر له ولا التفات إليه لأنّ تحصيل مصالح العبادة أولى من دفع هذه المشقّة الّتي لا أثر لها .
النّوع الثّالث : مشاقّ واقعة بين هاتين المشقّتين مختلفة في الخفّة والشّدّة فما دنا منها من المشقّة العليا أوجب التّخفيف , وما دنا منها من المشقّة الدنيا لم يوجب التّخفيف .
كمريض في رمضان يخاف من الصّوم زيادة مرض أو بطءَ البرء , فيجوز له الفطر , وهكذا في المرض المبيح للتّيمم والحمّى الخفيفة ووجع الضروس اليسير وما وقع بين هاتين الرتبتين مختلف فيه , منهم من يلحقه بالعليا ومنهم من يلحقه بالدنيا , وتضبط مشقّة كلّ عبادة بأدنى المشاقّ المعتبرة في تخفيف تلك العبادة فإن كانت مثلها أو أزيد ثبتت الرخصة ولذلك أعتبر في مشقّة المرض المبيح للفطر في الصّوم أن يكون كزيادة مشقّة الصّوم في السّفر عليه في الحضر .
وكذلك المشاقّ في الحجّ وفي إباحة محظورات الإحرام : أن يحصل بتركها مثل مشقّة القمل الوارد فيه الرخصة , وأمّا أصل الحجّ فلا يكتفى بتركه بذلك , بل لا بدّ من مشقّة لا يحتمل مثلها كالخوف على النّفس والمال , وعدم الزّاد والرّاحلة , وفي إباحة ترك القيام إلى القعود : أن يحصل به ما يشوّش الخشوع وإلى الاضطجاع أشقّ , لأنّه مناف لتعظيم العبادات . والمشاقّ في الحجّ ثلاثة أقسام : منها ما يعظم فيمنع وجوب الحجّ , ومنها ما يخف ولا يمنع الوجوب , ومنها ما يتوسّط فيردّد فيه , وما قرب منه إلى المشقّة العليا كان أولى بمنع الوجوب , وما قرب منه إلى المشقّة الدنيا كان أولى بأن لا يمنع الوجوب .
وتختلف المشاقّ باختلاف العبادات في اهتمام الشّرع , فما اشتدّ اهتمامه به شرط في تخفيفه المشاقّ الشّديدة أو العامّة , وما لم يهتمّ به خفّفه بالمشاقّ الخفيفة , وقد تخفّف مشاقّه مع شرفه وعلوّ مرتبته لتكرر مشاقّه , كيلا يؤدّي إلى المشاقّ العامّة الكثيرة الوقوع. مثاله : ترخيص الشّرع في الصّلاة الّتي هي من أفضل الأعمال تقام مع الخبث الّذي يشقّ الاحتراز منه ومع الحدث في حقّ المتيمّم والمستحاضة , ومن كان عذره كعذر المستحاضة. أمّا الصّلاة فينتقل فيها القائم إلى القعود بالمرض الّذي يشوّش عليه الخشوع والأذكار , ولا يشترط فيها الضّرورة ولا العجز عن تصوير القيام اتّفاقاً , ويشترط في الانتقال من القعود إلى الاضطجاع عذراً أشقّ من عذر الانتقال من القيام إلى القعود , لأنّ الاضطجاع مناف لتعظيم العبادات ولا سيّما والمصلّي مناج ربّه .
وأمّا الأعذار في ترك الجماعات والجمعات فخفيفة , لأنّ الجماعات سنّة عند من يقول بذلك, والجمعات بدل .
وأمّا الصّوم فالأعذار فيه خفيفة كالسّفر والمرض الّذي يشقّ الصّوم معه لمشقّة الصّوم على المسافر , وهذان عذران خفيفان , وما كان أشدّ منهما كالخوف على الأطراف والأرواح كان أولى بجواز الفطر .
وأمّا التّيمم : فقد جوّزه الشّافعي رحمه اللّه تارةً بأعذار خفيفة , ومنعه تارةً على قول بأعذار أثقل منها , والأعذار عنده رتب متفاوتة في المشقّة .
الرتبة الأولى : مشقّة فادحة كالخوف على النّفوس والأعضاء , ومنافع الأعضاء فيباح بها التّيمم .
الرتبة الثّانية : مشقّة دون هذه المشقّة في الرتبة كالخوف من حدوث المرض المخوف فهذا ملحق بالرتبة العليا على الأصحّ .
الرتبة الثّالثة : خوف إبطاء البرء وشدّة الضّنى ففي إلحاقه بالرتبة الثّانية خلاف والأصح الإلحاق .
الرتبة الرّابعة : خوف الشّين إن كان باطناً لم يكن عذراً , وإن كان ظاهراً ففيه خلاف والمختار الإباحة , وقد جوّز الشّافعي التّيمم بمشاقّ خفيفة دون هذه المشاقّ .
14 - ولا تختص المشاقّ بالعبادات بل تجري في المعاملات مثاله : الغرر في البيوع وهو أيضاً ثلاثة أقسام :
أحدها : ما يعسر اجتنابه كبيع الفستق والبندق والرمّان والبطّيخ في قشورها فيعفى عنه . القسم الثّاني : ما لا يعسر اجتنابه فلا يعفى عنه .(/3)
القسم الثّالث : ما يقع بين الرتبتين وفيه اختلاف , منهم من يلحقه بما عظمت مشقّته لارتفاعه عمّا خفّت مشقّته , ومنهم من يلحقه بما خفّت مشقّته لانحطاطه عمّا عظمت مشقّته , إلّا أنّه تارةً يعظم الغرر فيه فلا يعفى عنه على الأصحّ كبيع الجوز الأخضر في قشرته . 15 - وإذا كانت المشاقّ تنقسم إلى ما هو في أعلى مراتب الشّدّة وإلى ما هو في أدناها , وإلى ما يتوسّط بينهما , فكيف تعرف المشاقّ المتوسّطة المبيحة الّتي لا ضابط لها , مع أنّ الشّرع قد ربط التّخفيفات بالشّديد والأشدّ والشّاقّ والأشقّ , مع أنّ معرفة الشّديد والشّاقّ متعذّرة لعدم الضّابط ؟ وأجاب العز بن عبد السّلام بقوله : لا وجه لضبط هذا وأمثاله إلّا بالتّقريب , فإنّ ما لا يحد ضابطه لا يجوز تعطيله ويجب تقريبه , فالأولى في ضابط مشاقّ العبادات أن تضبط مشقّة كلّ عبادة بأدنى المشاقّ المعتبرة في تلك العبادة , فإن كانت مثلها أو أزيد ثبتت الرخصة بها , ولن يعلم التّماثل إلّا بالزّيادة , إذ ليس في قدرة البشر الوقوف على تساوي المشاقّ , فإذا زادت إحدى المشقّتين على الأخرى علما أنّهما قد استوتا , فما اشتملت عليه المشقّة الدنيا منهما كان ثبوت التّخفيف والتّرخيص بسبب الزّيادة , وأمثال ذلك أنّ التّأذّي بالقمل مبيح للحلق في حقّ النّاسك فينبغي أن يعتبر تأذّيه بالأمراض بمثل مشقّة القمل .
كذلك سائر المشاقّ المبيحة للبس والطّيب والدهن وغير ذلك من المحظورات , وكذلك ينبغي أن تقرّب المشاقّ المبيحة للتّيمم بأدنى مشقّة أبيح بمثلها التّيمم , وفي هذا إشكال , فإنّ مشقّة الزّيادة اليسيرة على ثمن المثل ومشقّة الانقطاع من سفر النزهة خفيفة لا ينبغي أن يعتبر بها الأمراض , وأمّا المبيح للفطر فينبغي أن تقرّب مشقّته بمشقّة الصّيام في الحضر , فإذا شقّ الصّوم مشقّةً تربي على مشقّة الصّوم في الحضر فليجز الإفطار بذلك .
ولهذا نظائر كثيرة : منها مقادير الإغرار في المعاملات , ومنها توقان الجائع إلى الطّعام وقد حضرت الصّلاة , ومنها التّأذّي بالرّياح الباردة في اللّيلة المظلمة , كذلك التّأذّي بالمشي في الوحل .
ضابط المشقّة :
16 - يشترط أن تكون المشقّة عامّةً , ووقوعها كثيراً , فلو كان وقوعها نادراً لم تراع المشقّة , والمشقّة يختلف ضابطها باختلاف أعذارها , كما في التّيمم , إذ يعدل عن الماء إذا خيف إتلاف عضوٍ أو بطء البرء أو شين فاحشٌ .
قال العز بن عبد السّلام : إن قيل ما ضابط الفعل الشّاقّ الّذي يؤجر عليه أكثر ممّا يؤجر على الخفيف ؟ قلت : إذا اتّحد الفعلان في الشّرف والشّرائط والسنن والأركان - وكان أحدهما - شاقاً فقد استويا في أجرهما لتساويهما في جميع الوظائف وانفرد أحدهما بتحمل المشقّة لأجل اللّه سبحانه وتعالى , فأثيب على تحمل المشقّة لا على عين المشاقّ , إذ لا يصح التّقرب بالمشاقّ لأنّ القرب كلّها تعظيم للرّبّ سبحانه وتعالى وليس عين المشاقّ تعظيماً ولا توقيراً , ويدل على ذلك أنّ من تحمّل مشقّةً في خدمة إنسان فإنّه يرى ذلك له لأجل كونه شقّ عليه , وإنّما يراه له بسبب تحمل مشقّة الخدمة لأجله ... ويختلف أجر تحمل المشاقّ بشدّة المشاقّ وخفّتها .
وقال الشّاطبي : كما أنّ المشقّة تكون دنيويّةً , كذلك تكون أخرويّةً , فإنّ الأعمال إذا كان الدخول فيها يؤدّي إلى تعطيل واجب أو فعل محرّم فهو أشد مشقّةً - باعتبار الشّرع - من المشقّة الدنيويّة الّتي هي غير مخلّة بدين , واعتبار الدّين مقدّم على اعتبار النّفس والأعضاء وغيرها في نظر الشّارع , فالمشقّة الدّينيّة مقدّمة في الاعتبار على الدنيويّة , فإذا كان كذلك فليس للشّارع قصد في إدخال المشقّة من هذه الجهة .
فالمشقّة من حيث إنّها غير مقصودة للشّارع تكون غير مطلوبة ولا العمل المؤدّي إلى المشقّة الخارجة عن المعتاد مطلوباً , فقد نشأ هنا نظر في تعارض مشقّتين , فإنّ المكلّف إن لزم من اشتغاله بنفسه فساد ومشقّة لغيره فيلزم أيضاً من الاشتغال بغيره فساد ومشقّة في نفسه , وإذا كان كذلك تصدّى النّظر في وجه اجتماع المصلحتين مع انتفاء المشقّتين إن أمكن ذلك , وإن لم يمكن فلا بدّ من التّرجيح , فإذا كانت المشقّة العامّة أعظم أعتبر جانبها وأهمل جانب الخاصّة .
ثمّ إنّ المشقّة في الأعمال المعتادة مختلفة باختلاف تلك الأعمال فليست المشقّة في صلاة ركعتي الفجر كالمشقّة في ركعتي الصبح , ولا المشقّة في الصّلاة كالمشقّة في الصّيام ولا المشقّة في الصّيام كالمشقّة في الحجّ , ولا المشقّة في ذلك كلّه كالمشقّة في الجهاد , إلى غير ذلك من أعمال التّكليف ولكن كل عمل في نفسه له مشقّة معتادة فيه , توازي مشقّة مثله من الأعمال العاديّة .
المواطن الّتي تظن فيها المشقّة والأحكام المنوطة بها :
17 - شرع الإسلام أنواعاً من الرخص لظروف توجد للمكلّف نوعةً من المشقّة الّتي تثقل كاهله وقد ذكر العلماء أسباب التّخفيف في العبادات وغيرها الّتي بنيت على الأعذار وقد رخّص الشّارع لأصحابها بالتّخفيف عنهم في العبادات والمعاملات والحدود وغيرها , فكل ما تعسّر أمره وشقّ على المكلّف وضعه خفّفته الشّريعة ومن أهمّ هذه الأعذار الّتي جعلت سبباً للتّخفيف عن العباد والمواطن الّتي تظن فيها المشقّة هي : السّفر - المرض - الحمل - الإرضاع - الشّيخوخة والهرم - الإكراه - النّسيان - الجهل - العسر وعموم البلوى - النّقص .
أ - السّفر :(/4)
18 - السّفر سبب للتّخفيف , لما فيه من مشقّة , ولحاجة المسافر إلى التّقلب في حاجاته , ويعتبر السّفر من أسباب المشقّة في الغالب فلذلك أعتبر نفس السّفر سبباً للرخص وأقيم مقام المشقّة .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( سفر ف / 5 وما بعدها ) , ومصطلحات : ( صلاة المسافر , وصوم , وتطوع , وتيمم ) .
ب - المرض :
19 - قال القرطبي : المريض هو الّذي خرج بدنه عن حدّ الاعتدال والاعتياد فيضعف عن القيام بالمطلوب .
وقد خصّت الشّريعة المريض بحظّ وافر من التّخفيف لأنّ المرض مظنّة للعجز فخفّف عنه الشّارع .
وللمريض رخصٌ كثيرة .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( تيسير ف / 32 ) .
ج - الشّيخوخة والهرم :
20 - لقد خفّف الشّارع عن الشّيخ الهرم , فخصّه بجواز إخراج الفدية بدلاً عن الصّيام الّذي عجز عن أدائه لما يلحقه من المشقّة , ولا خلاف بين الفقهاء أنّه لا يلزمه الصّوم , ونقل ابن المنذر الإجماع عليه وأنّ له أن يفطر إذا كان الصّوم يجهده ويشقّ عليه مشقّةً شديدةً .
د- جواز الفطر للحامل والمرضع في رمضان :
21 - اتّفق الفقهاء على أنّ الحامل والمرضع لهما أن تفطرا في رمضان بشرط أن تخافا على أنفسهما أو على ولدهما المرض أو زيادته أو الضّرر أو الهلاك والمشقّة .
ونصّ الحنابلة على كراهة صومهما كالمريض .
وصرّح المالكيّة بأنّ الحمل مرض حقيقةً , والرّضاع في حكم المرض وليس مرضاً حقيقةً .
هـ - الإكراه :
22 - الإكراه هو حمل الغير على أمر لا يرضاه , وذلك بتهديده بالقتل أو بقطع طرف أو نحوهما إن لم يفعل ما يطلب منه .
وقد عدّ الشّارع الإكراه بغير حقٍّ عذراً من الأعذار المخفّفة الّتي تسقط بها المؤاخذة في الدنيا والآخرة , فتخفّف عن المكره ما ينتج عمّا أكره عليه من آثار دنيويّة أو أخرويّة بحدوده . وتفصيل ذلك في مصطلح ( إكراهٌ ف / 6 و 12 ) .
ونصّ السيوطيّ على أنّ الفطر في رمضان مباح بالإكراه بل يجب على الصّحيح .
و - النّسيان :
23 - النّسيان هو جهل ضروري بما كان يعلمه , لا بآفة مع علمه بأمور كثيرة .
وقد جعلته الشّريعة عذراً وسبباً مخفّفاً في حقوق اللّه تعالى من بعض الوجوه , لقوله تعالى: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } فاللّه سبحانه وتعالى رفع عنّا إثم الغفلة والنّسيان والخطأ غير المقصود , ففي أحكام الآخرة يعذر النّاس ويرفع عنهم الإثم مطلقاً , فالنّسيان كما نصّ عليه السيوطيّ : مسقط للإثم مطلقاً وذلك تخفيف من اللّه سبحانه وتعالى, ويقول الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم : « تجاوز اللّه عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما أستكرهوا عليه » .
أمّا النّسيان فيما يتعلّق بحقوق العباد فلا يعد عذراً مخفّفاً , لأنّ حقّ اللّه مبناه على المسامحة , وحقوق العباد مبناها على المشاحّة والمطالبة , فلا يكون النّسيان عذراً فيها . وللتّفصيل انظر مصطلح ( نسيان ) .
ز - الجهل :
24 - الجهل هو : عدم العلم بالأحكام الشّرعيّة أو بأسبابها .
ويعتبر الجهل عذراً مخفّفاً في أحكام الآخرة , فلا إثم على من فعل المحرّم أو ترك الواجب جاهلاً , لقوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } .
والتّفصيل في مصطلح : ( جهل ف / 5 ) .
ح - العسر وعموم البلوى :
25 - يدخل في العسر الأعذار الغالبة الّتي تكثر البلوى بها وتعم في النّاس دون ما كان منها نادراً .
والتّفصيل في مصطلح ( تيسير ف / 38 ) .
ط - النّقص :
26 - النّقص نوع من المشقّة , إذ النّفوس مجبولة على حبّ الكمال ويناسب النّقص التّخفيف في التّكليفات , فمن ذلك عدم تكليف الصّبيّ والمجنون , ففوّض أمر أحوالهما إلى الوليّ وتربيته , وحضانته إلى النّساء رحمةً به ولم يجبرهنّ على الحضانة , ومنه عدم تكليف النّساء بكثير ممّا وجب على الرّجال كالجماعة والجمعة والشّهادة والجزية وتحمل العقل وإباحة لبس الحرير وحليّ الذّهب , وعدم تكليف العبيد بكثير ممّا وجب على الأحرار لكونه على النّصف من الحرّ في الحدود والعدد .(/5)
مَشْي *
التّعريف :
1 - المشي لغةً السّير على القدم , سريعاً كان أو غير سريع , يقال : مشى يمشي مشياً : إذا كان على رجليه , سريعاً كان أو بطيئاً , فهو ماشٍ , والجمع مشاة .
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - السّعي :
2 - من معاني السّعي في اللغة الإسراع في المشي .
والسّعي في الاصطلاح يطلق على معان منها : قطع المسافة الكائنة بين الصّفا والمروة سبع مرّات ذهاباً وإياباً , ومنها : الإسراع في المشي .
قال الرّاغب الأصفهاني : السّعي : المشي السّريع وهو دون العدو .
والصّلة بينهما هي أنّ المشي أعم من السّعي .
ب - الرَّمَل :
3 - الرَّمَل - بفتح الميم - في اللغة الهرولة , قال صاحب النّهاية : رمل يرمل رملاً ورمَلاناً : إذا أسرع في المشي وهزّ منكبيه .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن معناه اللغويّ , لكنّ النّوويّ قال : الرّمل - بفتح الرّاء - هو إسراع المشي مع تقارب الخطى دون الوثوب والعدو .
والصّلة بينهما هي أنّ الرّمل أخص من المشي .
الأحكام المتعلّقة بالمشي :
تتعلّق بالمشي أحكام منها :
إمكانيّة متابعة المشي في الخفّ لجواز المسح عليه :
4 - يشترط الفقهاء لجواز المسح على الخفّين شروطاً منها : أن يكون الخف ممّا يمكن متابعة المشي فيه .
وللتّفصيل ( ر : مسح على الخفّين ) .
المشي في الصّلاة :
5 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ المأموم إذا مشى في صلاته إلى جهة القبلة مشياً غير متداركٍ بأن مشى قدر صف , ثمّ وقف قدر ركن , ثمّ مشى قدر صف آخر , وهكذا إلى أن مشى قدر صفوف كثيرة لا تفسد صلاته , إلّا إن خرج من المسجد فيما إذا كانت الصّلاة فيه , أو تجاوز الصفوف فيما إذا كانت الصّلاة في الصّحراء , فإن مشى مشياً متلاحقاً بأن مشى قدر صفّين دفعةً واحدةً , أو خرج من المسجد , أو تجاوز الصفوف في الصّحراء فسدت صلاته, وهذا بناءً على أنّ الفعل القليل غير مفسد ما لم يتكرّر متوالياً , وعلى أنّ الاختلاف في المكان مبطل للصّلاة ما لم يكن لإصلاحها , والمسجد مكان واحد حكماً , وموضع الصفوف في الصّحراء كالمسجد , هذا إذا كان قدّامه صفوف .
أمّا لو كان إماماً فمشى حتّى جاوز موضع سجوده فإن كان ذلك مقدار ما بينه وبين الصّفّ الّذي يليه لا تفسد , وإن كان أكثر فسدت , وإن كان منفرداً فالمعتبر موضع سجوده , إن جاوزه فسدت وإلّا فلا .
وهذا التّفصيل كله إذا لم يكن الماشي في الصّلاة مستدبر القبلة , بأن مشى قدّامه أو يميناً أو يساراً أو إلى ورائه من غير تحويل أو استدبار , وأمّا إذا استدبر القبلة فقد فسدت صلاته سواء مشى قليلاً أو كثيراً أو لم يمش , لأنّ استدبار القبلة لغير إصلاح الصّلاة وحده مفسد. وقال بعض مشايخ الحنفيّة في رجل رأى فرجةً في الصّفّ الّذي أمامه مباشرةً فمشى إلى تلك الفرجة فسدّها لا تفسد صلاته , ولو مشى إلى صف غير الّذي أمامه مباشرةً فسدّ فرجةً فيه تفسد صلاته .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الصّلاة لا تبطل بمشي المصلّي صفّين لسترة يقرب إليها , أو دفع مار أو لذهاب دابّة أو لسدّ فرجة في صف , حتّى لو كان المشي بجنب أو قهقرى : بأن يرجع على ظهره , بشرط ألا يستدبر القبلة , فيما عدا مسألة الدّابّة فإنّه يعذر إن استدبر القبلة . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ المشي أكثر من خطوتين متوسّطتين مبطل للصّلاة إن توالت لا إن تفرّقت , أما المشي خطوتين فلا يبطل الصّلاة وإن اتّسعت , كما تبطل بالوثبة الفاحشة مطلقاً.
واختلفوا في مسمّى الخطوة هل هو نقل رجل واحدة فقط أو نقل الرّجل الأخرى إلى محاذاتها, قال ابن أبي الشّريف : كل منهما محتمل , والثّاني أقرب .
والّذي يستفاد من مذهب الحنابلة أنّ المشي الّذي تقتضيه صحّة صلاة المأموم مع إمامه جائز , كما إذا كبَّر فذّاً خلف الإمام , ثمّ تقدّم عن يمينه , أو تقدّم المأموم إلى صف بين يديه, أو كانا اثنين وراء الإمام , فخرج أحدهما من الصّلاة فمشى المأموم حتّى وقف عن يمين الإمام , أو كان المأموم واحداً فكبّر آخر عن يسار الإمام أداره الإمام عن يمينه . والعبرة عندهم في ذلك أنّ المشي الكثير إن كان لضرورة كخوف أو هرب من عدوٍّ ونحوه لم تبطل صلاته , وإن لم يكن لضرورة بطلت صلاته .
التّنفل ماشياً :
6 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة في الجملة إلى جواز التّنفل ماشياً ولكلّ من المذهبين في المسألة تفصيل :
فقال الشّافعيّة : يجوز التّنفل ماشياً , وعلى الرّاحلة سائرةً إلى جهة مقصده في السّفر الطّويل , وكذا القصير على المذهب , ولا يجوز في الحضر على الصّحيح بل لها فيه حكم الفريضة في كلّ شيء إلّا القيام , وقال الإصطخريّ : يجوز للرّاكب والماشي في الحضر متردّداً في جهة مقصده , واختار القفّال الجواز بشرط الاستقبال في جميع الصّلاة .
وقال الحنابلة : تصح الصّلاة بدون الاستقبال لمتنفّل راكب وماشٍ في سفر غير محرّم ولا مكروهٍ , ولو كان السّفر قصيراً لقوله تعالى : { وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ } , قال ابن عمر رضي اللّه عنهما : نزلت في التّطوع خاصّةً , ولما ورد « أنّ ابن عمر كان يصلّي في السّفر على راحلته أينما توجّهت يومئ , وذكر عبد اللّه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان يفعله » , وكان ابن عمر رضي اللّه عنهما يفعله , ولم يفرّق بين طويل السّفر وقصيره , وألحق الماشي بالرّاكب لأنّ الصّلاة أبيحت للرّاكب لئلّا ينقطع عن القافلة في السّفر وهو موجود في الماشي .
ولا تجوز صلاة الماشي عند الحنفيّة والمالكيّة .
آداب المشي إلى صلاة الجماعة :(/1)
7 - ذهب الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة في الأصحّ إلى أنّه يستحب لقاصد الجماعة أنّ يمشي إلى الصّلاة بسكينة ووقار , وإن سمع الإقامة لم يسع إليها , سواء خاف فوت تكبيرة الإحرام أم لا , لما روى أبو هريرة رضي اللّه عنه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: « إذا أقيمت الصّلاة فلا تأتوها تسعون ائتوها تمشون وعليكم السّكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا » .
وصرّح المالكيّة بأنّه يجوز الإسراع لإدراك الصّلاة مع الجماعة بلا هرولة وهي ما دون الجري , وتكره الهرولة لأنّها تذهب الخشوع , إلّا أنّ يخاف فوات الوقت فتجب .
وتفصيل ذلك ينظر في ( صلاة الجماعة ف / 22 ) .
المفاضلة بين المشي والركوب لقاصد الجمعة :
8 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يستحب لمريد حضور الجمعة المشي في ذهابه لخبر : « من غسّل يوم الجمعة واغتسل ثمّ بكّر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكلّ خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها » , ولما فيه من التّواضع للّه عزّ وجلّ , لأنّه عبد ذاهب لمولاه , فيطلب منه التّواضع له فيكون ذلك سبباً في إقباله عليه .
قال البهوتيّ : هذا إذا لم يكن له عذر , فإن كان له عذر فلا بأس بركوبه ذهاباً وإياباً , لكنّ الإياب لا بأس به ولو لغير عذر .
وصرّح المالكيّة بأنّه لا يندب المشي في الرجوع لأنّ العبادة قد انقضت .
وقال الرّملي من الشّافعيّة : من ركب لعذر أو غيره سيّر دابّته بسكون كالماشي ما لم يضق الوقت , ويشبه أنّ الركوب أفضل لمن يجهده المشي لهرم أو ضعف أو بعد منزله , بحيث يمنعه ما يناله من التّعب الخشوع والخضوع في الصّلاة عاجلاً .
اشتراط القدرة على المشي لوجوب الجمعة :
9 - صرّح الحنفيّة بأنّ من شرائط وجوب الجمعة القدرة على المشي , فلا تجب على المريض ولا على المقعد وإن وجد من يحمله ولا على الأعمى وإن وجد قائداً , وقالوا : الشّيخ الكبير ملحق بالمريض فلا تجب عليه , والمطر الشّديد مسقط للجمعة عندهم .
ولم ينصّ المالكيّة على هذا الشّرط بهذا اللّفظ وإنّما عبّروا عنه بالتّمكن من أداء الجمعة , قال ابن شاس : ويلتحق بعذر المرض المطر الشّديد على أحد القولين فيهما .
واعتبر الشّافعيّة والحنابلة المرض من أعذار ترك الجمعة في الجملة , وقالوا : إن لم يتضرّر المريض بإتيان المسجد راكباً أو محمولاً , أو تبرّع أحد بأن يركبه أو يحمله , أو يتبرّع بقود أعمىً لزمته الجمعة .
وعند الشّافعيّة تجب الجمعة على الأعمى إذا وجد قائداً ولو بأجرة وله مال وإلّا فقد أطلق الأكثرون منهم أنّها لا تجب عليه , وقال القاضي حسين : إن كان الأعمى يحسن المشي بالعصا من غير قائد لزمه .
وفي الوحل الشّديد للشّافعيّة ثلاثة أوجهٍ : الصّحيح أنّه عذر في ترك الجمعة والجماعة . وعند الحنابلة قال ابن قدامة : لا تجب الجمعة على من في طريقه إليها مطر يبل الثّياب , أو وحل يشقّ المشي إليها فيه
المشي لقاصد صلاة العيد :
10 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يستحب لقاصد العيد المشي إن قدر , لما روى الحارث عن عليٍّ رضي اللّه عنه : « من السنّة أن تخرج إلى العيد ماشياً » , ولأنّه أقرب للتّواضع , فإن ضعف لكبر أو مرض فله الركوب .
والتّفصيل في مصطلح ( صلاة العيدين ف / 13 ) .
المشي في تشييع الجنازة :
11 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يسن اتّباع الجنازة ماشياً , والمشي أفضل من الركوب . والتّفصيل في مصطلح ( جنائز ف / 14 ) .
المشي في المقابر :
12 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يكره المشي في المقابر بنعلين .
وقال الحصكفيّ : يكره وطء القبر والمشي في طريقٍ ظنّ أنّه محدث حتّى إذا لم يصل إلى قبر قريبه إلّا بوطء قبر تركه .
وقال ابن عابدين نقلاً عن خزانة الفتاوى : وعن أبي حنيفة لا يوطأ القبر إلّا لضرورة , وقال بعضهم : لا بأس بأن يطأ القبر وهو يقرأ أو يسبّح أو يدعو لهم .
ويرى المالكيّة أنّ القبر محرّم فلا ينبغي أن يمشي عليه إذا كان مسنّماً والطّريق دونه , فأمّا إذا عفا فواسع .
وقال صاحب التّهذيب من الشّافعيّة إنّه لا بأس بالمشي بالنّعل بين القبور , وقالوا : القبر محرّم توقيراً للميّت فيكره في المشهور عندهم الجلوس عليه والاتّكاء ووطؤُه إلّا لحاجة بأن لا يصل إلى قبر ميّته إلّا بوطئه .
وقال النّووي : يحرم ذلك أخذاً بظاهر الحديث : « لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر » .
وقال الحنابلة بكراهة وطء القبور والمشي بينها بنعل لخبر « حتّى بالتمشك » - نوع من النّعال - وقالوا : لا يكره المشي بينها بخفّ لمشقّة نزعه , لأنّه ليس بنعل , ويسن خلع النّعل إذا دخل المقبرة لحديث بشير بن الخصاصية قال : « بينما أنا أماشي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان فقال يا صاحب السّبتيّتين ويحك ألق سبتيّتيك فنظر الرّجل فلمّا عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خلعهما فرمى بهما » , واحتراماً لأموات المسلمين إلّا خوف نجاسة وشوكٍ وحرارة أرض وبرودتها فلا يكره - المشي بنعل بين القبور - للعذر .
المشي في الطّواف والسّعي :
13 - ذهب الحنفيّة والحنابلة في المذهب إلى أنّ المشي في الطّواف والسّعي للقادر عليهما واجب مطلقاً .
وعند المالكيّة واجب في الطّواف والسّعي الواجبين , وأمّا الطّواف والسّعي غير الواجبين فالمشي فيهما سنّة عندهم .
وذهب الشّافعيّة وهو رواية عند الحنابلة إلى أنّ المشي في الطّواف سنّة .
والتّفصيل في مصطلح ( طواف ف / 25 , سعي ف / 14 ) .
نذر المشي إلى بيت اللّه الحرام :(/2)
14 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ من قال - وهو في الكعبة أو في غيرها - عليّ المشي إلى بيت اللّه تعالى أو إلى الكعبة فعليه حجّة أو عمرة ماشياً وإن شاء ركب وأهرق دماً , وقالوا : مذهبنا مأثور عن عليٍّ رضي اللّه عنه , ولأنّ النّاس تعارفوا إيجاب الحجّ والعمرة بهذا اللّفظ فصار كما إذا قال : عليّ زيارة البيت ماشياً فيلزمه ماشياً وإن شاء ركب وأهرق دماً . ويرى المالكيّة أنّ من نذر المشي إلى بيت اللّه الحرام أو إلى جزء منه كالركن والحجر والحطيم يلزمه المشي إن نوى نسكاً فإن لم ينو النسك لم يلزمه شيء .
وإذا لزمه المشي مشى من حيث نوى المشي منه , وإن لم ينو محلاً مخصوصاً فمن حيث حلف أو نذر وأجزأ المشي من مثله في المسافة , ويستمر ماشياً لتمام طواف الإفاضة أو تمام السّعي إن كان سعيه بعد الإفاضة , ولزم الرجوع في عام قابل لمن ركب في العام الّذي نذر فيه المشي فيمشي ما ركب فيه إن علمه وإن لم يعلمه فيجب مشي جميع المسافة . وقال الشّافعيّة : إذا نذر المشي إلى بيت اللّه تعالى ناوياً الكعبة أو إتيانه فالمذهب وجوب إتيانه بحجّ أو عمرة , وفي قول من طريقٍ لا يجب .
وإن لم ينو الكعبة فالأصح أنّه لا يصح نذره وقيل : يحمل عليها .
فإن نذر الإتيان لم يلزمه مشي وله الركوب .
وإن نذر المشي أو أن يحجّ أو يعتمر ماشياً فالأظهر وجوب المشي , والثّاني : له الركوب وإن قال : أمشي إلى بيت اللّه تعالى فيمشي من دويرة أهله في الأصحّ , والثّاني : يمشي من حيث يُحرم .
وإذا وجب المشي فركب لعذر أجزأه وعليه دم في الأظهر لتركه الواجب , والثّاني : لا دم عليه كما لو نذر الصّلاة قائماً فصلّى قاعداً لعجزه فلا شيء عليه .
وإذا ركب بلا عذر أجزأه على المشهور لأنّه لم يترك إلّا هيئةً التزمها وعليه دم لترفهه بتركها , والثّاني : لا يجزئه لأنّه لم يأت بما التزمه بالصّفة مع قدرته عليها .
وذهب الحنابلة إلى أنّ من نذر المشي إلى بيت اللّه الحرام وأطلق فلم يقل في حج ولا عمرة ولا غيره أو قال غير حاج ولا معتمر لزمه المشي في حج أو في عمرة حملاً له على المعهود الشّرعيّ وإلغاءً لإرادته غيره , ويلزمه المشي من مكان النّذر أي دويرة أهله كما في حجّ الفرض إلى أن يتحلّل , ولا يلزمه إحرام قبل ميقاته ما لم ينو مكاناً بعينه للمشي منه أو الإحرام فيلزمه لعموم حديث : « من نذر أن يطيع اللّه فليطعه » , ومن نوى بنذره المشي إلى بيت اللّه الحرام إتيانه لا حقيقة المشي فيلزمه الإتيان ويخيّر بين المشي والركوب لحصوله بكلّ منهما .
وإن ركب ناذر المشي إلى بيت اللّه الحرام لعجز أو غيره كفّر كفّارة يمين .
وللتّفصيل في أحكام نذر المشي إلى أحد المشاعر , ونذر المشي إلى المدينة المنوّرة أو بيت المقدس أو أحد المساجد ينظر مصطلح ( نذر ) .
الواجب في إزالة منفعة المشي :
15 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الواجب في إزالة منفعة المشي كمال الدّية , فلو ضرب صلبه فبطل مشيه ورجله سليمة وجبت الدّية , وفصّل الشّافعيّة فقالوا : ولا تؤخذ الدّية حتّى تندمل فإن انجبر وعاد مشيه فلا دية وتجب الحكومة إن بقي أثر , وكذا إن نقص مشيه بأن احتاج إلى عصاً , أو صار يمشي محدودباً , ولو كسر صلبه وشلّت رجله قال المتولّي من الشّافعيّة: يلزمه دية لفوات المشي , وحكومة لكسر الظّهر , بخلاف ما إذا كانت الرّجل سليمةً لا يجب مع الدّية حكومة ; لأنّ المشي منفعة في الرّجل فإذا شلّت الرّجل ففوات المنفعة لشلل الرّجل فأفرد كسر الصلب بحكومة , أمّا إذا كانت سليمةً ففوات المشي لخلل الصلب فلا يفرد بحكومة .
قال النّووي : إنّ مجرّد الكسر لا يوجب الدّية وإنّما تجب الدّية إذا فات به المشي .
ولو أذهب كسر الصلب مشيه ومنيّه , أو منيّه وجماعه وجبت ديتان على الأصحّ عند الشّافعيّة وقيل : دية .
وقال الحنابلة : إنّ دية ذهاب منفعة المشي تجب حتّى لو انجبر كسر الصلب .
المشي في نعل واحدة :
16 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى كراهة المشي في نعل واحدة بغير عذر , وقال الحنابلة : ولو يسيراً سواء كان في إصلاح الأخرى أو لا , لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « لا يمشي أحدكم في نعل واحدة » , وقوله عليه الصّلاة والسّلام : « إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمشي في الأخرى حتّى يصلحها » , وقال أبو يحيى زكريّا الأنصاري : والمعنى فيه أنّ مشيه يختل بذلك .
وقال الخطّابيّ : الحكمة في النّهي أنّ النّعل شرعت لوقاية الرّجل عمّا يكون في الأرض من شوكٍ أو نحوه فإذا انفردت إحدى الرّجلين احتاج الماشي أن يتوقّى لإحدى رجليه ما لا يتوقّى للأخرى فيخرج بذلك من سجيّة مشيه .
وقال المالكيّة : لا يمشي أحد في نعل واحدة ولا يقف فيه إلّا أن يكون الشّيء الخفيف , في حال كونه متشاغلاً بإصلاح الأخرى , وليلبسهما جميعاً أو فلينزعهما جميعاً .
تسليم الرّاكب على الماشي :
17 - يسن تسليم الرّاكب على الماشي والماشي على القاعد , والقليل على الكثير , والصّغير على الكبير , لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « يسلّم الرّاكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير » .
وللتّفصيل ( ر : سلام ف / 23 ) .
آداب المشي مع النّاس :
18 - قال ابن عقيل من الحنابلة : من مشى مع إنسان فإن كان أكبر منه وأعلم مشى عن يمينه يقيمه مقام الإمام في الصّلاة .(/3)
قال ابن مفلح مقتضى كلام ابن عقيل : استحباب مشي الجماعة خلف الكبير وإن مشوا عن جانبيه فلا بأس كالإمام في الصّلاة , وفي مسلم قول يحيى بن يعمر أنّه هو وحميد بن عبد الرّحمن مشياً على جانبي ابن عمر , قال في شرح مسلم : فيه تنبيهٌ على مشي الجماعة مع فاضلهم وهو أنّهم يكتنفونه ويحفون به .
قال الحصكفيّ وابن عابدين : وللشّابّ العالم أن يتقدّم على الشّيخ الجاهل , لأنّه أفضل منه , ولهذا يقدّم في الصّلاة وهي إحدى أركان الإسلام وهي تالية الإيمان , قال ابن عابدين : وصرّح الرّملي في فتاواه بحرمة تقدم الجاهل على العالم حيث يشعر بنزول درجته عند العامّة لمخالفته لقوله تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } وهذا مجمع عليه , فالمتقدّم ارتكب معصيةً فيعزّر .(/4)
مَضْمَضة *
التّعريف :
1 - المضمضة في اللغة : التّحريك , ومنه : مضمض النعاس في عينيه إذا تحرّكتا بالنعاس , ثمّ اشتهر باستعمالها في وضع الماء في الفم وتحريكه .
قال الفيوميّ : هي تحريك الماء في الفم , يقال : مضمضت الماء في فمي : إذا حرّكته بالإدارة فيه , وتمضمضت في وضوئي : إذا حرّكت الماء في فمي .
واصطلاحاً قال الدّردير والنّووي : أن يجعل الماء في فيه ويديره فيه ثمّ يمجه , أي يطرحه .
وقال ابن عابدين : استيعاب الماء جميع الفم ثمّ مجه .
وعرّفها ابن قدامة بأنّها : إدارة الماء في الفم .
ويؤخذ من هذه التّعاريف أنّ الفقهاء متّفقون على أنّ المضمضمة إدخال الماء إلى الفم , واختلفوا في إدارة الماء في الفم ومجّه .
ومذهب الجمهور عدم اشتراطهما , والأفضل عندهم فعلهما .
ومذهب المالكيّة اشتراطهما , وإلا فلا يعتدّ بها .
الحكم التّكليفي :
2 - اختلف الفقهاء في حكم المضمضة على ثلاثة أقوالٍ :
قال المالكيّة والشّافعيّة وأحمد في روايةٍ : إنّ المضمضة سنّة في الوضوء والغسل , وبه قال الحسن البصري والزهري والحكم وحمّاد وقتادة ويحيى الأنصاري والأوزاعي واللّيث , لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } فالوجه عند العرب : ما حصلت به المواجهة , وداخل الفم ليس من الوجه , ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « عشر من الفطرة » وذكر منها : « المضمضة والاستنشاق » , والفطرة سنّة , وذكرهما من الفطرة يدل على مخالفتهما لسائر الوضوء , ولقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابيّ : « توضّأ كما أمرك اللّه » ، قال النّووي : هذا الحديث من أحسن الأدلّة , لأنّ هذا الأعرابيّ صلّى ثلاث مرّاتٍ فلم يحسنها , فعلم النّبي صلى الله عليه وسلم حينئذٍ أنّه لا يعرف الصّلاة الّتي تفعل بحضرة النّاس وتشاهَد أعمالها , فعلّمه واجباتها وواجبات الوضوء , فقال النّبي صلى الله عليه وسلم : « توضّأ كما أمرك اللّه » , ولم يذكر له سنن الصّلاة والوضوء لئلا يكثر عليه فلا يضبطها , فلو كانت المضمضة واجبةً لعلّمه إيّاها , فإنّه ممّا يخفى , لا سيما في حقّ هذا الرّجل الّذي خفيت عليه الصّلاة الّتي تشاهد , فكيف الوضوء الّذي يخفى .
ويرى الحنفيّة وأحمد في روايةٍ أخرى أنّ المضمضة واجبة في الغسل , وسنّة في الوضوء , وبه قال سفيان الثّوري , لأنّ الواجب في باب الوضوء غسل الأعضاء الثّلاثة ومسح الرّأس , وداخل الفم ليس من جملتها , أما ما سوى الوجه فظاهر , وكذا الوجه , لأنّه اسم لما يواجه به الإنسان عادةً , والفم لا يواجه به بكلّ حالٍ فلا يجب غسله .
وأمّا وجوب المضمضة في الغسل فلأنّ الواجب هناك تطهير البدن لقوله تعالى : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ } أي طهّروا أبدانكم فيجب غسل ما يمكن غسله من غير حرجٍ , ظاهراً كان أو باطناً , وممّا يؤكّد وجوب المضمضة والاستنشاق قوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ تحت كلّ شعرةٍ جنابة فاغسلوا الشّعر وأنقوا البشرة » , وقالوا : في الأنف شعر وفي الفم بشرة . وقال الحنابلة في المشهور وابن المبارك وابن أبي ليلى وإسحاق وعطاء : إنّ المضمضة والاستنشاق واجبة في الطّهارتين أي الغسل والوضوء لما روت عائشة رضي اللّه عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « المضمضة والاستنشاق من الوضوء الّذي لا بدّ منه » , ولأنّ كلّ من وصف وضوء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مستقصياً ذكر أنّه تمضمض واستنشق , ومداومته عليهما تدل على وجوبهما , لأنّ فعله يصلح أن يكون بياناً وتفصيلاً للوضوء المأمور به في كتاب اللّه .
كيفيّة المضمضة :
3 - قال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : يستحب أن يتمضمض ويستنشق بيمناه , لما ورد عن عثمان رضي الله عنه أنّه دعا بوضوء فأفرغ على كفّيه ثلاث مرارٍ فغسلهما ثمّ أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنثر ثمّ غسل وجهه ثلاث مرّاتٍ . . . ثمّ قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من توضّأ نحو وضوئي هذا ثمّ صلّى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه غفر له ما تقدّم من ذنبه » , وعن عليٍّ رضي الله عنه : أنّه أدخل يده اليمنى في الإناء فملأ فمه فتمضمض واستنشق واستنثر بيده اليسرى ففعل ذلك ثلاثاً .
وقال الحنفيّة : المضمضة والاستنشاق باليمين سنّة , لما روي عن الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما أنّه استنثر بيمينه ، فقال معاوية رضي الله عنه : جهلت السنّة ، فقال الحسن رضي الله عنه : كيف أجهل والسنّة خرجت من بيوتنا ، أما علمت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « اليمين للوجه واليسار للمقعد » .
وقال بعض الحنفيّة : المضمضة باليمين والاستنشاق باليسار , لأنّ الفم مطهرة , والأنف مقذرة , واليمين للأطهار , واليسار للأقذار .
4 - قال الحنفيّة والمالكيّة : إنّ السنّة في المضمضة والاستنشاق الفصل بينهما بأن يتمّ كل منهما بثلاث غرفاتٍ , أي أن تتمّ المضمضة بثلاث والاستنشاق بثلاث , لأنّ الّذين حكوا وضوء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخذوا لكلّ واحدٍ منهما ماءً جديداً , ولأنّهما عضوان منفردان فيفرد كلّ واحدٍ منهما بماء على حدةٍ كسائر الأعضاء .
وقال الشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة : إنّ المضمضة والاستنشاق مستحبّان من كفٍّ واحدةٍ يجمع بينهما , قال الأثرم : سمعت أبا عبد اللّه يسأل : أيهما أعجب إليك المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدةٍ , أو كل واحدةٍ منهما على حدةٍ ؟ قال : بغرفة واحدةٍ , وذلك لحديث عثمان وعليٍّ رضي الله عنهما .(/1)
قال البويطيّ من الشّافعيّة وابن قدامة من الحنابلة : إن أفرد المضمضة بثلاث غرفاتٍ , والاستنشاق بثلاث جاز , لأنّه روي في حديث طلحة بن مصرّفٍ عن أبيه عن جدّه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أنّه فصّل بين المضمضة والاستنشاق » , لأنّ الفصل أبلغ في النّظافة فكان أولى بالغسل .
ثمّ اختلف الشّافعيّة في الأفضليّة , فقالوا : إنّ فيها طريقين , الصّحيح : أنّ فيها قولين : أظهرهما : الفصل بين المضمضة والاستنشاق أفضل .
والثّاني : الجمع بينهما أفضل .
التّرتيب بين المضمضة وغيرها :
5 - قال الحنفيّة والمالكيّة : التّرتيب بين المضمضة والاستنشاق سنّة , وهو تقديم المضمضة على الاستنشاق , لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يواظب على التّقديم .
وقال الحنابلة وهو وجه عند الشّافعيّة : لا يجب التّرتيب بينهما وبين غسل بقيّة الوجه , لأنّ الأنف والفم من أجزائه , ولكن من المستحبّ أن يبدأ بهما قبل الوجه , لأنّ كلّ من وصف وضوء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذكر أنّه بدأ بهما إلا شيئاً نادراً .
وقال النّووي : اتّفق أصحابنا على أنّ المضمضة مقدّمة على الاستنشاق سواء جمع أو فصل بغرفة أو بغرفات , وفي هذا التّقديم وجهان , حكاهما الماورديّ والشّيخ أبو محمّدٍ الجوينيّ وولده إمام الحرمين وآخرون , أصحهما أنّه شرط وهو المعتمد فلا يحسب الاستنشاق إلا بعد المضمضة , لأنّهما عضوان مختلفان فاشترط فيهما التّرتيب كالوجه واليد .
6 - أما التّرتيب بين المضمضة وسائر الأعضاء غير الوجه فعلى روايتين عند الحنابلة : إحداهما : يجب وهو ظاهر كلام الخرقيّ لأنّها من الوجه فوجب غسلها قبل غسل اليدين للآية وقياساً على سائر أجزائه .
والثّانية : لا يجب , بل لو تركها في وضوئه وصلّى تمضمض وأعاد الصّلاة ولم يعد الوضوء , لما روى المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه : « أتي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضّأ فغسل كفّيه ثلاثاً وغسل وجهه ثلاثاً ثمّ غسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً ثمّ تمضمض واستنشق ثلاثاً ثمّ مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما » , ولأنّ وجوبها بغير القرآن , وإنّما وجب التّرتيب بين الأعضاء المذكورة لأنّ في الآية ما يدل على إرادة التّرتيب ولم يوجد ذلك فيها .
المبالغة في المضمضة :
7 - قال الشّربيني الخطيب : المبالغة في المضمضة : أن يبلغ الماء إلى أقصى الحنك ووجهي الأسنان واللّثات .
قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : إنّ المبالغة في المضمضة والاستنشاق سنّة لغير الصّائم لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا توضّأت فأبلغ في المضمضة والاستنشاق ما لم تكن صائماً » .
ولأنّ المبالغة فيهما من باب التّكميل في التّطهير فكانت مسنونةً إلا في حال الصّوم لما فيها من تعريض الصّوم للفساد .
وقال الماورديّ والصّيمري من الشّافعيّة : يبالغ الصّائم في المضمضة دون الاستنشاق لأنّ المتمضمض متمكّن من ردّ الماء عن وصوله إلى جوفه , بطبق حلقه , ولا يمكن دفعه بالخيشوم .
وقال المالكيّة : إنّها مندوبة لغير الصّائم , وأمّا الصّائم فتكره له المبالغة لئلا يفسد صومه , وقال المالكيّة : فإن وقع ووصل إلى حلقه وجب عليه القضاء .
المضمضة في الصّوم :
8 - قال الحنفيّة : إن تمضمض الصّائم فدخل الماء جوفه فسد صومه إن كان ذاكراً لصومه وعليه القضاء .
وقال المالكيّة : إن وصل لحلقه أو معدته شيء يغلب سبقه إلى حلقه من أثر ماء مضمضةٍ أو رطوبة سواكٍ أفطر وعليه القضاء في الفرض خاصّةً , وأمّا وصول أثر المضمضة للحلق في صوم النّفل فلا يفسد .
وقال الشّافعيّة : إن تمضمض الصّائم أو استنشق فسبق الماء إلى جوفه أو دماغه فثلاثة أقوالٍ : أصحها عند الأصحاب : إن بالغ أفطر وإلا فلا , والثّاني : يفطر مطلقاً , والثّالث : لا يفطر مطلقاً , والخلاف فيمن هو ذاكر للصّوم عالم بالتّحريم فإن كان ناسياً أو جاهلاً لم يبطل بلا خلافٍ .
وقال الحنابلة : إن تمضمض الصّائم أو استنشق في الطّهارة فسبق الماء إلى حلقه من غير قصدٍ ولا إسرافٍ فلا شيء عليه , لأنّه وصل إلى حلقه من غير إسرافٍ ولا قصدٍ , فأمّا إن أسرف فزاد على الثّلاث أو بالغ فقد فعل مكروهاً لأنّه يتعرّض بذلك بإيصال الماء إلى حلقه , فإن وصل إلى حلقه فعلى وجهين أحدهما : يفطر , والثّاني : لا يفطر به لأنّه وصل من غير قصدٍ فأشبه غبار الدّقيق والحكم في المضمضة لغير الطّهارة كالحكم في المضمضة للطّهارة إن كانت لحاجة .
المضمضة بعد الطّعام :
9 - المضمضة مستحبّة بعد الفراغ من الطّعام , لما روى سويد بن النعمان رضي الله عنهما : « أنّه خرج مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم عام خيبر حتّى إذا كانوا بالصّهباء - وهي أدنى خيبر - صلّى العصر ثمّ دعا بالأزواد فلم يؤت إلا بالسّويق فأمر به فثرّي - أي بلّ بالماء لما لحقه من اليبس - فأكل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأكلنا ثمّ قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا ثمّ صلّى ولم يتوضّأ » .
وفي الحديث دليل على استحباب المضمضة بعد الطّعام , ففائدة المضمضة قبل الدخول في الصّلاة من أكل السّويق وإن كان لا دسم له أن تحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحي الفم فيشغله تتبعه عن أحوال الصّلاة .(/2)
وكذلك تستحب المضمضة بعد شرب اللّبن لما روى ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شرب لبناً فمضمض وقال إنّ له دسماً » , فقد بيّن النّبي صلى الله عليه وسلم العلّة في المضمضة من اللّبن فيدل على استحبابها من كلّ شيءٍ دسمٍ . وقال ابن مفلحٍ : تسن المضمضة من شرب اللّبن , لأنّه صلى الله عليه وسلم تمضمض بعده بماء , وقال : « إنّ له دسماً » , وشيب له بماء فشرب , ثمّ قال ابن مفلحٍ : ذكر بعض متأخّري أصحابنا ما ذكره بعض الأطبّاء من أنّ الإكثار منه يضر بالأسنان واللّثة , ولذلك ينبغي أن يتمضمض بعده بالماء , ثمّ ذكر الخبر أنّه عليه الصّلاة والسّلام تمضمض وقال : « إنّ له دسماً » .
وقال النّووي : قال العلماء : تستحب من غير اللّبن من المأكول والمشروب , لئلا يبقى منه بقايا يبتلعها في الصّلاة .(/3)
مَطَالِع *
التّعريف :
1 - المطالع في اللغة جمع مطلَِعٍ - بفتح اللام وكسرها - وهو موضع الطلوع أو الظهور , ومن ذلك قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ } , أي منتهى الأرض المعمورة من جهة الشّرق .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ , وهو موضع الطلوع أو الظهور , ويقصد به - هنا - موضع طلوع الهلال من الغرب .
الألفاظ ذات الصّلة :
رؤية الهلال :
2 - الرؤية : إدراك الشّيء بحاسّة البصر , وقال ابن سيده : الرؤية النّظر بالعين والقلب , وهي مصدر رأى .
والمقصود برؤية الهلال : معاينته ومشاهدته بالعين الباصرة بعد غروب شمس اليوم التّاسع والعشرين من الشّهر السّابق ممّن يعتمد خبره وتقبل شهادته , فيثبت دخول الشّهر برؤيته .
اختلاف المطالع في رؤية الهلال :
3 - إنّ اختلاف المطالع تعبير فقهي يراد به عند الفقهاء : ظهور القمر ورؤيته في أوّل الشّهر بين بلدٍ وبلدٍ , حيث يراه أهل بلدٍ مثلاً , بينما الآخرون لا يرونه , فتختلف مطالع الهلال .
لذا تعرّض الفقهاء لأحكام اختلاف المطالع نظراً لتعلق فرضيّة أو صحّة بعض العبادات بها , فضلاً عن كثيرٍ من الأحكام المتعلّقة بالمعاملات والأسرة وغيرهما .
وتفصيل ذلك في : ( رؤية الهلال ف 14 , ورمضان ف 3 ) .
أسباب اختلاف المطالع :
4 - تثار مسألة اختلاف المطالع دائماً عندما يثور القول باعتبار رؤية بعض البلاد رؤيةً لجميعها على سبيل الإلزام , وهذا مردود بسبب اختلاف المطالع .
وذهب ابن تيميّة إلى إثبات اختلاف المطالع وذلك من وجهين :
أوّلهما : أنّ الرؤية تختلف باختلاف التّشريق والتّغريب .
ثانيهما : اختلاف الرؤية باختلاف المسافة أو الإقليم .
وهما بلا شكٍّ من أمور الواقع المشاهد الّذي لا يقوى على إنكاره إلا مكابر , فهو اختلاف واقع بين البلاد البعيدة كاختلاف مطالع الشّمس .
وذلك لأنّ الهلال إذا رئي في المشرق وجب أن يرى في المغرب ولا ينعكس , لأنّ وقت غروب الشّمس بالمغرب يتأخّر عن وقت غروبها بالمشرق , فإذا كان قد رئي بالمشرق ازداد بالمغرب نوراً وبعداً عن الشّمس وشعاعها قبل غروبها , فيكون أحقّ بالرؤية وليس كذلك إذا رئي بالمغرب , لأنّه قد يكون سبب الرؤية تأخر غروب الشّمس عندهم , فازداد بعداً وضوءاً , ولمّا غربت بالمشرق كان قريباً منها , ثمّ إنّه لمّا رئي بالمغرب كان قد غرب عن أهل المشرق , فهذا أمر محسوس في غروب الشّمس والهلال وسائر الكواكب , ولذلك إذا دخل وقت المغرب بالمغرب دخل بالمشرق ولا ينعكس , وكذلك الطلوع , إذا طلعت الشّمس بالمغرب طلعت بالمشرق ولا ينعكس .
أقوال الفقهاء في اختلاف المطالع وأدلّتهم :
5 - تعدّدت أقوال الفقهاء وأدلّتهم في مسألة اختلاف المطالع من حيث اعتبارها أو عدم اعتبارها بغضّ النّظر عن كونها من أمور الواقع الملموس كاختلاف مطالع الشّمس . وتفصيل ذلك في : ( رؤية الهلال ف 14 , ورمضان ف 3 ) .
حكم الأخذ بالتّأقيت والحساب في إثبات الأهلّة :
6 - اختلف الفقهاء في الأخذ بقول الحاسب على تفصيلٍ ينظر في مصطلح : ( رؤية الهلال ف 11 - 13 ) .
طلب الرؤية :
7 - لقد حثّ النّبي صلى الله عليه وسلم على طلب رؤية الهلال ، وتفصيله في مصطلح : ( رؤية الهلال فقرة 2 ) .
أهم الآثار المترتّبة على اعتبار اختلاف المطالع :
8 - تترتّب على اعتبار اختلاف المطالع آثار تتعلّق ببعض العبادات كالصّيام , والزّكاة , والحجّ , وبعض المعاملات كالبيع إلى أجلٍ , والسّلم , والإجارة , وبعض أحكام الأسرة كالطّلاق والعدّة والحضانة والنّفقة .
وتفصيل ذلك في مصطلحاتها ومصطلح : ( رؤية الهلال(/1)
مَعَابِد *
التّعريف :
1 - المعابد في اللغة جمع معبَدٍ - بفتح الباء - وهو مكان العبادة ومحلها .
والعبادة مصدر عبَد - بفتح الباء - يقال : عبد اللّه عبادةً وعبوديّةً : انقاد له وخضع وذلّ , والمتعبّد : مكان التّعبد .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
المسجد :
2 - المسجد لغةً مفعل بكسر العين : اسم لمكان السجود , وبالفتح اسم للمصدر .
والمسجد شرعاً : كل موضعٍ من الأرض , لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً » , وخصّصه العرف بالمكان المهيّأ للصّلوات الخمس .
والصّلة بين المسجد والمعابد العموم والخصوص المطلق .
أقسام المعابد :
مكان عبادة المسلمين هو المسجد والجامع والمصلّى والزّاوية .
وتفصيل أحكام ذلك في مصطلح : ( مسجد ف 1 - 4 ) .
وأمّا مكان عبادة غير المسلمين فله أقسام وتسميات مختلفة على النّحو التّالي :
أ - الكنيسة :
3 - تطلق الكنيسة عند بعض اللغويّين على متعبّد اليهود , وتطلق أيضاً على متعبّد النّصارى , وهي معرّبة .
ونصّ بعض الفقهاء كقاضي زاده وغيره على أنّ الكنيسة اسم لمعبد اليهود والنّصارى مطلقاً في الأصل , ثمّ غلب استعمال الكنيسة لمعبد اليهود , قال ابن عابدين : وأهل مصر يطلقون الكنيسة على متعبّدهما .
وأورد البركتي أوجهاً أربعةً فقال : الكنيسة : متعبّد اليهود أو النّصارى , أو الكفّار , أو موضع صلاة اليهود فقط .
ونصّ زكريّا الأنصاري من الشّافعيّة على أنّ الكنيسة متعبّد النّصارى .
وقال الدسوقيّ : الكنيسة : متعبّد الكفّار , سواء كانت بيعةً أو بيت نارٍ .
ب - البيعة :
4 - البِيعة - بكسر الباء - مفرد جمعه بِيع - بكسر الباء - مثل سدرةٍ وسدرٍ , وهي متعبّد النّصارى , وزاد الفخر الرّازيّ فقال : وهي الّتي يبنونها في البلد .
وقال قاضي زاده من الحنفيّة : إنّ البيعة اسم لمعبد اليهود مطلقاً , ثمّ غلب استعمال البيعة لمعبد النّصارى .
وقال ابن القيّم : إنّ أهل اللغة والتّفسير على أنّ البيعة معبد النّصارى إلا ما حكيناه عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما أنّه قال : البيع مساجد اليهود .
ج - الصّومعة :
5 - قال ابن عابدين : الصّومعة بيت يبنى برأس طويلٍ ليتعبّد فيه بالانقطاع عن النّاس , وذكر الفخر الرّازيّ : أنّ الصّوامع للنّصارى وهي الّتي بنوها في الصّحاري , وقيل : الصّوامع للصّابئين .
د - الدّير :
6 - الدّير مقام الرهبان والرّاهبات من النّصارى , ويجتمعون فيه للرّهبانيّة والتّفرد عن النّاس , ويجمع على ديورةٍ مثل : بعلٍ وبعولةٍ .
قال ابن عابدين : وأهل مصر والشّام يخصون الدّير بمعبد النّصارى .
هـ - الفُهُر :
7 - الفهر بضمّ الفاء والهاء جمع , ومفردها فُهْر , لليهود خاصّةً , وهو بيت المدراس الّذي يتدارسون فيه العلم , وفيه قول أنسٍ رضي اللّه تعالى عنه : وكأنّهم اليهود حين خرجوا من فهرهم .
و - الصّلوات :
8 - الصّلوات كنائس اليهود , قال الزّجّاج وهي بالعبريّة " صلوتا " , وقيل : للنّصارى , وقيل : للصّابئين .
ز - بيت النّار والنّاووس :
9 - بيت النّار : هو موضع عبادة المجوس .
وأمّا النّاووس فقال اللغويون : النّاووس مقابر النّصارى , أو صندوق من خشبٍ أو نحوه يضع فيه النّصارى جثّة الميّت .
وقال ابن القيّم : النّاووس للمجوس كالكنيسة للنّصارى , وهو من خصائص دينهم الباطل .
الأحكام المتعلّقة بالمعابد :
10 - لا يفرّق الفقهاء بين الكنيسة والبيعة , والصّومعة , وبيت النّار , والدّير وغيرها في الأحكام , والأصل في هذا ما ورد في كتاب عمر رضي اللّه عنه لمّا صالح نصارى الشّام كتب إليهم كتاباً : " إنّهم لا يبنون في بلادهم ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسةً ولا صومعة راهبٍ . . . " .
وقال الدسوقيّ في كراهة الصّلاة فيها : وتكره الصّلاة بمتعبّد الكفّار سواء كان كنيسةً أو بيعةً , أو بيت نارٍ .
وقال البهوتي وابن قدامة في الوقف : ولا يصح الوقف على كنائس , وبيوت نارٍ , وبيعٍ وصوامع , وديورةٍ ومصالحها .
ونصّ ابن القيّم بعد ذكر جميع أنواع المعابد على أنّ : حكم هذه الأمكنة كلّها حكم الكنيسة , وينبغي التّنبيه عليها .
وتفصيل الأحكام المتعلّقة بالمعابد على النّحو التّالي :
إحداث المعابد في أمصار المسلمين :
11 - يختلف حكم إحداث المعابد في أمصار المسلمين باختلاف الأمصار على النّحو التّالي : أ - ما اختطّه المسلمون كالكوفة والبصرة , فلا يجوز فيها إحداث كنيسةٍ ولا بيعةٍ ولا مجتمعٍ لصلاتهم ولا صومعةٍ بإجماع أهل العلم .
ب - ما فتحه المسلمون عنوةً , فلا يجوز فيه إحداث شيءٍ بالاتّفاق لأنّه صار ملكاً للمسلمين , واختلفوا في هدم ما كان فيه كما يأتي فيما بعد .
ج - ما فتحه المسلمون صلحاً : فإن صالحوهم على أنّ الأرض لهم والخراج لنا جاز الإحداث عند جمهور الفقهاء , وإن صالحوهم على أنّ الدّار لنا ويؤدون الجزية فلا يجوز الإحداث إلا إذا شرطوا ذلك , وإن وقع الصلح مطلقاً لا يجوز الإحداث عند جمهور الفقهاء . والتّفصيل في مصطلح : ( أهل الذّمّة ف 24 - 25 ) .
هدم المعابد القديمة :
12 - المراد من المعابد القديمة ما كانت قبل فتح الإمام بلد الكفّار ومصالحتهم على إقرارهم على بلدهم وعلى دينهم , ولا يشترط أن تكون في زمن الصّحابة رضي اللّه تعالى عنهم أو التّابعين لا محالة .
ويختلف حكم المعابد القديمة باختلاف مواقعها على النّحو التّالي :
أ - المعابد القديمة في المدن الّتي أحدثها المسلمون :(/1)
13 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ البيع والكنائس القديمة في السّواد والقرى لا يتعرّض لها ولا يهدم شيء منها , قال الكمال بن الهمام : إنّ البيع والكنائس في السّواد لا تهدم على الرّوايات كلّها , وأمّا في الأمصار فاختلف كلام محمّدٍ , فذكر في العشر والخراج : تهدم القديمة , وذكر في الإجارة : لا تهدم ، وعمل النّاس على هذا , فإنّا رأينا كثيراً منها توالت عليها أئمّة وأزمان وهي باقية لم يأمر إمام بهدمها , فكان متوارثاً من عهد الصّحابة رضي اللّه تعالى عنهم .
وعلى هذا لو مصّرنا برّيّةً فيها دير أو كنيسة فوقع داخل السور ينبغي أن لا يهدم , لأنّه كان مستحقاً للأمان قبل وضع السور , فيحمل ما في جوف القاهرة من الكنائس على ذلك لأنّها كانت فضاءً فأدار العبيديون عليها السور , ثمّ فيها الآن كنائس , ويبعد من إمام تمكين الكفّار من إحداثها جهاراً في جوف المدن الإسلاميّة , فالظّاهر أنّها كانت في الضّواحي , فأدير السور عليها فأحاط بها , وعلى هذا فالكنائس الموضوعة الآن في دار الإسلام - غير جزيرة العرب - كلها ينبغي أن لا تهدم , لأنّها إن كانت في أمصارٍ قديمةٍ , فلا شكّ أنّ الصّحابة أو التّابعين حين فتحوا المدينة علموا بها وأبقوها , وبعد ذلك ينظر فإن كانت البلدة فتحت عنوةً حكمنا بأنّها بقوها مساكن لا معابد فلا تهدم , ولكن يمنعون من الاجتماع فيها للتّقرب , وإن عرف أنّها فتحت صلحاً حكمنا بأنّهم أقروها معابد فلا يمنعون من الاجتماع فيها بل من الإظهار .
وقال المالكيّة : إنّ الكنائس القديمة تترك لأهل الذّمّة فيما اختطّه المسلمون فسكنوه معهم , وقال عبد الملك : لا يجوز الإحداث مطلقاً ولا يترك لهم كنيسةً .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الّذي يوجد في البلاد الّتي أحدثها المسلمون من البيع والكنائس وبيوت النّار وجهل أصله لا ينقض لاحتمال أنّها كانت قريةً أو بريّةً فاتّصل بها عمران ما أحدث منّا , بخلاف ما لو علم إحداث شيءٍ منها بعد بنائها فإنّه يلزمنا هدمه إذا بني للتّعبد , وإن بني لنزول المارّة : فإن كان لعموم النّاس جاز , وكذلك إذا كان لأهل الذّمّة فقط كما جزم به ابن الصّبّاغ .
وقال الحنابلة : الكنائس الّتي في البلاد الّتي مصّرها المسلمون وأحدثت بعد تمصير المسلمين لها تزال , وما كان موجوداً بفلاة من الأرض ثمّ مصر المسلمون حولها المصر فهذه لا تزال .
ب - المعابد القديمة فيما فتح عنوةً :
14 - ذهب المالكيّة وهو وجه عند الحنابلة وقول للشّافعيّة في مقابل الأصحّ إلى أنّ المعابد القديمة فيما فتح عنوةً لا يجب هدمه .
وذهب الشّافعيّة في الأصحّ وهو وجه عند الحنابلة إلى أنّه يجب هدمه .
وقال الحنفيّة : لا تهدم ولكن تبقى بأيديهم مساكن , ويمنعون من الاجتماع فيها للتّقرب .
ج - المعابد القديمة فيما فتح صلحاً :
15 - الأراضي المفتوحة صلحاً ثلاثة أنواعٍ :
النّوع الأوّل : أن يصالحهم الإمام على أن تكون الأرض لنا فالحكم في البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح .
النّوع الثّاني : أن يصالحهم الإمام على أن تكون الأرض لهم ويؤدوا عنها خراجاً , فهذا ممّا لا يتعرّض للمعابد القديمة فيها دون خلافٍ .
النّوع الثّالث : أن يقع الصلح مطلقاً : فذهب الشّافعيّة في مقابل الأصحّ , والحنابلة , وهو المفهوم من كلام الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا يتعرّض للقديمة وهذا لحاجتهم إليها في عبادتهم كما علّله الشّافعيّة .
وذهب الشّافعيّة في الأصحّ إلى أنّها لا تبقى , لأنّ إطلاق اللّفظ يقتضي ضرورة جميع البلد لنا .
إعادة المنهدم :
16 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة على الأصحّ وهو رواية عن أحمد إلى أنّه إذا انهدمت الكنيسة - الّتي أقرّ أهلها عليها - فللذّمّيّين إعادتها , لأنّ الأبنية لا تبقى دائماً , ولمّا أقرّهم الإمام على إبقائها قبل الظهور عليهم وصالحهم عليه فقد عهد إليهم الإعادة , ولأنّ ذلك ليس بإحداث , والمراد بالإعادة أن تكون من غير زيادةٍ على البناء الأوّل كما نصّ عليه الحنفيّة أي : لا يبنون ما كان باللّبن بالآجرّ , ولا ما كان بالآجرّ بالحجر ولا ما كان بالجريد وخشب النّخل بالنّقى والسّاج , ولا بياضاً لم يكن .
قالوا : وللإمام أن يخرّبها إذا وقف على بيعةٍ جديدةٍ , أو بني منها فوق ما كان في القديم , وكذا ما زاد في عمارتها العتيقة .
وإذا جاز لهم إعادة بنائها فإنّ لهم ذلك من غير توسيعٍ على خطّتها , كما نصّ عليه الشّافعيّة في الصّحيح من المذهب , لأنّ الزّيادة في حكم كنيسةٍ محدثةٍ متّصلةٍ بالأولى , وقيل : المراد بالإعادة الإعادة لما تهدّم منها لا بآلات جديدةٍ , والمراد بالمهدم كما ذكره ابن عابدين نقلاً عن الأشباه : ما انهدم , وليس ما هدمه الإمام , لأنّ في إعادتها بعد هدم المسلمين استخفافاً بهم وبالإسلام , وإخماداً لهم وكسراً لشوكتهم , ونصراً للكفر وأهله , ولأنّ فيه افتياتاً على الإمام فيلزم فاعله التّعزير , وبخلاف ما إذا هدموها بأنفسهم فإنّها تعاد .
وذهب الحنابلة , والإصطخري وابن أبي هريرة من الشّافعيّة إلى أنّه ليس لهم ذلك , وعلّله الحنابلة فقالوا : لأنّه كبناء كنيسةٍ في دار الإسلام .
ترميم المعابد :
17 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض المالكيّة إلى أنّه لا يمنع أهل الذّمّة من رمّ ما تشعّث من الكنائس والبيع ونحوها الّتي أقرّ أهلها عليها وإصلاحها , لأنّ المنع من ذلك يفضي إلى خرابها وذهابها , فجرى مجرى هدمها .(/2)
وزاد الشّافعيّة في وجهٍ : بأنّه يجب إخفاء العمارة لأنّ إظهارها زينة تشبه الاستحداث . والوجه الثّاني وهو الأصح أنّه لا يجب إخفاء العمارة فيجوز تطيينها من الدّاخل والخارج . والمعتمد عند المالكيّة أنّهم يمنعون من رمّ المنهدم في العنويّ - ما فتح عنوةً - وفي الصلحيّ عند بعضهم .
نقل المعبد من مكانٍ إلى آخر :
18 - اختلف الفقهاء في نقل المعبد من مكانٍ إلى مكانٍ آخر على أقوالٍ على النّحو التّالي : ذهب الحنفيّة إلى أنّه ليس لأهل الذّمّة أن يحوّلوا معابدهم من موضعٍ إلى موضعٍ آخر , لأنّ التّحويل من موضعٍ إلى موضعٍ آخر في حكم إحداث كنيسةٍ أخرى .
وقال المالكيّة : الظّاهر أنّهم لو شرطوا النّقل في العقد يجوز وإلا فلا .
وفصّل ابن القيّم الكلام عليه فقال : والّذي يتوجّه أن يقال : إن منعنا إعادة الكنيسة إذا انهدمت , منعنا نقلها بطريق الأولى , فإنّها إذا لم تعد إلى مكانها الّذي كانت عليه فكيف تنشأ في غيره ؟ وإن جوّزنا إعادتها فكان نقلها من ذلك المكان أصلح للمسلمين , لكونهم ينقلونها إلى موضعٍ خفيٍّ لا يجاوره مسلم , ونحو ذلك جائز بلا ريبٍ , فإنّ هذا مصلحة ظاهرة للإسلام والمسلمين فلا معنى للتّوقف فيه , وأمّا إن كان النّقل لمجرّد منفعتهم , وليس للمسلمين فيه منفعة فهذا لا يجوز , لأنّه إشغال رقبة أرض الإسلام بجعلها دار كفرٍ , فهو كما لو أرادوا جعلها خمّارةً أو بيت فسقٍ .
فلو انتقل الكفّار عن محلّتهم وأخلوها إلى محلّةٍ أخرى فأرادوا نقل الكنيسة إلى تلك المحلّة , وإعطاء القديمة للمسلمين فهو على هذا الحكم .
وقال المالكيّة : إذا نقل الإمام النّصارى المعاهدين من مكانهم إلى مكانٍ آخر يباح لهم في
هذه الحالة بنيان بيعةٍ واحدةٍ لإقامة شرعهم ويمنعون من ضرب النّواقيس فيها .
اعتقاد الكنيسة بيت اللّه واعتقاد زيارتها قربةً :
19 - نصّ الشّيخ تقي الدّين من الحنابلة على أنّ من اعتقد أنّ الكنائس بيوت اللّه أو أنّه يعبد فيها , أو أنّه يحب ذلك ويرضاه فهو كافر لأنّه يتضمّن اعتقاد صحّة دينهم , وذلك كفر , أو أعانهم على فتح الكنائس وإقامة دينهم , واعتقد ذلك قربةً أو طاعةً , وكذلك من اعتقد أنّ زيارة أهل الذّمّة كنائسهم قربةً إلى اللّه فهو مرتد .
الصّلاة في معابد الكفّار :
20 - نصّ جمهور الفقهاء على أنّه تكره الصّلاة في معابد الكفّار إذا دخلها مختاراً , أمّا إن دخلها مضطراً فلا كراهة .
وقال الحنابلة : تجوز الصّلاة فيها من غير كراهةٍ على الصّحيح من المذهب , وروي عن أحمد تكره , وفي روايةٍ أخرى عنه مع الصور , وقال الكاساني من الحنفيّة : لا يمنع المسلم أن يصلّي في الكنيسة من غير جماعةٍ , لأنّه ليس فيه تهاون بالمسلمين ولا استخفاف بهم .
والتّفصيل في مصطلح : ( صلاة ف 105 , دخول ف 12 ) .
النزول في الكنائس :
21 - نصّ بعض الفقهاء على أنّه يستحب للإمام أن يشترط على أهل الذّمّة في عقد الصلح منزل الضّيفان من كنيسةٍ , كما صالح عمر أهل الشّام على ذلك , فقد ورد في صلحه : ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في اللّيل والنّهار وأن نوسّع أبوابها للمارّة وابن السّبيل ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً .
دخول المسلم معابد الكفّار :
22 - اختلف الفقهاء في جواز دخول المسلم معابد الكفّار على أقوالٍ :
ذهب الحنفيّة إلى أنّه يكره للمسلم دخول البيعة والكنيسة , لأنّه مجمع الشّياطين , لا من حيث إنّه ليس له حق الدخول .
ويرى المالكيّة والحنابلة وبعض الشّافعيّة أنّ للمسلم دخول بيعةٍ وكنيسةٍ ونحوهما .
وقال بعض الشّافعيّة في رأيٍ آخر : إنّه لا يجوز للمسلم دخولها إلا بإذنهم .
والتّفصيل في مصطلح : ( دخول ف 12 ) .
الإذن في دخول الكنيسة والإعانة عليه :
23 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ للزّوج منع زوجته الذّمّيّة من دخول الكنيسة ونحوها .
ووجه ذلك عند الحنابلة : أن لا يعينها على أسباب الكفر وشعائره ولا يأذن لها فيه .
وعلّله الشّافعيّة : بأنّه إذا كان له منع المسلمة من إتيان المساجد فمنع الذّمّيّة من الكنيسة أولى .
وعند المالكيّة قولان كما ذكرهما الحطّاب : قال في المدوّنة : ليس له منعها من ذلك , وفي كتاب ابن الموّاز : له منعها من الكنيسة إلا في الفرض .
وأمّا الجارية النّصرانيّة فقد نصّ الحنابلة على أنّه إن سألت الخروج إلى أعيادهم وكنائسهم وجموعهم لا يأذن لها في ذلك .
ونصّ المالكيّة على أنّ المسلم لا يمنع مكاتبه النّصرانيّ من إتيان الكنيسة , لأنّ ذلك دينهم , إذ لا تحجير له عليه .
ونصّ الحنفيّة على أنّه لو سأل ذمّي مسلماً على طريق البيعة لا ينبغي للمسلم أن يدلّه على ذلك , لأنّه إعانة على المعصية , وأيضاً : مسلم له أم ذمّيّة أو أب ذمّي ليس له أن يقوده إلى البيعة , وله أن يقوده من البيعة إلى المنزل .
ملاعنة الذّمّيّين في المعابد :
24 - ذهب المالكيّة إلى أنّه يجب أن يكون لعان الذّمّيّة في كنيستها , واليهوديّة في بيعتها , والمجوسيّة في بيت النّار .
وقال الشّافعيّة وهو المذهب عند الحنابلة باستحباب لعان الزّوجة الكتابيّة في الكنيسة وحيث تعظّم , وإذا كان الزّوجان كتابيّين لاعن الحاكم بينهما في الكنيسة وحيث يعظّمان .
وقال القاضي من الحنابلة : يستحب التّغليظ بالمكان .
وأمّا الحنفيّة : فلا يتأتّى ذلك عندهم لأنّهم يشترطون الإسلام في اللّعان .
والتّفصيل في مصطلح : ( لعان ف 32 وما بعدها ) .
وقوع اسم البيت على المعابد :(/3)
25 - نصّ الحنفيّة والشّافعيّة على أنّه إن حلف شخص لا يدخل بيتاً فدخل كنيسةً أو بيعةً لا يحنث , وهو المفهوم من كلام المالكيّة , لعدم إطلاق اسم البيت عرفاً لأنّ البيت اسم لما يبات فيه , وأعدّ للبيتوتة وهذا المعنى معدوم في الكنيسة .
بيع عرصة كنيسةٍ :
26 - قال ابن شاسٍ من المالكيّة : لو باع أسقف الكنيسة عرصةً من الكنيسة أو حائطاً جاز ذلك إن كان البلد صلحاً , ولم يجز إن كان البلد عنوةً , لأنّها وقف بالفتح , وعلّله ابن رشدٍ فقال : لأنّه لا يجوز لهم بيع أرض العنوة , لأنّ جميعها فيء للّه على المسلمين : الكنائس وغيرها .
وأمّا أرض الصلح فاختلف قول ابن القاسم في أرض الكنيسة تكون عرصة الكنيسة أو حائطاً فيبيع ذلك أسقف أهل تلك البلدة هل للرّجل أن يتعمّد الشّراء , فأجاز شراء ذلك في سماع عيسى , ومنعه في سماع أصبغ .
بيع أرضٍ أو دارٍ لتتّخذ كنيسةً :
27 - نصّ جمهور الفقهاء على أنّه يمنع المسلم من بيع أرضٍ أو دارٍ لتتّخذ كنيسةً :
قال الحنفيّة : إن اشتروا دوراً في مصرٍ من أمصار المسلمين فأرادوا أن يتّخذوا داراً منها كنيسةً أو بيعةً أو بيت نارٍ في ذلك لصلواتهم منعوا عن ذلك .
وقال المالكيّة : يمنع أي يحرم بيع أرضٍ لتتّخذ كنيسةً وأجبر المشتري من غير فسخٍ للبيع على إخراجه من ملكه ببيع أو نحوه .
روى الخلال عن المروذيّ أنّ أبا عبد اللّه سئل عن رجلٍ باع داره من ذمّيٍّ وفيها محاريب فاستعظم ذلك وقال : نصراني ؟ ! ! لا تباع ، يضرب فيها النّاقوس وينصب فيها الصلبان ؟ وقال : لا تباع من الكافر وشدّد في ذلك .
وعن أبي الحارث أنّ أبا عبد اللّه سئل عن الرّجل يبيع داره وقد جاء نصراني فأرغبه وزاده في ثمن الدّار , ترى أن يبيع منه وهو نصراني أو يهودي أو مجوسي , قال : لا أرى له ذلك , قال : ولا أرى أن يبيع داره من كافرٍ يكفر فيها باللّه تعالى .
استئجار أهل الذّمّة داراً لاتّخاذها كنيسةً :
28 - إذا اشترى أو استأجر ذمّي داراً على أنّه سيتّخذها كنيسةً فالجمهور على أنّ الإجارة فاسدة , أمّا إذا استأجرها للسكنى ثمّ اتّخذها معبداً فالإجارة صحيحة , ولكن للمسلمين عامّةً منعه حسبةً .
والتّفصيل في : ( إجارة ف 98 ) .
جعل الذّمّي بيته كنيسةً في حياته :
29 - نصّ الحنفيّة على أنّه لو جعل ذمّي داره بيعةً أو كنيسةً أو بيت نارٍ في صحّته , فمات فهو ميراث اتّفاقاً بين الإمام وصاحبيه واختلفوا في التّخريج : فعنده لأنّه كوقف لم يسجّل , والمراد أنّه يورث كالوقف , وليس المراد أنّه إذا سجّل لزم كالوقف , وأمّا عندهما فلأنّه معصية .
عمل المسلم في الكنيسة :
30 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجوز للمسلم أن يعمل لأهل الذّمّة في الكنيسة نجّاراً أو بناءً أو غير ذلك , لأنّه إعانة على المعصية , ومن خصائص دينهم الباطل , ولأنّه إجارة تتضمّن تعظيم دينهم وشعائرهم , وزاد المالكيّة بأنّه يؤدّب المسلم إلا أنّ يعتذر بجهالة . وذهب الحنفيّة إلى أنّه لو آجر نفسه ليعمل في الكنيسة ويعمرها لا بأس به لأنّه لا معصية في عين العمل .
ضرب النّاقوس في المعابد :
31 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يمنع أهل الذّمّة من إظهار ضرب النّواقيس في معابدهم في الجملة , وأنّه لا بأس بإخفائها وضربها في جوف الكنائس , واختلفوا في التّفاصيل :
فقال الحنفيّة : لو ضربوا النّاقوس في جوف كنائسهم القديمة لم يتعرّض لذلك لأنّ إظهار الشّعائر لم يتحقّق , فإن ضربوا به خارجاً منها لم يمكّنوا لما فيه من إظهار الشّعائر , ولا يمنعون من ضرب النّاقوس في قريةٍ أو موضعٍ ليس من أمصار المسلمين , ولو كان فيه عدد كثير من أهل الإسلام , وإنّما يكره ذلك في أمصار المسلمين وهي الّتي تقام فيها الجمع والأعياد والحدود .
وكذلك الحكم في إظهار صليبهم , لو فعلوا ذلك في كنائسهم لا يتعرّض لهم .
وقال المالكيّة : يمنع أهل الذّمّة من ضرب النّواقيس فيها .
قال ابن جزيٍّ : عليهم إخفاء نواقيسهم .
وقال الشّافعيّة يمنعون من ضرب النّاقوس في الكنيسة , وقيل : لا يمنعون تبعاً لكنيسة , قال النّووي : وهذا الخلاف في كنيسة بلدٍ صالحناهم على أنّ أرضه لنا , فإن صالحناهم على أنّ الأرض لهم فلا منع قطعاً , قال : وقال إمام الحرمين : وأمّا ناقوس المجوس فلست أرى فيه ما يوجب المنع , وإنّما هو محوّط وبيوت يجمع فيها المجوس جيفهم , وليس كالبيع والكنائس فإنّها تتعلّق بالشّعار .
وذهب الحنابلة إلى أنّه يلزم أهل الذّمّة الكف عن إظهار ضرب النّواقيس , سواء شرط عليهم أو لم يشرط .
وأجازوا الضّرب الخفيف في جوف الكنائس .
الوقف على المعابد :
32 - اختلف الفقهاء في الوقف على المعابد على أقوالٍ كما يلي :
ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يصح وقف المسلم على بيعةٍ لعدم كونه قربةً في ذاته , وكذلك لا يصح وقف الذّمّيّ لعدم كونه قربةً عندنا .
قال ابن عابدين نقلاً عن الفتح : هذا إذا لم يجعل آخره للفقراء , فلو وقف الذّمّي على بيعةٍ مثلاً فإذا خربت تكون للفقراء , كان للفقراء ابتداءً , ولو لم يجعل آخره للفقراء كان ميراثاً عنه , كما نصّ عليه الخصّاف ولم يحك فيه خلافاً .
واختلف المالكيّة على ثلاثة أقوالٍ :
ففي المعتمد عندهم لا يجوز وقف الذّمّيّ على الكنيسة مطلقاً , سواء كان لعبّادها أو لمرمّتها , وسواء كان الواقف مسلماً أو كافراً .
وفصّل ابن رشدٍ فقال : إنّ وقف الكافر على الكنيسة باطل لأنّه معصية , أمّا الوقف على مرمّتها أو على الجرحى أو المرضى الّذين فيها فالوقف صحيح معمول به .(/4)
وهناك قول ثالث قال به عياض وهو : أنّ الوقف على الكنيسة مطلقاً صحيح غير لازمٍ , سواء أشهدوا على ذلك أم لا , وسواء خرج الموقوف من تحت يد الواقف أم لا .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يصح الوقف على الكنائس الّتي للتّعبد , ولو كان الوقف من ذمّيٍّ , وسواء فيه إنشاء الكنائس وترميمها , منعنا التّرميم أو لم نمنعه , لأنّه إعانة على المعصية , وكذلك لا يجوز الوقف على حصرها , أو الوقود بها أو على ذمّيٍّ خادمٍ لكنيسة للتّعبد .
ويجوز الوقف على كنيسةٍ تنزلها المارّة , أو موقوفة على قومٍ يسكنونها .
وقال الحنابلة : لا يصح الوقف على كنائس وبيوت نارٍ , وصوامع , وديورةٍ ومصالحها كقناديلها وفرشها ووقودها وسدنتها , لأنّه معونة على معصيةٍ ولو كان الوقف من ذمّيٍّ . ويصح الوقف على من ينزلها من مارٍّ ومجتازٍ بها فقط , لأنّ الوقف عليهم لا على البقعة , والصّدقة عليهم جائزة .
الوصيّة لبناء المعابد وتعميرها :
33 - اختلف الفقهاء في جواز الوصيّة لبناء الكنيسة أو تعميرها أو نحوهما على أقوالٍ كما يلي :
ذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا أوصى الذّمّي أن تبنى داره بيعةً أو كنيسةً فإذا كانت الوصيّة لمعيّنين أي : معلومين يحصى عددهم فهو جائز من الثلث اتّفاقاً بينهم , لأنّ الوصيّة فيها معنى الاستخلاف ومعنى التّمليك , وللذّمّيّ ولاية ذلك فأمكن تصحيحه على اعتبار المعنيين , ولكن لا يلزمهم جعلها كنيسةً ويجعل تمليكاً , ولهم أن يصنعوا به ما شاءوا .
وأمّا إن أوصى لقوم غير مسمّين صحّت الوصيّة عند أبي حنيفة , لأنّهم يتركون وما يدينون , فتصح لأنّ هذا قربة في اعتقادهم , ولا يصح عند الصّاحبين , لأنّه معصية , والوصيّة بالمعاصي لا تصح لما في تنفيذها من تقريرها .
وهذا الخلاف فيما إذا أوصى ببناء بيعةٍ أو كنيسةٍ في القرى , فأمّا في المصر فلا يجوز بالاتّفاق بينهم , لأنّهم لا يمكّنون من إحداث ذلك في الأمصار .
وقال المالكيّة : إن أوصى نصراني بماله لكنيسة ولا وارث له دفع الثلث إلى الأسقف يجعله حيث ذكره , والثلثان للمسلمين .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا تصح الوصيّة لكنيسة ولا لحصرها , ولا لقناديلها ونحوه , ولا لبيت نارٍ ولا لبيعة ولا صومعةٍ ولا لدير ولا لإصلاحها وشغلها وخدمتها , ولا لعمارتها ولو من ذمّيٍّ , لأنّ ذلك إعانة على معصيةٍ , ولأنّ المقصود من شرع الوصيّة تدارك ما فات في حال الحياة من الإحسان , فلا يجوز أن تكون في جهة معصيةٍ .
وقيّد الشّافعيّة عدم جواز الوصيّة بما إذا كانت الكنيسة للتّعبد فيها , بخلاف الكنيسة الّتي تنزلها المارّة أو موقوفةً على قومٍ يسكنونها , أو جعل كراءها للنّصارى أو للمسلمين جازت الوصيّة , لأنّه ليس في بنيان الكنيسة معصية إلا أن تتّخذ لمصلّى النّصارى الّذين اجتماعهم فيها على الشّرك .
قال النّووي : وعدوا من الوصيّة بالمعصية ما إذا أوصى لدهن سراج الكنيسة , لكن قيّد الشّيخ أبو حامدٍ : المنع بما إذا قصد تعظيم الكنيسة , أمّا إذا قصد تعظيم المقيمين أو المجاورين بضوئها فالوصيّة جائزة , كما لو أوصى بشيء لأهل الذّمّة .
حكم المعابد بعد انتقاض العهد :
34 - قال ابن القيّم : متى انتقض عهد أهل الذّمّة جاز أخذ كنائس الصلح منهم فضلاً عن كنائس العنوة , كما أخذ النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما كان لقريظة والنّضير لمّا نقضوا العهد , فإنّ ناقض العهد أسوأ حالاً من المحارب الأصليّ , ولذلك لو انقرض أهل مصرٍ من الأمصار ولم يبق من دخل في عهدهم فإنّه يصير جميع عقارهم ومنقولهم من المعابد وغيرها فيئاً للمسلمين .(/5)
مَعْدَن *
التّعريف :
1 - المعدن لغةً : مكان كلّ شيءٍ فيه أصله ومركزه , وموضع استخراج الجوهر من ذهبٍ ونحوه .
وفي الاصطلاح قال ابن الهمام : وأصل المعدن المكان بقيد الاستقرار فيه ثمّ اشتهر في نفس الأجزاء المستقرّة الّتي ركّبها اللّه تعالى في الأرض حتّى صار الانتقال من اللّفظ إليه ابتداءً بلا قرينةٍ .
وقال البهوتيّ : هو كل ما تولّد في الأرض من غير جنسها ليس نباتاً .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الكنز :
2 - من معاني الكنز : المال المدفون تحت الأرض وجمعه كنوز مثل فلسٍ وفلوس .
ومن معانيه الادّخار يقال : كنزت التّمر في وعائه أكنزه .
وفي الاصطلاح : هو المال الّذي دفنه بنو آدم في الأرض .
والفرق بين المعدن والكنز أنّ المعدن هو ما خلقه اللّه تعالى في الأرض والكنز هو المال المدفون بفعل النّاس .
ب - الرّكاز :
3 - الرّكاز لغةً : هو دفين أهل الجاهليّة كأنّه ركّز في الأرض من ركز يركز ركزاً : بمعنى ثبت واستقرّ , أو من ركز إذا خفي يقال ركزت الرمح إذا أخفيت أصله .
وفي الاصطلاح : هو ما وجد مدفوناً من عهد الجاهليّة وبهذا قال جمهور الفقهاء .
وأمّا الحنفيّة فقالوا : إنّ الرّكاز مال مركوز تحت أرضٍ أعم من كون راكزه الخالق أو المخلوق فيشمل عندهم المعدن والكنز , فالرّكاز اسم لهما جميعاً .
والصّلة أنّ الرّكاز مباين للمعدن عند جمهور الفقهاء وأمّا عند الحنفيّة فإنّ الرّكاز أعم من المعدن حيث يطلق عليه وعلى الكنز .
أنواع المعادن :
4 - قسّم الحنفيّة وبعض الحنابلة المعادن إلى ثلاثة أنواعٍ وذلك من ناحية جنسها فقالوا : منطبع بالنّار , ومائع , وما ليس بمنطبع ولا مائعٍ .
أ - أمّا المنطبع فكالذّهب والفضّة والحديد والرّصاص والنحاس والصفر وغيرها وهذا النّوع يقبل الطّرق والسّحب , فتعمل منه صفائح وأسلاك ونحوها .
ب - والمائع كالقير والنّفط .
ج - وما ليس بمنطبع ولا مائعٍ كالنورة والجصّ والجواهر والياقوت واللؤلؤ والفيروز والكحل , وهذا النّوع لا يقبل الطّرق والسّحب , لأنّه صلب .
وقسّم الشّافعيّة والحنابلة المعادن من ناحية استخراجها إلى قسمين :
أ - المعدن الظّاهر وهو ما خرج بلا علاجٍ وإنّما العلاج في تحصيله كنفط وكبريتٍ .
ب - والمعدن الباطني هو ما لا يخرج إلا بعلاج كذهب وفضّةٍ وحديدٍ ونحاسٍ .
الأحكام المتعلّقة بالمعادن :
ملكيّة المعادن :
5 - اختلف الفقهاء في حكم ملكيّة المعادن :
فقال الحنفيّة : إذا وجد معدن ذهبٍ أو فضّةٍ أو حديدٍ أو صفرٍ أو رصاصٍ في أرض خراجٍ أو عشرٍ أخذ منه الخمس وباقيه لواجده وكذا إذا وجد في الصّحراء الّتي ليست بعشريّة ولا خراجيّةٍ .
وأمّا المائع كالقير والنّفط وما ليس بمنطبع ولا مائعٍ كالنورة والجصّ والجواهر فلا شيء فيها وكلها لواجدها .
ولو وجد في داره معدناً فليس فيه شيء عند أبي حنيفة وقال الصّاحبان : فيه الخمس والباقي لواجده .
وإن وجده في أرضه فعن أبي حنيفة فيه روايتان : رواية الأصل : لا يجب , ورواية الجامع الصّغير : يجب .
ولو وجد مسلم معدناً في دار الحرب في أرضٍ غير مملوكةٍ لأحد فهو للواجد ولا خمس فيه , ولو وجده في ملك بعضهم فإن دخل عليهم بأمان ردّه عليهم : ولو لم يردّ وأخرجه إلى دار الإسلام يكون ملكاً له إلا أنّه لا يطيب له وسبيله التّصدق به .
وإن دخل بغير أمانٍ يكون له من غير خمسٍ .
وقالوا : ليس للإمام أن يقطع ما لا غنى للمسلمين عنه من المعادن الظّاهرة وهي ما كان جوهرها الّذي أودعه اللّه في جواهر الأرض بارزاً كمعادن الملح والكحل والقار والنّفط , فلو أقطع هذه المعادن الظّاهرة لم يكن لإقطاعها حكم , بل المقطع وغيره سواء , فلو منعهم المقطع كان بمنعه متعدّياً وكان لما أخذه مالكاً لأنّه متعدٍّ بالمنع لا بالأخذ , وكفّ عن المنع وصرف عن مداومة العمل لئلا يشتبه إقطاعه بالصّحّة أو يصير منه في حكم الأملاك المستقرّة .
وذهب المالكيّة في قولٍ إلى أنّ المعادن أمرها للإمام يتصرّف فيها بما يرى أنّه المصلحة وليست بتبع للأرض الّتي هي فيها , مملوكةً كانت أو غير مملوكةٍ , وللإمام أن يقطعها لمن يعمل فيها بوجه الاجتهاد حياة المقطع له أو مدّةً ما من الزّمان من غير أن يملك أصلها , ويأخذ منها الزّكاة على كلّ حالٍ , على ما جاء عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من أنّه : « أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبليّة وهي من ناحية الفُرع » فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزّكاة إلا أن تكون في أرض قومٍ صالحوا عليها فيكونون أحقّ بها يعاملون فيها كيف شاءوا فإن أسلموا رجع أمرها إلى الإمام هذا ما يراه ابن القاسم وروايته عن مالكٍ لأنّ الذّهب والفضّة اللّذين في المعادن الّتي هي في جوف الأرض أقدم من ملك المالكين لها فلم يجعل ذلك ملكاً لهم بملك الأرض , إذ هو ظاهر قول اللّه تعالى : { إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } , فوجب بنحو هذا الظّاهر أن يكون ما في جوف الأرض من ذهبٍ أو فضّةٍ من المعادن فيئاً لجميع المسلمين بمنزلة ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركابٍ .(/1)
وقال المالكيّة في قولٍ آخر : إنّها تبع للأرض الّتي هي فيها فإن كانت في أرضٍ حرّةٍ أو في أرض العنوة أو في الفيافي الّتي هي غير ممتلكةٍ كان أمرها إلى الإمام يقطعها لمن يعمل فيها أو يعامل النّاس على العمل فيها لجماعة المسلمين على ما يجوز له ويأخذ منها الزّكاة على كلّ حالٍ , وإن كانت في أرضٍ ممتلكةٍ فهي ملك لصاحب الأرض يعمل فيها ما يعمل ذو الملك في ملكه , وإن كانت في أرض الصلح كان أهل الصلح أحقّ بها إلا أن يسلموا فتكون لهم , هذا ما قاله سحنون ومثله لمالك في كتاب ابن الموّاز , لأنّه لمّا كان الذّهب والفضّة ثابتين في الأرض كانا لصاحب الأرض بمنزلة ما نبت فيها من الحشيش والشّجر .
وقال الشّافعيّة : المعدن الظّاهر لا يملك بالإحياء ولا يثبت فيه اختصاص بتحجر ولا إقطاعٍ , لأنّه من الأمور المشتركة بين النّاس كالماء والكلأ , ولأنّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « سأله الأبيض بن حمّالٍ أن يقطعه ملح مأرب فأراد أن يقطعه أو قال – الرّاوي - أقطعه إيّاه فقيل له : إنّه كالماء العدّ - أي العذب – قال : فلا إذن » , ولا فرق بين إقطاع التّمليك وإقطاع الإرفاق خلافاً للزّركشيّ الّذي قيّد المنع بالأوّل .
ومن أخذ من المعدن أخذ بقدر حاجته منه , فإن ضاق نيل الحاجة عن اثنين مثلاً جاءا إليه قدّم السّابق لسبقه , ويرجع في الحاجة إلى ما تقتضيه عادة أمثاله , وقيل : إن أخذ لغرض دفع فقرٍ أو مسكنةٍ مكّن من أخذ كفاية سنةٍ أو العمر الغالب فإن طلب زيادةً على حاجته فالأصح إزعاجه إن زوحم عن الزّيادة لأنّ عكوفه عليه كالتّحجر .
والثّاني يأخذ منه ما شاء لسبقه .
فلو جاءا إليه معاً ولم يكف الحاصل منه لحاجتهما وتنازعا في الابتداء أقرع بينهما في الأصحّ لعدم المزيّة ، والثّاني : يجتهد الإمام ويقدّم من يراه أحوج , والثّالث : ينصّب من يقسّم الحاصل بينهما .
والمعدن الباطن لا يملك بالحفر والعمل بقصد التّملك في الأظهر , والثّاني يملك بذلك إذا قصد التّملك .
ومن أحيا مواتاً فظهر فيه معدن باطن كذهب ملكه جزماً , لأنّه بالإحياء ملك الأرض بجميع أجزائها فإذا كان عالماً بأنّ في البقعة المحياة معدناً فاتّخذ عليه داراً ففيه طريقان :
أحدهما : أنّ الرّاجح عدم ملكه لفساد القصد وهو المعتمد .
والطّريق الثّاني : القطع بأنّه يملكه .
وإذا كان المعدن الّذي وجد فيما أحياه ظاهراً فلا يملكه بالإحياء إن علمه لظهوره من حيث إنّه لا يحتاج إلى علاجٍ , أمّا إذا لم يعلمه فإنّه يملكه وهو المعتمد .
وقال الحنابلة : إنّ المعادن الجامدة تملك بملك الأرض الّتي هي فيها , لأنّها جزء من أجزاء الأرض فهي كالتراب والأحجار الثّابتة .
فقد ورد : « أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أقطع بلال بن الحارث المزني أرض كذا من مكان كذا إلى كذا وما كان فيها من جبلٍ أو معدنٍ قال : فباع بنو بلالٍ من عمر بن عبد العزيز أرضاً فخرج فيها معدنان ، فقالوا : إنّما بعناك أرض حرثٍ ولم نبعك المعدن ، وجاءوا بكتاب القطيعة الّتي قطعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأبيهم في جريدةٍ ، قال : فجعل عمر يمسحها على عينيه وقال لقيّمه : انظر ما استخرجت منها وما أنفقت عليها فقاضهم بالنّفقة وردّ عليهم الفضل » , فعلى هذا ما يجده في ملك أو مواتٍ فهو أحق به .
وإن سبق اثنان إلى معدنٍ في مواتٍ فالسّابق أولى به ما دام يعمل فإذا تركه جاز لغيره العمل فيه , وما يجده في مملوكٍ يعرف مالكه فهو لمالك المكان .
وأما المعادن الجارية فهي مباحة على كل حال إلا أنه يكره له دخول ملك غيره إلا بإذنه وتملك بملك الأرض التي هي فيها , لأنها من نمائها وتوابعها , فكانت لمالك الأرض كفروع الشجر للملوك وثمرته .
ولأن المعادن السائلة مباحة قياسا على الماء بجامع السيولة في كل , فكما أن الماء مباح لقوله صلى الله عليه وسلم : « المسلمون شركاء في ثلاث : الكلأ , والماء , والنار » فكذلك المعادن السائلة تكون مباحة .
الواجب في المعدن :
6 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ المعدن المنطبع كالذّهب والفضّة والحديد والرّصاص والنحاس والصفر يجب فيه الخمس سواء أخرجه حر أو عبد أو ذمّي أو صبي أو امرأة وما بقي فللآخذ .
سواء وجد في أرضٍ عشريّةٍ أو خراجيّةٍ , ويجب الخمس في الزّئبق .
وأمّا المعدن المائع كالقير والنّفط وما ليس بمنطبع ولا مائعٍ كالنورة والجصّ والجواهر واليواقيت فلا شيء فيها , ولا يجب الخمس فيما وجده في داره وأرضه من المعدن عند أبي حنيفة وقال الصّاحبان يجب .
وصرّحوا بأنّ الخمس يجب في القليل والكثير ولا يشترط فيه النّصاب لأنّ النصوص خالية عن اشتراط النّصاب فلا يجوز اشتراطه بغير دليلٍ سمعيٍّ .
ولا يشترط عندهم حولان الحول لوجوب الخمس .
وقالوا إنّ ما يصاب من المعدن هو غنيمة والخمس حق الفقراء في الغنيمة .
فإن كان الّذي أصابه محتاجاً عليه دين كثير لا يصير غنياً بالأربعة الأخماس فرأى الإمام أن يسلّم ذلك الخمس له جاز , لأنّ الخمس حق الفقراء وهذا الّذي أصابه فقير فقد صرف الحقّ إلى مستحقّه فيجوز .
وقال المالكيّة : تجب في المعدن من ذهبٍ أو فضّةٍ دون غيرها الزّكاة .
قال الباجيّ : تجب الزّكاة فيه بمجرّد إخراجه , وقال البعض : تجب الزّكاة بعد تصفيته من ترابه وكان المخرج من أهل الزّكاة إن بلغ نصاباً قدر عشرين ديناراً أو مائتي درهمٍ وكان من أهل الزّكاة , من الحرّيّة والإسلام وهذا ما اقتصر عليه ابن الحاجب وقيل لا يشترط فيه حرّيّة ولا إسلام .(/2)
وضم العرق الواحد ذهباً كان أو فضّةً بعضه إلى بعضٍ إذا كان ذلك العرق متّصلاً وإن تراخى العمل بانقطاعه , سواء حصل الانقطاع اختياراً أو اضطراراً , كفساد آلةٍ ومرض العامل .
وأمّا المعادن من أماكن متفرّقةٍ فلا يضم ما خرج من واحدٍ منها بعضه إلى بعضٍ ولو في وقتٍ واحدٍ من جنسٍ واحدٍ أو من جنسين على المذهب , ولا يضم عرق آخر للّذي كان يعمل فيه أوّلاً في معدنٍ واحدٍ ويعتبر كل عرقٍ بانفراده , فإن حصل منه نصاب يزكّى , ثمّ يزكّى ما يخرج منه بعد ذلك وإن قلّ , وسواء اتّصل العمل أو انقطع , وفي ندرة العين - وهي القطعة من الذّهب أو الفضّة الخالصة الّتي لا تحتاج لتصفية - الخمس مطلقاً , وجدها حر أو عبد مسلم أو كافر , بلغت نصاباً أم لا .
وقال الشّافعيّة : أجمعت الأمّة على وجوب الزّكاة في المعدن لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : « أقطع بلال بن الحارث المزني المعادن القبليّة وأخذ منه الزّكاة » , وشرط للّذي يجب عليه أن يكون حراً مسلماً وشرط كذلك أن يكون المستخرج نصاباً من الذّهب أو الفضّة , أمّا غير الذّهب والفضّة كالحديد والرّصاص وغيرهما فلا زكاة فيه , لأنّها ليست من الأموال المزكّاة .
ومن وجد دون النّصاب لم يلزمه الزّكاة , لأنّها لا تجب فيما دون النّصاب , ولأنّه حق يتعلّق بالمستفاد من الأرض فاعتبر فيه النّصاب كالعشر , وإن وجد النّصاب في دفعاتٍ فإن لم ينقطع العمل ولا النّيل ضمّ بعضه إلى بعضٍ في إتمام النّصاب , وكذا إن قطع العمل لعذر , ويجب حق المعدن بالوجود ولا يعتبر فيه الحول في أظهر القولين لأنّ الحول يراد لكمال النّماء وبالوجود يصل إلى النّماء فلم يعتبر فيه الحول كالمعشّر .
وقال في البويطيّ لا يجب حتّى يحول عليه الحول , لأنّه زكاة مالٍ تتكرّر فيه الزّكاة فاعتبر فيه الحول كسائر الزّكوات .
وفي ما يجب من الزّكاة أقوال مشهورة , والصّحيح منها : وجوب ربع العشر , قال الماورديّ : هو نصه في الأمّ والإملاء , وقيل يجب الخمس لأنّه مال تجب الزّكاة فيه بالوجود فتقدّرت زكاته بالخمس .
والقول الثّالث : إن أصابه من غير تعبٍ وجب فيه الخمس , وإن أصابه بتعب فيجب فيه ربع العشر , لأنّه حق يتعلّق بالمستفاد من الأرض فاختلف قدره باختلاف المؤن كزكاة الزّرع . ويجب إخراج الحقّ بعد التّميز .
والمذهب عند الشّافعيّة أنّ الحقّ المأخوذ من واجد المعدن زكاة , وسواء أقلنا يجب فيه الخمس أم ربع العشر , وقيل : إن قيل بربع العشر فهو زكاة وإلا فقولان أصحهما أنّه زكاة , والثّاني : أنّه يصرف في مصارف خمس خمس الفيء .
وقال الشّافعيّة : يجب ما تقدّم من الزّكاة في المعدن سواء أخذه من مواتٍ أو من أرضٍ يملكها على التّفصيل السّابق .
وقال الحنابلة : تجب الزّكاة في المعدن الّذي يخرج من الأرض ممّا يخلق فيها من غيرها ممّا له قيمة كالذّهب والفضّة والحديد والياقوت والبلّور والكحل ونحوه , وكذلك المعادن الجارية كالقار والنّفط والكبريت ونحو ذلك , لعموم قول اللّه تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ } .
ولأنّه معدن قطعت الزّكاة بالخارج منه كالأثمان , ولأنّه مال لو غنمه وجب عليه خمسه فإذا أخرجه عن معدنٍ وجبت الزّكاة كالذّهب .
والواجب في المعدن ربع العشر , وصفته أنّه زكاة لحديث بلال بن الحارث المزني السّابق ، ولأنّه حق يحرم على أغنياء ذوي القربى فكان زكاةً كالواجب في الأثمان ونصاب الواجب هو ما يبلغ من الذّهب عشرين مثقالاً ومن الفضّة مائتي درهمٍ أو قيمة ذلك من غيرهما . ووقت وجوب الزّكاة في المعدن حين تناوله ولا يعتبر له حول ويكمّل النّصاب .
ما يجب في معادن البحر :
7 - اختلف الفقهاء فيما يجب في معادن البحر :
فذهب المالكيّة والشّافعيّة وأبو حنيفة ومحمّد من الحنفيّة وبعض الحنابلة إلى أنّه لا يجب في معادن البحر شيء لما روي عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما أنّه قال في العنبر أنّه دسره - ألقاه - البحر فلا شيء فيه , فهذا النّص صريح في أنّ العنبر لا شيء فيه , والعنبر مستخرج من البحر فكذلك غيره من معادن البحر لا شيء فيه إذ لا فرق بين معدنٍ وآخر من معادن البحر , وبه قال عطاء والثّوريّ وابن أبي ليلى والحسن بن صالحٍ وأبو ثورٍ ، ولأنّ العنبر كان يخرج على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وخلفائه فلم يأت فيه سنّة عنه ولا عنهم من وجهٍ يصح .
ولأنّ الأصل عدم وجوب شيءٍ فيه ما لم يرد به نص ولأنّه عفو قياساً على العفو من صدقة الخيل .
وذهب بعض الحنابلة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى وجوب الخمس في معادن البحر , وبه قال الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز , لما روي عن يعلى بن أميّة أنّه كتب إلى عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه يسأله عن عنبر وجد على السّاحل فكتب إليه في جوابه أنّه مال اللّه يؤتيه من يشاء وفيه الخمس .
ولأنّه نماء يتكامل عاجلاً فاقتضى أن يجب فيه الخمس كالرّكاز , ولأنّ الأموال المستفادة نوعان من برٍّ وبحرٍ , فلمّا وجبت زكاة ما استفيد من البرّ اقتضى أن تجب زكاة ما استفيد من البحر .(/3)
مَعْفوَّات *
التّعريف :
1 - المعفوّات لغةً : جمع مفرده معفوّة وهي اسم مفعولٍ من فعل عفا يعفو , ومن معاني العفو في اللغة : التّجاوز عن الذّنب وترك العقاب عليه , وأصله المحو والطّمس , يقال : عفوت عن فلانٍ أو عن ذنبه إذا صفحت عنه وأعرضت عن عقوبته وهو يعدّى بعن إلى الجاني والجناية , فإذا اجتمعا عدّي إلى الأوّل باللام فقيل عفوت لفلان عن ذنبه .
قال الأزهري : العفو صفح اللّه عن ذنوب عباده ومحوه إيّاها بتفضله .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن معناه اللغويّ .
ضبط المعفوّات من الأنجاس :
2 - الأصل أنّ كلّ مأمورٍ يشق على العباد فعله سقط الأمر به وكل منهيّ شقّ عليهم اجتنابه سقط النّهي عنه .
والمشاق ثلاثة أقسامٍ :
مشقّة في المرتبة العليا فيعفى عنها إجماعاً كما لو كانت طهارة الحدث أو الخبث تذهب النّفس أو الأعضاء .
ومشقّة في المرتبة الدنيا فلا يعفى عنها إجماعاً , كطهارة الحدث والخبث بالماء البارد في الشّتاء .
ومشقّة متردّدة بين المرتبتين , فمختلف في إلحاقها بالمرتبة العليا فتؤثّر في الإسقاط أو بالمرتبة الدنيا فلا تؤثّر , وعلى هذا الأصل يتخرّج الخلاف في العفو عن النّجاسات نظراً إلى أنّ هذه النّجاسة هل يشق اجتنابها أم لا ؟ .
وفيما يلي نذكر آراء الفقهاء في ضبط المعفوّات :
أوّلاً : مذهب الحنفيّة :
3 - بتتبع عبارات الحنفيّة في مسائل المعفوّات يتبيّن أنّ العفو عندهم يدخل على أنواع النّجاسات , وفرّقوا بين المخفّفة والمغلّظة ووضعوا لكلّ نوعٍ تقديراتٍ وضوابط .
فقد قال أبو حنيفة : ما توافقت على نجاسته الأدلّة فمغلّظ سواء اختلف فيه العلماء وكان فيه بلوى أم لا وإلا فهو مخفّف .
وقال أبو يوسف ومحمّد : ما اتّفق العلماء على نجاسته ولم يكن فيه بلوى فمغلّظ وإلا مخفّف ولا نظر للأدلّة .
4 - أمّا النّجاسة المغلّظة فقد عفي عن قدر الدّرهم منها , واختلفت الرّوايات فيه : والصّحيح أن يعتبر بالوزن في النّجاسة المتجسّدة , وهو أن يكون وزنه قدر الدّرهم الكبير المثقال , وبالمساحة في غيرها وهو قدر مقعّر الكفّ داخل مفاصل الأصابع , وقال منلا مسكين : وطريق معرفته أن تغرف باليد ثمّ تبسط فما بقي من الماء فهو مقدار الكفّ . والمراد بالعفو عن قدر الدّرهم هو العفو عن فساد الصّلاة به وإلا فكراهة التّحريم باقية بإجماع الحنفيّة إن بلغت النّجاسة المغلّظة الدّرهم , وتنزيهاً إن لم تبلغ .
وفرّعوا على ذلك ما لو علم قليل نجاسةٍ عليه وهو في الصّلاة ففي الدّرهم يجب قطع الصّلاة وغسلها ولو خاف فوت الجماعة لأنّها سنّة وغسل النّجاسة واجب وهو مقدّم , وفي الثّاني - أي في أقلّ من الدّرهم - يكون ذلك أفضل فقط ما لم يخف فوت الجماعة بأن لا يدرك جماعةً أخرى وإلا مضى على صلاته لأنّ الجماعة أقوى , كما يمضي في المسألتين إذا خاف فوت الوقت لأنّ التّفويت حرام ولا مهرب من الكراهة إلى الحرام .
قال الحمويّ : والمعتبر في ذلك وقت الإصابة فلو كان دهناً نجساً قدر الدّرهم وقت الإصابة فانبسط فصار أكثر منه لا يمنع في اختيار المرغينانيّ وغيره , ومختار غيرهم المنع , ولو صلّى قبل انبساطه جازت وبعده لا , وبه أخذ الأكثرون .
5 - وصرّح الحنفيّة بأنّه لا يعفى عن النّجاسة المغلّظة إذا زادت على الدّرهم مع القدرة على الإزالة , وعفي عن النّجاسة المخفّفة عمّا دون ربع الثّوب , لأنّ التّقدير فيها بالكثير الفاحش وللربع حكم الكلّ في الأحكام , يروى ذلك عن أبي حنيفة ومحمّدٍ وهو الصّحيح - كما قاله الزّيلعي - ثمّ اختلفوا في كيفيّة اعتبار الربع :
فقيل ربع جميع ثوبٍ عليه ، وعن أبي حنيفة ربع أدنى ثوبٍ تجوز فيه الصّلاة كالمئزر , وقيل ربع طرفٍ أصابته النّجاسة كالذّيل والكمّ , وعن أبي يوسف شبر في شبرٍ وعنه ذراع في ذراعٍ ومثله عن محمّدٍ , وروى هشام عن محمّدٍ أنّ الكثير الفاحش أن يستوعب القدمين وروي عن أبي حنيفة أنّه كره أن يحدّ لذلك حداً وقال : إنّ الفاحش يختلف باختلاف طباع النّاس فوقف الأمر فيه على العادة كما هو دأبه .
وقال الشلبي نقلاً عن زاد الفقير : والأوجه اتّكاله إلى رأي المبتلى إن استفحشه منع وإلا فلا .
وقالوا : إنّما قسّمت النّجاسات إلى غليظةٍ وخفيفةٍ باعتبار قلّة المعفوّ عنه من الغليظة وكثرة المعفوّ عنه من الخفيفة ولا فرق بينهما في كيفيّة التّطهير وإصابة الماء والمائعات لأنّه لا يختلف تنجسها بهما .
قال ابن عابدين : إنّ المائع متى أصابته نجاسة خفيفة أو غليظة وإن قلّت تنجّس ولا يعتبر فيه ربع ولا درهم , نعم تظهر الخفّة فيما إذا أصاب هذا المائع ثوباً أو بدناً فيعتبر فيه الربع .
وقال أيضاً : إن اختلطت الغليظة والخفيفة ترجّح الغليظة مطلقاً وإلا فإن تساويا أو زادت الغليظة فكذلك وإلا ترجّح الخفيفة .
ثانياً : مذهب المالكيّة :
6 - قسّم المالكيّة النّجاسات من حيث حكم إزالتها إلى أربعة أقسامٍ :
القسم الأوّل : يعفى عن قليله وكثيره ولا تجب إزالته إلا أن يتفاحش جداً فيؤمر بها .
وهذا القسم هو كل نجاسةٍ لا يمكن الاحتراز عنها , أو يمكن بمشقّة كثيرةٍ كالجرح يمصل , والدمّل يسيل , والمرأة ترضع , والأحداث تستنكح , والغازي يفتقر إلى إمساك فرسه .
قال ابن شاسٍ : وخصّ مالك هذا ببلد الحرب , وترجّح في بلد الإسلام .
القسم الثّاني : يعفى عن اليسير منه إذا رآه في الصّلاة ويؤمر بغسله قبل الدخول فيها , وقيل : لا يؤمر بذلك , وهو الدّم , وهل يلحق به في العفو قليل القيح وقليل الصّديد ؟ أو يلحقان بقليل البول ؟ في ذلك قولان .(/1)
وأمّا حد اليسير عند المالكيّة فقد قال عنه أبو بكر بن سابقٍ : لا خلاف عندنا أنّ فوق الدّرهم كثير , وأنّ ما دون الدّرهم قليل , وفي قدر الدّرهم روايتان لعليّ بن زيادٍ وابن حبيبٍ بالقلّة والكثرة .
وحكى الشّيخ أبو الطّاهر أنّ اليسير هو مقدار الخنصر وأنّ الخلاف فيما بين الدّرهم إلى الخنصر .
القسم الثّالث : يعفى عن أثره دون عينه ، وهو الأحداث على المخرجين , والدّم على السّيف الصّقيل , وفي معنى ذلك الخف يمشي به على أرواث الدّوابّ وأبوالها ، وفيه قول : إنّه يغسل كما لو مشى به على الدّم والعذرة .
القسم الرّابع : ما عدا ما ذكر , وهذا القسم يزال كثيره وقليله , وعينه وأثره .
ثالثاً : مذهب الشّافعيّة :
7 - قسّم الشّافعيّة النّجاسات المعفوّ عنها باعتبار القلّة والكثرة إلى عدّة أقسامٍ :
أحدها : ما يعفى عن قليله وكثيره وهو دم البراغيث على الأصحّ في الثّوب والبدن وكذا دم القمّل والبعوض ونحوه على ما رجّحه النّووي ونقله عن الأكثرين , لكن له شرطان :
أ - أن لا يكون بفعله فلو كان بفعله كما لو قتل فتلوّث به أو لم يلبس الثّوب بل حمله وكان كثيراً لم تصحّ صلاته لعدم الضّرورة إليه ويلتحق بالبراغيث في ذلك كلّه دم البثرات وقيحها وصديدها حتّى لو عصره وكان الخارج كثيراً لم يعف عنه ، وكذلك دم الدّماميل والقروح وموضع الفصد والحجامة منه .
ب - أن لا يتفاحش بالإهمال , فإنّ للنّاس عادةً في غسل الثّياب كلّ حينٍ فلو ترك غسل الثّوب سنةً مثلاً وهو يتراكم عليه لم يكن في محلّ العفو , قاله الإمام .
ومن المعفوّ عنه البلغم إذا كثر والماء الّذي يسيل من فم النّائم إذا ابتلي به ونحوه وكذلك الحدث الدّائم كالمستحاضة وسلس البول , وكذا أواني الفخّار المعمولة بالزّبل لا تطهر , وقد سئل الشّافعي بمصر , فقال : إذا ضاق الأمر اتّسع .
الثّاني : ما يعفى عن قليله دون كثيره , وهو دم الأجنبيّ إذا انفصل عنه ثمّ أصابه من آدميٍّ أو بهيمةٍ سوى الكلب والخنزير يعفى عن قليله في الأصحّ دون كثيره قطعاً , وكذلك طين الشّوارع المتيقّن بنجاستها يعفى عن قليله دون كثيره .
والقليل ما يتعذّر الاحتراز منه , وكذلك المتغيّر بالميتة الّتي لا نفس لها سائلةً لا يعفى عن التّغير الكثير في الأصحّ .
الثّالث : ما يعفى عن أثره دون عينه وهو أثر المخرجين في الاستنجاء بالحجر وكذلك بقاء ريح النّجاسة أو لونها إذا عسر زواله .
الرّابع : ما لا يعفى عن أثره ولا عينه ولا قليله ولا كثيره وهو ما عدا ذلك .
8 - وقسّم الشّافعيّة النّجاسات باعتبار العفو عنها إذا حلّت في الماء أو الثّوب إلى أربعة أقسامٍ :
القسم الأوّل : يعفى عنه في الماء والثّوب وذلك في عشرين صورةً : ما لا يدركه الطّرف , والميتة الّتي لا دم لها كالدود والخنفساء أصلاً أو لها دم ولكنّه لا يسيل كالوزغ , وغبار النّجاسة اليابسة , وقليل دخان النّجاسة حتّى لو أوقد نجاسةً تحت الماء , واتّصل به قليل دخانٍ لم ينجس , وقليل الشّعر , وقليل الرّيش النّجس له حكم الشّعر على ما يقتضيه كلامهم إلا أنّ أجزاء الشّعرة الواحدة ينبغي أن يكون لكلّ واحدةٍ منها حكم الشّعرة الواحدة , والهرّة إذا ولغت بعد أكلها فأرةً , وألحق المتولّي السّبع بالهرّة وخالفه الغزالي لانتفاء المشقّة لعدم الاختلاط , وما اتّصل به شيء من أفواه الصّبيان مع تحقق نجاستها , خرّجه ابن الصّلاح , وأفواه المجانين كالصّبيان , وإذا وقع في الماء طير على منفذه نجاسة يتعذّر صون الماء عنه ولا يصح التّعليل بانكماشه فإنّه صرّح في الرّوضة بأنّا لو تحقّقنا وصول الماء إلى منفذ الطّير وعليه ذرق عفي عنه , وإذا نزل الطّائر في الماء وغاص وذرق فيه عفي عنه لا سيّما إذا كان طرف الماء الّذي لا ينفك عنه , ويدل له ما ذكر في السّمك عن القاضي حسينٍ أنّه لو جعل سمكاً في حبٍّ ما ثمّ معلوم أنّه يبول فيه أنّه يعفى عنه للضّرورة , وفي تعليق البندنيجي عن الشّيخ أبي حامدٍ نجس معفو عنه لأنّ الاحتراز عنه لا يمكن , وحكى العجلي عن القاضي حسينٍ أنّ وقوع الحيوان النّجس المنفذ في الماء ينجّسه , وحكي عن غيره عدم التّنجيس مستدلاً بأنّه صلى الله عليه وسلم أمر بمقل الذباب .
وإذا شرب من الماء طائر على فيه نجاسة ولم تتخلّل غيبته فينبغي إلحاقه بالمنفذ لتعذر صونه عنه , وونيم الذباب إذا وقع في الماء لا ينجّسه لعسر صونه , ومثله بول الخفّاش إذا وقع في الماء القليل أو المائع , وغسالة النّجاسة إذا انفصلت غير متغيّرةٍ ولا زائدة الوزن فإنّها تكون طاهرةً مع أنّها لاقت نجساً .
القسم الثّاني : ما يعفى عنه في الماء دون الثّوب كالميتة الّتي لا دم لها سائل وخرء السّمك ومنفذ الطّائر .
القسم الثّالث : ما يعفى عنه في الثّوب دون الماء وهو الدّم اليسير من سائر الدّماء إلا دم الكلب والخنزير وينبغي أن يلحق به طين الشّارع المتيقّن نجاسته , فلو وقع شيء من ذلك في ماءٍ قليلٍ أو غمس يده في الماء وعليها قليل دم برغوثٍ أو قملٍ أو غمس فيه ثوباً فيه دم برغوثٍ تنجّس .
وفرّق العمرانيّ بين الثّياب والماء بوجهين :
أحدهما : أنّ الثّياب لا يمكن صونها عن النّجاسة بخلاف الأواني فإنّ صونها ممكن بالتّغطية .(/2)
والثّاني : أنّ غسل الثّياب كلّ وقتٍ يقطعها فعفي عن يسير النّجاسة الّتي يمكن وقوعها فيها بخلاف الماء ومن ذلك الثّوب الّذي فيه دم برغوثٍ يصلّي فيه ولو وضعه في ماءٍ قليلٍ ينجّسه فيحتاج الّذي يغسله أن يطهّره بعد الغسل في ذلك الماء , وكذلك ما على محلّ الاستنجاء يعفى عنه في البدن والثّوب حتّى لو سال بعرق ونحوه ووقع في الثّوب عفي عنه في الأصحّ , ولو اتّصل بالماء نجّسه .
القسم الرّابع : ما لا يعفى عنه فيهما وهو ما عدا ذلك ممّا أدركه الطّرف من سائر الأبوال والأرواث وغيرها من النّجاسات .
رابعاً : مذهب الحنابلة :
9 - الأصل عند الحنابلة أنّه لا يعفى عن يسير شيءٍ من النّجاسات سواء كان ممّا يدركه الطّرف أو لا يدركه كالّذي يعلق بأرجل الذباب والبقّ وما أشبهه , لعموم قوله تعالى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } , وقول ابن عمر رضي الله عنهما : " أمرنا أن نغسل الأنجاس سبعاً " , وغير ذلك من الأدلّة .
إلا أنّهم استثنوا عن هذا الأصل بعض النّجاسات وصرّحوا بالعفو عن يسيرها ، منها :
10 - الدّم , والصّحيح من المذهب أنّه يعفى عن يسيره في الصّلاة دون المائعات والمطعومات فإنّ الإنسان غالباً لا يسلم منه وهو قول جماعةٍ من الصّحابة والتّابعين فمن بعدهم , ولقول عائشة رضي الله عنهما : « ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه فإذا أصابه شيء من دمٍ قالت بريقها فقصعته بظفرها » , وهذا يدل على العفو عنه لأنّ الرّيق لا يطهّر ويتنجّس به ظفرها وهو إخبار عن دوام الفعل , ومثله لا يخفى عنه عليه الصّلاة والسّلام فلا يصدر إلا عن أمره , ولأنّه يشق التّحرز منه فعفي عنه كأثر الاستجمار ويعفى عنه ولو كان من غير مصلٍّ بأن أصابت المصلّي من غيره كما لو كانت منه .
وقيل : لا يعفى عن يسيره إلا إذا كان من دم نفسه , واليسير : الّذي لم ينقض الوضوء , والكثير : ما نقض الوضوء .
والدّم المعفو عنه ما كان من آدميٍّ أو حيوانٍ طاهرٍ لا الكلب ولا الخنزير .
11 - ما تولّد من الدّم من القيح والصّديد , فإنّ العفو عنهما أولى لاختلاف العلماء في نجاستهما , ولذلك قال أحمد : هو أسهل من الدّم فعلى هذا يعفى منه عن أكثر ممّا يعفى عن مثله في الدّم , لأنّ هذا لا نصّ فيه , وإنّما ثبتت نجاسته لاستحالته من الدّم , ولأحمد قول بطهارة قيحٍ ومدّةٍ وصديدٍ .
وصرّح الحنابلة بأنّه لا يعفى عن يسير دمٍ أو قيحٍ أو صديدٍ خرج من قبلٍ أو دبرٍ لأنّ حكمه حكم البول والغائط , وفي وجهٍ يعفى عن ذلك .
12 - ويعفى أثر الاستجمار بمحلّه , بعد الإنقاء واستيفاء العدد بلا خلافٍ , فعلى هذا لو تعدّى محلّه إلى الثّوب أو البدن لم يعف عنه .
13 - ويعفى عن يسير سلس بولٍ بعد كمال التّحفظ لمشقّة التّحرز عنه .
14 - ويعفى عن يسير دخان نجاسةٍ وبخارها وغبارها ما لم تظهر له صفة في الشّيء الطّاهر , لأنّه يشق التّحرز منه , وقال جماعة : ما لم يتكاثف .
15 - ويعفى عن يسير ماءٍ تنجّس بشيء معفوٍّ عن يسيره كدم وقيحٍ فإنّه يعفى عنه , قاله ابن حمدان في رعايتيه وعبارته : وعن يسير الماء النّجس بما عفي عن يسيره من دمٍ ونحوه , وأطلق المنقّح في التّنقيح القول عن ابن حمدان بالعفو عن يسير الماء النّجس ولم يقيّده بما عفي عن يسير النّجاسة .
16 - ويعفى عن ما في العين من نجاسةٍ فلا يجب غسلها للتّضرر به وكذا يعفى عن نجاسةٍ داخل أذنٍ لما في ذلك من التّضرر أيضاً وهو متّجه كما قال الرّحيبانيّ .
17 - ويعفى عن حمل كثير النّجاسة في صلاة الخوف للضّرورة .
18 - ويعفى عن يسير طين شارعٍ تحقّقت نجاسته لعسر التّحرز منه ومثله تراب , قال في الفروع : وإن هبّت ريح فأصاب شيئاً رطباً غبار نجس من طريقٍ أو غيره فهو داخل في المسألة , وصرّح الحنابلة بأنّ ما عفي عن يسيره كالدّم ونحوه عفي عن أثر كثيره على جسمٍ صقيلٍ بعد مسحٍ , لأنّ الباقي بعد المسح يسير وإن كثر محله فعفي عنه كيسير غيره . وقالوا : يضم نجس يعفى عن يسيره متفرّقٍ بثوب واحدٍ , بأن كان فيه بقع من دمٍ أو قيحٍ أو صديدٍ فإن صار بالضّمّ كثيراً لم تصحّ الصّلاة فيه وإلا عفي عنه , ولا يضم متفرّق في أكثر من ثوبٍ بل يعتبر كل ثوبٍ على حدته .
والمراد بالعفو في جميع ما تقدّم أنّ الصّلاة تصح معه مع الحكم بنجاسته حتّى لو وقع هذا اليسير في ماءٍ قليلٍ نجّسه .
أعيان المعفوّات من الأنجاس :
19 - اختلف الفقهاء في مسائل العفو عن النّجاسات تبعاً لاختلافهم في ضوابط العفو عن النّجاسات وتبعاً لاختلافهم في التّقديرات الّتي اعتبروها للتّمييز بين الكثير واليسير . ولمعرفة أعيان النّجاسات المعفوّ عنها وموقف الفقهاء تجاه كلّ واحدةٍ منها ينظر مصطلح : ( نجاسة , عفو ف 7 - 11 ) .
المعفوّات في الصّلاة :
20 - ستر العورة شرط من شروط صحّة الصّلاة فلا تصح الصّلاة إلا بسترها , وقد اتّفق الفقهاء على بطلان صلاة من كشف عورته فيها قصداً , واختلفوا فيما إذا انكشفت بلا قصدٍ وفي المقدار المعفوّ عن انكشافه .
وتفصيل ذلك في : ( مصطلح صلاة ف 120 ) .
المعفوّات في الزّكاة :
21 - اختلف الفقهاء في زكاة أوقاص السّائمة وتفصيل ذلك في : ( مصطلح أوقاص ف 7 - 9 ) .
وأمّا سائر الأموال الزّكويّة كالنّقدين فلا يجري العفو فيها عند الجمهور فتجب فيها الزّكاة فيما زاد على النّصاب بحسابه .
وقال أبو حنيفة : ما زاد على النّصاب عفو إلى أن يبلغ خمس نصابٍ ثمّ كل ما زاد على الخمس عفو إلى أن يبلغ خمساً آخر .
والتّفصيل في : ( زكاة ف 72 , وعفو ف 12 ) .(/3)
مَفْصِل *
التّعريف :
1 - المَفْصِل على وزن مسجدٍ , وهو في اللغة : ملتقى العظمات من الجسد .
وفي الاصطلاح : هو موضع اتّصال عضوٍ بآخر على مقطع عظمين برباطات واصلةٍ بينهما , إمّا مع دخول أحدهما في الآخر كالركبة , أو لا كالكوع .
الأحكام المتعلّقة بالمفصل :
تتعلّق بالمفصل أحكام منها :
أ - في الغسل والوضوء :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّه يسن في الوضوء والغسل غسل اليدين إلى الرسغين ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء , قال الحصكفي من الحنفيّة : الرسغ هو مفصل الكفّ بين الكوع والكرسوع .
والتّفصيل في مصطلح : ( غسل ف 30 , وضوء ) .
ب - في القصاص :
3 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من شروط كون الجناية على ما دون النّفس موجبةً للقصاص , إمكان الاستيفاء من غير حيفٍ .
وقالوا : إنّ هذا إنّما يتحقّق في الجناية الّتي تبين العضو عمداً , بأن يكون القطع من مفصلٍ فإن كان من غير مفصلٍ فلا قصاص فيه من موضع القطع بغير خلافٍ .
والتّفصيل في مصطلح : ( جناية على كلٍّ دون النّفس ف 11 ) .
ج - في الدّيات :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّ في قطع كلّ أنملةٍ من كلّ أصبعٍ من اليدين والرّجلين ثلث عشر الدّية , لأنّ فيها ثلاثة مفاصل , إلا الإبهام ففيها أنملتان , ففي كلّ مفصلٍ منها نصف عشر الدّية .
والتّفصيل في مصطلح : ( ديات ف 53 ) .
د - في السّرقة :
5 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ موضع قطع اليد في السّرقة - بعد تحقق شروط القطع - يكون من الكوع , وهو مفصل الكفّ .
وموضع قطع الرّجل هو مفصل الكعب من السّاق .
والتّفصيل في مصطلح : ( سرقة ف 66 ) .(/1)
مَقام إبراهيم *
التّعريف :
1 - المَقام بفتح الميم : اسم مكانٍ , من قام يقوم قوماً وقياماً أي انتصب , وقد اختلف الفقهاء والمفسّرون في مقام إبراهيم , فقال بعضهم : إنّه الحجر الّذي تعرفه النّاس اليوم الّذي يصلون عنده ركعتي الطّواف .
وقال غيرهم : إنّه الحجر الّذي ارتفع عليه إبراهيم عليه السّلام حين ضعف عن رفع الحجارة الّتي كان إسماعيل يناولها إيّاه في بناء البيت وغرقت قدماه فيه .
وقال السدّي : المقام : الحجر الّذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم عليه السّلام حين غسلت رأسه , وبه قال الحسن وقتادة والرّبيع بن أنسٍ .
وقال القرطبي : والصّحيح في تعيين المقام القول الأوّل .
الأحكام المتعلّقة بمقام إبراهيم :
2 - قال الحنفيّة : إذا فرغ الطّائف من الطّواف يأتي مقام إبراهيم عليه السّلام ويصلّي ركعتين , وإن لم يقدر على الصّلاة في المقام بسبب المزاحمة يصلّي حيث لا يعسر عليه من المسجد , وإن صلّى في غير المسجد جاز .
وهاتان الرّكعتان واجبتان عندنا , يقرأ في الأولى : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وفي الثّانية : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } , ولا تجزيه المكتوبة عن ركعتي الطّواف .
ويستحب أن يدعو بعد صلاته خلف المقام بما يحتاج إليه من أمور الدنيا والآخرة , ويصلّي ركعتي الطّواف في وقتٍ يباح له أداء التّطوع فيه .
وقال المالكيّة : إنّ ركعتي الطّواف واجبتان , سواء كان الطّواف واجباً أو نفلاً , وقيل : إنّهما واجبتان في الطّواف الواجب , وسنّتان في الطّواف غير الواجب .
ويندب إيقاعهما بمقام إبراهيم أي خلفه لا داخله وفي غيره من الأماكن في المسجد , إلا أنّه يستحب أن تكون ركعتا الطّواف الواجب خلف المقام اقتداءً بالنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم . وإن ترك حاج أو معتمر الرّكعتين أعاد الطّواف , ثمّ أتى بهما عقب الطّواف , وفي المدوّنة عن ابن القاسم : يركعهما ولا يعيد الطّواف ولا شيء عليه , ولو أعاد كان أحبّ .
فإن فات ذلك بالبعد عن مكّة ركعهما وأهدى , وإن فاته ذلك أتى بهما على كلّ حالٍ , لأنّهم لا يتعلّقان بوقت مخصوصٍ , وكان عليه الهدي لنقص التّفريق بين الطّواف والرّكعتين الواجبتين .
وقال الشّافعيّة : ويسن أن يصلّي ركعتي الطّواف - بعد الطّواف - وتجزئ عنهما الفريضة والرّاتبة كما في تحيّة المسجد , وفعلهما خلف مقام إبراهيم عليه السّلام أفضل , لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم صلاهما خلف المقام , وقال : « خذوا عنّي مناسككم » , ثمّ في الحجر , ثمّ في المسجد الحرام , ثمّ في الحرم حيث شاء من الأمكنة , متى شاء من الأزمنة , ولا يفوتان إلا بموته .
ويسن أن يقرأ في الأولى منهما سورة { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وفي الثّانية سورة الإخلاص ، لفعله صلّى اللّه عليه وسلّم , ولما في قراءتهما من الإخلاص المناسب لما هاهنا , لأنّ المشركين كانوا يعبدون الأصنام فيه .
ويجهر بالقراءة فيهما ليلاً قياساً على الكسوف وغيره , ولما فيه من إظهار شعار النسك . وفي قولٍ عند الشّافعيّة : أنّ ركعتي الطّواف واجبتان لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم صلاهما , وقال : « خذوا عنّي مناسككم » وعلى القول بوجوبهما يصح الطّواف بدونهما , إذ ليسا بشرط ولا ركنٍ للطّواف .
وقال الحنابلة : يصلّي الطّائف بعد تمام الطّواف ركعتين , والأفضل كونهما خلف مقام إبراهيم , لقول جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما في صفة حجّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : « حتّى إذا أتينا البيت معه استلم الركن , فرمل ثلاثاً , ومشى أربعاً , ثمّ نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السّلام فقرأ : { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً } فجعل المقام بينه وبين البيت » .
وقالوا : حيث ركعهما من المسجد أو غيره جاز , لعموم حديث : « جعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً » , وصلاهما عمر رضي اللّه عنه بذي طوىً .
ولا شيء عليه لترك صلاتهما خلف المقام .
وهما سنّة مؤكّدة يقرأ فيهما بعد الفاتحة { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } لحديث جابرٍ رضي اللّه عنه أنّه قرأ في الرّكعتين : « قل يا أيها الكافرون , وقل هو اللّه أحد » .
ولا بأس أن يصلّيهما إلى غير سترةٍ , ويمر بين يديه الطّائفون من الرّجال والنّساء , فإنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم صلاهما والطوّاف بين يديه ليس بينه وبين الكعبة سترة , ويكفي عنهما مكتوبة وسنّة راتبة .
وللطّائف جمع أسابيع من الطّواف , فإذا أفرغ منها ركع لكلّ أسبوعٍ ركعتين , والأولى أن يصلّي لكلّ أسبوعٍ عقبه .
ولا يشرع تقبيل المقام ولا مسحه لعدم وروده .(/1)
مَقْبَرة *
التّعريف :
1 - المقبرة في اللغة : - بتثليث الباء - أو بضمّ الباء وفتحها لا غير موضع القبور , والقبور جمع قبرٍ , وهو المكان الّذي يدفن فيه الميّت .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
ما يتعلّق بالمقبرة من أحكامٍ :
الصّلاة في المقبرة :
2 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه تكره الصّلاة في المقبرة , وبه قال الثّوري والأوزاعي , لأنّها مظان النّجاسة , ولأنّه تشبه باليهود , إلا إذا كان في المقبرة موضع أعدّ للصّلاة ولا قبر ولا نجاسة فلا بأس .
وقال المالكيّة : تجوز الصّلاة بمقبرة عامرةٍ كانت أو دارسةٍ , منبوشةٍ أم لا , لمسلم كانت أو لمشرك .
وفصّل الشّافعيّة الكلام فقالوا : لا تصح الصّلاة في المقبرة الّتي تحقّق نبشها بلا خلافٍ في المذهب , لأنّه قد اختلط بالأرض صديد الموتى , هذا إذا لم يبسط تحته شيء , وإن بسط تحته شيء تكره .
وأمّا إن تحقّق عدم نبشها صحّت الصّلاة بلا خلافٍ لأنّ الجزء الّذي باشره بالصّلاة طاهر , ولكنّها مكروهة كراهة تنزيهٍ لأنّها مدفن النّجاسة .
وأمّا إن شكّ في نبشها فقولان : أصحهما : تصح الصّلاة مع الكراهة , لأنّ الأصل طهارة الأرض فلا يحكم بنجاستها بالشّكّ , وفي مقابل الأصحّ : لا تصح الصّلاة لأنّ الأصل بقاء الفرض في ذمّته , وهو يشك في إسقاطه , والفرض لا يسقط بالشّكّ .
وقال الحنابلة : لا تصح الصّلاة في المقبرة قديمةً كانت أو حديثةً , تكرّر نبشها أو لا , ولا يمنع من الصّلاة قبر ولا قبران , لأنّه لا يتناولها اسم المقبرة وإنّما المقبرة ثلاثة قبورٍ فصاعداً .
وروي عنهم أنّ كلّ ما دخل في اسم المقبرة ممّا حول القبور لا يصلّى فيه .
ونصوا على أنّه لا يمنع من الصّلاة ما دفن بداره ولو زاد على ثلاثة قبورٍ , لأنّه ليس بمقبرة .
الصّلاة على الجنازة في المقبرة :
3 - اختلف الفقهاء في حكم الصّلاة على الجنازة في المقبرة :
فذهب الحنفيّة وهو رواية عن أحمد إلى أنّه لا بأس بها , وفعل ذلك ابن عمر رضي اللّه عنهما ونافع وعمر بن عبد العزيز .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة في قولٍ آخر إلى أنّه يكره ذلك , قال النّووي وبه قال جمهور العلماء .
والتّفصيل في مصطلح : ( جنائز ف 39 ) .
القراءة في المقابر :
4 - ذهب جمهور الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا تكره قراءة القرآن في المقابر بل تستحب .
ونصّ بعض الحنفيّة على أنّه لا تكره قراءة القرآن في المقابر إذا أخفى ولم يجهر وإن ختم , وإنّما تكره قراءة القرآن فيها جهراً .
وذهب جمهور المالكيّة إلى الكراهة مطلقاً , وقيّدها بعضهم بما إذا كانت بالأصوات المرتفعة واتّخاذ ذلك عادةً .
والتّفصيل في مصطلح : ( قراءة ف 17 , قبر ف 22 ) .
المشي في المقبرة :
5 - اختلف الفقهاء في حكم المشي في المقابر على أقوالٍ :
ذهب جمهور الحنفيّة والمالكيّة وهو المشهور عند الشّافعيّة إلى أنّه لا يكره المشي في المقابر بنعلين , وزاد الشّافعيّة : أنّه يحرم المشي إن حصل به تنجيس كمنبوشة مع المشي حافياً مع رطوبة أحد الجانبين .
وذهب الحنابلة وهو قول بعض الشّافعيّة إلى أنّه يكره المشي بين المقبرة بنعل , لأنّ خلع النّعلين أقرب إلى الخشوع وزي أهل التّواضع .
والتّفصيل في مصطلح : ( مشي ف 12 , وقبر ف 2 وما بعدها ) .
المشاحّة في المقبرة :
6 - نصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّه لو سبق اثنان إلى مقبرةٍ مسبّلةٍ وتشاحّا في مكانٍ قدّم للدّفن فيه الأسبق عند التّزاحم وضيق المحلّ , فإن استويا في السّبق قدّم بالقرعة كما لو تنازعا في رحاب المسجد , ومقاعد الأسواق , لأنّ القرعة لتمييز ما أبهم .
المبيت في المقبرة والنّوم فيها :
7 - نصّ الشّافعيّة على أنّه يكره المبيت في المقبرة من غير ضرورةٍ , لما فيها من الوحشة , فإن لم تكن وحشةً كأن كانوا جماعةً , أو كانت المقبرة مسكونةً فلا كراهة .
وقال الحنفيّة : يكره النّوم عند القبر .
درس المقبرة والاستفادة منها ونبشها :
8 - قال الحنفيّة : لو بلي الميّت وصار تراباً دفن غيره في قبره , ويجوز زرعه , والبناء عليه .
وروي عن مالكٍ : بأنّه سئل عن فناء قومٍ كانوا يرمون فيه , ثمّ إنّهم غابوا عن ذلك , فاتخذ مقبرةً , ثمّ جاءوا فقالوا : نريد أن نسوّي هذه المقابر , ونرمي على حال ما كنّا نرمي , فقال مالك : أمّا ما قدم منها فأرى ذلك لهم , وأمّا كل شيءٍ جديدٍ فلا أحب لهم درس ذلك . وقال الصّاوي : قال بعض العلماء لا يجوز أخذ أحجار المقابر العافية لبناء قنطرةٍ أو دارٍ , ولا حرثها للزّراعة , لكن لو حرثت جعل كراؤها في مؤن دفن الفقراء .
وقال الحنابلة : إذا صار الميّت رميماً جازت الزّراعة والحراثة وغير ذلك , كالبناء في موضع الدّفن , وإن لم يصر رميماً فلا يجوز .
هذا إذا لم يخالف شرط الواقف , فإن خالف كتعيينه الأرض للدّفن فلا يجوز حرثها ولا غرسها .
وأمّا نبش المقبرة فتفصيله في : ( قبر ف 21 ) .
قطع النّبات والحشيش من المقبرة :
9 - نصّ الحنفيّة على أنّه يكره قطع النّبات الرّطب والحشيش من المقبرة , فإن كان يابساً لا بأس به , لأنّه يسبّح اللّه تعالى ما دام رطباً , فيؤنس الميّت وتنزل بذكره الرّحمة , ولأنّه صلّى اللّه عليه وسلّم وضع الجريدة الخضراء بعد شقّها نصفين على القبرين اللّذين يعذّبان , وتعليله صلّى اللّه عليه وسلّم بالتّخفيف عنهما ما لم ييبسا أي : يخفّف عنها ببركة تسبيحهما , لأنّ تسبيح الرّطب أكمل من تسبيح اليابس لما في الأخضر من نوع حياةٍ .
قال ابن عابدين : وعليه فكراهة قلع ذلك وإن نبت بنفسه ولم يملك , لأنّ فيه تفويت حقّ الميّت .
ملكيّة أشجار المقبرة :(/1)
10 - نصّ الحنفيّة على أنّ الشّجرة إن كانت نابتةً في الأرض قبل أن يجعلها مقبرةً فمالك الأرض أحق بها يصنع بها ما شاء .
وأمّا إن كانت الأرض مواتاً فجعلها أهل تلك القرية أو المحلّة مقبرةً , فإنّ الشّجرة وموضعها من الأرض على ما كان حكمها في القديم .
وإن نبتت الشّجرة بعدما جعلت مقبرةً وكان الغارس معلوماً كانت له وينبغي أن يتصدّق بثمرها , وإن لم يعلم الغارس أو كانت الشّجرة نبتت بنفسها فحكمها يكون للقاضي : إن رأى قلعها وبيعها وإنفاقها على المقبرة جاز له ذلك , وهي في الحكم كأنّها وقف .
وسئل نجم الدّين في مقبرةٍ فيها أشجار هل يجوز صرفها إلى عمارة المسجد , قال : نعم إن لم تكن وقفاً على وجهٍ آخر , قيل له : فإن تداعت حيطان المقبرة إلى الخراب هل يصرف إليها أو إلى المسجد ؟ قال إلى ما هي وقف عليه إن عرف .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إن نبتت شجرة في المقبرة فالمختار جواز الأكل للنّاس من ثمرها كما قال النّووي .
وقال الحنّاطي : الأولى عندي أن تصرف في مصالح المقبرة .
ذكر حدود المقبرة وذكرها حداً :
11 - نصّ الحنفيّة على أنّ المقبرة تصلح حداً لو كانت ربوةً وإلا فلا .
وأمّا من اشترى قريةً خالصةً واستثنى المقبرة فهل يشترط ذكر حدود المقبرة المستثناة أم لا ؟ اختلف مشائخ الحنفيّة على أقوالٍ :
فذهب الجمهور إلى أنّه لا بدّ من تحديد المقبرة المستثناة بحيث يقع به الامتياز .
وقال المرغيناني : إذا كانت المقبرة تلاً لا يحتاج إلى ذكر حدودها , وإن لم تكن تلاً يحتاج إليه .
وقال أبو شجاعٍ : لا يشترط ذكر الحدود للمقبرة قال : ونفتي بهذا تسهيلاً للأمر على المسلمين .
توسيع المقبرة :
12 - نصّ المالكيّة على أنّه يجوز بيع العقار الحبس ولو كانت غير خربةٍ لتوسيع المسجد والطّريق والمقبرة , وكذلك يجوز توسيع هذه الثّلاثة ببعض منها عند الضّرورة , لأنّ ما كان للّه لا بأس أن يستعان ببعضه في بعضٍ .
وذكر بعضهم أنّ المسجد لا يهدم لضيق مقبرةٍ أو طريقٍ ويدفن فيه إن أحتيج لذلك مع بقائه على حاله .
وقف المقبرة :
13 - ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا جعل شخص أرضه مقبرةً فلكلّ أحدٍ أن يدفن فيها , سواء الواقف أو غيره , ولا فرق في الانتفاع بين الغنيّ والفقير حتّى جاز للكلّ الدّفن فيها .
وأمّا لو شرط في وقف المقبرة اختصاصها بطائفة اقتصر عليهم في الأصحّ عند الشّافعيّة , ويمنع غيرهم من الدّفن فيها رعايةً لغرض الواقف , وإن كان ذلك الشّرط مكروهاً .
وفي مقابل الأصحّ لا تختص بهم ويلغو الشّرط , وهناك قول ثالث وهو أنّه : يفسد الوقف لفساد الشّرط .
وذهب المالكيّة إلى أنّه يجب الوفاء بشرط الواقف في الوقف مطلقاً إن جاز الشّرط . والتّفصيل في مصطلح : ( وقف ) .
قضاء الحاجة في المقبرة :
14 - اختلف الفقهاء في حكم قضاء الحاجة في المقابر :
فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يحرم قضاء الحاجة في المقابر , وقال الحنفيّة بكراهة قضاء الحاجة فيها .
قال ابن عابدين : والظّاهر أنّها تحريميّة .
والتّفصيل في مصطلح : ( قضاء الحاجة ف 24 ) .(/2)
مَكان *
التّعريف :
1 - المكان في اللغة : الموضع , وما يعتمد عليه كالأرض للسّرير , والجمع أمكنة , وأماكن جمع الجمع .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الأحكام المتعلّقة بالمكان :
تتعلّق بالمكان أحكام فقهيّة منها :
الأماكن الّتي نهي عن الصّلاة فيها :
2 - اختلف الفقهاء في صحّة الصّلاة في المجزرة والمقبرة والحمّام ونحوها :
فقال جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة في روايةٍ إنّ الصّلاة تصح مع الكراهة في الحمّام والمزبلة والمجزرة ومعاطن الإبل وقارعة الطّريق والمقبرة وفوق ظهر بيت اللّه والمغتسل والكنائس والموضع المغصوب , وبه قال علي وابن عبّاسٍ وابن عمر رضي اللّه عنهم وعطاء والنّخعيّ وابن المنذر لقول الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم : « جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً » .
وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « أينما أدركتك الصّلاة فصلّ فهو مسجد » , ولأنّه موضع طاهر فصحّت الصّلاة فيه كالصّحراء , وقال ابن المنذر : ذكر نافع أنّه صلّى على عائشة وأمّ سلمة وسط قبور البقيع , ومحل كراهة الصّلاة في هذه الأماكن عند الشّافعيّة إن بسط طاهراً وصلّى عليه وإلا فصلاته باطلة لأنّه صلّى على نجاسةٍ .
وقال المالكيّة : تجوز الصّلاة في مربض الغنم والبقر وكذا في المقبرة والحمّام والمزبلة وقارعة الطّريق والمجزرة إن أمنت النّجاسة وإن لم تؤمن النّجاسة وصلّى أعاد الصّلاة في الوقت , وإن تحقّقت النّجاسة أعاد الصّلاة أبداً .
وتكره الصّلاة بمعاطن الإبل وبالكنائس .
وقال الحنابلة في المعتمد إنّ الصّلاة في هذه المواضع لا تصح بأيّ حالٍ من الأحوال لما روى جابر بن سمرة رضي اللّه عنه : « أنّ رجلاً سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنصلّي في مبارك الإبل ؟ قال : لا » .
ولقول الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم : « الأرض كلها مسجد إلا الحمّام والمقبرة » .
وقال بعض الحنابلة : إن كان المصلّي عالماً بالنّهي في هذه المواضع لم تصحّ صلاته فيها , لأنّه عاصٍ بصلاته فيها والمعصية لا تكون قربةً ولا طاعةً , وإن لم يكن عالماً فعن أحمد روايتان :
إحداهما : لا تصح لأنّه صلّى فيما لا تصح فيه مع العلم فلا تصح مع الجهل كالصّلاة في محلٍّ نجسٍ .
والثّانية : تصح الصّلاة فيه لأنّه معذور .
قال البهوتي : المنع من الصّلاة في هذه المواضع تعبد ليس معلّلاً بوهم النّجاسة ولا غيره لنهي الشّارع عنها ولم يعقل معناه .
وانظر مصطلح : ( حمّام ف 14 , صلاة ف 105 ) .
مكان وضع اليدين في الصّلاة :
3 - ذهب جمهور الفقهاء الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ من سنن الصّلاة القبض وهو وضع اليد اليمنى على اليسرى وخالفهم في ذلك المالكيّة فقالوا : يندب الإرسال ويكره القبض في صلاة الفرض وجوّزوه في النّفل وهذا في الجملة .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( إرسال ف 4 ) .
ومكان وضع اليدين بهذه الكيفيّة هو تحت الصّدر وفوق السرّة , وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة ورواية عند الحنابلة , وهو قول سعيد بن جبيرٍ لما روى وائل بن حجرٍ قال : « صلّيت مع رسول اللّه , ووضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره » .
وعند الحنفيّة وفي الرّواية الأخرى عند الحنابلة أنّه يضع يديه تحت سرّته وروي ذلك عن عليٍّ وأبي هريرة وأبي مجلزٍ والنّخعيّ والثّوريّ وإسحاق لما روي عن عليٍّ أنّه قال : « من السنّة وضع الكفّ على الكفّ في الصّلاة تحت السرّة » .
وأمّا المرأة فقد قال الحنفيّة تضع يديها على ثدييها .
مكان دفن الميّت :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّ المقبرة أفضل مكانٍ للدّفن وذلك للاتّباع ولنيل دعاء الطّارقين , ويكره دفنه في المسجد الّذي بني للصّلاة فيه .
على تفصيلٍ ينظر في مصطلح : ( دفن ف 3 وما بعدها ) .
مكان تسليم المبيع :
5 - مطلق عقد البيع يقتضي تسليم المبيع في المكان الّذي هو موجود فيه حينئذٍ , فمثلاً لو باع رجل وهو في إسلامبول حنطته الّتي في دمشق يلزم عليه تسليم الحنطة المرقومة في دمشق وليس عليه أن يسلّمها في إسلامبول , أي لا يشترط في عقد البيع بيان المكان الّذي يسلّم فيه المبيع فعقد البيع المطلق الّذي لا يبيّن فيه مكان تسليم المبيع يسلّم فيه المبيع إلى المشتري في المكان الّذي كان فيه المبيع حين العقد لا في مكان عقد البيع حتّى إذا نقل البائع المبيع بلا إذن المشتري من المحلّ الّذي كان فيه حين العقد إلى مكانٍ آخر وجب عليه إعادته إلى حيث كان .
أمّا ثمن المبيع فإن كان محتاجاً إلى الحمل والمئونة فيجب بيان مكان تسليمه في بيان العقد .
ويعتبر في تسليم المبيع مكان البيع فإذا لم يبيّن البائع مكان المبيع ولم يكن المشتري يعلم وكان ظاهراً أنّه لم يكن في مكان العقد ثمّ اطّلع المشتري على مكانه فالبيع صحيح إلا أنّ المشتري يكون مخيّراً خيار كشف الحال فله فسخ البيع وترك المبيع وله قبضه من حيث كان حين العقد بكلّ الثّمن المسمّى .
وإذا بيع مال على أن يسلّم في مكان كذا لزم تسليمه في المكان المذكور , مثل ذلك أن يبيع شخص حنطةً من مزرعةٍ له على أن يسلّمها إلى المشتري في داره فيجب عليه تسليمها إلى المشتري في داره وكذلك إذا شرط تسليم المبيع الّذي يحتاج إلى مئونةٍ في نقله إلى محلٍّ معيّنٍ فيجب تسليمه هناك وإن كان يصح البيع بشرط تسليم المبيع في محلٍّ معيّنٍ .
إعارة الدّابّة إلى مكانٍ معيّنٍ :(/1)
6 - يرى جمهور الفقهاء أنّ من استعار حصاناً من آخر إلى مكانٍ معيّنٍ ليركبه فركب إلى مكانٍ معيّنٍ وتجاوز إلى مكانٍ آخر بعيدٍ ثمّ رجع فقال إنّ الحصان قد هلك في مكانٍ آخر يضمن لأنّ عارية الحصان مقيّد بزمان ومكانٍ وتجاوز المكان المعيّن فيضمن قيمة الحصان لصاحبه .
ومن استعار من آخر دابّةً ليركبها إلى مكانٍ معيّنٍ ومعلومٍ فركبها وقبل وصوله إلى المكان صادفه متغلّب وأخذها منه بالقهر والغلبة ولم يمكنه منعه بوجه وخاف من ضرره لا يضمن , لأنّ العارية عند بعض الفقهاء أمانة والمستعير أمين والأمين إنّما يضمن بترك الحفظ إذا ترك بغير عذرٍ .
فضل الأمكنة :
7 - اتّفق الفقهاء على فضل بعض الأمكنة على بعضٍ .
فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة هما أفضل بقاع الأرض .
ثمّ اختلفوا : فقال الحنفيّة والحنابلة وبعض الشّافعيّة وبعض المالكيّة إنّ مكّة المكرّمة أفضل من المدينة المنوّرة .
وقال المالكيّة في المعتمد وبعض الشّافعيّة إنّ المدينة المنوّرة أفضل من مكّة المكرّمة . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( فضائل ف 7 - 9 )(/2)
مَكّة المكرّمة *
التّعريف :
1 - مكّة : علم على البلد المعروف الّذي فيه بيت اللّه الحرام .
واختلف في سبب تسميتها مكّة بالميم فقيل : لأنّها تمك الجبّارين أي تذهب نخوتهم , وقيل : لأنّها تمك الفاجر عنها أي تخرجه , وقيل : كأنّها تجهد أهلها من قوله تمكّكت العظم إذا أخرجت مخّه , وقيل : لأنّها تجذب النّاس إليها من قوله : امتكّ الفصيل ما في ضرع أمّه إذا لم يبق فيه شيئاً , وقيل لقلّة مائها .
ولها أسماء كثيرة منها : بكّة , وأم القرى , والبلد الأمين , وأسماء أخرى .
ومكّة كلها حرم وكذلك ما حولها , وقد بيّن الفقهاء حدود حرم مكّة وسبب تحريمه , وما يتعلّق به من الأحكام .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( حرم ف 1 - 3 ) .
الأحكام المتعلّقة بمكّة :
تتعلّق بمكّة أحكام منها :
وجوب تعظيم مكّة :
2 - يجب تعظيم مكّة , لقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : « إنّ مكّة حرّمها اللّه ولم يحرّمها النّاس , فلا يحل لامرئ يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضّد بها شجرةً , فإن أحد ترخّص لقتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقولوا له : إنّ اللّه أذن لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يأذن لكم , وإنّما أذن لي ساعةً من نهارٍ , وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس , وليبلّغ الشّاهد الغائب » .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( حرم ف 2 ) .
الغسل لدخول مكّة :
3 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يستحب الغسل لدخول مكّة لفعل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم , فعن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما : « أنّه كان لا يقدم مكّة إلا بات بذي طوىً حتّى يصبح ويغتسل ثمّ يدخل مكّة نهاراً ويذكر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه فعله ». وصرّح الشّافعيّة بأنّه يسن الغسل لدخول مكّة ولو حلالاً للاتّباع رواه الشّيخان في المحرم والشّافعي في الحلال .
الإحرام لدخول مكّة :
4 - ذهب الفقهاء إلى أنّ من أراد دخول مكّة للحجّ أو العمرة فعليه أن يحرم من المواقيت أو من قبلها .
أمّا إذا أراد دخول مكّة لغير الحجّ أو العمرة فقد اختلف الفقهاء في حكم إحرامه .
والتّفصيل في : ( حرم ف 4 - 6 ) .
المجاورة بمكّة :
5 - اختلف الفقهاء في حكم المجاورة بمكّة , فذهب جمهورهم إلى استحباب المجاورة بمكّة وذهب غيرهم إلى كراهة المجاورة بها .
والتّفصيل في مصطلح : ( حرم ف 22 ) .
دخول الكفّار مكّة :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز لغير المسلم السكنى والإقامة في مكّة لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } . واختلفوا في اجتياز الكافر مكّة بصفة مؤقّتةٍ فذهب بعضهم إلى منعه مطلقاً وأجازه آخرون . والتّفصيل في مصطلح : ( حرم ف 3 ) .
بيع دور مكّة وكراؤها :
7 - اختلف الفقهاء في حكم بيع رباع مكّة وكرائها :
فذهب بعضهم إلى أنّه لا يجوز ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : « مكّة حرام , حرّمها اللّه ولا تحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها » .
وذهب غيرهم إلى جواز بيع دور مكّة وإجارتها لأنّها على ملك أربابها .
والتّفصيل في مصطلح : ( حرم ف 17 , ورباع ف 5 ) .
تضاعف السّيّئات بمكّة :
8 - ذهب جماعة من العلماء إلى أنّ السّيّئات تضاعف بمكّة كما تضاعف الحسنات , وممّن قال ذلك ابن عبّاسٍ وابن مسعودٍ وأحمد بن حنبلٍ ومجاهد رضي اللّه عنهم , وغيرهم , لتعظيم البلد .
وسئل ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما عن مقامه بغير مكّة فقال : ما لي ولبلد تضاعف فيه السّيّئات كما تضاعف الحسنات .
فحمل ذلك منه على مضاعفة السّيّئات بالحرم , ثمّ قيل : تضعيفها كمضاعفة الحسنات بالحرم ، وقيل : بل كخارجه .
ومن أخذ بالعمومات لم يحكم بالمضاعفة قال تعالى : { وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا } .
وقال النّبي صلى الله عليه وسلم : « من همّ بسيّئة فلم يعملها كتبها اللّه عنده حسنةً كاملةً , فإن هو همّ بها فعملها كتبها اللّه له سيّئةً واحدةً » .
وقال بعض السّلف لابنه : يا بنيّ إيّاك والمعصية فإن عصيت ولا بدّ , فلتكن في مواضع الفجور , لا في مواضع الأجور , لئلا يضاعف عليك الوزر , أو تعجّل العقوبة .
وحرّر بعض المتأخّرين النّزاع في هذه المسألة فقال : القائل بالمضاعفة أراد مضاعفة مقدارها أي غلظها لا كمّيّتها في العدد , فإنّ السّيّئة جزاؤها سيّئة , لكن السّيّئات تتفاوت , فالسّيّئة في حرم اللّه وبلاده على بساطٍ أكبر وأعظم منها في طرفٍ من أطراف البلاد , ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في موضعٍ بعيدٍ عنه .
ويعاقب على الهمّ فيها بالسّيّئات , وإن لم يفعلها ، قال تعالى : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ، ولهذا عدّي فعل الإرادة بالباء ، ولا يقال : أردت بكذا , لمّا ضمّنه معنى يهم , فإنّه يقال : هممت بكذا . وهذا مستثنىً من قاعدة الهمّ بالسّيّئة وعدم فعلها .
كل ذلك تعظيماً لحرمته , وكذلك فعل اللّه سبحانه وتعالى بأصحاب الفيل ، أهلكهم قبل الوصول إلى بيته .
وقال أحمد بن حنبلٍ : لو أنّ رجلاً همّ أن يقتل في الحرم أذاقه اللّه من العذاب الأليم ثمّ قرأ الآية .
وقال ابن مسعودٍ : ما من بلدٍ يؤاخذ العبد فيه بالهمّ قبل الفعل إلا مكّة وتلا هذه الآية .(/1)
مَلاءة *
التّعريف :
1 - الملاءة في اللغة : مصدر الفعل مَلُؤَ - بضمّ اللّام - قال الفيومي : مَلُؤَ - بالضّمّ - ملاءةً , وهو أملأُ القوم أي : أقدرهم وأغناهم , ورجل مليء – مهموز - على وزن فعيل : غنيّ مقتدر .
وفي لسان العرب : رجل مليء : كثير المال بيّن الملاء , والجمع مِلاء , وقد ملُؤَ الرّجل يملُؤُ ملاءةً فهو مليء : صار مليئاً , أي ثقةً , فهو غنيّ مليء : بيّن الملاء والملاءة .
وقد أُولِع فيه النّاس بترك الهمز وتشديد الياء .
وفي اصطلاح الفقهاء : الملاءة : هي الغنى واليسار .
وقد فسّر أحمد الملاءة فقال : تعتبر الملاءة في المال والقول والبدن , فالمليء هو من كان قادراً بماله وقوله وبدنه , قال البهوتي : وجزم به في المحرّر والنّظم والفروع والفائق والمنتهى وغيرها , ثمّ قال البهوتي : زاد في الرّعاية الصغرى والحاويين : وفعله , وزاد في الكبرى عليهما : وتمكنه من الأداء .
فالملاءة في المال : القدرة على الوفاء , والملاءة في القول : أن لا يكون مماطلاً .
والملاءة في البدن : إمكان حضوره مجلس الحكم , قال البهوتي : هذا معنى كلام الزّركشيّ. ثمّ قال : والظّاهر أنّ : " فعله " يرجع إلى عدم المطل إذ الباذل غير مماطل .
و : " تمكنه من الأداء " يرجع إلى القدرة على الوفاء , إذ من ماله غائب أو في الذّمّة ونحوه غير قادر على الوفاء , ولذلك أسقطهما الأكثر ولم يفسّرهما .
الألفاظ ذات الصّلة :
الإعسار :
2 - الإعسار في اللغة : مصدر أعسر , وهو ضد اليسار , والعسر : الضّيق والشّدّة , والإعسار والعسرة : قلّة ذات اليد .
والإعسار في الاصطلاح : عدم القدرة على النّفقة أو على أداء ما عليه بمال ولا كسب , أو هو زيادة خرجه عن دخله .
والإعسار ضد الملاءة .
ما يتعلّق بالملاءة من أحكام :
يتعلّق بالملاءة أحكام منها :
أ - أثر الملاءة في زكاة الدّين :
3 - اختلف الفقهاء في زكاة الدّين إذا كان على مليء .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( زكاة ف / 20 , 21 ) .
ب - أثر الملاءة في أخذ المشفوع :
4 - من أحكام الشّفعة : أنّ الشّفيع يأخذ الشّقص المشفوع بمثل الثّمن الّذي استقرّ عليه العقد وقت لزومه قدراً وجنساً وصفةً , لحديث جابر رضي الله تعالى عنه : « فهو أحق بها بالثّمن » .
فإن كان ثمن الشّقص المشفوع مؤجّلاً إلى أجل معلوم أخذه الشّفيع بمثل ثمنه مؤجّلاً إلى أجله , لأنّ الشّفيع يستحق الأخذ بقدر الثّمن وصفته , والتّأجيل من صفته , وهذا عند المالكيّة والحنابلة .
لكنّ الشّفيع لا يستحق الأخذ إلّا بشروط .
قال المالكيّة : إنّما يستحق الشّفيع أخذ الشّقص بالثّمن المؤجّل إذا كان موسراً بالثّمن يوم الأخذ , ولا يلتفت ليسره يوم حلول الأجل في المستقبل , ولا يكفي تحقق يسره يوم حلول الأجل بنزول جامكيّة أو معلوم وظيفة في المستقبل إذا كان يوم الأخذ معسراً مراعاةً لحقّ المشتري , ولا يراعى خوف طروّ عسره قبل حلول الأجل إلغاءً للطّارئ , لوجود مصحّح العقد يوم الأخذ وهو اليسر .
فإن لم يكن الشّفيع موسراً يوم الأخذ , فإن أمكن أن يأتي بضامن مليء أو برهن ثقة , فإنّه يستحق الأخذ , وإذا لم يكن الشّفيع موسراً وقت الأخذ ولم يأت بضامن مليء أو رهن ثقة فإنّه يجب عليه تعجيل الثّمن للمشتري ولو ببيع الشّقص لأجنبيّ , فإن لم يعجّل الثّمن فلا شفعة له .
لكن إذا تساوى الشّفيع والمشتري في العدم فلا يلزم الشّفيع حينئذٍ الإتيان بضامن مليء , ويحق له أن يأخذ الشّقص بالشّفعة إلى ذلك الأجل , وهذا على المختار .
ومقابل المختار : أنّه متى كان الشّفيع معدماً فلا يأخذه إلّا بضامن مليء ولو كان مساوياً للمشتري في العدم , وكذلك لو كان الشّفيع أشدّ عدماً من المشتري فإنّه يلزمه أن يأتي بحميل مليء , فإن أبى أسقط الحاكم شفعته .
وقال الحنابلة : إن كان ثمن الشّقص المشفوع مؤجّلاً أخذه الشّفيع بالأجل إن كان الشّفيع مليئاً , فإن لم يكن مليئاً - بأن كان معسراً - أقام كفيلاً مليئاً بالثّمن وأخذ الشّقص بالثّمن مؤجّلاً , لأنّ الشّفيع يستحق الأخذ بقدر الثّمن وصفته , والتّأجيل من صفته , واعتبرت الملاءة أو الكفيل دفعاً لضرر المشتري .
هذا إذا كان ثمن الشّقص المشفوع مؤجّلاً , فإن كان حالاً وعجز الشّفيع عنه أو عن بعضه سقطت شفعته , ولو أتى الشّفيع برهن أو ضمين لم يلزم المشتري قبولهما ولو كان الرّهن محرزاً والضّمين مليئاً , لما على المشتري من الضّرر بتأخير الثّمن , والشّفعة شرعت لدفع الضّرر , فلا تثبت معه .
وعند الحنفيّة والشّافعيّة في الأظهر : إن كان ثمن المشفوع مؤجّلاً فللشّفيع الخيار : إن شاء أخذ بثمن حال , وإن شاء صبر حتّى ينقضي الأجل ثمّ يأخذ , وليس له أن يأخذ في الحالّ بثمن مؤجّل , وليس الرّضا بالأجل في حقّ المشتري رضاً به في حقّ الشّفيع , لتفاوت النّاس في الملاءة .
وقال زفر من الحنفيّة , وهو القول الثّاني عند الشّافعيّة : يأخذه بالثّمن المؤجّل تنزيلاً له منزلة المشتري , ولأنّ كونه مؤجّلاً وصف في الثّمن كالزّيافة , والأخذ بالشّفعة بالثّمن , فيأخذه بأصله ووصفه كما في الزيوف .
والقول الثّالث عند الشّافعيّة : يأخذه بسلعة لو بيعت إلى ذلك الأجل لبيعت بذلك القدر .
ج - أثر الملاءة في الضّمان :(/1)
5 - يرى جمهور الفقهاء " أبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ": أنّه لا يشترط ملاءة المضمون عنه , ولذلك يصح ضمان كلّ من وجب عليه حق , سواء كان المضمون عنه حيّاً أو ميّتاً , وسواء كان مليئاً أو مفلساً , والدّليل على ذلك : ما رواه سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : « كنّا جلوساً عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ أُتي بجنازة , فقالوا : صلِّ عليها . فقال : هل عليه دين ؟ قالوا : لا , قال : فهل ترك شيئاً ؟ قالوا : لا , فصلّى عليه . ثمّ أتي بجنازة أخرى , فقالوا : يا رسول اللّه صلّ عليها . قال : هل عليه دين ؟ قيل : نعم , قال : فهل ترك شيئاً ؟ قالوا : ثلاثة دنانير . فصلّى عليها . ثمّ أتي بالثّالثة فقالوا : صلّ عليها . قال : هل ترك شيئاً ؟ قالوا : لا . قال : فهل عليه دين ؟ قالوا : ثلاثة دنانير . قال : صلوا على صاحبكم . قال أبو قتادة : صلِّ عليه يا رسول اللّه وعليّ دينه , فصلّى عليه » فدلّ الحديث على أنّه يصح ضمان المدين الّذي لم يخلّف وفاءً . وعلّل أبو يوسف ومحمّد صحّة الكفالة بالدّين عن الميّت المفلس بأنّ الموت لا ينافي بقاء الدّين لأنّه مال حكميّ , فلا يفتقر بقاؤه إلى القدرة على الوفاء , ولهذا بقي إذا مات مليئاً حتّى تصحّ الكفالة به , وكذا بقيت الكفالة بعد موته مفلساً .
وبنى الشّافعيّة قولهم على أنّه لا يشترط معرفة المضمون عنه - وهو المدين - لأنّ قضاء دين الغير بغير إذنه جائز فالتزامه أولى , كما يصح الضّمان عن الميّت وإن لم يخلّف وفاءً . وذهب أبو حنيفة - وهو قول أبي ثور - إلى أنّه يشترط في المكفول له أن يكون مليئاً , حتّى يكون قادراً على تسليم المكفول به إمّا بنفسه أو بنائبه , ولذلك لا يصح عنده الكفالة بالدّين عن الميّت المفلس , لأنّ الدّين عبارة عن الفعل والميّت عاجزٌ عن الفعل , فكانت هذه كفالةً بدين ساقط كما إذا كفل على إنسان بدين ولا دين عليه , وإذا مات مليئاً فهو قادر بنائبه .
د - أثر الملاءة في أداء الدّين :
6 - من كان عليه دين حال وكان مليئاً مقراً بدينه أو عليه بيّنة وجب عليه أداء الدّين حين طلبه , لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « مَطْلُ الغنيّ ظُلْمٌ » , وبالطّلب يتحقّق المطل , إذ لا يقال : مطله إلّا إذا طالبه فدافعه .
وذهب بعض فقهاء الشّافعيّة إلى أنّ أداء الدّين للقادر على الأداء لا يتوقّف على الطّلب . جاء في حاشية الجمل : يجب على الغنيّ أداء الدّين فوراً إن خاف فوت أدائه إلى المستحقّ إمّا بموته أو مرضه أو بذهاب ماله , أو خاف موت المستحقّ , أو طالبه رب الدّين , أو علم حاجته إليه وإن لم يطالبه , ذكر ذلك البارزي .
7 - وإذا أمره الحاكم بالأداء فطلب إمهاله لبيع عروضه ليوفي دينه من ثمنها أمهل باجتهاد الحاكم , لكن لا يؤجّل إلّا إذا أعطى حميلاً بالمال , وهذا ما ذهب إليه المالكيّة .
وقال الحنابلة : إن كان للمدين القادر على الوفاء سلعة , فطلب من ربّ الحقّ أن يمهله حتّى يبيعها ويوفيه الدّين من ثمنها أمهل بقدر ذلك , أي بقدر ما يتمكّن من بيعها والوفاء من ثمنها .
وكذا إن طولب بمسجد أو سوق وماله بداره أو مودع أو ببلد آخر فيمهل بقدر ما يحضره فيه .
وكذلك إن أمكن المدين أن يحتال لوفاء دينه باقتراض ونحوه فيمهل بقدر ذلك , ولا يحبس لعدم امتناعه من الأداء لقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } .
وإن خاف رب الحقّ هربه احتاط بملازمته أو بكفيل , ولا يجوز منعه من الوفاء بحبسه , لأنّ الحبس عقوبة لا حاجة إليها .
وقال الحنابلة أيضاً : لو ماطل المدين حتّى شكاه رب الحقّ فما غرمه في شكواه فعلى المدين المماطل إذا كان رب الحقّ قد غرّمه على الوجه المعتاد , لأنّه تسبّب في غرمه بغير حق .
8 - وإذا امتنع المدين المليء من أداء الدّين بعد الطّلب وبعد إعطائه المهلة لبيع عروضه أو غير ذلك كما سبق بيانه , أو لم يأت بحميل بالمال كما يقول المالكيّة , فقد ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ الحاكم يحبسه , لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « مَطْلُ الغنيّ ظُلْمٌ » , فيحبس دفعاً للظلم لقضاء الدّين بواسطة الحبس , ولقوله صلى الله عليه وسلم :
« لَيُ الواجد يُحِل عِرْضه وعقوبته » . والحبس عقوبة كما قال الكاساني وابن قدامة .
لكنّ الحنفيّة قالوا : إنّ الحبس لا يكون إلّا بطلب ربّ الدّين من القاضي , فما لم يطلب رب الدّين حبس المدين المماطل لا يحبس لأنّ الدّين حقه , والحبس وسيلة إلى حقّه , ووسيلة حقّ الإنسان هي حقه , وحق المرء إنّما يطلب بطلبه , فلا بدّ من الطّلب للحبس , فإذا طلب رب الدّين حبس المدين - وثبت عند القاضي سبب وجوب الدّين وشرائطه بالحجّة - حبسه لتحقق الظلم عنده بتأخير حقّ الدّين من غير ضرورة , والقاضي نصب لدفع الظلم فيندفع الظلم عنه .
9 - ويشترط لحبس المليء المماطل أن يكون ممّن سوى الوالدين لصاحب الدّين فلا يحبس الوالدون وإن علوا بدين المولودين وإن سفلوا , لقول اللّه تعالى : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } , وقوله تعالى : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } , وليس من المصاحبة بالمعروف والإحسان حبسهما بالدّين , إلّا أنّه إذا امتنع الوالد من الإنفاق على ولده الّذي عليه نفقته فإنّ القاضي يحبسه , لكن تعزيزاً لا حبساً بالدّين .
وأمّا الولد فيحبس بدين الوالد , لأنّ المانع من الحبس حق الوالدين .
وكذا سائر الأقارب , يحبس المديون بدين قريبه كائناً من كان .(/2)
ويستوي في الحبس الرّجل والمرأة , لأنّ الموجب للحبس لا يختلف بالذكورة والأنوثة . ويحبس ولي الصّغير إذا كان ممّن يجوز له قضاء دينه , لأنّه إذا كان الظلم بسبيل من قضاء دينه صار بالتّأخير ظالماً , فيحبس ليقضي الدّين فيندفع الظلم .
لكن عند المالكيّة يحبس الجد بدين ولد ولده , لأنّ حقّه دون حقّ الأب .
10 - وإذا حبس الحاكم المدين وأصرّ على الامتناع عن الوفاء فقد اختلف الفقهاء فيما يفعله الحاكم به .
قال الحنفيّة : إذا قامت البيّنة على يساره أبّد الحاكم حبسه لظلمه .
وقال المالكيّة : يضرب معلوم الملاء مرّةً بعد مرّة باجتهاد الحاكم في العدد بمجلس أو مجالس , ولو أدّى إلى إتلافه لظلمه باللّدد دون أن يقصد الحاكم إتلافه , أما لو ضربه قاصداً إتلافه فإنّه يقتص منه , قالوا : ولا يبيع ماله .
وقال الشّافعيّة : إن امتنع الموسر من أداء الدّين أمره الحاكم به , فإن امتنع من الأداء وكان له مال ظاهر - وهو من جنس الدّين - وفَّى منه , وإن كان من غير جنس الدّين باع الحاكم عليه ماله - وإن كان المال في غير محلّ ولايته كما صرّح به القاضي والقمولي - أو أكرهه على البيع بالتّعزير بحبس أو غيره , لما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنّه قال : " إنّ الأُسَيْفعَ أُسيْفع جهينة رَضِيَ من دِينه وأمانته أن يقال : سبق الحاجّ , إلّا أنّه قد دان مُعْرِضاً , فأصبح قد رين به , فمن كان له عليه دين فليأتنا بالغداة نقسم ماله بينهم " . ولو التمس الغريم من الحاكم الحجر على مال الممتنع من الأداء أجيب لئلّا يتلف ماله .
وإن كان للمدين مال فأخفاه وهو معلوم , وطلب غريمه حبسه حبسه الحاكم وحجر عليه وعزّره حتّى يظهره , فإن لم ينزجر بالحبس ورأى الحاكم ضربه أو غيره فعل ذلك , ولو زاد مجموع الضّرب على الحدّ .
ولا يعزّره ثانياً حتّى يبرأ من التّعزير الأوّل .
وقال الحنابلة : إن أصرّ المدين المليء على الحبس ولم يؤدّ الدّين باع الحاكم ماله وقضى دينه , لما روى كعب بن مالك رضي الله عنه عن أبيه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حجر على معاذٍ رضي الله عنه ماله وباعه في دين كان عليه » .
وقال جماعة منهم : إذا أصرّ المدين على الحبس وصبر عليه ضربه الحاكم , قال في الفصول وغيره : يحبسه فإن أبى الوفاء عزّره , ويكرّر حبسه وتعزيره حتّى يقضي الدّين , قال ابن تيميّة : نصّ عليه الأئمّة من أصحاب أحمد وغيرهم ولا أعلم فيه نزاعاً , لكن لا يزاد في كلّ يوم على أكثر التّعزير إن قيل بتقديره .
هـ - اختلاف المدين والغريم في الملاءة :
11 - لو أقام الغريم بيّنةً بملاءة المدين , أو ادّعى ملاءته بلا بيّنة , وأقام المدين بيّنةً بإعساره , أو ادّعى الإعسار بلا بيّنة , فقد اختلف الفقهاء فيمن تقبل بيّنته , وفيمن يقبل قوله لو لم تكن معه بيّنة .
قال الحنفيّة : لو اختلف الغريم والمدين في اليسار والإعسار , فقال الطّالب : هو موسر , وقال المطلوب : أنا معسر , فإن قامت لأحدهما بيّنة قبلت بيّنته , وإن أقاما جميعاً البيّنة , فالبيّنة بيّنة الطّالب , لأنّها تثبت زيادةً وهي اليسار , وإن لم يقم لهما بيّنةً فقد ذكر محمّد في الكفالة والنّكاح والزّيادات أنّه ينظر : إن ثبت الدّين بمعاقدة كالبيع والنّكاح والكفالة والصلح عن دم العمد والصلح عن المال والخلع , أو ثبت تبعاً فيما هو معاقدة كالنّفقة في باب النّكاح فالقول قول الطّالب , وكذا في الغصب والزّكاة , وإن ثبت الدّين بغير ذلك كإحراق الثّوب أو القتل الّذي لا يوجب القصاص ويوجب المال في مال الجاني وفي الخطأ فالقول قول المطلوب .
وذكر الخصّاف في آداب القاضي أنّه إن وجب الدّين عوضاً عن مال سالم للمشتري , نحو ثمن المبيع الّذي سلّم له المبيع والقرض والغصب والسّلم الّذي أخذ المسلم إليه رأس المال فالقول قول الطّالب , وكل دين ليس له عوض أصلاً كإحراق الثّوب , أو له عوض ليس بمال كالمهر وبدل الخلع وبدل الصلح عن دم العمد والكفالة فالقول قول المطلوب .
وقال الكاساني : واختلف المشايخ فيه :
قال بعضهم : القول قول المطلوب على كلّ حال ولا يحبس , لأنّ الفقر أصل في بني آدم والغنى عارض , فكان الظّاهر شاهداً للمطلوب , فكان القول قوله مع يمينه .
وقال بعضهم : القول قول الطّالب على كلّ حال , لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لصاحب الحقّ اليد واللّسان » .
وقال بعضهم : يحكّم زيه : إذا كان زيه زيّ الأغنياء فالقول قول الطّالب , وإن كان زيه زيّ الفقراء فالقول قول المطلوب .
وعن أبي جعفر الهندوانيّ أنّه يحكّم زيه فيؤخذ بحكمه في الفقر والغنى , إلّا إن كان المطلوب من الفقهاء أو العلويّة أو الأشراف , لأنّ من عاداتهم التّكلف في اللّباس والتّجمل بدون الغنى , فيكون القول قول المديون أنّه معسر .
ووجه ما ذكر الخصّاف أنّ القول في الشّرع قول من يشهد له الظّاهر , فإذا وجب الدّين بدلاً عن مال سلّم له كان الظّاهر شاهداً للطّالب , لأنّه ثبتت قدرة المطلوب بسلامة المال , وكذا في الزّكاة فإنّها لا تجب إلّا على الغنيّ فكان الظّاهر شاهداً للطّالب .(/3)
ووجه قول محمّد وهو ظاهر الرّواية : أنّ الظّاهر شاهد للطّالب فيما ذكرنا أيضاً من طريق الدّلالة , وهو إقدامه على المعاقدة , فإنّ الإقدام على التّزوج دليل القدرة , إذ الظّاهر أنّ الإنسان لا يتزوّج حتّى يكون له شيء , ولا يتزوّج أيضاً حتّى يكون له قدرة على المهر , وكذا الإقدام على الخلع لأنّ المرأة لا تخالع عادةً حتّى يكون عندها شيء , وكذا الصلح لا يقدم الإنسان عليه إلّا عند القدرة , فكان الظّاهر شاهداً للطّالب في هذه المواضع فكان القول قوله .
وقال المالكيّة : إن شهدت بيّنة بملاءة المدين , وشهدت بيّنة بعدم ملاءته رجّحت بيّنة الملاء على بيّنة العدم إن بيّنت بيّنة الملاء سببه , بأن قالت : له مال يفي بدينه وقد أخفاه , لأنّها بيّنة ناقلة ومثبتة وشاهدة بالعلم .
وقال ابن عرفة : لو قالت بيّنة : له مال باطن أخفاه , قدّمت اتّفاقاً , فإن لم تبيّن بيّنة الملاء سبب الملاء رجّحت بيّنة العدم , سواء بيّنت سبب العدم أم لا .
وقال عليّ الأجهوري : والّذي جرى العمل به تقديم بيّنة الملاء وإن لم تبيّن سببه .
وإن شهد شهود بعسر المدين , وقالوا في شهادتهم : إنّهم لا يعرفون للمدين مالاً ظاهراً ولا باطناً , فإنّ المشهود له يحلف على ما شهد به الشّهود , فيقول : باللّه الّذي لا إله إلّا هو لم أعرف لي مالاً ظاهراً ولا باطناً , ويزيد : وإن وجدت مالاً لأقضين ما عليّ .
وقال الشّافعيّة : لو تعارضت بيّنتا إعسار وملاءة كلّما شهدت إحداهما جاءت الأخرى فشهدت بأنّه في الحال على خلاف ما شهدت به الأولى , فهل يقبل ذلك أبداً ويعمل بالمتأخّر؟ أفتى ابن الصّلاح بأنّه يعمل بالمتأخّر منهما وإن تكرّرت , إذا لم ينشأ من تكرارها ريبة , ولا تكاد بيّنة الإعسار تخلو عن ريبة إذا تكرّرت .
وقال الشّيرازي : إن ادّعى المدين الإعسار نظر , فإن لم يعرف له مال قبل ذلك فالقول قوله مع يمينه , لأنّ الأصل عدم المال , فإن عرف له مال لم يقبل قوله : إنّه معسر , إلّا ببيّنة , لأنّ الأصل بقاء المال , فإن قال : غريمي يعلم أنّي معسر , أو أنّ مالي هلك فحلِّفوه حُلّفَ الغريم , لأنّ ما يدّعيه محتمل .
وقال الحنابلة : إن ادّعى المدين الإعسار وكذّبه غريمه , فلا يخلو إمّا أن يكون عرف له مال أو لم يعرف : فإن عرف له مال , ككون الدّين ثبت عن معاوضة كالقرض والبيع , أو عرف له أصل مال سوى هذا فالقول قول غريمه مع يمينه , فإذا حلف الغريم أنّه ذو مال حبس المدين حتّى تشهد بيّنة بإعساره , لأنّ الظّاهر قول الغريم , فكان القول قوله كسائر الدّعاوى .
فإن شهدت البيّنة بتلف ماله قبلت شهادتهم , سواء كانت من أهل الخبرة الباطنة أو لم تكن, لأنّ التّلف يطّلع عليه أهل الخبرة وغيرهم , وإن طلب الغريم إحلافه على ذلك لم يجب إليه لأنّ ذلك تكذيب للبيّنة .
وإن شهدت البيّنة بالإعسار مع الشّهادة بالتّلف اكتفى بشهادتها وثبتت عسرته .
وإن لم تشهد البيّنة بعسرته وإنّما شهدت بالتّلف لا غير , وطلب الغريم يمين المدين على عسره وأنّه ليس له مال آخر , أستحلف على ذلك لأنّه غير ما شهدت به البيّنة .
وإن لم تشهد البيّنة بالتّلف , وإنّما شهدت بالإعسار فقط لم تقبل الشّهادة إلّا من ذي خبرة باطنة ومعرفة متقادمة , لأنّ هذا من الأمور الباطنة لا يطّلع عليه في الغالب إلّا أهل الخبرة والمخالطة , وذلك لما روى قبيصة بن المخارق رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له : « يا قبيصة إنّ المسألة لا تحل إلّا لأحد ثلاثة . . . ورجل أصابته فاقة حتّى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه : لقد أصابت فلاناً فاقةٌ فحلّت له المسألة حتّى يصيب , قواماً من عيشٍ , أو قال : سداداً من عيشٍ » .
وإن لم يعرف للمدين مال الغالب بقاؤه , ككون الحقّ ثبت عليه في غير مقابلة مال أخذه المدين كأرش جناية وقيمة متلف ومهر أو ضمان أو كفالة أو عوض خلع إن كان امرأةً , وادّعى الإعسار ولم يقرّ المدين أنّه مليء , فإنّه يحلف : أنّه لا مال له ويخلّى سبيله , لأنّ الأصل عدم المال .
فإن أنكر رب الدّين إعسار المدين , وأقام بيّنةً بقدرة المدين على الوفاء , فإنّ المدين يحبس لثبوت ملاءته .
ولو حلف رب الدّين : أنّه لا يعلم عسرة المدين , أو حلف رب الدّين : أنّ المدين موسر , أو ذو مال , أو أنّه قادر على الوفاء حبس المدين لعدم ثبوت عسرته .
فإن لم يحلف رب الدّين بعد سؤال المدين حلّفه أنّه لا يعلم عسرته , حلف المدين أنّه معسر وخلّي سبيله , لأنّ الأصل عدم المال , إلّا أن يقيم رب الدّين بيّنةً تشهد له بما ادّعاه من يساره فيحبس المدين .
و - أثر الملاءة في منع المدين من السّفر :
12 - ذهب الفقهاء إلى أنّ المدين إذا أراد السّفر , فإن كان الدّين حالاً وكان المدين مليئاً كان من حقّ الغريم منعه من السّفر حتّى يؤدّي إليه دينه , وذلك - كما يقول الشّافعيّة - بأن يشغله عن السّفر برفعه إلى الحاكم ومطالبته حتّى يوفيه دينه , لأنّ أداء الدّين فرض عين بخلاف السّفر , لكن قال الشّافعيّة : إن استناب من يوفيه عنه من مال الحاضر فليس له منعه من السّفر .
أمّا إن كان الدّين مؤجّلاً , فقد ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه لا يجوز للغريم منع المدين من السّفر ما دام الدّين مؤجّلاً .
قال الكاساني : لا يمنع المدين من السّفر قبل حلول الأجل , سواء بعد محله أو قرب , لأنّه لا يملك مطالبته قبل حلّ الأجل ولا يمكن منعه , ولكن له أن يخرج معه , حتّى إذا حلّ الأجل منعه من المضيّ في سفره إلى أن يوفيه دينه .(/4)
وقال الشّربيني الخطيب : أمّا الدّين المؤجّل فليس للغريم منع المدين من السّفر ولو كان السّفر مخوفاً كجهاد , أو كان الأجل قريباً , إذ لا مطالبة به في الحالّ , ولا يكلّف من عليه الدّين المؤجّل رهناً ولا كفيلاً ولا إشهاداً , لأنّ صاحبه هو المقصّر حيث رضي بالتّأجيل من غير رهن وكفيل , ولكن له أن يصاحبه في السّفر ليطالبه عند حلول الأجل , بشرط أن لا يلازمه ملازمة الرّقيب لأنّ فيه إضراراً به .
أمّا المالكيّة فقد فرّقوا بين ما إذا كان الدّين المؤجّل يحل أثناء سفر المدين وبين ما إذا كان لا يحل أثناء سفره , فقالوا : للغريم منع المدين من السّفر إن حلّ الدّين بغيبته وكان موسراً ولم يوكّل مليئاً على القضاء ولم يضمنه موسر , فإن كان المدين معسراً أو وكّل مليئاً يقضي الدّين في غيبته من ماله أو ضمنه مليء فليس لغريمه منعه من السّفر .
فإن كان الدّين لا يحل بغيبته فليس للغريم منعه من السّفر .
قال اللّخمي : من عليه دين مؤجّل وأراد السّفر قبل حلوله فلا يمنع من السّفر إذا بقي من أجله قدر سيره ورجوعه , وكان لا يخشى لدده ومقامه , فإن خشي ذلك منه أو عرف باللّدد فله منعه من السّفر إلّا أن يأتي بحميل , وإن كان موسراً وله عقار فهو بالخيار بين أن يعطى حميلاً بالقضاء أو وكيلاً بالبيع .
وقال الحنابلة : إن أراد المدين سفراً طويلاً فوق مسافة القصر ويحل الدّين المؤجّل قبل فراغه من السّفر أو يحل بعده , وسواء كان السّفر مخوفاً أو غير مخوف , وليس بالدّين رهن يفي به ولا كفيل مليء بالدّين , فلغريمه منعه من السّفر , لأنّ عليه ضرراً في تأخير حقّه عن محلّه , وقدومه عند المحلّ غير متيقّن ولا ظاهر فملك منعه , لكن إذا وثّق المدين الدّين برهن يحرز الدّين أو كفيل مليء فلا يمنع من السّفر لانتفاء الضّرر .
ولو أراد المدين وضامنه معاً السّفر فللغريم منعهما إلّا إذا توثّق الدّين برهن محرز أو كفيل مليء .
لكن إذا كان سفر المدين لجهاد متعيّن فلا يمنع منه بل يمكّن من السّفر لتعينه عليه وكذلك إذا أحرم المدين بالحجّ أو العمرة فرضاً أو نفلاً فلا يحلّله الغريم من إحرامه لوجوب إتمامهما بالشّروع .
ز - أثر الملاءة في النّفقة على الزّوجة :
13 - ذهب الفقهاء إلى أنّ نفقة الزّوجة تجب على زوجها بحسب يساره ويسارها , فتجب نفقة الموسرين إذا كانا موسرين , ونفقة المعسرين إذا كانا معسرين , ونفقة الوسط إذا كان أحدهما معسراً .
والأصل في ذلك قوله تعالى : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ } , وهذا في الجملة .
وللفقهاء تفصيل ينظر في مصطلح : ( نفقة ) .
ح - أثر الملاءة في النّفقة على الأقارب :
14 - الأصل في النّفقة على الأقارب - كالوالدين والأبناء - الكتاب والسنّة والإجماع .
أمّا الكتاب فقوله تعالى : { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } , وقوله تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } , ومن الإحسان الإنفاق عليهما عند حاجتهما .
ومن السنّة قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لهند رضي الله عنها : « خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف » .
وأمّا الإجماع فقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ نفقة الوالدين الفقيرين اللّذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد .
ويشترط لوجوب النّفقة يسار المنفق , وإعسار المنفق عليه , واحتياجه إلى النّفقة , وهذا باتّفاق في الجملة .
وللفقهاء في أصناف الّذين تجب لهم النّفقة , وهل الأصل الملاءة فيمن طولب بالنّفقة فإذا ادّعى العدم فعليه الإثبات , وغير ذلك من المسائل تفصيل وخلاف ينظر في مصطلح (نفقة).
مُلازَمَة *
التّعريف :
1 - الملازمة في اللغة : مأخوذة من الفعل : لازم , يقال : لازمت الغريم ملازمةً : تعلّقت به .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
الحبس :
2 - الحبس في اللغة : المنع والإمساك .
وفي اصطلاح الفقهاء هو : تعويق الشّخص ومنعه من التّصرف بنفسه والخروج إلى أشغاله ومهمّاته الدّينيّة والدنيويّة .
والعلاقة بين الملازمة والحبس : أنّ كلاً منهما إجراء يتّخذ للتّوصل إلى أداء الحقوق .
الأحكام المتعلّقة بالملازمة :
أ - حكم ملازمة المدين
3 - لا خلاف بين جمهور الفقهاء في مشروعيّة أصل ملازمة المدين , واختلفوا في شروط جوازها .
فذهب أبو حنيفة وصاحباه : إلى أنّ للدّائن ملازمة المدين , وإن ثبت إعساره عند القاضي , وليس للقاضي منع الدّائن عن ملازمة مدينه , وقالوا : لأنّه يتمكّن بالملازمة من حمل المدين على قضاء الدّين , ولقوله صلى الله عليه وسلم : « لصاحب الحقّ اليد واللّسان » . وقالوا : أراد عليه الصّلاة والسّلام باليد : الملازمة , وباللّسان : التّقاضي .
وقالوا وإذا كان المدين امرأةً لا يلازمها منعاً من الخلوة بالأجنبيّة , ويستأجر امرأةً تلازمها. وقال الشّافعيّة والحنابلة : إذا ثبت إعسار المدين عند القاضي فليس لأحد مطالبته ولا ملازمته , بل يمهل حتّى يوسر , لقوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } . وقد ثبت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لغرماء الّذي أصيب في ثمار ابتاعها فكثرت ديونه : « خذوا ما وجدتم , وليس لكم إلّا ذلك » .
ولأنّ من ليس لصاحب الحقّ مطالبته لم يكن له ملازمته , كما لو كان عليه دين مؤجّل , ومن وجب إنظاره بالنّصّ حرمت ملازمته , أمّا إذا لم يثبت إعساره عند القاضي فيجوز ملازمته .
هذا ولم نقف فيما تيسّر لنا اطّلاعه من كتب المالكيّة ذكراً للملازمة .(/5)
ب - طريقة الملازمة :
4 - طريقة الملازمة عند الحنفيّة هي : أن يتتبّع الدّائن أو من ينوب عنه المدين , فيذهب حيثما ذهب , وإن رجع إلى منزله فإن أذن له بالدخول دخل معه , وإلّا انتظره على الباب ليلازمه بعد الخروج , وليس له أن يحجزه في مكان خاصّ , لأنّ ذلك حبسٌ وهو أمر لا يجوز لغير القاضي , بل يدور معه حيثما يشاء هو , لأنّه بذلك يتمكّن من حمل المدين على قضاء الدّين , وللحديث السّابق : « لصاحب الحقّ اليد واللّسان » .
وتكون الملازمة في النّهار لا ليلاً , لأنّه ليس بوقت الكسب فلا يتوهّم وقوع مال في يده , فالملازمة لا تفيد .
وكذا كل وقتٍ لا يتوهّم وقوع مال في يده فيه كوقت مرضه .
ج - حق ملازمة المكفول له الكفيل :
5 - قال الحنفيّة : إذا غاب المكفول عنه وعجز الكفيل عن إحضاره وقت الحاجة , فللمكفول له ملازمة الكفيل , كالدّائن مع المدين المفلس تماماً .
د - حق المحال في ملازمة المحال عليه :
6 - يجوز للمحال ملازمة المحال عليه , وإذا ثبت له هذا الحق على المحال عليه , فللمحال عليه أن يلازم المحيل , ليتخلّص من ملازمة المحال .
والتّفصيل في ( حوالة ف / 112 وما بعدها ) .(/6)
مَنِيّ *
التّعريف :
1 - المني في اللغة - مشدّدة الياء والتّخفيف لغة - ماء الرّجل والمرأة وجمعه مُنْيٌ ، ومنه قوله تعالى : { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى } .
وفي الاصطلاح : هو الماء الغليظ الدّافق الّذي يخرج عند اشتداد الشّهوة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - المذي :
2 - المذي في اللغة : ماء رقيق يخرج عند الملاعبة أو التّذكر ، ويضرب إلى البياض ، وقال الفيومي : فيه ثلاث لغاتٍ الأولى : سكون الذّال والثّانية : كسرها مع تثقيل الياء والثّالثة : الكسر مع التّخفيف .
والمذّاء فعّال للمبالغة في كثرة المذي ، من مذى يمذي .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
والصّلة بين المذي والمنيّ : أنّ المنيّ يخرج على وجه الدّفق بشهوة ، وأمّا المذي فيخرج لا على وجه الدّفق .
ب - الودي :
3 - الودي في اللغة بإسكان الدّال المهملة وتخفيف الياء وتشديدها : الماء الثّخين الأبيض الّذي يخرج في إثر البول .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
والصّلة بينهما أنّ المنيّ يخرج بشهوة وأنّ الودي يخرج بلا شهوة عقب البول .
الأحكام المتعلّقة بالمنيّ :
حكم إنزال المنيّ باليد :
4 - اختلف الفقهاء في حكم إنزال المنيّ باليد ، فذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ الاستمناء باليد حرام وفيه التّعزير .
وقال الحنفيّة : يكره تحريماً الاستمناء بالكفّ ونحوه بدون عذر ؛ لقوله تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } ، فلم يبح الاستمتاع إلّا بالزّوجة والأمة ، وأيضاً فإنّ فيه سلخ الماء ، وتهييج الشّهوة في غير محلّها بغير عذر .
أمّا إذا وجد عذر كما إذا تعيّن الخلاص من الزّنا بالاستمناء وكان عزباً لا زوجة له ولا أمة، أو كان إلّا أنّه لا يقدر على الوصول إليها لعذر فإنّه يجب ؛ لأنّه أخف ، وعبارة صاحب فتح القدير : فإن غلبته الشّهوة ففعل إرادة تسكينها به فالرّجاء ألّا يعاقب .
والمذهب عند الحنابلة أنّ الاستمناء باليد لغير حاجة حرام وفيه التّعزير ، وفي رواية عن الإمام أحمد أنّه يكره .
وإن كان الاستمناء خوفاً من الزّنى جاز ولا شيء عليه ، وهذا هو المذهب .
قال صاحب الإنصاف : لو قيل بوجوبه في هذه الحالة لكان له وجه كالمضطرّ .
وفي رواية عن الإمام أحمد أنّه يحرم ولو خاف الزّنى . قال في الإنصاف : لا يباح الاستمناء إلّا عند الضّرورة ، ثمّ قال : وحكم المرأة في ذلك حكم الرّجل .
ويجوز عند جميع الفقهاء الاستمناء بيد الزّوجة
طهارة المنيّ ونجاسته :
5 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو قول عند الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ المنيّ نجسٌ ولهم في ذلك تفصيل .
فقال الحنفيّة : إنّ المنيّ نجسٌ سواء من الإنسان أو من الحيوانات كلّها دون التّفرقة بين مأكول اللّحم وغير مأكوله .
وقال المالكيّة : المني نجسٌ إذا كان من آدمي أو من حيوان محرّم الأكل بغير خلاف ، أمّا مني مباح الأكل ففيه خلاف .
فقيل بطهارته ، وقيل بنجاسته ؛ للاستقذار والاستحالة إلى فساد ، وهو المشهور .
واستدلّ الحنفيّة على نجاسة المنيّ بحديث عائشة رضي الله عنها قالت : « كنت أغسل الجنابة من ثوب النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصّلاة وإن بقّع الماء في ثوبه » . وجه الدّلالة من هذا الحديث أنّ عائشة رضي الله عنها قد غسلت المنيّ من ثوب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، والغسل شأن النّجاسات وأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد علم بهذا فأقرّه ولم يقل لها أنّه طاهر ؛ ولأنّه خارجٌ من أحد السّبيلين فكان نجساً كسائر النّجاسات .
واستدلوا بآثار عن بعض الصّحابة رضي الله عنهم ، منها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه في المنيّ يصيب الثّوب : " إن رأيته فاغسله وإلّا فاغسل الثّوب كلّه " ومن التّابعين ما روي عن الحسن : أنّ المنيّ بمنزلة البول .
وقال المالكيّة : إنّ سبب نجاسة المنيّ أنّه دم مستحيل إلى نتن وفساد ، فحكم بنجاسة المنيّ من الحيوانات كلّها لأنّ مناط التّنجيس كونه دماً مستحيلاً إلى نتن وفساد ، وهذا لا يختلف بين الحيوانات كلّها كما قال الدردير .
وبأنّ المنيّ يخرج من مخرج البول موجباً لتنجيسه فألحق المني بالبول طهارةً ونجاسةً . وقال الشّافعيّة في الأظهر والحنابلة وهو المذهب : إنّ منيّ الإنسان طاهر سواء أكان من الذّكر أم الأنثى .
لحديث عائشة رضي الله عنها « أنّها كانت تفرك المنيّ من ثوب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمّ يصلّي فيه » فدلّ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم شرع في الصّلاة والمني على ثوبه، وهذا شأن الطّاهرات ، وعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال : « سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن المنيّ يصيب الثّوب ، فقال إنّما هو بمنزلة البصاق أو المخاط ، إنّما كان يكفيك أن تمسحه بخرقة أو إذخر » .
فيدل هذا الحديث بظاهره أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد شبّه المنيّ بالمخاط والبصاق ممّا يدل على طهارته وأمر بإماطته بأيّ كيفيّة كانت - ولو بإذخر - لأنّه مستقذر طبعاً وعن سعد بن أبي وقّاصٍ " أنّه كان إذا أصاب ثوبه المني إن كان رطباً مسحه ، وإن كان يابساً حتّه ثمّ صلّى فيه " ؛ ولأنّه مبدأ خلق الإنسان فكان طاهراً كالطّين وكذلك مني الحيوانات الطّاهرة حال حياتها فإنّه مبدأ خلقها ويخلق منه حيوان طاهر .
وفي مقابل الأظهر عند الشّافعيّة أنّه نجسٌ وهو قول عند الحنابلة .
وفي قول عند الشّافعيّة أنّه نجسٌ من المرأة دون الرّجل بناءً على نجاسة رطوبة فرجها وهو قول عند الحنابلة .(/1)
أمّا مني غير الآدميّ فقد ذهب الشّافعيّة في الأصحّ إلى أنّ منيّ غير الآدميّ ونحو الكلب نجسٌ كسائر المستحيلات .
وقال النّووي : إنّ الأصحّ طهارة منيّ غير الكلب والخنزير وفرع أحدهما لأنّه أصل حيوان طاهر فأشبه منيّ الآدميّ .
وفي مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة وقول الحنابلة أنّه طاهر من المأكول نجسٌ من غيره كلبنه .
الوضوء من المنيّ :
6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ خروج المنيّ ينقض الوضوء .
وقال الشّافعيّة : إنّ خروج المنيّ لا ينقض الوضوء .
والتّفصيل في مصطلح ( حدثٌ ف / 6 وما بعدها ) .
الغسل من المنيّ :
7 - اتّفق الفقهاء على أنّ خروج المنيّ من الرّجل والمرأة موجب للغسل . لما ورد : أنّ أمّ سليم رضي الله عنها حدّثت : « أنّها سألت نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم : عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرّجل ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إذا رأت ذلك المرأة فلتغتسل : فقالت أم سليم - واستحييت من ذلك - قالت : وهل يكون هذا ؟ فقال نبي اللّه صلى الله عليه وسلم : نعم ، فمن أين يكون الشّبه ؟ إنّ ماء الرّجل غليظ أبيض ، وماء المرأة رقيق أصفر فمن أيّهما علا أو سبق يكون منه الشّبه » ، وفي رواية أنّها قالت :
« هل على المرأة من غسل إذ هي احتلمت ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : نعم إذا رأت الماء » .
قال ابن قدامة : وإن رأى في ثوبه منيّاً وكان ممّا لا ينام فيه غيره فعليه الغسل ؛ لأنّ عمر وعثمان رضي الله عنهما اغتسلا حين رأياه في ثوبيهما ؛ ولأنّه لا يحتمل أن يكون إلّا منه ، ويُعيد الصّلاة من أحدث نومةٍ نامها فيه إلّا أن يرى إمارةً تدل على أنّه قبلها فيعيد من أدنى نومةٍ يحتمل أنّه منها ، وإن كان الرّائي له غلاماً يمكن وجود المنيّ منه كابن اثنتي عشرة سنةً فهو كالرّجال ؛ لأنّه وجد دليله وهو محتمل للوجود وإن كان أقلّ من ذلك فلا غسل عليه لأنّه لا يحتمل فيتعيّن حمله على أنّه من غيره ، فأمّا إن وجد الرّجل منيّاً في ثوب ينام فيه هو وغيره ممّن يحتلم فلا غسل على واحد منهما لأنّ كلّ واحد منهما بالنّظر إليه مفرداً يحتمل أن لا يكون منه فوجوب الغسل عليه مشكوك فيه ، وليس لأحدهما أن يأتمّ بصاحبه لأنّ أحدهما جنب يقيناً فلا تصح صلاتهما ، كما لو سمع كل واحد منهما صوت ريح يظن أنّها من صاحبه أو لا يدري من أيّهما هي .
والتّفصيل في ( غسل ف / 5 ) .
المني وأثره في الصّوم :
8 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الصّائم إذا قبّل ولم يمن لا يفسد صومه لما روت عائشة رضي الله عنها : « كان النّبي صلى الله عليه وسلم يقبّل ويباشر وهو صائم ، وكان أملككم لإربه» وورد عن عمر رضي الله عنه أنّه قال : « هششت فقبّلت وأنا صائم ، فقلت : يا رسول اللّه صنعت اليوم أمراً عظيماً ، قبّلت وأنا صائم ، فقال : أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم ؟ قلت : لا بأس به ، قال : فمه » .
شبّه القبلة بالمضمضة من حيث إنّها من مقدّمات الشّهوة وأنّ المضمضة إذا لم يكن معها نزول الماء لم يفطر .
وإن قبّل الصّائم فأمنى فسد صومه لأنّه إنزال بالمباشرة ، فأشبه الإنزال بالجماع لوجود معنى الجماع وهو قضاء الشّهوة .
وقال المالكيّة : إن خرج المني من الصّائم يقظةً بلذّة معتادة فسد الصّوم ووجب القضاء والكفّارة وأمّا إن خرج بلا لذّة أو خرج بلذّة غير معتادة فلا يفسد الصّوم ، وقال عبد الوهّاب من المالكيّة : إنّما يرى أصحابنا القضاء على من أمنى من لمسٍ وقبلة استحباباً وليس بإيجاب لجواز أن تكون القبلة حرّكت المنيّ عن موضعه ، فأمّا إن سلم من ذلك فلا شيء عليه .
ولو استمنى الصّائم بيده فأنزل فسد صومه لأنّه في معنى القبلة في إثارة الشّهوة ، وإن نزل لغير شهوة كالّذي يخرج منه المني أو المذي لمرض فلا شيء عليه ؛ لأنّه خارجٌ لغير شهوة أشبه البول ؛ ولأنّه عن غير اختيار منه ولا تسبب إليه فأشبه الاحتلام ، ولو احتلم لم يفسد صومه ؛ لأنّه عن غير اختيار منه فأشبه ما لو دخل حلقه شيء وهو نائم .
وقال الحنفيّة : إذا نظر إلى امرأة بشهوة إلى وجهها أو فرجها فأمنى - كرّر النّظر أو لا - لا يفطر فصار كالمتفكّر في امرأة حسناء إذا أمنى .
وقال المالكيّة : إن أمنى بتعمد إدامة النّظر والفكر فإنّ عليه القضاء والكفّارة .
وقال الشّافعيّة : إن خرج المني بمجرّد فكر ونظر بشهوة لم يفطر .
وقال الحنابلة : إن كرّر النّظر فله حالتان :
الحالة الأولى : أن لا يقترن به إنزال فلا يفسد الصّوم بغير خلاف .
الحالة الثّانية : أن يقترن به إنزال المنيّ فيفسد الصّوم ، وبه قال عطاء والحسن البصري والحسن بن صالح ؛ لأنّه إنزال بفعل يتلذّذ به ويمكن التّحرز منه فأفسد الصّوم كالإنزال باللّمس ، والفكر لا يمكن التّحرز منه بخلاف تكرار النّظر .
تطهير الثّوب من المنيّ :
9 - نظراً لأنّه قد اختلف الفقهاء في نجاسة المنيّ وطهارته فقد بيّن القائلون بأنّه نجسٌ وسيلة تطهيره .
فذهب الحنفيّة إلى أنّ المنيّ إذا أصاب الثّوب فإن كان رطباً يجب غسله ، وإن جفّ على الثّوب أجزأ فيه الفرك .
وذهب المالكيّة إلى أنّ تطهير محلّ المنيّ يكون بغسله . لما ورد عن زُبَيْد بن الصّلت : أنّه قال : " خرجت مع عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إلى الجرف فنظر فإذا هو قد احتلم وصلّى ولم يغتسل فقال : واللّه ما أراني إلّا احتلمت وما شعرت ، وصلّيت وما اغتسلت ، قال : فاغْتَسَلَ وغَسَلَ ما رأى في ثوبه ونضح ما لم ير وأذّن أو أقام ثمّ صلّى بعد ارتفاع الضّحى متمكّناً " .
أمّا القائلون بأنّه طاهر فقد بيّنوا كيفيّة تنظيفه .(/2)
فقال الشّافعيّة على الأظهر والحنابلة : أنّه يستحب غسل المنيّ للأخبار الصّحيحة الواردة فيه وخروجاً من الخلاف .
أثر انقطاع المنيّ في ثبوت الخيار للزّوجة :
10 - يرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّ الخصاء لا يكون عيباً فلا خيار للزّوجة طالما يستطيع الخصي الوقاع ؛ لأثر علي رضي الله عنه : " يرد النّكاح لأربع : من الجذام والجنون والبرص والقرن " ، وجه الدّلالة أنّه لم يردّ للخصاء ذكر بخصوصه ولم يدخل تحت عموم ما نصّ عليه مع وجود الخصاء في الرّجال وإمكان الاطّلاع عليه أو معرفته فيهم ، وأنّ الزّواج انعقد بيقين فلا يفرّق بين الزّوجين إلّا بدليل متيقّن ، ولمّا كان الاتّصال من الخصيّ موجوداً كان الضّرر في معاشرته منتفياً فلم يصحّ قياسه على العنّة للضّرر .
وقال المالكيّة والحنابلة : إنّ الخصاء عيب يثبت الخيار للمرأة ويبرّر طلب التّفريق .
إلّا أنّ المالكيّة قيّدوا ذلك بعدم إنزال المنيّ فإن أنزل منيّاً فلا يعتبر خصاءً يبرّر التّفريق . وللتّفصيل ر : مصطلح ( خصاء ف / 7 ) .
أثر انقطاع المنيّ بالجناية :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّه لو جنى شخص جنايةً على رجل فكسر صلبه فأبطل قوّة إمنائه وجبت الدّية كاملةً .
والتّفصيل في مصطلح ( ديات ف / 62 ) .(/3)
مَنْكِب *
التّعريف :
1 - المنكب في اللغة كالمجلس هو مجتمع رأس العضد والكتف من يد الإنسان ، وجمع المنكب مناكب ، ومنه أستعير للأرض في قوله تعالى : { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا } .
ويستعمل الفقهاء هذا اللّفظ بالمعنى اللغويّ نفسه .
الأحكام المتعلّقة بالمنكب :
تتعلّق بالمنكب أحكام منها :
أحكام المنكب في الوضوء :
لبيان حكم المنكب في الوضوء أحوال :
أ - غسل المنكب في الوضوء :
2 - اختلف الفقهاء في حكم غسل المنكب عند الوضوء على رأيين :
الرّأي الأوّل : يرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة استحباب الزّيادة في غسل اليدين عند الوضوء لما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « إنّ أمّتي يأتون يوم القيامة غراً محجّلين من أثر الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرّته فليفعل » . ولقوله صلى الله عليه وسلم : « أنتم الغر المحجّلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرّته وتحجيله » ، ومعنى غراً محجّلين : بيض الوجوه واليدين والرّجلين كالفرس الأغرّ ، وهو الّذي في وجهه بياضٌ ، والمحجّل هو الّذي قوائمه بيضٌ .
وممّن ذهب إلى استحباب غسل اليدين في الوضوء حتّى المنكبين من الصّحابة أبو هريرة وعبد اللّه بن عمر رضي الله عنهم .
ثمّ اختلف العلماء في القدر المستحبّ من التّطويل في التّحجيل .
فأمّا الحنفيّة والحنابلة وجماعة من الشّافعيّة فلم يحدوا للزّيادة في غسل الأعضاء في الوضوء حداً .
وللشّافعيّة أقوال أخرى في تحديد حدّ الزّيادة ، فقال جماعة منهم يستحب الزّيادة في الوضوء إلى نصف السّاق والعضد .
وقال البغوي : نصف العضد فما فوقه ونصف السّاق فما فوقه .
وقال القاضي حسين وآخرون : يبلغ به الإبط والركبة ، وذكر النّووي أنّ القاضي حسين قال في تعليقه : إسباغ الوضوء سنّة إطالةً للغرَّة وهو أن يستوعب جميع الوجه بالغسلة حتّى يغسل جزءاً من رأسه ويغسل اليدين إلى المنكبين والرّجلين إلى الركبتين .
الرّأي الثّاني : وهو للمالكيّة فقد نصوا على أنّه تكره كثرة الزّيادة على محلّ الفرض وقالوا: وأمّا أصل الزّيادة فلا بدَّ منها لأنّه من باب ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب .
ب - غسل عضوٍ نابتٍ في المنكب عند الوضوء :
3 - اختلف الفقهاء في حكم غسل العضو النّابت في المنكب عند الوضوء .
فيرى الحنفيّة أنّه لو خلق له يدان على المنكب فالتّامّة هي الأصليّة يجب غسلها والأخرى زائدة فما حاذى منها محلّ الفرض وجب غسله وإلّا فلا يجب بل يندب غسله .
وقال المالكيّة : ويغسل المتوضّئُ يديه مع المرفقين ويغسل بقيّة معصم إن قطع المعصم كما يغسل كفاً خلقت بمنكب أي مفصل العضد من الكتف إذا لم يكن له يد غيرها ، فإن كان له يد غيرها وكان لها مرفق أو نبتت في محلّ الفرض وجب غسلها أيضاً .
وقال الشّافعيّة : إن نبت بغير محلّ الفرض إصبع زائدة أو سَلعة وجب غسل ما حاذى منها محلّ الفرض لوقوع اسم اليد عليه مع محاذاته لمحلّ الفرض بخلاف ما لم يحاذه ، فإن لم تتميّز الزّائدة عن الأصليّة بأن كانتا أصليّتين أو إحداهما زائدةً ولم تتميّز بنحو فحش قصر ونقص أصابع وضعف بطشٍ غسلهما وجوباً سواء أخرجتا من المنكب أم من غيره ليتحقّق الإتيان بالفرض بخلاف نظيره في السّرقة . وإن كانت له يدان متساويتان في البطش والخلقة على منكب ، أو مرفق لزمه غسلهما ، لوقوع اسم اليد عليهما . وإن كانت إحداهما تامّةً والأخرى ناقصةً فالتّامّة هي الأصليّة ، فيجب غسلها ، وأمّا النّاقصة فإن خلقت في محلّ الفرض وجب غسلها بلا خلاف عندهم أيضاً كالإصبع الزّائدة ، قال الرّافعي وغيره : وسواء جاوز طولها الأصليّة أم لا ، قال : ومن العلامات المميّزة للزّائدة أن تكون فاحشة القصر والأخرى معتدلةً ، ومنها : فقد البطش وضعفه ونقص الأصابع .
وقال الحنابلة : وإن خلقت له إصبع زائدة أو يد زائدة في محلّ الفرض وجب غسلها مع الأصليّة لأنّها نابتة فيه ، شبهت الثؤلول ، وإن كانت نابتةً في غير محلّ الفرض كالعضد أو المنكب لم يجب غسلها سواء كانت قصيرةً أو طويلةً ؛ لأنّها في غير محلّ الفرض فأشبهت شعر الرّأس إذا نزل عن الوجه قال ابن قدامة : وهذا قول ابن حامد وابن عقيل ، وقال القاضي : إن كان بعضها يحاذي محلّ الفرض غسل ما يحاذيه منها والأوّل أصح .
ج - غسل المنكب عند قطع اليد من المرفق :
4 - اختلف الفقهاء في حكم غسل المنكب في الوضوء عند قطع اليد من المرفق .
فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ من قطعت يده ولم يبق من المرفق شيء سقط الغسل لعدم محلّه ، وإن قطعت يده من دون المرفق وجب غسل ما بقي من محلّ الفرض . ويرى الشّافعيّة أنّ من قطع من منكبيه ندب غسل محلّ القطع بالماء .
أحكام المنكب في الصّلاة :
أ - رفع اليدين حذو المنكبين عند تكبيرة الإحرام :
5 - اختلف الفقهاء في المدى الّذي ترفع إليه اليدان عند تكبيرة الإحرام هل ترفع إلى شحمتي الأذنين أو إلى المنكبين ، وهل يستوي في ذلك الرّجل والمرأة ؟
ينظر تفصيله في ( صلاة ف / 57 وما بعدها ) .
ب - رفع اليدين حذو المنكبين عند تكبيرات الانتقال :
6 - اتّفق القائلون برفع اليدين عند تكبيرات الانتقال على كون حكم رفعها كحكم الرّفع في تكبيرة الإحرام واختلفوا في صفة محاذاة اليدين إلى المنكبين عند الرّفع .
والتّفصيل في ( صلاة ف / 60 - 61 ، 73 ) .
ج - وضع اليدين حذو المنكبين في السجود :
7 - اختلف الفقهاء في الموضع الّذي يضع فيه المصلّي يديه عند سجوده :(/1)
فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يستحب للسّاجد أن يضع يديه حذو منكبيه : أي مقابلهما لحديث : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض ونحّى يديه عن جنبيه ووضع يديه حذو منكبيه » .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه يسن للمصلّي أن يضع وجهه بين كفّيه بحيث يكون إبهاماه حذاء أذنيه لحديث وائل بن حُجْرٍ : « أنّه عليه الصّلاة والسّلام كان إذا سجد وضع وجهه بين كفّيه» ، وقال ابن الهمام : ومن يضع كذلك تكون يداه حذاء أذنيه ؛ ولما ورد عن أبي إسحاق قال : « سألت البراء بن عازب : أين كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يضع جبهته إذا صلّى ؟ قال بين كفّيه » .
وذهب المالكيّة إلى أنّه يندب للسّاجد أن يضع يديه حذو أذنيه أو قربهما .
قال الخرشي : وظاهر كلام خليل كالرّسالة تساوي الحالتين في الحكم ، ولم يعلم من كلامهما مقدار القرب الّذي يقوم مقام المحاذاة في النّدب فإنّه يحتمل أن يكون بحيث تكون أطراف أصابعه محاذيةً لهما ، ويحتمل غير ذلك .
وقال ابن ناجي : ويحتمل أنّ في المسألة قولين ، قال العدوّي : نعم قول القيروانيّ " أو دون ذلك " يحتمل المنكبين أو الصّدر وهو الأقرب ، فقد قال بحذو المنكبين ابن مسلمة ، وقال بحذو الصّدر ابن شعبان .
د - محاذاة المناكب في صفوف صلاة الجماعة :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّه يستحب في تسوية صفوف صلاة الجماعة محاذاة المناكب وإلزاق كلّ واحد منكبه بمنكب صاحبه في الصّفّ وذلك حتّى لا يكون خلل أو فرجٌ في الصفوف لحديث أنسٍ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أقيموا صفوفكم فإنّي أراكم من وراء ظهري ، وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه » . ولحديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : « أقبل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على النّاس بوجهه فقال : أقيموا صفوفكم ثلاثاً واللّه لتقيمنّ صفوفكم أو ليخالفن اللّه بين قلوبكم ، قال : فرأيت الرّجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه ، وركبته بركبة صاحبه ، وكعبه بكعبه » ، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « أقيموا الصفوف ، وحاذوا بين المناكب ، وسدوا الخلل ، ولينوا بأيدي إخوانكم ، ولا تذروا فرجاتٍ للشّيطان ، ومن وصل صفاً وصله اللّه ومن قطع صفاً قطعه اللّه » .
والتّفصيل في مصطلح ( صلاة الجماعة ف / 24 ) .
الجناية على المنكب :
9 - الجناية على المنكب إمّا أن تكون عمداً أو خطأً .
فإذا كانت الجناية على المنكب عمداً وكان القطع من مفصل المنكب يجب القصاص عند توافر شروطه .
( ر : جناية على ما دون النّفس ف / 13 وما بعدها ) .
أمّا إذا أدّت الجناية إلى قطع اليد من المنكب خطأً فقد اتّفق الفقهاء على وجوب نصف الدّية فيها واختلفوا في وجوب حكومة عدل فيما زاد على الكفّ إلى المنكب .
وللتّفصيل ( ر : ديات ف / 43 ) .(/2)
مَواطِن الإجابة *
التّعريف :
1 - المواطن جمع الموطن ، والموطن : اسم المكان من وَطَنَ يقال : وَطَنَ فلانٌ بالمكان ، وأوطن : إذا قام به ، وأوطنه أيضاً : اتّخذه وطناً .
والوَطَن : المنزل تقيم به ، وهو موطنُ الإنسان ومحله . ويقال : أوطَنَ فلانٌ أرض كذا ، أي اتّخذها محلاً ومسكناً يقيم فيها .
والموطن أيضاً : الموقف والمشهد من مشاهد الحرب . قال اللّه تعالى : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } ، وإذا اتّخذ الرّجل مكاناً معلوماً من المسجد مخصوصاً به يصلّي فيه ، قيل : أوطَنَ فيه ، وفي الحديث : « نهى النّبي صلى الله عليه وسلم صلّى اللّه عليه وسلّم عن نُقرة الغراب , وافتراش السّبع وأن يوطِنَ الرّجل المكان في المسجد كما يوطِنُ البعير » ، أي كالبعير لا يأوي من العطن إلّا إلى مبركٍ قد أوطنه واتّخذه مُناخاً . والإجابة المقصودة هنا : إجابة اللّه تبارك وتعالى دعاءَ الدّاعين .
ومواطن الإجابة على هذا : هي المظانُّ الّتي يغلب على الظّنّ أنَّ من دعا فيها استُجيب له . حكم تحرّي الدعاء في مواطن الإجابة :
2 - تحرِّي الدعاء في مواطن الإجابة مستحب ، ويفهم الاستحباب من مختلف الصّيغ الواردة في الكتاب والسنَّة ، كالثّناء على فاعله في مثل قول اللّه تعالى : { وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ، وكالتّخصيص في نحو قوله تعالى في الحديث القدسيّ : « من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له » ، وربّما صرّحت بعض الأحاديث بالأمر المفيد للاستحباب ، كما في حديث عمرو بن عبسة أنّه سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : « أقرب ما يكون الرّب من العبد في جوف اللّيل الآخر ، فإن استطعت أن تكون ممّن يذكر اللّه في تلك السّاعة فكن » .
قال الغزالي : من آداب الدعاء أن يترصَّد لدعائه الأوقات الشّريفة ، كيوم عرفة من السّنة ، ويوم الجمعة من كلّ أسبوع ، ووقت السّحر من ساعات اللّيل .
وقال النّووي : قال أصحابنا - يعني الشّافعيّة - يستحب أن يكثر في ليلة القدر من الدّعوات المستحبَّة ، وفي المواطن الشّريفة .
وقال البهوتي : يتحرَّى الدّاعي أوقات الإجابة كالثلث الأخير من اللّيل ، وعند الأذان والإقامة.
3 - وليس معنى كون الزّمان المعيَّن أو المكان المعيَّن موطناً للإجابة أنّ حصول المطلوب بالدعاء متعيِّن بكلّ حال ، بل المراد أنّه أرجى من غيره .
قال ابن حجر في شرح حديث : « ينزل ربنا . . . » : لا يعترض على ذلك بتخلُّفه عن بعض الدّاعين ؛ لأنّ سبب التّخلُّف وقوع الخلل في شرطٍ من شروط الدعاء ، كالاحتراز في المطعم والمشرب والملبس ، أو لاستعجال الدّاعي ، أو بأن يكون الدعاء بإثم أو قطيعة رحم، أو تحصل الإجابة به ويتأخّر وجود المطلوب لمصلحة العبد ، أو لأمر يريده اللّه تعالى ، ويدل على ذلك حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم ، إلّا أعطاه اللّه بها إحدى ثلاث : إمّا أن تعجّل له دعوته ، وإمّا أن يدّخرها له في الآخرة ، وإمّا أن يصرف عنه من السوء مثلها ، قالوا : إذاً نكثر ؟ قال : اللّه أكثر » .
واللّه تعالى وعد الدّاعي بأن يستجيب له ، وعداً مطلقاً غير مقيَّد بزمان أو مكان أو حال ، قال تعالى : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ، وقال { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } .
فإجابته للدعاء في كلّ وقتٍ توجّه إليه فيه العبد بالدعاء ، ولذا كان تخصيص موطن معيَّن بالإجابة دالاً على تأكدها فيه ، وليس المراد الحصر ونفي الإجابة عمّا عداه .
أنواع مواطن الإجابة :
4 - مواطن الإجابة ثلاثة أنواع :
أ - أوقات شريفة اختصَّها اللّه تعالى بأن جعلها مواسم لهذه الأمّة تحصّل بها رضوان اللّه تعالى بذكره ودعائه ، كما قال تعالى في مناسك الحجّ : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ } .
ب - أماكن شريفة خصَّها اللّه تعالى بذلك ، وهي مواطن محدودة يكون فيها الدّاعي متلبّساً بعبادة أخرى .
ج - أحوال معيّنة يرجى فيها قبول الدعاء .
منها الدعاء عند زحف الصفوف في سبيل اللّه تعالى ، وعند نزول الغيث ، وعند إقامة الصّلوات المكتوبة .
والدعاء بعرفة مثال لما اجتمع فيه شرف الزّمان وشرف المكان وشرف الحال .
قال الغزالي : وبالحقيقة يرجع شرف الأوقات إلى شرف الأحوال ، إذ وقت السّحر وقت صفاء القلب وإخلاصه ، وفراغه من المشوّشات ، ويوم عرفة ويوم الجمعة وقت اجتماع الهمم وتعاون القلوب على استدرار رحمة اللّه عزّ وجلّ . قال : فهذا أحد أسباب شرف الأوقات ، سوى ما فيها من أسرار لا يطّلع البشر عليها .
وفي كل من هذه المواطن تفصيل بيانه فيما يلي :
أوّلاً - المواطن الزّمانيّة :
أ - ثلث اللّيل الآخر :
5 - ثلث اللّيل الآخر من مواطن الإجابة ، ودليل ذلك ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ينزل ربنا تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السّماء الدنيا حين يبقى ثلث اللّيل الآخر ، يقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له » . وفي رواية : « حتّى ينفجر الفجر » .(/1)
ونقل ابن حجر عن الزهريّ أنّه قال : ولذلك كانوا يفضّلون صلاة آخر اللّيل على أوّله . وذهب بعض العلماء إلى أنّ هذا الوقت يبدأ من منتصف اللّيل إلى أن يبقى من اللّيل سدسه ، ثمّ يبدأ وقت السّحر ، وهو موطن آخر ، لما روى عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال : « قلت : يا رسول اللّه أي اللّيل أسمع ؟ قال : جوف اللّيل الآخر » .
على أنّه قد ورد من حديث جابر رضي الله عنه قال : سمعنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « إنّ في اللّيلة لساعةً لا يوافقها رجل مسلم يسأل اللّه خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلّا أعطاه إيّاه ، وذلك كلّ ليلة » ، وهو يعني أنّ اللّيل كلّه مظنَّة إجابة .
ب - وقت السَّحر :
6 - السّحر هو آخر اللّيل قبل أن يطلع الفجر .
وقيل : هو من ثلث اللّيل الآخر إلى طلوع الفجر .
ويرى الغزالي أنّه السدس الأخير من اللّيل .
قال القرطبي : هو وقت ترجى فيه إجابة الدعاء ، ونقل عن الحسن في قوله تعالى : { كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ، قال : مدوا الصّلاة من أوّل اللّيل إلى السّحر ، ثمّ استغفروا في السّحر .
ج - بعد الزّوال :
7 - قال النّووي : يستحب الإكثار من الأذكار وغيرها من العبادات عقب الزّوال لما رُوِّينا عن عبد اللّه بن السّائب رضي الله عنه « أنَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يصلّي أربعاً بعد أن تزول الشّمس قبل الظهر ، وقال : إنّها ساعة تفتح فيها أبواب السّماء ، وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح » .
د - يوم الجمعة وليلتها وساعة الجمعة :
8 - ورد الحديث بأنّ « يوم الجمعة خير يوم طلعت عليه الشّمس » ، وورد حديثٌ في قبول الدعاء يوم الجمعة من غير نظر إلى ساعة الجمعة .
أمّا ساعة الجمعة ، فقال الشّوكاني : تواترت النصوص بأنّ في يوم الجمعة ساعةً لا يسأل العبد فيها ربّه شيئاً إلّا أعطاه إيّاه .
وقد روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم صلى الله عليه وسلم من طرقٍ عن عدد من الصّحابة رضي الله عنهم ذكر ساعة الإجابة يوم الجمعة ، منها ما روى أبو هريرة رضي الله عنه : رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذكر يوم الجمعة فقال : « فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلّي يسأل اللّه تعالى شيئاً إلّا أعطاه إيّاه . وأشار بيده يقلِّلها » .
وعن أبي لبابة البدريّ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ يوم الجمعة سيِّد الأيّام وأعظمها عند اللّه . . . فيه خمس خلال فذكر منهنّ : وفيه ساعة لا يسأل اللّه فيها العبد شيئاً إلّا أعطاه ما لم يسأل حراماً » .
واختلف الفقهاء والمحدّثون في تعيين السّاعة المذكورة على أكثر من أربعين قولاً ، عدّدها الشّوكاني ، ونقل عن المحبّ الطّبريّ أنّه قال : أصح الأحاديث في تعيينها حديث أبي موسى رضي الله عنه أنّه سمع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم صلى الله عليه وسلم يقول في ساعة الجمعة : « هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصّلاة » ، واختار ذلك النّووي أيضاً.
وأمّا ليلة الجمعة ، فقد روي من حديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم صلى الله عليه وسلم قال لعليّ رضي الله عنه : « إنّ في ليلة الجمعة ساعةً الدعاء فيها مستجاب » . نقله الشّوكاني في تحفة الذّاكرين .
هـ - أيّام رمضان ولياليه وليلة القدر :
9 - فضل رمضان معروف . واستدلَّ بعضهم لإجابة الدعاء فيه بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صلى الله عليه وسلم : « ثلاثة لا ترد دعوتهم الصّائم حتّى يفطر . . . » .
وأمّا ليلة القدر ، فقد ورد فيها عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : « يا رسول اللّه أرأيتَ إن علمتُ أي ليلةٍ ليلةُ القدر ما أقول فيها ؟ قال : قولي : اللَّهُمَّ إنّك عفو كريم تحب العفو فاعفُ عنّي » .
وإنّما كانت موطناً ؛ لإجابة الدعاء لأنّها ليلة مباركة تتنزّل فيها الملائكة ، جعلها اللّه تعالى لهذه الأمّة خيراً من ألف شهر ، وقال تعالى في شأنها : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } ، قال الشّوكاني : وشرفها مستلزم لقبول دعاء الدّاعين فيها ، ولهذا أمرهم النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم صلى الله عليه وسلم بالتماسها ، وحرّض الصّحابة على ذلك .
وقد روي ما يدل على أنّ الدعاء فيها مجاب .
ونقل النّووي عن الشّافعيّ : أستحبُّ أن يكون اجتهاده في يومها كاجتهاده في ليلتها .
ثانياً - المواطن المكانيّة :
أ - الملتزم :
10 - الملتزم هو ما بين الركن الّذي فيه الحجر الأسود وباب الكعبة ، جاء عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه كان يلزم ما بين الركن والباب ، وكان يقول : ما بين الركن والباب ، يُدعى الملتزم ، لا يلزم ما بينهما أحدٌ يسأل اللّه شيئاً إلّا أعطاه إيّاه .
ونقل ابن جماعة عن ابن حبيب من المالكيّة أنّ الملتزم الموضع الّذي يُعتَنق ويُلِحُّ الدّاعي فيه بالدعاء ، قال : وقد سمعت مالكاً يستحب ذلك .
ب - عرفة :
11 - نبّه النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم صلى الله عليه وسلم إلى اغتنام الدعاء في هذا الموطن بقوله : « خير الدعاء دعاء يوم عرفة ، وخير ما قلت أنا والنّبيُّون من قبلي : لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كلّ شيء قدير » ، قال الشّوكاني : ثبت ما يدل على فضيلة هذا اليوم وشرفه حتّى كان « صومه يكفّر سنتين » ، وورد في فضله ما هو معروف ، وذلك يستلزم إجابة الدّاعين فيه .
ج - مشاعر الحجّ :(/2)
12 - الحج من أعظم الأعمال المقرّبة إلى اللّه تعالى ، نقل النّووي عن الحسن البصريّ أنّه قال : الدعاء هنالك يستجاب في خمسة عشر موضعاً : في الطّواف ، وعند الملتزم ، وتحت الميزاب ، وفي البيت ، وعند زمزم ، وعلى الصّفا والمروة ، وفي المسعى ، وخلف الإمام ، وفي عرفاتٍ ، وفي المزدلفة ، وفي منىً ، وعند الجمرات الثّلاث .
ثالثاً - الأحوال الّتي هي مظنّة الإجابة :
أ - الدعاء بين الأذان والإقامة وبعدها :
13 - الأذان من أعظم الشّعائر ، يُذكرُ فيه اللّه تعالى بالتّوحيد ، ويُشهد لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالرّسالة ، ويُنشر ذلك على رءوس النّاس بالصّوت الرّفيع إلى المدى البعيد ، ويُدعى عباد اللّه لإقامة ذكر اللّه ، وقد ورد من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « ثنتان لا تردّان أو قلّما تردّان : الدعاء عند النّداء ، وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً » .
وورد من حديث أنسٍ رضي الله عنه أنّه عليه الصلاة والسلام قال : « الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة » .
وروي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص : « أنّ رجلاً قال : يا رسول اللّه إنّ المؤذّنين يفضلوننا ، قال : قل كما يقولون ، فإذا انتهيت فسلْ تُعْطَه » .
وورد أيضاً استجابة الدعاء بعد الإقامة ، وهو حديث سهل بن سعد رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ساعتان تفتح فيهما أبواب السّماء : عند حضور الصّلاة ، وعند الصّفّ في سبيل اللّه » .
ب - الدعاء حال السجود :
14 - وإنّما كان السجود مظنّة الإجابة ؛ لأنّ فيه يتمثّل كمال العبوديّة والتّذلُّل والخضوع للّه تعالى ، يضع العبد أكرم ما فيه ، وهو جبهته ووجهه على الأرض وهي موطئُ الأقدام ، تعظيماً لربّه تبارك وتعالى ، ومع كمال التّذلل والتّعظيم يزداد القرب والمكانة من ربّ العزّة ، فيكون ذاك مظنَّة عود اللّه تعالى على عبده بالرّحمة والمغفرة والقبول ، ولهذا قال النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « إنّي نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً ، فأمّا الركوع فعظّموا فيه الرّبّ عزّ وجلّ ، وأمّا السجود فاجتهدوا في الدعاء ، فقَمِنٌ أن يستجاب لكم » ، وروى أبو هريرة أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد فأكثروا الدعاء » .
ولا فرق في ذلك بين سجود الفرض وسجود النّفل ، إلّا ما قاله القاضي من الحنابلة من أنّه لا يستحب الزّيادة على " سبحان ربّي الأعلى " في الفرض ، وفي التّطوع روايتان .
ونصّ المالكيّة والشّافعيّة على أنّه يندب الدعاء في السجود .
وزاد الشّافعيّة : بدينيّ أو دنيوي إن كان منفرداً أو إماماً لمحصورين ، أو لم يحصل بالدعاء طول ، وإلّا فلا .
ج - الدعاء بعد الصّلاة المفروضة :
15 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنَّ ما بعد الصّلاة المفروضة موطن من مواطن إجابة الدعاء ؛ لما روي من حديث مسلم بن الحارث رضي الله عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه أسر إليه فقال : « إذا انصرفت من صلاة المغرب ، فقل : اللَّهُمَّ أجرني من النّار ، سبع مرَّاتٍ ، فإنّك إذا قلت ذلك ثمّ متَّ من ليلتك كتب لك جوار منها ، وإذا صلّيت الصبح فقل كذلك ، فإنّك إن متّ في يومك كتب لك جوار منها » .
وورد ما يدل على أنّ الدعاء في دبر الصّلوات المكتوبة على العموم ، فيها أسمع من غيرها، وهو ما روي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أنّه قال : « قيل : يا رسول اللّه ، أيُّ الدعاء أسمعُ ؟ قال : جوف اللّيل الآخر ، ودبر الصّلوات المكتوبات » .
وقد نقل الغزالي عن مجاهد قال : إنَّ الصّلوات جعلت في خير الأوقات ، فعليكم بالدعاء خلف الصّلوات .
وروي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه مرفوعاً : « من صلّى صلاة فريضة فله دعوة مستجابة ، ومن ختم القرآن فله دعوة مستجابة » .
د - حال الصّوم وحال الإفطار من الصّوم :
16 - أمر اللّه بصوم رمضان ، وذكر إكمال العدّة ثمّ قال : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } . وفي ذلك إشارة إلى المعنى المذكور . قال ابن كثير : في ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخلّلةً بين أحكام الصّيام إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدّة ، بل وعند كلّ فطر؛ لما روى عبد اللّه بن عمرو رضي الله عنهما قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « للصّائم عند إفطاره دعوة مستجابة ، فكان عبد اللّه بن عمرو رضي الله عنهما إذا أفطر دعا أهله وولده ثمّ دعا » ولما روي أيضاً : « إنّ للصّائم عند فطره دعوةً ما تُرَدّ » .
هـ - الدعاء بعد قراءة القرآن وبعد ختمه :
17 - دلّ على استجابة الدعاء بعد قراءة القرآن وبعد ختمه ما روي من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أنّه قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « من قرأ القرآن فليسأل اللّه به ، فإنّه سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به النّاس » , وحديث العرباض بن سارية : « من ختم القرآن فله دعوة مستجابة » .
و - دعوة المسافر :
18 - السّفر من مواطن الإجابة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : « ثلاث دعواتٍ مستجابات : دعوة المظلوم ، ودعوة المسافر ، ودعوة الوالد على ولده » . قال ابن علَّان : المراد المسافر إن لم يكن عاصياً بسفره كما هو ظاهر ، والولد إن كان ظالماً لأبيه عاقاً له .
ز - الدعاء عند القتال في سبيل اللّه :(/3)
19 - القتال في سبيل اللّه موضع إجابة ؛ لأنّ المجاهد في سبيل اللّه باذلٌ نفسه وماله في مرضاة ربّه ، وباذل جهده كلّه لرفع كلمة اللّه تعالى .
وقد روي من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أنَّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « ساعتان تفتح فيهما أبواب السّماء : عند حضور الصّلاة ، وعند الصّفّ في سبيل اللّه » ، وفي رواية قال : « وعند البأس حين يُلحِم بعضهم بعضاً » .
وروي أنّ النّبيّ قال : « أطلبوا الدعاء عند التقاء الجيوش ، وإقامة الصّلاة ونزول الغيث ».
ج - حال اجتماع المسلمين في مجالس الذّكر :
20 - اجتماع المسلمين في مجالس الذّكر من مواطن الإجابة لحديث : « لا يقعد قوم يذكرون اللّه عزَّ وجلّ إلّا حفّتهم الملائكة وغشيتهم الرّحمة ، ونزلت عليهم السّكينة ، وذكرهم اللّه فيمن عنده » . ولحديث : « إنّ اللّه تعالى يقول لملائكته : قد غفرت لهم ، فيقولون : ربّ فيهم فلان ، عبد خطّاء ، إنّما مرّ فجلس معهم ، قال : فيقول : وله غفرت ، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم » ، ولحديث أمّ عطيّة في خروج النّساء يوم العيد وفيه : « يشهدن الخير ودعوة المسلمين » . قال الشّوكاني : فهذا دليل على أنّ مجامع المسلمين - أي للذّكر - من مواطن الدعاء .
ط - دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب :
21 - ورد في استجابة دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب حديث أبي الدّرداء مرفوعاً : « دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة ، عند رأسه ملكٌ موكّل ، كلَّما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكّل به : آمين ، ولك بمثل » .
ي - دعوة الوالد لولده وعليه :
22 - ورد في حديث أبي هريرة : « ثلاث دعواتٍ مستجابات : دعوة المظلوم ، ودعوة المسافر ، ودعوة الوالد على ولده » .
قال ابن علّان في دعوة الوالد على ولده : أي إن كان الولد ظالماً لأبيه عاقاً له .
ك - دعوة المظلوم ودعوة المضطرّ والمكروب :
23 - دعوة المظلوم ورد فيها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم صلى الله عليه وسلم قال : « دعوة المظلوم مستجابة ، وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه » .
وفي حديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أرسل معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن ، فذكر ما أوصاه به ، وفيه : « واتّق دعوة المظلوم ، فإنّه ليس بينها وبين اللّه حجاب » ، وفي حديث أبي هريرة : « دعوة المظلوم يرفعها اللّه فوق الغمام ويفتح لها أبواب السّماء ، ويقول الرّب : وعزَّتي لأنصرنَّك ولو بعد حين » .
وأمّا المضطر ، فقد قال اللّه تعالى : { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } .
وأمّا المكروب الّذي لا يجد له فرجاً إلّا من عند اللّه ، فيدل لكونه مجاب الدّعوة قوله تعالى : { وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ } .
وفي قوله { وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ } بيان أنّ هذه الاستجابة عامّة لكلّ من كان في مثل حال يونس عليه السلام من الإخلاص وإفراد اللّه تعالى بالرّجاء والتّوجُه الصّادق .
ل - الدعاء عند نزول الغيث :
24 - قال النّووي : روى الشّافعي في " الأمّ " بإسناده حديثاً مرسلاً عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أطلبوا إجابة الدعاء عند التقاء الجيوش ، وإقامة الصّلاة ، ونزول الغيث» . قال الشّافعي : وقد حفظت عن غير واحد طلب الإجابة عند نزول الغيث وإقامة الصّلاة .
وممّا يؤكّد صحّة ذلك ما في بعض روايات حديث سهل بن سعد رضي الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم : « وتحت المطر » .
م - دعوة المريض :
25 - المرض من مواطن الإجابة لحديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا دخلت على مريض فمره فليدع لك ، فإنّ دعاءه كدعاء الملائكة » .
قال ابن علّان : وذلك لأنّه مضطر ودعاؤه أسرع إجابةً من غيره ، ونقل عن المرقاة أنّه شبه الملائكة في التّنقّي من الذنوب ، أو في دوام الذّكر والتّضرُّع واللّجأ .
ن - حال أولياء اللّه :
26 - ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يقول اللّه تعالى : من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرّب إليَّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرّب إليَّ بالنّوافل حتّى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به ، وبصره الّذي يبصر به ، ويده الّتي يبطش بها ، ورجله الّتي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذ بي لأعيذنه . . . » . قال ابن القيّم : ولمّا حصلت هذه الموافقة للعبد مع ربّه تعالى في محابّه حصلت موافقة الرّبّ لعبده في حوائجه ومطالبه ، أي : كما وافقني في مرادي بامتثال أوامري والتّقرُّب إليّ بمحابّي ، فأنا أوافقه في رغبته ورهبته فيما يسألني أن أفعل به ، ويستعيذني أن يناله مكروه .
س - حال المجتهد في الدعاء إذا وافق اسم اللّه الأعظم :
27 - يشهد لذلك حديث بريدة الأسلميّ « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو وهو يقول : اللَّهُمَّ إنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك أنت اللّه لا إله إلّا أنت ، الأحد الصّمد الّذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد . . . فقال : لقد سأل اللّه باسمه الأعظم الّذي إذا سُئل به أعطى وإذا دُعي به أجاب » . وفي لفظٍ : « والّذي نفسي بيده لقد سأل اللّه باسمه الأعظم » .(/4)
ويشهد لذلك أيضاً حديث أنس بن مالك رضي الله عنه « أنّه كان مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ورجل يصلّي ، ثمّ دعا فقال : اللَّهُمَّ إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلّا أنت المنَّان بديع السّماوات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا حي يا قيُّوم ، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : تدرون بما دعا ؟ قالوا : اللّه ورسوله أعلم . قال : والّذي نفسي بيده، لقد دعا اللّه باسمه العظيم الّذي إذا دُعي به أجاب وإذا سُئل به أعطى » .(/5)
مَواقِيت *
التّعريف :
1 - المواقيت في اللغة : جمع ميقاتٍ ، ولفظ ميقاتٍ مصدر ميميّ ، وهو يطلق على الزّمان والمكان .
فالميقات والموقوت بمعنى واحد ، وهو الشّيء المحدود زماناً أو مكاناً .
فمن أمثلته للزّمان قوله تعالى : { إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتاً } ، أي مفروضاً ، أو لها وقت كوقت الحجّ .
ومن استعماله للمكان ما جاء في الحديث « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة » .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
ما يتعلّق بالمواقيت من أحكام :
مواقيت الصّلاة :
2 - ممّا هو متّفق عليه بين أهل العلم أنّ دخول الوقت من شروط صحّة الصّلاة ، ودليل ذلك من الكتاب قوله تعالى : { إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتاً } .
ومن السنّة حديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أمَّني جبريل عليه السلام عند البيت مرّتين ، فصلَّى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشّراك ، ثمّ صلّى العصر حين كان كل شيء مثل ظلّه ، ثمّ صلّى المغرب حين وجبت الشّمس وأفطر الصّائم ، ثمّ صلّى العشاء حين غاب الشّفق ، ثمّ صلّى الفجر حين برق الفجر وحرم الطّعام على الصّائم ، وصلّى المرّة الثّانية الظهر حين كان ظل كلّ شيء مثله لوقت العصر بالأمس ، ثمّ صلّى العصر حين كان ظل كلّ شيء مثليه ، ثمّ صلّى المغرب لوقته الأوّل ، ثمّ صلّى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث اللّيل ، ثمّ صلَّى الصبح حين أسفرت الأرض، ثمّ التفتَ إليّ جبريل فقال : يا محمّد ، هذا وقت الأنبياء من قبلك ، والوقت فيما بين هذين الوقتين » .
وتفصيل مواقيت الصّلاة في مصطلح ( أوقات الصّلاة ف / 3 وما بعدها ) .
وقت الجمعة :
3 - وقت الجمعة عند الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة بعد الزّوال ، ولا يجوز أداؤها قبل ذلك .
ووقت الجمعة عند الحنابلة : جوازاً قبل الزّوال .
وتفصيل ذلك في ( صلاة الجمعة ف / 10 ) .
وقت صلاة العيدين :
4 - ذهب فقهاء الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة ، وهو وجه في مذهب الشّافعيّة : إلى أنّ أوّل وقت صلاة العيدين بعد طلوع الشّمس وابيضاضها .
وذهب قوم إلى أنّ أوّل وقتها أوّل طلوع الشّمس ، وهو الصّحيح من مذهب الشّافعيّة . وتفصيل ذلك في مصطلح ( صلاة العيدين ف / 6 ) .
الأوقات الّتي نهي عن الصّلاة فيها :
5 - هناك أوقات نهى الشّارع عن الصّلاة فيها أتفق على بعضها ، واختلف في بعضها الآخر .
وتفصيل ذلك في ( أوقات الصّلاة ف / 23 وما بعدها ) .
وقت زكاة الفطر :
6 - وقت وجوب زكاة الفطر عند الحنفيّة بطلوع الفجر من يوم عيد الفطر ، وبه قال مالك في رواية عنه .
وذهب الشّافعيّة في الأظهر والحنابلة إلى أنّ الوجوب بغروب شمس آخر يوم من رمضان وهو أحد قولين للمالكيّة .
وتفصيل ذلك في ( زكاة الفطر ف / 8 ) .
وقت الأضحية :
7 - اتّفق الفقهاء على أنّ وقت الأضحية هو يوم العاشر من ذي الحجّة ، ولا تجوز قبله . واختلفوا في وقت مشروعيّة بدايتها على مذاهب تفصيلها في ( أضحية ف / 39 ) .
وقت الإهلال بالحجّ :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّ الإهلال بالحجّ يكون في أشهر الحجّ ؛ لأنّها الميقات الزّمني للحجّ وأشهر الحجّ تبدأ بهلال شوّال .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( حجٌّ ف / 34 ) .
وقت الوقوف بعرفة :
9 - الوقوف بأرض عرفة من يوم عرفة هو ميقات زمانيّ ومكانيّ .
ووقت الوقوف يبدأ من زوال التّاسع من ذي الحجّة ، ويستمر إلى قبل فجر العاشر من ذي الحجّة .
وتفصيله في ( حجٌّ ف / 55 ) .
وقت المبيت بمزدلفة :
15 - مزدلفة : ميقات زمانيّ ومكانيّ أيضاً ، ووقت المبيت بها يبدأ من بعد غروب يوم التّاسع من ذي الحجّة إلى قبيل طلوع الشّمس من يوم النّحر .
وتفصيل ذلك في ( حجٌّ ف / 99 ) .
وقت الرّمي :
11 - وقت رمي جمرة العقبة يبدأ وقت السنّيّة فيه من بعد طلوع الشّمس من يوم العاشر من ذي الحجّة إلى وقت الزّوال ، وما بعد الزّوال إلى الغروب فعلى الجواز ، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم .
ووقت رمي الجمرات يبدأ من زوال اليوم الحادي عشر ويمتد إلى الغروب . وهذا هو السنّة في الرّمي لأيّام التّشريق الثّلاثة .
وتفصيل ذلك في ( حجٌّ ف / 60 - 61 ) .
وقت طواف الإفاضة :
12 - طواف الإفاضة هو ثاني الركنين المتّفق عليهما بين الفقهاء .
وقد اختلفوا في أوّل وقت مشروعيّته ، كما اختلفوا في نهاية وقته .
وتفصيله في مصطلح ( حجٌّ ف / 52 - 55124 ) .
المواقيت المكانيّة في الحجّ :
13 - المواقيت المكانيّة ثلاثة : مواقيت الآفاقيّين ، وميقات الميقاتيّين ، وميقات المكّيّين . وتفصيل ذلك في ( إحرام ف / 39 - 41 ) .(/1)
مَوْت *
التّعريف :
1 - الموت في اللغة : ضدّ الحياة . يقال : ماتَ يموتُ فهو مَيِّت ومَيْت ومن أسمائه : المَنُون ، والمَنَا ، والمَنيَّة ، والشَّعُوب ، والسَّام ، والحِمَام ، والحَيْن ، والرّدى ، والهلاك ، والثُكل ، والوفاة ، والخَبَال .
وفي مقاييس اللغة : الميم والواو والتّاء أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على ذهاب القوّة من الشّيء ، ومنه الموت ، خلاف الحياة .
والموت في الاصطلاح هو : مفارقة الروح للجسد . قال الغزالي : ومعنى مفارقتها للجسد انقطاعُ تصرفها عن الجسد ، بخروج الجسد عن طاعتها .
علامات الموت :
2 - نظراً لتعذر إدراك كُنْه الموت ، فقد علَّق الفقهاء الأحكام الشّرعيّة المترتِّبة عليه بظهور أمارته في البدن ، فقال ابن قدامة : إذا اشتبه أمر الميّت اعتبر بظهور أمارات الموت ، من استرخاء رجليه ، وانفصال كفَّيه ، وميل أنفه ، وامتداد جلدة وجهه ، وانخساف صدغيه .
وجاء في روضة الطّالبين : تستحبُّ المبادرة إلى غسله وتجهيزه إذ تحقَّق موته ، بأن يموت بِعِلَّة ، وتظهر أمارات الموت ، بأن تسترخي قدماه ولا تنتصبا ، أو يميل أنفه ، أو ينخسف صدغاه ، أو تمتدُّ جلدةُ وجهه ، أو ينخلع كفَّاه من ذراعيه ، أو تتقلَّص خصيتاه إلى فوق مع تدلّي الجلدة . . . إلخ .
هذا ، وقد نبَّه النّبي صلى الله عليه وسلم إلى أنّ شخوص بصر المحتضر علامة ظاهرة على قبض روحه ومفارقتها لجسده ، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّ الروح إذا قُبض تبعه البصر » .
وقال صلى الله عليه وسلم : « إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر فإنّ البصر يتبع الروح».
هل الموت للبدن والروح أو للبدن وحده ؟
3 - نصَّ جمهور علماء أهل السنّة والجماعة على أنّ الأرواح بعد الموت باقية غير فانية ، إمّا في نعيم مقيم ، وإمّا في عذاب أليم ، قال في الإحياء : الّذي تشهد له طرق الاعتبار ، وتنطق به الآيات والأخبار أنّ الموت معناه تغيرُّ حال فقط ، وأنّ الروح باقية بعد مفارقة الجسد ، إمّا معذّبة ، وإمّا منعّمة . قال الزبيدي : وهذا قول أهل السنّة والجماعة وفقهاء الحجاز والعراق ومتكلّمي الصّفاتيّة .
وقد بيَّن أحمد بن قدامة ذلك بقوله : والّذي تدل عليه الآيات والأخبار أنّ الروح تكون بعد الموت باقيةً ، إمّا معذّبةً ، أو منعّمةً ، فإنّ الروح قد تتألّم بنفسها بأنواع الحزن والغمّ ، وتتنعَّم بأنواع الفرح والسرور من غير تعلق لها بالأعضاء ، فكل ما هو وصف للروح بنفسها ، يبقى معها بعد مفارقة الجسد ، وكل ما لها بواسطة الأعضاء يتعطَّل بموت الجسد إلى أن تُعاد : الروح إلى الجسد .
واحتجّ على أنّ الروح لا تنعدم بالموت بقوله تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } حيث قال عليه الصلاة والسلام فيه : « جعل اللّه أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنّة ، تأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظلّ العرش » ، وبما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال ، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ ، إن كان من أهل الجنّة فمن أهل الجنّة ، وإن كان من أهل النّار فمن أهل النّار ، يقال : هذا مقعدك حتّى يبعثك اللّه إليه يوم القيامة » ، فدلَّ ذلك على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة ، إلى أن يرجعها اللّه في أجسادها ، ولو ماتت الأرواح لانقطع عنها النّعيم والعذاب .
وقد أورد الإمام الغزالي توضيحاً لحال الروح وحياتها بعد موت البدن فقال : هذه الروح لا تفنى البتّة ولا تموت ، بل يتبدَّل بالموت حالها فقط ، ويتبدّل منزلها ، فتنتقل من منزل إلى منزل ، والقبر في حقّها إمّا روضة من رياض الجنّة أو حفرةً من حفر النّيران ، إذاً لم يكن لها مع البدن علاقة سوى استعمالها البدن واقتناصها أوائل المعرفة به بواسطة شبكة الحوّاس ، فالبدن آلتها ومركبها وشبكتها ، وبطلان الآلة والمركب والشّبكة لا يوجب بطلان الصّائد .
وذهبت طائفة إلى أنّ الروح تفنى وتموت بموت الجسد ؛ لأنّها نفسٌ ، وقد قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } . قال الزبيدي : وقد قال بهذا القول جماعة من فقهاء الأندلس قديماً ، منهم عبد الأعلى بن وهب بن لبابة ، ومن متأخّريهم كالسهيليّ وابن العربيّ .
وقال ابن القيّم : والصّواب أن يقال : موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها ، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت ، وإن أريد بأنّها تعدم وتضمحلُّ وتصير عدماً محضاً ، فهي لا تموت بهذا الاعتبار ، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الروح :
4 - ذهب أهل السنَّة من المتكلّمين والفقهاء والمحدِّثين إلى أنّ الروح جسم لطيف متخلّل في البدن ، تذهب الحياة بذهابه ، وعبارة بعض المحقّقين : هي جسم لطيف ، مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأخضر ، وبه جزم النّووي وابن عرفة المالكي ، ونقلا تصحيحه عن أصحابهم .
وقال الفيومي : ومذهب أهل السنّة أنّ الروح هو النّفس النّاطقة المستعدّة للبيان وفهم الخطاب ولا تفنى بفناء الجسد وأنّه جوهر لا عرضٌ .
والصّلة بين الموت وبين الروح هي التّباين .
ب - النّفس :
5 - ذهب جمهور أهل السنّة من فقهاء ومحدّثين ومتكلّمين إلى أنّ المراد بالنّفس الروح . يقال : خرجت نفسه , أي روحه , وأنّه يعبّر عن النّفس بالروح وبالعكس .(/1)
قال ابن تيميّة : الروح المدبِّرة للبدن الّتي تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه , وهي النّفس الّتي تفارقه بالموت . . . وإنّما تسمّى نفساً باعتبار تدبيرها للبدن , وتسمّى روحاً باعتبار لطفها .
ودليلهم على ذلك قوله تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً } ، قال ابن القيّم : والأنفس هاهنا هي الأرواح قطعاً .
وتقسّم النّفس إلى النّفس الأمّارة , واللّوّامة , والمطمئنّة , وذكر ابن تيميّة أنّ النّفس يراد بها عند كثير من المتأخّرين صفاتها المذمومة , فيقال : فلان له نفسٌ : أي مذمومة الأحوال , وأيضاً : فإنّ النّفس لمّا كانت حال تعلقها بالبدن يكثر عليها اتّباع هواها صار لفظ " النّفس " يُعبّر به عن النّفس المتّبعة لهواها , أو عن اتّباعها الهوى , بخلاف لفظ " الروح" فإنّه لا يعبّر به عن ذلك .
وقال الفيوميّ : والنّفس أنثى إن أريد بها الروح , قال تعالى : { خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } , وإن أريد الشّخص فمذّكّر .
وحكى الكفويّ في الكلّيّات أنّ الإنسان له نفسان : نفسٌ حيوانيّة , ونفسٌ روحانيّة .
فالنّفس الحيوانيّة لا تفارقه إلّا بالموت , والنّفس الروحانيّة - الّتي هي من أمر اللّه - هي الّتي تفارق الإنسان عند النّوم , وإليها الإشارة بقوله تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } ، ثمّ إنّه تعالى إذا أراد الحياة للنّائم ردّ عليه روحه فاستيقظ , وإذا قضى عليه بالموت أمسك عنه روحه فيموت , وهو معنى قوله : { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً } ، أمّا النّفس الحيوانيّة فلا تفارق الإنسان بالنّوم , ولهذا يتحرّك النّائم , وإذا مات فارقه جميع , ذلك .
والصّلة بين النّفس والموت التّباين .
ج - الحياة :
6 - الحياة في اللغة نقيض الموت , وهي في الإنسان عبارة عن قوّة مزاجيّة تقتضي الحسّ والحركة , وهي الموجبة لتحريك من قامت به , ومفهومها عند الفقهاء : أثر مقارنة النّفوس للأبدان , وإنّها لتسري في الإنسان تبعاً لسريان الروح في جسده . وحكى القزويني أنّ الروح هي الحياة , وأنّ الحياة عرضٌ يقوم بالحيّ , فمتى وجد فيه يكون حيّاً , وإذا عدم فيه فقد حصل ضدُّه , وهو الموت .
وقد ذكر الرّاغب الأصفهاني أنّ " الحياة " تستعمل على أوجهٍ :
الأوّل : للقوّة النّامية الموجودة في النّبات والحيوان , ومنه قيل : نبات حيٌّ , قال تعالى :
{ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } .
والثّاني : للقوّة الحسّاسة , وبه سمّي الحيوان حيواناً , قال تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ } .
والثّالث : للقوّة العالمة العاقلة , كقوله : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } .
والرّابع : عبارة عن ارتفاع الغمّ , وعلى ذلك قوله تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ } ، أي هم متلذّذون لما روي في الأخبار الكثيرة عن أرواح الشّهداء .
والخامس : الحياة الأخرويّة الأبديّة , وقد جاء ذلك في قوله تعالى : { يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} يعني بها الحياة الأخرويّة الدّائمة .
والسّادس : الحياة الّتي يوصف بها الباري تعالى , فإنّه إذا قيل فيه سبحانه , هو حيّ , فمعناه لا يصح عليه الموت , وليس ذلك إلّا للّه عزّ وجلّ .
ثمّ إنّ الحياة باعتبار الدنيا والآخرة ضربان الحياة الدنيا , والحياة الآخرة .
وقوله عزّ وجلّ : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } ، أي يرتدع بالقصاص من يريد الإقدام على القتل , فيكون في ذلك حياة النّاس .
والصّلة بين الموت والحياة أنّهما نقيضان .
د - الأهليّة :
7 - الأهليّة شرعاً هي كون الإنسان بحيث يصح أن يتعلّق به الحكم , والمعنى أنّها صفة أو قابليّة يقدّرها الشّارع في الشّخص تجعله محلاً صالحاً لأن يتعلّق به الخطاب التّشريعي . والصّلة بين الموت وبين الأهليّة أنّ الموت سبب من أسباب انعدام الأهليّة .
هـ - الذّمّة :
8 - الذّمّة كما عرّفها الجرجاني : وصف يصير الشّخص به أهلاً للإيجاب له وعليه . والصّلة بين الموت وبين الذّمّة أنّ الموت سبب من أسباب انعدام الذّمّة أو ضعفها أو شغلها.
أقسام الموت :
9 - الموت عند الفقهاء على ثلاثة أقسام : حقيقيّ , وحكميّ , وتقديريّ .
فأمّا الموت الحقيقي : فهو مفارقة الروح للجسد على وجه الحقيقة واليقين , ويعرف بالمشاهدة , ويثبت بإقامة البيّنة عليه أمام القضاء .
وأمّا الموت الحكمي : فهو حكم يصدر من قبل القاضي بموت شخصٍ من الأشخاص - وإن كان لا يزال حيّاً - لسبب شرعي يقتضي ذلك .
ومن أمثلته عند الحنفيّة : المرتد إذا لحق بدار الحرب , وصدر حكم القاضي بلحوقه بها مرتداً , فإنّه يعتبر ميّتاً من حين صدور الحكم , وإن كان حيّاً يرزق بدار الحرب , فيقسم ماله بين ورثته , وقد علّل ذلك السّرخسي بقوله : لأنّ الإمام لو ظفر به موّته حقيقةً , بأنّ يقتله , فإذا عجز عن ذلك بدخوله بدار الحرب موّته حكماً , فقسم ماله .(/2)
ومن أمثلته عند المالكيّة : المفقود " وهو الّذي يعمى خبره , وينقطع أثره , ولا يُعلم موضعه , ولا تدرى حياته ولا موته " إذا حكم القاضي بموته بناءً على ما ترجّح لديه من الظروف وقرائن الأحوال , فإنّه يعتبر ميّتاً من حيث الحكم , قال الدسوقيّ : لأنّ هذا تمويت, أي حكم بالموت , لا موت حقيقةً , وعلى ذلك فإنّه يرثه من ورثته من كان حيّاً في ذلك الوقت , دون من مات قبل ذلك .
وأمّا الموت التّقديري : فهو للجنين الّذي أسقط ميّتاً بجناية على أمّه . كما إذا ضرب إنسان امرأةً , فأسقطت جنيناً ميّتاً فإنّه يجب على الجاني أو عاقلته الغرّة " دية الجنين " وهذه الدّية تكون لورثة الجنين على فرائض اللّه تعالى , حيث يقدّر حيّاً في بطن أمّه قبل الجناية ثمّ موته منها .
الأحكام المتعلّقة بالموت :
تتعلّق بالموت أحكام منها :
انتهاء الأهليّة وخراب الذّمّة بالموت :
10 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الموت هادم لأساس التّكليف , لأنّه عجزٌ كله عن إتيان العبادات أداءً وقضاءً , ولأنّ الميّت قد ذهب من دار الابتلاء إلى دار الجزاء , قال ابن نجيم: إنّ الموت ينافي أحكام الدنيا ممّا فيه تكليف , لأنّ التّكليف يعتمد القدرة والموت عجزٌ كله . وحيث إنّ الذّمّة خاصّة من الخصائص الإنسانيّة فإنّها تبدأ مع الشّخص منذ الحمل به , وتبقى معه طيلة حياته , فإذا مات خربت ذمّته وانتهت أهليّته .
غير أنّ الفقهاء اختلفوا هل تخرب الذّمّة وتنتهي فوراً بمجرّد حصول الموت , أم أنّ الموت يضعفها , أم أنّها تبقى كما هي بعد الموت حتّى تستوفى الحقوق من التّركة ؟
وذلك على ثلاثة مذاهب ينظر تفصيلها في ( ذمّة ف / 6 - 9 ) .
انقطاع العمل بالموت ومدى انتفاع الموتى بسعي الأحياء :
11 - لا خلاف بين أهل العلم في انقطاع عمل ابن آدم بموته في الجملة , لأنّ الموت عجزٌ كامل عن إتيان العبادات أداءً وقضاءً , ولأنّ الميّت قد ارتحل من دار الابتلاء والتّكليف إلى دار الجزاء , ولكنّه ينتفع بما تسبّب إليه في حياته من عمل صالح , لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا مات الإنسان انقطع عمله إلّا من ثلاثة : إلّا من صدقة جارية , أو علم ينتفع به , أو ولد صالح يدعو له » ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ ممّا يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علّمه ونشره , أو ولداً صالحاً تركه , أو مصحفاً ورّثه , أو مسجداً بناه , أو بيتاً لابن السّبيل بناه , - أو نهراً أجراه , أو صدقةً أخرجها من ماله في صحّته وحياته يلحقه من بعد موته » ، وروى جرير بن عبد اللّه رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من سنّ في الإسلام سنّةً حسنةً , فله أجرها وأجر من عمل بها بعده , من غير أن ينقص من أجورهم شيء , ومن سنّ في الإسلام سنّةً سيّئةً , كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده , من غير أن ينقص من أوزارهم شيء » .
أمّا انتفاعه بغير ما تسبّب إليه في حياته من عمل صالح , فقد فرّق الفقهاء في ذلك بين أمرين :
أ - دعاء المسلمين له واستغفارهم , وفي ذلك قال النّووي : أجمع العلماء على أنّ الدعاء للأموات ينفعهم ويصلهم ثوابه , واحتجوا بقوله تعالى : { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } , وغير ذلك من الآيات المشهورة بمعناها , وبالأحاديث المشهورة كقوله صلى الله عليه وسلم : « اللّهمّ اغفر لأهل بقيع الغرقد » وكقوله : « اللّهمّ اغفر لحيِّنا وميّتنا » .
ب - ما جعل الأحياء ثوابه للميّت من الأعمال الأخرى كالحجّ والصّدقة والصّوم والصّلاة وتلاوة القرآن ونحو ذلك , فقد اختلف الفقهاء في مشروعيّة كلّ واحد منها ووصوله للميّت. وتفصيل ذلك في مصطلح ( أداء ف / 14 , وقراءة ف / 18 ، وقربة ف / 11 ) .
السّلام على الموتى وردهم :
12 - ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « ما من أحد مرّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا , فسلّم عليه إلّا عرفه وردّ عليه السّلام » ، وورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أنّه أمر بقتلى بدر , فألقوا في قليب , ثمّ جاء حتّى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم : يا فلان ابن فلان , ويا فلان ابن فلان , هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً , فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقاً , فقال له عمر : يا رسول اللّه , ما تخاطب من أقوام قد جيّفوا , فقال عليه الصلاة والسلام : والّذي بعثني بالحقّ , ما أنتم بأسمع لما أقول منهم , ولكنّهم لا يستطيعون جواباً » ، وورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّ العبد إذا وضع في قبره وتولّى عنه أصحابه إنّه ليسمع قرع نعالهم » ، ولهذا أمر النّبي صلى الله عليه وسلم بالسّلام على الموتى , حيث جاء أنّه صلى الله عليه وسلم كان يعلّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا : « السّلام عليكم أهل الدّيار من المؤمنين والمسلمين , وإنّا إن شاء اللّه بكم للاحقون » .
قال ابن القيّم : وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل , ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد , والسّلف مجمعون على هذا , وقد تواترت الآثار بأنّ الميّت يعرف زيارة الحيّ له ويستبشر به .
وجاء في فتاوى العزّ بن عبد السّلام : والظّاهر أنّ الميّت يعرف الزّائر , لأنّا أمرنا بالسّلام عليهم , والشّرع لا يأمر بخطاب من لا يسمع .
عودة أرواح الموتى في الحياة البرزخيّة :(/3)
13 - المراد بالبرزخ هاهنا : الحاجز بين الدنيا والآخرة , قال العلماء : وله زمان ومكان وحال , فزمانه من حين الموت إلى يوم القيامة , وحاله الأرواح , ومكانه من القبر إلى علّيّين لأرواح أهل السّعادة , أمّا أهل الشّقاوة فلا تفتح لأرواحهم أبواب السّماء , بل هي في سجّين مسجونة , وبلعنة اللّه مصفودة , قال ابن القيّم : إنّه ينبغي أن يعلم أنّ عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب , البرزخ ونعيمه , وهو ما بين الدنيا والآخرة . قال تعالى : { وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } .
هذا وقد اختلف العلماء في السؤال في القبر , هل يقع على البدن أم على الروح أو عليهما معاً , وذلك على أربعة أقوال :
الأوّل : لجمهور علماء أهل السنّة , وهو أنّ الروح تعاد إلى الجسد أو بعضه , ولا يمنع من ذلك كون الميّت قد تتفرّق أجزاؤه , لأنّ اللّه قادر على أن يعيد الحياة إلى جزء من الجسد , ويقع عليه السؤال , كما هو قادر على أن يجمع أجزاءه , قال ابن حجر الهيتمي : ويجوز أن ترجع الروح في حال آخر وأمر ثان , وبعودها يرجع الميّت حيّاً , وهو المعبَّر عنه بحياة القبر عند إتيان الملكين للسؤال , فإذا ردَّت إليه الحياة , للجسم والروح , تبعتها الإدراكات المشروطة بها , فيتوجّه حينئذٍ على الميّت السؤال , ويتصوَّر منه الجواب .
وقال ابن تيميّة : عود الروح إلى بدن الميّت في القبر ليس مثل عودها إليه في هذه الحياة الدنيا , وإن كان ذلك قد يكون أكمل من بعض الوجوه , كما أنّ النّشأة الأخرى ليس مثل هذه النّشأة , وإن كانت أكمل منها , بل كل موطن في هذه الدّار وفي البرزخ والقيامة له حكم يخصُّه .
وقال ابن حجر العسقلاني : المراد بالحياة في القبر للمسألة ليست الحياة المستقرّة المعهودة في الدنيا الّتي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبيره وتصرفه , وتحتاج إلى ما يحتاج إليه الأحياء, بل هي مجرّد إعادة لفائدة الامتحان الّذي وردت به الأحاديث الصّحيحة , فهي إعادة عارضة .
الثّاني : لأبي حنيفة والغزاليّ : وهو التّوقف . قال الغنيميّ الحنفي : واعلم أنّ أهل الحقّ اتّفقوا على أنّ اللّه يخلق في الميّت نوع حياة في القبر , قدر ما يتألّم ويلتذَّ , لكن اختلفوا في أنّه هل تعاد الروح إليه أم لا ؟
والمنقول عن الإمام أبي حنيفة التّوقف , وقال الغزالي : ولا يبعد أن تعاد الروح إلى الجسد في القبر , ولا يبعد أن تؤخّر إلى يوم البعث , واللّه أعلم بما حكم به على عبد من عباده . الثّالث : لابن جرير وجماعة , وهو أنّه يقع على البدن فقط , وأنّ اللّه يخلق فيه إدراكاً بحيث يسمع ويعلم ويلتذ ويألم .
الرّابع : لابن هبيرة وغيره : وهو أنّ السؤال يقع على الروح فقط من غير عود إلى الجسد.
14 - وقد تفرّع عن ذلك الخلاف اختلاف العلماء في نعيم القبر وعذابه في الحياة البرزخيّة , هل يقع على الروح فقط أم على الجسد أم على كليهما ؟
فذهب ابن هبيرة والغزالي إلى أنّ التّنعيم والتّعذيب إنّما هو على الروح وحدها .
وقال جمهور أهل السنّة والجماعة من المتكلّمين والفقهاء : هو على الروح والجسد .
قال النّووي : النّعيم والعذاب للجسد بعينه أو بعضه بعد إعادة الروح إليه أو إلى جزء منه , وقال ابن تيميّة : العذاب والنّعيم على النّفس والبدن جميعاً باتّفاق أهل السنّة والجماعة , تنعّم النّفس وتعذّب منفردةً عن البدن , وتعذّب متّصلةً بالبدن , والبدن متّصل بها , فيكون النّعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين , كما يكون للروح منفردةً عن البدن .
وذهب ابن جرير إلى أنّ الميّت يعذّب في قبره من غير أن تردّ الروح إليه , ويحس بالألم وإن كان غير حي .
مستقر أرواح الموتى ما بين الموت إلى يوم القيامة :
15 - قال ابن القيّم : إنّ اللّه جعل الدور ثلاثاً : دار الدنيا , ودار البرزخ , ودار القرار , وجعل لكلّ دار أحكاماً تختص بها , وركّب هذا الإنسان من بدن وروح , وجعل أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبعاً لها , ولهذا جعل أحكامه الشّرعيّة مرتّبةً على ما يظهر من حركات اللّسان والجوارح , وإن أضمرت النّفوس خلافه , وجعل أحكام البرزخ على الأرواح, والأبدان تبعاً لها , فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا , فتألّمت بألمها والتذّت براحتها , فإنّ الأبدان تتبع الأرواح في أحكام البرزخ في نعيمها وعذابها حتّى إذا كان يوم القيامة أعيدت الأرواح إلى الأجساد , وقاموا من قبورهم لربّ العالمين .
والبرزخ هو أوّل دار الجزاء , وعذاب البرزخ ونعيمه أوّل عذاب الآخرة ونعيمها , وهو مشتق منه , وواصل إلى أهل البرزخ , يدل على ذلك ما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في نعيم القبر وعذابه بعد سؤال الملكين : « فينادي مناد من السّماء - في حقّ المؤمن الصّادق - أن صَدَق عبدي , فافرشوه من الجنّة , وافتحوا له باباً إلى الجنّة , وألبسوه من الجنّة . قال : فيأتيه من روحها وطيبها , ويُفتح له فيها مدَّ بصره » . أمّا في حقّ الكافر : « فينادي منادٍ من السّماء : أن كذب , فافرشوه من النّار , وألبسوه من النّار , وافتحوا له باباً إلى النّار . قال : فيأتيه من حرِّها وسمومها , ويضيّق عليه قبره , حتّى تختلف فيه أضلاعه » .(/4)
وقد اختلف العلماء في مستقرّ أرواح الموتى ما بين الموت إلى يوم القيامة , هل هي في السّماء أم في الأرض , وهل هي في الجنّة والنّار أم لا , وهل تودع في أجساد أم تكون مجرّدةً ؟ فهذه من المسائل العظام قد تكلّم فيها النّاس , وهي إنّما تتلقّى من السّمع فقط . قال الحافظ ابن حجر : إنّ أرواح المؤمنين في علّيّين , وأرواح الكفّار في سجِّين , ولكلّ روح اتّصال , وهو اتّصال معنويّ لا يشبه الاتّصال في الحياة الدنيا , بل أشبه شيء به حال النّائم انفصالاً , وشبَّهه بعضهم بالشّمس , أي بشعاع الشّمس , وهذا مجمع ما افترق من الأخبار أنّ محلَّ الأرواح في علّيِّين وفي سجّين , ومن كون أفنية الأرواح عند أفنية قبورهم, كما نقله ابن عبد البرّ عن الجمهور .
أثر الموت على حقوق المتوفّى :
أثر الموت على الحقوق الماليّة المحضة :
16 - الحقوق الماليّة المحضة : هي ما تستحيل في النّهاية إلى مال مثل الديون في ذمم الغرماء , وحق حبس المبيع لاستيفاء الثّمن وحق حبس الرّهن لاستيفاء الدّين وحق الدّية والأرش في الأطراف وحقوق الارتفاق وبيان ذلك فيما يلي :
أوّلاً - الديون في ذمّة الغرماء :
17 - لا خلاف بين الفقهاء في عدم تأثير موت الدّائن على الديون الّتي وجبت له في ذمّة الغرماء , وأنّها تنتقل إلى ورثته كسائر الأموال الّتي تركها , لأنَّ الديون في الذّمم أموال حقيقةً أو حكماً باعتبارها تئُول إلى مال عند الاستيفاء .
18 - واستثنى الحنفيّة من ذلك دين نفقة الزّوجة , سواء تقرّر بالتّراضي أو بقضاء القاضي , وقالوا إنّه يسقط بموت الزّوجة قبل قبضه , لأنّ النّفقة صلة , والصّلات عندهم لا تتمُّ إلّا بالتّسليم , وتسقط بالموت قبله , إلّا إذا استدانت النّفقة بأمر القاضي , فعندئذٍ لا تسقط بموتها , بل تنتقل إلى ورثتها , وكذلك دين نفقة الأقارب , فإنّه يسقط عندهم بموت من وجب له قبل قبضه , لأنّ هذه النّفقة إنّما وجبت كفايةً للحاجة . . . إلّا إذا أذن القاضي لمن وجبت له بالاستدانة واستدان , فعندئذٍ لا تسقط بموته , بل تنتقل إلى ورثته , وهذا قول لبعض الحنابلة أيضاً في دين نفقة الأقارب .
أمّا جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة فقد قالوا : إنّ دين نفقة الزّوجة دين صحيح , سواء وجب بالتّراضي أو بقضاء القاضي , ولا يسقط بموتها قبل تسلمه , بل ينتقل إلى ورثتها كسائر الديون , أمّا نفقة الأقارب , فإنّ وجوبها على سبيل المواساة وسدّ الخلّة, وهي مجرّد إمتاع فلا تصير ديناً إلّا إذا فرضها القاضي , فحينئذٍ تثبت لمن وجبت له , ولا تسقط بموته قبل قبضها , بل تنتقل إلى ورثته .
19 - والديون عند جمهور الفقهاء تنتقل إلى الورثة بالصّفة الّتي كانت عليها حال حياة الدّائن , فما كان منها حالاً انتفل إلى الورثة حالاً , وما كان منها مؤجّلاً أو مقسّطاً انتقل كما هو مؤخّراً إلى أجله , حيث إنّ الأجل عندهم لا يسقط بموت الدّائن .
وحكي عن اللّيث والشّعبيّ والنّخعيّ أنّ كلّ من مات وله دين مؤجّل , فإنّه ينتقل بعد موته إلى ورثته حالاً , ويبطل الأجل بوفاته .
ثانياً - الدّية وأرش الأطراف :
20 - الدّية والأرش كلاهما حق ماليّ يجب للمجنيّ عليه بدل الجناية عليه .
ويطلق الفقهاء الدّية على المال الّذي هو بدل النّفس , والأرش على المال الواجب على ما دون النّفس من الأطراف .
والتّفصيل في مصطلح ( ديات ف 4 وما بعدها , أرشٌ ف / 1 ) .
ومن المقرّر فقهاً أنّ الدّية والأرش تكونان على الجاني في جناية العمد , وعلى عاقلته في الخطأ , ولكن إذا حدث أن مات المجني عليه بسبب الجناية عليه أو توفّي بعد ما وجب له الحق في الأرش , فما هو مصير هذا الحقّ هل يعتبر ملكاً له , ومن جملة أمواله , بحيث تقضى منه ديونه وتنفذ منه وصاياه , وما بقي بعد ذلك يكون لورثته على فرائض اللّه تعالى , أم أنّه يسقط حقه في تملكه , ويكون لورثته دونه , بحيث لا توفّى منه ديونه ولا ينفذه منه شيء من وصاياه ؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين :
أحدهما : لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في المعتمد , وهو أنّ دِيَّة العمد والخطأ مال يحدثُ على ملك الميّت , لأنّها بدل نفسه , ونفسه له , فكذلك بدلها , ولأنّ بدل أطرافه في حال حياته له , فكذلك بدلها بعد موته , ويجوز تجدد الملك له بعد موته , كمن نصب شبكةً ونحوها فسقط بها صيد بعد موته . . . وعلى ذلك : فإنّه تسدُّد منها ديونه , وتنفّذ منها وصاياه , وتقضى منها سائر حوائجه من تجهيز ونحوه , ثمّ ما يبقى بعد ذلك منها فإنّه يكون لورثته حسب قواعد الإرث .
واحتجوا على ذلك بما روي « أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه نشد النّاس بمنى : من كان عنده علم من الدّية أن يخبرني , فقام الضّحّاك بن سفيان الكلابيّ فقال : كتب إليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن أورّث امرأة أشيم الضّبابيّ من دية زوجها . . . فقضى عمر بذلك . قال ابن شهاب : وكان أشيم قتل خطأً » .(/5)
قال الباجيّ : اقتضى ذلك تعلق هذا الحكم بقتل الخطأ , إلّا أنّ دية العمد محمولة عند جميع فقهاء الأمصار على ذلك , ولم يفرّق أحد منهم علمناه في ذلك بين دية العمد والخطأ , وأنّها كسائر مال الميّت , يرث منها الزّوج والزّوجة والإخوة للأمّ وغيرهم , وهذا مرويّ عن عمر وعلي وشريح والشّعبيّ والنّخعيّ والزهريّ . وعلَّق الإمام الشّافعي على أثر عمر وقضائه بقوله : ولا اختلاف بين أحد في أن يرث الدّية في العمد والخطأ من ورث ما سواها من مال الميّت , لأنّها تملك عن الميّت , وبهذا نأخذ , فنورِّث الدّية في العمد والخطأ من ورث ما سواها من مال الميّت , وإذا مات المجني عليه وقد وجبت ديته , فمن مات من ورثته بعد موته كانت له حصّته من ديته , كأنّ رجلاً جُني عليه في صدر النّهار فمات , ومات ابن له في آخر النّهار , فأخذت دية أبيه في ثلاث سنين , فميراث الابن الّذي عاش بعده ساعةً قائم في ديته , كما يثبت في دين لو كان لأبيه , وكذلك امرأته وغيرها ممّن يرثه إذا مات . والثّاني : لإسحاق وأبي ثور وأحمد في رواية عنه , وهو قول عند الشّافعيّة وروي عن مكحول وشريك وهو أنّ الدّية تثبت للورثة ابتداءً , ولا تكون ملكاً للميّت أصلاً , إذ المقتول لا تجب ديته إلّا بعد موته , وإذا مات فقد بطل ملكه , ولهذا لا يصح أن تقضى منها ديونه , ولا أن تنفّذ منها وصاياه .
وقد جاء في استدلالهم على ما ذهبوا إليه : أنّ الدّية مال حدث للأهل بعد موت مورّثهم , ولم يرثوه عنه قط , إذ لم يجب له شيء منه في حياته , فكان من الباطل أن يقضى دينه من مال الورثة الّذي لم يملكه هو قطٌّ في حياته , وأن تنفّذ منه وصيّته . . . ثمّ إنّه بالموت تزول أملاك الميّت الثّابتة له , فكيف يتجدّد له بعد ذلك ملك ؟ ولهذا لا تنفّذ وصيّته من مال الدّية , لأنّ الميّت إنّما يوصي بجزء من مال لا بمال ورثته .
ثالثاً - حقوق الارتفاق :
21 - حق الارتفاق عبارة عن حق مقرّر على عقار لمنفعة عقار آخر مملوك لغير مالك العقار الأوّل , وتشمل حقوق الارتفاق عند الفقهاء : حقّ الشّرب , وحقّ المجرى , وحقّ المسيل , وحقّ المرور , وحقّ التّعلّي , وحقّ الجوار .
وحقوق الارتفاق ليست بمفردها مالاً عند الحنفيّة , لأنّها أمور لا يمكن حوزها وادّخارها , ولذلك قالوا بعدم جواز بيعها وإجارتها وهبتها استقلالاً , ولكنّهم يعتبرونها حقوقاً ماليّةً لتعلقها بأعيان ماليّة , ومن هنا أجازوا بيعها تبعاً للعقار الّذي ثبتت لمنفعته .
أمّا جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة فقد اعتبروها من قبيل الأموال , وأجازوا - في الجملة - بيعها وهبتها استقلالاً .
ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ هذه الحقوق لا تسقط بموت صاحب الحقّ , بل تنتقل إلى ورثته تبعاً للعقار الّذي ثبتت لمصلحته , لأنّه حقوق ماليّة , فيها معنى المال , وهي متعلّقة بأعيان ماليّة , ولهذا فلا تأثير للموت عليها , سواء قيل إنّها أموال ذاتها أو حقوق متعلّقة بأعيان ماليّة .
رابعاً - حقوق المرتهن :
22 - الرّهن هو المال الّذي يجعل وثيقةً بالدّين , ليستوفى من ثمنه إن تعذّر استيفاؤه ممّن هو عليه . وبهذه الوثيقة يصير المرتهن أحقّ بالرّهن من سائر الغرماء بحيث إذا كان على الرّاهن ديون أخرى لا تفي بها أمواله , وبيع الرّهن لسداد ما عليه , كان للمرتهن أن يستوفي دينه من ثمنه أوّلاً , فإن بقي شيء فهو لبقيّة الغرماء .
وقد ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ حقوق المرتهن لا تبطل بموته , بل تنتقل إلى ورثته , وعلى ذلك : فالميّت الّذي له دين به رهن , فإنّه ينتقل إلى ورثته برهنه , وتبقى العين رهناً عندهم , وتتعلّق بها سائر حقوق المرتهن المعروفة عند الفقهاء .
23 - واختلف الفقهاء في تأثير الموت على حقوق المرتهن إذا مات قبل قبض الرّهن , هل تنتقل إلى ورثته أم تسقط بوفاته ؟ وذلك على قولين :
أحدهما : لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة , وهو أنّ الرّهن يبطل بموت المرتهن قبل قبض العين المرهونة , ولا ينتفل إلى ورثته , لأنّ الرّهن لا يلزم عندهم إلّا بالقبض , فإن مات المرتهن قبل أن يلزم عقد الرّهن , فإنّه يبطل .
والثّاني : للمالكيّة : وهو أنّ حقوق المرتهن تنتقل إلى ورثته , ويجبر الرّاهن على إقباضهم العين المرهونة متى طلبوا ذلك , إلّا أن يتراخى الإقباض حتّى يفلس الرّاهن أو يمرض أو يموت , وذلك لأنّ الرّهن عند المالكيّة يلزم بمجرّد العقد دون توقف على قبض .
خامساً - حق حبس المبيع لاستيفاء الثّمن :
24 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ للبائع حقّ حبس المبيع والامتناع عن تسليمه للمشتري حتّى يستوفي ثمنه إذا كان حالاً , أو القدر الحالّ منه إذا كان بعضه مؤجّلاً , أمّا إذا كان الثّمن مؤجّلاً , فليس للبائع حق الحبس , اعتباراً لتراضيهما على تأخيره .
أمّا عند الحنابلة فليس للبائع حق حبس المبيع حتّى يستوفي ثمنه إذا كان الثّمن ديناً حالاً , أي مالاً غير معيّن ولا مؤجّل , وكان حاضراً معه في المجلس , أمّا إذا كان الثّمن غائباً عن المجلس , فللبائع حبس المبيع لقبض الثّمن .
ولمّا كان حق البائع في حبس المبيع لاستيفاء الثّمن من الحقوق الماليّة , أي المتعلّقة بالمال , فقد نصّ جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة على أنّ صاحب هذا الحقَّ إذا مات , فإنّ حقّه في ذلك لا يسقط بموته بعد تقرره , بل ينتقل إلى ورثته - كسائر أعيانه الماليّة - ولا يكون للموت تأثير في سقوطه بعد ثبوته .(/6)
أثر الموت على الحقوق الشّخصيّة المحضة :
25 - الحقوق الشّخصيّة المحضة هي الّتي تثبت للإنسان باعتبار شخصه وذاته وما يتوفّر فيه من صفاتٍ ومعان تميِّزه عن غيره , مثل حقّ الحضانة , وحقّ الولاية على النّفس والمال , وحقّ المظاهر في العود , وحقّ الفيء بعد الإيلاء , وحقّ أرباب الوظائف في وظائفهم فإنّها تسقط بموت ذويها أو أصحابها ولا تورث عنهم .
وينظر التّفصيل في مصطلح ( تركة ف / 3 وما بعدها , وظيفة ) .
واختلف الفقهاء في المطالبة بحدّ القذف وبيان تأثير موت المقذوف على هذا الحقّ .
وتفصيله في مصطلح ( قذف ف / 44 ) .
أثر الموت على الحقوق الشّبيهة بالحقّين الماليّ والشّخصيّ :
26 - نظراً إلى أنّ هذه الحقوق تجمع بين شبهين , شبه بالحقّ الماليّ , وشبه بالحقّ الشّخصيّ , فقد اختلف الفقهاء في تغليب أحد الشّبهين على الآخر حتّى تلحق به , وفيما يلي بيان أثر الموت على هذه الحقوق .
أوّلاً - حق الخيار :
27 - يختلف تأثير الموت على حقوق الخيارات بحسب نوع الخيار الثّابت للعاقد وطبيعته واجتهاد الفقهاء في تغليب شبهه بالحقّ الماليّ أو الحقّ الشّخصيّ , وذلك على النّحو التّالي:
أ - خيار المجلس :
28 - اختلف الفقهاء القائلون بخيار المجلس في أثر الموت على هذا الخيار على ثلاثة أقوال :
أحدها : للشّافعيّة في الأصحّ وهو انتقال الخيار بالموت إلى الوارث .
والثّاني : للحنابلة في المذهب , وهو سقوط الخيار بالموت .
والثّالث : لبعض الحنابلة , وهو التّفصيل بين وقوع المطالبة من الميّت به في حياته وبين عدم تلك المطالبة , حيث ينتقل الخيار إلى الوارث في الحالة الأولى دون الثّانية .
والتّفصيل في ( خيار ف / 13 ) .
ب - خيار القبول :
29 - خيار القبول : هو حق العاقد في القبول أو عدمه في المجلس بعد صدور الإيجاب من الطّرف الآخر , وقد اختلف الفقهاء في أثر الموت عليه على قولين :
أحدهما : للحنفيّة والشّافعيّة , وهو سقوط خيار القبول وانتهاؤه بموت أحد المتعاقدين , لأنّ موت الموجب يسقط إيجابه , وأمّا موت الّذي خوطب بالإيجاب , فلأنّ حقّ القبول لا يورث . والثّاني : للمالكيّة , وهو أنّ خيار القبول يورث ولا يسقط بموت صاحبه .
ج - خيار العيب :
35 - خيار العيب : وهو حق المشتري في ردّ المبيع بسبب وجود وصف مذموم فيه ينقص العين أو القيمة نقصاناً يفوت به غرضٌ صحيح , ويغلب في جنسه عدمه .
وقد ذهب الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ خيار العيب ينتقل إلى الوارث بموت مستحقّه , وذلك لتعلقه بالأعيان الماليّة ولصوقه بها .
قال الشّيرازي : انتقل إلى وارثه لأنّه حق لازم يختص بالعين فانتقل بالموت إلى الوارث كحبس المبيع إلى أن يحضر الثّمن .
د - خيار الشّرط :
31 - خيار الشّرط : هو حق يثبت بالاشتراط لأحد المتعاقدين أو كليهما يخوِّل صاحبه فسخ العقد خلال مدّة معلومة .
وقد اختلف الفقهاء في سقوطه بموت صاحبه على ثلاثة أقوال .
أحدها : للمالكيّة والشّافعيّة وأبي الخطّاب من الحنابلة , وهو أنّه ينتقل إلى الوارث بموت صاحبه , باعتباره من مشتملات التّركة , لأنّه حق ثابت لإصلاح المال , كالرّهن وحبس المبيع لاستيفاء ثمنه .
والثّاني : للحنفيّة , وهو أنّه يسقط بموت صاحبه , سواء أكان الخيار للبائع أم للمشتري , وسواء أكان صاحب الخيار أصيلاً أم نائباً , قال الزّيلعي : لأنّ الخيار صفة للميّت , لأنّه ليس هو إلّا مشيئة وإرادة , فلا ينتقل عنه كسائر أوصافه .
والثّالث : للحنابلة , وهو التّفصيل بين مطالبة صاحبه به قبل موته وبين عدمها , قالوا : فإذا مات صاحب الخيار دون أن يطالب بحقّه في الخيار بطل الخيار ولم يورث عنه , أمّا إذا طالب به قبل موته فإنّه يورث عنه , فالأصل عندهم أنّ خيار الشّرط غير موروث إلّا بالمطالبة من المشترط في حياته .
والتّفصيل في ( خيار الشّرط ف / 54 ) .
هـ - خيار الرؤية :
32 - خيار الرؤية : هو حقٌّ يثبت للمتملّك الفسخ أو الإمضاء عند رؤية محلَّ العقد المعيَّن الّذي عقد عليه ولم يره .
وقد اختلف الفقهاء في سقوطه بموت صاحبه على قولين :
أحدهما : للحنفيّة , وهو أنّه يسقط بموت صاحبه ولا ينتقل إلى ورثته , باعتباره لمطلق التّروّي لا لتحاشي الضّرر أو الخلف في الوصف , وغايته أن ينظر المشتري : هل يصلح له المبيع أم لا ؟ ومع اعتبارهم إيّاه خياراً حكميّاً من جهة الثبوت , فقد قالوا : إنّه مرتبطٌ بالإرادة من حيث الاستعمال , والحقوق المرتبطة بمشيئة العاقد لا تورث , لأنّ انتقالها إلى الوارث يعني , نقل الإرادة والمشيئة إليه , وهو مستحيل .
والثّاني : للشّافعيّة , وهو أنّه لا يسقط بموت صاحبه , بل ينتقل إلى وارثه .
و - خيار فوات الوصف المرغوب :
33 - خيار فوات الوصف المرغوب هو حق المشتري في فسخ العقد لتخلف وصف مرغوب اشترطه في المعقود عليه .
وهذا الخيار يورث بموت مستحقّه عند الفقهاء , فينتقل إلى ورثته .
والتّفصيل في ( خيار فوات الوصف ف / 13 ) .
ز - خيار التّعيين :
34 - خيار التّعيين : وهو حقُ العاقد في تعيين أحد الأشياء الّتي وقع العقد على أحدها شائعاً خلال مدّة معيّنة .
وقد نصّ الحنفيّة والمالكيّة على أنّ خيار التّعيين لا يسقط بموت صاحبه , بل ينتقل إلى وارثه , فيقوم مقامه في تعيين ما يختاره من محلّ الخيار , ذلك أنّ لمورّثه مالاً ثابتاً ضمن الأشياء الّتي هي محل الخيار , فوجب على الوارث أن يعيِّن ما يختاره ويردَّ ما ليس له إلى مالكه .
ح - خيار التّغرير :(/7)
35 - خيار التّغرير هو حق المشتري في الفسخ لتعرُّضه لأقوال موهمة من البائع دفعته للتّعاقد , وقد اختلف الحنفيّة في كونه موروثاً , فاستظهر التمرتاشيّ من الحنفيّة - وأقرّه الحصكفيّ - أنّ خيار التّغرير لا ينتقل إلى الوارث , لأنّه من الحقوق المجرّدة , وهي لا تورث . قال ابن عابدين : ويؤيّده ما بحثه في البحر من أنّ خيار ظهور الخيانة لا يورث , لتعليلهم بأنّه مجرّد خيار لا يقابله شيء من الثّمن , بل هناك ما يجعل نفي توريثه بالأولى , لأنّه خيار لدفع الخداع , فإذا كان خيار الشّرط الملفوظ به لا يورث , فكيف يورث غير الملفوظ به مع كونه مختلفاً فيه .
وفي رأي أنّه يورث كخيار العيب .
ط - خيار النَّقد :
36 - خيار النّقد : هو حقٌّ يشترطه العاقد للتّمكن من الفسخ عند عدم نقد البدل من الطّرف الآخر , وقد نصّ الحنفيّة على أنّه لا يورث , بل يسقط بموت صاحب الخيار , لأنّه وصف له , والأوصاف لا تورث , وأسوة بأصله وهو خيار الشّرط , حيث إنّه لا يورث عندهم . ولم يتعرّض المالكيّة والحنابلة إلى سقوطه أو إرثه , أمّا الشّافعيّة فهو غير جائز عندهم أصلاً .
ثانياً - حق الشّفعة :
37 - الشّفعة عبارة عن حقّ التّملك في العقار لدفع ضرر الجوار .
وقد اختلف الفقهاء فيما إذا مات صاحب حقّ الشّفعة قبل أن يأخذ بها , هل ينتقل ذلك الحق لورثته , أم يسقط وينتهي بموته ؟ وذلك على ثلاثة أقوال :
الأوّل : للشّافعيّة والمالكيّة وأحمد في رواية عنه , وهو أنَّ حقَّ الشّفعة حق ماليّ , فيورث عن الميّت كما تورث أمواله , ويقوم وارثه مقامه في المطالبة به .
الثّاني : للحنفيّة , وهو أنّ الشّفيع إذا مات قبل الأخذ بالشّفعة , بطلت شفعته , سواء كان موته قبل الطّلب أو بعده , لأنّ الشّفعة مجرّد خيار في التّملك , وهي إرادة ومشيئة في الأخذ أو التّرك , وذلك لا يورث إلّا إذا مات الشّفيع بعد القضاء بها أو تسليم المشتري له بها . الثّالث : للحنابلة , وهو التّفصيل بين ما إذا مات الشّفيع قبل الطّلب أو بعده , فإن مات قبله مع القدرة عليه بطلت شفعته , لأنّه نوع خيار شرع للتّمليك , أشبه الإيجاب قبل قبوله , ولأنّه لا يعلم بقاؤه على الشّفعة , لاحتمال رغبته عنها , فلا ينتقل إلى الورثة ما شكّ في ثبوته , أمّا إذا مات الشّفيع بعد طلبه , فإنّ الشّفعة تنتقل لورثته , لأنّ الطّلب ينتقل به الملك للشّفيع , فوجب أن يكون موروثاً .
والتّفصيل في مصطلح ( شفعة ف / 51 ) .
ثالثاً - حق المالك في إجازة تصرفات الفضوليّ :
38 - نصّ الحنفيّة على أنّ المالك إذا مات قبل إجازته لعقد الفضوليّ الموقوف على إجازته, فإنَّ حقَّه في الإجازة يبطل بموته , ولا ينتقل إلى ورثته , لأنّ الإجازة إنّما تصح من المالك لا من وارثه , واستثنوا من ذلك تصرف الفضوليّ في القسمة , فمع كونه موقوفاً على إجازة المالك , فإنّ حقّه في الإجازة لا يبطل بموته , بل ينتقل إلى وارثه عند أبي حنيفة وأبي يوسف استحساناً , لأنّه لا فائدة في نقض القسمة بعد تمامها ثمّ إعادتها مرّةً أخرى , والقياس بطلان القسمة بموته , وعدم انتقالها للوارث , وهو قول الإمام محمّد لأنّ القسمة مبادلة كالبيع .
رابعاً - استحقاق المنافع بموجب الإجارة والإعارة والوصيّة بالمنفعة :
39 - المنفعة في اصطلاح الفقهاء هي الفائدة العرضيّة الّتي تنال من الأعيان بطريق استعمالها .
وقد اختلف الفقهاء في أثر الموت على المنافع الّتي يستحقها الشّخص في - عين من الأعيان بموجب عقد الإجارة أو الإعارة أو الوصيّة بالمنفعة , هل يبطل حقه فيها بالموت أم أنّها تورث عنه ؟ وذلك على النّحو التّالي :
أ - الإجارة :
40 - اختلف الفقهاء في أثر الموت على استحقاق المنافع في عقد الإجارة , وذلك على قولين :
الأوّل : للشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة وإسحاق والبتّيّ وأبي ثور وابن المنذر وهو أنّ المستأجر إذا مات قبل انقضاء أمد الإجارة , فلا ينفسخ العقد بموته , بل يخلفه وارثه في استيفاء المنفعة إلى نهاية مدّة الإجارة , لأنّ الإجارة عقد لازم , فلا ينفسخ موت العاقد مع سلامة المعقود عليه , ولأنّ المستأجر ملك المنافع بالعقد , وهي مال , فينتقل إلى وارثه . الثّاني : للحنفيّة والثّوريّ واللّيث وهو أنّ عقد الإجارة ينفسخ بموت المستأجر قبل انتهاء مدّة الإجارة , فيسقط حقه في المنافع المعقود عليها , ولا ينتقل إلى ورثته , وذلك لأنّ الوراثة خلافة , ولا يتصوّر ذلك إلّا فيما يبقى زمانين , ليكون ملك المورّث في الوقت الأوّل, ويخلفه الوارث في الوقت الثّاني , والمنفعة الموجودة في حياة المستأجر لا تبقى لتورث , والّتي تحدث بعدها لم تكن مملوكةً له ليخلفه الوارث فيها , إذ الملك لا يسبق الوجود , وإذا ثبت انتفاء الإرث تعيّن بطلان العقد .
ب - الإعارة :
41 - اختلف الفقهاء في أثر موت المستعير على استحقاق المنافع في العارية على قولين : أحدهما : للحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وهو أنّ حقّ المستعير بمنافع العين المعارة حقٌّ شخصيّ , ينتهي بوفاة صاحبه , ولا ينتقل إلى ورثته , وعلى ذلك فإنّ الإعارة تنفسخ بموت المستعير , ويجب على ورثته ردُّ العارية فوراً إلى صاحبها , ولو لم يطلبها .(/8)
والثّاني : للمالكيّة , وهو أنّ الإعارة سواء كانت مقيّدةً بمدّة معيّنة أو مطلقةً , فإنّ المستعير يستحق الانتفاع بها في المدّة المحدّدة أو الّتي ينتفع بها النّاس عادةً عند الإطلاق , فإن مات المستعير قبل انتهاء تلك المدّة , فإنّ حقّه في المنفعة في المدّة المتبقّية لا يسقط بموته , بل ينتقل إلى ورثته , إلّا في حالة واحدة , وهي ما إذا اشترط المعير عليه أن ينتفع بها بنفسه فقط , فحينئذٍ لا تورث عنه المدّة المتبقّية , لأنّ فيها يعتبر حقاً شخصيّاً .
ج - الوصيّة بالمنفعة :
42 - اختلف الفقهاء فيما إذا مات الموصى له بالمنفعة قبل انقضاء أمدها , هل تبطل الوصيّة بالمنفعة بموته , أم أنّ المنفعة تنتقل إلى ورثته حتّى نهاية مدّتها ؟ وذلك على قولين :
أحدهما : للحنفيّة , وهو أنّ ما تبقّى من مدّة المنفعة بعد موت الموصى له بها يسقط بموته, ولا يورث عنه , بل تعود العين إلى ورثة الموصي بحكم الملك , وذلك لأنّ الموصي قد أوجب الحقّ للموصى له ليستوفي المنفعة على حكم ملكه , فإذا انتقل هذا الحق إلى ورثة الموصى له بعد موته , فيكون كأنّهم استحقوه ابتداءً من ملك الموصي من غير رضاه , وذلك لا يجوز , ولأنّ المنفعة عرضٌ , والعرض لا يبقى زمانين حتّى يكون محلاً للتّوارث . والثّاني : للشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة , وهو أنّ الموصى له بالمنفعة يملك تلك المنفعة , وعلى ذلك : فإذا مات , فإنّها لا تسقط بموته , بل تنتقل إلى ورثته فيما بقي له من المدّة إذا كانت الوصيّة مقيّدةً بزمن معيّن أو كانت على التّأبيد لأنّها مال , فتورث عنه كسائر أمواله . واستثنوا من ذلك حالة ما إذا كانت الوصيّة بالمنفعة مقيّدةً بحياة الموصى له , ففي هذه الحالة يعتبر حق الموصى له بها حقاً شخصيّاً , فيسقط بوفاته , ولا ينتقل إلى ورثته .
خامساً - أجل الديون :
43 - الأجل في الديون حق للمدين , ومن ثبت له هذا الحق فليس للدّائن مطالبته بالدّين قبل حلوله , فإذا مات فهل يبطل الأجل ويحل الدّين بموته , أم يبقى ثابتاً كما هو وينتقل عنه إلى ورثته ؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال :
أحدها : لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة وأحمد في رواية عنه , وهو أنّ الأجل يسقط , ويحل الدّين بموت المدين , وتنقلب جميع الديون المؤجّلة الّتي عليه مهما اختلفت آجالها حالّةً بموته , وبه قال الشّعبي والنّخعيّ وسوّار والثّوري .
قال ابن رشد الحفيد : وحجّتهم أنّ اللّه تعالى لم يبح التّوارث إلّا بعد قضاء الدّين , فالورثة في ذلك أحد أمرين : إمّا أن لا يريدوا أن يؤخّروا حقوقهم في المواريث إلى محلِّ أجل الدّين, فيلزم أن يجعل الدّين حالاً , وإمّا أن يرضوا بتأخير ميراثهم حتّى تحلَّ الديون , فتكون الديون حينئذٍ مضمونةً في التّركة خاصّةً لا في ذممهم , وقال ابن قدامة : ولأنّه لا يخلو : إمّا أن يبقى في ذمّة الميّت , أو الورثة , أو يتعلّق بالمال , ولا يجوز بقاؤه في ذمّة الميّت لخرابها وتعذر مطالبته بها , ولا ذمّة الورثة لأنّهم لم يلتزموه , ولا رضي صاحب الدّين بذممهم , وهي مختلفة متباينة , ولا يجوز تعليقه على الأعيان وتأجيله , لأنّه ضرر بالميّت وصاحب الدّين ولا نفع للورثة فيه .
وقد استثنى المالكيّة من ذلك حالتين , وقالوا : إنّ الدّين المؤجّل لا يحل بالموت فيهما , وهي :
أ - إذا قتل إلى الدّائن المدين , فإنّ دينه لا يحلُّ , لأنّه قد استعجله قبل أوانه فعوقب بالحرمان .
ب - إذا اشترط المدين على الدّائن أن لا يحلّ الدّين المؤجّل الّذي عليه بموته , فيعمل بالشّرط .
والثّاني : للحنابلة في المذهب , وهو أنّ الدّين المؤجّل لا يحلُّ بموت المدين إذا وثَّقه الورثة أو غيرهم برهن أو كفيل مليء بالأقلّ من قيمة التّركة أو الدّين , فإن لم يوثَّق بذلك حلّ , لأنّ الورثة قد لا يكونون أملياء , ولم يرض بهم الغريم , فيؤدّي إلى فوات الحقّ , وهو قول ابن سيرين وعبد اللّه بن الحسن وإسحاق وأبي عبيد .
وحجّتهم على ذلك أنّ الموت ما جعل مبطلاً للحقوق , وإنّما هو ميقات للخلافة , وعلامة على الورثة , وعلى هذا يبقى الدّين في ذمّة الميّت كما كان , ويتعلّق بعين ماله كتعلق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه , فإن أحبّ الورثة التزام الدّين وأداءه للغريم على أن يتصرّفوا في المال , لم يكن لهم ذلك إلّا أن يرضى الغريم , أو يوثّقوا الحقّ بضمين مليء أو رهن يثق به لوفاء حقّه .
والثّالث : رواية عن أحمد اختارها أبو محمّد الجوزي من الحنابلة , وهو أنّ الأجل لا يحل بالموت مطلقاً , وإن لم يوثّق الورثة أو غيرهم الدّين , وذلك لأنّ الأجل حق للميّت , فيورث عنه كسائر حقوقه , وبه قال طاووسٌ وأبو بكر بن محمّد والزهري وسعد بن إبراهيم وحكي عن الحسن .
سادساً - حق التّحجير :
44 - وهو حق يثبت لمن قام بوضع علاماتٍ في أرض مواتٍ - سواء بنصب أحجار أو غرز أخشاب عليها أو حصاد ما فيها من الحشيش والشّوك ونحو ذلك - ليصير أحقّ النّاس بها لسبق يده عليها , وقد حدّد بعض الفقهاء له أمداً معيّناً ينتهي فيه , بحيث لا يستطيع أحد مزاحمته خلاله , وهو ثلاث سنواتٍ , وجعل بعضهم تحديد المدّة لاجتهاد الحاكم بحسب العرف والعادة .
والمتحجّر إذا مات قبل نهاية المدّة المحدّدة لاحتجاره , فهل يسقط حقه بموته , أم أنّه ينتقل في بقيّة المدّة إلى ورثته ؟(/9)
نصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّ هذا الحقّ يورث , ولا يسقط بموت المتحجّر , ويكون ورثته أحقّ بالأرض من غيرهم . وهو مقتضى مذهب المالكيّة , إذ الأصل عندهم أن تورث الحقوق كالأموال , إلّا إذا قام دليل على مفارقة الحقّ لمعنى المال , وحق التّحجير متعلّق بالمال , لا ينفك عنه , فكان موروثاً .
سابعاً - حق الانتفاع بالأراضي الخراجيّة :
45 - الأرض الخراجيّة : هي الّتي فرض الخراج على الّذين ينتفعون بها , سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين , والخراج : هو ما يوضع على الأرض غير العشريّة من حقوق تؤدّى عنها إلى بيت المال .
ويعتبر الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة الأراضي الخراجيّة موقوفةً على مصالح المسلمين في الجملة , أمّا الحنفيّة فيقولون : هي ملك لأصحابها , ولهم أن يتصرّفوا فيها بسائر وجوه التّصرف الشّرعيّة , وعلى ذلك فإنّها تورث عنهم بالموت كسائر أملاكهم , إذ ليس حق انتفاعهم بها إلّا أثراً من آثار ثبوت ملكيّتهم عليها .
وقد ترتّب على قول جمهور الفقهاء بوقفها على مصالح المسلمين أنّ المنتفعين بالأراضي الخراجيّة من الفلّاحين ونحوهم لا يملكونها , ولكن لهم حق الانتفاع بها في مقابل دفع خراجها إلى بيت المال , ثمّ إنّهم اختلفوا في انتقال هذا الحقّ لورثتهم بالموت على قولين : أحدهما : للشّافعيّة والحنابلة ومتأخّري المالكيّة , وهو أنّ حقّ المنفعة بالأراضي الخراجيّة يورث عن صاحبه , فإذا مات المنتفع بها انتقل الحق إلى ورثته , لأنّه حق ماليّ موروثٌ . والثّاني : لمتقدّمي فقهاء المالكيّة , وهو أنّ المنتفع بالأراضي الخراجيّة إذا مات سقط حقه في الانتفاع بها , ولا تورث عنه , ويكون للإمام أن يعطيها من بعده لمن يشاء , بحسب مقتضيات المصلحة العامّة للمسلمين .
ثامناً - حق الانتفاع بالإقطاع :
46 - نصّ الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة على أنّ للإمام أن يُقطع الأرض من بيت المال على وجه التّمليك لرقبتها كما يعطي المال لمستحقّه , فإذا مات المقطع , فإنّها تنتقل إلى ورثته كسائر أملاكه , سواء عمّرها وأحياها أم لا .
أمّا إقطاع الأراضي الموات لإحيائها , فقد اختلف الفقهاء في حكمه وفي انتقال الحقّ فيه إلى الوارث بموت صاحبه , وذلك على ثلاثة أقوال :
أحدها : للشّافعيّة والحنابلة , وهو أنّه لا يفيد الملك للمقطع إلّا بالإحياء , ولكنّه يكون أحقّ بها من غيره قبل الإحياء , وهذا الحق ينتقل لورثته بعد موته .
والثّاني : للحنفيّة , وهو أنّ للإمام أن يقطع كلّ مواتٍ وكلّ ما ليس فيه ملك لأحد , فإن عمّرها المقطع وأحياها صارت ملكاً له , وتورث عنه كسائر أملاكه , أمّا إذا لم يحيها ولم يعمّرها طيلة ثلاثة سنواتٍ , فإنّ حقّه فيها يبطل , وتعود إلى حالها مواتاً , وللإمام أن يعطيها غيره .
والثّالث : للمالكيّة , وهو أنّ إقطاع الموات تمليك مجرّد , فمن أقطعه الإمام شيئاً صار ملكاً له وإن لم يحيه ويعمّره , وبالموت ينتقل إلى ورثته كسائر أملاكه .
أمّا بالنّسبة لإقطاع الاستغلال الّذي يقع على أراضي بيت المال لمن له فيه حق , على سبيل استغلالها لا تمليكها فقد ذكر الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة أنّ للإمام أن يعطي الأرض التّابعة لبيت المال منفعةً , بحيث يكون المعطى مستحقاً لمنفعتها دون رقبتها وحق الانتفاع بها يعتبر حقاً شخصيّاً , فيسقط بوفاة صاحبه ولا يورث عنه , لأنّه مقيّد عرفاً بحياة المقطع , وترجع الأرض المقطعة بموته لبيت المال وقفاً على ما هي عليه .
تاسعاً - الاختصاص بالانتفاع بالأعيان النّجسة :
47 - الاختصاص هو حق في شيء , يختص مستحقه بالانتفاع به , ولا يملك أحد مزاحمته فيه , وهو غير قابل للشّمول والمعاوضات .
ومن صور الاختصاص بالأعيان النّجسة عند الشّافعيّة والحنابلة : الكلب المباح اقتناؤه ككلب الحراسة والصّيد والزيوت والأدهان المتنجّسة الّتي يجوز الانتفاع بها بالاستصباح أو بتحويلها إلى صابون ونحو ذلك , والاختصاص بهذه الأشياء ونحوها لا يفيد الملك عندهم , ولكنّه يعطي صاحبه حقّ الانتفاع المحدود بها في الوجوه السّائغة شرعاً .
وهذا الحق ينتقل بالموت إلى ورثة صاحب الاختصاص ولا يسقط بموته .
أمّا الحنفيّة وبعض المالكيّة فإنّهم يعتبرون الأعيان النّجسة أو المتنجّسة الّتي أبيح الانتفاع بها شرعاً مالاً متقوّماً , كالسّرجين والبعر وكلاب الماشية والصّيد ونحوها , وعلى ذلك فإنّها تورث عن صاحبها بموته كسائر أمواله .
عاشراً - حق القصاص والعفو عنه :
48 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ القود لا يجب إلّا في القتل العمد بعد اجتماع شروطه , وأنّه حق الورثة ( أولياء الدّم ) , ولكنّهم اختلفوا في ذلك الحقّ هل يثبت لهم ابتداءً أم بطريق الإرث عن المجنيّ عليه ؟ ومن هم الّذين يستحقونه منهم ؟ وذلك على ثلاثة أقوال : أحدها : للحنابلة والشّافعيّة في الأصحّ وأبي يوسف ومحمّد وهو أنّ حقّ القصاص يثبت للمجنيّ عليه أوّلاً بسبب الجناية عليه , ثمّ ينتقل إلى ورثته جميعهم , الرّجال والنّساء والكبار الصّغار , من ذوي الأنساب والأسباب , كسائر أمواله وأملاكه , وهو قول عطاء والنّخعيّ والحكم وحمّاد والثّوريّ .
وعلى ذلك , فمتى انتقل الحق للورثة , فهم بالخيار : إن شاءوا اقتصوا , وإن شاءوا عفوا, وإذا عفا أحدهم عن حقّه في القصاص سقط حق الباقين فيه , لأنّه لا يتجزّأ , وينقلب نصيب الباقين مالاً , ولا يكون للعافي شيء منه , ولأنّه أسقط حقّه مجّاناً برضاه .(/10)
وإذا انقلب القصاص إلى مال بعفو الورثة إليه , فإنّ ذلك المال يكون للموروث أوّلاً , فتقضى منه ديونه , وتنفذ منه وصاياه , وما بقي يكون لورثته .
والثّاني : للمالكيّة والشّافعيّة في قول وأحمد في رواية عنه اختارها ابن تيميّة وهو أنّ القصاص حق للمجنيّ عليه ابتداءً ثمّ ينتقل إلى العصبات الذكور من ورثته خاصّةً , لأنّه ثبت لدفع العار , فاختصّ به العصبات , كولاية النّكاح .
والثّالث : لأبي حنيفة وهو أنّ القصاص ليس موروثاً عن المجنيّ عليه , بل هو ثابت ابتداءً للورثة , لأنّ الغرض منه التّشفّي ودرك الثّأر , والميّت لا يجب له إلّا ما يصلح لحاجته من تجهيزه وقضاء دينه وتنفيذ وصيّته , والقصاص لا يصلح لشيء من ذلك , ثمّ إنّ الجناية قد وقعت على ورثته من وجهٍ , لانتفاعهم بحياته , فإنّهم كانوا يستأنسون به وينتصرون , وينتفعون بماله عند الحاجة , ولذا وجب القصاص للورثة ابتداءً , لحصول التّشفّي لهم ولوقوع الجناية على حقّهم , لا أن يثبت للميّت ثمّ ينتقل إليهم حتّى يجري فيه التّوارث كما في سائر حقوقه , ولكن إذا انقلب ذلك الحق مالاً , فإنّه يصير عندئذٍ موروثاً , لأنّ ثبوت القصاص حقاً للورثة ابتداءً إنّما كان لضرورة عدم صلوحه لحاجة الميّت , فإذا انقلب مالاً بالصلح عليه أو العفو إلى الدّية - والمال يصلح لحوائج الميّت من التّجهيز وقضاء الديون وتنفيذ الوصايا - ارتفعت الضّرورة , وصار الواجب كأنّه هو المال , إذ الخَلَفُ إنّما يجب بالسّبب الّذي يجب به الأصل , فيثبت الفاضل عن حوائج الميّت لورثته خلافةً لا أصالةً .
أمّا حق القصاص فيما دون النّفس , فقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه يورث عن المجنيّ عليه ولا يسقط بوفاته قبل استيفائه , وثبوته لورثته إنّما هو على سبيل الميراث عنه لا ابتداءً , وهناك رواية عن الإمام أحمد أنّ حقّ القصاص في الأطراف لا ينتقل إلى الورثة إلّا إذا طالب به المجني عليه قبل موته , أمّا إذا لم يطالب فيه , فإنّه يسقط وينتهي بوفاته .
حادي عشر - حق الموصى له في قبول الوصيّة :
49 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ قبول الوصيّة من الموصى له المعيّن شرطٌ لثبوت الملك له , وأنّ له الحقّ في قبوله أو ردّها بحسب مشيئته .
ولكن إذا مات الموصى له بعد الموصي وقبل صدور القبول أو الرّدّ منه , فهل ينتقل ذلك الحق لورثته أم يسقط بموته ؟ اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال :
الأوّل : للشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة , وهو أنّ حقّ القبول أو الرّدّ في الوصيّة ينتقل لورثة الموصى له إذا مات بعد الموصي من غير قبول أو رد , لأنّه حق موروثٌ , فلا يسقط بموته, بل يثبت للورثة , فإن شاءوا قبلوا وإن شاءوا ردُّوا .
واستثنى المالكيّة من ذلك ما إذا كانت الوصيّة له بعينه وشخصه , فحينئذٍ تسقط بموته , ولا ينتقل ذلك الحق إلى ورثته .
الثّاني : للحنفيّة وبعض المالكيّة , وهو أنّ الموصى له إذا مات قبل القبول أو الرّدّ بعد وفاة الموصي , فإنّ الموصى به يدخل في ملكه دون حاجة إلى قبول الورثة , لأنّ القبول عندهم هو عبارة عن عدم الرّدّ , فمتى وقع اليأس عن ردّ الموصى له أعتبر قابلاً حكماً .
الثّالث : للأبهريّ من المالكيّة وأحمد في رواية عنه أخذ بها ابن حامد ووصفها القاضي بأنّها قياس المذهب , وهي أنّ الوصيّة تبطل بموت الموصى له قبل قبوله , لأنّها عقد يفتقر إلى القبول , فإذا مات من له حق القبول قبله بطل العقد , كالهبة , ولأنّه خيار لا يعتاض عنه , فيبطل بالموت , كخيار المجلس والشّرط وخيار الأخذ بالشّفعة .
ثاني عشر - حق الموهوب له في قبول الهبة وقبضها :
50 - اختلف الفقهاء فيما إذا مات الموهوب له قبل القبول , هل تبطل الهبة بموته , أم أنّ حقّ القبول ينتقل إلى ورثته ؟ وذلك على قولين :
أحدهما : للحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة , وهو أنّ الموهوب له إذا مات قبل القبول بطلت الهبة , ولم يكن لورثته حق القبول من بعده , أشبه ما لو أوجب البيع فمات المشتري قبل القبول .
وإذا مات بعد القبول وقبل القبض , فإنّ الهبة تبطل أيضاً عند الحنفيّة والحنابلة وبعض الشّافعيّة , لأنّها لا تلزم ولا ينتقل الملك فيها إلّا بالقبض , وقد انعدم ذلك بموت الموهوب له قبله , ولأنّ الهبة صلة , والصّلات تبطل بالموت قبل القبض , ولأنّها عقد جائزٌ قبله , فبطل بموت أحد العاقدين , كالوكالة والشّركة .
وخالفهم في ذلك الشّافعيّة في المعتمد , حيث نصوا على عدم انفساخ الهبة بموت المتّهب قبل القبض , لأنّه عقد يئُول إلى اللزوم , فلم يبطل بالموت , كالبيع بشرط الخيار , ويقوم وارث المتّهب مقام مورّثه في القبض .
والثّاني : للمالكيّة , وهو أنّ الموهوب له إذا مات ولم يكن يعلم بالهبة , فإنّها لا تبطل , ويقوم ورثته مقامه في القبول أو الرّدّ , إلّا إذا كان الواهب يقصد شخص الموهوب له وذاته لفظاً أو بدلالة , قرائن الأحوال , فحينئذٍ تبطل الهبة بموته قبل القبول , لأنّ الحقّ ههنا شخصيّ , فينتهي بموت صاحبه , ولا ينتقل إلى ورثته .
أمّا إذا مات الموهوب له بعد علمه بالهبة , ولم يظهر منه رد حتّى مات , فإنّه يعتبر قابلاً حكماً , ويقوم ورثته مقامه في القبض , وكذا إذا قبل صراحةً , ولكنّه لم يقبض الهبة حتّى وافته المنيّة , فيورث عنه حق قبضها .
ثالث عشر - حق الواهب في الرجوع في الهبة :(/11)
51 - ذهب جماهير الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة وغيرهم إلى أنّ حقّ الواهب في الرجوع في الهبة يسقط بموته , ولا ينتقل إلى ورثته من بعده لأنّ الخيار في الرجوع فيها حقٌّ شخصيّ للواهب , ثبت له لمعان وأوصاف ذاتيّة فيه , والحق الشّخصي لا يورث .
ثمّ إنّ الشّارع إنّما أوجب هذا الحقِّ للواهب , والوارث ليس بواهب .
وأيضاً هو حق مجرِّد , والحقوق المجرّدة لا تورث ابتداءً , وإنّما تورث تبعاً للمال , وورثة الواهب لا يرثون العين الموهوبة الّتي هي مال , فلا يرثون ما يتعلّق بها من حقّ الرجوع .
أثر الموت على التزامات المتوفّى :
أثر الموت على الالتزامات المفترضة بنصّ الشّارع :
هناك التزامات ماليّة وغير ماليّة , وسنعرض فيما يلي أثر الموت على كل من هذه الالتزامات :
أوّلاً - الالتزامات الماليّة :
أ - الزّكاة الواجبة :
52 - اختلف الفقهاء في تأثير الموت على سقوط دين الزّكاة إذا توفّي من وجبت الزّكاة في ماله قبل أدائها , وذلك على ثلاثة أقوال :
الأوّل : للشّافعيّة والحنابلة , وهو أنّه من وجبت عليه الزّكاة وتمكَّن من أدائها , ولم يؤدّها حتّى مات , فإنّها لا تسقط بموته , ويلزم إخراجها من رأس ماله وإن لم يوص بها , وهو مذهب عطاء والحسن البصريّ والزهريّ وقتادة وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر واحتجوا على ذلك بأنّ دين الزّكاة حق ماليّ واجب لزمه حال الحياة , فلم يسقط بموته , كدين العبد . ويفارق الصّلاة , فإنّها عبادة بدنيّة لا تصح الوصيّة بها ولا النّيابة فيها وبعموم قوله تعالى في آية المواريث : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } حيث عمّم سبحانه الديون كلّها , والزّكاة دين قائم للّه تعالى وللمساكين والفقراء والغارمين وسائر من فرضها اللّه تعالى لهم بنصّ الكتاب المبين .
وبما ورد عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال : « جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه إنّ أمّي ماتت وعليها صوم شهر , أفأقضيه عنها ؟ قال صلى الله عليه وسلم : نعم . قال : فدين اللّه أحق أن يقضى » . فدلَّ ذلك على أنّ حقوق اللّه تعالى أحقُّ أن تُقضى , ودين الزّكاة منها .
الثّاني : للحنفيّة , وهو أنّ من مات , وعليه دين زكاة لم يؤدّه في حياته , فإنّه يسقط بموته في أحكام الدنيا , ولا يلزم الورثة بإخراجها من تركته ما لم يوص بذلك , فإن أوصى بأدائها من تركته , فإنّها تخرج من ثلثها كسائر الوصايا , وما زاد على الثلث لا ينفذ إلّا بإجازة الورثة .
وهو قول ابن سيرين والشّعبيّ والنّخعيّ وحمّاد بن أبي سليمان وحميد الطّويل وعثمان البتّيّ وسفيان الثّوريّ وغيرهم .
وتعليل ذلك أنّ المقصود من حقوق اللّه تعالى إنّما هو الأفعال , إذ بها تظهر الطّاعة والامتثال , وما كان ماليّاً منها , فالمال متعلّق بالمقصود , وهو الفعل , وقد سقطت الأفعال كلها بالموت , لتعذر ظهور طاعته بها في دار التّكليف , فكان الإيصاء بالمال الّذي هو متعلّقها تبرعاً من الميّت ابتداءً , فاعتبر من الثلث .
وأيضاً فإنّ الزّكاة وجبت بطريق الصّلة, ألا ترى أنّه لا يقابلها عوضٌ ماليّ , والصّلات تبطل بالموت قبل التّسليم .
واستثنى الحنفيّة من ذلك زكاة الزروع والثّمار , فقالوا بعدم سقوطها بالموت قبل الأداء إذا كان الخارج , قائماً , فمن وجب عليه العشر أو نصف العشر فإنّه يؤخذ من تركته إذا مات قبل أدائه .
الثّالث : للمالكيّة , وهو أنّ من مات وعليه زكاة لم تؤدّ في حياته , فلا يخلو : إمّا أن تكون تلك الزّكاة حالّةً في العام الحاضر الّذي مات فيه , وإمّا أن تكون عن سنين ماضية فرّط في أداء الزّكاة فيها .
الحالة الأولى : فإن كانت الزّكاة حالّةً في العام الحاضر الّذي مات فيه , فإنّها إمّا أن تكون زكاة حرث وثمر وماشية , أو زكاة عين " ذهب أو فضّة " .
فإن كانت زكاة أموال ظاهرة كحرث وماشية ونحوها , فإنّها لا تسقط بموته , بل تخرج من رأس ماله مقدّمةً على الكفن والتّجهيز , سواء أوصى بها أو لا , لأنّها من الأموال الظّاهرة. أمّا إذا كانت زكاة عين حاضرةً " من الأموال الباطنة " فإنّها تخرج من رأس المال جبراً عن الورثة , إن اعترف بحلولها وبقائها في ذمّته وأوصى بإخراجها , أمّا إذا اعترف بحلولها , ولم يعترف ببقائها , ولم يوص بإخراجها , فلا يجبر الورثة على إخراجها لا من ثلث تركته ولا من رأس ماله , وإنّما يؤمرون في غير جبر , إلّا أن يتحقّق الورثة من عدم إخراجها , فحينئذٍ تخرج من رأس ماله جبراً .
وإذا اعترف ببقائها , وأوصى بإخراجها , أخرجت من الثلث جبراً .
وإن اعترف ببقائها ولم يوص بإخراجها , لم يقض عليهم بإخراجها , وإنّما يؤمرون بذلك من غير إجبار لاحتمال أن يكون قد أخرجها قبل موته , فإن علموا عدم إخراجها أجبروا على الإخراج من رأس ماله .
الحالة الثّانية : وإذا كانت الزّكاة عن مدّة ماضية , وفرّط في أدائها سواء أكانت زكاة عين أو ماشية أو حرث فيلزم إخراجها من الثلث إن أوصى بها أو اعترف بأنّها باقية في ذمّته . أمّا إذا لم يعترف بذلك ولم يوص بها , فإنّه لا يلزم الورثة إخراجها لا من الثلث ولا من رأس المال .
ولو أشهد في صحّته أنّها في ذمّته , وأنّه لم يفرّط , فإنّها تخرج من رأس المال .
وإذا أشهد في مرض موته على ذلك تكون بمنزلة الوصيّة , وتخرج من الثلث .
ب - صدقة الفطر :
53 - اختلف الفقهاء في تأثير الموت على سقوط صدقة الفطر عمّن وجبت عليه إذا مات قبل أدائها , وذلك على ثلاثة أقوال :(/12)
الأوّل : للشّافعيّة , والحنابلة , وهو أنّ من وجبت عليه صدقة الفطر , وتمكّن من أدائها , ولم يؤدّها حتّى مات , لم تسقط بموته , بل يجب إخراجها من تركته , وإن لم يوص بها . الثّاني : للحنفيّة , وهو أنّ من وجبت عليه زكاة الفطر إذا مات قبل أدائها فإنّها تسقط بموته في أحكام الدنيا , ولا يلزم ورثته إخراجها من تركته ما لم يوص بها .
فإن أوصى بها , فإنّها تخرج من ثلث ماله كسائر الوصايا , وذلك لأنّ صدقة الفطر وجبت بطريق الصّلة , ألا ترى أنّه لا يقابلها عوضٌ ماليّ , والصّلات تبطل بالموت قبل التّسليم . الثّالث : للمالكيّة , وهو أنّ زكاة الفطر الحاضرة إذا مات من وجبت عليه قبل إخراجها , فإنّها تخرج من رأس ماله كزكاة العين , وذلك إن أوصى بها .
أمّا إذا لم يوص بها , فإنّ الورثة يؤمرون بإخراجها , لكنّهم لا يجبرون على ذلك .
وإذا كانت زكاة الفطر عن سنين ماضية فرّط فيها , ثمّ أوصى بأدائها قبل موته , فإنّها تخرج من ثلث ماله .
ولو أشهد في صحّته أنّها بذمّته , فإنّها تخرج من رأس ماله , سواء أوصى بها أم لم يوص.
ج - الخراج والعشر :
54 - قال الحنفيّة : لو أنّ أرضاً من أراضي الخراج مات ربها قبل أن يؤخذ منه الخراج , فإنّه لا يؤخذ من تركته , لأنّ الخراج في معنى الصّلة , فيسقط بالموت قبل الاستيفاء , ولا يتحوّل إلى التّركة كالزّكاة , ثمّ إنّ خراج الأرض معتبر بخراج الرّأس , ففي كلّ واحد منهما معنى الصّغار , وكما أنّ خراج الرّأس يسقط بموت من عليه قبل الاستيفاء , فكذلك خراج الأرض , ولا يمكن استيفاؤه من الورثة باعتبار ملكهم , لأنّهم لم يتمكّنوا من الانتفاع بها في السّنة الماضية .
ولو مات رب الأرض العشريّة , وفيها زرع , فإنّه يؤخذ منه العشر على حاله , وفي رواية ابن المبارك عن أبي حنيفة أنّه سوّى بين العشر والخراج , وقال : يسقط بموت ربّ الأرض, وأمّا في ظاهر الرّواية , فالزّرع القائم يصير مشتركاً بين الفقراء ورب الأرض , عشره حق الفقراء , وتسعة أعشاره حق ربّ الأرض , ولهذا لا يعتبر في إيجاب العشر المالك , حتّى يجب في أرض المكاتب والعبد والمدين والصّبيّ والمجنون , فبموت أحد الشّريكين لا يبطل حق الآخر , ولكن يبقى محله , وهذا بخلاف الخراج , حيث إنّ محله الذّمّة , وبموته خرجت ذمّته من أن تكون صالحةً لالتزام الحقوق , والمال لا يقوم مقام الذّمّة فيما طريقه طريق الصِّلة .
د - الجزية :
55 - اختلف الفقهاء في سقوط الجزية عن الذّمّيّ إذا مات قبل أدائها على قولين :
أحدهما : للحنفيّة والمالكيّة وبعض الحنابلة , وهو أنّ الجزية إذا وجبت على الذّمّيّ , فإنّها تسقط بموته قبل أدائها , سواء مات بعد الحول أو في أثنائه , ولا تؤخذ من تركته , وذلك لأنّها عقوبة فتسقط بالموت كالحدود , ولأنّها تسقط أيضاً بإسلامه , فتسقط كذلك بموته .
إلّا أنّ الحنفيّة قالوا : إذا أوصى بها فإنّها تخرج من ثلث ماله كسائر الوصايا .
والثّاني : للشّافعيّة والحنابلة , وهو أنّ الذّمّيّ إذا مات بعد الحول , فإنّ الجزية لا تسقط عنه, لأنّها دين وجب عليه في حياته , فلم تسقط بموته , بل تؤخذ من تركته كسائر الديون الماليّة .
أمّا إذا مات في أثناء الحول , فلا تؤخذ من تركته عند الحنابلة , لأنّها لا تجب قبل كمال الحول .
وعند الشّافعيّة : لا تسقط , ويؤخذ من تركته قسط ما مضى , لأنّها كالأجرة .
هـ - الكفّارات الواجبة وفدية الصّوم والحجّ وجزاء الصّيد :
56 - اختلف الفقهاء في تأثير الموت على الكفّارات الماليّة الواجبة على الإنسان إذا مات قبل أدائها , ككفّارة اليمين وكفّارة القتل الخطأ وكفّارة الظّهار وكفّارة الإفطار في رمضان عمداً , وكذا ما يلزمه من فدية الصّوم والحجّ وجزاء الصّيد إذا مات قبل إخراجها وذلك على ثلاثة أقوال :
الأوّل : للشّافعيّة والحنابلة , وهو أنّ , الكفّارات ونحوها من الواجبات الماليّة كفدية الصّيام والحجّ وجزاء الصّيد لا تسقط بموت من وجبت عليه قبل أدائها وتخرج من رأس ماله , أوصى بها أو لم يوص .
وكذلك نصّ الشّافعيّة على أنّ من وجبت عليه فدية الصّوم وهو موسر , فمات قبل أدائها فإنّها تخرج من تركته , وأنّ المتمتّع إذا مات في أثناء الحجّ أو بعد الفراغ منه , وهو واجد للهدي , ولم يكن أخرجه بعد , فيجب إخراجه من تركته على المعتمد في المذهب , كسائر الديون المستقرّة .
الثّاني : للحنفيّة , وهو أنّ الكفّارات تسقط بالموت في أحكام الدنيا , إلّا إذا أوصى بها قبل وفاته , فحينئذٍ تخرج من الثلث كسائر الوصايا , وما زاد منها على الثلث يتوقّف على إجازة الورثة , فإن أجازوه نفذ وإن ردوه بطل .
وكذا الحكم بالنّسبة لفدية الصّوم والحجّ وجزاء الصّيد .
الثّالث : للمالكيّة , وهو أنّ الشّخص إذا أشهد في صحّته على الكفّارات الواجبة عليه أنّها بذمّته , وأنّه لم يفرّط في أدائها , فإنّها بموته تخرج من رأس ماله , سواء أوصى بها أو لم يوص .
وأمّا إذا فرَّط في أدائها حتّى مات , ولم يشهد في صحّته أنّها بذمّته , ولكنّه أوصى بها , فإنّها تخرج من ثلث ماله , وكذا الحكم في فدية الحجّ وجزاء الصّيد .
أمّا إذا لم يوص بها , ولم يشهد أنّها بذمّته , فلا يجبر الورثة على إخراجها من التّركة أصلاً.
وأمّا الهدي الواجب على المتمتّع في الحجّ , فإنّه يخرج من رأس المال إذا مات المتمتّع بعد رمي جمرة العقبة , سواء أوصى بذلك أم لا . وإذا مات قبل رمي جمرة العقبة فلا شيء عليه إلّا إذا قلّد الهدي , فيتعيّن حينئذٍ ذبحه , ولو مات قبل الوقوف بعرفة .
و - نفقة الزّوجة :(/13)
57 - اتّفق الفقهاء على وجوب نفقة الزّوجة على زوجها متى سلّمت نفسها إليه على الوجه المطلوب شرعاً ولم تكن ناشزاً .
ولكنّهم اختلفوا في ثبوتها ديناً في ذمّته إن لم يؤدّها إليها , ووجوبها في تركته إذا مات قبل الأداء , أو سقوطها بالموت قبله , وذلك على ثلاثة أقوال :
الأوّل : للشّافعيّة والحنابلة , وهو أنّ نفقة الزّوجة تكون على زوجها - حتّى لو كان معسراً - إذا لم تمنعه تمتعاً مباحاً , وتجب ديناً في ذمّته لها إذا لم يقم بواجب الإنفاق عليها, وإن لم يصدر بها قضاء قاض , ومن ثمّ فإنّها لا تسقط بموت الزّوج قبل الأداء إليها, بل تؤخذ من تركته كسائر الديون المستقرّة .
الثّاني : للحنفيّة , وهو أنّ النّفقة الواجبة على الزّوج لزوجته لا تصير ديناً واجباً في ذمّته إلّا بالتّراضي أو بقضاء القاضي .
وعلى ذلك فإن قضى بها القاضي وأمر الزّوجة بالاستدانة على الزّوج , ففعلت , فإنّ دين النّفقة هذا لا يسقط بموت الزّوج قبل أدائه إليها .
أمّا إذا قضى بها , ولم يأمرها بالاستدانة , فإنّها تسقط بموته , لأنّها صلة , والصّلات تسقط بالموت قبل التّسليم .
الثّالث : للمالكيّة , وهو أنّ النّفقة الواجبة على الزّوج لزوجته لا تلزمه في حال إعساره , وما أنفقته الزّوجة على نفسها في تلك الفترة لا ترجع عليه بشيء منه , وإذا مات الزّوج على هذه الحال , فلا يجب لها في تركته شيء من النّفقة عن تلك المدّة , لأنّها كانت ساقطةً عنه خلالها .
أمّا إذا كان موسراً , فإنّ ما تجمّد عليه من نفقة الزّوجة في زمن اليسار , يكون ثابتاً في ذمّته كسائر الديون , ولو لم يفرضه قاض , ولا يسقط بموته قبل أدائه , بل يؤخذ من تركته كسائر ديون العباد , وتحاصص الزّوجة فيه سائر الغرماء .
ز - نفقة الأقارب :
58 - اختلف الفقهاء في ثبوت نفقة الأقارب ديناً في ذمّة من وجبت عليه لمن ثبتت له , ووجوبها في تركته إذا مات قبل أدائها لمستحقّها , وذلك على قولين :
أحدهما : للحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة , وهو أنّ نفقة الأقارب تسقط بموت من وجبت عليه قبل أدائها لمستحقّها , لأنّها صلة , والصّلات تبطل بالموت قبل التّسليم , إلّا إذا فرضها القاضي وأمر باستدانتها عليه , ففعل المستحق , فعندئذٍ تصير ديناً في ذمّة من لزمته , ولا تسقط بموته قبل الأداء , بل تؤخذ من تركته كسائر ديون العباد , حيث إنّها تأكّدت بفرض الحاكم وأمره بالاستدانة .
الثّاني : للمالكيّة , وهو أنّ متجمّد نفقة الأقارب يسقط بموت من لزمته قبل أدائها إلّا إذا حكم بها حاكم , أو أنفق شخص على من وجبت له غير قاصد التّبرع عليها بها , وكان من وجبت عليه موسراً , فعندئذٍ تصير ديناً في ذمّته , ولا تسقط بموته قبل الأداء , بل تؤخذ من تركته كسائر الديون الثّابتة للآدميّين .
ح - الدّية الواجبة على العاقلة :
59 - اتّفق الفقهاء على أنّ دية القتل الخطأ تجب على العاقلة منجّمةً على ثلاث سنين . ولكنّهم اختلفوا فيما إذا مات أحد ممّن وجبت عليه من العاقلة قبل الأداء , فهل تسقط عنه , أم تكون ديناً في تركته , وذلك على ثلاثة أقوال :
الأوّل : للشّافعيّة والحنابلة , وهو أنّ من مات من العاقلة بعد الحول وكان موسراً , استقرّت الدّية عليه , وأخذت من تركته مقدّمةً على الوصايا والميراث , وأمّا إذا مات في أثناء الحول , أو مات معسراً , فلا يلزمه شيء منها .
الثّاني : لأبي حنيفة وهو أنّ من مات من العاقلة قبل الحول أو بعده , فلا يجب في تركته شيء ممّا ضرب عليه من الدّية , وذلك لأنّه إن مات قبل الحول , فلا شيء عليه , إذ هي مال يجب في آخر الحول على سبيل المواساة , فأشبه الزّكاة , وإن مات بعد الحول , فلا يلزمه شيء أيضاً , لأنّه بالموت خرج عن أهليّة الوجوب .
الثّالث : للمالكيّة , وهو أنّ ما ضرب على فرد من العاقلة , وكان مستوفياً لشروطه حين لزمه , فإنّه لا يسقط بموته , بل يكون ديناً يقضى من تركته , وحتّى ما كان مؤجّلاً منه , فإنّه يحل بموته .
ط - الفعل الضّار :
60 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من ألحق بغيره ضرراً يستوجب ضماناً ماليّاً , فإنّه يكون ديناً في ذمّته , فإذا مات قبل تأديته , فإنّه لا يسقط بوفاته , بل يجب في تركته مقدّماً على الوصايا والمواريث , سواء أوصى به أو لم يوص , كسائر ديون الآدميّين .
وللتّفصيل أنظر مصطلح ( دين ف / 20 ) .
ثانياً - الالتزامات غير الماليّة :
أ - الحج الواجب :
61 - اختلف الفقهاء فيمن مات بعد ما وجب عليه الحج , ولم يحجّ بعد التّمكن من أدائه , هل يسقط عنه الحج بموته أم لا ؟ وذلك على قولين :
أحدهما : للحنفيّة وهو المذهب عند المالكيّة , وهو أنّه يسقط عنه الحج بموته في الأحكام الدنيويّة , ولا يلزم ورثته , ولا يؤخذ من تركته شيء لأجل الحجّ عنه , إلّا إذا أوصى بذلك, فحينئذٍ ينفذ في حدود الثلث كسائر الوصايا , وهو قول الشّعبيّ والنّخعيّ .
وحجّتهم على ذلك أنّ العبادات لا ينوب فيها أحد عن أحد , فلا يصلّي شخص عن آخر , وكذلك الحج , وهو مدلول قوله عزّ وجلّ : { وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } .
أمّا من أمر بالحجّ عنه أو أوصى به , فإنّه يكون له فيه سعيٌ .
والثّاني : للشّافعيّة والحنابلة , وهو أنّ الحجّ لا يسقط عنه بالموت , ويجب قضاؤه من جميع تركته , أوصى بذلك أو لم يوص , وعلى ذلك فيلزم وارثه أن يحجّ عنه من تركته , أو يستأجر من يحج عنه إن كان له تركة .
أمّا إذا لم يترك شيئاً , فإنّ الحجّ يبقى في ذمّته ولا يلزم وارثه , شيء , وهو قول الحسن وطاووسٍ .(/14)
واستدلوا على ذلك بما روى بريدة رضي الله عنه « أنّ امرأةً أتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : إنّ أمّي ماتت ولم تحجّ قط , أفأحج عنها , قال : حجّي عنها » ، وما ورد عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما « أنّ رجلاً قال : يا رسول اللّه إنّ أبي مات ولم يحجّ , أفأحج عنه ؟ قال : أرأيت لو كان على أبيك دين , أكنت قاضيه ؟ قال : نعم . قال : فدين اللّه أحق » , وأيضاً بأنّ الحجّ حقٌّ مستقر عليه , وقد لزمه في حال الحياة , وهو حق تدخله النّيابة , فلم يسقط بالموت كدين الآدميّ .
ب - الصّلاة الواجبة :
62 - اتّفق الفقهاء علّ أنّ من مات وعليه صلاة واجبة , سقطت عنه في أحكام الدنيا بموته , لأنّ الصّلاة عبادة بدنيّة محضة , فلا ينوب أحد عن الميّت في أدائها , لأنّ المقصود من العبادات - كما يقول الشّاطبيّ - الخضوع للّه والتّوجه إليه والتّذلل بين يديه والانقياد تحت حكمه وعمارة القلب بذكره , حتّى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضراً مع اللّه ومراقباً له غير غافل عنه , وأن يكون ساعياً في مرضاته وما يقرّب إليه على حسب طاقته , والنّيابة تنافي هذا المقصود وتضاده , لأنّ معنى ذلك أن لا يكون العبد عبداً ولا المطلوب بالخضوع والتّوجه خاضعاً ولا متوجّهاً إذا ناب عنه غيره في ذلك , وإذا قام غيره في ذلك مقامه , فذلك الغير هو الخاضع المتوجّه , والخضوع والتّوجه ونحوهما إنّما هو اتّصاف بصفات العبوديّة , والاتّصاف لا يعدو المتّصف به ولا ينتقل عنه إلى غيره .
غير أنّ الحنفيّة قالوا : إذا أوصى من عليه صلوات فائتة بالكفّارة , فيلزم وليّه - وهو من له ولاية التّصرف في ماله بولاية أو وراثة - أن يعطي عنه لكلّ صلاة نصف صاع من بر كالفطرة , وذلك من ثلث ماله كسائر الوصايا , فإن لم يوص بذلك سقطت عنه تلك الصّلوات في حقّ أحكام الدنيا للتّعذر , وقال بعض الشّافعيّة - على خلاف المشهور في المذهب - يطعم الولي عن كلّ صلاة فائتة مداً .
ج - الصّوم الواجب :
63 - الصّوم الواجب شرعاً على صنوف , فمنه ما يجب محدّداً بزمان معيّن , كصوم شهر رمضان من كلّ عام , ومنه ما يجب بناءً على اعتباراتٍ أخرى كصوم الكفّارات بأنواعها - ككفّارة اليمين والظّهار - وصوم جزاء الصّيد والحلق والمتعة في الحجّ , ومنه ما يجب على سبيل البدل , كقضاء رمضان , ومنه ما يجب بغير ذلك .
وقد ذهب أكثر أهل العلم - كما قال ابن قدامة - إلى أنّ من وجب عليه الصّوم بأحد الأسباب المشار إليها , فلم يتمكّن من أدائه إمّا لضيق الوقت , أو لعذر من مرض أو سفر أو عجز عن الصّوم , ودام عذره إلى أن مات , فلا شيء عليه شرعاً , ولا يجب على ورثته صيام ولا في تركته إطعام , ولا غير ذلك .
64 - أمّا إذا كان متمكّناً من الصّيام , لكنّه لم يؤدّه حتّى مات , فقد اختلف الفقهاء في سقوطه عنه بالموت على قولين .
القول الأوّل : للحنفيّة والشّافعيّة في الجديد والمالكيّة والحنابلة , وهو أنّ من مات وعليه صوم رمضان أو كفّارة أو نحوهما من الصّوم الواجب , سقط عنه الصّوم في الأحكام الدنيويّة , فلا يلزم وليّه أن يصوم عنه , لأنّ فرض الصّيام جار مجرى الصّلاة , فلا ينوب أحد عن أحد فيه .
وقد اختلف أصحاب هذا الرّأي فيما يجب على الوليّ في هذه الحالة على مذهبين .
المذهب الأوّل : للحنفيّة والمالكيّة , وهو أنّه لا يجب على الوليّ أو الورثة أن يطعموا عنه شيئاً إلّا إذا أوصى بذلك , فإن أوصى به , فإنّه يخرج من ثلث التّركة كسائر الوصايا . المذهب الثّاني : للحنابلة والشّافعيّة في المشهور من المذهب , وهو أنّه يجب على الوليّ أن يطعم عنه لكلّ يوم مسكيناً , سواء أوصى بذلك أو لم يوص , وهو مرويّ عن عائشة وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم وبه قال اللّيث والأوزاعي والثّوري وابن عليّة وأبو عبيد وغيرهم . والقول الثّاني : للشّافعيّ في القديم , وهو أنّ من مات وعليه صوم واجب , صام عنه وليه على سبيل الجواز دون اللزوم , مع تخيير الوليّ بين الصّيام عنه وبين الإطعام .
واحتجوا على ذلك بما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من مات وعليه صيام صام عنه وليه » ، وما روى بريدة رضي الله عنه « أنّ امرأةً أتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : إنّ أمّي ماتت , وكان عليها صوم شهر, أفأصوم عنها ؟ قال : صومي عنها » ، وما روى ابن عبّاسٍ رضي الله عنه قال : « جاء رجل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه إنّ أمّي ماتت وعليها صوم شهر , أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمّك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم . قال : فدين اللّه أحق أن يقضى » .
أثر الموت على الالتزامات الثّابتة باختيار المكلّف :
الالتزام الاختياري للمكلّف هو ما يثبت بإرادته واختياره , وهذا الالتزام قد يكون أثراً لتعاقد وارتباط تمّ بين إرادة شخصين , وقد يكون أثراً لعهد قطعه على نفسه بإرادته المنفردة .
أوّلاً - الالتزامات العقديّة الّتي تنشأ بإرادة طرفين :
65 - ومنشأ هذه الالتزامات العقد , الّذي هو عبارة عن ارتباط الإيجاب الصّادر من أحد العاقدين بقبول الآخر على وجهٍ يثبت أثره في المعقود عليه .
والالتزامات النّاشئة عن العقود على ثلاث أقسام , التزامات , ناشئة عن عقود لازمة من الجانبين , والتزامات ناشئة عن عقود جائزة " غير لازمة " من الجانبين , والتزامات ناشئة عن عقود لازمة من جانب واحد , وبيان ذلك فيما يلي :
القسم الأوّل : العقود اللّازمة من الجانبين :
أ - البيع :(/15)
66 - لم يختلف الفقهاء في أنّ البيع متى لزم , فإنّ ما ينشأ عنه من التزام على أحد العاقدين تجاه الآخر لا يسقط ولا يبطل بموته , فإذا مات البائع قام ورثته بإيفاء ما عليه من التزاماتٍ تجاه المشتري , وإذا مات المشتري قام ورثته بتنفيذ ما عليه من واجباتٍ والتزاماتٍ تجاه البائع , وذلك في حدود ما ترك .
قال ابن قدامة : وإن مات المتبايعان , فورثتهما بمنزلتهما , لأنّهم يقومون في أخذ مالهما وإرث حقوقهما , فكذلك ما يلزمهما أو يصير لهما .
وللتّفصيل ( ر : عقد ف /61 ) .
67 - وقد استثنى الفقهاء من ذلك ما إذا مات أحد العاقدين مفلساً , وأوردوا تفصيلاً في أثر ذلك على الالتزامات النّاشئة عن عقد البيع , وإن كان بينهم ثمّة اختلاف في الفروع والجزئيّات , وبيان ذلك فيما يلي :
أ - إذا اشترى شخص شيئاً , ثمّ مات مفلساً بعد أداء ثمنه للبائع , فالمبيع ملكه خاصّةً , سواء قبضه من البائع أو لم يقبضه , وهذا باتّفاق الفقهاء .
ب - أمّا إذا مات مفلساً قبل تأدية الثّمن , فينظر :
فإن لم يكن المشتري قد قبض المبيع , فقال الحنفيّة : للبائع أن يحبسه حتّى يستوفي ثمنه من تركة المشتري أو يبيعه القاضي ويؤدّي للبائع حقّه من ثمنه , فإن زاد الثّمن عن حقّ البائع يدفع الزّائد لباقي الغرماء , وإن نقص عن حقّ البائع أخذ البائع الثّمن الّذي بيع به , ويكون في الباقي أسوة الغرماء .
وقال المالكيّة : يكون البائع أحقّ به أي أنّ له فسخ العقد واستيفاء المبيع لنفسه .
أمّا إذا كان المشتري قد قبض المبيع , فهل يكون للبائع أن يستردّه فيحبسه إن كان باقياً بعينه , ويكون أحقّ به من غيره من أرباب الحقوق على المشتري كما لو كان باقياً في يده, أم يصير البائع بقبض المشتري له قبل موته مثل باقي الغرماء ؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين :
القول الأوّل : للحنفيّة والمالكيّة والحنابلة , وهو أنّه ليس للبائع بعد أن قبض المشتري المبيع استرداده , بل يكون أسوة الغرماء , فيقسمونه , جميعاً , واحتجوا على ذلك بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « أيما رجل باع متاعاً فأفلس الّذي ابتاعه , ولم يقبض الّذي باعه من ثمنه شيئاً , فوجد متاعه بعينه فهو أحق به , وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء » .
القول الثّاني : للشّافعيّة وهو أنّ البائع بالخيار : إن شاء ترك المبيع وضارب الغرماء بثمنه, وإن شاء استردّه , وكان أحقّ به من سائر الغرماء وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى : أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه » .
ج - أمّا إذا مات البائع مفلساً بعد قبض الثّمن وقبل تسليم المبيع للمشتري , ففي هذه الحالة نصّ الحنفيّة والمالكيّة على أنّ المشتري يكون أحقّ بالمبيع من سائر الغرماء , لأنّه ليس للبائع حق حبسه في حياته , بل للمشتري جبره على تسليمه إليه ما دامت عينه قائمةً, فيكون له أخذه بعد موت البائع أيضاً , إذ لا حقّ للغرماء , فيه بوجه , لأنّه أمانة عند البائع - وإن كان مضموناً بالثّمن لو هلك عنده - وعلى هذا كان له أخذه إن كانت عينه باقيةً أو استرداد ثمنه إن كان قد هلك عند البائع أو عند ورثته .
وانظر مصطلح ( إفلاسٌ ف / 37 ) .
ب - السَّلَم :
68 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ ربّ السّلم إذا مات بعد تأدية رأس مال السّلم فإنّ المسلم فيه يكون ديناً له في ذمّة المسلم إليه , ويقوم ورثته مقامه في استيفائه منه كسائر ديونه المؤجّلة .
ولكن إذا مات المسلم إليه قبل حلول زمن الوفاء , فهل يبطل الأجل بموته , ويحل دين السّلم, أم أنّه يبقى كما هو إلى وقته ؟ اختلف الفقهاء في ذلك قولين :
القول الأوّل : لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة , وهو أنّ الأجل يبطل بموت المسلم إليه , ويحل دين السّلم , ويلزم تسليمه من تركته حالاً إلى ربّ السّلم إذا كان موجوداً .
أمّا إذا لم يكن متوفّراً في وقت الحلول الطّارئ بموت المسلم إليه فقد اختلفوا : هل يفسخ عقد السّلم لذلك أم لا ؟ وعلى تقدير عدم الفسخ , هل توقف قيمة المسلم فيه من التّركة إلى الوقت الّذي يوجد فيه عادةً أم لا ؟
فقال الحنفيّة : يؤخذ من التّركة حالاً لأنّ من شروط صحّة السّلم وجود المسلم فيه في الأسواق من وقت العقد إلى محلّ الأجل عندهم , وذلك لتدوم القدرة على تسليمه , إذ لو لم يشترط ذلك , ومات المسلم إليه قبل أن يحلّ الأجل , فربّما يتعذّر تسليم المسلم فيه , فيئُول ذلك إلى الغرر .
وقال المالكيّة : إنّ المسلم فيه يحل بموت المسلم إليه كما هو الشّأن في حلول سائر الديون المؤجّلة بموت المدين , وفي هذه الحالة فإنّ المسلم فيه يجب تسليمه من التّركة , إلّا أنّه إذا كان موت المسلم إليه قبل محلّ أجله , ولم يكن المسلم فيه موجوداً في الأسواق , فإنّه يوقف تقسيم التّركة إلى الوقت الّذي يغلب وجوده فيه .
قال الحطّاب : إذا مات المسلم إليه قبل وقت الإبّان , أي وقت وجود المسلم فيه عادةً , فإنّه يجب وقف قسم التّركة إليه .
وقال ابن رشد : إنّما يوقف إن خيف أن يستغرق المسلم فيه كلّ التّركة , فإن كان أقلّ من التّركة وقف قدر ما يرى أن يفي بالمسلم فيه , وقسم ما سواه , وهذا خلافاً لما يراه أشهب, فإنّه يرى أنّ القسم لا يجوز إذا كان على الميّت دين , وإن كان يسيراً .
وقال ابن عبد السّلام : إن كان على المسلم إليه ديون أخرى قسمت التّركة عليه , ويضرب للمسلم قيمة المسلم فيه في وقته على ما يعرف في أغلب الأحوال من غلاء ورخصٍ .(/16)
وقال بعضهم تتميماً لقول ابن عبد السّلام بأنّه يوقف للمسلم ما صار له في المحاصّة حتّى يأتي وقت الإبّان , فيشترى له ما أسلم فيه , فإن نقص عن ذلك أتبع بالقيمة ذمّة الميّت إن طرأ له مال , وإن زاد لم يشتر له إلّا قدر حقّه , وتترك البقيّة إلى من يستحق ذلك من وارث أو مديان .
وقال الشّافعيّة في الأصحّ : إذا كان المسلم فيه موجوداً في الأسواق فيجب تحصيله وتسليمه لربّ السّلم وإن غلا وزاد على ثمن مثله , أمّا إذا لم يكن موجوداً فيها , فيثبت للمسلم الخيار بين الفسخ والصّبر حتّى يوجد المسلم فيه دفعاً للضّرر , ولا ينفسخ العقد - كما لو أفلس المشتري بالثّمن - لأنّ المسلم فيه يتعلّق بالذّمّة , وهي باقية , والوفاء في المستقبل ممكن , والقول الآخر عند الشّافعيّة ينفسخ العقد كما لو تلف المبيع قبل القبض . القول الثّاني : للحنابلة في المعتمد , وهو أنّ الأجل لا يحل بموت المدين إذا وثّقه الورثة أو غيرهم برهن أو كفيل مليء على أقلّ الأمرين من قيمة التّركة أو الدّين , ولا يوقف شيء من تركة المسلم إليه لأجل دين السّلم .
فإن لم يوثق بذلك حلّ , لأنّ الورثة قد لا يكونون أملياء , ولم يرض بهم الغريم , فيؤدّي ذلك إلى فوات الحقّ .
ج - الإجارة :
69 - اختلف الفقهاء في تأثير موت المؤجّر في إجارة الأعيان والأجير في إجارة الأعمال على ما التزم به في عقد الإجارة , وذلك على قولين :
القول الأوّل : للمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة , وهو أنّ ما التزم به المؤجّر لا يبطل بموته , لأنّ الإجارة لا تنفسخ بالموت , بل تبقى على حالها , لأنّها عقد لازم فلا ينفسخ بموت العاقد مع سلامة المعقود عليه , ولذلك تبقى العين عند المستأجر حتّى يستوفي منها ما تبقّى له من المنفعة , وليس لورثة المؤجّر أن يمنعوه من الانتفاع بها , وهو قول إسحاق والبتّيّ وأبي ثور وابن المنذر .
وأمّا ما التزم به الأجير من العمل : فإمّا أن يكون مرتبطاً بعينه وذاته , كما إذا قال له : استأجرتك أو اكتريتك لتعمل كذا أو لكذا أو لعمل كذا , أو يكون مرتبطاً بذمّة الأجير , كما إذا استأجره لأداء عمل معيّن يلزم ذمّته , مثل أن يلزمه بحمل كذا إلى مكان كذا أو خياطة كذا دون أن يشترط عليه مباشرته بنفسه , وذلك ما يسمّى في الاصطلاح الفقهيّ بإجارة الذّمّة . فإن كان الالتزام مرتبطاً بعين الأجير وذاته , فإنّه يسقط وينتهي بموت الأجير لانفساخ عقد الإجارة بموته نظراً لفوات محلّ المنفعة المعقود عليها واستحالة إكمال تنفيذ العقد فيما يتعلّق بالمدّة المتبقّية , أمّا فيما مضى من الزّمن فلا يسقط حق الأجير فيما يقابله من أجر , وذلك لاستقراره بالقبض .
وأمّا إذا كان الالتزام موصوفاً في ذمّة الأجير , فإنّه لا يسقط بموته , وينظر : إن كان له تركة أستؤجر منها من يقوم بإكمال وتوفية التزامه , لأنّه دين عليه . وإن لم يكن له تركة , ولم يرغب ورثته في إتمام ذلك العمل الموصوف في ذمّته ليستحقوا الأجر , فإنّه يثبت ما للمستأجر حق الفسخ لموت الملتزم مفلساً .
القول الثّاني : للحنفيّة والثّوريّ واللّيث وهو أنّ الإجارة تنفسخ بموت المؤجّر لأعيانه والأجير على عمله , سواء مات قبل تنفيذ العقد أو في أثنائه , لأنّ استيفاء المنفعة على ملك المؤجّر يتعذّر بالموت , فينفسخ العقد ضرورةً , وينتهي التزام كل من المؤجّر والأجير. غير أنّ الحنفيّة استثنوا بعض الحالات الخاصّة , وقالوا إنّ الإجارة فيها لا تنفسخ بموت المؤجّر ضرورةً , وهي :
أ - إذا مات المؤجّر قبل انقضاء المدّة , وفي الأرض المستأجرة زرع بقل , أي لم ينضج بعد , فيبقى العقد ولا ينفسخ بموته حتّى يدرك الزّرع , ويكون الواجب عندئذٍ الأجر المسمّى إلى نهاية مدّة العقد , وبعد انقضاء المدّة أجر المثل حتّى يدرك .
ب - إذا استأجر دابّةً إلى مكان معيّن , فمات صاحب الدّابّة وسط الطّريق , فإنّ للمستأجر أن يركب الدّابّة إلى المكان المسمّى بالأجر إذا لم يجد دابّةً أخرى يصل بها أو لم يكن هناك ثمّة قاض يرفع الأمر إليه , ولا ينفسخ العقد بموت صاحب الدّابّة .
وانظر التّفصيل في ( إجارة ف / 59 - 72 ) .
د - المساقاة :
70 - اختلف الفقهاء في تأثير الموت على الالتزامات المترتّبة على عقد المساقاة , سواء في ذلك ما التزم به صاحب الشّجر أو النّخل بتمكين العامل من القيام بسقيه وإصلاحه , أو ما التزم به العامل من تعهد الشّجر وعمل سائر ما يحتاج إليه , وذلك على ثلاثة أقوال : القول الأوّل : للمالكيّة والشّافعيّة وبعض الحنابلة , وهو أنّ عقد المساقاة لا ينفسخ بموت أحد طرفيه , سواء كان ذلك قبل بدء العمل أو في أثنائه , لأنّه عقد لازم , فأشبه الإجارة , ويقوم الوارث مقام الميّت منهما . وعلى ذلك .
فإن كان الميّت عامل المساقاة , كان لورثته أن يقوموا مقامه في إتمام العمل إذا كانوا عارفين بالعمل أمناء , ويلزم المالك أو ورثته تمكينهم من العمل إن كانوا كذلك . فإن أبى الورثة القيام بذلك العمل لم يجبروا عليه , لأنّ الوارث لا يلزمه من الحقوق الّتي على مورثه إلّا ما أمكن أداؤه من تركته , والعمل هاهنا ليس من هذا القبيل , وفي هذه الحالة يستأجر الحاكم من التّركة من يقوم بالعمل , لأنّه دين على الميّت , فأشبه سائر الديون , فإن لم يكن هناك تركة , ولم يتبرّع الورثة بالوفاء , فلربّ المال الفسخ , لتعذر استيفاء المعقود عليه , كما لو تعذّر ثمن المبيع قبل قبضه .(/17)
وإن كان الميّت ربّ الشّجر , لم تفسخ المساقاة , ويستمر العامل في عمله , ويجب على ورثة ربّ المال تمكينه من العمل والاستمرار فيه وعدم التّعرض له , وبعد تمام العمل يأخذ حصّته من الثّمر بحسب ما اشترط في العقد .
القول الثّاني : للحنفيّة , وهو أنّ المساقاة تبطل بالموت , أي بموت ربّ الشّجر أو العامل , قبل بدء العمل أو في أثنائه , لأنّها في معنى الإجارة , وهذا هو الأصل عندهم .
ثمّ فصَّلوا في المسألة فقالوا : إذا قام العامل برعاية وسقاية الشّجر , ولقّحه حتّى صار بسراً أخضر , ثمّ مات صاحب الشّجر , فإنّ المساقاة تنتقض بينهما في القياس , ولكن للعامل - استحساناً - أن يقوم برعاية الشّجر حتّى يدرك الثّمر , وإن كره ذلك ورثة ربّ الشّجر , لأنّ في انفساخ العقد بموت ربّ الشّجر إضرار بالعامل وإبطالاً لما كان مستحقاً له بالعقد , وهو ترك الثّمار على الأشجار إلى وقت الإدراك , وإذا انتقض العقد فإنّه يكلّف الجذاذ قبل الإدراك, وفي ذلك ضرر بالغٌ عليه , ولهذا لا تبطل المساقاة بموت ربّ الشّجر في الاستحسان , فإن أبى العامل أن يستمرّ في عمل الشّجر وأصرّ على قطعه وأخذه بسراً انتقض العقد , لأنّ إبقاء العقد تقديراً إنّما كان لدفع الضّرر عنه , فإذا رضي التزام الضّرر كان له ما اختار , غير أنّه لا يملك إلحاق الضّرر بورثة ربّ الشّجر , فيثبت لهم الخيار على النّحو التّالي :
أ - أن يقسموا البسر على الشّرط المنصوص عليه في العقد الّذي كان بين مورّثهم والعامل. ب - أن يعطوا العامل قيمة نصيبه من البسر .
ج - أن ينفقوا على البسر حتّى يبلغ , فيرجعوا بذلك في حصّة العامل من الثّمر .
وأمّا إذا مات عامل المساقاة في هذه الحالة فإنّ العقد لا يبطل بموته استحساناً ويكون لورثته أن يقوموا مقامه في تعهد الشّجر ورعايته , وإن كره رب الشّجر , لأنّهم قائمون مقامه , إلّا أن يقول الورثة : نحن نأخذه بسراً , وطلبوا نصيب مورّثهم من البسر , ففي هذه الحالة يكون لصاحب الشّجر من الخيار مثل ما قدّمنا , وهو ما يكون لورثته إذا أبى العامل أن يستمرّ في القيام على الشّجر .
وأمّا إذا ماتا جميعاً , كان الخيار في القيام عليه لورثة العامل , لأنّهم يقومون مقامه , وقد كان له في حياته هذا الخيار إذا مات صاحب الشّجر , فكذلك يكون لورثته بعد موته , فإن أبوا ذلك كان الخيار لورثة ربّ الشّجر على ما قدّمنا في الوجه الأوّل .
القول الثّالث : للحنابلة على المذهب , وهو أنّ المساقاة تنفسخ بموت أحد العاقدين , فإذا مات العامل أو رب الشّجر انفسخت المساقاة , كما لو فسخها أحدهما , بناءً على قولهم إنّ عقد المساقاة من العقود الجائزة من الطّرفين .
ومتى انفسخت المساقاة بموت أحدهما بعد ظهور الثّمرة , فهي بينهما على ما شرطاه في العقد , ويلزم العامل أو وارثه إتمام العمل , فإن ظهرت , ثمرة أخرى بعد الفسخ فلا شيء للعامل فيها , وإذا انفسخت المساقاة بموت أحدهما بعد شروع العامل في العمل وقبل ظهور الثّمرة , فله أجرة مثل عمله , ويقوم وارث العامل بعد موته مقامه في الملك والعمل , فإن أبى الوارث أن يأخذ ويعمل , لم يجبر , ويستأجر الحاكم من التّركة من يعمل , فإن لم تكن تركة , أو تعذّر الاستئجار منها بيع من نصيبه من الثّمر الظّاهر ما يحتاج إليه لتكميل العمل, واستؤجر من يعمله .
هـ - المزارعة :
71 - يرى الحنفيّة والحنابلة أنّ المزارعة تنفسخ بموت أحد العاقدين , سواء أكان العامل أم ربّ الأرض , بناءً على أنّ المزارعة من العقود الجائزة من الطّرفين عندهم .
وللحنفيّة تفصيل في المسألة حيث قالوا : إذا مات أحدهما قبل الزّراعة , فإنّ المزارعة تنفسخ , إذ ليس في ذلك إبطال مال على المزارع , ولا شيء له بمقابلة ما عمل .
أمّا إذا مات أحدهما بعد الزّراعة فإنّ المزارعة تبقى استحساناً , وذلك لدفع ما يصيب أحدهما من ضرر , والقياس أنّها تبطل , ولكن تبقى حكماً إلى حصد الزّرع .
وقد ذكر الكاساني : أنّ صاحب الأرض إذا مات والزّرع بقل , فإنّ العمل يكون على المزارع خاصّةً , لأنّ العقد وإن كان قد انفسخ حقيقةً لوجود سببه وهو الموت , إلّا أنّنا أبقيناه تقديراً دفعاً للضّرر عن المزارع , لأنّه لو انفسخ لثبت لصاحب الأرض حق القلع , وفيه ضرر بالمزارع , فجعل ذلك عذراً في بقاء العقد تقديراً , فإذا بقي العقد كان العمل على المزارع خاصّةً كما كان قبل الموت .
وأمّا إذا مات المزارع والزّرع بقل , فلورثته أن يعملوا على شرط المزارعة , وإن أبى ذلك صاحب الأرض , لأنّ في القطع ضرراً بهم ولا ضرر بصاحب الأرض في التّرك إلى وقت الإدراك , وإن أراد الورثة قلع الزّرع وترك العمل , لم يجبروا عليه , لأنّ العقد قد انفسخ حقيقةً , إلّا أنّا أبقيناه باختيارهم نظراً لهم , فإن امتنعوا عن العمل بقي الزّرع مشتركاً , ويخيّر صاحب الأرض : إمّا أن يقسمه بالحصص , أو يعطيهم قيمة حصصهم من الزّرع البقل , أو أن ينفق على الزّرع من مال نفسه إلى وقت الحصاد ثمّ يرجع عليهم بحصصهم , لأنّ في ذلك رعايةً للجانبين .
و - الحوالة :
72 - اختلف الفقهاء في تأثير موت المحال عليه أو المحيل في عقد الحوالة على الالتزامات النّاشئة عن تلك المعاقدة إذا مات أحدهما قبل استيفاء دين الحوالة , وذلك على النّحو التّالي :(/18)
أوّلاً : ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ المحال عليه يلزم بالدّين المحال به , ولا يطالب به المحيل أبداً , لأنّ ذمّته قد برئت بمقتضى الحوالة , فلا يكون للمحال الحق في الرجوع على المحيل بحال , وعلى ذلك فإذا مات المحال عليه , فإنّ ما التزم به لا يبطل بموته , بل يؤخذ من تركته , فإذا مات مفلساً لا تركة له فإنّ التزامه لا يبطل , ولا يكون للمحال حق في الرجوع على المحيل , لأنّ الحوالة عقد لازم لا ينفسخ بالموت فامتنع الرجوع على المحيل لبقاء الدّين المحال به في ذمّة المحال عليه .
أمّا موت المحيل فلا تأثير له على الحوالة عند الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة , لأنّ ذمّته قد برئت وانتقل الدّين إلى ذمّة المحال عليه , فأصبح هو المطالب به وحده , إذ الحوالة بمنزلة الإيفاء .
ثانياً : ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا تأثير لموت المحال عليه على ما التزم به من مال , فيؤخذ من تركته ويعطى للمحال .
وإذا كان المحال عليه مديناً قسم ماله بين الغرماء وبين المحال بالحصص , فإن بقي للمحال شيء من الدّين رجع به على المحيل .
وإذا كان دين الحوالة مؤجّلاً فإنّه يحل بوفاة المحال عليه لاستغنائه عن الأجل بموته . ويستثنى من ذلك ما إذا مات المحال عليه مفلساً , فإنّ الحوالة حينئذٍ تنتهي في الدّين كلّه - إن لم يترك وفاءً بشيء منه - أو تنتهي في باقيه إن ترك وفاءً ببعضه .
أمّا إذا مات المحيل فإنّ لوفاته تأثيراً على الحوالة المقيَّدة , وإن كان الأصل عندهم أنّ ذمّة المحيل قد برئت لانتقال الدّين إلى ذمّة المحال عليه , ولكنّ ذلك مقيّد بسلامة حقِّ المحال , فخوفاً أن يضيع حقه ويتوى , كان له الرجوع على المحيل رغم براءة ذمّته منه , إذ البراءة ههنا مؤقّتة ومرهونة بسلامة حقّ المحال , ولهذا فإن مات المحيل بعد الحوالة وقبل استيفاء المحال المال من المحال عليه بطلت الحوالة , وإذا كان على المحيل ديون أخرى , فالمحال أسوة الغرماء .
أمّا إذا كانت الحوالة مطلقةً , فإنّه لا تبطل بموت المحيل , ولا تأثير لموته على الحوالة , وأساس ذلك كما جاء في العقود الدرّيّة : أنّ الحوالة المطلقة تبرع , وإذا كان المحال عليه مديناً للمحيل لا تتقيّد بدينه , ولذا كان للمحيل مطالبته به قبل الأداء , فلا تبطل بقسمة دين المحيل بين غرمائه , لأنّ المحال لم يبق من غرمائه , بل صار من غرماء المحال عليه , فهذا كله دليل على أنّ الحوالة المطلقة لا تبطل بموت المحيل , بل تبقى مطالبة المحال على المحتال عليه , وإن أخذ منه دين المحيل وقسم بين غرمائه , وهذا جار على القواعد الفقهيّة .
ثالثاً : ذهب المالكيّة إلى أنّ الحوالة متى تمّت , فإنّ الدّين ينتقل من ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه , ويصبح المحال عليه ملتزماً بأدائه للمحال , فإذا مات قبل الأداء , فإنّه يؤخذ الدّين المحال به من تركته , ولا رجوع للمحال على المحيل بحال , حتّى وإن مات المحال عليه مفلساً , إلّا أن يشترط المحال على المحيل أنّه إذا مات المحال عليه أو أفلس , فإنّه يرجع عليه , فله عند ذلك شرطه إذا مات المحال أو فلّس .
القسم الثّاني : العقود اللّازمة من جانب واحد :
وتشمل هذه العقود الرّهن والكفالة , إذ الرّهن لازم من جهة الرّاهن دون المرتهن , والكفالة لازمة من جهة الكفيل دون المكفول له , وبيان ذلك فيما يلي :
أ - الرّهن :
فرّق الفقهاء في تأثير الموت على التزام الرّاهن بين حالتين :
73 - الحالة الأولى : موت الرّاهن بعد قبض المرتهن للعين المرهونة وبيان ذلك أنّ الرّهن بعد القبض يكون لازماً في حقّ الرّاهن باتّفاق الفقهاء , ويترتّب على هذا اللزوم أنّه لا يجوز للرّاهن فسخه بإرادته المنفردة , فإذا مات الرّاهن بعد القبض , فإنّ التزامه النّاشئ عن عقد الرّهن لا يسقط بموته , لأنّ الرّهن قد لزم من جهته , ولا حقَّ للورثة في إبطال حقِّ المرتهن المتعلّق بالعين المرهونة , وإن كان ميراثاً لهم , وعلى ذلك فإنّ العين تبقى تحت يد المرتهن إلى أن يستوفي دينه , وإلّا بيعت العين لوفاء حقّه إذا تعذّر الاستيفاء من غيرها , وهو قول جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
74 - الحالة الثّانية : موت الرّاهن قبل القبض :
اختلف الفقهاء في تأثير الموت على التزام الرّاهن بعد الرّهن إذا مات قبل تسليم العين المرهونة للمرتهن , وذلك على قولين :
أحدهما : للحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في مقابل الأصحّ , وهو أنّ الرّهن يبطل بموت الرّاهن قبل القبض , وينتهي التزامه بموته , ولا يلزم ورثته تسليم العين للمرتهن , وبذلك لا يختص المرتهن بالعين المرهونة , بل يكون في دينه أسوة الغرماء .
والثّاني : للشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة , وهو أنّ الرّهن لا يبطل بموت الرّاهن قبل القبض, لأنّ مصير الرّهن إلى اللزوم , فلم ينفسخ بالموت كالبيع بشرط الخيار , ويقوم ورثته مقامه في الإقباض إن شاءوا ولا يجبرون عليه , لأنّ عقد الرّهن لم يكن لازماً في حقّ مورّثهم قبل القبض , فلم يلزم بموته , ويرث ورثته خياره في التّسليم للمرتهن أو عدمه .
غير أنّ الحنابلة وبعض الشّافعيّة نصوا في هذه الحالة على أنّه لا يصح لورثة الرّاهن أن يخصوا المرتهن بالعين المرهونة , إذا كان على مورّثهم دين آخر سوى دينه , بل يجب أن يكون أسوة الغرماء .
ب - الكفالة :(/19)
75 - الكفالة عند الفقهاء نوعان : كفالة بالمال , وكفالة بالنّفس , ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ المكفول له " ربّ الحقّ " إذا مات , فإنّ الكفالة لا تسقط , سواء أكانت كفالةً بالمال أو بالنّفس , وينتقل الحق إلى ورثته كسائر الحقوق الموروثة , فيقومون مقامه في المطالبة بالدّين أو بتسليم المكفول به .
أمّا عن أثر موت الكفيل في بطلان عقد الكفالة فيفرّق فيه بين الكفالة بالمال والكفالة بالنّفس, وبيان ذلك فيما يلي :
أ - الكفالة بالمال :
76 - ذهب الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ التزام الكفيل بأداء المال فيها لا يسقط بموته , بل يؤخذ من تركته , لأنّ ماله يصلح للوفاء بذلك , فيطالب به وصيه أو وارثه لقيامه مقام الميّت .
وإذا كان الدّين المكفول به مؤجّلاً , فقد ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وأحمد في رواية عنه إلى أنّه يحل بموت الكفيل , ويؤخذ من تركته حالاً . ولكنّ ورثته لا ترجع على المكفول عنه إلّا بعد حلول الأجل , لأنّ الأجل باق في حقّ المكفول لبقاء حاجته إليه .
وخالفهم في ذلك الحنابلة على المعتمد في المذهب فقالوا : لا يحل الدّين المكفول به المؤجّل بموت الكفيل إذا وثّقه الورثة برهن أو كفيل مليء لأنّ التّأجيل حق من حقوق الميّت , فلم يبطل بموته كسائر حقوقه .
ب - الكفالة بالنّفس :
77 - اختلف الفقهاء في تأثير موت الكفيل على التزامه بإحضار المكفول به على قولين : القول الأوّل : للمالكيّة والحنابلة والكرخيّ من الحنفيّة , وهو أنّ التزام الكفيل بإحضار المكفول به لا يسقط بموته , ولا تبرأ ذمّته بذلك , فيطالب ورثته بإحضاره , فإن لم يقدروا أو تعذّر ذلك أخذ من التّركة قدر الدّين الّذي على المكفول به .
القول الثّاني : للحنفيّة والشّافعيّة , وهو أنّ الكفالة تبطل بموت الكفيل , لأنّ تسليم الكفيل المطلوب بعد موت الكفيل لا يتحقّق منه , ولا تتوجّه المطالبة بالتّسليم على ورثته , لأنّهم لم يكفلوا له بشيء , وإنّما يخلفونه فيما له لا فيما عليه . ثمّ إنّه لا شيء للمكفول له في تركته, لأنّ ماله لا يصلح لإيفاء ذلك الواجب .
78 - أمّا إذا مات المكفول به - في الكفالة بالنّفس - فإنّ الكفالة تسقط عن الكفيل , ولا يلزم بشيء , لأنّ النّفس المكفولة قد ذهبت , فعجز الكفيل عن إحضارها , ولأنّ الحضور قد سقط عن المكفول , فبرئ الكفيل تبعاً لذلك , لأنّ ما التزمه من أجله سقط عن الأصل فبرئ الفرع , كالضّامن إذا قضى المضمون عنه الدّين أو أبرئ منه , وبذلك قال جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وشريح والشّعبيّ وحمّاد بن أبي سليمان . وخالفهم في ذلك اللّيث والحكم فقالوا : يجب على الكفيل غرم ما عليه , لأنّ الكفيل وثيقة بحقّ , فإذا تعذّرت من جهة من عليه الدّين , أستوفي من الوثيقة كالرّهن , ولأنّه تعذّر إحضاره , فلزم كفيله ما عليه , كما لو غاب .
القسم الثّالث : العقود غير اللّازمة من الجانبين :
وتشمل هذه العقود الهبة قبل القبض , والإعارة , والقرض , والوكالة , والشّركة , والمضاربة , وبيان ذلك فيما يلي :
أ - الهبة قبل القبض :
79 - اختلف الفقهاء في بطلان الهبة بموت الواهب قبل لزوم العقد بالقبض على قولين : أحدهما : للحنفيّة والمالكيّة وبعض الشّافعيّة وبعض الحنابلة , وهو أنّ الهبة تبطل بموت الواهب قبل القبض .
وعلّل ذلك الحنفيّة بانتقال الملك لوارث الواهب قبل تمامها .
وعلّله المالكيّة بأنّ الهبة نوع من التزام المعروف غير المعلّق على شيء , ولا يقضى بشيء من ذلك على الملتزم إذا أفلس أو مات قبل الحيازة .
وعلّله موافقوهم من الشّافعيّة والحنابلة في غير المعتمد بأنّه عقد جائزٌ , فبطل بموت أحد العاقدين , كالوكالة والشّركة .
والثّاني : للشّافعيّة والحنابلة في المذهب وهو أنّ الواهب إذا مات قبل قبض هبته لم ينفسخ عقد الهبة , لأنّه يئُول إلى اللزوم , فلم يبطل بالموت , كالبيع بشرط الخيار , ويقوم وارث الواهب مقام مورّثه في الإقباض والإذن فيه , وله الخيار في ذلك , فإن شاء أقبض , وأن شاء لم يقبض .
ب - الإعارة :
80 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى انفساخ عقد العارية بموت المعير , وانتهاء تبرعه بمنافعها للمستعير , ووجوب مبادرة المستعير إلى ردّ العارية لورثته .
وعلّل الشّافعيّة والحنابلة ذلك بأنّها عقد جائزٌ من الطّرفين , فتبطل بموت أي منهما , كالوكالة والشّركة .
ووجه البطلان عند الحنفيّة أنّ العين انتقلت إلى وارث المعير بموته , والمنفعة بعد هذا تحدث على ملكه , وإنّما جعل المعير للمستعير ملك نفسه لا ملك غيره .
وفصَّل المالكيّة في المسألة فقالوا : إنّ الإعارة معروف , والوفاء بها لازم , لأنّ من ألزم نفسه معروفاً لزمه , ويقضى عليه به ما لم يمت أو يفلس قبل الحيازة .
وعلى ذلك : فإذا كانت العارية مقيّدةً بعمل , كطحن إردب من القمح أو حمله على الدّابّة المستعارة إلى جهة ما كان حكمها اللزوم في حقّ المعير حتّى ينتهي العمل الّذي أستعيرت لأجله , وكذا إذا كانت مقيّدةً بزمن , كيوم أو شهر مثلاً , فإنّها تلزم في حقّه حتّى ينقضي الأجل المضروب للانتفاع بها .(/20)
أمّا إذا كانت مطلقةً - غير مقيّدة بعمل أو زمن - فإنّ العقد لا يكون لازماً في حقّ المعير , وله أن يرجع فيها متى شاء . وحيث كان الحكم كذلك , فإذا مات المعير بعد قبض المستعير للعارية , وبقي في مدّتها , أو من الغرض المستعارة لأجله شيء , فلا تبطل الإعارة بموته, ولا ينتهي التزامه , وتبقى العين المعارة بيد المستعير حتّى ينتفع بها إلى نهاية العمل أو المدّة , أمّا إذا مات المعير قبل أن يقبض المستعير العارية فإنّ الإعارة تبطل بموته لعدم تمامها بالحيازة قبله .
ج - الوكالة :
81 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الوكالة تنفسخ بموت الموكّل أو الوكيل , وتبطل سائر الالتزامات المترتّبة عليها من الجانبين .
أمّا الموكّل : فلأنّ التّوكيل إنّما قام بإذنه , وهو أهل لذلك , فلمّا بطلت أهليّته بالموت بطل إذنه , وانتقل الحق لغيره من الورثة .
وأمّا الوكيل : فلأنّ أهليّته للتّصرف قد زالت بموته , وليس الوكالة حقاً له فتورث عنه . وقال البهوتيّ : لأنّ الوكالة تعتمد الحياة والعقل , فإذا انتفى ذلك انتفت صحّتها , لانتفاء ما تعتمد عليه , وهو أهليّة التّصرف .
واستثنى الحنفيّة من ذلك موت الموكّل في حالة الوكالة ببيع الرّهن إذا وكّل الرّاهن العدل أو المرتهن ببيع الرّهن عند حلول الأجل , فحينئذٍ لا تبطل الوكالة ولا ينعزل الوكيل بموت الموكّل .
واستثنى الحنابلة موت الموكّل إذا وكّل من يتصرّف لغيره , كوصيّ اليتيم وناظر الوقف , ففي هذه الحالة لا تبطل الوكالة بموته .
د - الشّركة :
82 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى انفساخ شركة العقد " بأنواعها " وبطلان الالتزامات النّاشئة عنها بموت أحد الشّريكين قال ابن قدامة : لأنّها عقد جائزٌ , فبطلت بذلك كالوكالة .
وقال الحنفيّة : وإنّما بطلت الشّركة بالموت لأنّها تتضمّن الوكالة , أي مشروطٌ ابتداؤها بها ضرورةً , فإنّه لا يتحقّق ابتداؤها إلّا بولاية التّصرف لكلّ منهما في مال الآخر , ولا تبقى الولاية إلّا ببقاء الوكالة .
هـ - المضاربة :
83 - لا خلاف بين الفقهاء في انفساخ عقد المضاربة وبطلان الالتزامات المترتّبة عليه بموت المضارب أو ربّ المال إذا كان مال المضاربة ناضاً " أي من جنس رأس مالها " , وذلك لأنّ المضاربة تتضمّن الوكالة , والوكالة تنفسخ بموت أحد عاقديها ولا تورّث , فتتبعها المضاربة .
أمّا إذا كان المال عروضاً تجاريّةً , فقد اختلف الفقهاء في بطلان عقد المضاربة بموت أحدهما , وذلك على قولين :
أحدهما : لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة , وهو بطلان المضاربة بموت أحد العاقدين , فتباع السّلع والعروض حتّى ينضّ رأس المال جميعه , ويوزّع بين ورثة المتوفّى والطّرف الباقي .
والثّاني : للمالكيّة , وهو أنّ المضاربة لا تبطل بوفاة ربّ المال أو المضارب .
أمّا رب المال إذا مات فيخلفه ورثته في المال , ويبقى العامل على قراضه إذا أراد الورثة بقاءه , وإن أرادوا فسخ العقد وأخذ مالهم كان لهم ذلك بعد نضوضه .
وأمّا المضارب إذا مات فيخلفه ورثته في حقّ عمله في المضاربة , وليس لربّ المال أن ينتزعه منهم إذا أرادوا العمل فيه إلّا بعد أن يعملوا فيه بمقدار ما كان لمورّثهم .
و - الجعالة :
84 - فرّق الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة في تأثير الموت على الالتزام على الجعالة بين موت الجاعل وموت المجعول له , وذلك على النّحو التّالي :
موت الجاعل :
85 - ذهب الشّافعيّة والمالكيّة في المشهور إلى انفساخ الجعالة بموت الجاعل وبطلان التزامه فيها قبل شروع العامل " المجعول له في العمل " .
وقال ابن حبيب وابن القاسم في ظاهر رواية عيسى عنه : لا يبطل الجعل بموت الجاعل , ويلزم ذلك ورثته , ولا يكون لهم أن يمنعوا المجعول له من العمل .
أمّا إذا مات الجاعل بعد أن فرغ من العمل فلا أثر لوفاته على التزامه , لأنّه قد تمَّ واستقرّ , ووجب للعامل الجعل في تركته .
ولو مات الجاعل بعد أن شرع العامل في العمل , ولكن قبل إتمامه , فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين :
أحدهما : للشّافعيّة , وهو بطلان الجعالة بموته , لأنّها من العقود الجائزة من الطّرفين إلّا أنّ العامل إذا أتمّ العمل بعد وفاته , فإنّه يستحق قسط ما عمله في حياته من المسمّى , ولا يستحق شيئاً في مقابلة ما عمله بعد موت الجاعل , لعدم التزام الورثة له به .
والثّاني : للإمام مالك - في رواية عليّ بن زياد وأشهب عنه - وهو أنّ الجعالة لا تبطل بموت الجاعل بعد أن شرع العامل في العمل , وتلزم ورثته , ولا يكون لهم أن يمنعوا المجعول له من العمل .
موت المجعول له :
86 - إذا مات العامل " المجعول له " قبل أن يشرع في العمل فلا خلاف بين الفقهاء في أنّ الجعالة تبطل بموته , إلّا في قول عند المالكيّة بلزوم الجعالة بالقول بالنّسبة للجاعل , وعليه فإذا مات المجعول له قبل الشّروع فيه لم يبطل العقد , وينزل ورثته منزلته , وليس للجاعل أن يمنعهم من العمل .
أمّا إذا مات العامل بعد أن شرع في العمل , وقبل إتمامه , فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين :
أحدهما : للمالكيّة , وهو أنّ الجعالة لا تبطل بموت العامل بعد الشّروع في العمل , ويقوم ورثته مقامه في إكماله إن كانوا أمناء , وليس للجاعل أن يمنعهم من العمل , وفي هذه الحالة إذا أتمّ الورثة العمل استحقوا الجعل كاملاً , بعضه بالإرث من عمل مورّثهم , وبعضه الآخر نتيجة عملهم .(/21)
الثّاني : للشّافعيّة وهو أنّ الجعالة تبطل بموته , لأنّها من العقود الجائزة من الطّرفين , فإن أتمّ ورثته العمل من بعده , استحقوا قسط ما عمل مورّثهم من الجعل المسمّى فقط , ولا شيء لهم في العمل الّذي أتموه بعد وفاة مورّثهم .
وللتّفصيل أنظر مصطلح ( جعالة ف / 67 ) .
ز - الوصيّة :
87 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الوصيّة لا تلزم في حقّ الموصي ما دام حيّاً فله أن يرجع عنها في حياته متى شاء لأنّها عقد تبرع لم يتمّ , إذ تمامها بموت الموصي , فجاز رجوعه عنها قبل تمامها , ولأنّ القبول في الوصيّة إنّما يعتبر بعد موت الموصي وكل عقد لم يقترن بإيجابه القبول , فللموجب أن يرجع فيه .
وعلى ذلك , فإنّ الوصيّة لا تبطل بموت الموصي إذا مات مصراً عليها , ولا يسقط التزامه بوفاته , بل يعتبر موته موجباً للزومها , من جهته , وقاطعاً لحقّه في الرجوع عنها , ومثبتاً لالتزامه النّاشئ عنها والمترتّب عليها .
ح - النّذر :
88 - إذا مات من وجب عليه النّذر دون أن يفي به , فهل يبطل التزامه بالموت أم لا ؟ فرَّق الفقهاء في ذلك بين النّذر الماليّ كالصّدقة والعتق ونحوهما , وبين غير الماليّ كالصّلاة والصّوم والحجّ والاعتكاف ونحوها , وبيان ذلك فيما يلي :
أ - النّذر المالي :
89 - اختلف الفقهاء في حكم من نذر في صحّته ونحوها , ثمّ مات قبل الوفاء بنذره وذلك على قولين :
القول الأوّل : للحنفيّة والمالكيّة , وهو عدم سقوط النّذر بموته إذا أوصى بأن يوفى من ماله, ويخرج من ثلثه كسائر الوصايا , فإن لم يوص به سقط في أحكام الدنيا , ولا يجب على الورثة إخراجه من مالهم إلّا أن يتطوّعوا به .
القول الثّاني : للشّافعيّة والحنابلة , وهو أنّ النّذر لا يسقط بموته , بل يؤخذ من رأس مال تركته كسائر ديون اللّه تعالى أوصى بذلك أو لم يوص به .
ب - النّذر غير الماليّ :
90 - فرّق الفقهاء في ذلك بين ما إذا كان المنذور به حجاً أو صوماً أو صلاةً أو اعتكافاً على النّحو التّالي :
أ - فإن كان النّذر صلاةً , فمات النّاذر قبل فعلها فقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى سقوطها بموته , فلا يصلّي أحد عن الميّت , لأنّ الصّلاة لا بدل لها , وهي عبادة بدنيّة لا ينوب أحد عن الميّت في أدائها .
ب - وإن كان النّذر حجاً , ومات النّاذر قبل التّمكن من أدائه لأيّ عذر من الأعذار الشّرعيّة فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين :
أحدهما : للحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة , وهو أنّه يسقط عنه ولا شيء عليه .
والثّاني : للحنابلة في المذهب , وهو أنّه يجب أن يخرج عنه من جميع ماله ما يحج به عنه, ولو لم يوص بذلك .
وإذا مات بعد أن تمكّن من أدائه ولم يحجّ , فقد اختلف الفقهاء في سقوطه على قولين : القول الأوّل : للحنفيّة والمالكيّة , وهو أنّه يسقط بوفاة النّاذر , ولا يلزم ورثته الحج عنه , فلا يؤخذ من تركته شيء لأجل قضاء ما وجب عليه من حج إلّا إذا أوصى بذلك , فإنّه ينفذ في حدود ثلث تركته .
القول الثّاني : للشّافعيّة والحنابلة , وهو أنّه صار بالتّمكن ديناً في ذمّته , ويجب قضاؤه من جميع تركته إن ترك مالاً , بأن يحجّ وارثه عنه أو يستأجر من يحج عنه , سواء أوصى بذلك أو لم يوص , فإن لم يترك مالاً , بقي النّذر في ذمّته , ولا يلزم الورثة بقضائه عنه .
ج - وإن كان النّذر صوماً , فمات النّاذر قبل فعله فقد اختلف الفقهاء في سقوطه على قولين :
أحدهما : للحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في المذهب , وهو أنّ الصّوم يسقط بموته , فلا يصوم عنه أحد , لأنّ الصّوم الواجب جار مجرى الصّلاة , فكما أنّه لا يصلّي أحد عن أحد , فلا يصوم أحد عن أحد .
والثّاني : للحنابلة والشّافعيّ في القديم , وهو أنّه لا يسقط بموته , ويصوم عنه وليه , وذلك لأنّ النّذر التزام في الذّمّة بمنزلة الدّين , فيقبل قضاء الوليّ له كما يقضي دينه .
غير أنّ الصّوم ليس بواجب على الوليّ في قول الحنابلة والشّافعيّ في القديم , بل هو مستحب له على سبيل الصّلة له والمعروف .
د - وإن كان النّذر اعتكافاً , فمات النّاذر قبل أدائه فقد اختلف الفقهاء في سقوطه على قولين :
أحدهما : لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة على المشهور في المذهب , وهو أنّ الاعتكاف يسقط بموته , ولا يفعله عنه وليه .
والثّاني : للحنابلة وبعض الشّافعيّة , وهو أنّه لا يسقط , ويعتكف عنه وليه استحباباً على سبيل الصّلة والمعروف , لا على سبيل الوجوب .
ط - العدّة :
91 - العدّة : إخبار عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل , وقد اختلف الفقهاء في وجوب الوفاء بالعدّة فذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض المالكيّة إلى أنّ الوفاء بها مستحب لا واجب .
وذهب المالكيّة في المشهور إلى أنّ العدّة إذا كانت مرتبطةً بسبب , ودخل الموعود في السّبب , فإنّه يجب الوفاء بها , ويلزم به الواعد قضاءً , رفعاً للضّرر عن الموعود المغرّر به , وتقريراً لمبدأ تحميل التّبعيّة لمن ورّطه في ذلك , إذ لا ضرر ولا ضرار , وذلك كما إذا وعده بأن يسلفه ثمن دار يريد شراءها , فاشتراها الموعود تعويلاً على وعده , أو أن يقرضه مبلغ المهر في الزّواج , فتزوّج اعتماداً على عدته .(/22)
ولكنّ الّذي لا خلاف فيه بين الفقهاء هو أنّ الواعد إذا مات قبل إنجاز وعده فإنّ الوعد يسقط , سواء أكان مطلقاً , أم معلّقاً على سبب ودخل الموعود في السّبب , أمّا عند جمهور الفقهاء , فلأنّ الوعد لا يلزم الواعد أصلاً , وأمّا عند المالكيّة القائلين بوجوبه في الحالة المشار إليها , فلأنّ المقرّر عندهم أنّ المعروف لازم لمن أوجبه على نفسه ما لم يمت أو يفلس , وبالموت سقط التزامه وتلاشى فلا يؤخذ من تركته شيء لأجله .(/23)
مَيِّت *
التّعريف :
1 - الميت بتخفيف الياء وتشديدها في اللغة : هو الّذي فارق الحياة ويجمع على أمواتٍ , والميّت , " بتشديد الياء " : من في حكم الميت وليس به , ويجمع على أمواتٍ , وموتى . يقال : مات يموت موتاً فهو ميّت بالتّثقيل والتّخفيف , ويعدّى بالهمزة فيقال : أماته اللّه , وأمّا الحي فميّت بالتّثقيل لا غير , وعليه قوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } , أي سيموتون .
وفي الاصطلاح : الميت : الّذي فارق الحياة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الحي :
2 - الحي لغةً : يقال : حَيي يحيى حياةً من باب تعب فهو حيّ ويتعدّى بالهمزة فيقال : أحياه اللّه واستحييته - بياءين - إذا تركته حيّاً فلم تقتله , فالحي ضد الميت .
وفي الاصطلاح : الحي المتّصف بالحياة وهي صفّة توجب للموصوف بها أن يعلم ويقدر ظاهراً .
والعلاقة بين الميت والحيّ التّضاد .
ب - المحتضر :
3 - المحتضر : هو من في النّزع أي أشرف على الموت يقال حضره الموت واحتضره : أشرف فهو في النّزع .
والصّلة بين المحتضر والميت أنّ الاحتضار مقدّمة للموت .
الأحكام المتعلّقة بالميت :
أ - تقبيل وجه الميت :
4 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى جواز تقبيل وجه الميت لخبر « أنّه صلى الله عليه وسلم قبّل عثمان بن مظعون بعد موته » ، ولما ثبت « أنّ أبا بكر رضي الله عنه قبّل وجه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد موته » .
وذهب السبكي إلى استحباب ذلك لأهل الميت ويجوز لغيرهم , وخصّ الشّافعيّة وجه الميت الصّالح , أمّا غيره فيكره .
ب - تغميض عيني الميت :
5 - اتّفق الفقهاء على استحباب تغميض عيني الميت بعد ثبوت موته لما ورد عن أمّ سلمة قالت : « دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شقّ بصره فأغمضه ، ثمّ قال : إنّ الروح إذا قبض تبعه البصر » .
وروى شدّاد بن أوسٍ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر ، فإنّ البصر يتبع الروح , وقولوا خيراً فإنّ الملائكة تؤمّن على ما قال أهل الميت » .
ولأنّ الميت إذا كان مفتوح العينين فلم يغمض حتّى يبرد بقي مفتوحاً فيقبح منظره .
ويقول من يغمض الميت : " بسم اللّه وعلى ملّة رسول اللّه " .
وقال أحمد : تغمض المرأة عينه إذا كانت ذات محرم له , وقال : يكره للحائض والجنب تغميضه وأن تقرباه .
ج - إخراج الحائض والنفساء والجنب من عند الميت :
6 - نصّ الحنفيّة على أنّه ينبغي إخراج النفساء والجنب من عند الميت وكذلك الحائض في رأي عندهم .
وذهب المالكيّة إلى أنّه يندب لمن حضرته علامات الموت تجنب حائض ونفساء وجنب لأجل الملائكة , وقال ابن حبيب : يستحب ألّا تحضر الحائض ولا الكافرة ، ولا يكون عنده وقربه غير طاهر .
ونصّ الحنابلة على أنّه يكره أن تقرب الحائض والجنب الميت لحديث : « لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جنب » .
( ر : احتضار ف / 3 ) .
د - تلقين الميت بعد الموت :
7 - اختلف الفقهاء في تلقين الميت بعد موته : فذهب بعضهم إلى أنّه لا بأس بتلقينه لقوله صلى الله عليه وسلم : « لقّنوا موتاكم لا إله إلّا اللّه » .
وذهب بعضهم إلى أنّه لا يلقّن .
انظر تفصيل ذلك في مصطلح ( تلقين ف / 5 ، احتضار ف / 7 ) .
هـ - غسل الجنب والحائض الميت :
8 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى جواز أن يغسل الجنب والحائض الميت بلا كراهة لأنّ المقصود هو التّطهير , وهو حاصل بالجنب والحائض , ولأنّه لا يشترط في الغاسل الطّهارة .
وذهب المالكيّة إلى كراهة غسل الجنب للميت لأنّه يملك طهره ، ولا يكره تغسيل الحائض لأنّه لا تملك طهرها .
وروي عن أبي يوسف أنّه كره للحائض الغسل لأنّها لو اغتسلت لنفسها لم تعتدّ به فكذا إذا غسَّلت .
و - شدّ لحيي الميت وتليين مفاصله :
9 - اتّفق الفقهاء على استحباب شدّ لحيي الميت بعصابة عريضة تربط فوق رأسه , لئلّا يبقى فمه مفتوحاً , فتدخله الهوام ويتشوّه خلقه ويدخل الماء عند غسله .
وكذلك اتّفق الفقهاء على استحباب تليين مفاصل الميت , وذلك بردّ ساعده إلى عضده وساقه إلى فخذه وفخذه إلى بطنه , ثمّ تمد وتلين أصابعه بأن تردّ إلى بطن كفّه ثمّ تمد تسهيلاً لغسله وتكفينه , فإنّ في البدن بعد مفارقة الروح بقيّة حرارة فإذا ليّنت المفاصل حينئذٍ لانت وإلّا فلا يمكن تليينها .
وزاد الشّافعيّة أنّ تليين مفاصله تكون ولو بنحو دهن إن توقّف التّليين عليه ليسهل غسله . وذهب الحنابلة إلى ترك تليين المفاصل إذا تعذّر ذلك لأنّه لا يؤمن أن تنكسر أعضاؤه وصيّر به ذلك إلى المثلة .
ز - توجيه الميت للقبلة :
10 - اتّفق الفقهاء على استحباب توجيه الميت إلى القبلة لأنّها أشرف الجهات , ولكن اختلفوا في طريقة توجيه الميت إلى القبلة على أقوال :
فذهب الحنفيّة إلى أنّه يسن أن يوجّه المحتضر للقبلة على يمينه مثل توجيهه في القبر وجاز الاستلقاء على ظهره وقدماه إليها ولكن يرفع رأسه قليلاً ليتوجّه للقبلة , وقيل : يوضع كما تيسّر على الأصحّ وإن شقّ عليه ترك على حاله .
وذهب المالكيّة إلى أنّه يستحب توجيهه للقبلة على يمينه , فإن لم يمكن فعلى يساره , فإن لم يمكن فعلى ظهره ورجلاه للقبلة , فإن لم يمكن فعلى بطنه ورأسه لها , وهذا بشرط أن يكون ذلك بعد شخوص بصره لا قبله لئلّا يفزعه ذلك .(/1)
وذهب الشّافعيّة في الصّحيح عندهم إلى أنّه يستحب توجيهه على جنبه الأيمن كما يوضع في اللّحد إلى القبلة فإن تعذّر وضعه على يمينه لضيق مكان أو لعلّة في جنبه أو غيرها فإنّه يوضع على جنبه الأيسر , فإن تعذّر ألقي على قفاه ووجهه وأخمصاه للقبلة بأن يرفع رأسه قليلاً , كأن يوضع تحت رأسه مرتفع ليتوجّه وجهه إلى القبلة .
ومقابل الصّحيح أنّ هذا الاستلقاء أفضل , فإن تعذّر اضطجع على جنبه الأيمن , فإن تعذّر وضع على جنبه الأيسر .
وللحنابلة في كيفيّة توجيه الميت للقبلة قولان :
أحدهما : أنّه يجعل على جنبه الأيمن وهو الصّحيح من المذهب .
والثّاني : أن يكون مستلقياً على قفاه ويرفع رأسه قليلاً , ليصير وجهه إلى القبلة دون السّماء .
وقال القاضي : إن كان الموضع واسعاً فعلى جنبه , وإلّا فعلى ظهره . واشترط بعضهم أنّه لا يوجّه قبل تيقن موته , والصّحيح من المذهب أنّ الأولى التّوجيه قبل ذلك .
ج - ستر بدن الميت :
11 - ذهب الفقهاء إلى استحباب ستر الميت حين الغسل على اختلاف بينهم في القدر الّذي يستر ويغطّى .
فذهب الحنفيّة إلى استحباب ستر الميت حين الغسل , وأنّ القدر الواجب في السّتر هو ستر عورته الغليظة فقط على الظّاهر من الرّواية , وقيل مطلقاً تستر عورته الغليظة والخفيفة . وذهب المالكيّة إلى استحباب أن يستر الغاسل الميت من سرّته إلى ركبته إن كان الّذي يتولّى أمر الميت سيّداً أو زوجاً لكن إن كان الّذي يتولّى أمره أجنبيّاً فإنّه يجب ستر ما بين سرّته وركبته .
وذهب الشّافعيّة إلى استحباب ستر جميع بدنه بثوب خفيف بعد نزع ثيابه ما لم يكن محرماً , ويجعل طرف الثّوب تحت رأسه وطرفه الآخر تحت رجليه لئلّا ينكشف , واحترز بالثّوب الخفيف عن الثّقيل لأنّ الثّقيل يحميه فيغيّره وقد ورد عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : « سجّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين مات بثوب حبرة » .
أمّا المُحرِم فيستر منه ما يجب تكفينه منه .
وصرّح القليوبي بأنّه لا يغطّى رأس المحرم ولا وجه المحرمة ويغسل الميت ندباً في قميصٍ لأنّه أستر له .
وقال الحنابلة : إذا شرع في غسله وجب ستر ما بين سرّته وركبته لقوله صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه : « لا تبرز فخذك , ولا تنظرن إلى فخذ حي ولا ميتٍ » ، وهذا في غير من سنه دون سبع سنين فلا بأس بغسله مجرّداً .
وقال القاضي : السنّة أن يغسّل في قميصٍ رقيق ينزل الماء فيه ولا يمنع أن يصل إلى بدنه ويدخل يده في كمّ القميص فيمرّها على بدنه والماء يصب فإن كان القميص ضيّقاً فتق رأس الدّخاريص وأدخل يده منه .
ط - قراءة القرآن بعد موت الميت وقبل غسله :
12 - نصّ الحنفيّة والمالكيّة على أنّه يكره قراءة القرآن على الميت بعد موته وقبل غسله. وذهب الحنابلة إلى أنّه يستحب أن يقرأ عند الميت سورة ( يس ) وكذا سورة الفاتحة . وللتّفصيل ( ر : قراءة ف / 17 , 18 ) .
ي - تغسيل الميت :
13 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ تغسيل المسلم واجب كفايةً .
وانظر حقيقته وحكمه , ومن يغسله , وكيفيّة تغسيله , وما يتّصل بذلك من أحكام في مصطلح ( تغسيل الميت ) .
ك - تكفين الميت :
14 - اتّفق الفقهاء على أنّ تكفين الميت بما يستره فرضٌ على الكفاية .
وانظر حقيقته وحكمه وكيفيّته في مصطلح ( تكفين ) .
ل - حمل الميت :
15 - اتّفق الفقهاء على أنّ حمل الجنازة فرضٌ على الكفاية , واختلفوا في كيفيّة حملها وعدد حامليها .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( جنائز ف / 11 - 13 ) .
م - دفن الميت :
16 - دفن الميت فرض كفاية إجماعاً إن أمكن .
انظر حقيقته وحكمه , وأفضل مكان لدفنه , والأحق بدفنه , وكيفيّته ووقته , وما يتّصل به من أحكام في مصطلح ( دفن ) .
ن - نبش قبر الميت :
17 - اتّفق الفقهاء على منع نبش القبر إلّا لعذر وغرض صحيح , ومن الأعذار الّتي تجيز نبش القبر كون الأرض مغصوبةً أو الكفن مغصوباً أو سقط مال في القبر .
وعندهم تفصيل في هذه الأعذار ينظر إليها في مصطلح ( قبر ف / 21 , ونبشٌ ) .
س - نقل الميت :
18 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجوز نقل الميت من مكان إلى آخر بعد الدّفن مطلقاً .
وأمّا المالكيّة فيجوز عندهم نقل الميت قبل الدّفن وكذا بعده من مكان إلى آخر بشروط . ينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( دفن ف / 4 , ونبشٌ ) .
ع - قذف الميت :
19 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه من قذف ميتاً أقيم عليه الحد .
واختلفوا فيمن له حق طلب إقامة الحدّ .
فذهب الحنفيّة إلى أنّ طلب إقامة الحدّ يرجع لمن يقع القدح في نسبه بسبب قذف الميت وهم الأصول والفروع وإن علوا أو سفلوا , ولو كان الطّالب محجوباً أو محروماً عن الميراث بقتل أو رق أو كفر أو كونه ولد بنتٍ . ولو مع وجود الأقرب أو عفوه أو تصديقه للقاذف للحوق العار بهم بسبب الجزئيّة , أي كون الميت جزءًا منهم أو كونهم جزءًا منه .
ولو قال : يا ابن الزّانيين وقد مات أبواه فعليه حد واحد .
وذهب المالكيّة إلى أنّ من مات قبل حدّ قاذفه فلوارثه القيام به ولو منعه من الإرث مانع كرقّ وقتل وكفر إن كان قذفه في حياته .
وإن قذفه بعد موته فلوارثه القيام بحدّه للحقوق المعرّة له .
وأمّا الورثة الّذين يحق لهم المطالبة بالحدّ فهم : ولد المقذوف ويشمل البنين والبنات وإن سفلوا , وأب المقذوف وإن علا .(/2)
فمن قذف ميتاً كان لولده وإن سفل ولأبيه وإن علا أن يقوموا بذلك ومن قام منهم بذلك أخذه بحدّه وإن كان ثمّ من هو أقرب منه لأنّه عيب يلزمهم , وليس للإخوة وسائر العصبة قيام مع هؤلاء فإن لم يكن من هؤلاء أحد فللعصبة القيام , وللأخوات والجدّات القيام إلّا أن يكون له ولد .
فإن لم يكن لهذا المقذوف وارثٌ فليس للأجنبيّ أن يقوم بحدّه .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ من قذف ميتاً أقيم عليه الحد , وطلب إقامة الحدّ للوارث إلّا أن يعفو, ولو عفا وارث المقذوف مقابل مال يأخذه سقط الحد ولم يجب المال , ولو عفا بعض الورثة فللباقي أن يستوفوا الحدّ على الأصحّ , لأنّه عار , والعار يلزم الواحد كما يلزم الجميع . واختلف الشّافعيّة فيمن يرث حدّ القذف على أوجهٍ :
أصحها : جميع الورثة كالمال والقصاص .
والثّاني : جميعهم غير الزّوجين .
والثّالث : رجال العصبات فقط لأنّه لدفع العار كولاية التّزويج .
والرّابع : رجال العصبة سوى البنين كالتّزويج , ثمّ من بعدهم للسلطان .
ولو قذف رجل مورّثه , ومات المقذوف , سقط عنه الحد إن كان حائزاً للإرث , ولأنّ القذف لا يمنع الإرث بخلاف القتل .
ولو قذف ولد أباه فمات الأب وترك القاذف وابناً آخر فإنّ فيه الخلاف فيمن يرث الحدّ فإن قلنا : إذا عفا بعض المستحقّين كان للآخر استيفاء الجميع فللابن الآخر استيفاء الحدّ بتمامه, وإن قلنا يسقط الجميع فكذا هنا , وإن قلنا : يسقط نصيب العافي فللابن الآخر استيفاء نصف الحدّ .
وأمّا الحنابلة : فقالوا إذا قذفت المرأة لم يكن لولدها المطالبة إذا كانت الأم في الحياة , وإن قذفت وهي ميتة - مسلمةً كانت أو كافرةً حرّةً أو أمة - حدّ القاذف إذا طالب الابن وكان مسلماً حراً وهو المذهب لأنّه قدح في نسبه ولأنّه بقذف أمّه ينسبه إلى أنّه من زنا ولا يستحق إقامة الحدّ بطريق الإرث ولذلك تعتبر حصانته ولا تعتبر حصانة أمّه لأنّ القذف له . وقال أبو بكر : لا يجب الحد على قذف ميتة , وكذلك تقاس الجدّة على الأمّ في الحياة والموت .
وأمّا إن قذف أباه أو جدّه أو أحداً من أقاربه غير أمّهاته بعد موته لم يجب الحد بقذفه في ظاهر كلام الخرقيّ لأنّه إنّما أوجب بقذف أمّه حقاً له لنفي نسبه لاحقاً للميت ولهذا لم يعتبر إحصان المقذوفة واعتبر إحصان الولد , ومتى كان المقذوف من غير أمّهاته لم يتضمّن نفي نسبه فلم يجب الحد .
وإذا مات المقذوف ولم يطالب بالحدّ سقط الحد وإن كان قد طالب به فالصّحيح من المذهب أنّه لا يسقط وللورثة طلبه .
والحق في حدّ القذف لجميع الورثة , حتّى لأحد الزّوجين على الصّحيح من المذهب ونصّ عليه الإمام أحمد .
وقال القاضي : لهم سوى الزّوجين , وقال في المغني : هو للعصبة , وقال ابن عقيل : يرثه الإمام أيضاً في قياس المذهب عند عدم الوارث .
ولو عفا بعضهم حدّ للباقي كاملاً على الصّحيح من المذهب .
ف - حَلْق شعر الميت وقص ظفره :
20 - للفقهاء تفصيل في حكم حلق شعر الميت أو تسريحه أو ضفر شعر المرأة وكذا سائر شعر البدن كاللّحية والشّارب وشعر الإبط والعانة .
وينظر ذلك في مصطلح ( شعر وصوف ووبر ف / 4 , 5 , 6 , حلق ف / 14 ) .
كما اختلفوا في حكم تقليم أظفار الميت وللتّفصيل انظر مصطلح ( تغسيل الميت ف / 9 ) .
ص - تغسيل السّقط والصّلاة عليه ودفنه :
21 - السّقط هو الولد ذكراً كان أو أنثى يسقط قبل تمامه وهو مستبين الخلق , وقد اتّفق الفقهاء على أنّه إذا استهلّ المولود غسل وصلّي عليه , وفيما عدا ذلك خلاف ينظر في مصطلح ( جنين ف / 22 ) .
ق - إدخال الميت المسجد والصّلاة عليه فيه :
22 - ذهب الحنفيّة إلى كراهة الصّلاة على الميت في المسجد الجامع أو مسجد المحلّة وإدخاله فيه تحريماً وقيل تنزيهاً ورجّحه الكمال وذهب المالكيّة إلى الكراهة , وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى جواز ذلك , وللتّفصيل ينظر مصطلح ( جنائز ف / 38 ) .
ر - الصّلاة على القبر إذا دفن الميت قبل الصّلاة عليه :
23 - اختلف الفقهاء في الصّلاة على القبر إذا دفن الميت فيه قبل الصّلاة عليه .
وانظر تفصيل ذلك في مصطلح ( جنائز ف / 37 ) .
ش - طهارة جسد الميت :
24 - ذهب عامّة الحنفيّة إلى أنّ الميت يتنجّس بالموت لما فيه من الدّم المسفوح كما يتنجّس سائر الحيوانات الّتي لها دم سائل بالموت وهذا هو الأظهر في المذهب .
وقد اختلف الحنفيّة هل نجاسته نجاسة خبث أو حدث ؟ فقيل : إنّها نجاسة خبث وهو الأظهر, فلو وقع في بئر قبل غسله نجّسها وكذلك لو حمل ميتاً قبل غسله وصلّى به لم تصحّ صلاته , ولذلك إنّما يطهر الميت بالغسل كرامةً للمسلم .
أمّا الكافر فهو نجسٌ ولو بعد غسله فلو وقع كافر في بئر بعد غسله فإنّه ينجّس البئر . وقيل : هي نجاسة حدث قال في الفتح : وقد روي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه :
« سبحان اللّه , إنّ المؤمن لا ينجس حيّاً ولا ميتاً » , فإن صحّ وجب ترجيح أنّه للحدث , ولما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « لا تنجّسوا موتاكم , فإنّ المسلم لا ينجس حيّاً ولا ميتاً » .(/3)
وذهب محمّد بن شجاع الثّلجي من الحنفيّة إلى أنّ الآدميّ لا ينجس بالموت بتشرب الدّم المسفوح في أجزائه , كرامةً له ، لأنّه لو تنجس لما حكم بطهارته بالغسل كسائر الحيوانات الّتي حكم بنجاستها بالموت , والآدمي يطهر بالغسل حتّى روي عن محمّد أنّ الميت لو وقع في البئر قبل الغسل يوجب تنجيس البئر , ولو وقع بعد الغسل لا يوجب تنجسه فعلم أنّه لم يتنجّس بالموت ولكن وجب غسله للحدث , لأنّ الموت لا يخلو عن سابقة حدث لوجود استرخاء المفاصل وزوال العقل , والبدن في حقّ التّطهير لا يتجزّأ فوجب غسله كله . وذهب المالكيّة في المعتمد والشّافعيّة في الأظهر , والحنابلة في الصّحيح من المذهب والبلخي من الحنفيّة إلى أنّ ميتة الآدميّ ولو كافراً طاهرة , لقوله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } , وقضيّة تكريمهم أن لا يحكم بنجاستهم بالموت , ولخبر « لا تنجّسوا موتاكم فإنّ المؤمن لا ينجس حيّاً ولا ميتاً » ، قال عياضٌ : ولأنّ غسله وإكرامه يأبى تنجيسه , إذ لا معنى لغسل الميتة الّتي هي بمنزلة العذرة .
وأمّا قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } فالمراد نجاسة الاعتقاد أو أنّا نجتنبهم كالنّجاسة لا نجاسة الأبدان , ولهذا ربط النّبي صلى الله عليه وسلم الأسير في المسجد , وقد أحلّ اللّه طعام أهل الكتاب .
وقد نصّ المالكيّة والشّافعيّة على أنّ هذا الخلاف في غير أجساد الأنبياء لأنّ أجساد الأنبياء متّفق على طهارتها , وألحق ابن العربيّ المالكي بهم الشّهداء .
وإنّما الخلاف في طهارة ميتة الآدميّ ونجاستها في المسلم والكافر .
فذهب بعض المالكيّة إلى نجاسة ميتة الآدميّ .
وقال ابن قدامة : ويحتمل أن ينجس الكافر بموته لأنّ الخبر : « المؤمن لا ينجس » إنّما ورد في المسلم ولا يصح قياس الكافر عليه ؛ لأنّه لا يصلّى عليه وليس له حرمة كحرمة المسلم .
حكم ما أبين من الآدميّ :
25 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ ما أبين من الآدميّ يأخذ حكمه في القول بطهارته أو بنجاسته .
فذهب الحنفيّة في الصّحيح إلى أنّ شعر الآدميّ غير المنتوف طاهر بخلاف المنتوف فإنّه نجسٌ لما يحمل من دسومة .
وكذلك عظم الميت وعصبه فإنّهما طاهران على المشهور من المذهب , وكذلك سن الميت على الظّاهر من المذهب فإنّه طاهر لأنّه لا دم فيها والمنجّس هو الدّم .
وكذلك ظفر الميت فإنّه طاهر إذا كان خالياً عن الدسومة .
وذهب المالكيّة في المعتمد عندهم إلى طهارة ما أبين من الآدميّ مطلقاً سواء كان في حال حياته أو بعد موته بناءً على المعتمد من طهارة ميتته , وأمّا على القول الآخر في المذهب فما أبين منه نجسٌ مطلقاً .
وذهب الشّافعيّة إلى إلحاق ما انفصل من الآدميّ بميتته في الطّهارة .
وقال الحنابلة : حكم أجزاء الآدميّ وأبعاضه حكم جملته سواء انفصلت في حياته أو بعد موته , لأنّها أجزاء من جملته فكان حكمها كسائر الحيوانات الطّاهرة والنّجسة ولأنّها يصلّى عليها فكانت طاهرةً كجملته , وذكر القاضي أنّها نجسة روايةً واحدةً لأنّها لا حرمة لها .
ت - غسل ما أبين من الآدميّ والصّلاة عليه :
26 - نصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّه إذا وجد بعض الميت غسل وصلّي عليه لأنّ عمر رضي الله عنه صلّى على عظام بالشّام , وصلّى أبو عبيدة رضي الله عنه على رءوسٍ , وصلّت الصّحابة رضي الله عنهم على يد عبد الرّحمن بن عتّاب بن أسيد ألقاها طائر بمكّة من وقعة الجمل .
وقال الحنفيّة : إذا وجد رأس آدمي أو أحد شقّيه لا يغسّل ولا يصلّى عليه بل يدفن إلّا أن يوجد أكثر من نصفه ولو بلا رأسٍ فإنّه يغسّل ويصلّى عليه .
وقال المالكيّة : لا يغسّل دون ثلثي الجسد , والمراد بالجسد ما عدا الرّأس , فإذا وجد نصف الجسد أو أكثر منه ودون الثلثين مع الرّأس لم يغسل على المعتمد ولا يصلّى عليه أي يكره, لأنّ شرط الغسل وجود الميت , فإن وجد بعضه فالحكم للغالب ولا حكم لليسير وهو ما دون الثلثين .
والعلّة في ترك الصّلاة على ما دون الجلّ خوف الوقوع في المكروه وهو الصّلاة على غائب, قال في التّوضيح لأنّا لا نخاطب بالصّلاة على الميت إلّا بشرط الحضور , وحضور جلّه كحضور كلّه , وحضور الأقلّ بمنزلة العدم .
( ر : تغسيل الميت ف / 26 ) .
ث - تنازع الميت والحيّ الماء :
27 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا اجتمع ميت وجنب وحائضٌ ومحدثٌ وكان الماء ملكاً لأحدهم فهو أولى به لأنّه أحق بملكه , وللفقهاء بعد ذلك تفصيل :
ذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا كان الماء ملكاً لأحدهم فهو أولى به لأنّه أحق بملكه .
أمّا إذا كان الماء مباحاً فإنّ الجنب أولى بالماء من الحائض والمحدث وييمّم الميت ليصلّى عليه , وكذا المرأة والمحدث ويقتديان به , لأنّ الجنابة أغلظ من الحدث , والمرأة لا تصلح إماماً .
وقيل في السّراج : أنّ الميت أولى لأنّ غسله يراد للتّنظيف وهو لا يحصل بالتراب .
وعن الظّهيريّة أنّ الأوّل أصح , وفي السّراج أيضاً : لو كان الماء يكفي المحدث فقط كان أولى به لأنّه يرفع الحدث .
أمّا إذا كان الماء مشتركاً فينبغي لكلّ منهم أن يصرف نصيبه للميت حيث كان كل واحد لا يكفيه نصيبه , ولا يمكن الجنب ولا غيره أن يستقلّ بالكلّ لأنّه مشغول بحصّة الميت , وكون الجنابة أغلظ لا يبيح استعمال حصّة الميت فلم يكن الجنب أولى , بخلاف ما لو كان الماء مباحاً فإنّه حيث أمكن به رفع الجنابة كان أولى .(/4)
وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا مات صاحب الماء ومعه شخص حيّ محدثٌ جنب أو غيره فإنّ الميت يقدّم على المحدث الحيّ لحقية الملك إلّا أن يخاف على الحيّ العطش فإنّه يكون حينئذٍ أحق من صاحبه وييمّم الميت حفظاً للنّفوس ويضمن قيمته للورثة .
أمّا لو كان الماء مشتركاً بين الميت والحيّ يقدّم الحي ولو لم يخف عطشاً لترجيح جانبه بالشّركة ويضمن قيمة نصيب الميت .
وقال الشّافعيّة : إن اجتمع ميت وجنب وحائضٌ انقطع دمها وهناك ما يكفي أحدهما فإن كان لأحدهما كان صاحب الماء أحقّ به لأنّه محتاجٌ إليه لنفسه , فلا يجوز له بذله لغيره , فإن بذله للآخر وتيمّم لم يصحّ تيممه .
وإذا كان الماء لهما كانا فيه سواءً .
وإن كان الماء مباحاً أو لغيرهما وأراد أن يجود به على أحدهما فالميت أولى لأنّه خاتمة طهارته , والجنب والحائض يرجعان إلى الماء ويغتسلان .
وإذا اجتمع ميت وحيّ على بدنه نجاسة والماء يكفي أحدهما ففيه وجهان :
أحدهما : أنّ صاحب النّجاسة أولى لأنّه ليس لطهارته بدل ولطهارة الميت بدل وهو التّيمم فكان صاحب النّجاسة أحقّ بالماء , وهذا هو المذهب الصّحيح .
والثّاني : أنّ الميت أولى لأنّه خاتمة طهارته .
وقال الحنابلة : إذا اجتمع جنب وميت ومن عليها غسل حيض ومعهم ماء لا يكفي إلّا إحدهم, فإن كان ملكاً لأحدهم فهو أحق به لأنّه يحتاج إليه لنفسه فلا يجوز له بذله لغيره سواء كان مالكه الميت أو أحد الحيّين .
وإن كان الماء لغيره وأراد أن يجود به على أحدهم فعن أحمد رحمه الله روايتان :
إحداهما : الميت أحق به لأنّ غسله خاتمة طهارته , فيستحب أن تكون طهارته كاملةً , والحي يرجع إلى الماء فيغتسل , ولأنّ القصد بغسل الميت تنظيفه ولا يحصل بالتّيمم , والحي يقصد بغسله إباحة الصّلاة ويحصّل ذلك بالتراب .
والثّانية : الحي أولى لأنّه متعبّد بالغسل مع وجود الماء , والميت قد سقط الفرض عنه بالموت . واختار هذا الخلّال .
وإن وجدوا الماء في مكان فهو للأحياء , لأنّ الميت لا يجد شيئاً , وإن كان للميت ففضلت منه فضلة فهو لورثته , فإن لم يكن له وارثٌ حاضر فللحيّ أخذه بقيمته لأنّ في تركه إتلافه.
وقال بعض الحنابلة : ليس له أخذه لأنّ مالكه لم يأذن له فيه إلّا أن يحتاج إليه للعطش فيأخذه بشرط الضّمان .(/5)
مَيْتَة *
التّعريف :
1 - تطلق الميتة في اللغة على ما مات حتف أنفه من الحيوان من الموت الّذي هو مفارقة الروح الجسد . أمّا المِيتَة - بكسر الميم - فهي للحال والهيئة . يقال : مات مِيتةً حسنةً , ومات مِيتةً جاهليّةً , ونحو ذلك .
وفي الاصطلاح قال الجصّاص : الميتة في الشّرع اسمُ الحيوان الميّت غير المذكّى , وقد يكون ميتةً بأن يموت حتف أنفه من غير سبب لآدميّ فيه , وقد يكون ميتةً بسبب فعل الآدميّ إذا لم يكن فعله فيه على وجه الذّكاة المبيحة له .
كما تطلق الميتة شرعاً على العضو المبان من الحيوان الحيّ , كاليد والرّجل والألية وغيرها, سواء كان أصله مأكولاً أم غير مأكول وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : « ما قطع من البهيمة وهي حيّة , فهي ميتة » .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّذكية :
2 - التّذكية في اللغة مصدر ذكّى , والاسم الذّكاة , ومعناها تمام الشّيء والذّبح , يقال : ذكّيت الذّبيحة إذا أتممت ذبحها , والمذكّاة اسم مفعول من ذكّى .
والتّذكية في الاصطلاح الشّرعيّ هي السّبب الموصل إلى حِلّ أكل الحيوان البرِّيّ اختياراً , وقد عَرَّفها القاضي ابن العربيّ بقوله : هي في الشّرع عبارة عن إنهار الدّم وفري الأوداج في المذبوح , والنّحر في المنحور , والعقر في غير المقدور عليه , مقروناً ذلك بنيّة القصد إليه , وذكر اللّه تعالى عليه .
والصّلة بين الميتة وبين الحيوان المذكّى التّضاد من حيث أنّ المذكّاة يحل أكلها , أمّا الميتة فلا يحل أكلها .
ب - المنخنقة :
3 - المنخنقة هي الّتي تموت خنقاً - بحبل أو بغير حبل - إمّا قصداً , وإمّا اتّفاقاً بأن تتخبّط الدّابّة في وثاقها , فتموت به .
قال الرّازيّ : واعلم أنّ المنخنقة على وجوهٍ : منها : أنّ أهل الجاهليّة كانوا يخنقون الشّاة , فإذا ماتت أكلوها , ومنها : ما يُخنق بحبل الصّائد . ومنها : ما يدخل رأسها بين عودين في شجرة , فتختنق , فتموت .
والمنخنقة من جنس الميتة , لأنّها لمّا ماتت وما سال دمها , كانت كالميّت حتف أنفه , إلّا أنّها فارقت الميتة بكونها تموت بسبب انعصار الحلق بالخنق .
فالميتة أعم من المنخنقة .
ج - الموقوذة :
4 - الموقوذة هي الّتي ضُربت إلى أن ماتت , يقال : وقذها وأوقذها , إذا ضربها إلى أن ماتت , ويدخل في الموقوذة ما رُمي بالبندق فمات . قال الضّحّاك : كان أهل الجاهليّة يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتّى يقتلوها , فيأكلوها .
والموقوذة من جنس الميتة , من حيث إنّها ماتت دون تذكية .
والميتة أعم من الموقوذة .
د - المتردّية :
5 - المتردّي : هو الواقع في الرّدى , وهو الهلاك . والمتردّية : هي الّتي تقع من جبل , أو تطيح في بئر , أو تسقط من شاهق , فتموت .
والمتردّية من جنس الميتة , لأنّها ماتت دون تذكية .
والميتة أعم من المتردّية .
هـ - النَّطيحة :
6 - النّطيحة هي المنطوحة إلى أن ماتت , وذلك مثل كبشين تناطحا إلى أن ماتا أو مات أحدهما .
والنّطيحة من الميتة , لأنّها ماتت من غير تذكية .
والميتة أعم من النّطيحة .
و - الميِّت :
7 - الميّت في اللغة - بالتّشديد ويخفّف - يقال : ميْت وميّت بمعنى واحد ويستوي فيه المذّكّر والمؤنّث , قال تعالى : { لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا } , وقال : { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } , والميّت هو الّذي فارق الحياة , وجمعه أموات وموتى .
واصطلاحاً : هو الّذي فارق الحياة , والموتى جمع من يعقل , والميّتون مختص بذكور العقلاء , والميّتات بالتّشديد مختصّة لإناثهم , وبالتّخفيف للحيوانات .
والعلاقة بين الميّت والميّتة هو أنّ كلاً منهما قد فارق الحياة .
ز - الذّبيحة على النصب :
8 - النُّصُبُ هي حجارة كانت منصوبةً حول البيت الحرام , وكان أهل الجاهليّة يذبحون عليها ويشرحون اللّحم عليها , ويعظّمونها بذلك , ويتقرّبون به إليها , قال ابن جزي : وليست هي بالأصنام , لأنّ الأصنام مصوّرة , والنصب غير مصوّرة , وتسمّى الأنصاب , والمفرد نصاب , وقيل : إنّ النصب مفرد , وجمعه أنصاب .
وما ذبح على النصب داخل في الميتة في الاصطلاح الشّرعيّ , والميتة أعم ممّا ذبح على النصب .
ج - أكيلة السَّبع :
9 - أكيلة السّبع هي ما بقي ممّا أكله السّبع أو افترسه من الماشية , قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما وقتادة وغيرهما : كان أهل الجاهليّة إذا جرح السّبع شيئاً فقتله , وأكل بعضه , أكلوا ما بقي فحرّمه اللّه تعالى .
وأكيلة السّبع داخلة في الميتة في الاصطلاح الشّرعيّ , والميتة أعم منها .
الأحكام المتعلّقة بالميتة :
تتعلّق بالميتة أحكام منها :
حرمة أكل الميتة :
10 - أجمع الفقهاء على حرمة أكل الميتة في حالة السّعة والاختيار لقوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
وقد عبّر الإمام الرّازيّ عن حكمة تحريم أكل الميتة الّتي نفقت حتف أنفها بقوله : واعلم أنّ تحريم الميتة موافق لما في العقول , لأنّ الدّم جوهر لطيف جداً , فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدّم في عروقه وتعفَّن وفسد , وحصل من أكله مضار عظيمة .(/1)
وأمّا حكمة تحريم أكل الميتة الّتي قتلت على هيئة غير مشروعة " أي بدون تذكية " فقد أوضحها الإمام ابن القيّم بقوله : فلأنّ اللّه سبحانه حرَّم علينا الخبائث , والخبثُ الموجب للتّحريم قد يظهر لنا وقد يخفى , فما كان ظاهراً لم ينصب عليه الشّارع علامةً غير وصفه , وما كان خفيّاً نصب عليه علامةً تدلُّ على خبثه .
فاحتقان الدّم في الميتة سبب ظاهر , وأمّا ذبيحة المجوسيّ والمرتدّ وتارك التّسمية ومن أهلّ بذبيحته لغير اللّه , فنفس ذبيحة هؤلاء أكسبت المذبوح خبثاً أوجب تحريمه , ولا ينكر أن يكون ذكر اسم الأوثان والكواكب والجنّ على الذّبيحة يُكسبها خبثاً , وذِكْرُ اسم اللّه وحده يُكسبها طيباً إلّا من قلّ نصيبه من حقائق العلم والإيمان وذوق الشّريعة .
11 - وأمّا في حالة الإلجاء والاضطرار , فقد ذهب الفقهاء إلى جواز أكل الميتة عندئذٍ , فمن أضطرّ إلى أكل الميتة إمّا بإكراه ملجئٍ من ظالم أو بجوع في مخمصة أو بفقر لا يجد معه غير الميتة , حلّ له ذلك لداعي الضّرورة , حيث جاء في التّنزيل بعد تحريم الميتة قوله تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } , وقال سبحانه : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
قال الزّيلعي : فظهر أنّ التّحريم مخصوص بحالة الاختيار , وفي حالة الاضطرار مباح , لأنّ الضّرورات تبيح المحظورات .
12 - واختلف الفقهاء في حدّ الضّرورة المبيحة لأكل الميتة على أقوال :
أحدها : أن يخاف على نفسه الهلاك قطعاً أو ظناً , وهو قول المالكيّة في المشهور .
الثّاني : أن يخاف على نفسه موتاً أو مرضاً مخوفاً أو زيادته أو طول مدّته , أو انقطاعه عن رفقته , أو خوف ضعف عن مشي أو ركوب , فيسمّى هذا الخائف مضطراً . وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة .
الثّالث : خوف التّلف على نفسه أو بعض أعضائه بتركه الأكل , ويحصل ذلك في موضع لا يجد فيه غير الميتة , أو أن يكون غيرها موجوداً , ولكنّه أكره على أكلها بوعيد يخاف منه تلف نفسه أو بعض أعضائه , وهو مذهب الحنفيّة .
هذا في ميتة غير الآدميّ , وأمّا ميتة الآدميّ فقد اختلف الفقهاء فيها , وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( ضرورة ف / 10 ) .
13 - واختلف الفقهاء في حكم أكل الميتة عند الاضطرار على ثلاثة أقوال :
أحدها : الوجوب , فمن أضطرّ إلى أكل الميتة , وجب عليه تناولها , فإن امتنع من الأكل وصبر حتّى مات أثم , وهو قول جمهور الفقهاء من الحنفيّة وقول عند المالكيّة والشّافعيّة على الأصحّ والحنابلة على الصّحيح , لقوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } حيث أنّ ترك الأكل مع إمكانه في هذه الحال إلقاء بيده إلى التّهلكة , ولقوله سبحانه : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } , ولأنّه قادر على إحياء نفسه بما أحلّه اللّه له , فلزمه كما لو كان معه طعام حلال .
الثّاني : الإباحة , وهو قول أبي يوسف من الحنفيّة وسحنون من المالكيّة وأبي إسحاق الشّيرازيّ من الشّافعيّة ووجه عند الحنابلة وعلى ذلك : فلو امتنع المضطر عن أكلها حتّى مات , فلا إثم عليه , لأنّ إباحة الأكل رخصة , فلا تجب عليه كسائر الرخص . ولأنّ له غرضاً في اجتناب النّجاسة والأخذ بالعزيمة , وربّما لم تطب نفسه بتناول الميتة , وفارق الحلال في الأصل من هذه الوجوه .
الثّالث : النّدب , وهو قول بعض الحنابلة .
وللتّفصيل أنظر ( ضرورة ف / 10 , أطعمة ف / 90 ) .
مقدار ما يباح للمضطرّ تناوله من الميتة :
14 - اختلف الفقهاء في مقدار ما يباح للمضطرّ تناوله من الميتة على ثلاثة أقوال :
الأوّل : لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة في الأظهر وابن الماجشون وابن حبيب من المالكيّة وغيرهم , وهو أنّه لا يجوز للمضطرّ أن يأكل من الميتة إلّا قدر ما يسد به رمقه , أي : ما يحفظ به حياته , قال الصّاوي : المراد بالرّمق : الحياة , وسدها : حفظها .
لأنّ ما أبيح للضّرورة يقدّر بقدرها , وذلك أنّ اللّه حرّم الميتة , واستثنى ما أضطرّ إليه , فإذا اندفعت الضّرورة , عادت الحرمة كحالة الابتداء .
يوضّحه أنّه بعد سدّ الرّمق غير مضطر , فزال الحكم بزوال علّته , لأنّ القاعدة المقرّرة أنّ الحكم يدور مع العلّة وجوداً وعدماً .
الثّاني : للمالكيّة على المعتمد والشّافعيّة في قول وأحمد في رواية عنه , وهو أنّه يجوز للمضطرّ أن يأكل من الميتة حتّى يشبع , لأنّ الضّرورة ترفع التّحريم , فتعود مباحةً كسائر الأطعمة , وذلك لما روى جابر بن سمرة رضي الله عنه « أنّ رجلاً نزل الحرّة , فنفقت عنده ناقة , فقالت له امرأته : أسلخها حتّى نقدّد شحمها ولحمها ونأكله , فقال : حتّى أسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسأله فقال : هل عندك غنىً يغنيك ؟ قال : لا , قال : فكلوها » .
الثّالث : لعبيد اللّه بن الحسن العنبريّ : وهو أنّ له أن يأكل منها ما يسد جوعه , وذلك فوق قدر إمساك الرّمق .
تزود المضطرّ بالميتة :
10 - إذا خشي المضطر استمرار حالة الضّرورة , فهل يجوز له التّزود من الميتة ؟
اختلف الفقهاء في ذلك على قولين :
أحدهما : لجمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في الأصحّ , وهو أنّ له ذلك , فإن استغنى عنها طرحها , وذلك لأنّه لا ضرر عليه في استصحابها ولا في إعدادها لدفع ضرورته وقضاء حاجته , ولا يأكل منها إلّا عند ضرورته .(/2)
والثّاني : لأحمد في رواية عنه , وهو أنّه لا يجوز له ذلك , لأنّه توسُّع فيما لم يُبح إلّا للضّرورة .
حكم التّداوي بالميتة :
16 - اختلف الفقهاء في مشروعيّة التّداوي بالميتة إذا احتيج إلى تناولها للعلاج , بأن علم المسلم أنّ فيها شفاءً , ولم يجد دواءً غيرها , سواء أكانت منفردةً أم مخلوطةً بغيرها في بعض الأدوية المركّبة , وذلك على قولين :
أحدهما : الإباحة , وهو قول الحنفيّة والصّحيح من مذهب الشّافعيّة لأنّه صلى الله عليه وسلم « أباح للعُرنيّين شرب أبوال الإبل وألبانها للتّداوي » , قال العز بن عبد السّلام : لأنّ مصلحة العافية والسّلامة أكمل من مصلحة اجتناب النّجاسة .
والثّاني : عدم الجواز . وهو قول المالكيّة والحنابلة , لما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّ اللّه لم يجعل شفاء أمّتي فيما حرّم عليها » . قال ابن القيّم : والمعالجة بالمحرّمات قبيحة عقلاً وشرعاً , أمّا الشّرع فللحديث السّابق , وأمّا العقل , فهو أنّ اللّه سبحانه إنّما حرّمه لخبثه , فإنّه لم يحرّم على هذه الأمّة طيّباً عقوبةً لها , كما حرّمه على بني إسرائيل بقوله : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } , وإنّما حرّم على هذه الأمّة ما حرّم لخبثه , وتحريمه له حميّة لهم , وصيانة عن تناوله , فلا يناسب أن يطلب به الشّفاء من الأسقام والعلل , فإنّه وإن أثّر في إزالتها , لكنّه يعقب سماً أعظم منه في القلب بقوّة الخبث الّذي فيه , فيكون المداوى به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب .
نجاسة الميتة :
17 - ذهب الفقهاء " الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة " إلى أنّ الميتة نجسة العين , وقد حرّم اللّه أكلها بقوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } , ووصفها بالرّجس في قوله : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } والرّجس في اللغة هو القذر والنّجس , وحكى الرّازيّ الإجماع على نجاسة الميتة , هذا في ميتة غير الآدميّ , أمّا ميتة الآدميّ فينظر تفصيله في مصطلح (نجاسة ) .
نجاسة إنفحة الميتة :
18 - اختلف الفقهاء في الحكم بنجاسة إنفحة الميتة من الحيوان المأكول اللّحم , حيث إنّها قد تستعمل في صناعة الجبن , وذلك على ثلاثة أقوال :
أحدها : لجمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في ظاهر المذهب , وهو أنّها نجسة , والجبنُ المعقود بها متنجّسٌ , لا يحل أكله , لأنّ تحريم الميتة تحريم لجميع أجزائها, ومنها الإنفحة .
والثّاني : لأبي يوسف ومحمّد صاحبي أبي حنيفة , وهو أنّها إن كانت مائعةً فهي نجسة لنجاسة وعائها , وإن كانت صلبةً يغسل ظاهرها وتؤكل .
والثّالث : لأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه رجّحها ابن تيميّة وهو أنّها طاهرة , لأنّ الصّحابة رضي الله عنهم لمّا دخلوا المدائن أكلوا الجبن , وهو يعمل بالإنفحة الّتي تؤخذ من صغار المعز , وذبائحهم ميتة .
نجاسة لبن الميتة :
19 - اختلف الفقهاء في نجاسة اللّبن الخارج من ميتة الحيوان المأكول اللّحم على قولين : أحدهما : لأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه , وهو أنّه طاهر مأكول شرعاً , ودليلهم قوله عزّ وجلّ : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ } , حيث إنّ اللّه سبحانه وصفه بكونه خالصاً , فلا يتنجّس بنجاسة مجراه , ووصفه بكونه سائغاً , وهذا يقتضي الحلّ , وامتنّ علينا به , والمنّة بالحلال لا بالحرام . والثّاني : لجمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة والصّاحبين من الحنفيّة وهو أنّه نجسٌ , لا يحل تناوله , وذلك لقوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } حيث إنّ تحريم الميتة تحريم لجميع أجزائها , ومنها اللّبن , ولأنّه مائع في وعاء نجسٍ , فتنجّس به , أشبه ما لو حُلب في إناء نجسٍ .
نجاسة البيض الخارج من الميتة :
20 - اختلف الفقهاء في نجاسة البيض المنفصل عن ميتة مأكول اللّحم على ثلاثة أقوال : أحدها : للحنابلة والشّافعيّة في الأصحّ وابن المنذر وهو أنّ البيضة الّتي أخرجت من جوف ميتة الدّجاج إذا صلبت قشرتها فهي طاهرة , ويحل أكلها , لأنّ القشرة إذا صلّبت حجزت بين المأكول وبين الميتة , فتحل . أمّا قبل تصلب قشرتها فهي نجسة لا تؤكل .
ولأنّها ليست جزءاً من الميتة وإنّما هي مودعة فيها غير متّصلة بها فأشبهت الولد إذا خرج حيّاً من الميتة , ولأنّها خارجة من حيوان يخلق منها مثل أصلها , فأشبهت الولد الحيّ , ولا خلاف عند الشّافعيّة في أنّ ظاهر هذه البيضة نجسٌ .
والثّاني : للحنفيّة ووجه عند الشّافعيّة وهو أنّها طاهرة يجوز أكلها مطلقاً , سواء اشتدّ قشرها أو لم يشتدّ .
والثّالث : للمالكيّة واللّيث بن سعد ووجه عند الشّافعيّة , وهو أنّها نجسة مطلقاً , ولا يحل أكلها , لأنّها جزء من الميتة .
والتّفصيل في ( أطعمة ف / 81 ) .
ما يحلُّ الانتفاع به من الميتة :
21 - ذهب الفقهاء إلى جواز الانتفاع بالميتة من بعض الوجوه , وإن كان بينهم ثمّة اختلاف في ذلك , وتفصيل ذلك فيما يلي :
أ - جلد الميتة بعد الدّباغ :
22 - لا خلاف بين الفقهاء في نجاسة جلد الميتة قبل دبغه , ولكنّهم اختلفوا في طهارته بالدّباغ على خمسة أقوال :(/3)
الأوّل : للحنفيّة والشّافعيّة وأحمد في رواية عنه , وهو أنّ جلود الميتة تطهر كلها بالدّباغ إلّا الخنزير , واستثنى الشّافعيّة أيضاً جلد الكلب .
الثّاني : للمالكيّة و الحنابلة في المشهور وهو عدم طهارة جلد الميتة بالدّباغة , قال المالكيّة: لكن يجوز الانتفاع بذلك الجلد المدبوغ واستعماله مع نجاسته في اليابسات وفي الماء وحده دون سائر المائعات .
الثّالث : لأبي يوسف من الحنفيّة ولسحنون وابن عبد الحكم من المالكيّة , وهو أنّ جميع الجلود تطهر بالدّباغ حتّى الخنزير .
الرّابع : لأحمد في رواية عنه , وهو أنّه إنّما يطهر بالدّباغ جلد ميتة ما كان طاهراً حال الحياة .
الخامس : للأوزاعيّ وأبي ثور وأحمد في رواية عنه , وهو طهارة جلود ميتة الحيوان المأكول اللّحم فقط .
( ر : دباغة ف / 9 وما بعدها ) .
ب - صوف الميتة وشعرها :
23 - اختلف الفقهاء في حكم الانتفاع بصوف وشعر ووبر ميتة الحيوان المأكول اللّحم على قولين :
الأوّل : لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في المذهب , وهو أنّ صوف الميتة وشعرها ووبرها طاهر يجوز الانتفاع به , وهو قول الحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيّب وإبراهيم النّخعيّ واللّيث بن سعد والأوزاعيّ وابن المنذر وغيرهم .
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}, فعمّ اللّه الجميع بالإباحة من غير فصل بين المذكّى منها وبين الميتة , ولأنّه عزّ وجلّ ذكر هذه الأشياء في معرض المنّة , والمنّة لا تقع بالنّجس الّذي لا يحل الانتفاع به . واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم في الميتة : « إنّما حُرِّمَ أَكْلُها » . قال الجصّاص : فأبان النّبي صلى الله عليه وسلم عن مراد اللّه تعالى بتحريم الميتة , فلمّا لم يكن الشّعر والصوف والعظم ونحوها من المأكول لم يتناولها التّحريم .
كما استدلوا بأنّ هذه الشّعور والأصواف والأوبار أجسام منتفع بها , لعدم تعرضها للتّعفن والفساد , فوجب أن يقضى بطهارتها كالجلود المدبوغة , ولأنّ نجاسة الميتات ليست لأعيانها , بل لما فيها من الدّماء السّائل والرطوبات النّجسة , وهي غير موجودة في هذه الأشياء .
قال القرافي : وحجّتنا أنّها طاهرة قبل الموت , فتكون طاهرةً بعده , عملاً بالاستصحاب , ولأنّ الموت لا يلحقها , إذ الموت عبارة عن معنىً يحل بعد عدم الحياة , ولم تكن الحياة في الصوف والوبر والشّعر , فيخلفها الموت فيها .
الثّاني : للشّافعيّة في المذهب وأحمد في رواية عنه , وهو أنّ صوف الميتة وشعرها ووبرها نجسٌ لا يحل الانتفاع به , وذلك لأنّها جزء من الميتة , وقوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } عام في تحريم سائر أجزائها .
ج - عظم الميتة وقرنها :
24 - اختلف الفقهاء في حكم الانتفاع بعظم الميتة من الحيوان المأكول اللّحم وقرنها وظلفها وظفرها على قولين :
أحدهما : للشّافعيّة في المذهب و المالكيّة و الحنابلة , وهو أنّها نجسة لا يحل الانتفاع بها , وذلك لقوله تعالى : { قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } حيث دلّ على أنّها كانت حيّةً , فصارت عند الموت ميتةً , وإذا ثبت أنّها ميتة , وجب أن يحرم الانتفاع بها لعموم قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } .
والثّاني : للحنفيّة وابن وهب من المالكيّة وأحمد في رواية عنه اختارها ابن تيميّة وهو أنّها طاهرة يحل الانتفاع بها , وذلك لأنّها أجسام منتفع بها , غير متعرّضة للتّعفن والفساد , فوجب أن يقضى بطهارتها , كالجلود المدبوغة , ولأنّ نجاسة الميتات ليست لأعيانها , بل لما فيها من الدّماء السّائلة والرطوبات النّجسة , وهي ليست موجودةً في هذه الأشياء .
د - إطعام الميتة للحيوان :
25 - اختلف الفقهاء في جواز الانتفاع بالميتة بإطعامها للدّوابّ والبهائم أو الكلب المعلّم والطّير والبازي المعلّم ونحوهم على ثلاثة أقوال :
أحدها : للحنفيّة و الشّافعيّة وأحمد في رواية عنه : وهو عدم جواز ذلك , لأنّه إذا أطعم الميتة للحيوان فقد انتفع بتلك الميتة , وقوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } دال على عدم جواز الانتفاع بها .
قال الجصّاص : قال أصحابنا : لا يجوز الانتفاع بالميتة على وجهٍ , ولا يطعمها الكلاب والجوارح , لأنّ ذلك ضرب من الانتفاع بها , وقد حرّم اللّه الميتة تحريماً مطلقاً معلّقاً بعينها , مؤكّداً به حكم الحظر , فلا يجوز الانتفاع بشيء منها إلّا أن يخصّ شيء منها بدليل يجب التّسليم به .
وقال ابن قدامة : قال أحمد : لا أرى أن يطعم الكلب المعلّم الميتة , ولا الطّير المعلّم , لأنّه يضريه على الميتة , فإن أكل الكلب فلا أرى صاحبه حرجاً , ولعلّ أحمد كره أن يكون الكلب المعلّم إذا صاد وقتل أكل منه , لتضريته بإطعامه الميتة .
والثّاني : للمالكيّة و الحنابلة , وهو جواز إطعام كلبه وطيره البازي المعلّم الميتة , وكذا علف دوابّه الّتي لا يؤكل لحمها الميتة , لأنّ هذه الحيوانات ليست بمأكولة اللّحم , ولأنّه استعمال للميتة فيما يجري مجرى الإتلاف , وليس فيه ضرر .
قال الحنابلة : وكذا يباح أن يعلف ما يؤكل لحمه من الحيوان كالأنعام الأطعمة النّجسة إذا كان لا يراد ذبحها أو حلبها قريباً , لأنّه يجوز تركها في المرعى على اختيارها , ومعلوم أنّها ترعى النّجاسة , ويحرم علفها النّجاسة إذا كانت تؤكل قريباً أو تحلب قريباً , وإن تأخّر الذّبح أو الحلب .(/4)
والثّالث : لبعض المالكيّة , وهو جواز علف الدّوابّ والحيوانات مطلقاً الطّعام النّجس , ما أكل لحمه منها وما لم يؤكل , قال ابن الجلّاب : ولا بأس بعلف الدّوابّ الطّعام النّجس ما أكل لحمه وما لم يؤكل لحمه .
هـ - طلاء الجلود والسفن و الاستصباح بدهن الميتة :
26 - اختلف الفقهاء في جواز ذلك على ثلاثة أقوال :
أحدها : لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو عدم جواز الانتفاع بدهن الميتة باستصباح ولا غيره , ولا أن تطلى به ظهور السفن والجلود .
واستدلوا على ذلك بما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل : يا رسول اللّه , شحوم الميتة فإنّه يطلى بها السفن , ويدهن بها الجلود , ويستصبح بها النّاس ؟ فقال : لا , هو حرام . ثمّ قال صلى الله عليه وسلم : قاتل اللّه اليهود , إنّ اللّه لمّا حرّم شحومها , جملوه ثمّ باعوه فأكلوا ثمنه» . حيث بيّن النّبي عليه الصلاة والسلام أنّ اللّه إذا حرّم شيئاً حرّمه على الإطلاق , ودخل تحت تحريمه سائر ضروب الانتفاع به , ومنها البيع .
والثّاني : لعطاء وهو جواز دهن ظهور السفن بشحوم الميتة .
والثّالث : لابن تيميّة وهو أنّه يجوز الانتفاع بالنّجاسات , وسواء في ذلك شحم الميتة وغيره . وحكى أنّ الإمام أحمد أومأ إلى ذلك في رواية ابن منصور .
الميتة المستثناة من التّحريم :
27 - ذهب جمهور الفقهاء إلى طهارة ميتة البحر وجواز أكلها لقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } , وقد صحّ عن أبي بكر الصّدّيق وابن عبّاسٍ وجماعة من الصّحابة رضي الله عنهم أنّهم قالوا : إنّ صيد البحر ما صيد منه , وطعامه ما مات فيه .
ولقوله صلى الله عليه وسلم في ماء البحر : « هو الطّهور ماؤه , الحل ميتته » .
كما ذهب الجمهور إلى طهارة ميتة الجراد , وجواز أكلها لقوله صلى الله عليه وسلم : « أحلّت لنا ميتتان ودمان , فأمّا الميتتان فالحوت والجراد , وأمّا الدّمان فالكبد والطّحال » . وقد علّل ابن القيّم ذلك الحكم الاستثنائيّ بقوله : فإنّ الميتة إنّما حرّمت لاحتقان الرطوبات والفضلات والدّم الخبيث فيها , والذّكاة لمّا كانت تزيل ذلك الدّم والفضلات كانت سبب الحلّ , وإلّا فالموتُ لا يقتضي التّحريم , فإنّه حاصل بالذّكاة كما يحصل بغيرها , وإذا لم يكن في الحيوان دم وفضلات تزيلها الذّكاة لم يحرم بالموت , ولم يشترط لحلّه ذكاة كالجراد , ولهذا لا ينجس بالموت ما لا نفس له سائلةً كالذباب والنّحلة ونحوهما , والسّمك من هذا الضّرب, فإنّه لو كان له دم وفضلات تحتقن بموته لم يحلّ لموته بغير ذكاة .
( ر : أطعمة ف / 15 , 53 ) .(/5)
مُباشرة *
التّعريف :
1 - من معاني المباشرة في اللغة : الملامسة ، وأصله من لمس بشرة الرّجل بشرة المرأة ومن معانيها - أيضاً - : الجماع .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن ذلك .
الأحكام المتعلّقة بالمباشرة :
تتعلّق بالمباشرة أحكام منها :
مباشرة الحائض في زمن الحيض :
2 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ وطء الحائض في الفرج حرام لقوله تعالى : { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ } كما لا خلاف بينهم في جواز مباشرتها فيما فوق السرّة ودون الركبة لحديث : أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : « سئل عمّا يحل للرّجل من امرأته وهي حائض ؟ فقال : ما فوق الإزار » .
واختلفوا في مباشرتها فيما بين السرّة والركبة :
فذهب الجمهور إلى أنّه حرام واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت : « كانت إحدانا إذا كانت حائضاً فأراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يباشرها أمرها أن تتّزر في فور حيضتها ثمّ يباشرها » .
وقال الحنابلة : يجوز أن يصنع كلّ شيءٍ ما عدا الوطء .
وللتّفصيل ينظر : ( حيض ف 42 ) .
مباشرة الصّائم :
3 - يجوز للصّائم أن يباشر زوجته بما دون الفرج ، إن أمن من الوقوع في المحظور ، ولا يبطل صومه إن لم ينزل ، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : « كان النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقبّل ويباشر وهو صائم وكان أملككم لإربه » .
( ر : صوم ف 39 ) .
وتحرم المباشرة إن كانت تحرّك شهوته لخبر : « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : رخّص في القبلة للشّيخ وهو صائم ، ونهى عنها الشّابّ وقال : الشّيخ يملك إربه والشّاب يفسد صومه » .
قال الرّملي : ففهمنا من التّعليل أنّه دائر مع تحريك الشّهوة وعدمها ولأنّ فيه تعريضاً لإفساد العبادة .
والمباشرة والمعانقة كالقبلة .
مباشرة المعتكف :
4 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المباشرة بمعنى الوطء يحرم على المعتكف لقوله تعالى : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } .
وأمّا المباشرة بلا وطءٍ ففيها تفصيل ينظر في : ( اعتكاف ف 27 ) .
مباشرة المحرم :
5 - يحرم على المحرم مباشرة النّساء بأنواعها : الجماع والقبلة والمعانقة واللّمس بشهوةٍ ولو مع عدم الإنزال لقوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } .
والتّفصيل في مصطلح : ( إحرام ف 93 ) .
التّعدّي على الغير بالمباشرة :
6 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ التّعدّي على الغير مباشرةً هو من أقوى أسباب الضّمان . كما اتّفقوا في الجملة : على أنّه إذا اجتمع المباشر والمتسبّب أضيف الحكم إلى المباشر وإن اختلفوا في بعض الجزئيّات .
فالقاعدة : إذا اجتمع السّبب والمباشرة أو الغرور والمباشرة قدّمت المباشرة .(/1)
مُبَالَغة *
التّعريف :
1 - المبالغة في اللغة : مصدر بالغ يقال : بالغ يبالغ مبالغةً وبلاغًا : إذا اجتهد في الأمر ولم يقصّر ، والمبالغة : المغالاة .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الأحكام المتعلّقة بالمبالغة :
المبالغة في المضمضة والاستنشاق في الوضوء :
2 - المبالغة في المضمضة إدارة الماء في أعماق الفم وأقاصيه وأشداقه والمبالغة في الاستنشاق اجتذاب الماء بالنّفس إلى أقصى الأنف .
واتّفق الفقهاء على أنّ المبالغة في المضمضة والاستنشاق سنّة لغير الصّائم .
أمّا للصّائم فالمبالغة فيهما مكروهة بالنّسبة له لحديث لقيط بن صبرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً » .
والتّفصيل في مصطلح : ( وضوء , صوم ف 83 ) .
المبالغة في غسل أعضاء الوضوء :
3 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يستحب إسباغ الوضوء أي غسل ما فوق الواجب من أعضاء الوضوء أو مسحه لما روى نعيم المجمّر أنّه رأى أبا هريرة رضي الله عنه يتوضّأ فغسل وجهه ويديه حتّى كاد يبلغ المنكبين ثمّ غسل رجليه حتّى رفع إلى السّاقين ثمّ قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « إنّ أمّتي يأتون يوم القيامة غراً محجّلين من أثر الوضوء , فمن استطاع منكم أن يطيل غرّته فليفعل » , والغرّة : بياض في وجه الفرس ، والتّحجيل في يديه ورجليه ، ومعنى الحديث : يأتون بيض الوجوه والأيدي والأرجل .
وصرّح الحنابلة بأنّه يستحب المبالغة في أعضاء الوضوء والمبالغة عندهم في غير المضمضة والاستنشاق هي دلك المواضع الّتي ينبو عنها الماء أي لا يطمئن عليها وعركها بالماء .
وصرّح المالكيّة بأنّه يجب دلك أعضاء الوضوء والدّلك - في الرّاجح - عندهم : هو إمرار اليد على العضو .
كما صرّحوا بأنّه لا تندب إطالة الغرّة وهي الزّيادة في مغسول الوضوء على محلّ الفرض .
المبالغة في دلك العقب في الوضوء :
4 - صرّح جمهور الفقهاء باستحباب دلك العقب في الوضوء .
قال مالك : وينبغي أن يتعاهد عقبيه .
وقال البغوي : ويجتهد في دلك العقب لا سيّما في الشّتاء فإنّ الماء يتجافى عنها .
وصرّح الشّربيني الخطيب : بأنّه يستحب أن يدلك أعضاء الوضوء ويبالغ في العقب خصوصاً في الشّتاء فقد ورد : « ويل للأعقاب من النّار » .
وذكر نحو هذا الحطّاب وابن قدامة .
والتّفصيل في مصطلح : ( وضوء ) .
المبالغة في الغُسل :
5 - لا خلاف بين الفقهاء في كراهة الإسراف والمبالغة في الغسل فما زاد على الكفاية أو بعد تيقن الواجب فهو سرف مكروه إلا إذا كان الماء موقوفاً فإنّه يحرم الزّيادة على الكفاية لكونها غير مأذونٍ فيها .
وللتّفصيل : ( ر : إسراف ف 8 غسل ف 40 ) .
المبالغة في رفع الصّوت بالأذان :
6 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه يستحب رفع الصّوت بالأذان بلا إجهادٍ لنفسه لئلا يضرّ بها لقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لأبي سعيدٍ الخدريّ : « إنّي أراك تحب الغنم والبادية ، فإذا كنت في غنمك أو باديتك ، فأذّنت بالصّلاة فارفع صوتك بالنّداء ، فإنّه لا يسمع مدى صوت المؤذّن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة » .
وقال الحنفيّة : يسن الجهر بالأذان ورفع الصّوت به ولا ينبغي أن يجهد نفسه لأنّه يخاف حدوث بعض العلل .
وقال الحنابلة : رفع الصّوت بالأذان ركن ويستحب رفع صوته بقدر طاقته وتكره الزّيادة فوق طاقته خشية الضّرر .
والتّفصيل في : ( أذان ف 24 - 25 ) .
المبالغة في الدعاء ورفع اليدين في الاستسقاء :
7 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى استحباب المبالغة في الدعاء ، وفي رفع اليدين في الاستسقاء لما جاء في حديث أنسٍ رضي الله عنه : « كان صلّى اللّه عليه وسلّم يرفع يديه حتّى يرى بياض إبطيه » .
وذكر الزرقاني أنّ معنى المبالغة في الدعاء يحتمل أمرين : إمّا الإطالة في الدعاء وإمّا الإتيان بأجوده وأحسنه أو يحتملهما معاً وذكر - أيضاً - أنّ المبالغة في الدعاء تكون من الإمام ومن معه من الحاضرين .
( ر : استسقاء ف 19 دعاء ف 8 ) .
المبالغة في المدح :
8 - قال النّووي : وردت أحاديث في النّهي عن المدح وأحاديث في الصّحيحين بالمدح في الوجه .
قال العلماء : وطريق الجمع بينها أنّ النّهي محمول على المجازفة في المدح والزّيادة في الأوصاف ، أو على من يخاف عليه فتنة من إعجابٍ ونحوه إذا سمع المدح ، أمّا من لا يخاف عليه ذلك لكمال تقواه ورسوخ عقله ومعرفته ، فلا نهي في مدحه في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة ، بل إن كان يحصل بذلك مصلحة كنشطه للخير ، والازدياد منه ، أو الدّوام عليه ، أو الاقتداء به ، كان مستحباً .
وللتّفصيل : ( ر : مدح ) .(/1)
مُتَحَيِّرَة *
التّعريف :
1 - المتحيّرة في اللغة : مشتق من مادّة حير , والتّحير : التّردد , وتحيّر الماء : اجتمع ودار , وتحيّر الرّجل : إذا ضلّ فلم يهتد لسبيله , وتحيّر السّحاب : لم يتّجه جهةً , واستحار المكان بالماء وتحيّر : تملأ .
والمتحيّرة في الاصطلاح :
قال الحنفيّة : هي من نسيت عادتها وتسمّى المضلّة والضّالّة .
وقال النّووي : ولا يطلق اسم المتحيّرة إلا على من نسيت عادتها قدراً ووقتاً ولا تمييز لها , وأمّا من نسيت عدداً لا وقتاً وعكسها فلا يسمّيها الأصحاب متحيّرةً , وسمّاها الغزالي متحيّرةً , والأوّل هو المعروف .
وقال الحنابلة : المتحيّرة هي من نسيت عادتها ولم يكن لها تمييز .
وسمّيت المرأة في هذه الحالة متحيّرةً لتحيرها في أمرها وحيضها , وتسمّى أيضاً المحيِّرة - بكسر الياء المشدّدة - لأنّها حيّرت الفقيه في أمرها .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - المستحاضة :
2 - المستحاضة : من يسيل دمها ولا يرقأ , في غير أيّامٍ معلومةٍ , لا من عرق الحيض بل من عرقٍ يقال له : العاذل .
والمستحاضة أعم من المتحيّرة .
ب - المبتدأة :
3 - المبتدأة من كانت في أوّل حيضٍ أو نفاسٍ .
والصّلة بين المتحيّرة والمبتدأة أنّ المبتدأة قد تكون متحيّرةً .
ج - المعتادة :
4 - المعتادة : من سبق منها من حين بلوغها دم وطهر صحيحان , أو أحدهما بأن رأت دماً صحيحاً وطهراً فاسداً .
أنواع المتحيّرة :
5 - الأصل أنّ المتحيّرة هي المعتادة النّاسية لعادتها - كما مرّ آنفاً في تعريف الفقهاء للمتحيّرة - لكن الشّافعيّة أطلقوا على المبتدأة إذا لم تعرف وقت ابتداء دمها متحيّرةً أيضاً . قال النّووي : اعلم أنّ حكم المتحيّرة لا يختص بالنّاسية بل المبتدأة إذا لم تعرف وقت ابتداء دمها كانت متحيّرةً وجرى عليها أحكامها .
والتّحير كما يقع في الحيض يقع في النّفاس أيضاً فيطلق على النّاسية لعادتها في النّفاس : متحيّرةً .
أوّلاً : المتحيّرة في الحيض :
6 - الأصل أنّه يجب على كلّ امرأةٍ حفظ عادتها في الحيض والطهر عدداً ومكاناً , ككونه خمسةً مثلاً من أوّل الشّهر أو آخره مثلاً .
فإذا نسيت عادتها فإنّها لا تخلو من ثلاثة أحوالٍ :
لأنّها إمّا أن تكون ناسيةً للعدد , أي عدد أيّامها في الحيض مع علمها بمكانها من الشّهر أنّها في أوّله أو آخره مثلاً , أو ناسيةً للمكان أي مكانها من الشّهر على التّعيين مع علمها عدد أيّام حيضها , أو ناسيةً للعدد والمكان , أي بأن لم تعلم عدد أيّامها ولا مكانها من الشّهر , هذا ما نصّ عليه جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - ويعبّر الشّافعيّة عن العدد بالقدر , وعن المكان بالوقت , كما يعبّر الحنابلة عن المكان بالموضع . ويسمّي الحنفيّة حالة النّسيان في العدد والمكان إضلالاً عاماً , وحالة النّسيان في العدد فقط أو المكان فقط إضلالاً خاصّاً .
الإضلال الخاص :
أ - النّاسية للعدد فقط " الإضلال بالعدد " :
7 - اختلف الفقهاء في حكم المتحيّرة النّاسية للعدد فقط , فالأصل عند الحنفيّة أنّ المتحيّرة بأنواعها تتحرّى , فإن وقع تحرّيها على طهرٍ تعطى حكم الطّاهرات , وإن كان على حيضٍ تعطى حكمه , لأنّ الظّنّ من الأدلّة الشّرعيّة , فإن لم يغلب ظنها على شيءٍ فعليها الأخذ بالأحوط في الأحكام .
ويختلف حكم المضلّة بالعدد باختلاف علمها بالمكان , فإن علمت أنّها تطهر آخر الشّهر فإنّها تصلّي إلى عشرين في طهرٍ بيقين ويأتيها زوجها , لأنّ الحيض لا يزيد على عشرةٍ , ثمّ في سبعةٍ بعد العشرين تصلّي بالوضوء - أيضاً - لوقت كلّ صلاةٍ للشّكّ في الدخول في الحيض , حيث إنّها في كلّ يومٍ من هذه السّبعة متردّدة بين الطهر والدخول في الحيض , لاحتمال أنّ حيضها الثّلاثة الباقية فقط أو شيء ممّا قبلها أو جميع العشرة , وتترك الصّلاة في الثّلاثة الأخيرة للتّيقن بالحيض , ثمّ تغتسل في آخر الشّهر غسلاً واحداً , لأنّ وقت الخروج من الحيض معلوم لها , وإن علمت أنّها ترى الدّم إذا جاوز العشرين - أي أنّ أوّل حيضها اليوم الحادي والعشرون - فإنّها تدع الصّلاة ثلاثةً بعد العشرين , لأنّ الحيض لا يكون أقلّ من ثلاثةٍ , ثمّ تصلّي بالغسل إلى آخر الشّهر لتوهم الخروج من الحيض , وتعيد صوم هذه العشرة في عشرةٍ أخرى من شهرٍ آخر , وعلى هذا يخرج سائر المسائل .
وقال المالكيّة في المتحيّرة : سئل ابن القاسم عمّن حاضت في شهرٍ عشرة أيّامٍ , وفي آخر ستّة أيّامٍ , وفي آخر ثمانية أيّامٍ ثمّ استحيضت كم تجعل عادتها ؟ قال : لا أحفظ عنه في ذلك شيئاً , ولكنّها تستظهر على أكثر أيّامها , قال صاحب الطّرّاز : قال ابن حبيبٍ تستظهر على أقلّ أيّامها إن كانت هي الأخيرة لأنّها المستقرّة , ويقول ابن القاسم لعلّ عادتها الأولى عادت إليها بسبب زوال سدٍّ من المجاري , وقول مالكٍ الأوّل إنّها تمكث خمسة عشر يوماً , لأنّ العادة قد تنتقل .
ووضع الشّافعيّة قاعدةً للمتحيّرة النّاسية للعدد والمتحيّرة النّاسية للمكان , فقرّروا أنّ المتحيّرة إن حفظت شيئاً من عادتها ونسيت شيئاً كأن ذكرت الوقت دون القدر أو العكس , فلليقين من الحيض والطهر حكمه , وهي في الزّمن المحتمل للطهر والحيض كحائض في الوطء ونحوه , وطاهرٍ في العبادات - وسيأتي تفصيل ذلك - وإن احتمل انقطاعاً وجب الغسل لكلّ فرضٍ للاحتياط , وإن لم يحتمله وجب الوضوء فقط .(/1)
مثال الحافظة للوقت دون القدر كأن تقول : كان حيضي يبتدئ أوّل الشّهر , فيوم وليلة منه حيض بيقين , لأنّه أقل الحيض , ونصفه الثّاني طهر بيقين , لأنّ أكثر الحيض خمسة عشر , وما بين ذلك يحتمل الحيض والطهر والانقطاع .
ومثال الحافظة للقدر دون الوقت كأن تقول : حيضي خمسة في العشرة الأول من الشّهر , لا أعلم ابتداءها , وأعلم أنّي في اليوم الأوّل طاهر , فالسّادس حيض بيقين , والأوّل طهر بيقين كالعشرين الأخيرين , والثّاني إلى آخر الخامس محتمل للحيض والطهر , والسّابع إلى آخر العاشر محتمل لهما وللانقطاع .
قال النّووي : قال أصحابنا : الحافظة لقدر حيضها إنّما ينفعها حفظها , وتخرج عن التّحير المطلق إذا حفظت مع ذلك قدر الدّور وابتداءه , فإن فقدت ذلك بأن قالت : كان حيضي خمسة عشر أضللتها في دوري , ولا أعرف سوى ذلك , فلا فائدة فيما ذكرت لاحتمال الحيض والطهر والانقطاع في كلّ وقتٍ , وكذا لو قالت : حيضي خمسة عشر , وابتداء دوري يوم كذا ولا أعرف قدره , فلا فائدة فيما حفظت للاحتمال المذكور , ولها في هذين المثالين حكم المتحيّرة في كلّ شيءٍ .
وذهب الحنابلة إلى أنّ النّاسية للعدد فقط تجلس غالب الحيض إن اتّسع شهرها له , وشهر المرأة هو الزّمن الّذي يجتمع لها فيه حيض وطهر صحيحان , وأقل ذلك أربعة عشر يوماً بلياليها , يوماً بليلة للحيض - لأنّه أقله - وثلاثة عشر يوماً بلياليها للطهر - لأنّه أقله - ولا حدّ لأكثر شهر المرأة , لأنّه لا حدّ لأكثر الطهر بين الحيضتين , لحديث حمنة بنت جحشٍ رضي الله عنها قالت : « يا رسول اللّه إنّي أستحاض حيضةً شديدةً كبيرةً , قد منعتني الصّوم والصّلاة , فقال : تحيّضي ستّة أيّامٍ أو سبعة أيّامٍ في علم اللّه ثمّ اغتسلي » .
وحمنة امرأة كبيرة - قاله أحمد - ولم يسألها عن تمييزها ولا عادتها فلم يبق إلا أن تكون ناسيةً فترد إلى غالب الحيض إناطةً للحكم بالأكثر , كما ترد المعتادة لعادتها .
وإن لم يتّسع شهرها لغالب الحيض جلست الفاضل من شهرها بعد أقلّ الطهر , كأن يكون شهرها ثمانية عشر يوماً , فإنّها تجلس الزّائد عن أقلّ الطهر بين الحيضتين فقط - وهو خمسة أيّامٍ - لئلا ينقص الطهر عن أقلّه فيخرج عن كونه طهراً , حيث إنّ الباقي من الثّمانية عشر بعد الثّلاثة عشر - وهو أقل الطهر عند الحنابلة - خمسة أيّام فتجلسها فقط , وإن جهلت شهرها جلست غالب الحيض من كلّ شهرٍ هلاليٍّ .
بـ _ النّاسية للمكان فقط " الإضلال بالمكان " :
8 - سبق بيان مذهب الشّافعيّة في النّاسية للمكان فقط في الإضلال بالعدد .
وذهب الحنابلة إلى أنّ المرأة إن علمت أيّام حيضها ونسيت موضعها : بأن لم تدر أكانت تحيض في أوّل الشّهر أو وسطه أو آخره , فإنّها تجلس أيّام حيضها من أوّل كلّ شهر هلاليٍّ , لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حيضة حمنة من أول الشهر والصلاة في بقيته , ولأن دم الحيض جبلة , والاستحاضة عارضة , فإذا رأته وجب تقديم دم الحيض . وإن علمت المستحاضة عدد أيامها في وقت من الشهر ونسيت موضعها , بأن لم تدر أهي في أوله أم آخره , فإنها لا تخلو : إما أن تكون أيامها نصف الوقت الذي علمت أن حيضها فيه أو أقل , أو أكثر , فإن كانت أيامها نصف الوقت الذي علمت أن حيضها فيه فأقل فحيضها من أولها , كأن تعلم أن حيضها كان في النصف الثاني من الشهر , فإنها تجلس من أوله , وعلى هذا الأكثر , وهناك وجه أنها تتحرى , وليس لها حيض بيقين بل حيضها مشكوك فيه , وإن زادت أيامها على النصف , مثل أن تعلم أن حيضها ستة أيام من العشر الأول , من الشهر ضم الزائد إلى النصف - وهو في المثال يوم - إلى مثله مما قبله - وهو يوم - فيكونان حيضاً بيقين , وهما اليوم الخامس والسادس في هذا المثال ثم يبقى لها أربعة أيام تتمة عادتها , فإن جلستها من الأول على قول الأكثر كان حيضها من أول العشرة إلى آخر السادس , منها يومان هما الخامس والسادس حيض بيقين .
والأربعة حيض مشكوك فيه , والأربعة الباقية طهر مشكوك فيه , وإن جلست بالتحري على الوجه المقابل لقول الأكثر فأداها اجتهادها إلى أنها من أول العشرة فهي كالتي ذكرنا , وإن جلست الأربعة من آخر العشرة كانت الأربعة حيضا مشكوكاً فيه , واليومان قبلها حيض بيقين , والأربعة الأول طهر مشكوك فيه , وإن قالت : حيضتي سبعة أيام من العشرة , فقد زادت أيامها يومين على نصف الوقت فتضمهما إلى يومين قبلهما فيصير لها أربعة أيام حيضاً بيقين , من أول الرابع إلى آخر السابع , ويبقى لها ثلاثة أيام تجلسها من أول العشرة أو بالتحري على الوجهين , وهي حيض مشكوك فيه كما تقدم .
والناسية للمكان فقط عند الحنفية لا تخلو : إما أن تضل أيامها في ضعفها أو أكثر , أو في أقل من ضعفها , فإن أضلت أيامها في ضعفها أو أكثر فلا تيقن في يوم منها بحيض , كما إذا كانت أيامها ثلاثة فأضلتها في ستة أو أكثر , وإن أضلت أيامها في أقل من الضعف فإنها تيقن بالحيض في يوم أو أيام , كما إذا أضلت ثلاثة في خمسة فإنها تيقن بالحيض في اليوم الثالث من الخمسة , فإنه أول الحيض أو آخره أو وسطه بيقين فتترك الصلاة فيه .(/2)
ويتفرع على ذلك : أنها إن علمت أن أيامها ثلاثة فأضلتها في العشرة الأخيرة من الشهر , فإنها تصلي من أول العشرة بالوضوء لوقت كل صلاة ثلاثة أيام , للتردد فيها بين الحيض والطهر , ثم تصلي بعدها إلى آخر الشهر بالاغتسال لوقت كل صلاة للتردد فيه بين الحيض والطهر والخروج من الحيض , إلا إذا تذكرت وقت خروجها من الحيض فتغتسل في كل يوم في ذلك الوقت مرة , كأن تذكرت أنها كانت تطهر في وقت العصر مثلا ولا تدري من أي يوم , فتصلي الصبح والظهر بالوضوء للتردد بين الحيض والطهر , ثم تصلي العصر بالغسل للتردد بين الحيض والخروج منه , ثم تصلي المغرب والعشاء والوتر بالوضوء للتردد بين الحيض والطهر , ثم تفعل هكذا في كل يوم مما بعد الثلاثة .
وإن أضلت أربعة في عشرة فإنها تصلي أربعة من أول العشرة بالوضوء , ثم بالاغتسال إلى آخر العشرة , وكذلك الخمسة إن أضلتها في ضعفها فتصلي خمسة من أول العشرة بالوضوء والباقي بالغسل .
وما سبق من الأمثلة في إضلال العدد في الضعف أو أكثر , وأمثلة إضلال العدد في أقل من ضعفه فكما لو أضلت ستة في عشرة , فإنها تتيقن بالحيض في الخامس والسادس , فتدع الصلاة فيهما , لأنهما آخر الحيض أو أوله أو وسطه , وتفعل في الباقي مثل ما تفعل في إضلال العدد في الضعف أو أكثر , فتصلي أربعة من أول العشرة بالوضوء , ثم أربعة من آخرها بالغسل لتوهم خروجها من الحيض في كل ساعة منها , وإن أضلت سبعة في العشرة فإنها تتيقن في أربعة بعد الثلاثة الأول بالحيض , فتصلي ثلاثة من أول العشرة بالوضوء , ثم تترك أربعة , ثم تصلي ثلاثة بالغسل , وفي إضلال الثمانية في العشرة تتيقن بالحيض في ستة بعد اليومين الأولين , فتدع الصلاة فيها , وتصلي يومين قبلها بالوضوء , ويومين بعدها بالغسل , وفي إضلال التسعة في عشرة تتيقن بثمانية بعد الأول أنها حيض , فتصلي أول العشرة بالوضوء وتترك ثمانية , وتصلي آخر العشرة بالغسل , ولا يتصور إضلال العشرة في مثلها .
الإضلال العام :
النّاسية للعدد والمكان :
9 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ النّاسية للعدد والمكان عليها الأخذ وجوباً بالأحوط في الأحكام , لاحتمال كلّ زمانٍ يمر عليها للحيض والطهر والانقطاع , ولا يمكن جعلها حائضاً دائماً لقيام الإجماع على بطلانه , ولا طاهراً دائماً لقيام الدّم , ولا التّبعيض لأنّه تحكم , فتعيّن الاحتياط للضّرورة لا لقصد التّشديد عليها . وستأتي كيفيّة الاحتياط في الأحكام بالتّفصيل .
وذهب الحنابلة إلى أنّ النّاسية للعدد والمكان تجلس غالب الحيض من أوّل كلّ شهرٍ هلاليٍّ , فإن عرفت ابتداء الدّم بأن علمت أنّ الدّم كان يأتيها في أوّل العشرة الأوسط من الشّهر , وأوّل النّصف الأخير منه ونحوه , فهو أوّل دورها فتجلس منه سواء كانت ناسيةً للعدد فقط , أو للعدد والموضع وقد صرّح الحنابلة بأنّ ما تجلسه النّاسية للعدد , أو الموضع أو هما من حيضٍ مشكوكٍ فيه كحيض يقيناً فيما يوجبه ويمنعه , وكذا الطهر مع الشّكّ فيه كطهر يقيناً , وما زاد على ما تجلسه إلى أكثر الحيض كطهر متيقّنٍ .
وغير زمن الحيض وما زاد عليه إلى أكثر الحيض استحاضة .
وإذا ذكرت المستحاضة النّاسية لعادتها رجعت إليها وقضت الواجب زمن العادة المنسيّة , وقضت الواجب أيضاً زمن جلوسها في غيرها .
كيفيّة الاحتياط في الأحكام عند من يقول به :
أ - الاحتياط في الطّهارة والصّلاة :
10 - نصّ الحنفيّة والشّافعيّة على أنّ المتحيّرة تصلّي الفرائض أبداً وجوباً لاحتمال طهرها , ولها فعل النّفل مطلقاً : صلاته وطوافه وصيامه في الأصحّ عند الشّافعيّة , قالوا : لأنّه من مهمّات الدّين فلا وجه لحرمانها منه وكذا لها فعل الواجب والسنن المؤكّدة عند الحنفيّة , قال ابن عابدين : وإنّما لا تترك السنن المؤكّدة ومثلها الواجب بالأولى لكونها شرعت جبراً لنقصان تمكّن في الفرائض , فيكون حكمها حكم الفرائض .
ومذهب الشّافعيّة أنّها تغتسل وجوباً لكلّ فرضٍ إن جهلت وقت انقطاع الدّم ولم يكن دمها متقطّعاً , ويكون الغسل بعد دخول الوقت لاحتمال الانقطاع حينئذٍ , وإنّما تفعله بعد دخول وقته لأنّها طهارة ضروريّة كالتّيمم , فإن علمت وقت الانقطاع كعند الغروب لم يلزمها الغسل في كلّ يومٍ وليلةٍ إلا عقب الغروب , وذات التّقطع لا يلزمها الغسل زمن النّقاء لأنّ الغسل سببه الانقطاع والدّم منقطع , ولا يلزمها المبادرة للصّلاة إذا اغتسلت على الأصحّ لكن لو أخّرت لزمها الوضوء .
وذهب الحنفيّة إلى أنّها تتوضّأ لكلّ صلاةٍ كلّما تردّدت بين الطهر ودخول الحيض , وتغتسل لكلّ صلاةٍ إن تردّدت بين الطهر والخروج من الحيض , ففي الأوّل يكون طهرها بالوضوء , وفي الثّاني بالغسل .
مثال ذلك : امرأة تذكر أنّ حيضها في كلّ شهرٍ مرّة , وانقطاعه في النّصف الأخير , ولا تذكر غير هذين , فإنّها في النّصف الأوّل تتردّد بين الدخول والطهر فيكون طهرها بالوضوء , وفي النّصف الأخير تتردّد بين الطهر والخروج فيكون طهرها بالغسل , وأمّا إذا لم تذكر شيئاً أصلاً فهي متردّدة في كلّ زمنٍ بين الطهر والدخول فحكمها حكم التّردد بين الطهر والخروج بلا فرقٍ , ثمّ إنّها إذا اغتسلت في وقت صلاةٍ وصلّت , ثمّ اغتسلت في وقت الأخرى أعادت الأولى قبل الوقتيّة , وهكذا تصنع في وقت كلّ صلاةٍ احتياطاً , لاحتمال حيضها في وقت الأولى وطهرها قبل خروجه , فيلزمها القضاء احتياطاً , وهذا قول أبي سهلٍ واختاره البركوي .(/3)
وذهب المالكيّة إلى أنّ المبتدأة الّتي استمرّ بها الدّم إن كانت استوفت تمام حيضها بنصف شهرٍ أو بالاستظهار فذلك الدّم استحاضة وإلا ضمّته للأوّل حتّى يحصل تمامه بالخمسة عشر يوماً أو بالاستظهار , وما زاد فاستحاضة .
وأمّا المعتادة الّتي استمرّ بها الدّم فإنّها تزيد ثلاثة أيّامٍ على أكثر عادتها استظهاراً , ومحل الاستظهار بالثّلاثة ما لم تجاوز نصف الشّهر , ثمّ بعد أن مكثت المبتدأة نصف شهرٍ , وبعد أن استظهرت المعتادة بثلاثة أو بما يكمل نصف شهرٍ , تصير إن تمادى بها الدّم مستحاضةً , ويسمّى الدّم النّازل بها دم استحاضةٍ ودم علّةٍ وفسادٍ , وهي في الحقيقة طاهر تصوم وتصلّي وتوطأ .
وإذا ميّزت المستحاضة الدّم بتغير رائحةٍ أو لونٍ أو رقّةٍ أو ثخنٍ أو نحو ذلك بعد تمام طهرٍ فذلك الدّم المميّز حيض لا استحاضة , فإن استمرّ بصفة التّميز استظهرت بثلاثة أيّامٍ ما لم تجاوز نصف شهرٍ , ثمّ هي مستحاضة , وإلا - بأن لم يدم بصفة التّميز بأن رجع لأصله - مكثت عادتها فقط ولا استظهار .
ب - الاحتياط في صوم رمضان وقضائه :
11 - اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة في المشهور عندهم على أنّ المتحيّرة تصوم رمضان كاملاً وجوباً , لاحتمال طهارتها في كلّ يومٍ .
وقد أجاز الشّافعيّة لها صيام التّطوع خلافاً للحنفيّة حيث منعوها منه .
واختلفوا في كيفيّة قضاء رمضان بناءً على اختلافهم في أكثر الحيض :
فذهب الشّافعيّة إلى أنّها تصوم بعد رمضان شهراً آخر كاملاً ثلاثين يوماً متواليةً , فيحصل لها من كلٍّ منهما أربعة عشر يوماً , وهذا إذا كان رمضان كاملاً , فإن كان ناقصاً فإنّه يحصل لها منه ثلاثة عشر يوماً فيبقى لها يومان سواء كان رمضان كاملاً أو ناقصاً , وذلك إن لم تعتد الانقطاع ليلاً كأن اعتادته نهاراً , أو شكّت لاحتمال أن تحيض فيهما أكثر الحيض , ويطرأ الدّم في يومٍ وينقطع في يومٍ آخر , فيفسد ستّة عشر يوماً من كلٍّ من الشّهرين , بخلاف ما إذا اعتادت الانقطاع ليلاً فإنّه لا يبقى عليها شيء .
وإذا بقي عليها يومان فأكثر أو أقل فلها في قضائه طريقان :
إحداهما : طريقة الجمهور : وتجرى في أربعة عشر يوماً فما دونها , وذلك أن تضعّف ما عليها وتزيد عليه يومين , وتقسم الجميع نصفين فتصوم نصفه في أوّل الشّهر , ونصفه في أوّل النّصف الآخر , والمقصود بالشّهر هنا ثلاثون يوماً متى شاءت ابتدأت , وعلى هذا إذا أرادت صوم يومين فإنّها تصوم من ثمانية عشر يوماً ثلاثةً أوّلها وثلاثةً من آخرها فيحصل اليومان لأنّ غاية ما يفسده الحيض ستّة عشر يوماً فيحصل لها يومان على كلّ تقديرٍ , لأنّ الحيض إن طرأ في أثناء اليوم الأوّل من صومها انقطع في أثناء السّادس عشر فيحصل اليومان بعده , أو في اليوم الثّاني انقطع في السّابع عشر فيحصل الأوّل والأخير أو في اليوم الثّالث فيحصل اليومان الأوّلان , أو في اليوم السّادس عشر انقطع اليوم الأوّل فيحصل لها الثّاني والثّالث , أو في السّابع عشر انقطع في الثّاني فيحصل لها السّادس عشر والثّالث , أو في الثّامن عشر انقطع في الثّالث فيحصل لها السّادس عشر والسّابع عشر .
والطّريقة الثّانية : طريقة الدّارميّ ، واستحسنها النّووي في المجموع , وتجرى في سبعة أيّامٍ فما دونها , أن تصوم بقدر ما عليها بزيادة يومٍ متفرّقٍ بأيّ وجهٍ شاءت في خمسة عشر , ثمّ تعيد الصّوم كلّ يومٍ غير الزّيادة يوم سابع عشر , ولها تأخيره إلى خامس عشر ثانيةً , فيمكن قضاء يومٍ بصوم يومٍ , ثمّ الثّالث من الأوّل , والسّابع عشر منه , لأنّها قد صامت بقدر ما عليها أوّلاً بزيادة يومٍ متفرّقاً في خمسة عشر يوماً , وبقدر ما عليها في سابع عشر فيقع لها في يومٍ من الأيّام الثّلاث في الطهر على كلّ تقديرٍ .
وهذا في غير الصّوم المتتابع , أمّا المتتابع بنذر أو غيره : فإن كان سبعةً فما دونها صامته ولاءً تصوم ثلاث مرّاتٍ , الثّالثة منها في سابع عشر شروعها في الصّوم بشرط أن تفرّق بين كلّ مرّتين من الثّلاث بيوم فأكثر حيث يتأتّى الأكثر , وذلك فيما دون السّبع فلقضاء يومين ولاءً تصوم يوماً وثانيه , ولسابع عشرة وثامن عشرة ويومين بينهما ولاءً غير متّصلين بشيء من الصّومين فتبرأ , لأنّ الحيض إن فقد في الأوّلين صحّ صومهما , وإن وجد فيهما صحّ الأخيران إذ لم يفد فيهما , وإلا فالمتوسطان , وإن وجد في الأوّل دون الثّاني صحّا - أيضاً - أو بالعكس .
فإن انقطع قبل السّابع عشر صحّ مع ما بعده , وإن انقطع فيه صحّ الأوّل والثّامن عشر , وتخلل الحيض لا يقطع الولاء , وإن كان الصّوم الّذي تخلّله قدراً يسع وقت الطهر لضرورة تحير المستحاضة , فإن كان المتتابع أربعة عشر فما دونها صامت له ستّة عشر ولاءً , ثمّ تصوم قدر المتتابع أيضاً ولاءً بين أفراده وبينها وبين السّتّة عشر , فلقضاء ثمانيةٍ متتابعةٍ تصوم أربعةً وعشرين ولاءً فتبرأ إذ الغاية بطلان ستّة عشر , فيبقى لها ثمانية من الأوّل أو من الآخر أو منهما أو من الوسط , ولقضاء أربعة عشر تصوم ثلاثين , وإن كان ما عليها شهران متتابعان صامت مائةً وأربعين يوماً ولاءً فتبرأ , إذ يحصل من كلّ ثلاثين أربعة عشر يوماً فيحصل من مائةٍ وعشرين ستّة وخمسون , ومن عشرين الأربعة الباقية .
وإنّما وجب الولاء لأنّها لو فرّقت احتمل وقوع الفطر في الطهر فيقطع الولاء .(/4)
وذهب الحنفيّة إلى أنّ المتحيّرة لا تفطر في رمضان أصلاً , لاحتمال طهارتها كلّ يومٍ ثمّ إنّ لها حالاتٍ , لأنّها إمّا أن تعلم أنّ حيضها في كلّ شهرٍ مرّةً أو لا , وعلى كلٍّ إمّا أن تعلم أنّ ابتداء حيضها باللّيل أو بالنّهار , أو لا تعلم , وعلى كلٍّ إمّا أن يكون الشّهر كاملاً أو ناقصاً , وعلى كلٍّ إمّا أن تقضي موصولاً أو مفصولاً .
فإن لم تعلم أنّ دورتها في كلّ شهرٍ مرّة وأنّ ابتداء حيضها باللّيل أو النّهار , أو علمت أنّه بالنّهار وكان شهر رمضان ثلاثين يجب عليها قضاء اثنين وثلاثين إن قضت موصولاً برمضان , وثمانيةٍ وثلاثين إن قضت مفصولاً , لأنّها إذا علمت أنّ ابتداءه بالنّهار يكون تمام حيضها في الحادي عشر وإذا لم تعلم أنّه باللّيل أو النّهار يحمل على أنّه بالنّهار أيضاً لأنّه الأحوط , وحينئذٍ فأكثر ما فسد من صومها في الشّهر ستّة عشر ، إمّا أحد عشر من أوّله وخمسة من آخره أو بالعكس , فعليها قضاء ضعفها وذلك على احتمال أن تحيض في رمضان مرّتين , وأمّا على احتمال أن تحيض مرّةً واحدةً فإنّه يقع لها فيه طهر كامل وبعض طهرٍ , وذلك بأن تحيض في أثناء الشّهر , وحينئذٍ فيصح لها صوم أكثر من أربعة عشر فتعامل بالأضرّ احتياطاً فتقضي ستّة عشر , لكن لا تتيقّن بصحّتها كلّها إلا بقضاء اثنين وثلاثين , والمراد بالموصول أن تبتدئ من ثاني شوّالٍ لأنّ صوم يوم العيد لا يجوز , وبيان ذلك أنّه إذا كان رمضان ابتداء حيضها , فيوم الفطر هو السّادس من حيضها الثّاني فلا تصومه , ثمّ لا يجزيها صوم خمسةٍ بقيّة حيضها ثمّ يجزيها في أربعة عشر , ثمّ لا يجزيها في أحد عشر , ثمّ يجزيها في يومين , وجملة ذلك اثنان وثلاثون , وإنّما كان قضاء ثمانيةٍ وثلاثين في المفصول لاحتمال أنّ ابتداء القضاء وافق أوّل يومٍ من حيضها فلا يجزيها الصّوم في أحد عشر , ثمّ يجزي في أربعة عشر , ثمّ لا يجزي في أحد عشر , ثمّ يجزي في يومين , فالجملة ثمانية وثلاثون يجب عليها صومها لتتيقّن بجواز ستّة عشر منها .
قال ابن عابدين في شرح رسالة البركويّ : إنّه لا يلزم قضاء ثمانيةٍ وثلاثين إلا إذا فرضنا فساد ستّة عشر من رمضان مع فرض مصادفة أوّل القضاء لأوّل الحيض حتّى لو لم يمكن اجتماع الفرضين لا يلزم قضاء ثمانيةٍ وثلاثين بل أقل , وكأنّهم أرادوا طرد بعض الفصل بالتّسوية تيسيراً على المفتي والمستفتي بإسقاط مؤنة الحساب , فمتى قاست مؤنته فلها العمل بالحقيقة .
وإن كانت المسألة السّابقة بحالها وكان شهر رمضان تسعةً وعشرين فإنّها تقضي في الوصل اثنين وثلاثين , وفي الفصل سبعةً وثلاثين , وإنّما تقضي في الوصل اثنين وثلاثين لأنّا تيقّنّا بجواز الصّوم في أربعة عشر وبفساده في خمسة عشر فيلزمها قضاء خمسة عشر , ثمّ لا يجزيها الصّوم في سبعةٍ من أوّل شوّالٍ لأنّها بقيّة حيضها على تقدير حيضها بأحد عشر , ثمّ يجزيها في أربعة عشر ولا يجزيها في أحد عشر ثمّ يجزيها في يومٍ .
وكان قضاؤها في الفصل سبعةً وثلاثين لجواز أن يوافق صومها ابتداء حيضها فلا يجزيها في أحد عشر ثمّ يجزيها في أربعة عشر ثمّ لا يجزيها في أحد عشر ثمّ يجزيها في يومٍ , وقول ابن عابدين السّابق يجري هنا أيضاً .
وإن علمت أنّ ابتداء حيضها باللّيل وشهر رمضان ثلاثون فتقضي في الوصل والفصل خمسةً وعشرين , وإن كان تسعةً وعشرين تقضي في الوصل عشرين وفي الفصل أربعةً وعشرين , وإنّما كان قضاؤها خمسةً وعشرين في الوصل والفصل , أمّا في الوصل فلاحتمال أنّ حيضها خمسةً من أوّل رمضان بقيّة الحيض , ثمّ طهرها خمسة عشر , ثمّ حيضها عشرة , فالفاسد خمسة عشر , فإذا قضتها موصولةً فيوم العيد أوّل طهرها ولا تصومه , ثمّ يجزيها الصّوم في أربعة عشر ثمّ لا يجزي في عشرةٍ ثمّ يجزي في يومٍ والجملة خمسة وعشرون , وإن فرض أنّ حيضها عشرة من أوّل رمضان وخمسة من آخره تصوم أربعةً من أوّل شوّالٍ بعد يوم الفطر لا تجزيها لأنّها بقيّة حيضها , ثمّ خمسة عشر تجزيها , والجملة تسعة عشر , والاحتمال الأوّل أحوط فيلزمها خمسة وعشرون , وأمّا في الفصل فلاحتمال أنّ ابتداء القضاء وافق أوّل يومٍ من حيضها فلا يجزيها الصّوم في عشرةٍ ثمّ يجزي في خمسة عشر , ثمّ إنّها تقضي في الوصل عشرين إن كان رمضان تسعةً وعشرين , لأنّها يحتمل أن تحيض خمسةً من أوّل رمضان وتسعةً من آخره , أو عشرةً من أوّله وأربعةً من آخره , فالفاسد فيهما أربعة عشر ويحتمل أن تحيض في أثنائه كأن حاضت ليلة السّادس وطهرت ليلة السّادس عشر والفاسد فيه عشرة , فعلى الأوّل يكون أوّل القضاء وهو ثاني شوّالٍ أوّل طهرها فتصوم أربعة عشر وتجزيها , وعلى الثّاني يكون ثاني شوّالٍ سادس يومٍ من حيضها فتصوم خمسةً لا تجزيها , ثمّ أربعة عشر فتجزيها , والجملة تسعة عشر , وعلى الثّالث يكون أوّل القضاء أوّل الحيض فتصوم عشرةً لا تجزي ثمّ عشرةً من الطهر فتجزيها عن العشرة الّتي عليها والجملة عشرون , فعلى الأوّل يجزيها قضاء أربعة عشر , وعلى الثّاني تسعة عشر , وعلى الثّالث عشرين فتلزمها احتياطاً , كما أنّها تقضي في الفصل أربعةً وعشرين لاحتمال أنّ الفاسد أربعة عشر وأنّ القضاء وافق أوّل يومٍ من حيضها فتصوم عشرةً لا تجزي ثمّ أربعة عشر تجزي والجملة أربعة وعشرون .(/5)
وإن علمت أنّ حيضها في كلّ شهرٍ مرّة وعلمت أنّ ابتداءه بالنّهار أو لم تعلم أنّه بالنّهار فإنّها تقضي اثنين وعشرين مطلقاً بالوصل والفصل , لأنّه إذا كان بالنّهار يفسد من صومها أحد عشر , فإذا قضت مطلقاً احتمل أن يوافق أوّل القضاء أوّل الحيض فتصوم أحد عشر لا تجزئ ثمّ أحد عشر تجزئ , والجملة اثنان وعشرون تخرج بها عن العهدة بيقين .
وإن علمت أنّ ابتداءه باللّيل تقضي عشرين مطلقاً , لأنّ الفاسد من صومها عشرة فتقضي ضعفها لاحتمال موافقة القضاء أو الحيض , وصلت أو فصلت , هذا كله إن لم تعلم المرأة عدد أيّامها في الحيض والطهر ، أمّا إن علمت أنّ حيضها في كلّ شهرٍ تسعة وطهرها بقيّة الشّهر , وعلمت أنّ ابتداءه باللّيل , فإنّها تقضي ثمانية عشر مطلقاً وصلت أو فصلت , وإن لم تعلم ابتداءه أو علمت أنّه بالنّهار فإنّها تقضي عشرين مطلقاً , لأنّ أكثر ما فسد من صومها في الوجه الأوّل تسعة وفي الثّاني عشرة , فتقضي ضعف ذلك , لاحتمال اعتراض الحيض في أوّل يومٍ من القضاء .
وإن علمت أنّ حيضها ثلاثة أيّامٍ ونسيت طهرها فإنّه يحمل طهرها على الأقلّ خمسة عشر يوماً , ثمّ إن كان رمضان تاماً وعلمت ابتداء حيضها باللّيل فإنّها تقضي تسعةً مطلقاً , وصلت أو فصلت , لأنّه يحتمل أنّها حاضت في أوّل رمضان ثلاثةً ثمّ طهرت خمسة عشر , ثمّ حاضت ثلاثةً ثمّ طهرت خمسة عشر , فقد فسد من صومها ستّة , فإذا وصلت القضاء جاز لها بعد الفطر خمسة ثمّ تحيض ثلاثةً فتفسد , ثمّ تصوم يوماً فتصير تسعةً , وإذا فصلت احتمل اعتراض الحيض في أوّل يوم القضاء , فيفسد صومها في ثلاثةٍ ثمّ يجوز في ستّةٍ فتصير تسعةً , وأمّا إذا كان رمضان ناقصاً فإذا وصلت جاز لها بعد الفطر ستّة تكفيها , وأمّا إذا فصلت فتقضي تسعةً كما في التّمام .
وإن لم تعلم ابتداءه , أو علمت أنّه بالنّهار فإنّها تقضي اثني عشر مطلقاً , لأنّه يحتمل أنّها حاضت في أوّل رمضان فيفسد صومها في أربعةٍ ثمّ يجوز في أربعة عشر ثمّ يفسد في أربعةٍ فقد فسد ثمانيةً , فإذا قضت موصولاً جاز بعد يوم الفطر خمسة تكملة طهرها الثّاني , ثمّ يفسد أربعة ثمّ يجوز ثلاثة تمام الاثني عشر , وإذا فصلت احتمل عروض الحيض في أوّل القضاء , فيفسد في أربعةٍ ثمّ يجوز في ثمانيةٍ والجملة اثنا عشر , وأمّا إذا كان رمضان ناقصاً فإذا وصلت جاز بعد يوم الفطر ستّة تكملة طهرها الثّاني , ثمّ يفسد أربعة , ثمّ يجوز يومان تمام الاثني عشر وإذا فصلت احتمل عروض الحيض في أوّل القضاء فيفسد في أربعةٍ ثمّ يجوز في ثمانيةٍ فالجملة اثنا عشر .
وأمّا مذهب المالكيّة في الموضوع فقد سبق تفصيله عند الكلام عن الاحتياط في الطّهارة والصّلاة .
وقال الحنابلة : النّاسية لوقتها وعددها تجلس في كلّ شهرٍ ستّة أيّامٍ أو سبعةً يكون ذلك حيضها ثمّ تغتسل وهي فيما بعد ذلك مستحاضة تصوم وتصلّي وتطوف ,
وعن أحمد أنّها تجلس أقلّ الحيض .
ثمّ إنّ كانت تعرف شهرها وهو مخالف للشّهر المعروف جلست ذلك من شهرها , وإن لم تعرف شهرها جلست من الشّهر المعروف لأنّه الغالب .
ج - الاحتياط في قراءة القرآن ومسّ المصحف :
12 - اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة في المشهور إلى أنّ المتحيّرة يحرم عليها قراءة القرآن في غير الصّلاة لاحتمال الحيض , وأمّا في الصّلاة فأجاز الشّافعيّة لها أن تقرأ القرآن مطلقاً فاتحةً أو غيرها .
ومذهب الحنفيّة على الصّحيح أنّها تقرأ الفاتحة وسورةً قصيرةً في كلّ ركعةٍ من الفرائض والسنن إلا الأخيرة أو الأخيرتين من الفرض , فلا تقرأ في شيءٍ من ذلك السورة بل تقرأ الفاتحة فقط لوجوبها , كما صرّحوا بجواز قراءتها للقنوت , قال ابن عابدين : وهو ظاهر المذهب وعليه الفتوى للإجماع القطعيّ على أنّه ليس بقرآن , وكذا تقرأ سائر الدّعوات والأذكار .
ومقابل المشهور عند الشّافعيّة أنّها تباح لها القراءة مطلقاً خوف النّسيان بخلاف الجنب لقصر زمن الجنابة .
وقيل : تحرم الزّيادة على الفاتحة في الصّلاة كالجنب الفاقد للطّهورين .
كما اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة في المشهور إلى حرمة مسّها للمصحف , وزاد الشّافعيّة حمله بطريق الأولى .
وقال ابن جزيٍّ من المالكيّة : لا تمنع الاستحاضة شيئاً ممّا يمنع منه الحيض .
د - الاحتياط في دخول المسجد والطّواف :
13 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ المتحيّرة لا يجوز لها أن تدخل المسجد .
وأجاز الشّافعيّة لها أن تدخل المسجد وتصلّي فيه لكن يحرم عليها أن تمكث فيه , قال في المهمّات : وهو متّجه إن كان لغرض دنيويٍّ أو لا لغرض , ومحل ذلك إن أمنت التّلويث . وأمّا الطّواف فذهب الحنفيّة إلى أنّها لا تطوف إلا للزّيارة والوداع , أمّا الزّيارة فلأنّه ركن الحجّ فلا يترك لاحتمال الحيض , وأمّا الوداع فلأنّه واجب على غير المكّيّ , ثمّ إنّها تعيد طواف الزّيارة دون الوداع بعد عشرة أيّامٍ ليقع أحدهما في طهرٍ بيقين .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ لها أن تطوف مطلقاً فرضاً أو نفلاً وكيفيّة طوافها أن تفعله ثلاث مرّاتٍ بشرط الإمهال كما في الصّوم , فإذا أرادت طوافاً واحداً أو عدداً اغتسلت وطافت ثلاث مرّاتٍ وصلّت ركعتين ثمّ تمهل قدراً يسع مثل طوافها وغسله وركعتيه ثمّ تفعل ذلك ثانيةً , ثمّ تمهل حتّى يمضي تمام خمسة عشر يوماً من أوّل اشتغالها بغسل الطّواف الأوّل , وتمهل بعد الخمسة عشر لحظة تسع الغسل والطّواف وركعتيه ويكون قدر الإمهال الأوّل , ثمّ تغتسل وتطوف وتصلّي ركعتيه مرّةً ثالثةً , والغسل واجب في كلّ مرّةٍ للطّواف .(/6)
وأمّا الرّكعتان فإن قلنا هما سنّة كفى لها غسل الطّواف وإن قلنا واجبتان فثلاثة أوجهٍ : الصّحيح المشهور وبه قطع الجمهور : يجب للصّلاة وضوء لا تجديد غسلٍ .
والثّاني : لا يجب تجديد غسلٍ ولا وضوء لأنّها تابعة للطّواف كجزء منه وبهذا قطع المتولّي .
والثّالث : يجب تجديد الغسل حكاه أبو عليٍّ السّنجي .
هـ - الاحتياط في الوطء والعدّة :
14 - اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة على أنّه لا يجوز وطء المتحيّرة لاحتمال الحيض , وعند الشّافعيّة قول ضعيف بأنّه يجوز ذلك , لأنّ الاستحاضة علّة مزمنة والتّحريم دائماً موقع في الفساد .
وهذا هو مذهب الحنابلة , إذ أنّهم يرون على المذهب أنّ المستحاضة لا يباح وطؤها حتّى ولو لم تكن متحيّرةً إلا أن يخاف الزّوج على نفسه , لأنّ بها أذىً فيحرم وطؤها كالحائض , فإنّ اللّه تعالى منع وطء الحائض معلّلاً بالأذى بقوله : { قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ } أمر باعتزالهنّ عقيب الأذى مذكوراً بفاء التّعقيب , ولأنّ الحكم إذا ذكر مع وصفٍ يقتضيه ويصلح له علّل به , والأذى يصلح أن يكون علّةً فيعلّل به , وهو موجود في المستحاضة فيثبت التّحريم في حقّها .
نفقة المتحيّرة :
15 - قال الشّافعيّة : يجب على الزّوج نفقة زوجته المتحيّرة , وممّن نصّ عليه الغزالي في الخلاصة .
وهذا ما يؤخذ من عبارات الحنفيّة والحنابلة , فقد نصّ الحنفيّة على أنّ المعتبر في إيجاب النّفقة احتباس ينتفع به الزّوج بالوطء أو بدواعيه , والثّاني موجود في المتحيّرة , ومن هذا المنطلق فإنّهم أوجبوا نفقة الرّتقاء والقرناء .
وقال ابن قدامة : إن بذلت الرّتقاء أو الحائض أو النفساء أو النّضوة الخلق الّتي لا يمكن وطؤها أو المريضة تسليم نفسها لزمته نفقتها , وإن حدث بها شيء من ذلك لم تسقط نفقتها لأنّ الاستمتاع ممكن ولا تفريط من جهتها .
والمالكيّة تخرج المتحيّرة عندهم من تحيرها باستيفاء تمام حيضها بنصف شهرٍ أو بالاستظهار ثمّ هي مستحاضة وهي في الحقيقة طاهر تصوم وتصلّي وتوطأ فتجب لها النّفقة لأنّ شروط وجوب النّفقة عند المالكيّة هي : السّلامة من الإشراف على الموت , وبلوغ الزّوج , وإطاقة الزّوجة للوطء ، والمستحاضة صالحة للوطء .
عدّة المتحيّرة :
16 - ذهب الشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة على الصّحيح من المذهب والحنفيّة في قولٍ وعكرمة وقتادة وأبو عبيدٍ إلى أنّ المتحيّرة تعتد بثلاثة أشهرٍ لاشتمال كلّ شهرٍ على طهرٍ وحيضٍ غالباً , ولعظم مشقّة الانتظار إلى سنّ اليأس , ولأنّها في هذه الحالة مرتابة , فدخلت في قوله تعالى : { إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَََلاثَةُ } , ولأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أمر حمنة بنت جحشٍ رضي الله عنها أن تجلس في كلّ شهرٍ ستّة أيّامٍ أو سبعةً فجعل لها حيضةً في كلّ شهرٍ تترك فيها الصّلاة والصّيام ويثبت فيها سائر أحكام الحيض فيجب أن تنقضي به العدّة , لأنّ ذلك من أحكام الحيض .
وصرّح الشّافعيّة بأنّه إن بقي من الشّهر الّذي طلقت فيه أكثر من خمسة عشر يوماً عدّت البقيّة قرءاً لاشتمالها على طهرٍ لا محالة , وتعتد بعده بهلالين , فإن بقي خمسة عشر يوماً فأقل لم تحتسب تلك البقيّة لاحتمال أنّها حيض فتبتدئُ العدّة من الهلال ، لأنّ الأشهر ليست متأصّلةً في حقّ المتحيّرة , وإنّما حسب كل شهرٍ في حقّها قرءاً لاشتماله على حيضٍ وطهرٍ غالباً بخلاف من لم تحض والآيسة حيث يكملان المنكسر .
وقال الشّافعيّة : إنّ هذا في شأن المتحيّرة الّتي لم تحفظ قدر دورتها , أمّا إذا حفظت قدر الأدوار فإنّها تعتد بثلاثة منها , سواء أكانت أكثر من ثلاثة أشهرٍ أم أقلّ لاشتمالها على ثلاثة أطهارٍ , وكذا لو شكّت في قدر أدوارها ولكنّها قالت : أعلم أنّها لا تجاوز سنةً مثلاً : أخذت بالأكثر وتجعل السّنة دورها , ذكره الدّارمي ووافقه النّووي .
وقيل : تعتد المتحيّرة بما ذكر بعد اليأس لأنّها قبله متوقّعة للحيض المستقيم . وأضافوا : إنّ محلّ الخلاف المذكور في المتحيّرة بالنّسبة لتحريم نكاحها , أمّا الرّجعة وحق السكنى , فإلى ثلاثة أشهرٍ فقط قطعاً .
وقال ابن الهمام : اعلم أنّ إطلاقهم في الانقضاء بثلاثة أشهرٍ في المستحاضة النّاسية لعادتها لا يصح إلا فيما إذا طلّقها أوّل الشّهر , أمّا لو طلّقها بعدما مضى من الشّهر قدر ما يصح حيضةً ينبغي أن يعتبر ثلاثة أشهرٍ غير باقي هذا الشّهر والوجه ظاهر .
وذهب المالكيّة والحنابلة في قولٍ وإسحاق إلى أنّ المتحيّرة تعتد سنةً بمنزلة من رفعت حيضتها لا تدري ما رفعها , قال أحمد : إذا كانت قد اختلطت ولم تعلم إقبال الدّم وإدباره اعتدّت لما ورد عن عمر أنّه قال في رجلٍ طلّق امرأته فحاضت حيضةً أو حيضتين فارتفع حيضها لا تدري ما رفعه ؟ تجلس تسعة أشهرٍ , فإذا لم يستبن بها حمل تعتد بثلاثة أشهرٍ فذلك سنة .
وصرّح المالكيّة بأنّ المتحيّرة تعتد بتسعة أشهرٍ استبراءً لزوال الرّيبة لأنّها مدّة الحمل غالباً ثمّ تعتد بثلاثة أشهرٍ , وتحل بعد السّنة , حرّةً كانت أم أمةً , وقيل : إنّ السّنة كلّها عدّة , قال الدسوقي : والصّواب أنّ الخلاف لفظي .
والمفتى به عند الحنفيّة أنّ المتحيّرة تنقضي عدّتها بسبعة أشهرٍ , قال ابن عابدين : وأمّا ممتدّة الحيض أي ممتدّة الدّم أو المستحاضة , والمراد بها المتحيّرة الّتي نسيت عادتها , فالمفتى به كما في فتح القدير تقدير طهرها بشهرين فستّة أشهرٍ للأطهار , وثلاث حيضٍ بشهر احتياطاً قال ابن عابدين حاصله : أنّ المتحيّرة تنقضي عدّتها بسبعة أشهرٍ .(/7)
ويرى الميداني من الحنفيّة - وعليه الأكثر - أنّ المتحيّرة يقدّر حيضها بعشرة وطهرها بستّة أشهرٍ إلا ساعةً فتنقضي عدّتها بتسعة عشر شهراً وعشرة أيّامٍ غير أربع ساعاتٍ , لاحتمال أنّ الطّلاق كان بعد ساعةٍ من حيضها فلا تحسب هذه الحيضة وذلك عشرة أيّامٍ إلا ساعةً , ثمّ يحتاج إلى ثلاثة أطهارٍ وثلاث حيضٍ .
وقال في عمد الأدلّة : المستحاضة النّاسية لوقت حيضها تعتد بستّة أشهرٍ .
وقال ابن قدامة : ينبغي أن يقال : إنّنا متى حكمنا بأنّ حيضها سبعة أيّامٍ من كلّ شهرٍ فمضى لها شهران بالهلال وسبعة أيّامٍ من أوّل الثّالث فقد انقضت عدّتها , وإن قلنا القروء الأطهار فطلّقها في آخر شهرٍ ثمّ مرّ لها شهران وهلّ الثّالث انقضت عدّتها .
ثانياً : المتحيّرة في النّفاس :
17 - يجب على كلّ امرأةٍ حفظ عادتها في الحيض والنّفاس عدداً ومكاناً فإن أضلّت عادتها في النّفاس ولم يجاوز الدّم أربعين , فيرى الحنفيّة أنّ كلّه نفاس كيف كانت عادتها وتترك الصّلاة والصّوم , فلا تقضي شيئاً من الصّلاة بعد الأربعين .
فإن جاوز الأربعين تتحرّى , فإن لم يغلب ظنها على شيءٍ من الأربعين أنّه كان عادةً لها قضت صلاة الأربعين لجواز أنّ نفاسها كان ساعةً , ولأنّها لم تعلم كم عادتها حتّى تردّ إليها عند المجاوزة على الأكثر , فإن قضتها في حال استمرار الدّم تعيد بعد عشرة أيّامٍ لاحتمال حصول القضاء أوّل مرّةٍ في حالة الحيض , والاحتياط في العبادات واجب .
قال ابن عابدين : لم أر من ذكر حكم صومها إذا أضلّت عادتها في النّفاس والحيض معاً , وتخريجه على ما مرّ أنّها إذا ولدت أوّل ليلةٍ من رمضان وكان الشّهر كاملاً , وعلمت أنّ حيضها يكون باللّيل أيضاً تصوم رمضان لاحتمال أنّ نفاسها ساعة , ثمّ إذا قضت موصولاً تقضي تسعةً وأربعين لأنّها تفطر يوم العيد ثمّ تصوم تسعةً يحتمل أنّها تمام نفاسها فلا تجزيها ثمّ خمسة عشر وهي طهر فتجزي , ثمّ عشرةً تحتمل الحيض فلا تجزي , ثمّ خمسة عشر هي طهر فتجزي , والجملة تسعة وأربعون صحّ منها ثلاثون .
ولو ولدت نهاراً وعلمت أنّ حيضها بالنّهار أو لم تعلم تقضي اثنين وستّين لأنّها تفطر يوم العيد , ثمّ تصوم عشرةً لا تجزئ لاحتمال أنّها آخر نفاسها ثمّ تصوم خمسةً وعشرين يوماً يجزيها منها أربعة عشر ولا تجزي أحد عشر , ثمّ تصوم خمسةً وعشرين كذلك فقد صحّ لها في الطهرين ثمانية وعشرون , ثمّ تصوم يومين تمام الثّلاثين , والجملة اثنان وستون . وعلى هذا يستخرج حكم ما إذا قضته مفصولاً وما إذا كان الشّهر ناقصاً وما إذا علمت عدد أيّام حيضها فقط .
ويرى المالكيّة على المشهور أنّ أكثر زمن النّفاس إذا تمادى متّصلاً أو منقطعاً ستون يوماً ثمّ هي مستحاضة ولا تستظهر على السّتّين كبلوغ الحيض خمسة عشر , وقال الخرشي بعد نقل هذا القول : وظاهره أنّها لا تعوّل على عادتها خلافاً لما في الإرشاد ، وفي الإرشاد : تعوّل على عادتها .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ المعتادة النّاسية لعادتها في النّفاس يجري فيها الخلاف الجاري في المتحيّرة في الحيض , ففي قولٍ هي كالمبتدأة فترد إلى لحظةٍ في قولٍ , وإلى أربعين يوماً في قولٍ , وعلى المذهب تؤمر بالاحتياط , ورجّح إمام الحرمين - هنا - الرّدّ إلى مردّ المبتدأة لأنّ أوّل النّفاس معلوم وتعيين أوّل الهلال للحيض تحكم لا أصل له .
قال الرّافعي : فإذا قلنا بالاحتياط فإن كانت مبتدأةً في الحيض وجب الاحتياط أبداً , لأنّ أوّل حيضها مجهول , والمبتدأة إذا جهلت ابتداء دمها كانت كالمتحيّرة , وإن كانت معتادةً ناسيةً لعادتها استمرّت - أيضاً - على الاحتياط أبداً , وإن كانت ذاكرةً لعادة الحيض فقد التبس عليها الدّور لالتباس آخر النّفاس فهي كمن نسيت وقت الحيض دون قدره .
وقال الحنابلة : إن زاد دم النفساء على أربعين يوماً فصادف عادة الحيض فهو حيض , وإن لم يصادف عادة الحيض فهو استحاضة , قال أحمد : إذا استمرّ بها الدّم فإن كان في أيّام حيضها الّذي تقعده أمسكت عن الصّلاة ولم يأتها زوجها , وإن لم يكن لها أيّام كانت بمنزلة المستحاضة تتوضّأ لكلّ صلاةٍ وتصوم وتصلّي إن أدركها رمضان ولا تقضي ويأتيها زوجها .(/8)
مُجَاوَرَة *
التّعريف :
1 - المجاورة في اللغة : تقارب المحالّ , من قولك : أنت جاري وأنا جارك وبيننا جوار والجار من يقرب مسكنه منك , وهو من الأسماء المتضايفة .
قال بعض البلغاء : الجوار قرابة بين الجيران , ثمّ استعملت المجاورة في موضع الاجتماع مجازاً ويقال : جاوره مجاورةً وجواراً من باب قاتل , والاسم الجُوار بالضّمّ : إذا لاصقه في السّكن .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الأحكام المتعلّقة بالمجاورة :
للمجاورة أحكام متعدّدة نجملها فيما يلي :
أ - مجاورة الماء لغيره :
2 - قال جمهور الفقهاء لا يضر في طهوريّة الماء إذا تغيّر بمجاور طاهرٍ غير مختلطٍ به كالعود والدهن , على اختلاف أنواعه , والشّمع ونحو ذلك من الطّاهرات الصلبة كالكافور والعنبر إذا لم يهلك في الماء ويمع فيه , لأنّ تغيره بذلك لكونه تروحاً لا يمنع إطلاق اسم الماء عليه كتغير الماء بجيفة ملقاةٍ على شطّ نهرٍ .
قال ابن قدامة : ولا نعلم في هذه الأنواع خلافاً , ثمّ قال : وفي معنى المتغيّر بالدهن ما تغيّر بالقطران والزّفت والشّمع , لأنّ في ذلك دهنيّةً يتغيّر بها الماء تغير مجاورةٍ فلا يمنع كالدهن .
وقال الشّافعيّة : الكافور نوعان :
أحدهما : خليط كالدّقيق والزّعفران , والثّاني : مجاور لا ينماع في الماء فهو كالعود فلذلك قيّد الكافور بالصّلابة وكذا القطران .
وقال الحطّاب من المالكيّة : إنّ الماء إذا تغيّر بمجاورة شيءٍ له فإنّ تغيره بالمجاورة لا يسلبه الطّهوريّة , سواء كان المجاور منفصلاً عن الماء أو ملاصقاً له , فالأوّل كما لو كان إلى جانب الماء جيفة أو عذرة أو غيرهما فنقلت الرّيح رائحة ذلك إلى الماء فتغيّر ولا خلاف في هذا , قال بعضهم : ومنه إذا سدّ فم الإناء بشجر ونحوه فتغيّر منه الماء من غير مخالطةٍ لشيء منه , وأمّا الثّاني وهو المجاور الملاصق فمثّله ابن الحاجب بالدهن , وتبعه المصنّف على ذلك وقيّده بالملاصق .
ولم يوجد عند الحنفيّة في هذا الموطن لفظ مجاورةٍ وإنّما وجد عندهم لفظ المخالطة , فقال الشرنبلاليّ : لا يضر تغير أوصاف الماء بجامد خالطه بدون طبخٍ كزعفران وورق شجرٍ . وفي اللباب على القدوريّ : لو خرج الماء عن طبعه - بالخلط - أو حدث له اسم على حدةٍ لا تجوز به الطّهارة .
ب - مجاورة الحرمين الشّريفين :
3 - اختلف الفقهاء في حكم مجاورة الحرمين الشّريفين في مكّة والمدينة المنوّرة :
فذهب بعض الفقهاء ومنهم أبو حنيفة إلى أنّ المجاورة بمكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة مكروهة .
قال ابن عابدين : وبقول أبي حنيفة قال الخائفون المحتاطون من العلماء كما في الإحياء قال : ولا يظن أنّ كراهة القيام تناقض فضل البقعة , لأنّ هذه الكراهة علّتها ضعف الخلق وقصورهم عن القيام بحقّ الموضع , قال في الفتح : وعلى هذا فيجب كون الجوار في المدينة المشرّفة كذلك يعني مكروهاً عنده , فإنّ تضاعف السّيّئات , أو تعاظمها إن فقد فيها , فمخافة السّآمة وقلّة الأدب المفضي إلى الإخلال بوجوب التّوقير والإجلال قائم , قال بعضهم : وهو وجيه فينبغي أن لا يقيّد بالوثوق اعتباراً للغالب من حال النّاس لا سيّما أهل هذا الزّمان .
وقال بعض الحنفيّة : لا تكره المجاورة بالمدينة المنوّرة وكذا بمكّة المكرّمة لمن يثق بنفسه .
قال ابن عابدين : واختار في اللباب : أنّ المجاورة بالمدينة أفضل منها بمكّة المكرّمة .
وقال المالكيّة : عدم المجاورة بمكّة أفضل .
قال مالك : القفل أي الرجوع أفضل من الجوار .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة : إلى استحباب المجاورة بالحرمين الشّريفين إلا أن يغلب على ظنّه الوقوع في المحظورات , أو أن تسقط حرمتهما عنده , لما ورد من مضاعفة العمل الصّالح فيهما كحديث : « صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاةٍ فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام , وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاةٍ في هذا » .
وقال اللّه تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِّلْعَالَمِينَ } .
قال القرطبي : جعله مباركاً لتضاعف العمل فيه .
قال أحمد : كيف لنا بالجوار بمكّة ؟ قال النّبي صلى الله عليه وسلم : « واللّه إنّك لخير أرض اللّه وأحب أرض اللّه إلى اللّه , ولولا أنّي أخرجت منك ما خرجت » .
قال ابن قدامة : وإنّما كره الجوار بمكّة لمن هاجر منها , وجابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما جاور بمكّة وجميع أهل البلاد ومن كان من أهل اليمن ليس بمنزلة من يخرج ويهاجر أي لا بأس به وابن عمر رضي الله عنهما كان يقيم بمكّة قال : والمقام بالمدينة أحب إليّ من المقام بمكّة لمن قوي عليه , لأنّها مهاجر المسلمين ، وقال النّبي صلى الله عليه وسلم : « لا يصبر على لأوائها وشدّتها أحد إلا كنت له شهيداً شفيعاً يوم القيامة » .
ج - استحقاق الشفعة بالمجاورة :
4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم ثبوت الشفعة بسبب المجاورة .
وذهب الحنفيّة والثّوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة إلى إثبات الشفعة للجار الملاصق فالمجاورة سبب للشفعة عندهم مثل الشّركة .
والتّفاصيل في مصطلح : ( شفعة ف 11 وما بعدها ) .
د - الوصيّة للجار :
5 - اختلف الفقهاء فيمن يدخل في الوصيّة للجار :
فقال الشّافعيّة والحنابلة : لو أوصى لجيرانه فلأربعين داراً من كلّ جانبٍ من جوانب داره الأربعة , لحديث : « حق الجوار إلى أربعين داراً هكذا وهكذا وهكذا وهكذا , وأشار قدّاماً وخلفاً ويميناً وشمالاً » .
وقال المحلّي نقلاً عن الرّوضة : ويقسم المال على عدد الدور لا على عدد سكّانها .(/1)
قال ابن قدامة بعد ذكر الحديث المتقدّم ذكره هذا نص لا يجوز العدول عنه , إن صحّ , وإن لم يثبت الخبر , فالجار هو المقارب , ويرجع في ذلك إلى العرف .
وعند أبي حنيفة هو الملاصق , وعند الصّاحبين هو من يسكن في محلّته ويجمعهم مسجد المحلّة , وهذا استحسان لكنّ الصّحيح قول الإمام , وهو ممّا رجّح فيه القياس على الاستحسان لحديث : « الجار أحق بسقبه » .
وقال المالكيّة : لو أوصى لجيرانه فإنّه يعطي الجار وزوجته , وأمّا زوجة الموصي فلا تعطى لأنّها ليست جاراً وحد الجار الّذي لا شكّ فيه ما كان يواجهه وما لصق بالمنزل من ورائه وجانبيه والمعتبر في الجار يوم القسم , فلو انتقل بعضهم أو كلهم وحدث غيرهم أو بلغ صغير فذلك لمن حضر , ولو كانوا يوم الوصيّة قليلاً ثمّ كثروا أعطوا جميعهم . والتّفصيل في مصطلح : ( وصيّة ) .
هـ - مجاورة الصّالحين :
6 - ينبغي للمسلم مجالسة أهل الخير , والصّالحين وملازمة مجالسهم والصّبر معهم ومصاحبتهم لقول اللّه تعالى : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَََلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَََلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } .
وعن سعد بن أبي وقّاصٍ رضي الله عنه قال : « كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ستّة نفرٍ , فقال المشركون للنّبيّ صلى الله عليه وسلم أطرد هؤلاء لا يجترئُون علينا ، قال : وكنت أنا وابن مسعودٍ ورجل من هذيلٍ وبلال ورجلان لست أسمّيهما , فوقع في نفس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما شاء اللّه أن يقع , فحدّث نفسه , فأنزل اللّه عزّ وجلّ : { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } » .
قال ابن علان الصّدّيقي من الشّافعيّة : مجالسة أهل الخير وهم حزب اللّه المنقطعون إليه اللائذون به الحائزون لشرف العلم والعمل به مع الإخلاص فيه مستحبّة , لأنّ من تشبّه بقوم فهو منهم , ولأنّهم هم القوم لا يشقى جليسهم قال : وأقل ثمرات مجالستهم حفظ نفسه في ذلك الزّمن عن المخالفة لمولاه عزّ وجلّ وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « مثل الجليس الصّالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير , فحامل المسك إمّا أن يحذيك , وإمّا أن تبتاع منه , وإمّا أن تجد منه ريحاً طيّبةً , ونافخ الكير إمّا أن يحرق ثيابك , وإمّا أن تجد ريحاً خبيثةً » أي فجليس الأخيار إمّا أن يعطى بمجالستهم من الفيوض الإلهيّة أنواع الهبات حياءً وعطاءً , وإمّا أن يكتسب من المجالس خيراً وأدباً يكتسبها عنه ويأخذها منه ، وإمّا أن يكتسب حسن الثّناء بمخاللته , ومخالطته , وأمّا جليس السوء فإمّا أن يحترق بشؤم معاصيه كما قال اللّه تعالى : { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } وإمّا أن يدنّس ثناءه بمصاحبته وقد ورد : « الرّجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل » .(/2)
مُحَاذاة *
التّعريف :
1 - المحاذاة في اللغة : المقابلة , يقال : حاذيته محاذاةً من باب قاتل .
وفي الاصطلاح : كون الشّيئين في مكانين بحيث لا يختلفان في الجهات .
قال البركتيّ : والمعتبر في مسألة المحاذاة السّاق والكعب .
ما يتعلّق بالمحاذاة من أحكامٍ :
للمحاذاة أحكام وردت في عدّة أبوابٍ من كتب الفقه نجملها فيما يأتي :
أوّلاً : المحاذاة في الصّلاة :
أ - محاذاة القبلة :
2 - ذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه لا تصح الفريضة على ظهر الكعبة وأمّا النّافلة فتصح فوقها عند الحنابلة إذا كان أمامه شاخص .
وقال المالكيّة : تجوز صلاة النّفل فوق الكعبة وأمّا السنن وركعتا الفجر فلا تجوز صلاتها فوق ظهر الكعبة على الرّاجح , لكنّها إن صلّيت على ظهر الكعبة لا تعاد بخلاف الفرض فإنّه يعاد .
وقال الحنفيّة : المعتبر في القبلة العرصة لا البناء بمعنى أنّه ليس المراد بالقبلة الكعبة الّتي هي البناء المرتفع , ولذا لو نقل البناء إلى موضعٍ آخر وصلّى إليه لم يجز بل تجب الصّلاة إلى أرضها .
وقالوا : تصح الصّلاة مع الكراهة فوق الكعبة ولو بلا سترةٍ , وصرّحوا بأنّه لو صلّى على سطح الكعبة جاز إلى أيّ جهةٍ توجّه .
وقال الشّافعيّة : من صلّى على سطح الكعبة المشرّفة نظر : إن وقف على طرفها واستدبر باقيها لم تصحّ صلاته بالاتّفاق , لعدم استقبال شيءٍ منها , وهكذا لو انهدمت والعياذ باللّه فوقف على طرف العرصة واستدبر باقيها لم تصحّ صلاته , ولو وقف خارج العرصة واستقبلها صحّ بلا خلافٍ .
أمّا إذا وقف في وسط السّطح أو العرصة فإن لم يكن بين يديه شيء شاخص لم تصحّ صلاته على الصّحيح المنصوص .
ومن صلّى على سطح الكعبة المشرّفة مستقبلاً من بنائها قدر ثلثي ذراعٍ صحّت صلاته وإن خرج بعضه , عن محاذاة الشّاخص , وكذا إذا استقبل شاخصاً متّصلاً بالكعبة وإن لم يكن منها كشجرة نابتةٍ وعصاً مسمّرةٍ وإن لم يكن قدر قامته طولاً وعرضاً لأنّه متوجّه إلى جزء من الكعبة , أو إلى ما هو كالجزء منها , حتّى ولو خرج بعضه عن محاذاة الشّاخص , لأنّه مواجه ببعضه جزءاً من الكعبة وبباقيه هواء الكعبة , بخلاف ما إذا كان الشّاخص أقلّ من ثلثي ذراعٍ فلا تصح الصّلاة إليه , لأنّه كسترة المصلّى فاعتبر فيه قدرها الّذي هو مثل مؤخرة الرّحل .
قال الشّربيني الخطيب : وظاهر كلامهم أنّه لو استقبل الشّاخص المذكور في حال قيامه دون بقيّة صلاته كأن استقبل خشبةً عرضها ثلثا ذراعٍ معترضةً في باب الكعبة تحاذي صدره في حال قيامه دون بقيّة صلاته أنّها تصح ثمّ قال : بل الّذي ينبغي أنّها لا تصح في هذه الحالة إلا في الصّلاة على الجنازة , بخلاف غيرها لأنّه في حال سجوده غير مستقبلٍ لشيء منها ولو وقف خارج العرصة ولو على جبلٍ أجزأه ولو بغير شاخصٍ لأنّه يعد محاذياً إليها بخلاف المصلّى فيها , ولو خرج عن محاذاة الكعبة ببعض بدنه بأن وقف بطرفها وخرج عنه ببعضه بطلت صلاته , وكذا لو امتدّ صف طويل بقرب الكعبة وخرج بعضهم عن المحاذاة بطلت صلاته , لأنّه ليس مستقبلاً لها ولا شكّ أنّهم إذا بعدوا عنها حاذوها وصحّت صلاتهم , وإن طال صفهم , لأنّ صغير الحجم كلّما زاد بعده زادت محاذاته كغرض الرماة .
ولو أزيل الشّاخص الّذي كان يحاذيه في أثناء صلاته لم يضرّ ; لأنّه يغتفر في الدّوام ما لا يغتفر في الابتداء .
ب - المحاذاة في رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّه يستحب أو يسن للمصلّي عند افتتاح صلاته رفع يديه عند تكبيرة الإحرام لحديث ابن عمر رضي الله عنهما : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصّلاة » .
وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك , لكنّ الفقهاء اختلفوا في كيفيّة الرّفع , والتّفصيل في مصطلح : ( صلاة ف 57 وما بعدها ) .
ج - الصّلاة في محاذاة النّجاسة :
4 - اختلف الفقهاء في صحّة صلاة من صلّى وفي محاذاته نجاسة .
فقال بعضهم : لا يضر في صحّة الصّلاة نجس يحاذي صدر المصلّي في الركوع والسجود وغيرهما على الصّحيح , لعدم ملاقاة النّجاسة لبدنه .
وقال بعضهم : إنّ ذلك يضر في صحّة الصّلاة لأنّه منسوب إليه لكونه مكان صلاته , فتعيّن طهارته كالّذي يلاقيه .
والتّفصيل في مصطلح : ( نجاسة ) .
د - محاذاة المأموم إمامه في الصّلاة :
5 - نصّ الشّافعيّة على أنّه لو وقف المأموم في علوٍ في غير مسجدٍ كصفّة مرتفعةٍ وسط دارٍ مثلاً , وإمامه في سفلٍ كصحن تلك الدّار أو عكسه شرط مع وجوب اتّصال صفٍّ من أحدهما بالآخر : محاذاة بعض بدن المأموم بعض بدن الإمام بأن يحاذي رأس الأسفل قدم الأعلى مع اعتدال قامة الأسفل حتّى لو كان قصيراً لكنّه لو كان معتدلها لحصلت المحاذاة صحّ الاقتداء .
وكذا لو كان قاعداً ولو قام لحاذى كفى أمّا إذا كانا في المسجد فيصح الاقتداء مطلقاً .
إلا أنّ المالكيّة قالوا : يجوز عدم إلصاق من على يمين الإمام أو يساره بمن حذوه أي خلف ظهر الإمام والمراد بالجواز عندهم خلاف الأولى لأنّه تقطيع للصّفّ ووصله مستحب .
ونصّ الحنفيّة في مسألةٍ أخرى أنّه إذا جاء المأموم ولم يجد في الصّفّ فرجةً انتظر حتّى يجيء آخر فيقفان خلفه , وإن لم يجئ حتّى ركع الإمام يختار أعلم النّاس بهذه المسألة فيجذبه ويقفان خلفه ولو لم يجد عالماً يقف الصّف بحذاء الإمام للضّرورة .
هـ - صلاة الرّجل في محاذاة امرأةٍ :(/1)
6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الصّلاة لا تفسد بمحاذاة المصلّي امرأةً ، سواء كانت في صلاةٍ أو لم تكن في صلاةٍ ، وسواء كان بينهما حائل أو ليس بينهما كما لا تفسد لمحاذاة غير المرأة .
إلا أنّه يكره للإنسان أن يصلّي وبين يديه ما يشغله سواء كان رجلاً أو امرأةً أو غيرهما , ومن أجل ذلك استحب للمصلّي أن يجعل في محاذاته ساتراً يحول بينه وبين المارّة .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ صلاة الرّجل تفسد إذا حاذته امرأة في صلاته .
وقالوا : لو قامت امرأة وسط الصّفّ تفسد صلاة واحدٍ عن يمينها وصلاة واحدٍ عن يسارها وصلاة واحدٍ خلفها بحذائها .
وشروط المحاذاة المفسدة عند الحنفيّة تسعة :
أ - كون المرأة مشتهاةً ولو كانت محرماً للرّجل أو زوجةً له , أو كانت ماضياً كعجوز شوهاء .
ب - كون المحاذاة بالسّاق والكعب في الأصحّ ، وفي الدرّ : المعتبر المحاذاة بعضو واحدٍ . ج - كون المحاذاة في أداء ركنٍ عند محمّدٍ وهو ما اختاره ابن الهمام في الفتح وجزم به الحلبي أو قدّره عند أبي يوسف .
وفي الخانيّة : إنّ قليل المحاذاة وكثيرها مفسد ونسب إلى أبي يوسف .
د - كون المحاذاة في صلاةٍ مطلقةٍ ولو بالإيماء فلا تبطل صلاة الجنازة إذ لا سجود لها فهي ليست بصلاة حقيقيّةٍ وإنّما هي دعاء للميّت .
هـ - كون المحاذاة في صلاةٍ مشتركةٍ من حيث التّحريمة وذلك باقتداء المصلّي والمرأة بإمام أو اقتدائها به .
و - كون المحاذاة في مكانٍ متّحدٍ ولو حكماً ، فلو اختلف المكان بأن كانت المرأة على مكانٍ عالٍ بحيث لا يحاذي شيء منه شيئاً منها لا تفسد الصّلاة .
ز - كون المحاذاة بلا حائلٍ قدر ذراعٍ في غلظ أصبعٍ أو فرجة تسع رجلاً .
ح - عدم إشارة المصلّي إليها لتتأخّر عنه فإن لم تتأخّر بإشاراته فسدت صلاتها لا صلاته ولا يكلّف بالتّقدم عنها لكراهته .
ط - وتاسع شروط المحاذاة المفسدة : أن يكون الإمام قد نوى إمامتها فإن لم ينوها لا تكون في الصّلاة فانتفت المحاذاة .
ثانياً : المحاذاة في الحجّ :
7 - قال جمهور الفقهاء : يجب على الطّائف أن يجعل البيت عن يساره وأن يبدأ بالحجر الأسود محاذياً له كلّه أو بعضه في مروره عليه ابتداءً بجميع بدنه ويكتفي بمحاذاة جزءٍ من الحجر الأسود بجميع بدنه كما اكتفى بمحاذاة جميع بدنه بجزء من الكعبة في الصّلاة . وصفة المحاذاة : أن يستقبل البيت ويقف على جانب الحجر من جهة الركن اليمانيّ بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ومنكبه الأيمن عند طرفه ثمّ ينوي الطّواف ويمر مستقبلاً إلى جهة يمينه حتّى يجاوز الحجر قال الشّربيني الخطيب : والمحاذاة الواجبة تتعلّق بالركن الّذي فيه الحجر الأسود لا بالحجر نفسه حتّى لو فرض - والعياذ باللّه - أنّه نحّى من مكانه وجبت محاذاة الركن .
وقال الحنفيّة : ينبغي أن يبدأ بالطّواف من جانب الحجر الّذي يلي الركن اليمانيّ فيكون ماراً على جميع الحجر بجميع بدنه فيخرج من خلاف من يشترط المرور كذلك عليه وشرحه أن يقف مستقبلاً على جانب الحجر , بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ثمّ يمشي كذلك مستقبلاً حتّى يجاوز الحجر فإذا جاوزه انفتل وجعل يساره إلى البيت وهذا في الافتتاح خاصّةً ولو أخذ عن يساره فهو جائز مع الإساءة .(/2)
مُحَصَّب *
التّعريف :
1 - المحصَّب في اللغة على وزن : مفعَّل بالتّشديد والفتح من الحصبا , وهي الحصى الصّغار : اسم مكانٍ تكثر فيه الحصباء .
والمحصّب أو وادي المحصّب : موضع بمكّة المكرّمة , يسمى أيضاً الأبطح , من البطحاء وهي الحصى الصّغار , وكان مسيلاً لوادي مكّة تجرف إليه السيول الرّمال والحصى , وقد أصبح الآن مكاناً عامراً بالأبنية , يقع بين القصر الملكيّ وجبّانة المعلّى , في منطقته شارع واسع يحمل اسم الأبطح .
ويتعلّق بالمحصّب هذا حكم من مناسك الحجّ هو التّحصيب .
وللتّفصيل : ( حج ف 107 ) .
مَحْضَر *
التّعريف :
1 - المحضر مصدر ميمي : بمعنى الحضور والشهود .
يقال : كلّمته بمحضر من فلانٍ , وبحضرته : أي بمشهد منه .
وفي الاصطلاح : هو الّذي كتب القاضي فيه دعوى الخصمين مفصّلاً , ولم يحكم بما ثبت عنده بل كتبه للتّذكر .
الألفاظ ذات الصّلة :
السّجل :
2 - السّجل لغةً : الكتاب يدوّن فيه ما يراد حفظه يقال : سجّل القاضي : قضى وحكم وأثبت حكمه في السّجلّ .
وفي الاصطلاح : السّجل : كتاب الحكم وقد سجّل عليه القاضي .
والفرق بين المحضر والسّجلّ : أنّ المحضر لا يتضمّن النّصّ على الحكم وإنفاذه , أما السّجل ففيه حكم القاضي .
الحكم التّكليفي :
2 - قال الفقهاء : ينبغي للقاضي كتابة محضرٍ في الدّعاوى والخصومات الّتي ترفع أمامه في مجلس حكمه لأنّ الحاجة تدعو إلى المحافظة على الدّعاوى والبيّنات , ولا يمكن حفظها إلا بالكتابة ويستحب أن يتّخذ كاتباً , تشترط فيه شروط تفصيلها في : ( قضاء ف 43 ) . ومحل استحباب كتابة المحضر : إذا لم يطلب من له المصلحة من الخصمين كتابته , فإن سأل أحد الخصمين القاضي كتابة ما جرى أمامه في مجلس الحكم وكان له في ذلك مصلحة , كأن يترافع خصمان إلى القاضي فأقرّ أحدهما لصاحبه بالمدّعى به أو نكل المدّعى عليه عن اليمين , وردّ على المدّعي وحلف , وسأل القاضي أن يكتب له ما جرى أمامه في مجلس الحكم من غير حكمٍ , فالأصح عند الحنابلة يجب إجابته , وهو قول عند الشّافعيّة , لأنّه وثيقة له كالإشهاد , لأنّ الشّاهدين ربّما نسيا الشّهادة , أو نسيا الخصمين فلا يذكرهما إلا ذوي خطّيهما , والأصح عند الشّافعيّة : يستحب للقاضي إجابته , لأنّ الكتابة لا تثبت حقاً .
ويستحب نسختان : إحداهما لصاحب الحقّ , والأخرى تحفظ في ديوان الحكم .
ثمن الورق الّذي تكتب فيه المحاضر :
4 - ثمن الورق الّذي تكتب فيه المحاضر والسّجلات وغيرها من بيت المال , لأنّه من المصالح .
فإن لم يكن فيه مال , أو احتيج إليه إلى ما هو أهم فعلى من له العمل من مدّعٍ ومدّعىً عليه إن شاء كتابة ما جرى في خصومته , وإن لم يشأ فلا يجبر عليه .
صيغة المحضر :
5 - إن اختار القاضي أن يكتب محضراً , أو سأله من له مصلحة من الخصمين كتابته : ذكر فيه ما يأتي :
أ - اسم القاضي الّذي جرت الخصومة أمامه واسم أبيه ونسبه , ومكان ولايته , وتاريخ إقامة الدّعوى , وأنّها أقيمت أمامه في مجلس قضائه وحكمه .
ب - اسم المدّعي , والمدّعى عليه إن كان يعرفهما باسميهما ونسبيهما ويرفع نسبيهما حتّى يتميّزا .
وإن كان لا يعرفهما : كتب : حضر عندي في مجلس حكمي : مدّعٍ ذكر : أنّه فلان بن فلانٍ الفلاني وأحضر معه مدّعىً عليه ذكر : أنّه فلان بن فلانٍ الفلاني ويرفع نسبيهما , ويذكر أهمّ صفاتهما كالغمم , والنّزع , ولون العين , وصفة الأنف , والفم , والحاجبين , واللّون , والطول , والقصر .
ج - المدّعى به , ونوعه وصفته .
د - أقوال المدّعي .
هـ - أقوال المدّعى عليه من إقرارٍ أو إنكارٍ , فإن أقرّ كتب : أقرّ للمدّعي بالمدّعى به , وإن أنكر كتب إنكاره , وإن شهدت عليه بيّنة ذكرها , وإن كتب المحضر بطلب من له مصلحة في كتابته ذكر في المحضر أنّه كتبه استجابةً لرغبته وذكر : أنّ البيّنة أقيمت أمامه في مجلس حكمه , لأنّ ذلك شرط لصحّة الشّهادة .
و - أسماء الشهود وأنسابهم , فإن لم يكن للمدّعي بيّنة ذكر في المحضر .
ز - فإن استحلف المنكر ذكر في المحضر .
ح - فإن حلف وسأل القاضي أن يكتب له محضراً لئلا يحلف ثانياً أجابه , وذكر أنّ المدّعى عليه سأل ذلك , وأنّه أجاب طلبه .
ط - وإن نكل عن اليمين كتب : فعرضت اليمين عليه فنكل منها , هذه صورة المحضر . وإن اشتمل المحضر أسباب الحكم , وقامت الحجّة على ثبوتها أمام القاضي , وسأل صاحب الحقّ القاضي أن يحكم له بما ثبت في المحضر , لزم على القاضي أن يحكم له به وينفذه , فيقول بعد ثبوت أسباب الحكم بالحجّة الشّرعيّة في المحضر : حكمت له به , وألزمته الحقّ .
لأنّ الحكم من لوازم الثبوت .(/1)
مُخَاط *
التّعريف :
1 - المخاط في اللغة : ما يسيل من الأنف كاللعاب من الفم , والمخطة : ما يقذف الرّجل من أنفه , يقال : امتخط أي أخرج مخاطه من أنفه .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - النخاعة :
2 - النخاعة بالضّمّ : ما يخرجه الإنسان من حلقه من مخرج الخاء المعجمة من البلغم , أو هي : ما يخرج من الخيشوم عند التّنخع .
والنخامة هي النخاعة وزناً ومعنىً يقال : تنخّم وتنخّع : رمى بالنخامة والنخاعة .
وفي الاصطلاح : النخاعة أو النخامة هي الفضلة الغليظة الّتي يلفظها الشّخص من فيه , سواء من دماغه أو من باطنه .
والعلاقة بينهما أنّ النخاعة أعم من المخاط .
ب - اللعاب :
3 - من معاني اللعاب في اللغة : ما سال من الفم .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
وكل من المخاط واللعاب يخرج من الباطن , غير أنّ المخاط يخرج من الأنف واللعاب من الفم .
الأحكام المتعلّقة بالمخاط :
أوّلاً : طهارة المخاط :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّ المخاط طاهر , وأنّ الصّلاة في ثوبٍ فيه مخاط صحيحة , لحديث : « فإذا تنخّع أحدكم فليتنخّع عن يساره تحت قدمه , فإن لم يجد فليقل هكذا - وصفه الرّاوي- فتفل في ثوبه ثمّ مسح بعضه ببعض » .
إلا أنّ المالكيّة عمّموا فقالوا : مخاط الحيوان الحيّ الطّاهر ولعابه ودمعه وعرقه طاهر , سواء كان بحرياً أو برّياً , ولو خلق من عذرةٍ أو كلباً , أو خنزيراً , ولو كان جلالةً أو سكران حال سكره , أو أكل نجساً أو شربه , ولا تكره الصّلاة في ثوبٍ فيه عرق شارب خمرٍ أو مخاطه أو بصاقه .
واختلفوا في حكم ما صعد من المعدة من البلغم :
فذهب أبو حنيفة ومحمّد والحنابلة والمالكيّة إلى أنّه طاهر ولا فرق عندهم بين ما نزل من الصّدر أو الدّماغ وبين ما صعد من المعدة من البلغم , واستدلوا بظاهر حديث أبي هريرة رضي الله عنه السّابق , إذ لم يفرّق بين ما صعد من المعدة من البلغم وبين ما نزل من الدّماغ أو الصّدر , ولأنّ المعدة - كما قال المالكيّة - طاهرة , فيكون ما صعد منها طاهراً ما لم يكن منتناً متغيّراً .
وذهب الشّافعيّة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّه نجس , لاختلاطه بالأنجاس , لأنّ المعدة معدن الأنجاس كما لو قاء طعاماً .
ثانياً : حرمة تناول المخاط :
5 - نصّ الشّافعيّة على حرمة تناول المخاط , قالوا : إنّ المخاط وإن كان طاهراً إلا أنّه مستقذر , ويحرم تناول الإنسان له لاستقذاره لا لنجاسته .
ثالثاً : انتقاض الوضوء بخروج المخاط ونحوه :
6 - اختلف الفقهاء في انتقاض الوضوء بخروج المخاط ونحوه من بلغمٍ ونخامةٍ , فذهب المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة وأبو حنيفة ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة إلى أنّ الوضوء لا ينتقض بخروج مخاطٍ ونحوه ممّا نزل من الدّماغ , أو من الجوف .
واختلفوا في تعليل عدم نقضه تبعاً لاختلافهم في بعض نواقض الوضوء , فقال الشّافعيّة والمالكيّة : إنّه شيء لم يخرج من أحد السّبيلين , وكل ما لم يخرج منهما لم ينقض الوضوء , إلا إذا انسدّ المخرج وانفتح منفذ من تحت السرّة فخرج منه المعتاد , ففي هذه الحالة يبطل الوضوء به .
وقال أبو حنيفة ومحمّد والحنابلة : لأنّه طاهر , ولأنّه شيء صقيل لا يلتصق به شيء من الأنجاس فكان طاهراً , وخروج شيءٍ طاهرٍ من المتوضّئ لا يبطل الوضوء فصار كالبزاق , وقال أبو يوسف : إن صعد المخاط من المعدة وكان ملء الفم أفسد الطّهارة لاختلاطه بالأنجاس , لأنّ المعدة معدن الأنجاس , فيكون المخاط حدثاً يبطل الوضوء به كالقيء , قال الزّيلعي : إنّ محلّ الخلاف بين أبي يوسف وصاحبيه : إذا لم يكن البلغم مخلوطاً بالطّعام , والغالب الطّعام .
أمّا إذا كان مخلوطاً بالطّعام وكان الطّعام غالباً نقض إجماعاً عندهم .
رابعاً : اقتلاع المخاط أو بلعه في الصّوم :
7 - اختلف الفقهاء في فساد الصّوم بابتلاع المخاط أو قلعه :
فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الصّوم لا يفسد باقتلاع المخاط وابتلاعه وإن أمكن طرحه , ولو بعد وصوله إلى ظاهر الفم .
وقال أبو يوسف من الحنفيّة : إن صعد المخاط من المعدة وكان ملء الفم أفسد الصّوم . وقال الشّافعيّة : لا يبطل الصّوم بخلع النخامة ومجّها في الأصحّ , سواء أقلعها من دماغه , أم من باطنه لتكرر الحاجة إلى ذلك فرخّص فيه , ومقابل الأصحّ يفطر به كالاستقاءة , وإن نزلت بنفسها أو نزلت بغلبة السعال فلا بأس به جزماً , وإن بقيت في محلّها فلا يفطر جزماً , فإن نزلت من دماغه , وحصلت في حدّ الظّاهر من الفم , فإن قطعها من مجراها ومجّها لم يفسد الصّوم , وإن تركها مع القدرة على مجّها فوصلت الجوف أفطر في الأصحّ لتقصيره , أمّا إذا لم تصل إلى حدّ الظّاهر من الفم - وهو مخرج الحاء المهملة - عند النّوويّ - ومخرج الخاء المعجمة عند الرّافعيّ - بأن كانت في حدّ الباطن - وهو مخرج الهمزة والهاء , أو حصلت في الظّاهر ولم يقدر على مجّها لم تضرّ .
وللحنابلة في ابتلاع الصّائم النخامة روايتان :
إحداهما : يفطر , قال حنبل : سمعت أبا عبد اللّه يقول : إذا تنخّم ثمّ ازدرده فقد أفطر , لأنّ النخامة من الرّأس تنزل , ولو تنخّع من جوفه ثمّ ازدرده : أفطر , لأنّه أمكن التّحرز منها , ولأنّها من غير الفم فأشبه القيء .
والرّواية الثّانية : لا يفطر , قال في رواية المروزيّ : ليس عليك قضاء إذا ابتلعت النخامة , وأنت صائم , لأنّه معتاد في الفم غير واصلٍ من خارجٍ فأشبه الرّيق .
خامساً : تفل المخاط في المسجد :(/1)
8 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ تفل الفضلات الطّاهرة المستقذرة من مخاطٍ ونحوه من بصاقٍ ونخامةٍ محظور , لحديث : « البزاق في المسجد خطيئة » .
وقال الشّافعيّة : يحرم البصاق في المسجد مطلقاً وبه جزم النّووي لظاهر الحديث السّابق , وكذلك قال الصّيمري : البصاق في المسجد معصية , قال الزّركشي : أمّا إطلاق الروياني والجرجانيّ والمحامليّ وسليمٍ الرّازي وغيرهم من الشّافعيّة الكراهة فمحمول على إرادة التّحريم , فمن بصق في مسجدٍ فقد ارتكب محرّماً , وكفّارته دفنه في رمل المسجد , فلو مسحها بخرقة ونحوها كان أفضل .
ونقل الزّركشي عن شرح المهذّب : من رأى من يبصق في المسجد لزمه الإنكار عليه , ومنعه منه إن قدر , ومن رأى بصاقاً أو نحوه كالمخاط في المسجد يزيله بدفنه , أو إخراجه , ويستحب تطييب محلّه , لحديث أنسٍ رضي الله عنه : « أنّ النّبيّ رأى نخامةً في قبلة المسجد فغضب حتّى احمرّ وجهه ، فجاءت امرأة أنصاريّة فحكّتها , وجعلت مكانها خلوقاء , فقال صلى الله عليه وسلم : ما أحسن هذا » .
وحكى أبو العبّاس القرطبي عن بعضهم أنّه قال : إنّما يكون البزاق في المسجد خطيئةً لمن تفل فيه ولم يدفنه , لأنّه يقذر المسجد ويتأذّى به من يعلّق به , فأمّا من اضطرّ إلى ذلك ففعل ودفنه فلم يأت بخطيئة , ولهذا سمّاه كفّارةً , والتّكفير : التّغطية , والإخفاء , والسّتر , فكأنّ دفنها غطّى ما يتصوّر عليه من الإثم .
وقال مالك : إذا كان المسجد محصّباً فلا بأس أن يبصق بين يديه وعن يساره , وتحت قدمه , ويكره أن يبصق أمامه في حائط القبلة , وإن كان عن يمينه رجل في الصّلاة وعن يساره رجل بصق أمامه , ويدفنه , وإن كان لا يقدر على دفنه لا يبصق في المسجد بحال , كان مع النّاس أو وحده .
وقال الحنابلة : يسن أن يصان المسجد من بزاقٍ , ولو في هوائه , والبزاق في المسجد خطيئة , فإن كانت أرضه حصباء ونحوها كالتراب والرّمل فكفّارتها دفنها , وإن لم تكن حصباء بل كانت بلاطاً أو رخاماً مسح النخامة بثوبه أو غيره , لأنّ القصد إزالتها , ولا يكفي تغطيتها بحصير , لأنّه لا إزالة في ذلك , وإن لم يزلها فاعلها لزم غيره من كلّ من علم بها إزالتها بدفن أو مسحٍ تبعاً لحالة الأرض .
فإن بدره البصاق في المسجد أخذه بثوبه , ومسح بعض الثّوب ببعضه , وإن كان المخاط على حائطٍ وجب أيضاً إزالته , لحديث أنسٍ السّابق .
والتّفصيل في مصطلح : ( مسجد , وبصاق ف 4 ) .(/2)
مُدّة *
التّعريف :
ا - المُدّة لغةً : مقدار من الزّمان يصدق على القليل والكثير , والجمع مدد .
ولا يخرج التّعريف الاصطلاحي للمدّة عن التّعريف اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الأجل :
2 - أجل الشّيء : مدّته ووقته الّذي يحل فيه , وغاية الوقت في الموت .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
والصّلة بين المدّة والأجل عموم وخصوص مطلق , فكل أجلٍ مدّة وليست كل مدّةٍ أجلاً .
ب - التّوقيت :
3 - التّوقيت لغةً : تحديد الوقت .
وفي الاصطلاح : تحديد وقت الفعل ابتداءً وانتهاءً .
( ر : تأقيت ف 1 ) .
والعلاقة بين التّوقيت والمدّة : أنّ في التّوقيت بهذا المعنى بياناً للمدّة .
الأحكام المتعلّقة بالمدّة :
تتعلّق بالمدّة أحكام منها :
مدّة المسح على الخفّين :
4 - ذهب جهور الفقهاء إلى أنّ مدّة المسح على الخفّين : يوم وليلة للمقيم , وثلاثة أيّامٍ بلياليها للمسافر , لحديث شريح بن هانئٍ قال : سألت عائشة رضي الله عنها عن المسح على الخفّين فقالت : سل علياً رضي الله عنه فإنّه كان يسافر مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم , فسألته فقال : « جعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيّامٍ ولياليهنّ للمسافر ويوماً وليلةً للمقيم » .
وابتداء المدّة من وقت حدث بعد لبسٍ إلى مثله في الثّاني أو الرّابع .
وقال المالكيّة : لا حدّ في مدّة المسح فلا يتقيّد بيوم وليلةٍ ولا بأكثر ولا بأقلّ .
والتّفصيل في مصطلح : ( مسح على الخفّين ) .
مدّة خيار الشّرط :
5 - لا خلاف بين الفقهاء في مشروعيّة خيار الشّرط إلا أنّهم اختلفوا في مدّته :
فذهب أبو حنيفة والشّافعيّة إلى أنّ أكثر مدّته ثلاثة أيّامٍ , وتحسب من العقد .
وقال الحنابلة : يشترط في مدّة خيار الشّرط أن تكون المدّة معلومة , طالت أم قصرت , وبه قال أبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة , وأجاز مالك الزّيادة على الثّلاث بقدر الحاجة , وتختلف المدد عند المالكيّة باختلاف أنواع المبيع .
والتّفصيل في : ( خيار الشّرط ف 8 وما بعدها ) .
مدّة الإيلاء :
6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الإيلاء لا بدّ له من مدّةٍ يحلف الزّوج على ترك قربان زوجته فيها , ولكنّهم اختلفوا في مقدار هذه المدّة :
فذهب الجمهور إلى أنّ مدّة الإيلاء أكثر من أربعة أشهرٍ .
وقال الحنفيّة : إنّ مدّة الإيلاء أربعة أشهرٍ أو أكثر , وهو قول عطاءٍ والثّوريّ ورواية عن أحمد .
فلو حلف : إلا يقرب زوجته أربعة أشهرٍ فإنّه يكون إيلاءً عند الحنفيّة , ولا يكون إيلاءً عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة , وعلى هذا لو حلف الزّوج : إلا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهرٍ كان إيلاءً باتّفاق الفقهاء , وإذا حلف ألا يقرب زوجته أقلّ من أربعة أشهرٍ فإنّه لا يكون إيلاءً عند الجميع .
والتّفصيل في : ( إيلاءٍ ف 1 , 14 ) .
مدّة العدّة :
7 - للعدّة مدد تختلف باختلاف نوع العدّة وسببها , فهنالك العدّة بالإقراء , والعدّة بوضع الحمل , والعدّة بالأشهر .
وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح : ( عدّة ف 10 - 19 ) .
مدّة الحمل :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهرٍ , لما روي أنّ رجلاً تزوّج امرأةً فجاءت بولد لستّة أشهرٍ , فهمّ عثمان رضي الله عنه برجمها , فقال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما : لو خاصمتكم بكتاب اللّه لخصمتكم , فإنّ اللّه تعالى يقول : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَََلاثُونَ شَهْراً } وقال : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } فالآية الأولى حدّدت مدّة الحمل والفصال أي الفطام بثلاثين شهراً , والثّانية تدل على أنّ مدّة الفطام عامان , فبقي لمدّة الحمل ستّة أشهرٍ .
أمّا أكثر مدّة الحمل فقد اختلف الفقهاء فيها على أقوالٍ .
وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح : ( حمل ف 6 - 7 , وعدّة ف 21 ) .
مدّة الحيض :
9 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ غالب مدّة الحيض ستّة أيّامٍ بلياليها أو سبعة . واختلفوا في أدنى مدّة الحيض وأكثرها على أقوالٍ تفصيلها في مصطلح : ( حيض ف 11 , وطهر ف 4 ) .
مدّة الطهر :
10 - يرى الفقهاء أنّه لا حدّ لأكثر الطهر وأنّ غالب مدّته عند الشّافعيّة والحنابلة أربعة وعشرون يوماً , أو ثلاثة وعشرون يوماً بلياليها .
واختلفوا في أقلّ مدّة الطهر بين الحيضتين على أقوالٍ :
فذهب الحنفيّة والمالكيّة على المشهور والشّافعيّة إلى أنّ أقلّ طهرٍ بين حيضتين خمسة عشر يوماً بلياليها , وذهب الحنابلة إلى أنّ أقلّ الطهر بين حيضتين ثلاثة عشر يوماً .
والتّفصيل في مصطلح : ( طهر ف 4 , حيض ف 24 ) .
مدّة النّفاس :
11 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا حدّ لأقلّ النّفاس .
أمّا أكثره فقد ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ أكثر مدّة النّفاس أربعون يوماً .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة : إلى أنّ أكثر مدّة النّفاس ستون يوماً , وغالبه أربعون يوماً . والتّفصيل في مصطلح : ( نفاس ) .
مدّة الإجارة :
12 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الإجارة الّتي لا تنضبط المنفعة فيها إلا ببيان المدّة تذكر فيها المدّة ، وليس لمدّة الإجارة حد أقصى عند جمهور الفقهاء .
وإن وقعت الإجارة على مدّةٍ يجب أن تكون معلومةً .
وإن قدّرت مدّة الإجارة بسنين ولم يبيّن نوعها حمل على السّنة الهلاليّة لأنّها معهودة في الشّرع .
والتّفصيل في : ( إجارة ف 94 - 97 ) .
مدّة التّأجيل للعنّين :
13 - إذا عجز الزّوج عن جماع زوجته وثبتت عنّته ضرب له القاضي سنةً بطلب المرأة , كما فعله عمر رضي الله عنه وتابعه العلماء عليه , فإذا مضت السّنة ولا إصابة علمنا أنّه خِلقي , فيفرّق القاضي بينهما .(/1)
وتبدأ السّنة من وقت التّأجيل , والتّفصيل في مصطلح : ( عنّة ف 6 وما بعدها ) .
مدّة تربص زوجة الغائب والمفقود :
14 - اختلف الفقهاء في مدّة تربص زوجة الغائب والمفقود قبل التّفريق بينهما على أقوالٍ ينظر تفصيلها في مصطلح : ( طلاق ف 87 - 92 , وغيبة ف 3 , ومفقود ) .
مدّة الخيار في ردّ المصرّاة :
15 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ التّصرية عيب ترد به المصرّاة , إلا أنّهم اختلفوا في مدّة الخيار على أقوالٍ تنظر في مصطلح : ( تصريةٍ ف 8 ) .
اشتراط المدّة في عقد المزارعة :
16 - يشترط لعقد المزارعة عند من يقول بمشروعيتها ولزومها من الفقهاء : أن تكون بمدّة معلومةٍ , فلا تصح المزارعة إلا ببيان المدّة , وأن تكون معلومةً , وأن تكون زمناً يتمكّن فيه من الزّراعة , فإن كانت زمناً لا يتمكّن فيه من الزّراعة فسد العقد , وأن تكون مدّةً يعيش فيها أحدهما غالباً .
والتّفصيل في : ( مزارعة ) .
مدّة الصّلب :
17 - اختلف الفقهاء في المدّة الّتي يبقى فيها المحارب المصلوب على الخشبة بعد قتله : فذهب الحنفيّة في ظاهر الرّواية والشّافعيّة في الأصحّ إلى أنّها ثلاثة أيّامٍ , وقيّد الشّافعيّة ذلك بما إذا لم يخف التّغير أو الانفجار قبلها وإلا أنزل وجوباً .
وقال الحنابلة : يصلب قدر ما يشتهر أمره ، وعند المالكيّة ينزل إذا خيف تغيّره .
( ر : حرابة ف 21 ) .
مدّة تعريف اللقطة :
18 - إذا التقط إنسان لقطةً وجب عليه , تعريفها سنةً أو مدّةً يغلب على ظنّه أنّ صاحبها لا يطلبها بعد ذلك , فإن كان ما التقطه ممّا لا يبقى عاماً ولا يبقى بعلاج ولا غيره - كالفاكهة الّتي لا تجفّف - فيخيّر بين أكله وبيعه وحفظ ثمنه , فإن ظهر صاحبه ضمنه له ولا يجوز إبقاء هذه اللقطة , فإن تركها حتّى تلفت ضمنها , وإن كان ممّا يبقى بعلاج أو غيره ففي ذلك تفصيل ينظر في مصطلح : ( لقطة ) .
مدّة الهدنة :
19 - اختلف الفقهاء في مدّة موادعة أهل الحرب ومهادنتهم على أقوالٍ تنظر في : ( هدنة ) .
مدّة الأمان :
20 - يشترط الشّافعيّة في مدّة الأمان أن لا تزيد عن أربعة أشهرٍ في القول الصّحيح عندهم , وفي قولٍ : يجوز الأمان ما لم يبلغ سنةً .
وللتّفصيل : ( ر : مستأمن ) .
مدّة تحجير الأرض للبناء :
21 - إذا احتجر أرضاً للبناء ولم يبن مدّةً يمكن البناء فيها ولا أحياها بغير ذلك بطل حقه فيها .
وللتّفصيل : ( ر : بناء ف 12 , وإحياء الموات ف 16 ) .
مدّة الحضانة :
22 - اختلف الفقهاء في مدّة الحضانة بالنّسبة لكلّ من الذّكر والأنثى .
والتّفصيل في مصطلح : ( حضانة ف 19 ) .
مدّة جواز نفي الولد :
23 - اختلف الفقهاء في قدر المدّة الّتي يجوز فيها نفي الولد :
فقال الشّافعيّة - في القول الجديد - والحنابلة : إنّها على الفور , فلا يجوز التّأخير إلا لعذر وبما جرت به العادة , لأنّه شرع لدفع ضررٍ محقّقٍ فكان على الفور كالرّدّ بالعيب .
وقال الحنفيّة : إذا نفى الرّجل ولد امرأته عقيب الولادة أو في الحال الّتي يقبل التّهنئة ويبتاع آلة الولادة صحّ نفيه ولاعن به , وإن نفاه بعد ذلك , لاعن ويثبت النّسب , ولو كان غائباً عن امرأته ولم يعلم بالولادة حتّى قدم له النّفي عند أبي حنيفة مقدار ما تقبل التّهنئة , وقالا : في مقدار مدّة النّفاس بعد القدوم , لأنّ النّسب لا يلزم إلا بعد العلم به , فصارت حالة القدوم كحالة الولادة .
مدّة حبس الجلالة :
24 - اختلف الفقهاء في مدّة حبس الجلالة , فقال البعض : تحبس النّاقة أربعين يوماً , والبقرة ثلاثين , والشّاة سبعةً , والدّجاجة ثلاثةً , وقيل : غير ذلك .
والتّفصيل في مصطلح : ( جلالة ف 3 ) .(/2)
مُدْرِك *
التّعريف :
1 - المدرِك - بكسر الرّاء - في اللغة اسم فاعلٍ من أدرك الرّجل إذا لحقه , وتدارك القوم : لحق آخرهم أوّلهم , ومنه قوله تعالى في التّنزيل : { حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً } .
والمدرك اصطلاحاً : هو الّذي أدرك الإمام بعد تكبيرة الإحرام .
قال الحصكفي : المدرك هو من صلّى الصّلاة كاملةً مع الإمام , قال ابن عابدين : أي أدرك جميع ركعاتها معه , سواء أدرك معه التّحريمة أو أدركه في جزءٍ من ركوع الرّكعة الأولى إلى أن قعد معه القعدة الأخيرة , سواء سلّم معه أو قبله .
كما يطلق الفقهاء لفظ المدرك على من أدرك جزءاً من الصّلاة في الوقت .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - المسبوق :
2 - المسبوق في اللغة اسم مفعولٍ من السّبق , وأصله التّقدم .
وفي الاصطلاح قال الجرجاني : هو الّذي أدرك الإمام بعد ركعةٍ أو أكثر .
وعرّفه الشّافعيّة بأنّه : هو الّذي لم يدرك مع الإمام محلّ قراءة الفاتحة المعتدلة .
والصّلة بين المدرك والمسبوق : أنّ كلاً منهما مقتدٍ بالإمام , غير أنّ المدرك مقتدٍ في الصّلاة كلّها والمسبوق مقتدٍ في بعضها .
ب - اللاحق :
3 - اللاحق في اللغة : اسم فاعلٍ من لحق , يقال : لحقت به ألحق لحاقاً : أدركته .
وفي الاصطلاح عرّفه الحنفيّة - وهو اصطلاح خاص بهم - بأنّه : من فاتته الرّكعات كلها أو بعضها بعد اقتدائه بعذر كغفلة وزحمةٍ , وسبق حدثٍ ونحوها , أو بغير عذرٍ بأن سبق إمامه في ركوعٍ وسجودٍ .
والصّلة بين المدرك واللاحق : أنّ المدرك لم يفته شيء من الصّلاة مع الإمام , أمّا اللاحق فقد فاتته الرّكعات كلها أو بعضها مع الإمام .
ما يتعلّق بالمدرك من أحكامٍ :
أوّلاً : المدرك لوقت الصّلاة بعد زوال الأسباب المانعة :
4 - اختلف الفقهاء في وجوب الصّلاة على المدرك لوقتها بعد زوال الأسباب المانعة لوجوبها بأقلّ من ركعةٍ وهى : الحيض والنّفاس , والكفر والصّبا , والجنون والإغماء , والنّسيان والسّفر والإقامة , ونحو ذلك .
ولا خلاف بين جمهور الفقهاء في أنّه إذا زالت هذه الأعذار , كأن طهرت الحائض والنفساء , وأسلم الكافر , وبلغ الصّبي , وأفاق المجنون والمغمى عليه , وتذكّر النّاسي , واستيقظ النّائم , وقد بقي من وقت الصّلاة قدر ركعةٍ أو أكثر وجب عليه أداء تلك الصّلاة لحديث : « من أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلع الشّمس فقد أدرك الصبح , ومن أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشّمس فقد أدرك العصر » , ولحديث : « من أدرك ركعةً من الصّلاة فقد أدرك الصّلاة » , ولم يخالفهم في هذا إلا زفر حيث قال : لا يجب عليه أداء تلك الصّلاة إلا إذا بقي من الوقت مقدار ما يؤدّي فيه الفرض لأنّ وجوب الأداء يقتضي تصور الأداء , وأداء كلّ الفرض في هذا القدر لا يتصوّر , فاستحال وجوب الأداء .
قال الكاساني : وهو اختيار القدوريّ من الحنفيّة .
وأمّا إذا أدرك أقلّ من ركعةٍ فاختلف جمهور الفقهاء , فقال الحنفيّة - عدا زفر ومن معه - والشّافعيّة في الرّاجح عندهم والحنابلة : إذا زالت الأسباب المانعة من وجوب الصّلاة , وقد بقي من وقت الصّلاة قدر تكبيرة الإحرام أو أكثر وجبت الصّلاة , لأنّ الصّلاة لا تتجزّأ , فإذا وجب البعض وجب الكل , فإذا لم يبق من الوقت إلا قدر ما يسع التّحريمة وجبت التّحريمة , ثمّ تجب بقيّة الصّلاة لضرورة وجوب التّحريمة فيؤدّيها في الوقت المتّصل به , ولأنّ القدر الّذي يتعلّق به الوجوب يستوي فيه قدر الرّكعة ودونها , كما أنّ المسافر إذا اقتدى بمتمّ في جزءٍ من صلاته يلزمه الإتمام .
ونصّ الشّافعيّة على أنّه لا يشترط لوجوب الصّلاة أن يدرك مع التّكبيرة قدر الطّهارة على الأظهر , ولكن يشترط بقاء السّلامة من الموانع بقدر فعل الطّهارة والصّلاة أخف ما يمكن , فلو عاد المانع قبل ذلك كأن بلغ ثمّ جنّ لم تجب الصّلاة .
وقال الحنفيّة : ما يتعلّق من الوجوب بمقدار التّحريمة في حقّ الحائض هو إذا كانت أيّامها عشراً , فأمّا إذا كانت أيّامها دون العشرة فإنّما تجب عليها الصّلاة إذا طهرت وعليها من الوقت مقدار ما تغتسل فيه , فإن كان عليها من الوقت ما لا تستطيع أن تغتسل فيه , أو لا تستطيع أن تتحرّم للصّلاة فيه فليس عليها تلك الصّلاة , حتّى لا يجب عليها القضاء . والفرق أنّ أيّامها إذا كانت أقلّ من عشرةٍ لا يحكم بخروجها من الحيض بمجرّد انقطاع الدّم ما لم تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاةٍ تصير تلك الصّلاة ديناً عليها , وإذا كانت أيّامها عشرةً بمجرّد الانقطاع يحكم بخروجها من الحيض , فإذا أدركت جزءاً من الوقت يلزمها قضاء تلك الصّلاة , سواء تمكّنت من الاغتسال أو لم تتمكّن , بمنزلة كافرٍ أسلم وهو جنب أو صبيٍّ بلغ بالاحتلام في آخر الوقت فعليه قضاء تلك الصّلاة , سواء تمكّن من الاغتسال في الوقت أو لم يتمكّن .
وذهب المالكيّة وهو قول عند الشّافعيّة إلى أنّه إذا ارتفعت الأسباب المانعة لوجوب الصّلاة وقد بقي من الوقت ما يسع أقلّ من ركعةٍ لم تجب الصّلاة , فيشترط عندهم أن يدرك بعد ارتفاع الأعذار قدر ركعةٍ أخفّ ما يقدر عليه أحد , لمفهوم حديث : « من أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلع الشّمس فقد أدرك الصبح » , ولأنّه إدراك تعلّق به إدراك الصّلاة فلم يكن بأقلّ من ركعةٍ .
كما أنّ الجمعة لا تدرك إلا بركعة .(/1)
قال المالكيّة : يعتبر إدراك أصحاب الأعذار بعد زوال الأعذار ومقدار فعل الطّهارة , وقال ابن القاسم منهم : لا تعتبر الطّهارة في الكافر , أمّا الشّافعيّة فلا يشترط عندهم أن يدرك مع الرّكعة قدر الطّهارة على الأظهر , فإن لم يبق من الوقت عقب زوال العذر زمن يسع الوضوء إن كان حدثه أصغر , أو الغسل إن كان حدثه أكبر - زيادةً على زمن الرّكعة - لم تجب الصّلاة عند المالكيّة .
ثانياً : وجوب الظهر بإدراك العصر ,
ووجوب المغرب بإدراك وقت العشاء :
5 - ذهب الشّافعيّة في الأظهر والحنابلة وهو قول جماعةٍ من السّلف إلى أنّه إذا ارتفعت الأسباب المانعة لوجوب الصّلاة في وقت صلاة العصر , أو في وقت صلاة العشاء وجبت صلاة الظهر في الصورة الأولى وصلاة المغرب في الثّانية , فإذا أسلم الكافر أو بلغ الصّبي قبل أن تغرب الشّمس وجب عليهما صلاة الظهر والعصر , وإن بلغ الصّبي أو أسلم الكافر أو طهرت الحائض والنفساء قبل أن يطلع الفجر وجب على كلٍّ منهم صلاة المغرب بالإضافة إلى صلاة العشاء , لما روي عن عبد الرّحمن بن عوفٍ وعبد اللّه بن عبّاسٍ رضي الله عنهم قالا في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر بركعة تصلّي المغرب والعشاء , فإذا طهرت قبل أن تغرب الشّمس صلّت الظهر والعصر جميعاً , ولأنّ وقت الثّانية وقت الأولى حال العذر , فإذا أدركه المعذور لزمه فرضها كما يلزمه فرض الثّانية .
وهذا في الجملة , إلا أنّهم اختلفوا في القدر الّذي يدرك به الثّانية :
فذهب الشّافعيّة في الأظهر والحنابلة إلى وجوب الظهر مع العصر بإدراك قدر تكبيرةٍ آخر وقت العصر , ووجوب المغرب مع العشاء بإدراك ذلك آخر وقت العشاء , لاتّحاد وقتي الظهر والعصر , ووقتي المغرب والعشاء في العذر , ففي الضّرورة أولى , ولأنّ الثّانية تجب بإدراك هذا القدر فوجبت به الأولى , ولأنّه إدراك فاستوى فيه القليل والكثير , كإدراك المسافر صلاة المقيم .
وقال المالكيّة : إذا ارتفعت الأعذار وهي الحيض والنّفاس والجنون والإغماء والكفر والصّبا والنّسيان وقد بقي من الوقت - أي وقت الثّانية - ما يسع أقلّ من ركعةٍ سقطت الصّلاتان , وإن بقي من الوقت ما يسع ركعةً فأكثر إلى تمام صلاةٍ واحدةٍ - إمّا تامّةً في الحضر , وإمّا مقصورةً في السّفر - وجبت الأخيرة وسقطت الأولى , وإن بقي زيادة إلى ذلك بمقدار ركعةٍ من الصّلاة الأخرى - إمّا تامّةً حضريّةً , وإمّا مقصورةً سفريّةً - وجبت الصّلاتان .
قالوا : وبيان ذلك : أنّه إذا طهرت الحائض أو أفاق المجنون أو بلغ الصّبي أو أسلم الكافر وقد بقي إلى غروب الشّمس خمس ركعاتٍ في الحضر , وثلاث في السّفر وجبت عليهم الظهر والعصر , وإن بقي أقل من ذلك إلى ركعةٍ وجبت العصر وحدها , وإن بقي أقل من ركعةٍ سقطت الصّلاتان , وفي المغرب والعشاء إن بقي إلى طلوع الفجر بعد ارتفاع الأعذار خمس ركعاتٍ وجبت الصّلاتان , وإن بقي ثلاث سقطت المغرب مطلقاً على المذهب في السّفر والحضر , وعند ابن الحكم وسحنونٍ تسقط المغرب حال الإقامة ولا تسقط في السّفر وإن بقي أربع فعلى المذهب تلزمه الصّلاتان , وقيل : تسقط المغرب , لأنّه أدرك قدر العشاء خاصّةً .
وأمّا مقابل الأظهر لدى الشّافعيّة فإنّه لا تجب الظهر والمغرب بإدراك قدر تكبيرةٍ في آخر وقت العصر والعشاء , بل لا بدّ من زيادة أربع ركعاتٍ للظهر في المقيم , وركعتين للمسافر , وثلاثٍ للمغرب على التّكبيرة على القول الأوّل , وعلى ركعةٍ على القول الثّاني , لأنّ جمع الصّلاتين الملحق به إنّما يتحقّق إذا تمّت الأولى وشرع في الثّانية في الوقت . وذهب الحنفيّة والحسن البصري والثّوري إلى أنّه : لا تجب على المدرك إلا الصّلاة الّتي أدركها , لأنّ وقت الأولى خرج في حال عذره فلم تجب , كما لو لم يدرك من وقت الثّانية شيئاً .
ثالثاً : حصول العذر للمدرك قبل فعل الفرض :
6 - اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة بناءً على أنّ الصّلاة هل تجب في أوّل الوقت أو في آخره ؟
فمنهم من يرى أنّها تجب في أوّل الوقت وهم الشّافعيّة والحنابلة , فكلّما دخل الوقت أو مضى منه ما يسع لأداء الفرض - على اختلافٍ بينهم - وجب عليه القضاء .
فقال الشّافعيّة : لو حاضت المرأة أو نفست أوّل الوقت , أو طرأ على المكلّف جنون أو إغماء في أوّل الوقت , واستغرق هذا المانع بقيّة الوقت , فإن أدرك من الوقت قبل حدوث المانع قدر الفرض وقدر طهرٍ لا يصح تقديمه على الوقت كتيمم وجبت عليه تلك الصّلاة , فيقضيها عند زوال العذر , لأنّها تجب في ذمّته ولا تسقط بما طرأ بعد وجوبها , كما لو هلك النّصاب بعد تمام الحول وإمكان الأداء , فإنّ الزّكاة لا تسقط به , ويجب الفرض الّذي قبلها أيضاً , إن كان يجمع معها وأدرك قدره لتمكنه من فعلها , ولا تجب الصّلاة الثّانية الّتي تجمع معها إذا خلا من الموانع ما يسعها , لأنّ وقت الأولى لا يصلح للثّانية إلا إذا صلاهما جمعاً بخلاف العكس , وأيضاً وقت الأولى في الجمع وقت للثّانية تبعاً بخلاف العكس , بدليل عدم وجوب تقديم الثّانية في جمع التّقديم وجواز تقديم الأولى , بل وجوبه على وجهٍ في جمع التّأخير .
أمّا الطّهارة الّتي يمكن تقديمها على الوقت فلا يعتبر مضي زمنٍ يسعها .
وإن لم يدرك من الوقت قدر فعل الفرض وما يتعلّق به فلا وجوب في ذمّته لعدم التّمكن من فعلها , لأنّه لم يدرك من وقتها ما يمكنه أن يصلّي فيه , كما لو طرأ العذر قبل دخول الوقت , وكما لو هلك النّصاب قبل التّمكن من الأداء وهذا اختيار أبي عبد اللّه بن بطّة من الحنابلة .(/2)
وقال الحنابلة : لو أدرك جزءاً من وقت الصّلاة ثمّ جنّ أو حاضت المرأة لزم القضاء - بعد زوال العذر - لأنّها صلاة وجبت عليه , فوجب قضاؤها إذا فاتته كالّتي أمكن أداؤها , وفارقت الّتي طرأ العذر قبل دخول وقتها : فإنّها لم تجب , وقياس الواجب على غيره غير صحيحٍ , قالوا : وإن أدرك المكلّف من وقت الأولى من صلاتي الجمع قدراً تجب به ثمّ جنّ , أو كانت امرأة فحاضت أو نفست ثمّ زال العذر بعد وقتها لم تجب الثّانية في إحدى الرّوايتين , ولا يجب قضاؤها .
وهذا اختيار ابن حامدٍ والأخرى : يجب ويلزم قضاؤها , لإنّها إحدى صلاتي الجمع فوجبت بإدراك جزءٍ من وقت الأخرى كالأولى .
وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ حدوث العارض أو العذر بعد إدراك الوقت وقبل فعل الصّلاة يسقط الفرض , وعلّل الحنفيّة ذلك بأنّ الصّلاة لا تجب في أوّل الوقت على التّعيين , وإنّما تجب في جزءٍ من الوقت غير معيّنٍ , وإنّما التّعيين إلى المصلّي من حيث الفعل , حتّى أنّه إذا شرع في أوّل الوقت تجب في أوّل الوقت , وكذا إذا شرع في وسطه أو في آخره فتجب في وسطه أو آخره , فإذا لم يعيّن بالفعل حتّى بقي من الوقت مقدار ما يسع أداء الفرض تعيّن ذلك الوقت للأداء فعلاً .
قالوا : فإذا حاضت المرأة أو نفست في آخر الوقت أو جنّ العاقل أو أغمي عليه أو ارتدّ المسلم والعياذ باللّه , وقد بقي من الوقت ما يسع الفرض لا يلزمهم الفرض , لأنّ الوجوب يتعيّن في آخر الوقت إذا لم يوجد الأداء قبله فيستدعي الأهليّة فيه لاستحالة الإيجاب على غير الأهل ولم يوجد .
وقال المالكيّة : المدرك لوقت الصّلاة إن حصل له عذر كالجنون والإغماء والحيض والنّفاس غير النّوم والنّسيان - قبل أداء الصّلاة - وقد بقي من طلوع الشّمس مثلاً ركعة سقط الصبح , وإن حصل والباقي للغروب أو طلوع الفجر ما يسع أولى المشتركتين كالظهر والعصر أو المغرب والعشاء وركعةً من ثانيتهما سقطتا , وإن كان أقلّ من هذا أسقط الثّانية فقط .
ولا يقدّر الطهر في الإسقاط على المعتمد خلافاً للّخميّ .
رابعاً : ما تدرك به الجماعة والجمعة :
7 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا أدرك المأموم الإمام وهو راكع وكبّر وهو قائم ثمّ ركع , فإن وصل المأموم إلى حدّ الركوع المجزئ قبل أن يرفع الإمام عن حدّ الركوع المجزي فقد أدرك الرّكعة , وحسبت له , وحصلت له فضيلة الجماعة وأدرك بها صلاة الجمعة لحديث : « من أدرك الركوع من الرّكعة الأخيرة يوم الجمعة فليضف إليها أخرى , ومن لم يدرك الركوع من الرّكعة الأخرى فليصلّ , الظهر أربعاً » .
أمّا الجماعة ذاتها فقد اختلف الفقهاء فيما تدرك به على مذاهب ينظر تفصيلها في مصطلح : ( صلاة الجماعة ف 14 ) .(/3)
مُراعَاة الخِلاف *
التّعريف :
1 – المراعاة في اللغة مصدر راعاه : إذا لاحظه وراقبه , وراعيت الأمر : نظرت في عاقبته .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن معناه اللغويّ .
والخلاف في اللغة : المضادّة .
والخلاف في الاصطلاح : منازعة تجري بين المتعارضين لتحقيق حقٍّ أو إبطال باطلٍ .
ومراعاة الخلاف عند الفقهاء عبارة عن إعمال دليلٍ في لازم مدلول الّذي أعمل في نقيضه دليل آخر .
وقال أبو العبّاس القبّاب : حقيقة مراعاة الخلاف هو إعطاء كلّ واحدٍ من الدّليلين حكمه . وكثيراً ما يعبّر الفقهاء عن مراعاة الخلاف بالخروج من الخلاف .
الحكم التّكليفي :
2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى استحباب مراعاة الخلاف في الجملة باجتناب ما اختلف في تحريمه وفعل ما اختلف في وجوبه .
ولبعض الفقهاء في المسألة تفصيل نذكره فيما يلي :
قال أبو العبّاس القبّاب المالكي : اعلم أنّ مراعاة الخلاف من محاسن هذا المذهب , وحقيقة مراعاة الخلاف , هو إعطاء كلّ واحدٍ من الدّليلين حكمه .
وبسطه : أنّ الأدلّة الشّرعيّة منها ما تتبيّن قوّته تبيناً يجزم النّاظر فيه بصحّة أحد الدّليلين والعمل بإحدى الأمارتين فهاهنا لا وجه لمراعاة الخلاف ولا معنى له , ومن الأدلّة ما يقوى فيها أحد الدّليلين وتترجّح فيها إحدى الأمارتين قوّةً ما ورجحاناً لا ينقطع معه تردد النّفس وتشوفها إلى مقتضى الدّليل الآخر فهاهنا تحسن مراعاة الخلاف , ويعمل ابتداءً على الدّليل الأرجح , لمقتضى الرجحان في غلبة ظنّه , فإذا وقع عقد أو عبادة على مقتضى الدّليل الآخر لم يفسخ العقد , ولم تبطل العبادة , لوقوع ذلك على موافقة دليلٍ له في النّفس اعتبار .
وليس إسقاطه بالّذي ينشرح له الصّدر , فهذا معنى قولنا : إعطاء كلّ واحدٍ من الدّليلين حكمه , فيقول ابتداءً بالدّليل الّذي يراه أرجح , ثمّ إذا وقع العمل على مقتضى الدّليل الآخر راعى ما لهذا الدّليل من القوّة الّتي لم يسقط اعتبارها في نظره جملةً , فهو توسط بين موجب الدّليلين .
ونقل الزّركشي عن أبي محمّدٍ بن عبد السّلام الشّافعيّ أنّه قال : الخلاف أقسام :
الأوّل : أن يكون في التّحليل والتّحريم فالخروج من الخلاف بالاجتناب أفضل .
الثّاني : أن يكون الخلاف في الاستحباب والإيجاب , فالفعل أفضل .
الثّالث : أن يكون الخلاف في الشّرعيّة , كقراءة البسملة في الفاتحة فإنّها مكروهة عند مالكٍ واجبة عند الشّافعيّ وكذلك صلاة الكسوف على الهيئة المنقولة في الحديث فإنّها سنّة عند الشّافعيّ وأنكرها أبو حنيفة فالفعل أفضل .
والضّابط أنّ مأخذ الخلاف , إن كان في غاية الضّعف فلا نظر إليه , ولا سيّما إذا كان ممّا ينقض الحكم بمثله , وإن تقاربت الأدلّة بحيث لا يبعد قول المخالف كلّ البعد فهذا ممّا يستحب الخروج منه حذراً من كون الصّواب مع الخصم .
وقال السيوطيّ : شكّك بعض المحقّقين على قولنا بأفضليّة الخروج من الخلاف فقالوا : الأولويّة والأفضليّة إنّما تكون حيث سنّة ثابتة , واذا اختلفت الأمّة على قولين : قول بالحلّ , وقول بالتّحريم واحتاط المستبرئُ لدينه وجرى على التّرك حذراً من ورطات الحرمة لا يكون فعله ذلك سنّةً , لأنّ القول بأنّ هذا الفعل يتعلّق به الثّواب من غير عقابٍ على التّرك لم يقل به أحد , والأئمّة كما ترى قائل بالإباحة , وقائل بالتّحريم فمن أين الأفضليّة ؟ وأجاب ابن السبكيّ : إنّ أفضليّة الخروج من الخلاف ليست لثبوت سنّةٍ خاصّةٍ فيه , بل لعموم الاحتياط والاستبراء للدّين , وهو مطلوب شرعاً , فكان القول بأنّ الخروج من الخلاف أفضل , ثابتاً من حيث العموم واعتماده من الورع المطلوب شرعاً .
شروط مراعاة الخلاف :
3 - صرّح الحنفيّة بأنّ مراتب ندب مراعاة الخلاف تختلف بحسب قوّة دليل المخالف وضعفه , وقالوا : يندب الخروج من الخلاف , لكن بشرط عدم لزوم ارتكاب مكروه مذهبه , قال ابن عابدين في تعليقه على هذا الشّرط : بقي : هل المراد بالكراهة هنا ما يعم التّنزيهيّة ؟ توقّف فيه الطّحطاوي ، والظّاهر : نعم , كالتّغليس في صلاة الفجر , فإنّه سنّة عند الشّافعيّ مع أنّ الأفضل عندنا الإسفار فلا يندب مراعاة الخلاف فيه , وكصوم يوم الشّكّ فإنّه الأفضل عندنا , وعند الشّافعيّ حرام , ولم أر من قال : يندب عدم صومه مراعاةً للخلاف , وكالاعتماد وجلسة الاستراحة , السنّة عندنا تركهما , ولو فعلهما لا بأس , فيكره فعلهما تنزيهاً مع أنّهما سنّتان عند الشّافعيّ .
وشروط مراعاة الخلاف عند الشّافعيّة - كما ذكرها الزّركشي - هي :
أ - أن يكون مأخذ المخالف قوياً , فإن كان واهياً لم يراع .
ب - أن لا تؤدّي مراعاة الخلاف إلى خرق الإجماع كما نقل عن ابن سريجٍ أنّه كان يغسل أذنيه مع الوجه , ويمسحهما مع الرّأس , ويفردهما بالغسل مراعاةً لمن قال : إنّهما من الوجه أو الرّأس أو عضوان مستقلان , فوقع في خلاف الإجماع , إذ لم يقل أحد بالجمع . ج - أن يكون الجمع بين المذاهب ممكناً , فإن لم يكن كذلك فلا يترك الرّاجح عند معتقده لمراعاة المرجوح , لأنّ ذلك عدول عمّا وجب عليه من اتّباع ما غلب على ظنّه وهو لا يجوز قطعاً , ومثاله الرّواية عن أبي حنيفة في اشتراط المصر الجامع في انعقاد الجمعة , لا يمكن مراعاته عند من يقول إنّ أهل القرى إذا بلغوا العدد الّذي ينعقد به الجمعة لزمتهم ولا يجزيهم الظهر , فلا يمكن الجمع بين القولين .(/1)
ومثلها أيضاً قول أبي حنيفة : إنّ أوّل وقت العصر مصير ظلّ الشّيء مثليه , وقول الإصطخريّ من أصحابنا : هذا آخر وقت العصر مطلقاً ويصير بعده قضاءً وإن كان هذا وجهًا ضعيفاً غير أنّه لا يمكن الخروج من خلافهما جميعاً .
وكذلك الصبح فإنّ الإصطخريّ يخرج عنده وقت الجواز بالإسفار , وذلك الوقت عند أبي حنيفة هو الأفضل .
وكذلك يضعف الخروج من الخلاف إذا أدّى إلى المنع من العبادة لقول المخالف بالكراهة , أو المنع من العبادة لقول المخالف بالكراهة أو المنع ، كالمشهور من قول مالكٍ : إنّ العمرة لا تتكرّر في السّنة , وقول أبي حنيفة : إنّها تكره للمقيم بمكّة في أشهر الحجّ , وليس التّمتع مشروعاً له , وربّما قالوا : إنّها تحرم , فلا ينبغي للشّافعيّ مراعاة ذلك , لضعف مأخذ القولين ولما يفوته من كثرة الاعتمار , وهو من القربات الفاضلة .
أمّا إذا لم يكن كذلك فينبغي الخروج من الخلاف لا سيّما إذا كان فيه زيادة تعبدٍ كالمضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة يجب عند الحنفيّة وكذلك الاستنشاق عند الحنابلة في الوضوء , والغسل من ولوغ الكلب ثماني مرّاتٍ والغسل من سائر النّجاسات ثلاثاً لخلاف أبي حنيفة وسبعاً لخلاف أحمد والتّسبيح في الركوع والسجود لخلاف أحمد في وجوبها , والتّبييت في نيّة صوم النّفل , فإنّ مذهب مالكٍ وجوبه , وإتيان القارن بطوافين وسعيين مراعاةً لخلاف أبي حنيفة والموالاة بين الطّواف والسّعي لأنّ مالكاً يوجبها , وكذلك التّنزه عن بيع العينة ونحوه من العقود المختلف فيها , وأصل هذا الاحتياط قول الشّافعيّ في مختصر المزني : فأمّا أنا فأحب أن لا أقصر في أقلّ من ثلاثة أيّامٍ احتياطاً على نفسي .
قال الماورديّ : أفتى بما قامت الدّلالة عنده عليه أي من مرحلتين , ثمّ احتاط لنفسه اختياراً لها , وقال القاضي أبو الطّيّب : أراد خلاف أبي حنيفة .
الخروج من الخلاف بإتيان ما لا يعتقد وجوبه :
4 - إذا وقع الخلاف في وجوب شيءٍ , فأتى به من لا يعتقد وجوبه احتياطاً , كالحنفيّ ينوي في الوضوء ويبسمل في الصّلاة , فهل يخرج من الخلاف وتصير العبادة منه صحيحةً بالإجماع ؟ .
قال الزّركشي نقلاً عن أبي إسحاق الإسفراييني : لا يخرج به من الخلاف لأنّه لم يأت به على اعتقاد وجوبه , ومن اقتدى به ممّن يخالفه لا تكون صلاته صحيحةً بالإجماع .
وقال الجمهور : بل يخرج لأجل وجود الفعل , وعلى هذا فلو كان هناك حنفي هذا حاله وآخر يعتقد وجوبه , فالصّلاة خلف الثّاني أفضل , لأنّه لا يخرج بالأوّل عن الخلاف بالإجماع , فلو قلّد فيه فكذلك للخلاف في امتناع التّقليد .
مراعاة الخلاف فيما بعد وقوع المختلف فيه :
5 - قال الشّاطبي عند الكلام عن النّظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً : هذا الأصل ينبني عليه قواعد منها : قاعدة مراعاة الخلاف , وذلك أنّ الممنوعات في الشّرع إذا وقعت فلا يكون إيقاعها عن المكلّف سبباً في الحيف عليه بزائد عمّا شرع له من الزّواجر أو غيرها كالزّاني إذا حدّ لا يزاد عليه بسبب جنايته لأنّه ظلم له , وكونه جانياً لا يجنى عليه زائداً على الحدّ الموازي لجنايته إلى غير ذلك من الأمثلة الدّالّة على منع التّعدّي أخذاً من قوله تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وقوله : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } ونحو ذلك وإذا ثبت هذا فمن واقع منهياً عنه فقد يكون فيما يترتّب عليه من الأحكام زائد على ما ينبغي بحكم التّبعيّة لا بحكم الأصالة , أو مؤدٍّ إلى أمرٍ أشدّ عليه من مقتضى النّهي فيترك وما فعل من ذلك , أو نجيز ما وقع من الفساد على وجهٍ يليق بالعدل , نظراً إلى أنّ ذلك الواقع واقع المكلّف فيه دليلاً على الجملة , وإن كان مرجوحاً فهو راجح بالنّسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه , لأنّ ذلك أولى من إزالتها مع دخول ضررٍ على الفاعل أشدّ من مقتضى النّهي , فيرجع الأمر إلى أنّ النّهي كان دليله أقوى قبل الوقوع , ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع لما اقترن به من القرائن المرجّحة كما وقع التّنبيه عليه في حديث : « أيما امرأةٍ نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل , فنكاحها باطل , فنكاحها باطل , فإن دخل بها فلها المهر بما استحلّ من فرجها فإن اشتجروا , فالسلطان ولي من لا وليّ له » .
وهذا تصحيح للمنهيّ عنه من وجهٍ , ولذلك يقع فيه الميراث ويثبت النّسب للولد , وإجراؤهم النّكاح الفاسد مجرى الصّحيح في هذه الأحكام , وفي حرمة المصاهرة وغير ذلك دليل على الحكم بصحّته على الجملة وإلا كان في حكم الزّنا وليس في حكمه باتّفاق , فالنّكاح المختلف فيه قد يراعى فيه الخلاف فلا تقع فيه الفرقة إذا عثر عليه بعد الدخول مراعاةً لما يقترن بالدخول من الأمور الّتي ترجّح جانب التّصحيح .
هذا كله نظر إلى ما يئُول إليه ترتب الحكم بالنّقض والإبطال من إفضائه إلى مفسدةٍ توازي مفسدة النّهي أو تزيد .(/2)
مُرور *
التّعريف :
1 - المرور لغةً : الاجتياز , يقال : مررت بزيد وعليه مرّاً ومروراً وممرّاً : اجتزت , ومرّ الدّهر مرّاً ومروراً : ذهب .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
الوقوف :
2 - الوقوف لغةً : السكون , يقال : وقفت الدّابّة تقف وقفاً ووقوفاً : سكنت .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
والصّلة أنّ المرور ضدّ الوقوف :
الأحكام المتعلّقة بالمرور :
يتعلّق بالمرور أحكام منها :
المرور بين يدي المصلّي :
3 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المرور وراء سترة المصلّي لا يضر , وأنّ المرور بين المصلّي وسترته منهي عنه , فيأثم المار بين يديه , لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « لو يعلم المار بين يدي المصلّي ماذا عليه من الإثم لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمرّ بين يديه » .
وللفقهاء في إثم المصلّي أو المارّ أو إثمهما معاً تفصيل ينظر في : ( سترة المصلّي ف / 12 ) .
موضع المرور المنهيّ عنه :
4 - يرى الحنفيّة في الأصحّ أنّ الموضع الّذي يكره المرور فيه هو موضع صلاة المصلّي من قدمه إلى موضع سجوده , هذا حكم الصّحراء , فإن كان في المسجد إن كان بينهما حائل كإنسان أو أسطوانة لا يكره , وإن لم يكن بينهما حائل والمسجد صغير كره في أيّ مكان كان , وقالوا : المسجد الكبير كالصّحراء .
وقال المالكيّة : إن كان للمصلّي سترة حرم المرور بينه وبين سترته , ولا يحرم المرور من ورائها , وإن كان يصلّي لغير سترة حرم المرور في قدر ركوعه وسجوده , وهو الأوفق بيسر الدّين , وقال بعضهم : يحرم المرور بين يدي المصلّي في قدر رمية حجر أو سهم أو رمح .
وقال الشّافعيّة : يحرم المرور بين المصلّي وسترته إذا كان بينهما قدر ثلاثة أذرع فأقلّ . وقال الحنابلة : يحرم المرور بين المصلّي وسترته ولو كانت السّترة بعيدةً من المصلّي , وإن لم تكن سترة فيحرم المرور في قدر ثلاثة أذرع يد من موضع قدم المصلّي .
المرور أمام المصلّي في المسجد الحرام :
5 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا يمنع المرور بين يدي المصلّي خلف المقام من المسجد الحرام ولا في حاشية المطاف وذلك لما روي « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان يصلّي ممّا يلي باب بني سهم والنّاس يمرون بين يديه » وليس بينهما سترة , وهو محمول على الطّائفين لأنّ الطّواف صلاة فصار كمن بين يديه صفوف من المصلّين .
قال المالكيّة : يرخّص بالمرور في المسجد الحرام ولو كان للمارّ مندوحة , ويكره للطّائف إن كانت له مندوحة إن صلّى لسترة في المسجد الحرام , وإن صلّى لغير سترة فيجوز المرور مطلقاً .
وتوسّع الحنابلة في ذلك فقالوا : لا يرد المار بين يدي المصلّي بمكّة المشرّفة , قال أحمد : لأنّ مكّة ليست كغيرها , لكثرة النّاس وازدحامها بهم , فمنعهم تضييق عليهم , لما روي « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم صلّى بمكّة والنّاس يمرون بين يديه وليس بينهما سترة » , وألحق الموفّق بمكّة سائر الحرم .
قال الرّحيبانيّ : ويتّجه إنّما يتمشّى كلام الموفّق في زمن الحجّ لكثرة النّاس واضطرارهم , وأمّا في غير أيّام الحجّ فلا حاجة للمرور بين يدي المصلّي للاستغناء عنه , وكلام أحمد يمكن حمله على الصّلاة في المطاف أو قريباً منه .
ضمان ما ينشأ عن مقاتلة المارّ :
6 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إن أدّى الدّفع المشروع من المصلّي للمارّ بين يديه إلى موته - مع التّدرج المنصوص عليه في الدّفع - لا يضمنه المصلّي ودمه هدر , وذلك لحديث : « إذا صلّى أحدكم إلى شيء يستره من النّاس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه, فإن أبى فليقاتله فإنّما هو شيطان » أي فيه شيطان أو هو شيطان الإنس .
ويرى الحنفيّة أنّ مقاتلة المارّ غير مأذون بها , فإن أدّت المقاتلة إلى قتل المارّ كان قتله جنايةً , فيلزم المصلّي موجبها من دية أو قود .
وقال المالكيّة : يدفع المصلّي المارّ دفعاً خفيفاً لا يشغله فإن كثر أبطل , ولو دفعه دفعاً مأذوناً فيه فسقط منه دينار أو انخرق ثوبه ضمن , ولو مات المار بدفع المصلّي كانت دية المارّ على عاقلة المصلّي , وذلك لأنّه لمّا كان الدّفع مأذوناً فيه في الجملة كان كالخطأ .
أثر المرور بين يدي المصلّي في قطع الصّلاة ونقصها :
7 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ المرور بين المصلّي وسترته لا يقطع الصّلاة ولا يبطلها , ولو كان بالصّفّة الّتي توجب الإثم على المارّ , وذلك لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « لا يقطع الصّلاة شيء , وادرءوا ما استطعتم » , وقالت عائشة رضي اللّه عنها : « كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي من اللّيل وأنا معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة » , ولحديث « أنّ زينب بنت أمّ سلمة حين مرّت بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلم يقطع الصّلاة » .
وقال الحنابلة مثل ذلك , إلّا أنّهم استثنوا الكلب الأسود البهيم فقالوا : إنّه يقطع الصّلاة وأضاف الحنابلة : إنّ المرور بين يدي المصلّي ينقص الصّلاة ولا يقطعها , قال القاضي : ينبغي أن يحمل ذلك على من أمكنه الرّد فلم يفعل .
المرور بين يدي المأمومين :
8 - اختلف الفقهاء في حكم المرور بين يدي المأمومين , واختلافهم هذا فرع عن اختلافهم في سترة الإمام وفي الإمام , هل يكون أي منهما سترةً للمأمومين أو لا يكون ؟ .
والتّفصيل في مصطلح ( سترة المصلّي ف / 11 ) .
المرور أمام المصلّي في مكان مغصوب :(/1)
9 - نصّ الشّافعيّة : على أنّه إذا صلّى مسلم بسترة في مكان مغصوب لم يحرم المرور بينها وبينه ولم يكره , سواء وجد المار سبيلاً غيره أم لا .
وللحنابلة وجهان فيمن صلّى إلى سترة مغصوبة ومرّ من ورائها كلب أسود .
أحدهما : تبطل صلاته لأنّه ممنوع من نصبها والصّلاة إليها فوجودها كعدمها .
والثّاني : لا تبطل لقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : « يقي من ذلك مثل مؤخرة الرّحل » وهذا قد وجد .
المرور في ملك الغير :
10 - نصّ الحنفيّة على أنّ من أحيا أرضاً ميّتةً ثمّ أحاط الإحياء بجوانبها الأربعة من أربعة نفر على التّعاقب تعيّن مرور الأوّل في الأرض الرّابعة , وأمّا لو كان الإحياء جميعه لواحد فله أن يمرّ إلى أرضه من أيّ جانب .
ونصّ الشّافعيّة على أنّه يجوز المرور في ملك الغير بما جرّت به العادة ولم يضرّ وإن منعه.
المرور في الطّريق العامّ والخاصّ :
11 - الطّريق العام - وهي النّافذة - من المرافق العامّة , وللجميع الانتفاع بها بما لا يضر الآخرين باتّفاق الفقهاء ومنفعتها الأصليّة المرور فيها لأنّها وضعت لذلك , فيباح لهم الانتفاع بما وضع له وهو المرور بلا خلاف .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( طريق ف / 9 ) .
أما الطّريق غير النّافذ فملك لأهله , ولا يجوز لغير أهله التّصرف فيه إلّا برضاهم وإن لم يضرّ , لأنّه ملكهم فأشبه الدور .
وأهله من لهم حقّ المرور فيه إلى ملكهم من دار أو بئر أو فرن أو حانوت لا من لاصق جداره الدّرب من غير نفوذ باب فيه , لأنّ هؤُلاء هم المستحقّون الارتفاق فيه .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( طريق ف / 21 ) .
المرور في المسجد للمحدث :
12 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا يجوز دخول الحائض والنفساء والجنب إلى المسجد ولو مروراً من باب لباب , إلّا أن لا يجد بدّاً فيتيمّم ويدخل .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يمنع الجنب من العبور في المسجد .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( دخول ف / 6 - 8 ) .
المرور على العاشر :
13 - ينصب الإمام على المعابر في طرق الأسفار عشّارين للجباية ممّن يمر عليهم بأموال التّجارة من المسلمين وأهل الذّمّة وأهل الحرب إذا أتوا بأموالهم إلى بلاد الإسلام , فيأخذ من أهل الإسلام ما يجب عليهم من زكاة , ويأخذ من أهل الذّمّة نصف العشر , ويأخذ من أهل الحرب العشر .
والتّفصيل في مصطلح ( زكاة ف / 155 , وعشر ف / 13 وما بعدها ) .
أثر المرور بالوطن في قصر الصّلاة :
14 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو المذهب عند الشّافعيّة إلى أنّ مرور المسافر بوطنه يصيّره مقيماً بدخوله ويقطع حكم السّفر .
وذهب الحنابلة : إلى أنّ مرور المسافر بوطنه لا يقطع حكم السّفر , فلو أنّ رجلاً مقيماً ببغداد أراد الخروج إلى الكوفة , فعرضت له حاجة بالنّهروان , ثمّ رجع فمرّ ببغداد ذاهباً إلى الكوفة , صلّى ركعتين إذا كان يمر ببغداد مجتازاً لا يريد الإقامة بها .
ونصّ المالكيّة على أنّه من غلبته الرّيح بالمرور على وطنه لا يقطع حكم السّفر , إلّا إذا انضمّ لذلك دخول أو نيّة دخول .
ولو مرّ المسافر في طريقه على قرية أو بلدة له بها أهل وعشيرة فذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو خلاف الأظهر عند الشّافعيّة وقول عند أحمد : إلى أنّه يصير مقيماً من غير نيّة الإقامة ويتم صلاته لما روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال : « من تأهّل في بلد فليصلّ صلاة المقيم » .
وقال ابن عبّاس رضي اللّه عنهما : إذا قدمت على أهل لك أو مال فصلّ صلاة المقيم , ولأنّه مقيم ببلد فيه أهله فأشبه البلد الّذي سافر منه وقال الزهري : إذا مرّ بمزرعة له أتمّ . والقول الأظهر عند الشّافعيّة : أنّ مرور المسافر على قرية أو بلد له بها أهل وعشيرة لا ينهي سفره .
المرور بالماء وعدم الوضوء منه :
15 - قال الحنابلة : لو مرّ المسلمون بماء قبل الوقت أو كان معه الماء فأراقه قبل الوقت, ثمّ دخل الوقت وعدم الماء فلا إثم عليه لعدم تفريطه , لأنّه ليس مخاطباً بالطّهارة قبل دخول الوقت , وصلّى بالتّيمم ولا إعادة عليه , لأنّه أتى بما هو مكلّف به , وإن مرّ بالماء في الوقت وأمكنه الوضوء ولم يتوضّأ , ويعلم أنّه لا يجد غيره , حرم لتفريطه بترك ما هو واجب عليه بلا ضرورة , فإن لم يمكنه الوضوء أو توضّأ ثمّ انتقض وضوءه بعد مفارقة الماء وبعده عنه , أو كان لا يعلم أنّه لا يجد غيره فلا إثم عليه لعدم تفريطه .
ولو كان معه الماء فأراقه في الوقت حرم , لأنّه وسيلة إلى فوات الطّهارة بالماء الواجبة , وكذا لو باعه في الوقت أو وهبه فيه لغير محتاج لشرب حرم عليه ذلك .
ونصّ الحنفيّة على أنّ المتيمّم إذا مرّ بماء كاف لوضوئه فإن كان مستيقظاً بطل تيممه , وإن كان ناعساً أو نائماً متمكّناً لم يبطل تيممه عند الصّاحبين وهو الرّواية المصحّحة عن الإمام وعليها الفتوى لعجزه عن استعمال الماء , وفي رواية أخرى عن الإمام أنّه يبطل تيممه .
حقّ المرور :
16 - نصّ الحنفيّة على صحّة بيع حقّ المرور تبعاً للأرض بلا خلاف عندهم , ومقصوداً وحده في رواية , قال ابن عابدين نقلاً عن المضمرات : هو الصّحيح وعليه الفتوى , وفي رواية أخرى : لا يصح وصحّحها أبو اللّيث .
ونصّ الشّافعيّة على أنّه لا يصح بيع مسكن بلا ممر بأن لم يكن له ممر , أو كان ونفاه في بيعه لتعذر الانتفاع به , سواء تمكّن المشتري من اتّخاذ ممر له من شارع سواء ملكه أم لا, كما قاله الأكثرون , وشرط البغويّ عدم تمكنه من ذلك .(/2)
وإذا بيع عقار وخصّص المرور إليه بجانب اشترط تعيينه , فلو احتفّ بملكه من كلّ الجوانب , وشرط للمشتري حقّ المرور إليه من جانب لم يعيّنه بطل لاختلاف الغرض باختلاف الجوانب , فإن لم يخصّص بأن شرطه من كلّ جانب , أو قال : بحقوقها , أو أطلق صحّ ومرّ إليه من كلّ جانب , وهذا ما لم يلاصق الشّارع أو ملكه وإلّا مرّ منه فقط .(/3)
مُرَاهَقَة *
التّعريف :
1 - المراهقة لغةً مصدر يقال : راهق الغلام مراهقةً : قارب الاحتلام ولم يحتلم بعد .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي للمراهقة عن المعنى اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
البلوغ :
2 - من معاني البلوغ لغةً : الوصول , ومن معانيه إدراك سنّ التّكليف الشّرعيّ , يقال : بلغ الصّبي : احتلم وأدرك وقت التّكليف , وكذلك بلغت الفتاة .
واصطلاحاً عرّفه الحنفيّة بأنّه انتهاء حدّ الصّغر .
وعرّفه المالكيّة بأنّه قوّة تحدث للشّخص تنقله من حالة الطفوليّة إلى حال الرجوليّة . والصّلة بين المراهقة والبلوغ أنّ المراهقة تسبق البلوغ .
الأحكام المتعلّقة بالمراهق :
عورة المراهق :
3 - ذكر الفقهاء في الجملة عورة المراهق في أحكام العورة مطلقاً ولم يخصوه بحكم فيها , لكنّ بعضهم خصّه بحكم في بعض مسائل العورة .
فقال الحنفيّة : مراهقة صلّت عريانةً أو بغير وضوءٍ تؤمر بالإعادة , وإن صلّت بغير قناعٍ فصلاتها تامّة استحساناً .
وقال المالكيّة : ندب لحرّة صغيرةٍ ستر عورةٍ في الصّلاة كالواجب على الحرّة البالغة فإن كانت مراهقةً وصلّت بغير قناعٍ أعادت الصّلاة في الظهرين للاصفرار , وفي المغرب والعشاء للطلوع , وقال سحنون : لا إعادة عليها , وأمّا غير المراهقة كبنت ثماني سنين فلا خلاف في المذهب أنّها تؤمر بأن تستر من نفسها ما تستره الحرّة البالغة ولا إعادة عليها إن صلّت مكشوفة الرّأس أو بادية الصّدر .
وقال الحنابلة : عورة حرّةٍ مراهقةٍ ومميّزةٍ ما بين السرّة والركبة , ويستحب استتارهما كالحرّة البالغة احتياطاً .
نظر المراهق إلى الأجنبيّة :
4 - نصّ الشّافعيّة على أنّ المراهق في نظره للأجنبيّة كالبالغ فيلزم الوليّ منعه منه ويلزمها الاحتجاب منه لظهوره على العورات , وقد قال اللّه تعالى : { أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء } .
والثّاني : وهو مقابل الأصحّ : له النّظر كالمَحْرم .
تزويج المجنون المراهق :
5 - نصّ الشّافعيّة على أنّه لا يزوّج مجنون ذكر صغير - أي لا يجوز ولا يصح - ولو مراهقاً واحتاج إلى الخدمة وظهر على عورات النّساء لأنّه لا يحتاج إلى الزّواج في الحال , وبعد البلوغ لا يُدرى كيف يكون الأمر .
قسم المراهق بين زوجاته :
6 - قال الفقهاء : إنّ القسم للزّوجات مستحق على كلّ زوجٍ وإن كان مراهقاً , واشترطوا لاستحقاق القسم عليه أن يكون ممّن يمكنه الوطء .
وللتّفصيل : ( ر : قسم الزّوجات ف 8 - 9 ) .
طلاق المراهق :
7 - قال النّووي : لا يقع طلاق صبيٍّ ولا مجنونٍ لا تنجيزاً ولا تعليقاً لعدم التّكليف , فلو قال مراهق : إذا بلغت فأنت طالق فبلغ , أو قال أنت طالق غداً فبلغ قبل الغد فلا طلاق .
تحليل المراهق المطلّقة ثلاثاً :
8 - نصّ الحنفيّة وهو قول بعض أصحاب مالكٍ على أنّ المطلّقة ثلاثاً يحلها وطء من تزوّجها بعقد صحيحٍ ولو مراهقاً يجامع مثله .
ونقل ابن عابدين أنّ المراهق هو الدّاني من البلوغ , ولا بدّ أن يطلّقها بعد البلوغ لأنّ طلاقه - أي قبل البلوغ - غير واقعٍ , وقيّد المراهق بأنّه الّذي يجامع مثله ، وقيل : هو الّذي تتحرّك آلته ويشتهي النّساء .
ولم يعبّر الشّافعيّة بلفظ المراهق ولكن عبّروا بكونه ممّن يمكن جماعه لا طفلاً لا يتأتّى منه ذلك .
اعتبار المراهق مَحْرماً :
9 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة وهو الظّاهر من مذهب المالكيّة إلى اعتبار المراهق كالبالغ الّذي لا يجوز للمرأة السّفر إلا برفقته إن كان من محارمها .
وخالف في ذلك الحنابلة فاشترطوا أن يكون المَحْرم بالغاً عاقلاً , قال ابن قدامة : قيل لأحمد فيكون الصّبي مَحْرماً ؟ قال : لا حتّى يحتلم , لأنّه لا يقوم بنفسه فكيف يخرج مع امرأةٍ وذلك لأنّ المقصود بالمَحرم حفظ المرأة ولا يحصل إلا من البالغ العاقل .
شهادة المراهق :
10 - قال ابن قدامة : لا ينعقد - أي النّكاح - بشهادة صبيّين لأنّهما ليسا من أهل الشّهادة ويحتمل أن ينعقد بشهادة مراهقين عاقلين .(/1)
مُرْتابة *
التّعريف :
1 - المرتابة في اللغة : اسم فاعلٍ فعله ارتاب , يقال ارتاب : شكّ , وارتاب به : اتّهمه , ومنه قوله تعالى : { أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِم وَرَسُولُهُ } وحديث : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » وأرابني الشّيء : إذا رأيت منه ريبةً وهي التهمة .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
الاستبراء :
2 - الاستبراء في اللغة : طلب البراءة , ومن معانيه طلب براءة رحم المرأة من الحمل بأخذ ما يستبرأ به , وهو الاستقصاء والبحث عن كلّ أمرٍ غامضٍ .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
والاستبراء يكون سبباً لزوال الارتياب .
الحكم الإجمالي :
يتعلّق بالمرتابة أحكام منها :
أ - ارتياب المعتدّة بوجود حملٍ :
3 - معنى ارتياب المعتدّة بوجود حملٍ : أن ترى أمارات الحمل وهي في عدّة الأقراء أو الأشهر من حركةٍ أو نفخةٍ ونحوهما , وشكّت هل هو حمل أم لا ؟ وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوالٍ تفصيلها في مصطلح : ( عدّة ف 27 ) .
ب - عدّة المرتابة بانقطاع الدّم :
4 - ذهب الفقهاء إلى أنّ المرتابة الّتي كانت تحيض ثمّ ارتفع حيضها دون حملٍ ولا يأسٍ إذا فارقها زوجها وانقطع دم حيضها فإمّا أن يكون لعلّة تعرف أو لعلّة لا تعرف .
والتّفصيل في مصطلح : ( عدّة ف37 ) .
ج - حكم مراجعة المرتابة :
5 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ للزّوج أن يراجع زوجته المطلّقة طلاقاً رجعياً ما دامت في العدّة , إلا أنّ الحكم يختلف فيما إذا انقضت عدّتها ثمّ ارتابت بما رأته من أمارات الحمل من حركةٍ في البطن أو نفخةٍ فيه أو نحو ذلك .
فنصّ الشّافعيّة على أنّه لو راجعها الزّوج قبل زوال الرّيبة وقفت الرّجعة , ويحرم عليه قربانها , فإن بان حمل صحّت الرّجعة وبقيت الزّوجيّة وإلا فلا , وإن بان أن لا حمل بها فالرّجعة باطلة , وإن عجل فأصابها فلها المهر بما أصاب منها , وتستقبل عدّةً أخرى , ويفرّق بينهما وهو خاطب .(/1)
مُزَاحَمة *
التّعريف :
1 - المزاحمة - بوزن مفاعلة - وهي في اللغة : المدافعة على مكان أو غيره , فيقال : زحمته زحماً : دفعته وضايقته على المجلس , وزحم القوم بعضهم بعضاً : تدافعوا , ومنه قيل على الاستعارة : تزاحم الغرماء على مال المدين المفلس .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الأحكام المتعلّقة بالمزاحمة :
تختلف أحكام المزاحمة باختلاف مواطنه , وبيان ذلك فيما يلي :
الزّحام عن الركوع :
2 - نصّ المالكيّة على أنّه إن زوحم مؤتم عن ركوع مع إمامه حتّى رفع الإمام رأسه عن الركوع معتدلاً مطمئناً قبل إتيان المؤتمّ بأدنى الركوع , فإن كان في الرّكعة الأولى لا يتبعه في الركوع والرّفع منه , بل متى رفع الإمام , من الركوع معتدلاً ترك الركوع الّذي فاته مع الإمام , وينتقل معه فيما هو فيه , فيخر ساجداً إن كان الإمام متلبّساً به , ويقضي ركعةً بعد سلام الإمام , فإن خالف وركع ولحقه , بطلت صلاته إن اعتدّ بالرّكعة , لأنّه قضاء في صلب الإمام .
وإن زوحم عن الركوع في الرّكعة الثّانية حتّى رفع الإمام رأسه قبل إتيان المأموم بأدنى الركوع اتّبعه في الركوع والرّفع منه وأدركه فيما هو فيه من سجود أو جلوس بين السّجدتين وجوباً , لثبوت مأموميّته بإدراكه مع الإمام الرّكعة الأولى ما لم يرفع رأسه من سجودها : أي لم يتمّ الرّكعة , فإن ظنّ أو اعتقد أنّه يدرك الإمام ويسجد السّجدة الأولى معه, أو يدركه قي جلوسه بين السّجدتين ويسجد الثّانية معه , أو يسجد السّجدة الأولى مع سجود الإمام الثّانية ويسجد هو الثّانية بعد رفع الإمام منها , فإن اعتقد ذلك أو ظنّه فتبعه فرفع الإمام رأسه من السّجدة الثّانية قبل أن يلحقه فيها ألغى ما فعله وانتقل مع الإمام فيما هو فيه وأتى بركعة بعد سلام الإمام .
وإن ظنّ أنّه إن ركع لا يدرك الإمام في السجود في الرّكعة الثّانية للإمام فإنّه يترك الركوع وينتقل مع الإمام فيما هو فيه ويقضيها بعد سلام الإمام .
الزّحام عن السجود :
3 - قال جمهور الفقهاء : الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : إنّ المأموم إذا منعه الزّحام عن السجود على أرض ونحوها فأمكنه السجود على شيء من إنسان أو متاع ونحوهما فعل ذلك وجوباً , لأثر عمر رضي اللّه عنه قال : إذا اشتدّ الزّحام فليسجد أحدكم على ظهر أخيه , ولا يُحتاج إلى إذنه , لأنّ الأمر فيه يسير ويُتسامَح فيه , ولأنّه متمكّن في سجود يجزئه فوجب عليه أن يأتي به , فإن لم يفعل ذلك يعتبر متخلّفاً عن متابعة الإمام بغير عذر .
قال الشّافعيّة والحنابلة : وإن لم يمكنه أن يسجد ولو على ظهر إنسان أو قدمه انتظر زوال العذر , ولا يومئ لقدرته على السجود , ثمّ إن تمكّن من السجود قبل ركوع إمامه في الثّانية سجد وجوباً تداركاً عند زوال العذر , فإن رفع عن السجود والإمام بعد قائم قرأ ما أمكنه من الفاتحة , فإن لم يدرك زمناً يسع لقراءة الفاتحة فهو كمسبوق , وركع مع الإمام إن ركع قبل إتمامه الفاتحة , ولا يضر التّخلف الماضي , لأنّه تخلف بعذر , وإن رفع عن السجود والإمام راكع يركع معه وهو مسبوق , لأنّه لم يدرك في موضع القراءة .
فإن كان إمامه قد فرغ من الركوع في الرّكعة الثّانية ولم يسلّم وافقه فيما هو فيه كالمسبوق ثمّ صلّى ركعةً بعد سلامه لفواتها كالمسبوق , وإن سلّم الإمام قبل أن يتمكّن من السجود فاتت عليه الرّكعة , وعليه إن كانت الصّلاة صلاة جمعة أتمّها ظهراً , لأنّه لم تتمّ له ركعة فيتمها ظهراً , وإن لم يمكنه الركوع حتّى ركع الإمام في الرّكعة التّالية يركع , لظاهر خبر : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به فإذا ركع فاركعوا » , ولأنّ متابعة الإمام آكد , ولهذا يتبعه المسبوق ويترك القراءة والقيام , ويحسب ركوعه الأوّل , لأنّه أتى بها وقت الاعتداد بالركوع , فركعته ملفّقة من ركوع الرّكعة الأولى ومن سجود الثّانية الّتي أتى بها , ويأتي بعد سلام الإمام بركعة , وتصح جمعته إن كانت الصّلاة جمعةً , لحديث : « من أدرك من الجمعة ركعةً فليصلّ إليها أخرى » , وهذا قد أدرك ركعةً , ويأتي بالثّانية بعد سلام الإمام , فإن سجد المزحوم على ترتيب صلاة نفسه عالماً بأنّ واجبه المتابعة بطلت صلاته .(/1)
وقال المالكيّة : إن زوحم عن سجدة أو سجدتين من الأولى أو غيرها فلم يسجدها حتّى قام الإمام لما تليها : فإن لم يطمع في سجودها أي لم يتحقّقه أو يظنّه قبل عقد إمامه الرّكعة الّتي تليها برفع رأسه من ركوعها - بأن تحقّق أو ظنّ أنّه إن سجدها رفع إمامه من ركوع الّتي تليها قبل لحوقه أو شكّ في هذا - تمادى وجوباً على ترك السّجدة أو السّجدتين وتبع إمامه فيما هو فيه , فإن سجدها ولحق الإمام فإن أدركه في الركوع صحّت وإلّا بطلت , وقضى ركعةً بعد سلام إمامه وإلّا سجدها إن تحقّق أنّه إن سجدها لحق الإمام قبل عقد الّتي تليها , فإن تخلّف اعتقاده وعقد الإمام الرّكعة دونه بطلت الرّكعة الأولى لعدم إتيانه بسجودها على الوجه المطلوب والثّانية لعدم إدراكه ركوعها مع الإمام , وإن تمادى على ترك السّجدة لعدم طمعه فيها قبل عقد إمامه ولحق الإمام فيما هو فيه وقضى ركعةً بعد سلامه فلا سجود عليه لزيادة ركعة النّقص , إذ الإمام يحملها عنه إن تيقّن المأموم ترك السّجدة فإن شكّ فيه سجد بعد السّلام لاحتمال زيادة الرّكعة الّتي أتى بها بعد سلام إمامه . وجاء في المدوّنة : من زحمه النّاس يوم الجمعة بعد ما ركع مع الإمام الرّكعة الأولى فلم يقدر أن يسجد حتّى ركع الإمام الرّكعة الثّانية قال مالك : لا أرى أن يسجد وليركع مع الإمام هذه الرّكعة الثّانية ويلغي الأولى ويضيف إليها أخرى , قال مالك : من أدرك الرّكعة يوم الجمعة فزحمه النّاس بعدما ركع مع الإمام الأولى فلم يقدر على السجود حتّى فرغ الإمام من صلاته قال : يعيد الظهر أربعاً , وإن هو زحمه النّاس يوم الجمعة بعدما ركع مع الإمام الأولى , فلم يقدر على أن يسجد حتّى ركع الإمام الرّكعة الثّانية قال : لا أرى أن يسجد وليركع مع الإمام الرّكعة الثّانية , ويلغي الأولى , وقال مالك من زحمه النّاس يوم الجمعة بعدما ركع الإمام وقد ركع معه ركعةً فلم يقدر على أن يسجد معه حتّى سجد الإمام وقام قال فيتبعه ما لم يخف أن يركع الإمام الرّكعة الثّانية , قال ابن القاسم فإن خاف أن يركع الإمام الرّكعة الثّانية ألغى الّتي فاتته ودخل مع الإمام فيما يستقبل , وإن هو صلّى مع الإمام ركعةً بسجدتيها يوم الجمعة ثمّ زحمه النّاس في الرّكعة الثّانية فلم يقدر على أن يركعها مع الإمام حتّى فرغ الإمام من صلاته , قال مالك يبني على صلاته ويضيف إليها ركعةً أخرى , قال ابن القاسم , وقال مالك إن زحمه النّاس فلم يستطع السجود إلّا على ظهر أخيه أعاد الصّلاة, قيل له : أفي الوقت وبعد الوقت ؟ قال : يعيد ولو بعد الوقت وكذلك قال مالك .
الموت في الزّحام :
4 - اختلف الفقهاء في اعتبار الموت في زحام لوثاً فقال المالكيّة : لا يعتبر الموت في الزّحمة لوثاً يوجب القسامة , بل هو هدر , وبه قال الحنابلة : ولكنّهم يهدرون دمه , وديته في بيت المال , وهذا قول إسحاق , ونقل ذلك عن عمر وعليٍّ رضي اللّه عنهما , لما روي: أنّه قتل رجل في زحام النّاس بعرفة فجاء أهله إلى عمر رضي اللّه عنه فقال بيّنتكم على من قتله , فقال علي رضي اللّه عنه يا أمير المؤمنين , لا يطل دم مسلم إن علمت قاتله , وإلّا فأعطه ديته من بيت المال .
وقال الشّافعيّة : إذا تزاحمت جماعة محصورون في مضيقٍ كمسجد في يوم عيد أو جمعة أو باب الكعبة فانكشفوا عن قتيل فهو لوث يحقّ به لورثة القتيل القسامة لقوّة الظّنّ : أنّهم قتلوه , ولا يشترط هنا كونهم أعداء له , بشرط أن يكونوا محصورين بحيث يتصوّر اجتماعهم على قتله .
المزاحمة على استلام الحجر الأسود :
5 - قال الفقهاء : إذا تعذّر استلام الحجر لزحام النّاس نظر , فإن كان إن صبر يسيراً خفّ الزّحام وأمكنه الاستلام صبر , وإن علم أنّ الزّحام لا يخف ترك الاستلام ولم يزاحم النّاس بل أشار إليه بيده رافعاً يده ثمّ يقبّلها , لحديث سعيد بن المسيّب رحمه اللّه عن عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « يا عمر إنّك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضّعيف , إن وجدت خلوةً فاستلمه وإلّا فاستقبله فهلّل وكبّر » .
وحكي عن طائفة : أنّ الزّحام إليه أفضل , روي عن سالم بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما قال: كنّا نزاحم ابن عمر وكان عبد اللّه رضي اللّه عنه لو زاحم الجمل زحمه .
هذا في حقّ الرّجال , أما النّساء فلا يُختار لهنّ الاستلام والتّقبيل , وإذا حاذين الحجر أشرن إليه(/2)
مُزَكِّي *
التّعريف :
1 - المزكِّي : اسم فاعل للفعل : زكَّى , ويتعدّى بالتّضعيف وبالهمزة : يقال زكَّى فلان الشّاهد تزكيةً , فهو مزكٍّ : نسبةً إلى الزّكاء , وهو الصّلاح وزكّى عن ماله : فهو مزكٍّ أخرج الزّكاة منه , وزَكَا الرّجل - بالتّخفيف - يزكو : صلح , وطَهُرَ .
وفي الاصطلاح : هو اسم يطلقه الفقهاء على من يَخْبُرُ ببواطن أحوال الشّاهد ويعلم منه ما لا يعلم عنه غيره لطول عشرة أو جوار أو معاملة , ويشهد بما يعلم عنه من تعديل أو جرح عند القاضي , وقد يطلق على من يبعثهم القاضي لبحث أحوال الشهود , لأنّهم سبب التّزكية, ويسمّى أصحاب المسائل .
الأحكام المتعلّقة بالمزكّي :
اتّخاذ القاضي المزكّين :
2 - قال الشّافعي : ينبغي أن يكون للحاكم مزكون , وهم : من يعرفون الشهود , ويَخْبُرون ببواطن أحوالهم , فيُرْجع إليهم ليبيّنوا حال الشهود .
وأصحاب المسائل وهم : الّذين يبعثهم الحاكم إلى المزكّين ليبحثوا عن أحوال الشهود ويسألوا عنهم من يعرف أحوالهم , وربّما يفسّر أصحاب المسائل بالمزكّين .
شروط المزكّي :
3 - يشترط في المزكّي أن يكون مسلماً مكلّفاً حراً ذكراً عدلاً وليس بينه وبين المزكّى عداوة في جرح , وعدم بنوّة أو أبوّة في تعديل عارفاً الجرح والتّعديل , وأسبابها , لئلّا يجرح عدلاً , ويزكّي فاسقاً , خبيراً بحقيقة باطن من يعدّله لصحبة أو جوار أو معاملة قديمة.
عدد من يقبل في التّزكية :
4 - اختلف الفقهاء في عدد شهود التّزكية فذهب جمهور الفقهاء الشّافعيّة والحنابلة والحنفيّة , وهو المشهور عند المالكيّة إلى أنّها عدلان , وفي قول عند المالكيّة : لا بدّ من ثلاثة .
رجوع المزكّين عن تعديل الشهود :
5 - إذا رجع المزكون عن تعديل شهود قتل أو حَدّ فالأصح عند الشّافعيّة : أنّهم يضمنون بالقصاص أو الدّية , لأنّهم ألجئوا القاضي إلى الحكم المفضي إلى القتل , وإلى هذا ذهب الصّاحبان من الحنفيّة , ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة : منع الضّمان لأنّهم كالممسك مع القاتل , وقال أبو حنيفة : عليهم الدّية لا القصاص , وقال المالكيّة : لا يغرم المزكّي شيئاً من الدّية ولا يقتص منه إن رجع عن تعديل شهود قتل عمد أو زنى محصن بعد قتله بالقصاص , أو الرّجم لأنّهم لم يتلفا مالاً فيغرمانه , ولا نفساً فيطالبا ديةً أو قصاصاً .
وانظر تفصيل ذلك في مصطلح ( تزكية ف / 19 , وقضاء ف / 46 ) .(/1)
مُزْدَلِفَة *
التّعريف :
1 - قال أهل اللغة : الزلفة والزلفى : القربة والحظوة , وأزلفه : قرّبه , وفي الحديث :
« ازدلف إلى اللّه بركعتين » ومنه : مزدلفة سمّيت بذلك لاقترابها إلى عرفات .
وقيل : سمّيت بذلك لاجتماع النّاس بها , من قولهم : أزلفت الشّيء جمعته .
وحدها في الاصطلاح : هي مكان بين مأزمي عرفة ووادي محسّر , وبعضهم يقول : ما بين مأزمي عرفة إلى قرن محسّر , فما على يمين ذلك وشماله من الشّعاب فهو منىً .
قال الإمام النّووي : قال أصحابنا : المزدلفة ما بين وادي محسّر ومأزمي عرفة , وليس الحدّان منها , ويدخل في المزدلفة جميع تلك الشّعاب القوابل والظّواهر والجبال الدّاخلة في الحدّ المذكور .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - منىً :
2 - منىً : موضع قرب مكّة , ويقال : بينه وبين مكّة المكرّمة ثلاثة أميال , ينزله الحجّاج أيّام التّشريق , وسمّي منىً لما يمنى به من الدّماء أي يراق , وأمنى الرّجل أو الحاج بالألف: أتى منىً .
والصّلة بين المزدلفة وبين منىً أنّ كلاً منهما من مناسك الحجّ .
ب - المشعر الحرام :
3 - المَشْعر , بفتح الميم في المشهور وحكي كسرها : جبل صغير آخر مزدلفة , اسمه قزح بضمّ القاف وبالزّاي .
وسمّي مشعراً : لما فيه من الشّعائر وهي معالم الدّين وطاعة اللّه تعالى , ووصف بالحرام لأنّه يحرم فيه الصّيد وغيره , ويجوز أن يكون معناه ذو الحرمة .
والصّلة بينه وبين مزدلفة أنّه جزء منها , أو جميع المزدلفة وعلى هذا فهو مرادف للمزدلفة .
الأحكام المتعلّقة بمزدلفة :
المبيت في مزدلفة للحاجّ :
4 - اختلف الفقهاء في حكم المبيت في مزدلفة للحاجّ ليلة النّحر .
فذهب جماعة إلى أنّه فرض , ومن هؤُلاء من أئمّة التّابعين : علقمة والأسود والشّعبي والنّخعيّ , والحسن البصري رحمهم اللّه , كما ذهب إليه من أئمّة المذهب الشّافعيّ : أبو عبد الرّحمن ابن بنت الشّافعيّ , وأبو بكر بن خزيمة , والسبكي قالوا : المبيت بمزدلفة فرض أو ركن لا يصح الحج إلّا به , كالوقوف بعرفة .
واحتجوا بالحديث المرويّ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال : « من فاته المبيت بالمزدلفة فقد فاته الحج » .
وذهب الشّافعيّة في الأصحّ , والحنابلة إلى أنّه واجب وليس بركن , فلو تركه الحاج صحّ حجه وعليه دم , لحديث : « الحج يوم عرفة من جاء قبل الصبح من ليلة جمع فتمّ حجه » , يعني : من جاء عرفة .
5 - ويحصل المبيت بالمزدلفة بالحضور في أيّة بقعة كانت من مزدلفة , لحديث : « مزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسّر » .
كما أنّ هذا المبيت يحصل عند الشّافعيّة والحنابلة بالحضور في مزدلفة في ساعة من النّصف الثّاني من ليلة النّحر , وأنّه لو دفع من مزدلفة بعد نصف اللّيل أجزأه وحصل المبيت ولا دم عليه , سواء كان هذا الدّفع لعذر أو لغير عذر , وأنّه لو دفع من مزدلفة قبل نصف اللّيل ولو بيسير ولم يعد إليها فقد ترك المبيت , فإن عاد قبل طلوع الفجر أجزأه المبيت ولا شيء عليه , ومن لم يوافق مزدلفة إلّا في النّصف الأخير من اللّيل فلا شيء عليه .
ووجوب الدّم بترك المبيت خاصٌّ فيمن تركه بلا عذر , أمّا من تركه لعذر كمن انتهى إلى عرفات ليلة النّحر واشتغل بالوقوف بعرفة عن المبيت بالمزدلفة فلا شيء عليه , وكالمرأة لو خافت طروء الحيض أو النّفاس , فبادرت إلى مكّة بالطّواف , وكمن أفاض من عرفات إلى مكّة وطاف للركن ولم يمكنه الدّفع إلى المزدلفة بلا مشقّة ففاته المبيت وكالرعاة والسقاة فلا دم عليهم لترك المبيت , لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : رخّص للرعاة في ترك المبيت لحديث عديٍّ رضي اللّه عنه : « أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منىً » , « وأنّ العبّاس بن عبد المطّلب استأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يبيت بمكّة ليالي منىً من أجل سقايته فأذن له » .
وقال المالكيّة : يندب المبيت بمزدلفة بقدر حطّ الرّحال , سواء حطّت بالفعل أم لا , وإن لم ينزل فيها بهذا القدر حتّى طلع الفجر بلا عذر وجب عليه دم , أمّا إن تركه بعذر فلا شيء عليه .
وعند الحنفيّة : المبيت في مزدلفة ليلة النّحر سنّة مؤكّدة إلى الفجر , لا واجبة .
قال الكاساني : والسنّة أن يبيت ليلة النّحر بمزدلفة والبيتوتة ليست بواجبة إنّما الواجب هو الوقوف , والأفضل أن يكون وقوفه بعد الصّلاة , فيصلّي صلاة الفجر بغلس , ثمّ يقف عند المشعر الحرام فيدعو اللّه تعالى ويسأله حوائجه إلى أن يسفر , ثمّ يفيض منها قبل طلوع الشّمس إلى منىً .
تقديم النّساء والضّعفة إلى منىً :
6 - ذهب الفقهاء إلى أنّه من السنّة تقديم الضعفاء من النّساء وغيرهنّ من مزدلفة إلى منىً قبل طلوع الفجر بعد نصف اللّيل ليرموا جمرة العقبة قبل زحمة النّاس , لحديث عائشة رضي اللّه عنها قالت : « استأذنت سودة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة المزدلفة تدفع قبله وقبل حطمة النّاس وكانت امرأةً ثبطةً فأذن لها » , وعن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما قال : « أنا ممّن قدّم النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله » .
الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء في المزدلفة :
7 - ذهب الفقهاء إلى مشروعيّة الجمع بين المغرب والعشاء للحاجّ في مزدلفة ليلة النّحر إلّا أنّهم اختلفوا في بعض التّفاصيل .(/1)
فذهب الحنفيّة إلى أنّ الحاجّ يصلّي المغرب والعشاء في مزدلفة جمعاً بأذان وإقامة , لأنّ العشاء في وقتها فلا تحتاج للإعلام فيقتصر على إقامة واحدة , ولا يشترط لهذا الجمع عندهم جماعة , فلو صلّاهما منفرداً جاز ولكنّ الجماعة فيه سنّة . وللجمع بمزدلفة عندهم شروط هي :
أ - الإحرام بالحجّ .
ب - تقديم الوقوف بعرفة عليه .
ج - الزّمان , والمكان , والوقت , فالزّمان ليلة النّحر , والمكان مزدلفة , والوقت وقت العشاء ما لم يطلع الفجر , فلا يجوز هذا الجمع لغير المحرم بالحجّ , ولا في غير الزّمان والمكان والوقت المذكور .
فلو صلّى المغرب والعشاء في عرفات أو في الطّريق أعادهما , لحديث أسامة بن زيد رضي اللّه عنهما قال : « دفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من عرفة فنزل الشّعب فبال ثمّ توضّأ ولم يسبغ الوضوء فقلت له الصّلاة فقال الصّلاة أمامك فجاء المزدلفة فتوضّأ فأسبغ ثمّ أقيمت الصّلاة فصلّى المغرب ثمّ أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثمّ أقيمت الصّلاة فصلّى ولم يصلّ بينهما » .
قال الشّهاوي من الحنفيّة : هذا فيما إذا ذهب إلى المزدلفة من طريقها , أمّا إذا ذهب إلى مكّة المكرّمة من غير طريق المزدلفة جاز له أن يصلّي المغرب في الطّريق .
وقال المالكيّة : إذا غربت الشّمس يوم عرفة دفع الإمام والنّاس معه إلى المزدلفة وجمع الإمام والنّاس معه المغرب والعشاء بمزدلفة جمع تأخير وقصروا العشاء , إلّا أهل المزدلفة فيتمونها مع جمعها بالمغرب , والمذهب أنّ هذا كلّه سنّة إن وقف مع الإمام , فإن لم يقف معه بأن لم يقف أصلاً , أو وقف وحده فلا يجمع , لا بالمزدلفة ولا بغيرها ويصلّي كلّ صلاة في مختارها من غير جمع .
وإن عجز من وقف بعرفة مع الإمام عن السّير معه , لضعفه أو ضعف دابّته , فيجمع بينهما بعد مغيب الشّفق الأحمر في مزدلفة أو قبلها إن كان وقف بعرفة ونفر منها مع الإمام وتأخّر عنه لعذر به .
وإن قدّم العشاءين على الشّفق الأحمر , أو على النزول بمزدلفة أعادهما ندباً إن صلّاهما بعد الشّفق قبل وصوله مزدلفة , ووجوباً إن قدّمهما على الشّفق بالنّسبة لصلاة العشاء , لأنّها باطلة , لصلاتها قبل وقتها , أمّا المغرب فيعيدها ندباً إن بقي وقتها .
وذكر ابن حبيب من المالكيّة : أنّه إذا صلّى في المزدلفة فلا يعيد , وإنّما الإعادة عنده لمن صلّى قبل المزدلفة , لقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : « الصّلاة أمامك » .
وقال الشّافعيّة : السنّة أن يؤخّر الحجّاج صلاة المغرب ويجمعوا بينها وبين العشاء في المزدلفة في وقت العشاء ما لم يخش الحاج فوات وقت الاختيار للعشاء , وهو ثلث اللّيل في أصحّ القولين , ونصفه في القول الآخر .
وجواز الجمع بينهما بمزدلفة في وقت العشاء للحاجّ المسافر دون غيره , لأنّ الجمع عندهم بسبب السّفر لا بسبب النسك .
قالوا : والسنّة إذا وصلوا مزدلفة أن يصلوا قبل حطّ الرّحال وينيخ كل إنسان جمله ويعقله, ثمّ يصلون , لحديث أسامة بن زيد رضي اللّه عنهما « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا جاء المزدلفة توضّأ ثمّ أقيمت الصّلاة فصلّى المغرب ثمّ أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثمّ أقيمت العشاء فصلّاها ولم يصلّ بينهما شيئاً » .
قال الشّافعي : ولو ترك الجمع بينهما وصلّى كل واحد في وقتها أو جمع بينهما في وقت المغرب أو جمع وحده لا مع الإمام , أو صلّى إحداهما مع الإمام والأخرى وحده جامعاً بينهما , أو صلّاهما في عرفات , أو في الطّريق قبل المزدلفة جاز , وفاتته الفضيلة .
وإن جمع بينهما في المزدلفة في وقت العشاء أقام لكلّ واحدة منهما , ولا يؤذّن للثّانية , ويؤذّن للأولى في الأصحّ , لحديث جابر رضي اللّه عنه : « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أتى المزدلفة فصلّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبّح بينهما شيئاً ثمّ اضطجع حتّى طلع الفجر وصلّى الفجر » .
وقال الحنابلة : السنّة لمن دفع من عرفة أن لا يصلّي المغرب حتّى يصل مزدلفة , فيجمع بين المغرب والعشاء ويقيم لكلّ صلاة إقامةً لحديث أسامة بن زيد رضي اللّه عنهما قال :
« دفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من عرفة حتّى إذا كان بالشّعب نزل فبال ثمّ توضّأ فقلت له الصّلاة يا رسول اللّه قال الصّلاة أمامك فركب فلمّا جاء مزدلفة نزل فتوضّأ فأسبغ الوضوء ثمّ أقيمت الصّلاة فصلّى المغرب ثمّ أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثمّ أقيمت الصّلاة فصلّى ولم يصلّ بينهما » .
وروي هذا القول عن ابن عمر رضي اللّه عنهما .
وإن جمع بينهما بإقامة الأولى فلا بأس , يروى ذلك عن ابن عمر أيضاً , وبه قال الثّوري , لما روى ابن عمر قال : « جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين المغرب والعشاء بجمع صلّى المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين بإقامة واحدة » , وإن أذّن للأولى وأقام ثمّ أقام للثّانية فحسن , فإنّه يروى في حديث جابر , وهو متضمّن للزّيادة , وهو معتبر بسائر الفوائت والمجموعات , وهو قول ابن المنذر وأبي ثور , والّذي اختار الخرقيّ إقامةً لكلّ صلاة من غير أذان , قال ابن المنذر : وهو آخر قولي أحمد , لأنّه رواية أسامة رضي اللّه عنه , وهو أعلم بحال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فإنّه كان رديفه , وقد اتّفق هو وجابر رضي اللّه عنهما في حديثهما على إقامة لكلّ صلاة , واتّفق أسامة وابن عمر رضي اللّه عنهم على الصّلاة بغير أذان .
الوقوف في المشعر الحرام والدعاء فيه :(/2)
8 - يرى جمهور الفقهاء أنّه يستحب للحاجّ بعد بياته بمزدلفة في ليلة النّحر أن يصلّي صلاة الفجر مغلّساً في أوّل وقتها , لحديث جابر رضي اللّه عنه في صفة حجّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وفيه : « حتّى أتى المزدلفة فصلّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبّح بينهما شيئاً ثمّ اضطجع حتّى طلع الفجر وصلّى الفجر حين تبيّن له الصبح بأذان وإقامة ثمّ ركب حتّى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا اللّه تعالى وكبّره وهلّله فلم يزل واقفاً حتّى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشّمس » .
ثمّ يأتي الحاج المشعر الحرام " جبل قزح " ويقف عنده فيدعو اللّه سبحانه وتعالى ويحمده ويكبّره ويهلّله , ويوحّده , ويكثر من التّلبية , ومن الذّكر , لما رواه جابر رضي اللّه عنه : « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أتى المشعر الحرام فرقي عليه فدعا اللّه وهلّله وكبّره ووحّده » .
ويدعو اللّه بما أحبّ , ويختار الدّعوات الجامعة والأمور المبهمة ويكرّر دعواته , ويستحب أن يكون من دعائه : اللّهمّ كما وقفتنا فيه وأريتنا إيّاه فوفّقنا بذكرك كما هديتنا واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحقّ { فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ، ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
ويكثر من قوله : " اللّهمّ آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النّار " , ثمّ لا يزال يدعو مستقبلاً القبلة رافعاً يديه إلى السّماء إلى أن يسفر جداً , لحديث جابر رضي اللّه عنه : « فلم يزل واقفاً حتّى أسفر جداً » .
9 - ولو فاتت سنّة الوقوف عند المشعر الحرام لم تجبر بدم عند الجمهور كسائر الهيئات والسنن , ولا إثم على الحاجّ بهذا التّرك , وإنّما فاتته الفضيلة .
ولا تحصل هذه الفضيلة بالوقوف فيه قبل صلاة الصبح , لأنّه خلاف السنّة .
10 - والسنّة الدّفع من المشعر الحرام إلى منىً قبل طلوع الشّمس ويكره تأخير السّير منه حتّى تطلع الشّمس , لحديث جابر رضي اللّه عنه : « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لم يزل واقفاً حتّى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشّمس » .
قال « عمر رضي اللّه عنه إنّ المشركين كانوا لا يفيضون حتّى تطلع الشّمس ويقولون أشرق ثبير كيما نغير وأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خالفهم فأفاض قبل أن تطلع الشّمس » وعن نافع أنّ عبد اللّه بن الزبير رضي اللّه عنهما أخّر في الوقت حتّى كادت الشّمس تطلع فقال ابن عمر رضي اللّه عنهما إنّي أراه يريد أن يصنع كما صنع أهل الجاهليّة فدفع ودفع النّاس معه .
وقال النّووي وقد استبدل النّاس بالوقوف على قزح " المشعر الحرام " الوقوف على بناء مستحدث في وسط المزدلفة , وفي حصول أصل هذه السنّة بالوقوف في ذلك المستحدث وغيره من مزدلفة ممّا سوى قزح وجهان :
أحدهما : لا يحصل به , لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وقف على قزح وقد قال صلّى اللّه عليه وسلّم : « لتأخذوا عنّي مناسككم » .
والثّاني : وهو الصّحيح بل الصّواب أنّها تحصل , وبه جزم القاضي أبو الطّيّب في كتابه المجرّد , والرّافعي وغيره , لحديث جابر رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « نحرت هاهنا ومنىً كلها منحر فانحروا في رحالكم ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف » , وجمع هي المزدلفة والمراد : وقفت على قزح , وجميع المزدلفة موقف لكنّ أفضلها قزح , لما أنّ عرفات كلّها موقف وأفضلها موقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عند الصّخرات .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ الوقوف بمزدلفة واجب , قال ابن عابدين : الوقوف بمزدلفة واجب لا سنّة والبيتوتة بمزدلفة سنّة مؤكّدة إلى الفجر لا واجبة .
وركن الوقوف الكينونة في مزدلفة سواء كان بفعل نفسه أو بفعل غيره بأن كان محمولاً وهو نائم أو مغمىً عليه أو كان على دابّة , لحصوله كائناً بها , علم بها أو لم يعلم , ومكان الوقوف أجزاء المزدلفة أي جزء كان وله أن ينزل في أيّ موضع شاء منها , إلّا أنّه لا ينبغي أن ينزل في وادي محسّر لقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : « إلّا وادي محسّر » , ولو وقف به أجزأه مع الكراهة .
والأفضل أن يكون وقوفه خلف الإمام على الجبل الّذي يقف عليه الإمام وهو جبل قزح . وأمّا زمان الوقوف فما بين طلوع الفجر من يوم النّحر وطلوع الشّمس , فمن حصل بمزدلفة في هذا الوقت فقد أدرك الوقوف , سواء بات بها أو لا , فإذا فاته الوقوف عن وقته إن كان لعذر فلا شيء عليه , وإن كان لغير عذر فعليه دم .
وقدر الواجب من هذا الوقوف عندهم ساعة ولو لطيفةً وقدر السنّة امتداد الوقوف إلى الإسفار جداً .
وذهب ابن الماجشون من المالكيّة إلى أنّ الوقوف بالمشعر الحرام من فرائض الحجّ لا من سننه , قال الآبي في تعليقه على هذا القول : والسنّيّة هي الّتي تفهم من قواعد عياض .
لقط حصيات الرّجم من مزدلفة :
11 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى أنّه يستحب للحاجّ أخذ حصى الجمار من مزدلفة , لحديث ابن عبّاس رضي اللّه عنهما قال : « قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غداة العقبة وهو على ناقته ألقط لي حصىً فلقطت له سبع حصيات هنّ حصى الخذف . . . » " الحديث , وفي رواية : « أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر ابن عبّاس رضي اللّه عنهما أن يأخذ الحصى من مزدلفة » .(/3)
ولأنّ بالمزدلفة جبلاً في أحجاره رخاوة , ولأنّ من السنّة إذا أتى الحاج إلى منىً أن لا يعرج على غير الرّمي , فسنّ له أن يأخذ الحصى من مزدلفة حتّى لا يشغله عنه , لأنّ الرّمية تحيّة له كما أنّ الطّواف تحيّة المسجد الحرام .
قال الكاساني : وعليه فعل المسلمين وهو أحد نوعي الإجماع , وإن رمى بحصاة أخذها من الطّريق , أو من الجمرة أجزأه وقد أساء .
والإساءة مقيّدة بالأخذ من الجمرة , أمّا الأخذ من الطّريق أو من منىً فليس فيها إساءة . وقال المالكيّة : يندب لقط الحصيات بنفسه أو بغيره من أيّ محل إلّا العقبة فمن المزدلفة . وأجاز الشّافعيّة لقطها من الطّريق أو من أيّ مكان كان وقالوا : يكره لقطها من الحلّ لعدوله عن الحرم المحترم , ولقطها من كلّ مكان نجس وممّا رمي به .
وقال أحمد : خذ الحصى من حيث شئت .(/4)
مُسَارَقة *
التّعريف :
1 - المسارقة - بوزن مفاعلة : مصدر لفعل سارق يسارق مسارقةً , وهي في اللغة النّظر مستخفياً والسّمع كذلك : إذا طلب غفلةً لينظر إليه أو يتسمّع .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
أحكام المسارقة :
أ - مسارقة النّظر :
2 - الأصل في مسارقة النّظر إلى الآخرين الحرمة ; لأنّها تجسس والتّجسس حرام لقوله تعالى : { وَلَا تَجَسَّسُوا } , وقد ورد النّهي عن استراق السّمع , واختلاس النّظر في المنازل فقد روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال : « من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه صبّ في أذنيه الآنك يوم القيامة » , ولخبر : « لو اطّلع في بيتك أحد ولم تأذن له , حذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح » .
و ( من ) من صيغ العموم في العقلاء فتشمل الرّجل والمرأة والخنثى , لأنّ الرّمي الوارد في الحديث ليس للتّكليف , بل لدفع مفسدة النّظر .
وقد اختلف الفقهاء في جواز الرّمي على مسارق النّظر في البيوت فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا يجوز الرّمي على النّاظر ويضمن إن فقأ عينه , والحديث منسوخ .
جاء في تبصرة الحكّام : ولو نظر من كوّة أو من باب ففقأ عينه صاحبه ضمن , لأنّه قادر على زجره ودفعه بالأخفّ , ولو قصد زجره بذلك فأصاب عينه ولم يقصد فقأها ففي ضمانه خلاف , وقال الحنفيّة : فإن لم يمكن دفع المطّلع إلّا بفقء عينه ففقأها فلا ضمان , وإن أمكن ذلك بدون فقء العين ففقأها ضمن .
وقال الشّافعيّة والحنابلة : إنّه إن نظره في داره المختصّة به بملك أو غيره من كوّة أو ثقب عمداً فرماه بخفيف كحصاة ففقأ عينه أو أصاب قرب عينه فجرحه فمات فهدر للخبر السّابق.
ويشترط في جواز الرّمي عند من يقول به :
أ - أن ينظر في كوّة أو ثقب , فإن نظر من باب مفتوح فلا يرميه لتفريط صاحب الدّار بفتحه .
ب - وأن تكون الكوّة صغيرةً , فإن كانت كبيرةً أو شبّاكاً واسعاً فهي كالباب المفتوح فلا يجوز له رميه لتقصير صاحب الدّار , إلّا أن ينذره فلا يرتدع فيرميه .
وحكم النّظر من سطح نفسه , والمؤذّن من المنارة كالكوّة الصّغيرة على الأصحّ إذ لا تفريط من صاحب الدّار .
ج - أن لا يكون النّاظر أحد أصوله الّذين لا قصاص عليهم ولا حدّ قذف , فلا يجوز رميه في هذه الحال لأنّ الرّمي نوع من الحدّ فإن رماه ففقأ عينه ضمن .
د - أن لا يكون النّظر مباحاً له لخطبة بشرطها , ونحو ذلك .
هـ - أن لا يكون للنّاظر في الموضع محرم له أو زوجته , فإن كان فيه شيء من ذلك حرم رميه وضمن إن فقأ عينه أو جرحه ; لأنّ له في النّظر شبهةً .
قيل : ويشترط عدم استتار الحرم , فإن كنّ مستترات بالثّياب أو في منعطف لا يراهنّ النّاظر فلا يجوز رميه لعدم اطّلاعه عليهنّ , والأصح عند الشّافعيّة عدم اشتراط ذلك لعموم الأخبار, وحسماً لمادّة النّظر .
وقيل : يشترط إنذاره قبل رميه , والأصح عدم الاشتراط .
و - أن يتعمّد النّظر , فإن لم يقصد النّظر كأن كان مجنوناً أو مخطئاً أو وقع نظره اتّفاقاً فإنّه لا يرميه إذا علم ذلك صاحب الدّار , ويضمن إن رماه فأعماه أو جرحه فمات بسراية . فإن رماه وادّعى المرمي عدم القصد فلا شيء على الرّامي , لأنّ الاطّلاع وقع والقصد باطن لا يطّلع عليه .
ز - أن لا ينصرف عن النّظر قبل الرّمي .
فلا يجوز الرّمي بعد امتناعه عن المسارقة .
ولا يشترط أن يكون الموضع ملكاً للمنظور فللمستأجر رمي مالك الدّار إذا سارقه النّظر . وتفصيل ذلك في ( تجسّس ف / 13 ) .
ب - مسارقة النّظر ممّن يريد الخطبة :
3 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة نظر الخاطب لمن يرغب في خطبتها قال ابن قدامة : لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في إباحة النّظر إلى المرأة لمن يريد نكاحها , كما ذهب جمهورهم إلى عدم اشتراط علم المراد خطبتها أو إذنها أو إذن وليها في النّظر إليها , فيجوز لمن يرغب في خطبتها أن ينظر خلسةً لإطلاق الأخبار واكتفاء بإذن الشّارع ولئلّا تتزيّن فيفوت غرضه , وفي حديث جابر : « وكنت أتخبّأ لها » .
ج - مسارقة السّمع :
4 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ مسارقة السّمع - وهو التّنصت على أحاديث أناس بغير علمهم ورضاهم - محرّم يعاقب عليه السّارق في الآخرة لحديث : « من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه صبّ في أذنيه الآنك يوم القيامة » .
ولكن لا يجوز رميه لعدم ورود نصٍّ في مشروعيّة الرّمي فيه , ولأنّ السّمع ليس كالبصر في الاطّلاع على العورات .
( ر : استراق السّمع ف / 4 ) .(/1)
مُصًلَّى *
التّعريف :
1 - المصلّى لغةً : موضع الصّلاة أو الدعاء , قال تعالى : { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً } أي موضعاً للدعاء .
واصطلاحاً : الفضاء والصّحراء , وهو المجتمع فيه للأعياد ونحوها .
الألفاظ ذات الصّلة :
المسجد :
2 - المسجد في اللغة : بيت الصّلاة وموضع السجود من بدن الإنسان , والجمع مساجد , وهو الموضع الّذي يسجد للّه فيه , وقال الزّجّاج : كل موضعٍ يتعبّد فيه فهو مسجد . والمسجد في الاصطلاح كما قال البركتيّ : الأرض الّتي جعلها المالك مسجداً , بقوله : جعلته مسجداً وأفرز طريقه وأذّن بالصّلاة فيه .
والصّلة بين المصلّى والمسجد أنّ المصلّى أخص من المسجد .
الأحكام المتعلّقة بالمصلّى :
تتعلّق بالمصلّى أحكام منها :
أ - صلاة العيدين في المصلّى :
3 - ذهب الحنفيّة في الصّحيح والحنابلة إلى أنّ الخروج لصلاة العيدين في المصلّى سنّة . واستدلوا بأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : « كان يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلّى » , وكذلك الخلفاء بعده , ولا يترك النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم الأفضل مع قربه ويتكلّف فعل النّاقص مع بعده , ولا يشرع لأمّته ترك الفضائل , ولأنّنا أمرنا باتّباع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم والاقتداء به , ولم ينقل عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه صلّى العيد بمسجده إلا من عذرٍ , ولأنّ هذا إجماع المسلمين , فإنّ النّاس في كلّ عصرٍ ومصرٍ يخرجون إلى المصلّى فيصلون العيد في المصلّى مع سعة المسجد وضيقه , وكان النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي في المصلّى مع شرف مسجده .
وقال المالكيّة : إنّ صلاة العيدين في المصلّى مندوبة .
قال الدسوقيّ : وندب إيقاعها أي صلاة العيد بالمصلّى أي الصّحراء , وصلاتها بالمسجد من غير ضرورةٍ داعية بدعةٍ , أي مكروهة , وقال : والحكمة في صلاة العيدين في المصلّى لأجل المباعدة بين الرّجال والنّساء لأنّ المساجد وإن كبرت يقع الازدحام فيها وفي أبوابها بين الرّجال والنّساء دخولاً وخروجاً فتتوقّع الفتنة في محلّ العبادة .
واستدلّ المالكيّة بحديث أبي سعيدٍ الخدريّ رضي اللّه عنه : « كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلّى » .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ المسجد إن كان واسعاً فهو أفضل من المصلّى , لأنّ الأئمّة لم يزالوا يصلون صلاة العيد بمكّة في المسجد , ولأنّ المسجد أشرف وأنظف , وأنّ أفضليّة الصّلاة في الصّحراء بما إذا كان المسجد ضيّقاً , فإن كان المسجد ضيّقاً فصلّى فيه ولم يخرج إلى المصلّى كره ذلك لتأذّي النّاس بالزّحام , وربّما فات بعضهم الصّلاة , قال الشّافعي : بلغنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يخرج في العيد إلى المصلّى بالمدينة وكذلك من كان بعده وعامّة أهل البلد إلا أهل مكّة فإنّه لم يبلغنا أنّ أحداً من السّلف صلّى بهم عيداً إلا في مسجدهم .
ب - صلاة النّساء في مصلّى العيد :
4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى استحباب خروج النّساء غير ذوات الهيئات منهنّ إلى مصلّى العيد , وكراهة خروج الشّابّات لصلاة العيدين , وإذا خرجن يستحب خروجهنّ في ثياب بذلةٍ .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يرخّص للشّوابّ منهنّ الخروج في الجمعة والعيدين وشيءٍ من الصّلاة .
والتّفصيل في مصطلح : ( صلاة العيدين ف 5 ) .
ج - إجراء أحكام المسجد على المصلّى :
5 - اختلف الفقهاء في إجراء أحكام المسجد على المصلّى :
فقال الحنفيّة : ليس لمصلّى العيد والجنازة حكم المسجد في منع دخول الحائض , وإن كان لهما حكم المسجد في صحّة الاقتداء مع عدم اتّصال الصفوف .
وقال الشّافعيّة : المصلّى المتّخذ للعيد وغيره الّذي ليس بمسجد لا يحرم المكث فيه على الجنب والحائض على المذهب , وبه قطع جمهور الشّافعيّة وذكر الدّارميّ فيه وجهين . ونقل الزّركشي : عن الغزاليّ أنّه سئل عن المصلّى الّذي بني لصلاة العيد خارج البلد فقال : لا يثبت له حكم المسجد في الاعتكاف ومكث الجنب وغيره من الأحكام , لأنّ المسجد هو الّذي أعدّ لرواتب الصّلاة وعيّن لها حتّى لا ينتفع به في غيرها , وموضع صلاة العيد مُعَد للاجتماعات ولنزول القوافل ولركوب الدّوابّ ولعب الصّبيان , ولم تجر عادة السّلف بمنع شيءٍ من ذلك فيه , ولو اعتقدوه مسجداً لصانوه عن هذه الأسباب ولقصد لإقامة سائر الصّلوات , وصلوات العيد تطوع وهو لا يكثر تكرره بل يبنى لقصد الاجتماع , والصّلاة تقع فيه بالتّبع .
وقال الحنابلة : يحرم على جنبٍ وحائضٍ ونفساء انقطع دمها اللبث في المسجد ولو مصلّى عيدٍ , لأنّه مسجد لا مصلّى الجنائز فليس مسجداً .(/1)
مُصَافَحة *
التّعريف :
1 - المصافحة في اللغة الأخذ باليد كالتّصافح , قال في تاج العروس : الرّجل يصافح الرّجل إذا وضع صفح كفّه في صفح كفّه , وصفحا كفّيهما : وجّهاهما , وهي مفاعلة من إلصاق صفح الكفّ بالكفّ وإقبال الوجه على الوجه .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - اللّمس :
2 - من معاني اللّمس في اللغة المس باليد .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
واللّمس أعم من المصافحة ; لأنّه قد يكون باليد أو بغيرها , والملموس قد يكون يداً أو غيرها , والمصافحة لمس اليد باليد بأسلوب خاصٍّ هو وضع صفحتها على صفحتها .
ب - المباشرة :
3 - المباشرة في اللغة مصدر باشر , يقال : باشر الأمر : وليه بنفسه , وباشر المرأة : جامعها أو صارا في ثوب واحد فباشرت بشرته بشرتها .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
والمباشرة أعم من المصافحة .
الحكم التّكليفي :
يختلف حكم المصافحة باختلاف طرفيها , وذلك على النّحو التّالي :
أوّلاً : مصافحة الرّجل للرّجل :
4 - مصافحة الرّجل للرّجل مستحبّة عند عامّة العلماء , قال النّووي : اعلم أنّها سنّة مجمع عليها عند التّلاقي , وقال ابن بطّال : أصل المصافحة حسنة عند عامّة العلماء .
وقد نصّ على استحباب المصافحة بين الرّجال كثير من فقهاء المذاهب , واستدلوا عليه بجملة من الأخبار الصّحيحة والحسنة , من ذلك ما روى كعب بن مالكٍ رضي اللّه عنه قال : « دخلت المسجد فإذا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقام إليّ طلحة بن عبيد اللّه يهرول حتّى صافحني وهنّأني » , وما روى البخاري عن قتادة قال : « قلت لأنس رضي اللّه عنه أكانت المصافحة في أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ؟ قال : نعم » .
وما روي عن عطاء بن أبي مسلم عبد اللّه الخراسانيّ قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشّحناء » .
وروي عن مالكٍ أنّه كره المصافحة , وهو قول سحنون وبعض علماء المالكيّة , واستدلّ لهذه الرّواية بقوله عزّ وجلّ في وصف تحيّة الملائكة لسيّدنا إبراهيم عليه السّلام : { إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } , حيث حيّوه بإلقاء السّلام , ولم يتبعوه بالمصافحة , لكنّ المشهور عن مالكٍ استحباب المصافحة , ويؤيّد ذلك ما روي عنه أنّه دخل عليه سفيان بن عيينة فصافحه وقال : لولا أنّها بدعة لعانقتك , فقال سفيان : عانق من هو خير منّي ومنك النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم لجعفر حين قدم من أرض الحبشة , قال مالك : ذلك خاصٌّ , قال سفيان : بل هو عام ما يخص جعفراً يخصنا , وما يعمه يعمنا إذا كنّا صالحين .
ثانياً : مصافحة المرأة للمرأة :
5 - أطلق الفقهاء القول بسنّيّة المصافحة , ولم يقصروا ذلك على ما يقع منها بين الرّجال, وإنّما استثنوا مصافحة الرّجل للمرأة الأجنبيّة فقالوا بتحريمها , ولم يستثنوا مصافحة المرأة للمرأة من السنّيّة , فيشملها هذا الحكم , وقد صرّح بذلك الشّربيني الخطيب فقال : وتسن مصافحة الرّجلين والمرأتين , وقال النّفراويّ : وإنّما تسن المصافحة بين رجلين أو بين امرأتين , لا بين رجل وامرأة , وإن كانت متجالّةً .
واستدلّ لذلك بأنّه المستفاد من عموم الأحاديث الشّريفة في الحثّ على المصافحة , مثل قول الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم : « ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلّا غفر لهما قبل أن يتفرّقا » . وقوله : « تصافحوا يذهب الغل » .
وما روي عن حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « إنّ المؤمن إذا لقي المؤمن فسلّم عليه وأخذ بيده فصافحه تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشّجر » .
فهذه الأحاديث وغيرها عامّة في كلّ مسلمين يلتقيان , وتشمل بعمومها المرأة تلاقي المرأة فتصافحها , ولأنّه يحل لها أن تنظر وتمسّ من المرأة ما يحل للرّجل أن ينظر إليه ويمسه من الرّجل , وهو سائر الجسد سوى ما بين السرّة والركبة , لأنّ ذلك ليس فيه خوف الشّهوة , حتّى لو خيفت الشّهوة كان ذلك محرّماً .
ثالثاً : المصافحة بين الرّجل والمرأة :
يختلف حكم المصافحة الّتي تقع بين الرّجل والمرأة بحسب كونهما من المحارم أو من غيرهم :
6 - فأمّا مصافحة المحارم فقد ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في المعتمد عندهم إلى جوازها , وهو ما ذهب إليه الحنابلة في الوالدين مع الأبناء روايةً واحدةً وفي غيرهم في رواية بناءً على قولهم بجواز لمس المحارم في غير محلّ العورة بشرط الأمن من الفتنة وعدم خوف الشّهوة , لما روي « أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقبّل فاطمة رضي اللّه عنها إذا دخلت عليه , وتقبّله إذا دخل عليها » , وكذلك صحّ عن أبي بكر رضي اللّه عنه أنّه قبّل ابنته عائشة رضي اللّه عنها , ولأنّ مسّ المحارم في غير عورة يغلب فيه الصّلة والرّحمة والشّفقة , ويندر اقترانه بالشّهوة .
وإذا كان لمس المحارم على النّحو المذكور مباحاً فإنّ المصافحة نوع من اللّمس , فتكون مشروعةً في حقّ المحارم , ويشملها حكم الاستحباب الّذي أستفيد من الأحاديث المتقدّمة . وذهب الشّافعيّة في قول والحنابلة في غير الوالدين مع الأبناء في رواية إلى عدم جواز مصافحة المحارم بناءً على القول بعد جواز مسّهم , ولكنّ المعتمد في المذهبين كقول الجمهور المتقدّم , وهو جواز لمس المحارم في غير عورة إذا انتفت الشّهوة ولو كان ذلك بغير حاجة ولا شفقة .(/1)
7 - وأمّا المصافحة الّتي تقع بين الرّجل والمرأة من غير المحارم فقد اختلف قول الفقهاء في حكمها وفرّقوا بين مصافحة العجائز ومصافحة غيرهم :
فمصافحة الرّجل للمرأة العجوز الّتي لا تشتهي ولا تشتهى , وكذلك مصافحة المرأة للرّجل العجوز الّذي لا يشتهي ولا يشتهى , ومصافحة الرّجل العجوز للمرأة العجوز , جائز عند الحنفيّة والحنابلة ما دامت الشّهوة مأمونةً من كلا الطّرفين , واستدلوا بما روي « أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : كان يصافح العجائز » , ولأنّ الحرمة لخوف الفتنة , فإذا كان أحد المتصافحين ممّن لا يشتهي ولا يشتهى فخوف الفتنة معدوم أو نادر .
ونصّ المالكيّة على تحريم مصافحة المرأة الأجنبيّة وإن كانت متجالّةً , وهي العجوز الفانية الّتي لا إرب للرّجال فيها , أخذاً بعموم الأدلّة المثبتة للتّحريم .
وعمّم الشّافعيّة القول بتحريم لمس المرأة الأجنبيّة ولم يستثنوا العجوز , فدلّ ذلك على اعتبارهم التّحريم في حقّ مصافحتها , وعدم التّفرقة بينها وبين الشّابّة في ذلك .
وأمّا مصافحة الرّجل للمرأة الأجنبيّة الشّابّة فقد ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في الرّواية المختارة , وابن تيميّة إلى تحريمها , وقيّد الحنفيّة التّحريم بأن تكون الشّابّة مشتهاةً , وقال الحنابلة : وسواء أكانت من وراء حائل كثوب ونحوه أم لا .
واستدلّ الفقهاء على تحريم مصافحة المرأة الأجنبيّة الشّابّة بحديث عائشة رضي اللّه عنها قالت : « كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يمتحنّ بقول اللّه عزّ وجلّ { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ } الآية قالت عائشة فمن أقرّ بهذا من المؤمنات فقد أقرّ بالمحنة , وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا أقررن بذلك من قولهنّ قال لهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : انطلقن فقد بايعتكنّ , ولا واللّه ما مسّت يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يد امرأة قط غير أنّه يبايعهنّ بالكلام , قالت عائشة : واللّه ما أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم النّساء قط إلّا بما أمره اللّه تعالى وما مسّت كف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كفّ امرأة قط وكان يقول لهنّ إذا أخذ عليهنّ قد بايعتكنّ كلاماً » .
وقد فسّر ابن عبّاس رضي اللّه عنهما المحنة بقوله : " وكانت المحنة أن تستحلف باللّه أنّها ما خرجت من بغض زوجها ولا رغبةً من أرض إلى أرض ولا التماس دنيا ولا عشقاً لرجل منّا بل حباً للّه ولرسوله " .
وبما روي عن معقل بن يسار أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمسّ امرأةً لا تحل له » ووجه دلالة الحديث على التّحريم ما فيه من الوعيد الشّديد لمن يمس امرأةً لا تحل له ولا شكّ في أنّ المصافحة من المسّ .
واستدلوا أيضاً بالقياس على النّظر إلى المرأة الأجنبيّة , فإنّه حرام باتّفاق الفقهاء إذا كان متعمّداً وكان بغير سبب مشروع , لما ورد في النّهي عنه من الأحاديث الصّحيحة , ووجه القياس أنّ تحريم النّظر لكونه سبباً داعياً إلى الفتنة , واللّمس الّذي فيه المصافحة أعظم أثراً في النّفس , وأكثر إثارةً للشّهوة من مجرّد النّظر بالعين , قال النّووي : وقد قال أصحابنا كل من حرّم النّظر إليه حرّم مسّه , بل المس أشد , فإنّه يحل النّظر إلى أجنبيّة إذا أراد أن يتزوّجها , ولا يجوز مسها .
رابعاً : مصافحة الصّغار :
8 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ لمس الصّغار بشهوة حرام , سواء في حالة اتّحاد الجنس أم في حالة اختلافه , وسواء أبلغ الصّغار حدّ الشّهوة أم لم يبلغوها , ومن اللّمس المصافحة, ومن شروط مشروعيّة المصافحة عدم خوف الفتنة .
فإن كان اللّمس بغير شهوة وكان الصّغير أو الصّغيرة ممّن لا يشتهى جاز لمسه عند الحنفيّة والحنابلة , سواء اتّحد الجنس أم اختلف , لعدم خوف الفتنة في هذه الحال , وهو الأصح عند الشّافعيّة , وبناءً عليه تحل مصافحته ما دامت الشّهوة منعدمةً , لأنّها نوع من اللّمس فتأخذ حكمه , وقد صرّح في الهداية بجواز مصافحة الصّغيرة الّتي لا تشتهى .
وأمّا إذا بلغ الصّغير أو الصّغيرة حدّ الشّهوة فحكمه من حيث اللّمس كحكم الكبار .
والمصافحة مثله , فيفرّق فيها بين حالة اتّحاد الجنس وحالة اختلافه كما تقدّم بيانه .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الصّغير ابن ثمان سنوات فأقل يجوز مسه وإن اختلف الجنس , فإن زاد عن هذه السّنّ أخذ حكم الرّجال في المسّ , وأمّا الصّغيرة فإن لم تتجاوز سنّ الرّضاع جاز مسها , وإن جاوزت سنّ الرّضاع وكانت مطيقةً " أيّ مشتهاةً " حرم مسها , وإن لم تكن مطيقةً فقد أختلف فيها , ومذهب المدوّنة المنع .
وبناءً عليه يعرف حكم مصافحة الصّغار عندهم , لأنّها نوع من اللّمس .
وللتّفصيل ( ر : عورة ) .
خامساً : مصافحة الأمرد :
9 - اختلف الفقهاء في حكم مصافحة الأمرد .
والتّفصيل في مصطلح ( أمرد ف / 5 ) .
سادساً : مصافحة الكافر :
10 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى القول بكراهة مصافحة المسلم للكافر إلّا أنّ الحنفيّة استثنوا مصافحة المسلم جاره النّصرانيّ إذا رجع بعد الغيبة وكان يتأذّى بترك المصافحة , وأمّا الحنابلة فقد أطلقوا القول بالكراهة , بناءً على ما روي أنّ الإمام أحمد سئل عن مصافحة أهل الذّمّة فقال : لا يعجبني .(/2)
وذهب المالكيّة إلى عدم جواز مصافحة المسلم الكافر ولا المبتاع , لأنّ الشّارع طلب هجرهما ومجانبتهما , وفي المصافحة وصل مناف لما طلبه الشّارع .
الحالات الّتي تسن فيها المصافحة :
حين تشرع المصافحة فإنّها تستحب في مواطن منها :
11 - عند التّلاقي سواء من سفر أو غيره , كما سبق بيانه ( ف / 4 ) .
12 - كذلك تسن عند مبايعة الإمام المسلم ومن في حكمه حيث كانت البيعة على عهد الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم وخلفائه الرّاشدين بالمصافحة , وفي مبايعة أبي بكر رضي اللّه عنه ورد أنّ عمر رضي اللّه عنه قال له في السّقيفة أبسط يدك أبايعك فبسط يده فبايعه ثمّ بايعه المهاجرون والأنصار , وهذا خاصٌّ بالرّجال كما تقدّم .
( ر : بيعة ف / 12 ) .
13 - وقد اختلف فقهاء المذاهب في حكم المصافحة عقب الصّلوات وبخاصّة صلاتي العصر والصبح ويظهر من عباراتهم أنّ فيها ثلاثة أقوال : قول بالاستحباب , وآخر بالإباحة , وثالث بالكراهة .
أما القول بالاستحباب فقد استنبطه بعض شرّاح الحنفيّة من إطلاق عبارات أصحاب المتون , وعمّ نصهم على استثناء المصافحة بعد الصّلوات , قال الحصكفيّ : وإطلاق المصنّف - التمرتاشيّ - تبعاً للدرر والكنز والوقاية والنقاية والمجمع والملتقى وغيرها يفيد جوازها مطلقاً ولو بعد العصر , وقولهم : إنّه بدعة , أي مباحة حسنة كما أفاده النّووي في أذكاره , وعقّب ابن عابدين على ذلك بعد أن ذكر بعض من قال باستحبابها مطلقاً من علماء الحنفيّة بقوله : وهو الموافق لما ذكره الشّارح من إطلاق المتون , واستدلّ لهذا القول بعموم النصوص الواردة في مشروعيّة المصافحة .
وممّن ذهب إلى هذا القول من الشّافعيّة المحب الطّبريّ وحمزة النّاشريّ وغيرهما , وقالوا باستحباب المصافحة عقب الصّلوات مطلقاً , واستأنس الطّبريّ بما رواه أحمد والبخاري عن أبي حنيفة رضي اللّه عنه قال : « خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالهاجرة إلى البطحاء فتوضّأ ثمّ صلّى الظهر ركعتين والعصر ركعتين وبين يديه عنزة تمر من ورائها المرأة وقام النّاس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم قال أبو جحيفة فأخذت بيده فوضعتها على وجهي فإذا هي أبرد من الثّلج وأطيب رائحةً من المسك » , قال المحب الطّبريّ : ويستأنس بذلك لما تطابق عليه النّاس من المصافحة بعد الصّلوات في الجماعات لا سيّما في العصر والمغرب إذا اقترن به قصد صالح من تبركٍ أو تودد أو نحوه .
وأمّا القول بالإباحة فقد ذهب إليه العز بن عبد السّلام من الشّافعيّة , حيث قسّم البدع إلى خمسة أقسام : واجبة ومحرّمة ومكروهة ومستحبّة ومباحة , ثمّ قال : وللبدع المباحة أمثلة منها المصافحة عقيب الصبح والعصر .
ونقل ابن علّان عن المرقاة أنّه مع كونها من البدع فإذا مدّ مسلم يده إليه ليصافحه فلا ينبغي الإعراض عنه بجذب اليد لما يترتّب عليه من أذًى يزيد على مراعاة الأدب , وإن كان يقال إنّ فيه نوع إعانة على البدعة وذلك لما فيه من المجابرة .
واستحسن النّووي في المجموع - كما نقله ابن علّان - كلام ابن عبد السّلام واختار أنّ مصافحة من كان معه قبل الصّلاة مباحة ومن لم يكن معه قبل الصّلاة سنّة , وقال في الأذكار : واعلم أنّ هذه المصافحة مستحبّة عند كلّ لقاء , وأمّا ما اعتاده النّاس من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل له في الشّرع على هذا الوجه , ولكن لا بأس به , فإنّ أصل المصافحة سنّة , وكونهم حافظوا عليها في بعض الأحوال وفرّطوا فيها في كثير من الأحوال أو أكثرها لا يخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة الّتي ورد الشّرع بأصلها .
وأمّا القول بالكراهة فقد نقله ابن عابدين عن بعض علماء المذهب , وقال : قد يقال : إنّ المواظبة عليها بعد الصّلوات خاصّةً قد يؤدّي بالجهلة إلى اعتقاد سنّيّتها في خصوص هذه المواضع , وأنّ لها خصوصيّةً زائدةً على غيرها , مع أنّ ظاهر كلامهم أنّه لم يفعلها أحد من السّلف في هذه المواضع , وذكر أنّ منهم من كرهها لأنّها من سنن الرّوافض .
واعتبر ابن الحاجّ هذه المصافحة من البدع الّتي ينبغي أن تمنع في المساجد , لأنّ موضع المصافحة في الشّرع إنّما هو عند لقاء المسلم لأخيه لا في أدبار الصّلوات الخمس , فحيث وضعها الشّرع توضع , فينهى عن ذلك ويزجر فاعله , لما أتى من خلاف السنّة .
كيفيّة المصافحة المستحبّة وآدابها :
14 - تقع المصافحة في الأصل بأن يضع الرّجل صفح كفّه في صفح كفّ صاحبه . واختلفوا في كون المصافحة المستحبّة بكلتا اليدين أم بيد واحدة , فذهب الحنفيّة وبعض المالكيّة إلى أنّ السنّة في المصافحة أن تكون بكلتا اليدين , وذلك بأن يلصق كل من المتصافحين بطن كفّ يمينه ببطن كفّ يمين الآخر , ويجعل بطن كفّ يساره على ظهر كفّ يمين الآخر , واستدلوا بأنّ هذا هو المعروف عن الصّحابة والتّابعين , وبما ورد من قول ابن مسعود رضي اللّه عنه « علّمني النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم التّشهد وكفي بين كفّيه » وبما ذكره البخاري في باب الأخذ باليدين من قوله : صافح حمّاد بن زيد بن المبارك بيديه , إشارةً إلى أنّ ذلك هو المعروف بين الصّحابة والتّابعين , واستدلوا أيضاً بما ورد عن عبد الرّحمن بن رزين قال : « مررنا بالرّبذة فقيل لنا هاهنا سلمة بن الأكوع رضي اللّه عنه فأتيته فسلّمنا عليه فأخرج يديه فقال بايعت بهاتين نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم » .(/3)
كما استدلوا بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « ما من مسلمين التقيا فأخذ أحدهما بيد صاحبه إلّا كان حقّاً على اللّه عزّ وجلّ أن يحضر دعاءهما ولا يفرّق بين أيديهما حتّى يغفر لهما » , قالوا : وردت الرّوايات في هذا الحديث وغيره بلفظ الجمع , ولا يصدق إلّا على المصافحة الّتي تكون بكلتا اليدين لا بيد واحدة .
وذهب آخرون إلى أنّ كيفيّة المصافحة المشروعة لا تتعدّى المعنى الّذي تدل عليه في اللغة, ويتحقّق بمجرّد إلصاق صفح الكفّ بالكفّ .
واستدلّ لهذا الرّأي بقول عبيد اللّه بن بسر رضي اللّه عنه : « ترون كفّي هذه فأشهد أنّني وضعتها على كفّ محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم . . . وذكر الحديث » .
ويستحب في المصافحة أن تكون إثر التّلاقي مباشرةً من غير توان ولا تراخٍ وأن لا يفصل بينها وبين اللّقاء سوى البدء بالسّلام , لقول الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم : « ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلّا غفر لهما قبل أن يفترقا » , حيث عطف المصافحة على التّلاقي بالفاء , وهي تفيد التّرتيب والتّعقيب والفوريّة , فدلّ ذلك على أنّ الوقت المستحبّ للمصافحة هو أوّل اللّقاء , وأمّا أنّ البدء بالسّلام يسبقها . فقد دلّ عليه ما ورد عن البراء بن عازب رضي اللّه عنه أنّه سمع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « ما من مسلمين يلتقيان فيسلّم أحدهما على صاحبه ويأخذ بيده لا يأخذه إلّا للّه عزّ وجلّ ولا يتفرّقان حتّى يغفر لهما » .
كذلك يستحب أنّ تدوم ملازمة الكفّين فيها قدر ما يفرغ من الكلام والسّلام والسؤال عن الغرض , ويكره نزع المصافح يده من يد الّذي يصافحه سريعاً لما روي عن أنس رضي اللّه عنه قال : « ما رأيت رجلاً التقم أذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فينحّي رأسه حتّى يكون الرّجل هو ينحّي رأسه وما رأيت رجلاً أخذ بيده فترك يده حتّى يكون الرّجل هو الّذي يدع يده » .
وفي رواية أخرى : « كان النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا لقي الرّجل لا ينزع يده حتّى يكون هو الّذي ينزع يده ولا يصرف وجهه عن وجهه حتّى يكون هو الّذي يصرفه » , وقال بعض الحنابلة : يكره للمصافح أن ينزع يده من يد من يصافحه قبل نزعه هو إلّا مع حياء أو مضرّة التّأخير , وقصر بعضهم كراهة السّبق بالنّزع على غير المبادر بالمصافحة حتّى ينزعها ذلك المبادر , وقال ابن تيميّة : الضّابط أنّ من غلب على ظنّه أنّ الآخر سينزع أمسك وإلّا فلو أستحبّ الإمساك لكلّ منهما أفضى إلى دوام المعاقدة , ثمّ استحسن قول من جعل النّزع للمبتدئ بالمصافحة .
ومن سنن المصافحة أن يأخذ المصافح إبهام الطّرف الآخر وأمّا شد كلّ واحد منهما يده على يد الآخر فقد ذكر بعض المالكيّة قولين في المذهب : قول باستحبابه , لأنّه أبلغ في التّودد , وقول بعدم استحبابه , وكذلك تقبيل المصافح يد نفسه بعد المصافحة فيه قولان عندهم , لكن قال الجزوليّ : صفة المصافحة أن يلصق كل واحد منهما راحته براحة الآخر , ولا يشد ولا يقبّل أحدهما يده ولا يد الآخر , فذلك مكروهٌ .
ويُستحب السّبق في الشروع بالمصافحة لما روي عن عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه أنّه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « إذا التقى الرّجلان المسلمان فسلّم أحدهما على صاحبه فإنّ أحبّهما إلى اللّه أحسنهما بشراً لصاحبه فإذا تصافحا نزلت عليهما مائة رحمة للبادي منهما تسعون وللمصافح عشرة » .
ومن آداب المصافحة أن يقرنها المصافح بحمد اللّه تعالى والاستغفار بأن يقول : يغفر اللّه لنا ولكم , وبالصّلاة على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وبالدعاء : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وبالبشاشة وطلاقة الوجه مع التّبسم وحسن الإقبال واللطف في المسألة وينبغي أن يصدق فيها , بأن لا يحمله عليها سوى الحبّ في اللّه عزّ وجلّ , لما روي عن البراء بن عازب رضي اللّه تعالى عنه قال : « لقيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخذ بيدي فقلت يا رسول اللّه إن كنت لأحسب أنّ المصافحة للأعاجم فقال نحن أحقّ بالمصافحة منهم ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودّةً بينهما ونصيحةً إلّا ألقيت ذنوبهما بينهما » .
أثر المصافحة على وضوء المتصافحين :
15 - لمّا كانت المصافحة صورةً من صور اللّمس , فإنّه يجري في أثرها على وضوء المتصافحين الاختلاف الّذي وقع بين الفقهاء في أثر اللّمس عليه .
والتّفصيل في مصطلح ( لمس ) .(/4)
مُصَدِّق *
التّعريف :
1 - المصدّق بتخفيف الصّاد وتشديد الدّال في اللغة : آخذ الصّدقات من جهة الإمام , أي يقبضها .
وفي الاصطلاح قال البركتيّ وعزاه للبحر : المصدّق بتخفيف الصّاد : اسم جنسٍ للسّاعي والعاشر .
الحكم الإجمالي :
2 - يجب على الإمام أن يرسل المصدّقين لقبض الزّكاة وتفريقها على الأصناف , لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان يبعث السعاة والجباة إلى أصحاب الأموال وكذلك كان الخلفاء الرّاشدون رضي اللّه عنهم من بعده يبعثون مصدّقين لذلك .
شروط المصدّق إذا كان عامّ الولاية فيها :
3 - يشترط أن يكون المصدّق مسلماً , حراً , عادلاً , عالماً بأحكام الزّكاة .
هذا إذا كان عامّ الولاية في الصّدقة : جمعها وتفريقها على مستحقّيها , فيعمل على رأيه واجتهاده لا اجتهاد الإمام , فيما اختلف فيه الفقهاء , ولا يجوز للإمام أن ينصّ له على قدر ما يأخذه .
وإن كان المصدّق من عمّال التّنفيذ عمل فيما اختلف الفقهاء فيه على اجتهاد الإمام دون أرباب الأموال , وليس له أن يجتهد , ولزم على الإمام أن ينصّ له على القدر المأخوذ , ويكون رسولاً من الإمام منفّذاً لاجتهاده .
والتّفصيل في مصطلحي : ( زكاة ف 144 ، وعامل ف 6 وما بعدها ) .(/1)
مُعَانقة *
التّعريف :
1 - المعانقة لغةً : مفاعلة من العنق , ومعناها : الضّم والالتزام , يقال : عانقه معانقةً وعناقاً : أدنى عنقه من عنقه وضمّه إلى صدره .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن معناه اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
المصافحة :
2 - المصافحة في اللغة : مفاعلة من الصّفح , يقال : صافحته مصافحةً : أفضيت بيدي إلى يده .
وفي الاصطلاح : إلصاق صفحة الكفّ بالكفّ وإقبال الوجه بالوجه .
والصّلة بين المصافحة والمعانقة : أنّ كلاً منهما من آداب التّلاقي .
الأحكام المتعلّقة بالمعانقة :
أ - معانقة الرّجل للرّجل :
3 - ذهب الحنفيّة في الصّحيح إلى أنّه يجوز معانقة الرّجل للرّجل إذا كان على كلّ واحدٍ منهما قميص أو جبّة , ثمّ اختلفوا في المعانقة في إزارٍ واحدٍ , والمذهب كراهة المعانقة في إزارٍ واحدٍ .
وقال أبو يوسف : لا بأس بالمعانقة في إزارٍ واحدٍ .
قال الخادميّ : وقد وردت أحاديث في النّهي عن المعانقة , وأحاديث في تجويزها , ووفّق أبو منصورٍ الماتريديّ بينهما فقال : المكروه منها ما كان على وجه الشّهوة , وأمّا على وجه البرّ والكرامة فجائز .
وكره مالك المعانقة كراهةً تنزيهيّةً لأنّها من فعل الأعاجم , ولم يرد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه فعلها إلا مع جعفرٍ رضي اللّه عنه , ولم يجر العمل بها من الصّحابة بعده عليه الصّلاة والسّلام , قال العدويّ : لا يخفى أنّ مفاد النّقل عن مالكٍ كراهة المعانقة ولو مع الأهل ونحوهم .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ المعانقة مكروهة إلا لقادم من سفرٍ , أو تباعد لقاءٍ فسنّة للاتّباع . واستدلوا على ما ذهبوا إليه من كراهة معانقة الرّجلين بحديث أنسٍ رضي اللّه عنه قال : قال رجل : « يا رسول اللّه الرّجل منّا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له ؟ قال : لا ، قال : أفيلتزمه - أي يعتنقه – ويقبّله ؟ قال : لا ، قال : فيأخذ بيده ويصافحه ؟ قال : نعم » , وصرّح النّووي بأنّ الكراهة هنا كراهة تنزيهٍ .
واستدلوا على معانقة القادم من سفرٍ بما روي عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : « قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في بيتي ، فأتاه فقرع الباب ، فقام إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم . . . فاعتنقه وقبّله » .
وقال الحنابلة : تباح المعانقة وتقبيل اليد والرّأس تديناً وإكراماً واحتراماً مع أمن الشّهوة , قال ابن مفلحٍ : ظاهر هذا عدم إباحته لأمر الدنيا .
وقال إسحاق بن إبراهيم : إنّ أبا عبد اللّه - أحمد بن حنبلٍ - احتجّ في المعانقة بحديث : أبي ذرٍّ رضي اللّه عنه : « أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عانقه » .
وقال : سألت أبا عبد اللّه عن الرّجل يلقى الرّجل يعانقه ؟ قال : نعم فعله أبو الدّرداء .
ب - معانقة الأمرد :
4 - صرّح الشّافعيّة بأنّه تحرم معانقة الأمرد .
ج - معانقة ذي عاهةٍ :
5 - صرّح القليوبيّ بأنّه تكره معانقة ذي عاهةٍ كبرص وجذامٍ .
د - معانقة الصّائم :
6 - ذهب الحنفيّة في المشهور إلى كراهة معانقة الزّوجة في حالة الصّوم إن لم يأمن المفسد , وهو الإنزال أو الجماع , لما فيه من تعريض الصّوم للفساد بعاقبة الفعل .
وأمّا إذا أمن على نفسه المفسد فلا بأس بالمعانقة .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه تكره المعانقة بين الرّجل والمرأة لمن تحرّك شهوته , ففي الحديث : « من وقع في الشبهات كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه » , والكراهة هي كراهة تحريمٍ في الأصحّ , وحكى الرّافعي عن التّتمّة وجهين : التّحريم والتّنزيه .
هـ - أثر المعانقة في فساد الحجّ والعمرة :
7 - نصّ الحنفيّة على أنّه لو عانق المحرم امرأةً بشهوة فلا شيء عليه إلا إذا أنزل فيجب عليه الدّم , ولا تفسد حجّته ولا عمرته .
و - أثر المعانقة في نشر حرمة المصاهرة :
8 - صرّح الحنفيّة بأنّ المعانقة عن شهوةٍ كالقبلة في نشر حرمة المصاهرة ، فمن عانق أمّ امرأته حرّمت عليه امرأته ما لم يظهر عدم الشّهوة .
ونقل ابن عابدين عن الفيض : لو قام إليها وعانقها منتشراً , أو قبلها وقال : لم يكن عن شهوةٍ لا يصدّق , ولو قبل ولم تنتشر آلته وقال : كان عن غير شهوةٍ يصدّق , وقيل : لا يصدّق لو قبلها على الفم , وبه يفتى , ثمّ قال ابن عابدين : فهذا كما ترى صريح في ترجيح التّفصيل .(/1)
مُفَارَقة *
التّعريف :
1 - المفارقة في اللغة : مصدر الفعل فارق ومادّته : فرّق , يقال : فرّق بين الشّيئين فرقاً وفرقاناً : إذا فصل وميّز أحدهما عن الآخر وفارقه مفارقةً وفرقاً : باعده , وتفارق القوم : فارق بعضهم بعضاً , وفارق فلان امرأته مفارقةً : باينها , والتّفرق والافتراق سواء , وفي الحديث : « البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا » .
والفراق : الفرقة وأكثر ما تكون بالأبدان , ويكون بالأقوال مجازاً .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - المتاركة :
2 - المتاركة في اللغة : يقال : ترك الشّيء : خلاه , وتركت الشّيء : خلّيته , وتاركته البيع متاركةً أي صالحته على تركه , وتركت الرّجل : فارقت ثمّ استعير للإسقاط في المعاني فقيل : ترك حقّه إذا أسقطه , وترك ركعةً من الصّلاة : إذا لم يأت بها .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
وعلى هذا فالمتاركة أعم من المفارقة .
ب - المجاوزة :
3 - المجاوزة في اللغة : يقال جاوزت الموضع جوازاً ومجاوزةً بمعنى جزته , وجاوزت الشّيء إلى غيره وتجاوزته تعدّيته , وتجاوزت عن المسيء : عفوت عنه .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
والمجاوزة أعم من المفارقة .
الأحكام المتعلّقة بالمفارقة :
تتعلّق بالمفارقة أحكام منها :
أوّلاً : المفارقة في العبادات :
المفارقة في صلاة الجماعة :
المراد بالمفارقة في صلاة الجماعة ترك أحد المصلّين صلاة الجماعة , وهذه المفارقة قد تكون ممتنعةً , وقد تكون جائزةً , وقد تكون واجبةً , وبيان ذلك فيما يلي :
امتناع مفارقة المأموم صلاة الجماعة بدون عذرٍ :
4 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في القديم إلى أنّه لا يجوز أن يفارق المقتدي إمامه بدون عذرٍ فلا ينتقل من في جماعةٍ إلى الانفراد , لأنّ المأموميّة تلزم بالشروع , وإن لم تجب ابتداءً كما يقول المالكيّة , لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به فلا تختلفوا عليه » , ولأنّه ترك متابعة إمامه وانتقل من الأعلى للأدنى بغير عذرٍ أشبه ما لو نقلها إلى النّفل .
وإذا انتقل المأموم من الجماعة إلى الانفراد بدون عذرٍ بطلت صلاته عند الحنفيّة والمالكيّة وفي أصحّ الرّوايتين عند الحنابلة وفي القول القديم للشّافعيّة , لأنّه من ترك المتابعة بغير عذرٍ أشبه ما لو تركها من غير نيّة المفارقة .
ولأنّه كما يقول الشّافعيّة في القديم التزم القدوة في كلّ صلاته وفيه إبطال العمل , وقد قال اللّه تعالى : { وَََلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } .
والمذهب عند الشّافعيّة والرّواية الثّانية عند الحنابلة أنّ الصّلاة صحيحة لكن مع الكراهة عند الشّافعيّة - أي كراهة المفارقة - , واستدلّ الشّافعيّة على صحّة صلاة المأموم مع المفارقة بأنّ صلاة الجماعة إمّا سنّة على قولٍ والسنن لا تلزم بالشروع إلا في الحجّ والعمرة , وإمّا فرض كفايةٍ على الصّحيح فكذلك إلا في الجهاد وصلاة الجنازة والحجّ والعمرة , ولأنّ الفرقة الأولى فارقت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذات الرّقاع , وعلّل الحنابلة الصّحّة - كما قال ابن قدامة - بأنّ المنفرد لو نوى كونه مأموماً لصحّ في روايةٍ . فنيّة الانفراد أولى , فإنّ المأموم قد يصير منفرداً بغير نيّةٍ وهو المسبوق إذا سلّم إمامه , وغيره لا يصير مأموماً بغير نيّةٍ بحال .
جواز مفارقة المأموم صلاة الجماعة بعذر :
5 - ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّه يجوز للمأموم أن يفارق صلاة الجماعة وينوي الانفراد إذا كان ذلك لعذر , ولم يجز الحنفيّة المفارقة مطلقاً ولو بعذر .
واستدلّ القائلون بجواز المفارقة بما رواه جابر رضي الله عنه قال : « كان معاذ بن جبلٍ يصلّي مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم العشاء ثمّ يرجع إلى قومه بني سلمة فيصلّيها بهم ، وأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخّر العشاء ذات ليلةٍ فصلاها معاذ معه ثمّ رجع فأمّ قومه ، فافتتح بسورة البقرة فتنحّى رجل من خلفه فصلّى وحده فلمّا انصرف قالوا : نافقت يا فلان ، فقال : ما نافقت ولكنّي آتي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه إنّك أخّرت العشاء البارحة وإنّ معاذاً صلاها معك ثمّ رجع فأمّنا فافتتح سورة البقرة فتنحّيت فصلّيت وحدي وإنّما نحن أهل نواضح نعمل بأيدينا ، فالتفت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى معاذٍ فقال : أفتّان أنت يا معاذ ؟ أفتّان أنت ؟ اقرأ بسبّح اسم ربّك الأعلى ، والسّماء والطّارق ، والسّماء ذات البروج ، والشّمس وضحاها ، واللّيل إذا يغشى ونحوها » , ولم يأمر النّبي صلى الله عليه وسلم الرّجل بالإعادة ولا أنكر عليه فعله .
غير أنّهم اختلفوا في الأعذار الّتي تجوز معها المفارقة , فمن الأعذار الّتي تجيز مفارقة الإمام تطويل الإمام في الصّلاة طولاً لا يصبر معه المأموم لضعف أو شغلٍ ففي هذه الحالة يجوز للمأموم أن يفارق الإمام وينوي الانفراد ويتمّ صلاته منفرداً لما سبق في قصّة معاذٍ رضي اللّه تعالى عنه .
وهذا العذر متّفق عليه بين المالكيّة والحنابلة وفي الصّحيح عند الشّافعيّة .
وزاد الشّافعيّة من الأعذار الّتي يجوز للمأموم أن يفارق إمامه في الصّلاة أن يترك الإمام سنّةً مقصودةً كالتّشهد الأوّل أو القنوت فله فراقه ليأتي بتلك السنّة .
واعتبر إمام الحرمين أنّ الأعذار الّتي يجوز معها ترك الجماعة ابتداءً تجوز معها المفارقة أثناء الصّلاة .(/1)